الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 628
- بتاريخ: 16 - 07 - 1945
الثغر يضحك!
نعم، يضحك ثغر الإسكندرية اليوم بملء شدقيه، وعلى مضاحكه الغر العذاب سمات، وفي ضحكاته المرجعة الموقعة دلائل! يضحك بعد أن قضت عليه الحرب بالعبوس المظلم ست سنين لم يسكن فيها روعه، ولم يرقأ دمعه؛ فهو يضحك ضحكة الشامت بخطوب طغت ثم زالت، ودول بغت ثم دالت، وقوم أرادوا أن يسخروا الأقدار فسخرت منهم، وطمعوا أن يصرفوا الخطوط فانصرفت عنهم، ومغتر أشار إلى بحر العرب وقال له بحرنا؛ فقال له القدر الراصد: بل قل إنه قبرنا!
والثغر يضحك من القاهرة كما يضحك أبيقور أو أبو نؤاس من الكلبيين أو المتزمتين الذين اتخذوا الحياة جداً من غير لهو، وعبوساً من غير طلاقة، وسعياً من غير جمام، وخصاماً من غير بقيا، وعراكاً من غير هدنة؛ ويقول وهو ينظر إلى البحر العاصمة التي تنظر إلى الصحراء: إن الحياة زبد ورمال. وموج وجبال؛ ففيها الصلابة والمرونة، وفيها الرصانة والرعونة، وفيها العبث الذي يفور ويذهب، والجد الذي يطمئن ويمكث؛ وفيها المرح الذي يكتسي جمال الحياة، والوقار الذي يرتدي جلال الموت. وهيهات أن تصلح الدنيا على المعالجة، إذا لم تساعدها الطبيعة بهذه المزاوجة!
والثغر يضحك للقاهرين الذين يتهالكون من الجهد على أحضانه، ويترامون من الكلال فوق شطآنه، ويقول لهم: تعالوا إلى الصفاء المحض، والسرور الخالص، والوداد المصفق، والشعاع الذي يعافى الجسد، والنسيم الذي يرد الروح؛ ودعوا القاهرة للساسة الذين أوقدوا فيها نار الخصومة فزادوا وهجها، وضاعفوا رهجها؛ وخلوا للزمان الحكم لهم أو عليهم، فإنه لم يبق منهم أحد إلا اتهم الآخر؛ فإن كان ما قالوه حقاً فليس فيهم صالح، وإن كان ما قالوه باطلاً فليس فيهم صادق!
والثغر يضحك عند استانلي باي! وخليج استانلي كخليج عمان؛ إلا أن اللآلئ هناك تغوص وهي هنا تعوم. ولآلئ عمان مصونة في الأصداف لا تنال إلا ببذل النفس؛ أما لآلئ استانلي فعارية مبذولة للنظر واللمس! ومن لآلئ عمان ما يباع بخزانة في مصرف أو مساحة في منجم، ولكن من لآلئ استانلي ما يباع بقدح في حانة أو عشاء في مطعم! وهذه أروع ما برأ الله في العالم الناطق، وتلك أبدع ما صاغت يده في العالم الصامت، ولكنه فضل الصون على الابتذال، وفرق ما بين الحرام والحلال!
والثغر يضحك في وجوه المصطافين كما يضحك الشباب في الأجسام، أو الربيع في الخمائل! فترى الشيخ في مرح الشاب، والشاب في نزق الطفل، وكلهم يجتمعون في وحدة من الإخاء والرخاء والعافية والأمن تشعرهم بأنهم عبيد لإله واحد منعم، وأبناء لوطن واحد منيل!
(الإسكندرية)
أبن عبد الملك
كيف تنام أعين العرب
عن إخوانهم في شمال أفريقية؟
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً توطن العرب والمسلمون بلاد المغرب برقة وتونس والجزائر ومراكش. لم يذهبوا إليها مدفوعين بحب الغلبة القاهرة، والسيطرة الغاشمة، والفتح الذي يقصد به استغلال المغلوبين، ولم ينتقلوا إليها ليجردوا أهل البلاد من خيراتهم، ولا لينتزعوا منهم ديارهم وأموالهم، ولا ليكرهوهم في الدين، ولا ليسلبوهم حريتهم، ولا ليقضوا على كيانهم كأمة من الأمم التي لها حق الحرية والوجود
إنما حركتهم للفتح عوامل إنسانية، وحفزتهم إلى الانتقال والترحل غايات نبيلة ومقاصد شريفة، هي رفع الظلم الذي كان يرسف فيه أبناء البلاد، وإزالة العسف الذي كانوا يلقونه من الحكام، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، إخراجهم من ظلمات الجهل والجور والفوضى والاسترقاق إلى نور العلم والعرفان والحرية والإخاء والعدل والإحسان، ثم اندمجوا فيهم فصاروا أمة واحدة تعيش في كنف من تعاليم الإسلام ونظمه، بحيث لم يعد هناك فارق بين الحاكمين والمحكومين. وكانت الشرائع والأحكام التي يرجع إليها الناس في مكة والمدينة واليمن والبصرة والكوفة ودمشق هي التي يدين لها بالطاعة والرعاية من في مصر وبرقة والقيروان وبجاية وتلمسان وسبته وطنجة وفاس ومراكش، كما ازدهرت في هذه البلاد حركة علمية عمادها ثقافة الإسلام وعلومه وقوامها اللغة العربية وآدابها وعلومها وبخاصة في مدينة القيروان
ثم تقلبت الأحداث والغير على تلك البلاد في مختلف الحقب والإعصار إلى أن منيت بالاستعمار الأوربي من الفرنسيين والأسبانيين والإيطاليين فساموا أهلها سوء العذاب، وأذاقوهم ألوان النكال، وهم أمة أبية لا تنام على ضيم، ولا تخلد إلى مسكنة أو مذلة، فثار المسلمون والعرب غير مرة على طاغوت المستعمرين وبغى الولاة الظالمين، لأنهم سلبوهم حريتهم المدنية والسياسية، وضيقوا عليهم الخناق في حريتهم الدينية، وسلطوا عليهم كل وسائل الاستعمار التي تنخر عظام الأمم وتحولها شيئاً فشيئاً إلى مصيرها المحتوم من التأخر والانحلال ثم الثبور والفناء
هل أتاك نبأ ثورة الجزائر الأخيرة، إذ هضمت حقوقهم وسلبت حرياتهم، وحيل بينهم وبين كل مشروع من أمانيهم القومية، فقابلتهم فرنسا المستعمرة بالأسلحة الفاتكة والقوة الباطشة حتى أهريقت الدماء الزكية، وأزهقت النفوس الرضية، وشرد الأحرار، وألقى بالمجاهدين في غيابة السجون؟
فهل يجوز للعرب والمسلمين في أقطار الدنيا أن يسكتوا على هذه الحوادث الجسام، وان يسلموا إخواناً لهم في العروبة والإسلام لغول الاستعمار؟!!
