المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 626 - بتاريخ: 02 - 07 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٢٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 626

- بتاريخ: 02 - 07 - 1945

ص: -1

‌نهضة العرب مشكلة؟!

نعم، كذلك قال السياسي الخطير ديجول، وقوله من وجهة نظره سديد معقول؛ فإن الجنرال يرى على ما يظهر أن العرب دوابُّ سُخِّروا لنقل الأحمال وجر الأثقال، أو هم على رأيه الأفضل عبيدٌ خلقوا للخدمة والاستغلال؛ ومتى عرف لحيوان أو العبد حقه وواجبه، فقد حطَّم راكبه أو قتل صاحبه!

بهذا المنطق الفرنسي وحده تستطيع أن تعقل ما قال هذا الرجل، فإذا أكرهت منطق الناس، على تصحيح قوله بالقياس، فقد حمّلته ما لا يطاق، وكلفته ما لا يدرك! وأي عقل غير عقل الجنرال يُسيغ أن فرداً من نوع الإنسان يرى في نهضة أخيه الإنسان، مشكلاً تعقد لحله المؤتمرات، وخطراً تقام لصده المعسكرات، وسبباً يختصم لأجله العالم بأسره؟!

ولقد زعموا أن (الانتداب) رسالة الغرب إلى الشرق، فهُوَ يحيل صحاريه فراديس، ويجعل أناسيّه ملائكة؛ فما بالهم إذن يتسعّرون بالغيظ، ويتنمرون بالعداوة، لأن العرب قد أدركوا أنهم كسائر الناس، لهم وطن لا يشركون به، واستقلال لا يساومون عليه، وسلطان لا ينزلون عنه؟! أليس ذلك لأنهم يرمون بنشر مدنيتهم إلى استعباد الجسوم، وبتعميم ثقافتهم إلى استرقاق الحلوم، وبفرض انتدابهم إلى امتلاك الأرض؟. . .

أتدري من أسمج من ذلك العتلّ الغليظ الذي يلقى بجسمه اللحيم الشحيم على صدر الفتاة الرشيقة الرقيقة في ملأ من الناس، ثم يفغر فاه الأبخر، ويصيح بملء صوته الأصحل: أحبك، فلابد أن تحبيني، وأدعوك، فلا مناص أن تجيبينني؟ أسمج منه ذلك الطفيلي الرقيع الذي يقتحم عليك دارك ويقول لك: صادقني لأنني أحب طعامك، وضيفني لأنني أريد إكرامك، وعاهدني لأكون سيدك وإمامك، وأطعني لأقوم في كل أمر مقامك؛ فإن أبيت. أو تأبيت فالسيف، حتى تقول أنا المضيف وأنت الضيف!

يا لكثافة الظل! أيهذه الرقاعة الثقيلة والفضول البغيض يطمعون أن يحملوا الغرب في شمال أفريقية، وفي لبنان وسورية، على أن يأخذوا (الجنسية) ليعطوا الدين، ويمنحوا الثقافة ليسلبوا العقل، ويدخلوا في التحالف ليخرجوا من الوطن؟

يا لسخافة العقل! أبهذه النية المدخولة والكلام المزور يخادعون خمسين مليوناً من العرب تثور في دمائهم أربعة عشر قرناً من التاريخ المجيد الحافل بالنبوة الهادية، والخلافة العادلة، والفتوح المحرِّرة، والقيام على ملك الله بالعمارة والعدل، والمحافظة على تراث

ص: 1

الفكر بالزيادة والنقل؟

إن العرب بعد اليوم لن يُخدعوا؛ وإن أبناء الفاتحين لغير الله لن يخضعوا؛ وإن (الجامعة العربية) لهي الظاهرة الأولى لفورة الدم وثورة التاريخ؛ فليتدبر ذلك القائمون على إقرار السلم، والموقعون على ميثاق السلامة!

ابن عبد الملك

ص: 2

‌فرنسا على حقيقتها

للأستاذ علي الجندي

أعرف ـ كما يعرف غيري ـ أن فرنسا دولة لا دينية، ولكني أعرف كذلك أن فرنسا اللادينية هي التي تلقب ببنت الكنيسة البكر، وتزعم لنفسها حماية الكاثوليك في الشرق من غير أن يطلب منها أحد ذلك، وأعرف أنها تُضاهر بعثات التبشير في كل مكان بمالها ونفوذها العسكري والسياسي، وأنها تحرق المعابد وتهدم المساجد، وتقتل إخواننا المغاربة في ظل المحاريب، لأنهم هذه الدولة الغاشمة من ألوان العذاب! وأعرف أنها واقفة للإسلام بالمرصاد في مستعمراتها الشاسعة الواسعة، لتحولا دون نشره بقوة القانون وبقوة الإسلام! ويبلغ بها التعصب أن تمنع عشرة آلاف من سكان (مدغشقر) من اعتناقه بحجة أنهم لا يفرقون بين الإسلام وغيره من الأديان! بل يبلغ بها التنطع أن تقطع ما بين برابرة المغرب وبين الإسلام من أسباب؛ وتضرب بينهم وبين إخوانهم العرب بالأسداد، فتلغي المحاكم الشرعية، وتغلق المدارس الدينية، وتخرج القضاة والقراء ومشايخ الطرق وتمنع قراءة القرآن وتعليم اللغة العربية، وتلفِّق لهم الشريعة جديدة من قوانينهم العرفية، لتسلخهم من الإسلام دفعة واحدة بهذه الطرق الإبليسية!

نعم أعرف أن فرنسا دولة لادينية كما قلت، ولكني كنت أرى في الوقت نفسه هذه الأعمال التي تعيد لنا محاكم التفتيش في أبشع صورها! فأقف حائراً ذاهلاً بين هذه المفارقات المضحكة المبكية! حتى حل لي هذا الطلّسم المعقد حجة الإسلام المرحوم السيد رشيد رضا حين قال ذات يوم في عرض حديث عن فرنسا وأعمالها: إن الفرنسيين واللاتين عامة يتربون في حجور القساوسة قبل أن يتربوا في حجرات المدارس، ومن هذا كانت كراهتهم للإسلام وللمسلمين وللعرب خاصة! حتى ولو صاروا ملحدين.

وأعرف أيضاً تقليدياً أن شعار فرنسا: الحرية والإخاء والمساواة، وأنها تفتح صدرها لطرائد الاستبداد، وتُسبغ حمايتها على شذاذ الآفاق من كل جنس ولون، وأنها لا تبخل بمنح جنسيتها (الغالية) لكل من هب ودب - وإن قصدت من ذلك سد النقص المطرد في عدد سكانها ـ وأن عاصمتها مرتع خصيب لطلاب المعرفة وطلاب اللذة، وأنها عاصمة الفن وعاصمة اللهو، ومدينة النور ومدينة الظلام، وأن العدالة الاجتماعية بلغت فيها غاية لا

ص: 3

مزيد بعدها لمستزيد، فرئيس جمهوريتها (مسيو) وماسح الأحذية (مسيو)، والعامل يتقاضى أجراً على الفراغ كما يتقاضاه على العمل! وأن حرية الأحزاب فيها وتمسكهم بآرائهم قضى ألا يزيد متوسط عمر لوزارات الفرنسية على ستة أشهر منذ قيام الجمهورية الثالثة إلى نشوب هذه الحرب

عرفت هذا جيداً وسمعت إلى جانبه هذه النعوت البراقة التي يخلعها إخواننا المتفرنسون على فرنسا من رقة ولين ودماثة وظرف حتى ليلذذ للأمريكيين أن يُلجئوا الفرنسيين إلى الإساءة ليستمتعوا بعد ذلك باعتذارهم الطيف بلغتهم الرشيقة! ولكني كنت أشاهد أن فرنسا سوط عذاب ونقمة على كل بلد يرفرف عليها علمها المثلث الألوان، فهي الدولة التي تخرج الأهليين قسراً من أرضهم الخصبة لتوزعها على المستعمرين من أبنائها، وتعمل جاهدة على فرنستهم في كل مرافق الحياة بقوة الحديد والنار، وتستنزف أموالهم بما تفرضه من ضرائب باهظة بلغت في سوريا من 70 % إلى 80 % على بعض المواد بعد أن كانت من 11 إلى 25 في العهد العثماني، وبما تنشئه من الوظائف ذوات المرتبات الضخمة للفرنسيين وصنائعهم وجواسيسهم، حتى ارتفعت ميزانية النفقات في سوريا من خمسة ملايين ليرة سورية في آخر العهد التركي إلى 31 مليون ليرة، وارتفع عدد الموظفين من ألف موظف منهم خمسون تركياً يتناولون مرتبات ضئيلة إلى 18223 موظفاً منهم 1500 من الفرنسيين بين مدني وعسكري يتناولون أضخم المرتبات عدا الامتيازات التي تفوق الحصر هذا إلى 475000 ليرة تدفع سنوياً للجيش الفرنسي! أي لغربان السنغال جزاء تنكيلهم بها!

وأشاهد أيضاً أن فنسا هي الدولة المتخصصة في تدمير القرى الآمنة ودك المدن الأثرية، وإحراق الزروع، وتسميم الماشية وموارد المياه، وانتهاك حرمات المنازل ونهب ما فيها، وتقتيل الشيوخ والنساء والأطفال، وإعدام الأحرار بالألوف، ونفي زعماء المجاهدين إلى جزيرة الشيطان، والإمعان في إذلال وطنية الشعوب وخنق روحها، حتى كان في تونس ناد ـ لعله لا يزال قائماً ـ كتب على واجهته (ممنوع دخول العرب والكلاب)!

كنت أرى وأسمع فأقف مضطرباً مشدوهاً بين هذه المتناقضات الفرنسية حتى كشف لي عن السر السيد الحسن بو عياد من أحرار مراكش ومجاهديها في أعمال زيارته لقاهرة منذ

ص: 4

سنوات قال - وهو يقص علينا ظرفاً من أعمال فرنسا في مراكش - إن الفرنسيين في بلادنا، لقد قابلت مدير البريد في (مرسيليا) لبعض الشؤن، فبهرني برقته وسلاسة حاشيته، فلو أن الفرنسيين في مراكش كانوا من هذا الطراز المهذب الوديع لتشبثنا ببقائهم إذا أرادوا الخروج

من هذا الوقت عرفت أن الفرنسي ذو طبيعتين، فهو عذب دمث كيّس في فرنسا، وفظ عتل في كل بلد يُنكب بسيطرته عليه ولو كان في أوربا نفسها! فسياسة العسف التي سلكتها فرنسا إزاء الألمان عقب الحرب الماضية وتشددها في تقاضي التعويضات وتشجيعها زنوج السنغال على الاختلاط بالفتيات الألمانيات، وعجرفة النمر الفرنسي (كليمنصو) والنقطة المربعة (بوانكاريه) وخلفاؤهم من الغلاة أمثال (ترديو) و (برتو) القائلين: بأن المغلوب يظل مغلوباً أبداَ، وتمسكهم بمبدأ السلامة الإجماعية، وإصرارهم على نصوص معاهدات كان يصفها الساسة دائماً (بأنها عجة مصنوعة من بيض فاسد) ثم عدم مسايرتهم للسياسة الإنجليزية في تشجيع جمهورية (فيمار) الألمانية الناشئة، كل أولئك ممن أقوى الأسباب في إنبات هذا النبات الشيطاني المسمى (النازية) والتمهيد لقيام الطاغية (هتلر) وما استتبع ذلك من وقوع المأساة العالمية التي خرجت البلاد وأفنت العباد!

هذه هي فرنسا في صورتها الأصيلة: حرة مستبدة، لينة وقاسية، كيّسة ومتغطرسة، ومتمدينة ومتوحشة! ولكن حذار فهذه الجوانب الزاهية التي تلبس غلالة إنسانية في الظاهر، فاكهة محرمة على غير الفرنسيين! وهي بضاعة لم تصدر قط - وان تصدر - من (مرسيليا) و (بردو) و (الهافر) إلى الخارج!

فلا يعجبن الأستاذ سيد قطب من قول مجادله (إنك لم تعش في فرنسا) إلى آخر ما قال، فلهذا (البارزياني) بعض العذر، لأنه كان يتكلم وخياله عالق بضفاف السين وغابة بولونيا وعاملات الأزياء!

ولو أنه رنا ببصره إلى فاس والجزائر وتونس العانيات، والى دمشق وحمص وحماة الداميات، لتورع أن ينطق بهذا الهذر والهذيان!

علي الجندي

ص: 5

‌طبعي لا طباعي ولا طبعي

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

لما بدأ العربيون منذ أكثر من ألف سنة يؤلفون وينقلون علوم الأمم واحتاجوا إلى النسبة إلى الطبيعية - قالوا: (الطبيعي) وقد شذ هذا النسب كما شذ النسب إلى السليقة. ولم يخطئ القوم في نسبتهم هذه أحد. وجاء (الطبيعي) في كلام الأديب واللغوي كما جاء في حديث المتكلم والفيلسوف: وإذا نسب أبوا حيان في (المقابسات) إلى (الطباع) كما ذكر العالم الباحث الأديب الأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي - فما أكثر نسبته إلى الطبيعة ففي (مقابساته) في ص 333: (فإنه ليس من معلول طبيعي ولا صناعي تنقطع عنه علته إلا فسد وباد) وفي المناظرة بين السيرافي والقنائي التي دبجتها يراعته وبراعته: (فكيف يجوز أن يكون ها هنا شئ يرتفع به الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي)(وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي).

فالنسبة إلى الطبيعة هي النسبة المتقبلة المستجادة. وكافيك أن نابغة العرب واللغة والأدب أبو العلاء يقول في إحدى رسائله: (ولا يقل سيدي أدام الله عزه قد قصرت الشعراء قديمها ومولدها، وأولها السالف وآخرها، وفصيحها الطبيعي ومتكلفها، فإنه لو استعمل ضرورة غير تلك لقبلت حجته. . .) وأن اللغوي العظيم أبن سيده يقول في مقدمة مخصصه: (. . . وإن أرادوا تسمية جزء منه أشاروا إلى ذلك الجزء فقالوا: عين أنف فم ونحو ذلك من أجزائه التي تتحلل جملته إليها، وتتركب عنها. فمتى سمعت اللفظة من هذه كلها عُلم معناها وصارت له كالسمة المميزة للموسوم، والرسم المحتاز لما تحته من المرسوم، وكالحد المميز لما تحته من المحدود، وإن كانت تلك الإبانة طبيعية وهذه تواضعية غير طبيعية)(فإذ قد بيّنا ما اللغة أمتواطأ عليها أم موحى بها وملهم إليها فلنقل على حدها لأن الحد طبيعي. . .).

فهذان الإمامان الحجتان ينسبان إلى (الطبيعة) ويقولان (الطبيعي) فمن وجدناه اليوم قد نسب إلى (الطباع) لم نستنكر نسبته ولم نلمه غير أنا نردد هذا المثل: (امرأً وما اختار. . .) ومن آلم آذننا وعيوننا ب (الطبعي) و (البدَهي) عَوْذٌ بالله، عوذ بالله! - وقد استمرت العربية تقول:(الطبيعي والبديهي) ألف حول غلَّطناه ورأيناه كمن يقول (السلقى) في النسبة

ص: 6

إلى (السليقة).

وما اختار الأئمة الذي اختاروه وآثروا شاذاً على مطرّد أو منقاس عن جهل أو غفلة، ولكن هو ذوقهم العالي الذائق، وحسهم الدقيق اليقظ، قاداهم إلى التي هي أحسن والتي هي أقوم. وفي (استحوذ - في الكتاب - واستحاذ) حجة الشاذ.

وبعد فلهذه (الطباع) التي هاجها بعد السكون وبعد طول الزمن العليّ بخلقه وبعلمه وبفضله الأستاذ عبد المتعال قصة طويلة. وإنها لحقيقة بالرواية في (الرسالة) وهذه قصتها مختصرة:

أبو على الفارسي يقول: الطبع مصدر ثم كثر فسمي به الطباع.

وأبو القاسم الزجاجي يقول: الطباع واحد مذكر كالنحاس والنجار.

وأبن الأثير صاحب النهاية يقول: هو أسم مؤنث على فعال نحو مهاد ومثال.

وابن سيدَهْ في (مخصصه) يقول: طباع الإنسان يذكر ويؤنث، والتأنيث فيه أكثر، وهو واحد مثل النجار إلا أن النجار مذكر.

وأبو حاتم - كما ذك المخصص - يقول: الطباع مذكر لا غير إلا أن تُتَوهم الطبيعة.

والأزهري صاحب التهذيب يقول - كما نقل اللسان والتاج - يجمع طبع الإنسان طباعاً.

والأزهري أو غيره يقول - كما نقل اللسان والتاج -: الطباع واحد طباع الإنسان على فعال.

قلت: فهو عنده كهجان وهجان ودلاص ودلاص.

وصاحب (شفاء الغليل) يقول مورداً نقد ابن قتيبة وتعقب البطليوسي: طباع واحد مذكر كالطبع ومن أنثه ذهب إلى معنى الطبيعة. وقد جوّز أن يكون جمع طبع ككلب وكلاب قال ابن السِّيْد في شرح أدب الكتاب فليس خطأ كما توهم

والمجد يقول في (قاموسه): الطبع والطبيعة والطباع ككتاب السجية جبل عليها الإنسان، أو الطباع ككتاب ما ركب فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا.

وأبو عبد الله محمد بن الطيب يقول في (شرحه القاموس) ناقداً المجد: ظاهر بل صريحه كالصحاح أن الطباع مفرد كالطبع والطبيعة وبه قال بعض من لا تحقيق عنده تقليداً لمثل المصنف، والمشهور الذي عليه الجمهور أن الطباع جمع طبع.

ص: 7

والزبيدي صاحب التاج يقول ردًّا على شيخه: قول شيخنا ظاهرة الخ. . . يُتعجب من غرابته ومخالفته لنقول الأئمة. وليت شعري من المراد بالجمهور، هل هم إلا أئمة اللغة، فهؤلاء كلهم نقلوا في كتبهم أن الطباع مفرد، ولا يمنع هذا أن يكون جمعاً للطبع من وجه آخر كما يدل عليه نص الأزهري. وأرى شيخنا (رحمة الله تعالى) لم يراجع أمهات اللغة في هذا الموضع. سامحه الله تعالى وعفا عنا وعنه، وهذا أحد المزالق في شرحه فتأمل.

وشيخنا أبو العلاء حكمه في (الطباع) بيّن في هذين البيتين:

طباع الورى فيها النفاق فأقصم

وحيداً ولا تصحب خليلاً تنافقه

هذي طباع الناس معروفة

فخالطوا العالم أو فارقوا

ووجدت الطباع مجموعة - كما يظهر - في هذا الحديث العظيم في هذا (الدرس) في أدب النفس، وهو خير ما يختم به هذا البحث، وهو في (الطبقات الكبرى) لابن سعد:

قال مُعاذ بن سعيد: كنا عند عطاء بن أبي رباح فحدث رجل بحديث، فاعترضه رجل، فغضب عطاء؛ وقال: ما هذه الأخلاق؟ ما هذه الطباع؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه، ولعسى أن يكون سمعه مني، فأنصت إليه، وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك.

هذه حكاية (الطباع) الذي أو التي أو اللواتي جاء الأستاذ عبد المتعال - أدام الله نفعنا بفضله - يهيجنا ويهيجنا من أجلها. . .

ص: 8

‌لزوم ما لا يلزم

متى نُظم وكيف نُظم ورُتب؟

للدكتور عبد الوهاب عزام

رجحنا أن أبا العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد كما قلت آنفاً. وقد عرفنا أنه ذكر سن الأربعين والخمسين كثيراً ولم يذكر الستين قط على برمه بالحياة وتعجُّله بالموت - ولو بلغها وهو ينظم اللزوميات لأكثر ذكرها - فساغ أن نقول إن الرجل نظم اللزوميات من سن الأربعين إلى أن نيّف على الخمسين. وأما السبعون فأغلب الظن أنه لم يعن بها نفسه.

وإن قدرنا أنه المعنى بها فقطعة أو قطع قليلة نظمت بعدُ وألحقت بهذه المجموعة التي نُظِمت كلها أو جلها في السن التي قدرتُ.

ويؤيد هذا أن الحوادث التي ذكرها وقعت كما بينت في أوائل القرن الخامس ولم تتأخر عن سنة 420، وكذلك الرجال الذين ذكرهم أحياء كصالح بن مرداس ومحمود بن سبكتكين ماتوا قريباً من هذا التاريخ. وقد رثى الوزير المغربي توفي سنة 418. وأشار إلى وفاة الحاكم بأمر الله وقد توفي سنة 411. فكل حادثة مؤرخة نجدها في اللزوميات تقع في العشرين الأولى من القرن الخامس. وكل رجل ذكره الشاعر ذكر الأحياء هلك حول هذا التاريخ: صالح مات سنة 420، ومحمود مات سنة 421.

وأما مسعود بن محمود الذي تولى سنة 421 فقد ذكره مرة مع أبيه ولم يعد إلى ذكره. فهو لم ينظم في أيام مسعود بعد هلاك محمود، أو لم ينظم إلا نادراً.

وأعزّز بأمر يستأنس به مضموما إلى الأدلة السابقة، أن أبا العلاء ذكر في مواضع من الكتاب أنه لم يشِب، وزعم أنه كان جديراً بأن يشيب، وأنه لا يسره بقاء شعره أسود. يقول:

ويحمل الهم قلبي مُعفياً جسدي

رأسي أحمُّ وظهري غيرُ مُنأطر

غرَّك سود الشَّعرات التي

في الوجه مني وأنا الدالف

كلَّفتَني شيمةَ عصر مضى

هيهات منك العُصُر السالف

أيا مَفرِقي هلا أبيضضت على المدى

فما سرَّني أن بتَّ أسود حالكا

ص: 9

قبيح بفَود الشيخ تشبيه لَونه

بفَود الفتى والله يعلم ذلكا

تأخُّرَ الشيبِ عنّي مثلُ مَقدمه

على سواي ووقت الشيب ما حضرا

ثم ذكر في مواضع كثيرة لا تقل عن عشرة، شيبَ رأسه وبياضَ شعره، مثل قوله:

نمنا على الشَّيب فهل زارنا

طيف لأصل الشرخ منتابُ

كانت مفارق جُون

كأنها ريش غِربه

ثم انجلت فعجبنا=للقار بُدِّل صَربه

أأذهِب فيكمُ أيام شيبي

كما أذهبتُ أيام الشباب

قد شاب رأسي ومِن نَبت الثرى جسدي

فالنبتُ آخر ما يعتو بِه الزهَر

أيها الشيب لا يريبُك من كفِّي

مِقصٌّ ولا بُواريك خِطْر

إن نهيتَ النفس اللجوجَ عن الإث

م وطابت فإنما أنت عِطر

فقد نظمت اللزوميات وشعره أسود، ثم استمر النظم حتى شاب. وهذا يلائم السن التي ذكرتها والتاريخ الذي حددته. ولو أنه نظمها كلها قبل الأربعين لما ذكر الشيب، ولما استبطأه.

ولو نظمها كلها بعد الخمسين لما ذكر بعد الخمسين لما ذكر المفرق الحالك والشعرات السود ولا يجوز أن يدعى أنه نظم قبل الشيب واستمر ينظم حتى مات، وسن الشيب متصلة بالموت. فقد دلت الأدلة الأخرى على أنه لم يستمر في النظم طول عمره.

ويمكن أن يقال: إن كان أبو العلاء فرغ من نظم اللزوميات أو كاد حين بلغ الخمسين فكيف ذكر الكبر متبرِّما، وطول الثواء متململا، وذكر دنو الأجل وقرب الرحيل، وسقوط الأسنان، في مثل قوله:

طال الثواء وقد أَنَى لمفاصلي

أن تستبدَّ بضمِّها صحراؤها

وما زال البقاء يُرِثُ حبلى

إلى أن حان للمَرَس انقطاع

أعلِّل مهجتي ويصيح دهري

ألا تغدو فقد ذهب الرفاق

تخلفتَ بعد الظاعنين كأنهم

رأوك أخا وهن فما حملوكا

أيتها النفس لا تُهالي

شرخي قد مرَّ واكتهالي

لم يبق إلا شفاً يسيرٌ

قُرِّب من مورِدي نِهالي

ص: 10

فمي أخذت منه الليالي وإنني

لأشرب منه في إناء مثَّلم

ربِّ متى أرحل عن هذه الد

نيا فإني أطلت المقام

هذه الأبيات وأشباهها تصدر عن شيخ هِمَّ، بلغ أرذل العمر، وذهب جيله وبقى وحده. ولكن المعري له شأن آخر، فهو يَبرَم بالحياة في عنفوانها ويقول.

شربت سنيَّ الأربعين تجرُّعا

فيا مقِراً ما شربُه فيَّ ناجع

ويرى أن الحياة بعد الأربعين موت، والوجدان فقد

حياتي بعد الأربعين منيّة

ووجدان حلف الأربعين فقود

فشكوى أبي العلاء من الضعف، وهتافه بالموت، وبرمه بالحياة لا يدل كل حين على الشيخوخة أو الهرم.

وأما قوله:

فمى أخذت منه الليالي وإنني

لأشرب منه في إناء مثلِّم

فسقوط الأسنان كثيراً ما يعرض في السن التي قدَّرت انه نظم فيها الكتاب.

وقد ذكر سقوط أسنانه في رسالته إلى أبي الحسن بن سنان وقد تقدم إليه باختصار كليلة ودمنة بأمر عزيز الدولة. وعزيز الدولة قتل سنة 412، ولما يبلغ أبو لعلاء الخمسين.

المبحث الثاني

ترتيب اللزوميات

- 1 -

وضع أبو العلاء خطة هذه المنظومة متكلفاً فيها ثلاث كُلَف كما قال في المقدمة: أن يلتزم في قوافيه حرفاً لا يلزم، وأن ينتظم حروف المعجم كلها، وأن يستوفي في كل حرف الحركات الثلاث والوقف.

وقد تبيّن من تاريخ الحوادث التي ذكرت في هذا النظم ومن تاريخ الرجال الذين ذكرهم ومن الأسنان المختلفة التي ذكرها أن الترتيب الهجائي لا يساير الترتيب الزمني. انظر إلى روىّ الأبيات التي أثبتّها فيما تقدم، وإلى تاريخ الحوادث التي تتضمنها والأسنان التي تذكر فيها تر هذا واضحاً. فلا يسوغ أن نظن أن قطعة على روى الباء مثلاً ينبغي أن يَتقدم

ص: 11

تاريخها على قطعة في حرف الميم، وينبغي ألا ينظر إلى الترتيب الهجائي في تتبع آراء أبي العلاء في لزومياته.

- 2 -

ودليل آخر: أنّ كثيراً من القطع المتوالية تتفق في الموضوع أو تتفق في الوزن والقافية بل تتفق في كلمات القافية أحياناً. فلو أنه نظمها ولاء لم يكن للفصل بينها وجه، وكان يلزم أن تكون قطعة واحدة، ولو نظمها قِطَعاً متوالية لم يُجِز لنفسه أن يكرر فيها القوافي والمعاني. فليس الفصل بينها إذا إلا بأنها نظمت في أحيان مختلفة ثم جمعت.

أنظر إلى هاتين القطعتين، وهما متواليتان على الميم المضمومة:

العقل يخبر أنني في لجَّة

من باطل وكذاك هذا العالم

مثلُ الحجارة في العظات قلوبنا

أو كالحديد فليتها لا تألم

ويليها:

لم تَلقَ في الأيام إلا صاحباً=تأذى به طول الحياة وتألم

ويُعَدُّ كونُك في الزمان بليَّةً

فاصبر لها فكذاك هذا العالم

ويقول من قطعة في حرف القاف:

مرازبُ كسرى ما وقت مهجة له

وقيصر لم يمنع ردَاه البطارق

وفي قطعة تليها:

وهل أفلت الأيام كسرى وحوله

مرازبه أو قيصر وبطارقه

فلو أن القطعتين نظمتا ولاء ما كرر هذا المعنى.

وأما القطع المتوالية المتفقة في الوزن والقافية، والروي وحركته أو سكونه فكثيرة لا تحوج إلى التمثيل هنا، والأمر كله أبين من أن يطال فيه الكلام.

- 3 -

وهنا نسأل: إن كان أبو العلاء لم ينظم على ترتيب الحروف والحركات فكيف ضمن الوفاء بما التزم من استيعاب الحروف وحركتها؟ إن كان قد نظم على الروي والحركة اللتين تعنَّان له دون أن ينتقل من حرف إلى ما يليه ومن حركة إلى ما بعدها فكيف استوعب

ص: 12

الحروف والحركات؟

لنا أحد فرضين: إما أن الرجل كان يأمر كاتبه أن يثبت كل حرف في فصل على حدة، وكان يستعيد، قوافيَ هذا الفصل فيكمل نقصه حتى كملت الحروف والحركات؛ وإما أنه جعل الكتاب كله مجموعة واحدة على غير تفصيل، وكان يقصد إلى تغيير الحروف كل حين على غير ترتيب؛ فلما اجتمع له مقدار كبير من المنظوم رتبه وأكمل نقصه. وبهذا يُشعر قوله في المقدمة. هذا حين أبدأ وأكمل نقصه. وبهذا يُشعر قوله في المقدمة. وهذا حين أبدأ بترتيب النظم.

ونحن نجد في الكتاب قطعاً نظن أنها لم تنظم إلا لضرورة هذا الاستيعاب فالثاء المفتوحة، والذال الساكنة، والضاد المضمومة، والطاء الساكنة، والهاء الساكنة، لم يَنِظم في كل منها إلا بيتين اثنين وهما أقل ما ينظم لإنفاذ خطته. وقد قال هو هذا في آخر المقدمة

- 4 -

نظم أبو العلاء ملتزماً ما لا يلتزم، ومستوفياً الحروف وحركاتها، ورتب كتابه على الحروف وعلى حركات كل حرف، قال في آخر المقدمة:

(وهذا حين أبدأ بترتيب النظم وهو مائة وثلاثة عشر فصلا؛ لكل حرف أربعة فصول. وهي على حسب حالات الرويّ من ضمْ وفتح وكسر وسكون، وأما الألف وحدها فلها فصل واحد، لأنها لا تكون إلا ساكنة. وربما جئت في الفصل بالقطعة الواحدة أو بالقطعتين ليكون قضاء لحق التأليف. وبالله التوفيق).