كلا، فإن سمو نفوسهم، ويقظة وجدانهم، وما طبعوا عليه بحكم دينهم من الغضب للحق والتواصي به، ومن التعاون على البر والتقوى، ومن الشعور العميق بالوحدة والتكافل، بحيث إذا اشتكى عضو منهم تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى - كل أولئك يوجب عليهم حكومات وشعوباً أن يهبوا لنصرة الضعفاء من إخوانهم أبناء المغرب بالدفاع عن حقوقهم ورفع نير الظلم والاستعباد عنهم
وعلى الحكومات الإسلامية عامة والحكومات العربية خاصة أن يطالبوا رسمياً الدولتين الفرنسية والإسبانية بكف يد العدوان والظلم عن تونس والجزائر ومراكش، وعلى الجامعة العربية أن تطلب إجراء تحقيق محايد عن حوادث الجزائر الأخيرة، كما أن عليها أن تختار مندوبين عن طرابلس وتونس والجزائر ومراكش ليمثلوا أممهم في الجامعة، وبذلك يمكن رفع الصوت بالنيابة عنها والدفاع عن حقوقها والمطالبة بحريتها واستقلالها. كذلك ينبغي أن يكون من واجبات مكتبي الدعاية المزمع إنشاؤهما بلندن وواشنطون الدعوة إلى تلك البلاد بجانب الدعوة إلى فلسطين والدفاع عن حقوق العرب فيها، والله في عون الأفراد والأمم ما دامت الأمم بعضها في عون بعض. سدد الله خطى العاملين وهداهم إلى سواء السبيل (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
حسن أحمد الخطيب
المفتش العام بوزارة المعارف
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 8 -
* ج11 ص207:
ملكنا فكان العفو منا سجية
…
فلما ملكتم سال بالدم أبطُح
وحللتمُ قتل الأُساري وطالما
…
غدونا على الأسرى نعف ونصفح
فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا
…
وكل إناء بالذي فيه ينضح
قلت: جاءت (أبطح) بضم الطاء وهي بفتحها. والشعر لسعد بن محمد.
* ج17 ص210: قال الحاكم أبو سعد: وأنشدني (أبو الفتح بن الأشرس) أيضاً لنفسه:
كأنما الأغصان لما علا
…
فروعها قطر الندى قَطَرا
ولاحت الشمس عليها ضحى
…
زبرجد قد أثمر الدرا
نقد الحاكم على بيته فقال: قوله: (قد أثمر الدرا) لا يستقيم في النحو، لأنه لا يقال: أثمرت النخلة الثمر، وإنما يقال أثمرت ثمراً بغير الألف واللام.
وجاء في الشرح: قطر الندى: نقط المطر، وقطر فعل ماض أي سال وسقط، والجملة حالية.
قلت: (لما علا فروعها قطر الندى ثرا).
و (نقد الحاكم بيته) لا (على بيته) وأغلب الظن أن (على) من زيادة النساخ. يقال: نقده وانتقده، وجاء في الأساس: انتقد الشعر على قائله.
و (أثمر) هو فعل لازم كما قال أبو سعد، وقد عداه المحدثون، وكأنهم رأوا فيه استعداداً للتعدية. . . وهذا ما قاله في شأنه الخفاجي في (شفاء الغليل):
أثمر يكون لازماً وهو المشهور الوارد في الكتاب العزيز، ولم يتعرض أكثر أهل اللغة لغيره. وورد متعدياً كما في قول الأزهري في تهذيبه: يثمر ثمراً فيه حموضة. وكذا استعمله كثير من الفصحاء كقول ابن المعتز:
وغرس من الأحباب غيبت في الثرى
…
فأسقته أجفاني بسح وقاطر
وأثمرهماًّ لا يبيد وحسرة
…
لقلبي يجنيها بأيدي الخواطر
وقول ابن نباتة السعدي:
وتثمر حاجة الآمال نجحاً
…
إذا ما كان فيها ذا احتيال
وقول محمد بن الأشرس وهو من أئمة اللغة: (كأنما الأغصان. . .) وقول ابن الرومي: (سيثمر لي ما أثمر الطلع حائط) إلى غير ذلك مما لا يحصى. وهكذا استعمله الشيخ في دلائله والسكاكي في مفتاحه. ولما لم يره كذلك شراحه قال الشارح: استعمل الأثمار متعدياً بنفسه في مواطن من هذا الكتاب فلعله ضمنه معنى الإفادة أو جعله متعدياً بنفسه.
ونقل (التاج) جل هذا الكلام، وجاءت (ثرا) في الكتابين (نثراً) وهو تصحيف. وجاءت (ثراً ودراً) في بغية الوعاة (سحراً ودرراً) وهو تبديل. وورد (ابن الأشرس) في شفاء الغليل (ابن شرف) وفي التاج (ابن أشرف) وفي بغية الوعاة (ابن أشوس) وفي إرشاد الأريب (ابن أشرس) وفي دمية القصر (ابن الأشرس).
* ج6 ص154:
والطير فوق الغصون تحكي
…
بحسن أصواتها الأغاني
وأرسل الورق عندليب
…
كالزير واليم والمثاني
قلت: (وراسل الورق عندليب) والشعر للجوهري صاحب الصحاح.
في التاج: (راسله في كذا، وبينهما مراسلات. والرسالة المجلة المشتملة على مسائلي. وهو وسيلة في الغناء ونحوه، وراسله في الغناء. باراه في إرساله).
* ج2 ص119: وأنفذا أبا بكر بن رافع إلى إستراباذ ونواحيها لاستيفاء ما يستوفيه من المعاملين والتناء فيها. فقيل: جمع الوجوه وأرباب الأحوال. . .
وجاء في الشرح: وفي الأصل العاملين (مكان المعاملين) والثناء فيها هكذا في الأصل ولعلها والتناهي فيها أي التشدد وبلوغ النهاية في الاستصفاء وجمع المال.
قلت: (استراباذ) بفتح الهمزة والتاء كما ضبط ياقوت لا بكسرها كما جاء في الكتاب. و (العاملين) الأصل قد تكون صحيحة. و (التناء) مثل السكان جمع التانئ وهو الدهقان كما في القاموس. والذي هو المقيم ببلده والملازم كما في التاج. وفي الأساس: هو من تناء تلك الكورة إذا كان أصله منها. ويقال: أمن تنائها أنت أم من طرائها.
* ج6 ص277:
رسمُ دار وقفتُ في طَلَلِهْ
…
كدت أُقَضّي الغداة من جَلَلهِ
قلت: ضبط (رسم) بالضم، وهو بالكسر لأنه مجرور برب المحذوفة. والبيت وهو لجميل بن معمر - من شواهد الجماعة. قال ابن يعيش. . . والثاني ما يحذف ولا يوصل الفعل، فيكون الحرف المحذوف كالمثبت في اللفظ، فيجرون به الاسم كما يجرون به وهو مثبت ملفوظ به، وهو نظير حذف المضاف وتبقية عمله نحو ما كل سوداء ثمرة ولا بيضاء شحمة وكقوله:
أكلّ امرئ تحسبين امرءاً
…
ونار توقد بالليل نارا
على إرادة كل، ومن ذلك قول الآخر:(رسم دار. . . البيت) أراد رب رسم دار ثم حذف لكثرة استعمالها.