وقد أدركت أنا بالتأمل في فصول اللزوميات، ترتيباً آخر لم ينبه إليه المعري، وهو ييسر على الباحث عن الأبيات في الكتاب، زيادة على التسيير بترتيب الحروف والحركات؛ ذلك أن الأوزان في كل فصل مرتبة على ترتيب الدوائر والأبحر عند العروضيِين.

فنجد البحر الطويل في الفصل مقدماً على غيره، والمتقارب مؤخراً عن غيره. والأبحر بينهما على ترتيبها. وليس معنى هذا أنه استوفى في كل فصل الأبحر الخمسة عشر، بل المعنى أن ما يوجد من الأوزان في فصل يلتزم فيه الترتيب.

فالذي يبحث عن قطعة أو بيت على الراء المفتوحة - مثل - لا يلزمه، إذا عرف الوزن، أن يبحث في أبيات الراء المفتوحة كلها، بل يطلب البحر الذي فيه وزن القطعة أو البيت

ص: 13

في موضعه من الراء المفتوحة. وذلك يسير إذ عرف ترتيب الأبحر في العروض وهو أمر أمم.

هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكوراً بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته.

ووراء هذا بحث مجمل في أمهات الأفكار التي ضمنها أبو العلاء لزومياته.

ص: 14

‌البلاغة العصرية واللغة العربية

تأليف الأستاذ سلامة موسى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

- 2 -

العقاد سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه - 99 في المائة من كتابنا كذلك - لكلاسيه داء مصر والشرق - كتابنا أعداء الكلمات الأعجمية

- 1 -

(وقد التفتُّ إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون على غير ما يحب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية وهي أن الاشتراكيين يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذه السبب أيضاً مستقبلون وليسوا سلفيين. . . في حين أنه سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيداً في هذه السلفية، لأني أعتقد أن 90 بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون) ص 11

(والكلاسية في مصر كما نراها في أيامنا ليست لغوية أدبية فقط بل هي اجتماعية مزاجية ذهنية، فدعاتها مثلاً يهتمون كثيراً جداً في التأليف عن الخوارج في أيام علي بن أبي طالب، ويهملون التأليف عن الخوارج على الديمقراطية في أيامنا، وهم يدرسون رجال الأمس والأمس هنا قبل 1000 سنة ميلادية ولا يدرسون رجال اليوم) ص 120

- 2 -

يرحم الله أبا جعفر المنصور، فقد قال:(إنه لم يُسرِ أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه) وقد استعلنت المنكرة التي يكتمها الأستاذ سلامة في غضون كلامه، وأطلت برأسه حين دعا إلى (الاشتراكية) في اللغة، وحين غاظه أن يثلب العقاد (الاشتراكية)؛ لأنها تدعو - فيما إليه تدعو - إلى التدلي في اللغة، والهُوِىّ بهذا الفن الجميل من سمائه العالية

ص: 15

إلى منحدر الدهماء والطغام.

ثم تجرّم على العقاد فزعم أنه متحجر اللغة، عتيق الأسلوب، رجعي التفكير، محافظ في سلوكه، وكأنما لم يشف غله هذا التخصيص فتخرص على 99 في المائة من كتابنا بأنهم كذلك آسنون، وما دليله الذي يجول به ويصول؟ دليله أنهم يكتبون عن خالد والخوارج ولا يكتبون عن رجال اليوم.

يالها من دعوى خرقاء، ويالها من حجة جوفاء.

أيذم أسلوب العقاد وهو ما هو سلاسة وسلامة ونصاعة؟

أذنب العقاد في نظر الناقد أنه يأخذ قامه بقواعد اللغة وروحها فلا يلحن، ولا يخطئ، ولا يسف في تعبير، ولا يحتاج إلى من يصحح له ما يكتبه كما يحتاج غيره؟

لقد كتب العقاد في السياسة والأدب والتاريخ والقصة، وأسلوبه في هذه الفنون كلها فارع بارع ممتع.

ثم كيف يتهم العقاد بأنه آسن التفكير؟

لقد ألف عدة كتب، وكتب مئات المقالات في شتى الموضوعات فلازمته فحولة الفكر، وصاحبته سمة الاستقلال في الرأي، وما وجدناه مرة يتضاءل كما يتضاءل غيره أمام رأي قديم أو فكرة لعالم أوربي، وحتى العلامة (فرويد) الذي يتعبد بآرائه الأستاذ سلامة قد نقده العقاد، والعلامة (داروين) الذي يشايعه الأستاذ سلامة في كل نظرياته قد خالفه العقاد، وبهذا الروح القوي الحر كتب العقاد ما كتب في القديم والجديد وما معنى أن العقاد سلفي في سلوكه؟

أيعيبه لأنه ليس من أهل الخلاعة والمجانة واستباحة اللذات جهرة كما يفعل الممرورون من أدعياء الأدب والفن؛ لأن الشذوذ والانحراف الخلقي في نظرهم وثيقة بأنهم ناس ليسوا كالناس؟

أم يعيبه لأنه رجل يؤمن بالرجولة فلا يكتب مرة ليتملق المرأة ويزعم لها أنها جدير بالمساواة، خليفة بأعمال الرجال؟

أم يعيبه إذ لم يخرج على الأمة بصيحة تحقر أدبها، وتبلبل لغتها، وتزدري خصائصها وأخلاقها، وتمتهن مفاخرها وأبطالها؟ لست أدري.

ص: 16

- 3 -

وليست هذه العيوب مقصورة على العقاد وحده، بل يشركه فيها 99 في المائة من كتاب مصر، فمن بقى إذن؟ لم يبق خاليا من العيوب إلا الأستاذ سلامة ومحرر بعض المجلات الشعبية، فهم أرباب الأساليب والأفكار المرتضاة عنده؛ لأنهم يسفون في تعابيرهم، ويتوخون العامية في كتاباتهم، ويختارون المجازات (البلدية) والكنايات (الشعبية) والموضوعات التافهة المبتذلة.

يا ويح الأدب العربي في هذا العصر إن كان قد حرم بيان (الزيات) الرفيع، وأسلوبه الفياض بالحياة، الفياح بعبير الجمال وعطر الفن.

وويل للأدب في هذا العصر وفي كل عصر إن استكان رُواده وشداته لدعوة الأستاذ فآثروا الفسولة في تعبيرهم، والاتضاع في تصويرهم والتدلي في لغتهم، إذن لبرئ الأدب منهم، وإذن لَعُمِّيت عليهم وجوه الجمال في تراثهم من أدب الأسلاف، وإذن لعَمُوا عن السر في بلاغة القرآن وإعجازه، وهذا كله بعض ما تقترفه هذه الدعوة العاسفة الهدامة.

- 4 -

وكتابنا كلهم متخلفون رجعيون في رأي المؤلف؛ لأنهم يُعَنُّون أنفسهم بالبحث في الماضي، وتنضح أقلامهم بدراسة تراثنا المجيد، ولا يكتبون عن الحاضر شيئاً.

فأي حق في هذا وأي صدق!

لقد كتب العقاد عن الماضي بروح العصر، وثقافة العصر، والطرق الحديثة في البحث والتحليل، وأسهم في بعث مفاخر هذه الأمة التي أرادت العالم أحقاباً طوالاً، وشارك في إحياء الأمثلة العليا من بطولتها؛ لأن الأمم لا تنهض بحاضرها وحده، بل لابد لها من ماض مجيد يلهمها وينفخ فيها من روحه قوة وحيوية، وهذا ما فعلته الدول الناهضة الغالبة اليوم، وليس أهدم للأمة المتوثبة للمجد من تنكرها لماضيها الحافل، وغفلتها أو تغافلها عما لها من عظائم وجلائل، واعجب عجباً لا ينقضي ممن دعا إلى الفرعونية مراراً وقد انقطع ما بيننا وبينها من نسب، ثم لما بارت دعوته أخذ يعيب الذين يدرسون العرب، ويكتبون عن أبطال العرب كأنه يرتبط بالفراعنة بنسب ثم لا يصله بالعرب سبب!!

ص: 17

وربما دار بخلدي أنه يلحي العقاد وهيكل وطه والحكيم وغيرهم لأنهم كتبوا عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام كتباً تخضع لطرائق البحث الحديث ولكنهم جلوا نواحي من عظمته، وابرزوا طرفاً من سمو رسالته، ولم يجمح بأحدهم قلمه فيتقول أو يتهجم، ثم كتب العقاد وهيكل في أبي بكر وعمر وخالد، وكتب العقاد في علي والحسين وعائشة، فلا والله ما وجدوا إلا صحائف من ذهب تتبلج بالعظمة والبطولة والنبالة، وما قالوا إلا ما قرءوا في هذه الصحائف الخالدة، ولو كانا غير مسلمين ما تغير قولهما ولا حكمهما، فالبطولة سحر غلاب يجتذب الولي الحميم، والعدو الخصيم، وشمس سافر، تغمر بضيائها الباهر، القريب والبعيد، وتنفذ آرادها إلى واضع كفيه على عينيه.

وهل كتابنا اقتصروا على الماضي وحده كما يزعم؟

لنستعرض بعض مؤلفاتهم ثم نحكم.

هذا هو (الزيات) كتب في تاريخ الأدب العربي كتابه، فأرخ للأدب بأدب، وكان مثل يوفون إذ كتب في التاريخ الطبيعي ببيان خلاب، ومع ذلك فقد ترجم آلام فرتر لجيته، وروفائيل للامرتين ترجمة يقرر الحاذقون للألمانية والفرنسية أنها كالأصل بلاغة وسمواً ودقة، ويكتب منذ أكثر من عشر سنوات في مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية.

وهذا هو (العقاد) كتب العبقريات، ولكنه ألف (سعد زغلول)، و (شعراء مصر وبيئاتهم) و (الحكم المطلق في القرن العشرين) و (هتلر) وغيرها، وله مئات المقالات في شتيت الموضوعات والمناسبات.

وهذا (هيكل) ألف عن (محمد) و (أبي بكر) و (عمر) ولكنه ألف أيضاً عن (روسو) و (السياسة المصرية) الخ.

فأي منصف بعد ذلك يتجنى على كتاب مصر بأنهم يحيون وعيونهم مشدودة إلى الماضي وحده؟

ومن ذا الذي يجحد فضلهم في مسايرة الثقافة، ومواثبة الحياة المتجددة المتطورة؟

إنهم يواثبون الثقافة ولكن أكثر إنتاجهم - متأثراً بهذه الثقافة - شرقي الروح، عربي الأسلوب، إسلامي النزعة، وكل ميزة من هذه الميزات مرة في بعض الأفواه، فكيف بها

ص: 18

مجتمعة

ثُم لماذا تضفَى نعوت العبقرية على (إميل لودفيج) لأنه كتب عن المسيح عليه السلام كتابة رائعة، ويوسم كتابنا بالرجعية إذا ما كتبوا عن النبي محمد وخلفائه؟

وإنه لعقوق أن يبهر ماضينا بعض المستشرقين فيجردون أقلامهم لتمجيده، والكشف عن لآلئه، كما فعل (استانلي لين بول) في (قصة العرب في إسبانيا) فتغنى بمجدهم؛ لأنهم كانوا شعلة النور في أوربا بعد أن خمدت مدينة الرومان، واندثرت حضارة اليونان، وكما فعل (سيديو) ومؤلفو (التراث الإسلام) و (دائرة المعارف الإسلامية) ثم نعمى - ونحن ورائهم - عن هذا المجد فلا ننوه به.

ولماذا لا يعاب كتاب الغرب وهم ما فتئوا يكتبون عن هوميروس وافلاطون وأرسطو والإسكندر؟

الحق أن الأستاذ سلامة كثير الدعاوى، غريب القضايا، مفتئت على المنطق الذي يريده أساساً للفكر والأدب.

بقيت إشارة عجلي إلى خلط آخر في كتابه كالخلط الذي بيناه في لومه أبا تمام في المقال السابق، تلك أنه نسب إلى العقاد التأليف عن (حسان) فليخبرنا متى كان ذلك؟ اللهم إلا إذا أراد بحسان كل مشايع للرسول منافح عن الإسلام.

- 5 -

(يكره كتابنا الكلمة الأجنبية، فيقولون سيارة بدلاً من أتومبيل) ص 30

ودعا في كتابه إلى إدخال الكلمات الأعجمية على حالها، واستدل بان العرب أدخلوا في لغاتهم في العصر العباسي كلمات أعجمية.

ولكنه نسى أن العرب استعاروا كلمات من الفرس واليونان والهند بعد أن صقلوها أولاً صقلاً عربياً لتلائم منطقهم، كلفظ آذريون من آذركون، وديباج من ديوفار ونيروز من نوروز الخ وقلما استعملوا الكلمة الأعجمية على حالها، وكان ذلك للتظرف والتملح فحسب مثل كلمة آب صرد بمعنى الماء البارد في قول العماني:

لما هوى بين غياض الأسد

وصار في كف الهزبر الورد

آلى يذوق الدهر آب صرد

ص: 19

على أنهم عربوا حيث افتقروا إلى كلمات تؤدي معاني خاصة ليس في لغتهم ما يؤديها. وإذا كان الأستاذ يستدل على جمودنا ومرونة الإنجليز بأن في لغتهم نحو ألف كلمة عربية فليدلنا على كلمة واحدة ينطقها الإنجليز كما ينطقها العرب.

على أن كتابنا محقون في أنهم لا يلجئون إلى الكلمة الأعجمية إذا كان في لغتنا ما يدل عليها، أو نستطيع أن نشتق من لغتنا ما يؤدي معناها، وما من شك في أن لفظ سيارة يؤدي المعنى، وهو أخف نطقاً وأحلى وقعاً من لفظ أوتوموبيل. وما من شك أيضاً في أننا إذا أبحنا لأنفسنا استعمال الكلمات الأعجمية على حالها وبغير ضرورة إلى استعمالها فقد حفرنا للغتنا ولقوميتنا قبراً بأيدينا؛ لأنه لن يمضي قرن واحد حتى تصير لغتنا خليطاً مشوهاً من عربية مهزومة، وعامية مختلفة باختلاف الأصقاع والبيئات، وأعجمية غارية متفشية، ثم بعد قرن آخر تندثر العربية والعامية ونتفرنس أو نتجلنز، ويصيبنا ما أصاب إخواننا العرب في تونس والجزائر ومراكش.

ومن الخير أن يقتصر التعريب على كلمات أعجمية لا مناص لنا من استعمالها في العلوم المختلفة، ولا ضرر على لغتنا ولا على قوميتنا من ذلك، ثم لنعرب الكلمات التي جدت في الصناعة وشئون الحياة إذا لم نجد في لغتنا أو مشتقاتها عديلاً لها، وأما غير هذا فاندحار وانتحار، وتخريب لبيوتنا بأيدينا، ومعاذ الله أن يحيق بنا ذلك.