و (أقضي) المشددة في الكتاب هي (أقضي) كما روتها رواة الشعر.
* ج1 ص121:. . . عن النبي إنه قال للنساء: إذا جعتن خجلتن، وإذا شبعتن دقِعتن.
قلت: إنكن (إذا شبعتن خجلتن وإذا جعتن دقعتن) والحديث مصوغ.
* ج15 ص39: أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صوب لا جدد دونه.
وجاء في الشرح: الجدد الغليظ من الأرض قلت: لا حدد دونه بالحاء. يقال: دون ما سألت عنه حدد أي منع، ولا حدد عنه أي لا منع ولا دفع كما في التاج. والقول في رسالة عبقرية لأبي حيان التوحيدي.
* ج18 ص220:
قرهت عيني من طول البكا
…
وبكى بعضي على بعضي معي
وجاء في الشرح: في الأصل: قرهت بمعنى اسودت أو جمدت، وفي طبقات الأطباء: شقيت. ولو أن لي حق التصرف لجعلتها قرحت، وهي أقرب إلى قرهت.
قلت: مرهت. في القاموس: مرهت عينه كفرح خلت من الكحل أو فسدت أو ابيضت حماليقها والنعت أمره ومرهاء. وفي مستدرك التاج: وقوم مره العيون من البكاء وهو جمع أمره.
* ج10 ص177: وقال (الحسين بن مطير):
رأت رجلاً أودى بوافر لحمه
…
طلاب المعالي واكتساب المكارم
خفيف الحشا ضرْباً كأن ثيابه
…
على قاطع من جوهر الهند صارم
فقلت لها: لا تعجِبنَّ فإنني=أرى سمن الفتيان إحدى المشائم
وجاء في الشرح: (ضرباً): من ضرب في الأرض ذهب بنفسه وخرج تاجراً أو غازياً أو إلى غير ذلك.
قلت: الضرب الرجل الخفيف اللحم كما في الصحاح وغيره. و (المشائم) هي (المشاتم) بالتاء.
* ج16 ص256: قال إسحاق بن راهويه: يحب الله الحق؛ أبو عبيد (القاسم بن سلام) أعلم مني ومن أحمد بن حنبل ومن محمد بن إدريس الشافعي. قال: ولم يكن عنده ذاك البيان إلا إنه إذا وضع وضع.
وجاء في الشرح: إذا وضع وضع كناية عن إنه كان كافياً في كل شيء.
قلت: إذا وضع وضح: إذا وضع أي ألف وصنف وضح وأبان وإن لم يكن للسانه ذاك البيان.
في (وفيات الأعيان) لما وضع كتاب الغريب (المصنف) عرضه علي عبد الله بن طاهر فاستحسنه وقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش. وأجرى عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر. قال محمد بن وهب المشعري: سمعت أبا عبيد يقول: مكثت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة.
قلت: من هذا الكتاب نسختان مخطوطتان في (دار الكتب المصرية) عمرها الله!
* ج9 ص87: ومن عبث الخاطر وهو ستة أبيات تشوفت فيها الحجاز. . .
وجاء في الشرح: في الأصل: تشرفت.
قلت: تشوقت بالقاف، يقال تشوفه وتشوق إليه، وتشوق مثل اشتقاق ومطاوع شوق. وتشوف إلى الشيء تطلع، ورأيت نساء يتشوفن من السطوح أي ينظرن ويتطاولن كما في اللسان
* ج15 ص116: قال الصاحب وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كارثني أولاد المنجم لفضل أبي الحسن علي بن هارون وغزارته واستكثاري من روايته. . . فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه (في شعر له) عن قائله فغضت. . . وقال: تقول لمن هذا،
أما يدل على قائله. . . أما ترى أثر بني المنجم على صفحته، أما
يحميه لألاؤه أو لوذعيته
…
من أن يدال بمن أو ممن هو الرجل
وجاء في شرح (كارثني) أي اشتد علي وعارضني وفي شرح (يدال) يدال: يقال أي يتداول الناس فيه القول والسؤال بمن وممن.
قلت: (كارث) غير معروفة. وفي اللسان كرثه الأمر ساءه واشتد عليه، وبلغ منه المشقة، وأكرثه كذلك. والمقام لا يقتضي مثل هذه اللفظة كما لا يقتضي (كاثره) أي غالبه أو فاخره بكثرة مال أو عدد. وأغلب الظن أن الأصل (قابلني) أو (قاربني) ومن معاني قاربه: ناغاه وحادثه بكلام مقارب حسن، والمقابلة هنا أليق من المقاربة.
و (يدال) هي (يذال) بالذال، أي يهان. والقول هو بيت لأبي تمام من قصيدة في المعتصم بالله، قال:
يحميه لألاؤه أو لوذعيته
…
من أن يذال بمن أو ممن هو الرجل
وفي هذه القصيدة:
يستعذبون مناياهم كأنهم
…
لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا!!!
البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 4 -
اللغة والسلوك والذكاء - اللغة والحب - تعابير لغوية -
تعابير منتقدة. . . . . . .
(1)
(نحن نفكر ونبعث بالكلمات، وسلوكنا في البيت والشارع والحقل والمصنع هو قبل كل شيء سلوك لغوي، لأن كلمات اللغة تقرر لنا الأفكار والانفعالات. وتعين لنا السلوك كما لو كانت أوامر، بل نستطيع أن نقول إن سيادة البريطانيين على الهنود، أو المتمدنين على المتوحشين هي إلى حد ما سيادة لغوية، أي مجموعة خصبة وافية من كلمات المعارف والأخلاق تحدث براعة في الفن وتوجيها في السلوك يؤديان إلى السيادة وأحياناً إلى العدوان) ص10.
(ومما لاشك فيه أن هناك بين المتوحشين والبدائيين أذكياء من الطراز الأول، ولكن ذكائهم يبقى عقيما، لأنهم حين يفكرون يجدون تفكيرهم محدوداً بالتراث اللغوي المحدود الذي ينطقون ويفكرون بكلماته، واللغة لهذا السبب هي أعظم المؤسسات الاجتماعية في أية أمة، لأنها الوسيلة لتحريك الذكاء في أبنائها، ولتوجيه أخلاقهم بكلماتها التي تعبر عن المعرفة أو العقيدة أو الحكمة) ص92.
هنا ينظر الأستاذ إلى اللغة بعين واحدة، لأنه رجع إليها وحدها التفكير والسلوك، وأغفل تأثير المجتمع فيها، فيبست اللغة وحدها هي التي تحفز وتدفع، وليس المجتمع سبيكة تصوغها اللغة وتشكلها، لأن اللغة تؤثر في المجتمع وتتأثر به، بل لعل تأثرها بالمجتمع أقوى من تأثيرها فيه؛ لأن المجتمع هو الذي وضعها وأنشأها ونماها ورعاها، فلاشك أن المجتمع وجد قبل أن توجد اللغة، ولاشك أن المجتمع هو الذي صاغ هذه اللغة في آماد
متباعدة ليعبر بها عن حاجاته، فالحاجات أسبق من اللغة المعبرة عنها، والقول بأن اللغة وليدة المجتمع ومرآة لحياته أصدق من الزعم بأن المجتمع وليد اللغة وصورة منها.
فقد نهض المسلمون أولا، وبسطوا سلطانهم على الشرق والغرب، ثم تأثرت لغتهم بحياته الجديدة فاتسعت ومرنت وحدث فيها ثقافات لم تكن لهم من قبل.
ونهضت مصر والشرق العربي في هذا العصر، ثم اتسعت اللغة بما طرأ عليها من فنون، استجابة لهذه النهضة.
ومن ذلك أننا الآن نترجم ونؤلف ونضيف إلى اللغة مصطلحات جديدة في الطب والقانون والاجتماع والاقتصاد والكيمياء وغيرها، أفنحن استجبنا لروح النهوض ثم استخدمنا اللغة لتحقيق هذا النهوض، أم أنا كنا نعرف هذه المصطلحات وهي التي أوحت إلينا بهذا النهوض؟ لاشك أن اللغة هي التي خضعت لحاجتنا وتأثرت بنهضتنا.
ولو صدقنا الزعم بأن اللغة هي الخلاقة والفعالة لكانت النتيجة الطبيعية أن سكان الهند وجنوب إفريقية الذين يتكلمون بالإنجليزية، وسكان تونس والجزائر الذين يرتطنون بالفرنسية - في صف واحد مع الإنجليز والفرنسيين، لأن اللغة هي اللغة.
ثم ما للشرق تخلف عن ركب الحياة بعد أن كان الرائد والقائد، ولغته هي لغته إن لم تكن قد زادت ثروة من الكلمات والتعابير وسعة في الخيال؟
وما لنا نرى كثيرين جداً من المثقفين الدارسين لأكثر من لغة يتنكبون الفضيلة وهم على علم بما يقترفون؟ ويعدون صوالح أمتهم وأنفسهم وهم على بينة أنهم عادون؟ إن كانت اللغة هي الحافز والملهم فلماذا لم تحفزهم إلى الخير وتلهمهم نوازعه.
إن اللغة لا تحفز إن لم يكن خلقها رصيد من قوة الخلق، وسمو الروح، والطموح إلى مثل أعلى، أما اللغة وحدها فزجاجات مغلقة على معان لا ينتفع بها إلا من يتذوق مراميها، ويفقه معانيها ولو كان الشأن للغة وحدها لسما كل من حفظ كلمات: المجد، والشهامة، والمروءة، والنجدة، والعزة الخ.
(2)
(يجب أن نذكر أن كثيراً من توجسنا من الحب واختلاط الجنسين يرجع إلى أننا نستعمل كلمات الحشاشين سوء أكانت فصحى أم عامية في وصف هذه العلاقات الجنسية بدلا من
كلمات العلماء أو المثقفين، ولذلك كلما فكر بعضنا في الحب أو اختلاط الجنسين على الشواطئ أو العرى خطرت بذهنه كلمات توحي البذاء أو العهر فيصد ويصرخ في الدعوة إلى انفصال الجنسين) ص84.
ما شاء الله!
هل الغير على الخلق الكريم أن يتدهور، وعلى عفاف المرأة أن يخدش، وعلى سمعة الأسرة أن تلوث، وعلى العرض أن يهتك، إنما يصرخون بدعوتهم لأنهم يستعملون كلمات الحشاشين التي توحي إليهم بالبذاء والعهر والفجور؟
وهل الذين يتوجسون من الحب أن يغلب الهوى العقل، وأن يجر ويلات على الفتيان والفتيات، إنما يتوجسون لأن قاموسهم اللغوي منحط؟
ومن الظريف أن هذا الأستاذ الداعية إلى اختلاط الجنسين على الشاطئ في عرى وتهتك قد ضرب المثل على صحة دعواه بأن المثقف يرى المرأة العارية فيتذكر الرشاقة، والجاذبية، والصحة الخ
والرجل المتأخر أو (الحشاش) يراها فيتذكر اللذة، والأرداف، والقبلة الخ.
فأية صيحة منكرة هذه الصيحة؟
وماذا بقي من الدعوة الجريئة المكشوفة إلى العرى والاختلاط والإباحية؟
هي دعوة خاطئة خاطلة بنيت على أساس خاطئ واه نقدناه في تأثير اللغة. وأنا أسأل الأستاذ:
أكل من يقعون في المحرم ويسطون على الأعراض من غير المثقفين؟
أو كل مثقف يخالط على الشاطئ امرأة عريانة لا يفكر في المتعة الجسدية؟
أتستطيع أن تدعي أن الثقافة نميت الغريزة
أيتذكر مثقف الخفة والرشاقة والجاذبية ثم ينقطع به خياله عند هذا الحد؟ وماذا بعد الإعجاب والخفة والرشاقة والجاذبية؟
أيرى مثقف امرأة ذات خفة ورشاقة وجاذبية ويعجب بها ثم يسجد لله إقراراً بقدرته وتفرده في صنعته؟
وهل هذه المرأة دمية أو تمثال حتى يقنع منها بالنظر؟
وإذا كان المثقف كثيراً ما تعجبه الوردة الناضرة فلا يقنع منها بالنظر، بل يقطفها ويشمها، وكثيراً ما تروقه القطة الأليفة الجميلة فلا يكفيه منها الرؤية، بل يلمسها ويداعبها، فلم يزعم زاعم أن المرأة الحسناء العارية أو غير العارية تروعه ثم يخالطها، ولكنه يتبتل ويترهب!
إن الداعين إلى هذا البلاء ليسوا إلا مغالطين مخدوعين يفترون على عواطفهم؛ ويكذبون في تحليل نفوسهم، أو فجاراً يبغون هدم ما بقى لهذه الأمة من حصن الأخلاق
- 3 -
(ومن الأحافير اللغوية كلمات (الدم) و (الثأر) و (العِرض) في بعض مديريات الصعيد، فإن هذه الكلمات تؤدي إلى قتل نحو ثلاثمائة امرأة ورجل كل عام) ص52
أكاد أشفق على هذا الكاتب الذي يخبط ويخلط فيما يكتب، ويتردى ثم لا ينهض إلا ليكبو، فإذا كانت دعوته إلى الاختلاط والعري مستورة بستار شفيف فإن دعوته هذه مكشوفة مفضوحة تطل بقرنيها من خلال كلماته
إنه يريدنا على أن نمحو من لغتنا كلمة (العرض) فلا نغار، وكلمة (الثأر) فنذل ولا ننتقم، وكلمة (الدم) فنهدر حياتنا وحياة أعزائنا فلا نثأر!!