(يتبع)

أحمد محمد الحوفي

المدرس بالسعيدية الثانوية

ص: 20

‌بحث في الصلاة

للدكتور جواد علي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

عينت الديانة الإسرائيلية عدد الصلوات وأوقاتها في اليوم، وفي المواسم والسنة، ويقسم المستشرق (ميتوخ) الصلاة اليومية إلى نوعين: شماع (شمع) وتقابل في العربية كلمة (سماع)، وتفيلة أما الشماع (السماع) فعبارة عن قراءة بعض أقسام معينة من التوراة وأما سبب تسميتها (بشماع)(سماع) فلأنها تبدأ بكلمة الشهادة وهي (شِمع يسرائيل) أو (اسمع يا إسرائيل) وهي شهادة بني إسرائيل. ويمكن أن نقول إنها تقابل الصلاة عند الفرس.

ويطلق على قراءة هذه الشهادة (قراءات شماع) وأحياناً مجرد (قريئات) ومعناها (شماع)(والنطق بالشهادة) وهي تبدأ (شماع) ثم تنتهي (ببعض البركات). (بركوت)

وقبل تلاوة (الشماع) تقرأ عادة (بركوت شماع) أو (بركات السماع) وهي تسابيح خاصة لذكر الله تقال قبل صلاة السماع وبعدها. وقبل تلاوة البركة الأولى من هذه البركات أو بعبارة أخرى قبل تلاوة التسبيحة الأولى من هذه التسابيح في صلاة الجماعة ينادي الإمام (الحزّان)(باركوا الله المبارك) وهذه الكلمة هي بمثابة إقامة الصلاة، فيجيبه المصلون بنغمة خاصة وبطريقة معينة (فليتبارك الله المبارك إلى أبد الآبدين).

وأما التفيلة أو (صلاة الثمانية عشرة)(تفيلة شل شمونة عشر) فقد سميت بهذا الاسم لأنها تتألف في الأصل من (ثماني عشرة بركة) أو بعبارة أخرى من ثماني عشرة تسبيحة ثم أضيف إليها (البركة أخرى) فأصبح عددها (تسع عشرة بركة) ولكنها احتفظت مع ذلك باسمها القديم حتى الآن ولذلك يطلق عليها باللغة العبرية إلى يومنا هذا (تفله شل شمونة عشرة) أو مجرد (شمونة عشرة) ويكتفي أحياناً بلفظة (تفيلة) فقط.

وأطلق اليهود الذين صاروا يتكلموا الآرامية بدلاً من العبرية على هذه الصلاة كلمة (صلوتة) وهي آرآمية كما قلنا وقد ورد ذكرها مرارا في الأقسام الآرامية من التلمود.

وتقام صلاة (السماع) عند اليهود في صباح كل يوم ومسائه. وتقام (التفيلة) في أوقات ثلاثة من اليوم: تقام في الصباح وبعد الظهر (العصر) وفي مساء كل يوم. وتسمى الصلوات الثلاث بالعبرانية بهذه الأسماء: (تفلات هشاحر) وأحيانا مجرد (شحريت) وهي صلاة

ص: 21

(السحر) وتسمى (صلاة الصبح)

وأما الصلاة الثانية وهي صلاة العصر فيطلق عليها بالعبرية (تفلات هامنحة) أو (منحة) فقط. وأما الصلاة الثالثة وهي صلاة المغرب فيطلق عليها (تفلات هاعربيت) ويكتفي بلفظة عربيت أيضاً

ويرجع اليهود تاريخ صلاتهم إلى الأزمنة الأولى من تاريخ اليهود. جاء في سفر دانيال: (فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك) وجاء في المزامير: (أما أنا فإلى الله أصرخ والرب يخلصني مساءاً وصباحاً وظهراً أشكو وأنوح فيسمع صوتي) ويرجع اليهود الصلوات اليومية الثلاث إلى عهد أقدم من هذا العهد، إلى عهد الآباء أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ينسبون صلاة الصبح إلى إبراهيم وينسبون صلاة العصر إلى اسحق وينسبون صلاة المغرب إلى يعقوب.

وهنالك صلوات أخرى لا تعتبر من الفروض اليومية مثل صلوات أيام السبت وصلوات (دوشن حودتس) أو (صلوات رأس الشهر) وعرفت صلاة رأس الشهر عند الأمم الأخرى مثل (البارسس) الفرس وعرفت عندهم باسم أنتريماه والهنود وعرفت عندهم باسم أمافازيا بل وعند الشعوب الأوربية أيضاً.

ولليهود صلاة أخرى هي صلاة (العيد) وصلاة رابعة تسمى بالعبرية باسم أو فقد وفي هذه الصلوات وأيام الاحتفالات يقدم اليهود أضحية إضافية إلى المعابد علاوة على الأضحية التي تقدم للمعبد صباحاً ومساء.

ودخلت في الأيام الأخير صلاة خامسة تقام في نهاية أيام الصوم عصراً وهي خاتمة الصلوات وتعرف عند اليهود باسم

أما أوقات الصلوات اليومية الثلاث فإنها الساعة الثالثة والساعة السادسة والساعة التاسعة؛ وهذه هي صلاة التفيلة اليومية وأما صلاة الشماع فتكون عند بداءة الليل وعند نهايته وعند تناول الطعام.

وأما صلاة عند عرب الجاهلية فإننا لا نعرف حتى الآن عنها أي شئ، وعلى فرض وجودها فإنها لم تكن بالمعنى الذي نعرفه من الصلاة، بل يمكن أن يقال إنها كانت تقام في

ص: 22

أوقات مختلفة وفي مواسم معينة. ويقول المستشرق ميتوخ: (من المؤكد أن عرب الجاهلية لم تكن لديهم فروض من فروض الصلوات اليومية على نحو الصلاة التي فرضها الإسلام على المسلمين).

وقد لاقى الرسول (ص) صعوبات كثيرة من الأعراب الذين كانوا يرون الركوع والسجود والصلاة ذاتها علامة من علامات المسكنة والذلة والإهانة لا تتفق وما جبلوا عليه من كبرياء وأنفة واعتداد بالنفس، حتى أن بعض القبائل العربية كقبيلة ثقيف بالطائف طلبت من الرسول الدخول بالإسلام على شرط إعفائها من الصلاة.

هذه مقدمة مختصرة عن الصلاة عامة؛ وسنبحث في الأعداد القادمة عن تطور الصلاة في الإسلام، فنبحث أولاً في صلاة الركعتين وهي أول صلاة على ما نعرفه في الاسم.

جواد علي

ص: 23

‌الزمان النفسي

للأستاذ زكريا إبراهيم

نسيجُ الحياة النفسيَّة هو الزمان. والزمان - كما يقول برجسون - جِدَة مستمرة، وخلق جديد، وإبداعٌ لصور لم تكن موجودة من قبل، ولم يكن وجودها منتظراً. فليس الزمان الحقيقي عبارة عن لحظة تعقب لحظة أخرى، وإنما هو امتداد الماضي باستمرار. وهذا الطابع الذي يتصف به الزمان، يتمثل في الحياة النفسية بشكل واضح، فإن ماضينا يتعقَّبنا في كل لحظة من لحظات حياتنا. وليس من شك في أننا لا نفكر إلا بجزء صغير من ماضينا، ولكننا إنما نرغب ونريد ونعمل بهذا الماضي كله. (فكل ما فكرنا فيه، وما شعرنا به، وما أردناه منذ طفولتنا المبكّرة، لا يزال عالقاً بنفوسنا، متجهاً نحو الحاضر الذي يوشك أن يتصل به، ضاغطاً بقوة على باب الشعور الذي يريد أن يدعه خارجاً).

هذا هو جوهر الحياة النفسية، كما تكشف لنا عنه النظرة العميقة إلى النفس الإنسانية. فكل فرد منا إذن هو عبارة عن تاريخ؛ وهو عبارة عن تاريخ قائم بذاته مختلف عن غيره؛ وثراء هذا التاريخ هو الذي يدل على ثراء حياة صاحبه الباطنة، لا عدد السنين التي عاشها. وقد يبدو لنا أننا نسير مدفوعين بحكم الزمان الآلي - زمان الساعات - ولكننا في الحقيقة نتحرك وفقاً لإيقاع الحالات الباطنة، والحركات الداخلية، مما يقوم عليه الزمان النفسي.

فنحن لسنا عبارة عن ذرات من الغبار تطفو على سطح نهر، بل نحن قطرات من الزيت تنتشر على سطح الماء سائرة بسرعتها الخاصة.

ومعنى هذا أن جوهر حياتنا هو الزمان النفسي - لا الزمان الآلي - لأن شعورنا إنما يسجل حركته الخاصة، أي السياق الخاص الذي تتوالى وفْقاً له حالاتُه الباطنة، (وإن كان هذا تحت تأثير المنبه الخارجي الذي يَعرض له). وبعبارة أخرى فإن الزمان الباطن هو جوهر نفوسنا. ومن المؤكد أن لحظات الزمان الآلي إنما تهوى إلى العدم؛ أما لحظات الزمان النفسي فإنها لا تهوى إلى العدم مطلقاً، بل تنطبع في الشعور، وتنضاف إلى سجل الوعي الإنساني. فنحن نحمل معنا الطابع النفسي لكل أحداث حياتنا، لأننا خلاصة للحالات النفسية التي مرت بنا.

ص: 24

وكل تجربة جديدة تمر بنا، وكل فكرة تطوف بخاطرنا، وكل فعل نقوم بتحقيقه؛ بل كل حالة عضوية تعرض لنا، لا بد أن يكون لها تأثير لا يمحى في حياتنا النفسية. ومعنى هذا أننا لا ننفصل مطلقاً عن ماضينا، بل إن شخصيتنا تزداد ثراء وخصباً بكل تجربة جديدة تعرض لنا. وقد نشفى تماماً من مرض انتابنا، أو حالة نفسية عرضت لنا، ولكن لا بد أن يظل أثر هذا المرض أو هذه الحالة النفسية باقياً في طوايا شعورنا.

ومن جهة أخرى فإن من المستحيل على الشعور الإنساني أن يمر بحالة واحدة مرتين. قد تكون الظروف الخارجية واحدة، ولكنها لا يمكن أن تؤثر في الفرد نفسه تأثيراً واحداً، ما دامت تعرض له في لحظة جديدة من لحظات حياته. وعلى ذلك فإن التاريخ الإنساني (باعتبار أن كل إنسان هو عبارة عن تاريخ) لا يعيد نفسه مطلقاً. والشخصية الإنسانية تتكون في كل لحظة من التجارب المتجمعة، فهي تتغير دائماً أبداً، وهي إذ تتغير، تحول دون تكرر حالة واحدة بعينها. ومن هذا كله إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن الزمان النفسي غير قابل للإعادة، أعني أننا لا نستطيع أن نحيا (إن صح هذا التعبير) حالة واحدة بعينها مرتين، لأن هذا يقتضي أن نلغي وجود الذاكرة التي تحتفظ بالماضي.

وإذا عمدنا الآن إلى مقارنة الزمان الآلي بالزمان النفسي فإننا نجد أن الزمان الآلي يسير وفقاً لإيقاع مطّرد؛ أعني أنه مكون من فترات متساوية لا يتغير مساره خلالها. أما الزمان النفسي فهو على العكس من ذلك، لأنه يختلف في سرعته لدى الفرد الواحد، تبعاً للفترات المختلفة في حياته. فالسنة الواحدة - إبَّان الطفولة - تحتوي على أحداث فسيولوجية وتغيرات نفسية، أكثر مما تحتوي عليه السنة الواحدة إبان الشيخوخة - وعلى ذلك فإن السنة الواحدة أطول إبان الطفولة، وأقصر إبان الشيخوخة؛ لأن قيمتها بالنسبة إلى الطفل أكبر منها بالنسبة إلى والديه.

من هذا يتبين لنا أن الحياة الإنسانية لا تُحْسَب بالأيام والسنوات، بل بالقدر الذي (تحيا) به الأحداث والتجارب. ومعنى ذلك أنه من العبث أن تقاس أطوار الحياة الإنسانية بالزمان الآلي، لأن هذا يقتضي أن يكون في الحياة النفسية اطراد الزمان الآلي؛ ولكن هذا الاطراد - في الحقيقة - لا وجود له في الحياة فالحياة الإنسانية لا يمكن أن تقسم إلى أطوار زمنية تحسب بوحدات الزمان الآلي، بل يجب أن تقسم إلى أطوار نفسية تحسب بوحدات الزمان

ص: 25

النفسي.

وإذا أقمنا اعتباراً للزمان النفسي، فإننا لابد أن نهتم اهتماماً كبيراً جداً بزمن الطفولة المبكرة، لأن هذا الزمن هو بطبيعة الحال، الزمن الثري الحافل. . . حقاً إن الزمان الآلي الذي تشغله هذه المرحلة من حياة الإنسان، لا يبلغ مدى مرحلة الاكتمال أو مرحلة الرجولة، ولكن الزمان النفسي الذي تنطوي عليه يفوق أية مرحلة أخرى. ولهذا فإن من الواجب أن تعطي مرحلة الطفولة المبكرة كل عناية ممكنة في التربية. ولسنا في حاجة إلى أن نؤكد ما لهذه المرحلة من قيمة سيكولوجية في الحياة النفسية كلها، فإن هذه حقيقة ثابتة لا شك فيها.

أما مرحلة النضج ومرحلة الشيخوخة فليس لهما إلا قيمة سيكولوجية ضئيلة بالقياس إلى مرحلة الطفولة، لأنهما مرحلتان خاليتان تقريباً من التغيرات النفسية والتطورات العقلية ومن أجل هذا، فإن من الواجب أن يملأ الفراغ الموجود فيهما بنشاط صناعي. وعلى ذلك فإنه إذا بلغ الفرد مرحلة الشيخوخة، لم يكن عليه أن يقلع عن العمل ويركن إلى الدعة والخمول، لأن الفراغ أخطر بالنسبة إلى الشيوخ منه بالنسبة إلى الشباب. . .؛ بل إن من الواجب على المجتمع أن يعهد إلى أولئك الذين وهت قواهم بعمل معتدل مناسب، لا براحة تدينهم من الموت، أو دعة تذيقهم طعم الموت الحي

وإذا أنعمنا النظر في هذه الفكرة - فكرة الزمان النفسي أمكننا أن نفهم كيف أننا منعزلون بعضنا عن بعض في دوائر منفصلة، أو عوالم متميزة. فمن المستحيل بالنسبة إلى الأبناء ن يفهموا آباءهم وبالأحرى أجدادهم. ولهذا فإننا إذا نظرنا إلى الأفراد في حقبة واحدة أمكننا أن نقسمهم إلى أربعة أجيال متعاقبة بينها من التنافر أقصى ما يمكن. . . وإن هذا الجد الطاعن السن وذلك الحفيد الصغير، لهما كائنان مختلفان كل الاختلاف، وكل منهما غريب عن الآخر تمام الغرابة. . . فإذا أريد أن يكون تأثير الجيل الواحد في الجيل الذي يليه تأثيراً أكبر، كان من الواجب أن تقل المسافة الزمنية بينهما. ولهذا فإن من الأفضل أن تصبح المرأة في دور شبابها الأول، حتى لا يكون المدى الذي يفصل بينهما وبين أولادها هو من السعة بحيث لا يمكن الحب نفسه أن يسد فراغه.

زكريا إبراهيم

ص: 26

‌أحمد محرم!