إن الديك الذي لا يعرف كلمة (العرض) يغار على دجاجاته، ويصد عنهن الجنيب الغريب، والديك الذي لا يعرف كلمة (الدم أو الثأر) يصون عزته فيناضل من يعتدي عليه، وإن كان أشد منه مراساً وأقوى شكيمة.
أفننتكس نحن فنكون أقل من الديك غيرة وحمية؟
ولن يزعم إنسان أن لغة الشمال وبقية مديريات الجنوب خالية من كلمات الثأر والدم والعرض، فلماذا لا تكثر هناك جنايات القتل؟ أنتهمهم في رجولتهم وكرامتهم وشرفهم؟ لا، فليس مرد حوادث القتل إلى اللغة، ولكن إلى ظروف أخر لعل منها: الجو، والفقر، والضغائن الموروثة، والضرب إلى الأصل العربي بعرق، والاعتزاز بالشرف الذي تخدره موجات المدنية الداعرة. فلا جريرة للغة في هذا ولا دخل
وإذا سلمنا جدلا أن الثأر للكرامة، وأن صون العرض من جرائر اللغة فما أحبها جريرة. والخير إذن أن تبقى هذه الكلمات حية تعمل في النفوس عملها، لا أن تسمى (حفائر)
أيها الغُير على الأعراض في مصر! خففوا من غلوائكم، بل أميتوا غيرتكم، وألغوا
رجولتكم، فإنكم همج في رأي الأستاذ سلامة موسى!!
أيها الطامحون إلى الاستقلال التام، الثائرون للكرامة والحرية المغصوبة! رويدكم فإنكم متأخرون في زعم كاتب من كتاب مصر!!
أيها الآباء! أيها المربون للجيل الجديد! أيها الواضعون للقاموس اللغوي الجديد! احذفوا من لغتكم كلمات العرض والثأر والدم وإضرابها لتنشئوا نعاجاً لا تثأر ولا تثور ولا تغار!
- 4 -
(وما زلنا نلتزم عبارات مقتبسة يعافها الذهن الذكي، ومرجع هذه العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي تعلمناها وغرست في نفوسنا قيمة مزيفة للاستعارة والمجاز، فما زالت صحفنا مثلا تقول:
عرض على بساط البحث، بدلا من عرض للبحث
وخاض غمار القتال، بدلا من قاتل
وحمى وطيس الحرب، بدلا من حمى القتال
ودارت رحى المعركة، بدلا من دارت المعركة
ووضعت الحرب أوزارها، بدلا من انتهت المعركة الخ
ونحن نستغني عن الاستعارة حين يمكن الاستغناء عنها أو حين تعكس مجتمعاً يخالف مجتمعنا) ص73
ولكن الاستعارة - ما دامت في موضعها، وصدى لشعور الأديب وانفعاله وخياله - جوهرية في النص لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا فقد التعبير عن النفس قيمته وقوته وجماله
ولا عيب في أن نشير بعض الاستعارات إلى حياة سابقة، لأن الكلمات التي نكتب بها ونشعر، لها تاريخ وأعمار وأطوار وأحوال مرت بها تخالف في كثير أو في قليل المعاني الجديدة التي نطلقها عليها الآن، وما زالت اللغات الحديثة حافلة باستعارات تعكس صوراً قديمة ليست قائمة، بل إن بعضها يشير إلى أساطير عتيقة.
وأنا أبين خطأ الأستاذ في عيبه هذه التعابير التي تتداولها الأقلام:
1 -
(عرض على بساط البحث): يتوهم أن هنا زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكن المعنى إذا حذفت كلمة بساط ليس كالمعنى بها، فكلمة بساط أفادت أن البحث واسع، حر، واضح،
متكشف للباحثين جميعاً كأنه شيء على بساط أمام الناظرين، والتركيب إذن تشبيه بليغ من إضافة المشبه به إلى المشبه
2 -
(خاض غمار القتال): والغمار من معانيها الشدة، والمزدحم، وشدة الظلام، والخوض في الأصل للماء، فالصورة الخيالية هنا أن الميدان غاص بالمحاربين، وعددهم كالبحر الزاخر، وهذا المحارب شجاع، لأنه خاض هذا الميدان المهيب الرهيب، وهذا معنى لا يؤديه كلمة (قاتل)، لأن المقاتلة تكون بين اثنين وأكثر، وتكون بحماسة وشجاعة كما تكون بجبن وفزع
3 -
(حمى وطيس الحرب): وهي جملة ابتكرها النبي عليه الصلاة والسلام يوم حنين لما تجالد القوم
والوطيس في اللغة التنور، وحفيرة تحفر فتوقد فيها النار للاشتواء، والمراد حمست الحرب، وعظم الخطب، فهنا استعارة رائعة مبنية على تشبيه الحرب بالنار، لحرارة الضرب بالسيوف أو المدافع أو القنابل، وللحرارة التي يوقدها في جسوم المحاربين ما عليهم من سلاح، وما يقومون به من حركة، ثم لأن الحرب تأكل الرجال، وتفني الأبطال كما تأكل النار الحطب
ولذلك قالت العرب: (أوقدت نار الحرب)؛ وقال تعالى: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله).
وقال زهير:
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
…
وتضرُ إذا ضربتموها فتضرم
4 -
(وضعت الحرب أوزارها): والأوزار عدد الحرب وآلاتها، قال الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها
…
رماحاً طوالا وخيلا ذكورا
فهذه كناية عن انتهاء الحرب، لكنها أبلغ من الحقيقية، لأنها أفادت الحقيقية، وأفادت معها دليلا محسوساً على صدقها، ثم أفادت أن الحرب كانت طاحنة، ثم في إسناد الوضع إلى الحرب مجاز عقلي أو استعارة أو حذف، وكل منها جميل، فليراجع الأستاذ ذلك كله في كتب البلاغة إن أراد التفصيل
ولماذا لم يستغن الأستاذ عن المجاز ما دامت الحقيقة قديرة على أداء المعنى؟
قال في ص13: وهذا موضوع (تخصب) فيه الالتباسات)
وفي ص24: (بل كانت تبقى هذه المعاني (أجنة) تؤلمه (بالمخاض)، ولا تجد المخرج من ذهنه أو تخرج (جهيضة)).