للأستاذ عبد الحفيظ نصار

في يوم الأربعاء 14 يونيو 1945م بمدينة دمنهور توفي الشاعر الكبير الأستاذ أحمد محرم في بيته المتواضع، وهو الشيء الوحيد الذي كان يملكه في ذلك البلد الذي قضى فيه جلّ حياته فلم يهتم أحد لموته كما لم يهتم أحد لحياته. . . ومع ذلك كانت له ثروة شعرية تضعه في صف أعلام الأدب العربي الحديث.

ولد الشاعر في (إبيا الحمراء)، وهي إحدى قرى مركز الدلنجات ولم نهتد بعد إلى تأريخ دقيق لميلاده، وإن كنا نقطع بأنه مات وهو في العقد السادس من عمره. وانتقل به والداه وهما من أصل شركسي إلى الحوشة، وهي إحدى القرى الكبيرة بذلك المركز، حيث كان يشتغل والده مشرفاً على إدارة إحدى المزارع الواسعة لأحد كبار الملاك، ومن ثم استحضر له والده، وكان رجلا ديناً مستعرباً، معلمين يحفظانه القرآن والشعر ويعلمانه قواعد النحو واللغة، وهذا كل ما تلقى من تعليم عن طريق المعلمين. لم يذهب إلى المدرسة أو إلى الأزهر كما كان يذهب غيره من أبناء ذلك العصر. ولما كبر واتسع أفق تفكيره، استطاع أن يعب من المعارف والعلوم العربية والإسلامية قدر الإطاقة، ولقيت تلك المعارف تربة ذكية وجواً ملائماً. . . فهذه هي الصحراء التي تغنى بها شعراء العرب، وهذا لون من ألوان المعيشة شبيه إلى حد كبير بالمعيشة التي كان يعالجها سكان الجزيرة العربية.

وهذه القرية الجميلة القائمة وسط المزارع التي تترامى من ورائها الصحارى كالواحة يجد فيها المعتسف والساري القرى والغذاء والظل والماء تحت ذلك النخيل الباسق! ومع ذلك لم تقيده بيئته ومعارفه بالماضي العربي المجيد وحده فعاش فيه ومن أجله، بل عاش وفكر في آفاق أخرى وراء أفق بيئته ومعارفه - إذ كان يتردد على المدينة (دمنهور) فيقرأ فيها الصحف، ويشتري منها الكتب، ويسمع منها الأخبار التي لا تحملها إليه الصحف والكتب، أخبار الإنجليز في مصر والإنجليز في السودان، وأخبار ذلك الشاب المشتعل حماسة ووطنية مصطفى كامل وما تؤمل مصر من وراء حماسته ووطنيته وسعيه في فرنسا واستنبول. . . فكان لتلك الأحداث التي عمت العالم الإسلامي نتيجة لضعف (الرجل المريض) وطمع الأجانب في ممتلكاته أثرها العميق في نفسه، فإذا به يرسل الشعر العربي

ص: 28

الصافي. وغداً أحمد محرم ما بين يوم وآخر شاعر الحركة يزاحم بمنكبيه أمراء البيان. . . وللشاعر في تلك الفترة قصائد تعتبر تاريخاً لها وتسجيلاً للتيارات الفكرية والسياسية في ذلك العصر. أذكر أن له قصيدة عظيمة طبعت كديوان مستقل أوحالها إليه سقوط الدولة العثمانية ومجيء الأنباء باضطهاد مصطفى كمال لرجال الدين واللغة. وقليلون هم الذين يعرفون أن له ديوانين من الشعر العربي القوي، ولندرة الموجود من نسخهما كاد أن ينمحيا من الوجود. وفي تلك الفترة وإلى المؤيد والجريدة وأنيس الجليس وغيرهما من الصحف والمجلات العربية بأشعاره، وخلق له جمهورا من القراء والمعجبين به، وصارت له صداقات أدبية بقادة النهضة الأدبية والسياسية في العالم العربي، إذ لم تكن وقتئذ حدود بينة بين قيادة الفكر والفن وقيادة المجتمع والسياسة؛ كل شئ مسخر لخدمة النهضة ومبادئها، فلم تكن وجدت بعد الأبراج العاجية التي يهرب إليها مترفو الفكر الآن، ولم يكن قد ورد إلى مصر من الخارج ذلك المخدر المسمى الفن للفن الذي يتعاطاه العجزة عن مواجهة الحياة. كان الشعراء والأدباء والعلماء في طليعة المجاهدين، وكان انتقال الشاعر إلى دمنهور بعد وفاة والده طالباً للعيش الهادئ فيها، وليس لديه رأس مال في ذلك البلد التجاري غير الشعر والتقوى. . . وما أخسره من رأسمال في بلد يستطيع أصحابه في إيمان وإخلاص عجيب أن يعبدوا الله والمال في وقت واحد. . .

هي مدينة جميلة ما في ذلك شك، لها تقاليدها الإسلامية العريقة، ومساجدها العامرة دائماً، ولكنها مع هذا لا تقدر غير أصحاب العقليات الزراعية من ملاك المزارع الواسعة وأصحاب المواهب التجارية في تجارة القطن التقليدية وأصحاب محالج الأقطان وإن كانوا أكياساً للغباوة والمال معاً، فتلك المداخن العالية الكثيرة للمحالج التي تزاحم مآذن المساجد بكثرتها واستطالتها، هي السمة الظاهرة لتلك المدينة وأهلها، وعلى الأخص في الفترة التي أعقبت الحرب والتي عظمت فيها تجارة القطن وعظم تجارها. أليس يكون غريباً مع هذا أن ينشد شاعرنا العيش الهادئ في ذلك البلد، وأن يحاول أن ينافس بتجارته هذه التجارة؟ أليس غريباً أن تجد بلبلاً غرداً بين ضجيج الآلات؟ وأن يلهم الشاعر في الجو الخانق من غبار القطن المتطاير أروع القصائد؟

لا أدري كيف استطاع أحمد محرم أن يعيش في الفترة الأولى له ولكني أعرفه بعد ذلك

ص: 29

الفترة مثالاً لحظ الأديب النكد، لا في دمنهور وحدها، بل في مصر جميعها، ولكنه استطاع بمعجزة ما أن يبني له بيتاً صغيراً، وأن يدخل أبناءه التعليم العالي. وعرفته في تلك الفترة صحف أخرى ومجلات كالهلال والمقتطف والسياسة والسياسة الأسبوعية والبلاغ والأهرام وغيرها، واستطاع أن يجد له معاشاً ضئيلاً من التكسب بالنشر والكتابة والقيام ببعض أعمال صحفية صغيرة لبعض الصحف الكبيرة. وكان يحاول أن يستر ذلك الجانب من حياته إذ كان يعتبره ناحية معاشية بحتة، ومن ذلك الكتابة الدائمة لبعض الصحف الإقليمية، ولم يكن ينشر شيئاً من ذلك باسمه. وقدرته جماعة (أبوللو) التي كان يرأسها المرحوم شوقي وسكرتيرها الدكتور أبو شادي، فكان لا يخلو عدد من أعداد مجلتها من قصيدة له. وكانت تطلب منه الهيئات العربية والجمعيات الإسلامية قصائد لحفلاتها، فكان الإبداع يواتيه ولا ينزل به أبداً إلى تكلف المناسبات المعروفة، لأنه كان يعبر عن عقيدة وإيمان. وقد طُلب منه كثير قصائد لمناسبات شخصية أو سياسية تخالف مبادئه أو آراءه، فما رضى لقلمه أن يرتخص ولا لشعره أن يهون، برغم سخاء الطالبين وأمانيهم له وشدة حاجته.

رحمه الله! لقد عاش عفيف اليد واللسان، بعيداً عن مغانم السياسة، لا نعرف أن شعره جر عليه مغنما اللهم إلا إذا اعتبرنا تلك الجوائز التي ظفر بها شعره في مسابقات السيدة هدى هانم شعراوي ومسابقات الإذاعة البريطانية، ولا أعرف أثراً إيجابياً كتقدير له من إحدى الهيئات سواء أكانت حكومية أم أهلية أم من زملائه في النهضة الذين وصلوا إلى الحكم. وهنا أذكر بالثناء والتقدير تلك النفس الحساسة النبيلة للشاعر العاطفي عزيز بك أباظة إذ أحس بالواجب عليه كشاعر وحاكم عندما كان مديراً للبحيرة نحو زميل مهضوم الحق والجانب، فرعاه وألحقه مشرفاً على مكتبة بلدية دمنهور، وكان ذلك من عامين تقريباً.

وقد نظم أحمد محرم في حياته الأخيرة إلياذته الإسلامية التي عارض بها إلياذة هوميروس، وهي مجهود شعري ضخم يقع في عدة آلاف من أبيات الشعر العربي الرائع يعر فيه للتاريخ الإسلامي غزواته وحروبه، فهو ملحمة إسلامية لا نظير لها في الأدب العربي، وقد بعث بها لوزارة المعارف لتطبعها على نفقاتها، ولكنها - عافاها الله وعفى عن وزرائها الأدباء - الذين تعاقبوا عليا والإلياذة مهملة في أركانها لم يبت في أمرها حتى الآن، برغم مضى الأعوام، ومضى صاحبها، وقد نظم مجموعات إسلامية أخرى غير مقطوعات

ص: 30

الإلياذة كانت تطلبها منه - كما ذكرت - بعض الهيئات والجمعيات في شتى المناسبات، فأذكرها أنه نظم في موضوع واحد، وهو غزوة بدر الكبرى، ثلاث قصائد طوال واحدة أثبتها في الجزء الأول من الإلياذة الإسلامية، والثانية نظمها إجابة لطلب جمعية إحياء مجد الإسلام، والثالثة نظمها إجابة لطلب المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين، ولكل قصيدة أفقها وجوها الخاص برغم وحدة الموضوع. تقرأ القصائد الثلاث فلا تحس بتكرار لمعنى أو لفظ، ويصعب كثيراً أن تفضل واحدة على الأخرى، وسنرجئ التعرض لشعره بالتحليل أو الدرس إلى أجل قريب نرجو فيه أن تتوافر لدينا المواد لعرض دراسة شاملة عنه إن شاء الله.

بقى أن نشير إلى ناحية يجهلها الكثيرون من عارفيه، ذلك هو أحمد محرم الشاعر العاطفي الرقيق، فقد اشتهر كشاعر عربي إسلامي، فمن يعرف أن له قصائد تسيل غزلا وعذوبة وتسري فيها حرارة الحب قوية أخاذة لم تنشر منها إلا القليل، أذكر منها تلك القصيدة التي ألهمه إياها الربيع والتي مطلعها:

هتف الداعي فلبوا يا رفاق

واجمعوا شمل الهوى بعد الفراق

ويقول فيها:

كان للهجر زمان فانطوى

وخلت من شره دنيا الهوى

كم جريح فيه بالشوق اكتوى

كم طريح فيه بالدمع ارتوى

كم مشوق بات مشدود الوثاق

يا شفاه الزهر ما أبهى الشفاه

أضحكي بالله يا دنيا الحياه

وانظمي شعر الهوى إني أراه

سلوة الصب المعنى في هواه

اسكبيه سلَسلا عذب المذاق

لك من شعري ربيع دائم

كل بيت فيه عيد باسم

كل معنى فيه حب هائم

كل حب فيه معنى حالم

كل حلم يملأ السبع الطباق

ويقول:

تلك خمري يا رفيقي خذ وهات

ودع الهم لأهل الترهات

ص: 31

نحن في المعبد نقضي الصلوات

هات كأسي يا صريع النشوات

يالها يا صاح من كأس دهاق

نحن في عالمنا السامي الجليل

ديننا الإيمان والحب النبيل

لا نبالي في كثير أو قليل

كل من لام خليلاً في خليل

ما لكم والحب يا أهل النفاق

ويختمها بقوله:

يا نشيد الحب من ذا صنعك

غنِّ يا قيس وقل ما أبدعك

كل طير يشتهي أن يسمعك

هذه ليلاك يا قبس معك

كاذب من قال (ليلى) بالعراق

وله قصائد تفوق هذه جودة ورقة لم تنشر بعد سنعرض لها، والطريف أنه نظم أغلبها في أخريات حياته، فهل مس أخيراً الحب قلبه الكبير؟

وبعد، فيروع الدارس للشاعر أحمد محرم تعدد جوانب شاعريته واتساع آفاق تفكيره، ونرجو بدراسته أن نضع ذلك الشاعر في مكانه الصحيح، وأن يلتفت له بالعناية نقاد الأدب الحديث ووزارة المعارف، إذ قد ترك في مكتبته مجموعات كبيرة من الشعر تفوق في روعتها ما نشر له، قصرت يد الشاعر عن نشرة وإن كان ما نشر له كفيل بأن يضعه في عداد الخالدين.

رحمه الله! لقد عرفته ي حياته شاعراً عظيماً مغموراً بائساً في دنيا المهرجين، وشاهدت جنازته، فآلمني مظهرها أكثر من مظهر حياته، فقد صحبته جفوة الحياة ووحدتها، حتى إلى قبره فما أندر المقدرين والمخلصين؟. . .

(دمنهور)

عبد الحفيظ نصار

ص: 32

‌رسالة الفن

9 -

الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

الفصل السادس - جمال النساء

كان ذلك المنزل القديم الجميل المعروف باسم (أوتيل دي بيرون) الواقع في شارع هادئ على ضفة اليسرى لنهر السين بباريس - كان إلى عهد قريب مقراً لدير (قلب المقدس) ولكن بعد أن ألغيت الرهبنة النسوية شغله بضعة مستأجرين من بينهم رودان.

وللفنان كما رأينا مراسم أخرى في ميدون، وفي مستودع الرخام بباريس؛ غير أن له ولعاً خاصاً بهذا المنزل الذي بنى بالبلدة في القرن الثامن عشر لأسرة سطوة وجاه. وهو مسكن جميل تشتهيه نفس كل فنان، فغرفه الكبيرة عالية، بحوائطها حشوات بيض يطيف بها حُلّي بارزة مموهة بالزخرف واللون الأبيض. أما الغرفة التي اختارها رودان ليعمل فيها فمستديرة تطل نوافذها الفرنسية العالية على حديقة غناء أهملت وطال عليها الإهمال. ومع ذلك فلا زال من المستطاع متابعة صفوف الأشجار التي تقوم على حوافي الطرقات والممرات المعشوشبة ورؤية بعض النباتات الخضراء المقامة على العرائش وقد ركبتها أنجم متسلقة عجيبة وفي كل ربيع تتفتح الأزهار الناضرة من بين الحشائش الكثة التي تملأ حاشية الحديقة. ولا يتسنى لشيء أن يبعث في النفس كآبة حلوة أكثر من هذا المنظر الذي يتلاشى فيه عمل الإنسان ويمحى رويداً رويداً بيد الطبيعة القاهرة.

يقضي رودان أكثر وقته في الرسم بذلك المنزل. ويحب أن يخلو إلى نفسه في هذا المنعزل الهادئ، وستودع الورق أشكالاً لا أعداد لها من الأوضاع الجميلة التي تتخذها المثل البشرية أمام عينيه.