وفي ص89: (لم تجد كلمات ولسن الجو الملائم لها (فذبلت) وماتت أمام (الأعشاب) التي زرعها كلمنسو ولويد جورج) الخ
وأخيراً، أسأل الأستاذ جاداً أن يكتب مقالا أدبياً واحداً باللغة الجديدة التي دعا إليها، بحيث يكون خليطاً من الفصحى والعامية والإفرنجية، وملغى فيه الإعراب، وبالحروف اللاتينية، وأساس البلاغة في المقال المنطق وحده، ومجرداً من كل استعارة أو تشبيه، أو مجازاً يمكن الاستغناء عنه، ثم لا أطالبه ولا أطالب القراء بتقدير قيمته الفنية، بل أطالبه وحده بفهمه، وإن كان قد حبره بقلمه
لأكاد أوقن أن دعواته لهدم اللغة، وتقويض الأخلاق، وازدراء الماضي المجيد، إن هي إلا دعوات استعمارية لتبديد شمل الأمة العربية، أو دعوات تبشيرية لقطع ما بين المسلمين ودينهم من صلة لغوية وخلقية، ولكن لن يكون لدعواتهم صدى ما دامت أقلام في أيدي أحرار.
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية
الشعر المرسل والشعر الحر
للأستاذ حسين الغنام
قرأت قصيدة للأستاذ الفاضل علي أحمد باكثير المنشورة في عدد مضى من الرسالة، والتي أسماها شعرا مرسلا حراً. . .
وقد جمع الأستاذ الفاضل بهذه التسمية بين الشعر المرسل، والشعر الحر، وهما ضربان مختلفان في الشعر الأوربي، ويسمى الأول في الإنجليزية والثاني ولكن الترجمة الصحيحة لهما هي: نظم مرسل، ونظم حر. . . ومعنى هذا إنه يجب أن تتوفر الموسيقية في هذين الضربين من الشعر أو النظم!
ولا يعفى الأستاذ باكثير جمعه بين الضربين في قصيدة واحدة - كما سماها مجازاً - أن يهمل الموسيقية أو العروض، وإن لم يتقيد أو يلتزم بحرا واحدا. . .
فلقد أدهشني خلو ما سماها قصيدة من أي موسيقية، وحاولت قراءتها وتنغيمها على كل الوجود فلم أفلح.
فهذه إذن ليست قصيدة بالمعنى المفهوم لخلوها من الموسيقية، وهي ليست شعرا مرسلا، وليست شعرا حرا. والخطأ الثاني هو جمعه بين الضربين في قطعة واحدة.
أما أصدق وصف لكلمة الأستاذ باكثير فهو أن يسميها نثرا مشعّرا، أو شعراً منثوراً، كما يقولون. أما إنها نظم فهذا خطأ.
وإذا أراد نموذجا من الشعر فإني أرجو من أستاذنا الزيات أن يتفضل بنشر هذا النموذج لي، عن الشاعر الأمريكي الفحل لونجفلو، وهي السطور الأولى من ملحمته المسماة (أغنية هياواثا)، وقد نظمها صاحبها شعراً حراً، ولكني ترجمتها شعراً مرسلا منذ بضع سنوات.
وإنك لواجد في هذا النظم موسيقية، لأنها من أول الشروط فيه. وقد أخطأ الشعراء في عدم فهم هذا الضرب، فكان ما ينظمون منه - حتى مع التزامهم الموسيقا - متنافراً في البحور غير منسجمة مع بعضها. ومن أولى خصائص هذا الضرب موسيقيته أولا، ثم ائتلاف هذه الموسيقى في بحور متقاربة ليجعل منها تجانساً وتناسقاً فنياً
وإليك الأبيات الأولى من ملحمة لونجفلو، كما ترجمتها شعراً مرسلا من أوزان متقاربة لا تحس فيها بتنافر أو اصطدام، وهذه أولى خصائص ذلك النظم:
(نواداها) المغني العظيم
- 1 -
لعلك سائلي من أين هاتيك الأقاصيص؟
ومن أي المصادر جئت بالأخبار ترويها
وإن لها لرائحة من الغابات منبعثه
وإن بها ندى الأعشاب في الموجات منبثه
ندى رطب إن التمعا
بضوء الشمس أو سطعا
وإن لها دخاناً جاءم الأكواخ مرتفعا
وإن لها خرير الماء في الأنهار مندفعا
- 2 -
فإما قلت لي من أين هاتيك الأقاصيص؟
فهناك جواب أنبائي من الملموس أحكيها:
من الغابات والروضات جئت بكل أخباري
وليس السامع المروي مثل الناظر الساري
فمن غاب ومن سهل
ومن نهر ومن تلٍ
ومن أرض يعيش بها قبائل أهل (أوجيبِ)
و (داكوتاة) في أرض حلت للشاة والذيب
ومن جبل ومستنقع
وأرض ثم لم تزرع
ومنبسط من الأرض
هنالك كل ما فيه - على بداوته - يُرضي
هنالك (مالك المحزون) يحيا عيشة الزها
(شَشَهْتَجاهُ) كما يدعوه بعض قبائل الهند
يعيش هناك يقتات السَّمار الفجَّ والقصبا
فلا عنباً وفاكهة ولا نبتاً ولا حبا
ومن شفَتَيْ (نواداها)
أغان. . . كان غناها
وأعظم بالذي غنى
مغنيهم إذا افتنا
سأرويها كما غنى
فما زال الصدى المسحور حسناً يطَّبي سمعي
ويعذُب وقعُه فيه - وما أحلاه من وقع!
- 3 -
وإما عدتَ تسألني سؤالا عن (نواداها)
ومن أي الموارد جاء بالألحان فتانه
فألقاها وغناها
فرد الطير ولهانه
أغان من بداوات ولكن لحنها يصبي
فمن أطيار غابات تلوذ بصوتها العذب
على أعشاشها العلياء في أطراف أشجار
وحسبك لحن أطيار
ومن أكواخ (كلب الماء) تحت الماء مختفياً
ومن آثار ثيران أوابد - كان مقتفياً
وعش النسر فوق شواهق الجلمود ممتنعاً
وغير النسر لم يمسسه مهما طال وارتفعا
- 4 -
وفي واد جميل ساكن رقت حواشيه
وفوق الجدول الساجي أقام على حوافيه
(نواداها) بقرب القرية الهندية الصغرى
(نواداها) الذي غنى
وعنها لقن الفنا
وفوق المرج مخضرَّا
وبين مزارع الحنطه
فتحسب ذلك البُرَّا
تلألأ - عسجداً حرَّا
وفوق الأرض منبسطه
وعن قرب من الغيطان قامت غابة كبرى
وأحراج الصنوبر وهي كالأطيار غريده
تراها ثَم ممدوده
وعند الصيف تبصرها إذا ما رُدت خضراء
وفي وقت الشتاء تحول من خضراء - بيضاء
وفي الحالين تبصرها
إذا ما رحت تخبرها
تنهد قلبها آناً وآناً بالهوى غنى
وما أحلاه إن غنى، وأوجعه إذا أنَّا
وهذا الجدول الرقراق في الوادي قد انسابا
وفي جنباته سالا
وراح يتيه سلسالا
وعاد جداولا كُثرا
تشق السهل والأعشاب والأحراج والغابا
تراها في الربيع تخر بالأمواج صفَّاقه
وتبصرها إذا ما كنت يوماً تقتفي الأثرا
فتلفيها أوان الصيف إذ تنساب رقراقه
بأشجار من الحور الجميل مهفهفاً قاما
وإبان الخريف ترى الضباب هناك قد غاما
وإبان الشتاء يند خيط أسود داكن
يفرع منه - قاتمةً - خيوطاً غُبّراً دكنا
بجانب كل ذلك عاش (نواداها) - من غنى
بوادٍ أخضر ساكن
وغنى عن (هياواثا)
وغنى من (هياواثا)
أغاني عن ولادته العجيبة ثم تكوينه
وكيف صلاته قامت
…
وكيف صيامه كانا؟
وكيف حياته كانت
…
من الآلام ألوانا
وكم كدح الشقي لكي يكون لأهله قدوه
ورائدهم إلى النجح
فإن النجح في الكدح
- 6 -
ألا يا من تحبون الطبيعة وهي مزدانه
وشمس المرج ساطعة وظل الغاب ممدودا
وصوت الريح في الأغصان تخطر وهي نشوانه
وهمس الريح مردودا
إذا حفت على الشجر
ألا يا من تهيمون بشؤبوب من المطر
يسُحُّ كدافق النهر
وعاصفة من الثلج
على الآكام والمرج
ودفع الماء في الأنهار ينفذ من حواجزها
وصوت الرعد في قنن الجبال وفي مفاوزها
إذا أصداؤهن عوت
تخال نسورها دوَّت
ألوفاً يا لها عدّ
وحسبك أنه رعد
تعالوا واسمعوا مني أحدثكم أحاديثا
وأغنية أغنيها كما غنى (هياويثا!)