وفي مساء أحد الأيام كنت أنظر معه في طائفة من تلك الرسوم، وكنت أبدي إعجابي بتلك الخطوط المؤتلفة المتزنة التي استطاع بها أم يبرز كل انسجام الجسم الإنساني على الورق. أما الخطوط التي عملت بجرة واحدة قوية من جرات القلم فتبدأ حدة حركات أو فتورها

ص: 33

وسكونها. وأما جمال التمثيل فيظهر بقليل من الظل يحدثه بإبهامه. وكان يبدو عليه وهو يدرس الرسوم كأنه يرجع بذاكرته مرة أخرى إلى المثل الحية التي أخذ عنها تلك الرسوم وعند ذلك صاح:

(آه يا لجمال أكتاف هذه المرأة! بالها من متعة عظيمة وما أجمله من منحن كامل الحسن! إن رسمي أثقل مما يجب. لقد حاولت كثيراً ولكن!! أنظر. هاهي ذي محاولة أخرى لنفس المرأة. إنها أقرب شبهاً بها. ومع ذلك!

(ثم أنظر إلى نحر هذه، وإلى ملاحة هذا الخط الممتلئ المحبوب. إن له رشاقة لا تشوبها شائبة.

وهنا سألته:

(يا أستاذ أمن السهل العثور على مثل جميلة؟) فقال:

(نعم) فقلت: (إذا فالجمال ليس في فرنسا.) فقال:

(كلا. إني أقرر لك ذلك.) فقلت: (ولكن خبرني. ألا تظن أن الجمال القديم يفوق جمالني الحديث، وأن النساء العصريات يقصرن عن أن يداين أمثال أولئك اللاتي أخذ عنهن فيدياس) فأجاب: (كلا، البتة.) فقلت (ومع هذا فجمال وكمال تماثيل زهرات الإغريق. . .) فقال: (كان لفناني ذلك العصر أعين يرون بها. أما فنانونا المعاصرون فعمي لا يبصرون. وهذا كل ما هنالك من فارق. كانت النساء الإغريق جميلات، ولكن ترعرع جمالهن قبل كل شئ في أذهان المثالين الذين نحتوهن. توجد اليوم نساء مثلهن تماماً وعلى الأخص بجنوب أوربا. فمثلاً ينتمي الإيطاليون المحدثون إلى نفس النوع الذي انتمت إليه مُثُل فيدياس. وأخص ما يميز هذا النوع هو اتساع الأكتاف والأرداف اتساعاً متساوياً) فقلت: (ولكن ألم تؤثر غزوة البرابرة في مستوى الجمال القديم بما نجم عنها من اختلاط في الجنس؟) فقال: (كلا. حتى إذا افترضنا أن البرابرة كانوا أقل جمالاً وتناسباً من جنس البحر المتوسط - وهذا محتمل - أقول حتى إذا افترضنا هذا فإن الزمن قد محا محواً تاماً كل عيب نشأ عن امتزاج الدم، وأعاد الانسجام إلى أجسام النوع القديم مرة أخرى. وإذا ما امتزج الجميل بالقبيح فأغلب الظن أن الغلبة تكون للجميل في النهاية. إن الطبيعة لتتجه دائماً أبداً - بقانون سماوي - وجهة الأحسن والأصلح، وتنحو ناحية الكمال بلا توقف.

ص: 34

ويوجد بجانب نوع البحر المتوسط نوع الشمال الذي تنتمي إليه بعض نساء فرنسا ونساء العنصر الجرماني والسلافي والذي نشاهد فيه الأرداف وافية التكوين والأكتاف ضيقة نوعاً. إنه من نوع ما نشاهد في حوريات جان جوجون وفي زهرة واتو التي بلوحته المسماة (حكم باريس)، وفي (ديانا) لهودون ونرى في هذا النوع أيضاً أن الصدر مرتفع بينهما نراه على نقيض ذلك مستوياً في النوع القديم ونوع البحر المتوسط. والحق أقول إن لكل نوع أو جنس من الأجناس جماله الخاص. والمسألة هي اكتشاف هذا الجمال. لقد رسمت بسرور شديد راقصات كمبوديا اللاتي حضرن مع مليكهن أخيراً إلى باريس؛ إذ أن للإشارات والحركات الصغيرة الرشيقة التي تصدر عن أعضائهن الجميلة جمالاً عجيباً مدهشاً.

ولقد عملت عدة دراسات عن الراقصة اليابانية هاناكو ذات العضلات القوية تبرز بروزاً واضحاً كما هو الحال في نوع الكلاب المسمى (فوكس تيريور). أما أربطة تلك العضلات فنامية لحد أن لمعاقدها ثخانة توازي ثخانة الأعضاء نفسها.

إنها لمن القوة بحيث تستطيع الوقوف على ساق واحدة لأي وقت تشاء، بينما تصنع بالأخرى زاوية مع جسمها فتبدو كأنها شجرة غرست في الأرض غرساً. ويختلف التشريح في جسم تلك الراقصة عما هو في أختها الغربية، ولكنه مع ذلك جميل كل الجمال في قوته الخاصة.)

وبعد هنيهة من الصمت عاد إلى الفكرة المحببة إليه قائلاً:

(قصارى القول يوجد الجمال في كل مكان. وليس هو الذي تفتقر إليه أعيننا، بل إن أعيننا هي التي تقصر عن إدراكه ورؤيته. فالجمال سجية وتعبير. هذا ولا يوجد شئ في الطبيعة له من السجية والتعبير أكثر مما للجسم الإنساني؛ فهو يبعث شتى الأخيلة المختلفة بقوته وجماله. فآناً نراه يشبهْ الزهرة بقوامه المائل الذي يكون بمثابة الساق منها، وبالثديين والرأس وجزالة الشعر وكلها بمثابة كأس الزهرة ونضارته. ونراه آناً آخر كالنبت المتسلق اللدن كالساق الفارعة المعتدلة يقول أو ليس لنوسيكا (كأني حينما أنظر إليك أرى نخلة باسقة بجزيرة ديلوس قريباً من مذبح أبوللو وقد نما فرعها الأوحد من الأرض إلى السماء). ثم إذا انحنى الجسم الإنساني قليلاً إلى الوراء كان كاللولب، أو كقوس جميلة يسدد عليها

ص: 35

إيروس سهامه الخفية، وفي أحوال أخرى يبدو كالقارورة؛ ولطالما أمرت مِثالاً أن تجلس على الأرض بحيث تجعل ظهرها قبالتي، وذراعها وساقها متجمعة أمامها. ففي ذلك الوضع يبدو الظهر الذي يستدق قليلاُ نحو الوسط ثم يستعرض مرة أخرى عند الأرداف كأنه زهرية بديعة الشكل والتكوين.

وفوق كل هذا وذاك فالجسم الإنساني مرآة النفس، ومن النفس يستمد أعظم جماله. (يا لحم المرأة يا أعجوبة لعجائب، يا أعلى مراتب الطين وأسماها! يا أجلّ مستقر للروح من الحمأ المسنون! يا أيها الظرف المادي الذي تضيء فيه الروح كما لو كانت تضيء في أكفانها. أيها الصلصال الذي يرى المرء فيه انطباع أصابع الخالق المصور! أيها الطين الجليل الذي يستمطر القبلات ويستبي قلوب الرجال! بلغت من القدسية بحيث لا يُدرى إذا كانت الشهوات فيضاً الهيا، طالما كان الحب مسيطراً قاهراً والنفس منجذبة منقادة، بلغت من القدسية بحيث لا يسع المرء عندما تتأجج عواطفه وهو يحتضن الجمال إلا أن يتوهم أنه يعانق الإله)

(أي والله لقد أصاب فكتور هوجو كبد الحقيقة. إن أكثر ما نعشقه من الجسم الإنساني لا يقتصر على الظرف الخارجي الجميل، وإنما هو البس الداخلي الذي يخيل إلينا أنه يشتعل في جوفه ويضيئه.

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 36

‌يا سامر الحي!

للأستاذ (بدوي الجبل)

يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا

رقَّ الحديد وما رقوا لبلوانا

خلّ العتابَ دموعاً لا غناَء بها

وعاتبِ القوم أشلاء ونيرانا

آمنت بالحقد يزكي من عزائمنا

وأبعد الله إشفاقاً وتحنانا

ويل الشعوب التي لم تسق من دمها

ثاراتها الحمر أحقاداً وأضغانا

ترنح السوط في يمنى معذبها

ريَّان من دمها المسفوح سكرانا

تغضي على الذل غفراناً لظالمها

تأنق الذل حتى صار غفرانا

ثارات يعرب ظمأى في مراقدها

تجاوزتها سقاة الحي نسيانا

ألا دم يتنزى من سلافتها

أستغفر الثأر بل جفت حميّانا

لا (خالد) الفتح يغزو الروم منتصراً

ولا (المثنى) على رايات شيبانا

أما الشام فلم تبق الخطوب به

روحاً أحب من النعمى وريحانا

ألمَّ والليل قد أرخى ذوائبه

طيف من الشام حيانا فأحيانا

حنا علينا ظماءً في مناهلنا

فأترع الكأس بالذكرى وعاطانا

تنضر الوردَ والريحان أدمعُنا

وتسكب العطر والصهباء نجوانا

السامر الحلو قد مر الزمان به

فمزق الشمل سماراً ولدمانا

قد هان من عهدنا ما كنت أحسبه

هوى الأحبة في بغداد لاهانا

فمن رأى بنت مروان حنت تعباً

من السلاسل يرحمْ بنت مروانا

أحنو على جرحها الدامي وأمسحه

عطراً تطيب به الدنيا وإيمانا

أزكى من الطيب ريحاناً وغالية

ما سال من دم قتلانا وحرحانا

هل في الشام رعاك الله والدة

لا تشتكي الثكل إعوالاً وإرناناً.

تلك القبور فلو أني ألم بها

لم تعْد عيناي أحباباً وإخوانا

يعطى الشهيد فلا والله ما شهدت

عيني كإحسانه في القوم إحسانا

وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه

عند الكفاح ويلقي الله ظمآنا

والحق والسيف من طبع ومن نسب

كلاهما يتلقى الخطب عريانا

ص: 37

قل للألى استعبدوا الدنيا بِسيفهم

من قسم الناس أحراراً وعبداناً

إني لأشمت بالجبار يصرعه

باغ ويرهقه ظلماً وطغيانا

لعله تبعث الأحزان رحمته

فيصبح الوحش في برديه إنسانا

والحزن في النفس نبع لا يمر به

صادٍ من النفس إلا عاد ريانا

والخير في الكون لو عريت جوهرة

رأيته أدمعاً حرى وأحزانا

سمعت باريس تشكو زهو فاتحتها

هلا تذكرت يا باريس شكوانا

والخيل في المسجد المحزون جائلة

على المصلين أشياخاَ وفتيانا

والآمنين أفاقوا والربوع لظى

تهوى بها النار بنياناً فبنيانا

رمى بها الظالم الطاغي مجلجلة

كالعارض الجون تهداراً وتهتانا

أفدي المخدرة الحسناء روَّعها

من الكرى قدَر يشتد عجلانا

تدور بالقصر عدْواً وهي باكية

وتسحب الطيب أذيالاً وأردانا

تجيل والنوم ظلُ في محاجرها

طرفاً تهدهده الأحلام وسنانا

فلا ترى غير أنقاض مبعثرة

حوين فناً وتاريخاً وأزمانا

. . . تلك الفضائح قد سميتها

هلا تكافأ يوم الروع سيفانا

نجا به الظلم سكران

الظبي أشراً=ولا سلاح لنا إلا سجايانا

إذا انفجرت من العدوان باكية

فطالما سمتنا بغياً وعدوانا

عشرين عاماً شربنا الكأس مترعة

من الأذى! فتملي صِرفها الآ

ما للطواغيت في باريس قد مسخوا

على الأرائك خداماً وأعوانا

الله أكبر هذا الكون أجمعه

لله لا لك تدبيراً وسلطانا

ضغينة تتنزى في جوانحنا

ما كان أغناكم عنها وأغنانا

تفدى الشموس بضاح من مشارقها

هلال شعبان إذ حيا بشعبانا

دوت به الصرخة الزهراء فانتفضت

رمال مكة أنجاداً وكثبانا

وسال أبطحها بالخلي آبية

على الشكيم تريد الأفق ميدانا

وبالكتائب من فهر مقنعة

نضاحك الشمس هندياً مُرَّانا

ص: 38

تململ الفاتحون الصِّيد وازدلفوا

إلى السيوف زرافات ووحدانا

السابقات وما أرخوا أعنتها

والحاملات المنايا الحمر فرسانا

سفر من المجد راح الدهر يكتبه

ولا يضيق به جهداً وإمعانا

قرأت فيه الملوك الصيد حاشية

والهاشميين طِغراء وعنوانا

شد الحسين على الطغيان مقتحماً

فزلزل الله للطغيان أركانا

نور النبوة في ميمون غرته

تكاد تلثمه الأجفان فرقانا

لاث العمامة للجلي ولست أرى

إلا العمائم في الإسلام تيجانا

يا صاحب النصر في الهيجاء كيف غدا

نصر المعارك عند السلم خذلانا

أكرمت مجدك عن عتب هممت به

لو شئت أوسعته جهراً وتبيانا

ما للسفينة لم ترفع مراسيها

ألم تهيئ لها الأقدار ربانا

شقِّي العواصف والظلماء جارية

باسم الجزيرة مجرانا ومرسانا

ضمى الأعاريب من بدو ومن حضر

إني لألمِح خلف الغيم طوفانا

يا من يدل علينا في كتائبه

نَظارِ، تطلع على الدنيا سرايانا

ص: 39

‌يا عربي.

. .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

صعدت السماء بلا سلم

وسرت اختيالاً على الأنجم

بعزم يدكَ رواسي الجبال

وإقدام ذي لُبَدٍ ضيغم

فكيف تبيتُ أسيرَ الهوانِ

وأنت الذي - قط - لم يُرغم!

وأنت الذي دوّخ المشرقين

وصارمُ عزمك لم يُثلمِ!

ملكت البلاد وسدت العبادَ

وكنتَ الملاذَ لمن يحتمي

وكنت منار الهدى للأنامِ

يؤمك في ليلهِ المظلم. . .

فقم واطَّرحْ عنك هذا الرقاد

فقد خسرت قسمةُ النُّوَّم

وما فاز في العيش إلا الجسورُ

وما خاب في السعي كالمحجمِ

ومن يركب الهول للمكرماتِ

يَعُدْ والمعالي له تنتمي

فعش في حماك عزيزاً مهيباً

وكن رجلاً باسِلاً تُكرمِ

ص: 40

‌فرحة السلم

للأديب مصطفى علي عبد الرحمن

عادَنا فعُودي لأغاريدِك عُودي

وابعثي الأنغامَ في سمعِ الليالي من جديد

من نشيدٍ عَبْقريٍ خالدٍ إثر نشيد

يوقظ الفرحةَ والآمالَ في هذا الوجودِ

أشرقَ الصبحُ وولت ظلمة الليلِ الرهيبِ

وأفاق الكون مما طاف من هول الحروب

وانطوت صفحة إثم عابسِ الوجه مُريبِ

وليالٍ هزتْ الدنيا بنارٍ وحديدِ

هو ليلٌ طال ما أقساهُ بتناهُ حيارى

طال حتى لم نُعُد نحسَبُ لليل نهارا

كم تَدَاعى فيه للآمال صرحٌ وتُوازى

روَّع الدنيا بما يُزجيه من خطب شديدِ

هو ليل طال ما أقساه في عمر الزمانِ

مُغْرقٌ في الظلم لا يَعْرفُ معنىً لحنانِ

قد قضيناهُ على مُرٍ نُعاني ما نُعاني

من وعيدٍ منكرٍ يَصْدُق من بعدِ وعيدِ

ذكرياتٌ يالها ي خاطري من ذكرياتِ

كلما طافت بعينيَّ استباحت عَبراتي

وأشاعتْ في رحابِ النفس شَتَّى الحسراتِ

آه مما لقي الأحرار من ذُلِ القيودِ

ظالم لا يَعْرف الرحمةَ قد ضلَّ وتاها

أشعل الحربَ فباتَ الكونُ يشقى بلظاها

كم أسالت من دماء أينما دارتْ رحاها

ص: 41

في سبيل الحقَّ ما أُزهِقَ من روحٍ شهيدِ

هللي للصبح يا أطيارُ فالصبحُ أتانا

رائعاً يملأ دنيانا أماناً وحنانا

رَّفْرَفَ السلم مُنى تُشرق في ليلِ أسانا

وتُشيعُ الأنسَ والفرحةَ فينا من جديدِ

أيها الشاعرُ هذا عيدُنا الأسى فغنِّ

هو عيد السلم والنصرِ معاً عيدُ التمني

جاء الدنيا بشيراً جامعاً من كل حُسْنِ

نادياً باليمنِ والإسعادِ والعيشِ الرغيد

ِ

ص: 42

‌البريد الأدبي

حول انهيار فرنسا

سألنا كثيرون عمن هو الأستاذ العربي الكبير كاتب مقالات (حول انهيار فرنسا) التي نشرت بالرسالة. وجوابنا أنه الأستاذ ساطع الحصري بك وكان قد ألقاها في نادي المثنى ببغداد عقب انهيار فرنسا؛ فلما حانت الفرصة لنشرها نشرناها ولم نصرح باسمه قبل أن نستأذنه وقد أذن. وفي كتابه الذي أذن فيه يذكر أسمه حديث عن مأساة دمشق الأخيرة ننشر منه هذه الفقرة: (لقد قدر لي أن أشهد الفصل الأخير من المأساة التي بدأت عنا قبل ربع قرن. قد شاهدت انفجار أول قنبلة فرنسية في هذه الربوع وأنا أسير مع فيصل العظيم بجانب مستشفى (المزة) صباح يوم (ميسلون) في 24 تموز سنة 1920؛ ثم سمعت دوي آخر قنبلة فرنسية تلقى من المزة على المدينة مساء يوم 31 أيار سنة 1945. لبثت في فندق (أوريان بالاس) إحدى وعشرين ساعة أسمع فيها بدون انقطاع أصوات البنادق والرشاشات. ودوي القذائف والقنابل، ورأى الرصاص والشظايا تخترق الشبابيك والجدران، والقنابل تنفجر على السَطح وفي داخل القاعات. ثم استطعت أن أنتقل إلى بناية في أعلى المدينة لأطلع من هناك عل القذف الذي استمر أربعاً وعشرين ساعة أخرى. ثم تجولت ساعة في المدينة ورأيت من هول الفظائع والمناظر ما رأيت، ثم عدت إلى الفندق فرأيت في غرفتي آثار سبع عشرة رصاصة. . .!)

في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

حضرة سيدي المحترم رئيس تحرير الرسالة الغراء

أهدي إليكم سلاماً ذكياً عاطراً وتحيات مباركة طيبة. . . وبعد، فإني متتبع بعناية وإكبار تصحيح الأديب الفاضل الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي لكتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، وقد رأيت في العدد الأخير من الرسالة الغراء تصحيحه لبيت أبي تراب علي بن نصر الكاتب الوارد في ج 15ص 98 وهو:

حالي بحمد الله حال جيده

لكنه من كل خير عاطل

ولم يرتض الضبط (جَيّده) ورأى حضرته أن الأصل (حالٌ جيد) بحذف التاء، وقال:(قلت: حالي بحمد الله حال جيد)، والحال يذكر وإن كان التأنيث أكثر اهـ.

ص: 43

وأنا أرى أن البيت (حالي بحمد الله حالٍ جيدُه) على المجاز، وحال اسم فاعل من حلي ضد عطل، والجِيد العنق، ودليل ذلك مقابلة الحلي في صدر البيت بضده في عجزه وهو قوله (عاطل) فإن وافقكم رأيي هذا رجوت نشره في الرسالة الغراء مع شكوى لحضرتكم وحضرة الناقد الأديب الأستاذ النشاشيبي، وتقبلوا فائق التحية والسلام.

أحمد يوسف نجاتي

الأستاذ بكلية اللغة العربية

إلى الأستاذ عبده الزيات من الدكتور عبد الفتاح السيد بك

تحية وسلاما، وبعد فقد تناولت بيد الشكر والامتنان يومياتك القيمة وأخذت في الاطلاع عليها واستيعاب ما فيها من ملاحظات ودروس في الحياة المحامي العملية. ولم أشأ أن أؤخر القيام بواجب شكرك على إهدائي هذه الرسالة النفيسة حتى أتم الاطلاع على صحفها جميعاً، بل رأيت من فرط ارتياحي لما قرأته منها أن أسطر لك كتابي هذا مقدمة لقيامي بواجب زيارتك لكي أكرر الثناء العاطر

إن ملاحظاتك تذل حقاً على خلق نبيل وإحساس رقيق وشعور سام.

وإن كان لي ملاحظة أبديها فهي حرماني من الاطلاع على هذه اليوميات قبل الآن وقت أن كنت مبتدئاً في المحاماة التي أريد أن تعتقد بقول زميل نابه لك من قبل إنها مهنة الكرامة والكفاح والمجد، لا مهنة العبودية والمذلة وغير ذلك مما ذكرت في يومية 15 مايو سنة 1940 لأنك بذلك أيها الزميل تحاول أن تثبط عن غير قصد همة شيخ مثلي أراد في آخر أيامه أن يكون له شرف الانتساب إليها لا للكسب - صدقني - ولكن لما يشعر به في قرارة نفسه من أنها سبيل الدفاع عن الحق ومعاونة القضاء فعلا على الاضطلاع بمهمة العدالة؛ ولا يضير المحامي أن يصادف في عمله تعباً ونصباً، فإن الحياة كلها كفاح. وحسبنا فيها أن تؤدي واجباتنا بضمير مرتاح ونفس مطمئنة.

أكرر لك شكري أيها الزميل وارجوا المزيد من هذه اليوميات وتقبل ممن يفخر بك تلميذاً وزميلاً أزكى السلام.

عبد الفتاح السيد

ص: 44

تقرير المجمع اللغوي لكتابيين قيمين:

(ألف الدكتور على عبد الواحد وافي الأستاذ بكلية الآداب كتابين نفيسين في علم اللغة وفقهها لم يصنف في بابهما خير منهما في سداد المنهج وغزارة المادة وطرافة البحث لا في القديم ولا في الحديث. وقد بعث بنسختين من طبعتهما الثانية إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية فجاءه من معالي رئيس المجمع الخطاب التالي):

(حضرة الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي: (عرض على لجنة الأدب في المجمع كتابكم (علم اللغة)، وصنوه (فقه اللغة). وقد جمدت لكم اللجنة ما بذلتم من جهد في البحث والدرس والاستخلاص؛ فقد حوى هذان الكتابان من مختلف مسائل اللغة وعالجها من مشكلاتها ما تمس إليه حاجة الباحث المتطلع. وقد انتهجتم في التأليف طريقة علمية حقيقية بالتقدير، وبسطتم من المعلومات ما يدل على غزارة مادة وحسن إحاطة. وكان لما أيدتم أو فندتم من وجهات النظر المتباينة مظهر من استقلال الرأي

وإننا إذ نشكر لكم هذا المجهود في التأليف، نرجو لكم المزيد من التوفيق، وتقلبوا أطيب تحياتي)

رئيس المجمع

أحمد لطفي السيد

أهل السنة وأصحاب الحديث

أهل السنة محمد يوسف موسى في العدد 622 من الرسالة كلمة طيبة عن كتابي (التعليم في رأي القابسي) الذي صدر أخيراً مع رسالة القابسي المخطوطة (أحكام المعلمين والمتعلمين). وهي كلمة تدل على أن الأستاذ يوسف موسى قد عنى بقراءة الرسالة عناية عظيمة، مع تحقيق العلماء وبصر أصحاب الفكر، مما هو جدير بعلم الكلمة وفضله.

وقد أشار الأستاذ الفاضل إلى مسألتين: أولادهما ورود (أهل السنة) لدلالة على (أصحاب الحديث) في مواضع نص على صفحاتها من الكتاب.

ولا نزاع في أن هناك فرقاً بين أهل السنة وأصحاب الحدث، فأهل السنة يقابلون الفرق

ص: 45

الإسلامية الأخرى، وعلى الأخص الشيعة والمعتزلة، ولا يلزم أن يكون أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية كما ذكر الأستاذ يوسف موسى، لأنه قبل الإمام أبي الحسن على ابن إسماعيل الأشعري المتوفى 324هـ، كان مذهب أهل السنة موجوداً في مقابل الفرق الإسلامية التي تخالفه. كما أن فرقة الأشاعرة بعد موت الأشعري تعمقت في علم الكلام للرد على المعتزلة وعلى غير المعتزلة، في الوقت الذي بقى فيه كثير من المسلمين متمسكين بالسنة من غير أن يكونوا معتزلة أو أشاعرة. أما أصحاب الحديث، فيذكرون عادة في مقابل أصحاب الرأي من الفقهاء، كما هو معروف.

ومع ذلك فالتفرقة الدقيقة بين أهل السنة وأصحاب الحديث لا يستمسك بها كثير من العلماء. فمنهم من يجعل أصحاب الحديث اصطلاحا مرادفا لأهل السنة، فيتكلم على أصحاب الحديث في مسائل كلامية لا فقهية. ونقصد هنا بالمسائل الكلامية، الاعتقادات لا العبادات. قال الإمام المحدث المفسر شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل الصابوني المتوفى 449هـ في رسالته عقيدة السلف وأصحاب الحديث (أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول (ص) بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله (ص) على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه. . .)

وقد كان القابسي من أهل السنة، كما كان من أصحاب الحديث. فإذا كنت قد وصفته في بعض الأحيان بإحدى الصفتين فلم أكن مجانباً في ذلك الصواب. وبخاصة إذا لم يكن المقام يقتضي المقابلة بين الفرق المختلفة. أما إذا كان المقام مقام تفرقة صريحة بينه وبين المتكلمين من المعتزلة، فقد عنيت بالنص على أنه من أهل السنة.

أما المسألة الثانية وهي الحكم على المعتزلة بما ذكره الغزالي، وقد كان يحسن أن ألتمس الحكم عليهم من كتبهم أنفسهم، فإنما ذكرته هو ما كنت أعنيه؛ لأني أردت بيان رأي خصوم المعتزلة في آرائهم، ولم يكن يهمني تحقيقها من كتبهم.

دكتور احمد فؤاد الأهواني

إلى شيوخنا الأدباء

ص: 46

أقف الآن حائراً في شئون الفكر، ويمتد خيالي إلى الوراء فأطالع تراث الآداب المختلفة وملاحم الشعراء العظيمة، وأخرج بعد ذلك إلى الحياة العامة، وأشاهد مباذلها وقيمها المختلفة من خير وشر، ثم أعود بعد ذلك فأحبس نفسي في برج عاجي أو سجن فسيح، أجتر غابر ذكرياتي، وأطالع أدب شيوخنا الأدباء من صناديد المفكرين والكتاب الذين أتيح لهم بما لديهم من عبقريات فذة أن يعرفوا في هذه البلاد والأقطار العربية الشقيقة. ولكننا نراهم عاكفين على إنتاجهم ولا يفكرون في شئون الجيل الجديد والعمل لصالح مستقبل الأدب في مصر.

ولعل الذي أثار هذا المعنى الجليل في نفسي هو نداء الأستاذ الكبير الزيات إلى وجوب إنشاء دار للترجمة تترجم لنا كل ما في أدب الغرب من روائع وأعلام. ولاشك أنه نداء صادق أمين، فللأستاذ الكبير الثناء والشكر من وفود جيل يرقب أعمال الأدباء بجانب تراثهم الخالد في الأدب. وعلى هذا الضوء نتوجه إلى الأستاذ العقاد، والدكتور طه حسين، والأستاذ الزيات في شئ من اللوم والتقصير: من في أدباء الشباب سيخلف العقاد العظيم؟ وهل في العربية كاتب تقرب منزلته في أسلوبه مثل الزيات؟ الجواب: لا. . . ولكن هل فكر الزيات في أن يخلفه أديب أو جماعة من الأدباء يمثلون مدرسة خالدة في الأسلوب الرصين؟ وهل امتدت خدمة الدكتور طه حسين حينما كان مستشاراً فنياً لوزارة المعارف إلى عمل نافع لثقافة جيل جيد؟! كم كنا نود من الدكتور طه أن يشير إلى مثل ما أشار إليه الأستاذ الزيات من إنشاء دار للترجمة. . .؟! وهل اتفق أقطاب الأدب الحديث وهم العقاد وطه حسين والزيات على ذلك العمل الجليل فأسرع العقاد في مجلس الشيوخ يطالب بذلك. وأشياء وأشياء نودها من أشياخنا الأدباء لضرورة نهضة الجيل الجديد كإنشاء دار تعرف باسم الأدب الحديث للمحاضرات والمناظرة.

وإني لأخشى ألا يكون في امتداد أدباء الشباب من ينصف شيوخنا الأدباء في المستقبل إلا إذا تأثروا بأدبهم ونشاطهم ولن يكون ذلك إلا إذا قامت مدارس أدبية تمثل ألوان الأدب الحديث وأعلامه الأفذاذ.

وبعد فهذه ناحية لم يلح في تناولها أدباؤنا الشباب الذين أتيحت لهم الكتابة في الجرائد والمجلات، فهل تفسح لنا الرسالة الغراء في نشر هذه الكلمة؟ نرجو ذلك وللأستاذ الزيات

ص: 47

الشكر والثناء على عمله المتواصل في خدمة الشباب والأدب والثقافة.

أحمد محمود دعبس

طالب بالمدرسة السعيدية

الجمال الفني في القرآن

وقعت أخطاء مطبعية في المقال المنشور بالعدد الماضي يمكن أن يدركها القارئ فنكتفي بتصحيح أثنين منها للضرورة:

وقع اضطراب في هذه الفقرة فنعيدها مصححة زيادة الكلمات الساقطة منها:

(وتكملة لهذا البيان أقرر أن هذه الطريقة تكثر في مواضع التشريع وفي بعض مواضع الجدل. أما طريقة التصوير فإنها تكاد تطرد في سائر الأغراض).

ووقع خطأ في هذه الآية:

(يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض).

ص: 48

‌القصص

الدميم. . .