حسين الغنام
سيباي الكافلي
آخر نائب للمملكة المصرية بالشام
للأستاذ أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسورية ولبنان
كان ذلك في جولة من تلك الجولات في دمشق حين كان يحلو لي السير لمسافات بعيدة للتعرف على أحياء المدينة التي قلت عنها إنها (عاصمة وثغر ورباط). وذلك لما نقل عن أبي الدرداء من قوله: (إن أهل الشام مرابطون وأنهم جند الله)
وكان ذلك في ربيع سنة 1943 ويد الله تحرك العالم وشعوبه وسط حرب عالمية شعواء، والشرق العربي يتأرجح بين الصليب المعكوف ورمز النصر الديمقراطي، وكان معي صاحبي وقد انتهى بنا المطاف إلى بناء عليه مسحة القرون المصرية التي نعرفها قلت:(هذا البناء لنا) وصاحبي يعرف مقدار شغلي بكل ما يذكر بمصر العربية الخالدة من عهد الأبوية والبحرية والبرجية، ففتح فاه وقال:(نعم! ألا تدري أنك أمام جامع سيباي) قلت: (ومن هو سيباي هذا؟) قال: (هو نائب الشام تولى إمرة السلاح بمصر) ثم عين نائباً للسلطنة المصرية بدمشق في عهد سلطاننا الغوري طيب الله ثراه - قلت: (إذن هو آخر من حكم هذا البلد الأمين من أمراء مصر؟) قال: (نعم) سألته: (كم يفصلنا عنه من القرون؟) قال: (أربعمائة وأربعون عاماً) قلت: (لقد انتهت الفترة إذن وستبعث مصر بعثاً جديداً وستعود أيامها الخوالي وستلعب دورها التاريخي مرة أخرى) - ونظرت إليه محدقاً وقلت: (أو لم تؤمن بما أقول؟). فابتسم صاحبي ابتسامة عريضة لها معناها. وتوجه إلى المسجد وقال لي: (أتدري ماذا يقولون عن جامع سيباي؟ يطلقون عليه اسم جمع الجوامع) قلت: (أي نعم أذكر جيداً جمع الجوامع في أصول الفقه للسبكي المتوفي سنة 771هـ وأذكر الرواق العباسي بالأزهر وما ألقاه علينا أستاذنا الأكبر الشيخ الدجوي يوماً ما) قال: (لا؟ وإنما أردت أن أقول إن بعض الظرفاء وإن كان الكرد علي في الجزء السادس من خطط الشام صفحة 93 يسميهم العلماء يقولون إن صاحب هذا الجامع لم يدع بدمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً إلا أخذ منه من الأحجار والرخام والأعمدة ما أحبه؛
ولذلك سمى مسجده جمع الجوامع) واستمر صاحبي في بحثه وشرحه ويقول: (استغفر الله! ناقل الكفر ليس بكافر. كانت هناك مدرسة اسمها الخاتونية بالصالحية درست، وأول من استفاد من أنقاضها سيباي هذا، وكانت هناك تربة باسم الأمير بلبان المحمودي أتابك العساكر المصرية بالديار الشامية أخذ سيباي حجارة واجهتها لبناء جامعه هذا ولم يترك لصاحبها غير الضريح) واستمر يشرح لي هذه النقطة الغامضة بإسهاب جعلني ألتفت إليه: (والله لو استعمل سيباي حجارة شارع جمال باشا بأكمله وأخذ رخام قلاع الكرك وحصن الأكراد ومصياف لما حال ذلك دون زيارتي لهذا الأثر المصري، فوفر عليك ما تقول وسر بنا نطوف به). ودخلنا المسجد وأنا أطيل النظر في الزخارف ومقرنصات الباب العليا وأترفق في لمس الجدران والحجارة وأتأملها بين أبيض وأسود وكأنها تحدثني وتحن إلي، وكنت قد صعدت الدرجات واتجهت إلى الصحن فوجدت على يميني جناحاً اتخذته جمعية الشبان المسلمين بالشام مقراً لها، فحف أعضاؤها لاستقبالنا والترحاب بنا، وكنت مبلبل الفكر سارحاً، فأخذت بذراع صاحبي على جنب وهمست في أذنه:(أبلغت القحة أن تطأ الأقدام ضريح أمير من أمراء مصر ويتخذ مدفنه مكتباً فلا ترعى لجسده أية حرمة!) فضحك صاحبي وقال: (لا بأس!) قلت: (وما معنى هذا؟) قال: (خفف عليك! إن سيباي قتل في معركة مرج دابق مع الغوري ولم يضم عظامه لحد ولا ضريح؛ والذي تراه أمامك ما هو إلا تربة فارغة).
انتصر صاحبي وعرف كيف يسكتني وكيف يقود الزيارة للصحن الداخلي ويلفت نظري إلى مزولة من رخام كتب عليها أنها من عمل الفقير محمد زريق الموقت سنة 662، ثم أخذني إلى المصلى واستمر يحدثني عما يعرفه عن المحراب والمنبر الجميل وما فيه من الزخارف والنقوش الهندسية.
كنت أسمع إليه وأنا في عالم آخر. ولما وجدتني مشتت الفكر سار بي إلى إحدى الغرف المخصصة لتلقين صبية الحي بعض آيات القرآن الكريم. ورحب بنا الشيخ وأخذ يدعو أولاده لتلاوة ما حفظه كل منهم من جزء عم فسرّى ذلك قليلاً عني.