للأستاذ جبيب الزحلاوي

(بقية ما نشر في العددين السابقين)

- 3 -

لزمت غرفتي طوال النهار التالي ولم أذهب إلى ملحق الفندق إلا بعد ثلاث ليال.

لقيني خصوم الليلة الأولى بل أصدقاؤها بترحاب ملحوظ، جعلني أحس كأنهم ينتظرون قدومي، وغدوت أعاتب إذا تأخرت ليلة عن الحضور.

قيل لي مرة بعد مقدمات وأسئلة عن صاحبي (وقد أطلقوا عليه أسم (ليدرون) تحريفاً لكلمة بالفرنسية معناها (يشع)) بأنه خطب الآنسة (سمسم) من والدتها وهو يجهل طبعاً أنها حفيدة فلان العظيم، وقد ذكروا اسمه ولقبه ورتبه، وأن والدتها ردته بلطف فلم يأبه لردها وأصر على البقاء بقرب (سمسم) وأنه سيعود إلى مصر متى عادت إليها ليفاتح جدها وهو ولي أمرها (بالزواج). وقالت إحدى الآنسات: نحن منقسمون حيال هذه المسألة إلى قسمين: قسم الآنسات يتنبأ بتحقيق هذا الزواج وسيكون زواجاً سعيداً، وقسم الرجال يستبعد وقوعه، فأنت إلى أي جانب يكون انحيازك؟

قلت: ماذا كان ردّ الآنسة (سمسم) على خطبتها؟

قلن: قالت إنها ستقول كلمتها عندما تعرض المسألة على ولي أمرها.

لم أشأ الانحياز إلى جانب المتنبئات المتفائلات لأنهن أقدر من الرجال على استشعار الرجولة ومعرفة ميول المرأة، ولم أمل إلى المتشائمين الذين استبعدوا وقوع هذا الزواج بين شخصين يمثلان الشيء وضده، أي الجمال البادئ والدمامة الصارخة، وقد تحاشيت عمداً إبداء رأي في صاحبي الذي عرفته فقط يوم وصولي إلى جزيرة (رودس) وقد أعانتني على هذا التحاشي رؤية صاحبي مقبلاً مع فتاته (سمسم) وكأن قلبيهما يدفعان خطواتهما باتزان في حين كان فكراهما يسبحان في جو سماء واحدة.

كان من عادتي في تلك الجزيرة أن أستيقظ عند الفجر أستقبل شروق الشمس حين أكون

ص: 49

عند قمة الجبل أمتع النظر بأبهج وأروع ما رأيت من مفاتن يقظة الشمس. وحدث في صبيحة أحد الأيام، أني ما كدت أتخطى عتبة حجرتي حتى تقدم أحد غلمان الفندق فألقى إلى كتاباً فيه دعوة من السيدة والدة الآنسة (سمسم) إلى مقابلتها عند ربوة (النبي إيليا) وهي ربوة ليست بعيدة عن الفندق تكتنفها أشجار الصنوبر وتحجب الجالسين فيها عن الأنظار.

سيدة مهيبة الطلعة يبرز وجهها الحافظ لنضارته ولونه كلون ضوء القمر من وسط هالتين من شعر أسود فاحم، وثوب أسود يستر أكثر أجزاء الجسم، هذه السيدة والدة (سمسم) هي التي دعتني للكلام معها في حادث صديقي.

شرحت لتلك السيدة المحترمة العاقلة مبلغ معرفتي بصاحبي الدكتور واعترفت لها بأن لا سلطان لي عليه إلا حق دعوته إلى الاصطبار والتريث ريثما ينقضي فصل الصيف ونعود إلى مصر.

قالت: أخشى أخباراً تتسرب إلى مصر تنقل محرفة فيتقول الأشرار عن العائلة ما لا ترضاه، ودعتني بإلحاح إلى معاونتها في إقصاء صاحبي عن ابنتها التي شهدت بطيبة قلبه وكريم شمائله كما ستعمل هي من جانبها على ردع ابنتها بالحسنى عن التمادي في صداقة رجل لم نعرفه بعد.

لم يكن في وسعي استجابة طلب السيدة وقد أدركت من كلامها أنها وإن كانت غير راضية عن صلة ابنتها بالرجل ولكنها غير غاضبة عليها، وقد صارحتها الرأي قائلاً بأني لا أطيق أن أباعد بين قلبين يتدانيان، ولا أعمل مطلقاً على نصب حواجز بينهما. وقد شعرت عند تركي إياها بأنها مقدرة موقفي وتصرفي.

مدت يدها لوداعي، فقبلت تلك اليد ووددت لو ألصق شفتي بظهر كفها طويلاً لإبلاغها مدى احترامي لها وإكباري إياها.

السيدة جميلة تستر جمالها بالحزن، حدثتني عن ابنتي الوحيدة بلسانين من العاطفة الحنون والعقل الراجح. إنما هي محزونة مفجوعة، لا بزهرة من زهرات الحب، بل بباذر وبذور الحب، بزوجها وهي الوفية لعهدة بعد الموت. هي أم ترضى لابنتها زوجاً له بعض مزايا المرحوم زوجها في الانكباب على قراءة الكتب.

لم يعد صاحبي في حاجة إليّ ولا إلى كتبه فقد تركها لي هدية المستغني، ولم يكن ظرفي

ص: 50

الخاص يبيح لي الاندماج بنزلاء ملحق الفندق وجلهم أعزب دأبه التصبي والتغازل.

كم من العسير يا صاحبي على شاب ألجم بالزواج في سن مبكرة قبل أن يتفتق ذهنه للحياة! وكم تكون الحياة هزيلة في نظرة إذا داهمته بالبنين قبل أن يشتد ساعده للكفاح! وكم تكون قيود العرف وأغلال العادة ثقيلة على قلبه إذا ألزم نفسه التقيد بها والخضوع إليها؟ هكذا كان حالي بين نزلاء ذلك الفندق.

أصخت لنداء الواجب يهيب بي أن أعود إلى زوجتي وأولادي، فلبيت. جمعت حوائجي في حقائبي وركبت سيارة وأوصلتني إلى ميناء الجزيرة ومنه ركبت البحر إلى الإسكندرية.

صمتّ هنيهة ريثما أستريح وأشعلت لفافة تحرض الذهن على الصفاء والاستذكار وإذا بالمنصت إلى حكايتي يسألني بلسان الرجل الخبيث ولهجة المستحث (ثم ماذا)؟ ابتسمت لسؤاله ابتسامة غابت عليه معانيها وقت: انصرمت أعوام ثلاثة لم أر صاحبي الدميم في غضونها، ولم أسمع إلا خبراً واحداً نشرته الصحف وهو خبر استقالته من الجامعة وانصرافه إلى أعماله الزراعية. لقد أكبرت هذه التضحية من دكتور يدرّس في الجامعة في سبي الاستقلال والحرية، فان كثيراً من الناس يؤثرون عبودية الوظيفة وقيود النفس على الحرية.

حدث في مساء أحد الأيام، وأذكر جيداً أنه كان في اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر، أني لقيت مصادفة رجلا يشبه صاحبي الدميم في متجر شيكوريل ولكنه لم يكن دميماً، ولا أمرط الحاجبين، وليس بأعمش أحمر الجفون، وإما كانت ندبات الجدري وأثر الجراح في عنقه باقية كما عرفتها.

زالت حيرتي بإقبال الرجل علىّ يحييني بمودة واشتياق، وقال مداعباً: لم يعد منظري يفزعك لأني أتقنت (التواليت) أليس كذلك؟

قلت: من هو ذاك الفنان البارع الذي جعل من (الفسيخ شربات)؟

قال: هي

هيَ من؟

تلك التي وجدتها في رودس.

أتعنَى (سمسم).

ص: 51

هي بعينها.

هل عند (سمسم) صالون (مكياج)؟

ضحك صاحبي وقال: لا داعي الآن إلى إطالة الكلام، سنطلعك الليلة على كل شئ.

قلت: نون المتكلمين تعني من؟

قال: دع التشوف وحب الاستطلاع ففي هذه الليلة تعرف كل شئ تهمك معرفته ويسرك خبره، أما الآن فأنت أسيري ولن يطلق سراحك إلا بعد أن ينتصف الليل! أفهمت، أنت أسيري فلا داعي إلى السؤال ولا إلى الجدل أو الاحتجاج.

وقفت كالمبهوت ريثما ابتاع صاحبي حاجته من المتجر، وتزايدت دهشتي وقتما دعاني إلى ركوب سيارته ولقد لقيتها تشغل نصف شارع فؤاد الأول عرضاً، وقد درجت بنا إلى بيته وهو (فيلا) جميلة في الجزيرة تحف بها حديقة باسقة الأشجار، أما الدهشة الكبرى فهي تلك التي اعترتني حين مقابلتي (سمسم) وجهاً لوجه واندفاعها نحوي تحييني بلهفة ومحبة كما لو كنت أخاها.

لم تعد (سمسم) تلك الفتاة النحيفة الضامرة التي عرفتها في فندق (شيفرو) تقفز بين الأشجار الصنوبر كالغزال، بل اكتمل جسمها واعتدل قدها، وبرزت أنوثتها كأحلى ما تكون في المرأة

قالت وقد أخذت يدي بيدها تعال أرك منزلها وقد تعاونت وزوجي على تنسيق أثاثه وترتيبه، ثم أحدثك كيف تمّ زواجنا.

مشيت معها أتفرج على حجرات (الفيلا) المنسق فرشها ببراعة وذوق فني، ووقفنا طويلاً في غرفة المكتب وهي عامرة بآلاف الكتب فقالت.

هذه الخزائن (الدواليب) خاصة بكتب الزراعة فلا أقرب منها لأنه لا شأن لي بها، وهذه الرفوف للكتب التي أشترك مع زوجي في مطالعتها وكثيراً ما نجلس في حديقتنا، كما كنت أنت تجلس معه في رودس. . . تقرآن، كنت أنا والبنات أترابي نراقبكم من بعيد فنضحك من اجتماع. . . النقيضين.

قلت: أي نقيض بين زوجك وبيني؟

قالت: إهمال مطلق من ناحية زوجي في هندامه وبزّته، وإصلاح. . . رأسه ووجهه يقابله

ص: 52

عناية تامة من ناحيتك في كامل مظاهرك.

فتح الباب في هذه اللحظة ودخل منه زوجها يحمل رأسه الأصلع وحاجبيه الأمرطين اللذين قلّ الشعر فيهما، يلبس سروالاً قصيراً وقد برزت ساقاه الشعراوان، ينتعل حذاء سميك النعل، وفي يده عصاً كأنها جذع شجرة وقال:(هكذا كنت).

قلت للسيدة (سمسم) وأنا كالفزع: كيف تخلصت من هذه الدمامة الصارخة؟

قالت وهي تبتسم: علمته صناعة (التواليت) ثم التفتت إلى زوجها الذي كان يقفز كالقرد ويأتي بإشارات مضحكة وحركات طفلية وقالت له.

أتقنت تمثيل دورك كما كنت في رودس فاذهب وغيّر هندامك استعداداً للعشاء.

قال محتجاً: لا عشاء قبل (الأبرتيف).

قالت: هو ذاك مقبلات شهية.

عدنا إلى صالة وكانت الدهشة ما زالت تغشاني، فلما جلسنا قالت لي السيدة (سمسم): لقد تم زواجنا على خير ما رمت.

اقتنعت والدتي برضاي عن الرجل الذي انفتحت له مغاليق قلبي فقبله شريكاً لحياتي، ثم أظهرت مثل هذا الرضى للمرحوم جدي الذي كان ولي أمري، ولم يعترض إلا على مسألة واحدة حل عقدتها زوجي العزيز بالانتساب إلى ديني؛ وأصارحك بأني ما كنت لآبه لمثل هذا الأمر أو أعيره التفاتي لولا أحكام الشريعة، أحكام الدين المنزل من عند الله، ولم نراع دين الحب الذي هو الله.

صمتت هنيهة ثم قالت: أحس في أعماقي أن الأديان كلها تستمد قوتها من روحانية الإنسانية، فلمَ لا نكون كلنا إنسانيين في الزواج وهو روحاني في الأصل ثم غريزي فاجتماعي؟!

ثم قالت: اتفقت وزوجي على أن ندع ولدنا على طبيعة يختار سبيلاً يوائم عقله ويتفق مع روحانيته وقد آلينا على أنفسنا رعايته كإنسان، وهكذا نكون قد نفضنا أيدينا من المشكلة التي سوف تحلّ عقدها الأجيال المستنيرة المقبلة بعد أن بذرنا بذورها!؟

أقبل الزوج لابساً بدلة (سموكنج) فقامت السيدة ولم يطل غيابها، وقد عادت بعد أن نضت ثياب البيت واستبدلت بها ثياب السهرة وقد برزت هي وزوجها كالإنجليز الاستقراطيين،

ص: 53

وإذ كنا في طريقنا إلى غرفة المائدة قال لي الزوج مداعباً: انظر كيف تمثل أنت الدمامة بهندامك كما كنت أنا أمثلها بوجهي ورأسي وقتما تعارفنا في رودس!

كان حديثنا ونحن على مائدة الطعام يدور حول الدمامة والحسن وقد اختلفت كما تنوعت وجهات نظرنا في تعريفها، وقد كانت السيدة (سمسم) أقدر منا وأصدق في الحكم عليها من وجهة نظر المرأة فقالت:

الدمامة هي في الوجه الميت والحسن في الوجه الحي، فالوجه الذي تموت فيه التعابير وتنطفئ فيه معاني النفس هو وجه دميم برغم تناسب قسماته؛ أما الوجه المعبر الذي تبرز فيه كل المعاني النفسانية فهو الوجه الحسن برغم التنافر في قسماته.

أما الجمال، وإن كان تعريفه نسبياً، واختلاف النظر إليه واجب بوجوب تنوع الأذواق والميول، فهو في نظر المرأة رجولة في القسمات، رجولة في الصوت والحركة والإشارة رجولة في البيت في الأمور وفي تصريفها. ولا شأن لي في وجهة نظر الرجل في تعريف جمال المرأة، لأن أكثر الرجال لا يعرفون ما هو الجمال! والجمال في المرأة سر بل أسرار لا يعرفها معرفة حقيقة إلا الخبثاء من الأدباء والشعراء ورجال الفن.

ضحكت وصديقي ضحكة الرضا عن تفسيره هذه السيدة معاني الجمال على هذا الشكل البارع، وأخذنا نشرب ونأكل. وإذ كنت في طريقي إلى البيت كنت أحس بأني سكران أترنح من الفرح، وما برحت يا صحابي أزور هذه الأسرة السعيدة لأفرح بمشاركتها في عيدها في الليلة الثانية والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام.

نظرت إلى صاحبي نظرة طويلة ساهمة، ثم مد يده فصاحبني وانصرف دون أن يقول كلمة واحدة. وبعد ليلة جاءني هذا الشاب وكل قسماته تطلب الاستفهام والاستيضاح وقبل أن يسلم عليّ قال:

أستاذي المحترم، أين عقدة القصة وكيف حللتها؟ لقد أذهلتني عن العقدة فبربك أرشدني إليها.

قلت وقد تعلمت جفوة المتشرد، اذهب إلى الدميم، بل اذهب وسل (سمسم) إذا شئت.

حبيب الزحلاوي

ص: 54