أما نفسي فكانت حزينة لا تفكر في شيء غير يوم مرج دابق والسلطان الغوري وسيباي وغيره من أمراء مصر الذين قتلوا وكتبت لهم الشهادة في ذلك اليوم العصيب. ونزلت
درجات السلم وأنا أتمتم بنشيد من شعر نيتشه لا أذكر منه سوى بعض المقاطع. وهو:
(إنني أحبكم من عميق القلب أيها الرفاق في المعارك فما أنا الآن إلا مقاتل مثلكم كما كنت بالأمس).
(للكلام بقية)
أحمد رمزي
مشروع السنوات الخمس
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية
تراعي الحكومات الديمقراطية في وضع مشروع السنوات الخمس أن تكون أغراضه محددة لسياسة التعمير وموجهة لزيادة الثروة الأهلية ورفع مستوى الشعب عامة من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا أن تكون نتيجته استفادة فئة قليلة على حساب أغلبية الشعب؛ لذلك توضع برامجه على ما لدى الدولة من الموارد الطبيعية والأيدي العاملة وعلى احتياجات الشعب ليعم منفعه كافة أفراده من غير تمييز.
فيجب أن يتمشى المشروع مع ازدياد عدد السكان والتقدم في الآلات الحديثة ووسائل الإنتاج، وأن يستعان في وضع برامجه بما ينبغي أن يكون لدى الدولة من أرقام إحصائية حقيقية دقيقة عن موارد ثرواتها على اختلاف أشكالها وعن تعداد سكانها ومبلغ زيادتهم السنوية وعن حالتهم واحتياجاتهم أي معاملاتهم الداخلية والخارجية وعن الإنتاج المحلي ليعمل المشروع على زيادته لكفاية الشعب واستغنائه عن الاستيراد الخارجي واستقلال البلاد بنفسها لنفسها
والواجب أن تبنى أسس المشروع على تقدير مستوى المعيشة الواقعي لجمهور الشعب تقديراً صحيحاً لا اجتهاديا وعلى مدى ثقافة الشعب وحالته الصحية، وعلى كافة العيوب التي تؤثر في حياته كعيوب المدن والقرى والعرب والمساكن والطرق، وعيوب الإنتاج وبالاختصار على جميع أوجه النشاط الزراعي والصناعي والاجتماعي
فالواجب أن توضع برامج مشروع السنوات الخمس لمصر نتيجة لدراسات عميقة تشمل شتى نواحي الحياة فيها، وأن تتعاون في وضعه كافة الهيئات الحكومية والأهلية، وأن تنفذ برامجه طبقاً لدراسات صحيحة مبنية على أرقام حقيقية لكافة العيوب والأمراض التي لابد من استئصالها لتبني الأمة المصرية حياتها الجديدة على أساس موضوع لغرض قومي معين غير متأثر بأي مؤثر داخلي أو خارجي، فيجب أن تتمشى برامج الري والصرف مع إصلاح الأراضي وزراعة الوات وتوزيع الفائض من السكان فيها توزيعاً عادلا لاستعمارها. وينبغي أن يوضع برنامج الإصلاح الزراعي للبلاد على أساس تعديل الملكية
لينتفع الشعب بالأرض انتفاعاً شعبياً يؤدي إلى رفع مستوى الإنتاج بمساعدة الوسائل الحديثة الميكانيكية والكيميائية والبيولوجية فيوزع الإنتاج توزيعاً يتفق مع مجهود الأيدي التي أنتجته.
والواجب أن يضم المشروع برنامجاً خاصاً للبحوث الزراعية بحيث يكون موحداً بين الأقسام الفنية المختلفة لوزارة الزراعة والهيئات الزراعية الأخرى كالجمعية الزراعية والكليات الزراعية ومعاهدها على أن يكون الغرض الأسمى من هذه البحوث كفاية الشعب من الطعام الصحي الرخيص ومن المواد اللازمة لراحته في الملبس والمسكن وذلك بإنتاج الحاصلات الوفيرة الريع التي تقاوم الآفات والأمراض، وأن يعطى الشعب كفايته من الخضر والفواكه واللحوم والبيض والألبان ومشتقاتها بأثمان رخيصة تتمشى مع نفقات الإنتاج لا مع جشع المنتجين والوسطاء أي التجار. وأن يكون من أغراض المشروع تخزين المحصولات بالطرق الحديثة التجمعية التي تضمن سرعة علاجها وسهولة توزيعها على مناطق الاستهلاك بأقل النفقات. وأن تنشأ مصانع للآلات الزراعية التي تحتاجها البلاد في تطورها الزراعي المرتقب. وأن ينتفع بجميع موارد الطاقة الموجودة عاطلة في البلاد لمصلحة الأمة عامة وذلك بتوليدها من مجاري المياه ومن الرياح وأشعة الشمس ومن آبار البترول وأن تستخدم في الزراعة وفي تنفيذ المشروع الصناعي بصفة شعبية وأن ينتفع بفوائض الحاصلات في التغذية وفي الصناعات كصناعة الورق والخشب الصناعي واستخراج الكحول والنشا وغاز الوقود والإضاءة فيمكن مثلا أن ينتفع ببقايا الذرة في مناطق زراعتها في توليد غاز الاستصباح والوقود واستخدامه في المدن والقرى والعزب.
والواجب أن يوضع برنامج الصناعات لأغراض وطنية ولمنفعة الشعب عامة على أساس مدروس فترفع مستوى معيشته وتغنيه عن المصنوعات الأجنبية فتؤسس الصناعات التي تتوفر خاماتها في البلاد كصناعات الزجاج والنسيج والورق وبعض الصناعات الكيميائية والطبية والصناعات المعدنية لوفرة خامات المعادن في صحارينا وصناعة الآلات الزراعية والأسمدة الصناعية والصناعات الزراعية المختلفة وغيرها.
ويجب أن يشمل مشروع الإصلاح الاجتماعي وقاية البلاد من شرور المدنية الغربية التي أخذت كيان الأسرة المصرية بشكل واضح فيوجه الشعب ذكوراً وإناثاً التوجيه السليم
الصحيح الذي يتفق مع آدابه الموروثة التي حددتها له عاداته وعقائده. وأن يوجد الزي لما له من التأثير السيكولوجي في داخل البلاد وخارجها. وينبغي أن تؤمن الأيدي العاملة على حياتها في الصحة والمرض، وعلى مستقبلها ومستقبل أولادها، وأن يوضع البناء الاقتصادي للبلاد على قواعد تمنع البطالة وتضمن تشغيل كل يد عاملة فيما تجيده من العمل المنتج. وأن يجعل مساعدة المحتاجين على أساس ما لهم عند الدولة من حقوق لا على قاعدة الإحسان. فالواجب أن تلغى الأوقاف بحيث لا يكون لها أي أثر في البلاد وتنظم المساعدات على الأسس الشعبية الحديثة.
والواجب أن ينظم التعليم على أساس مطالب العمل والاستعداد الفطري للأفراد فيوجه الطلبة للمهن المختلفة بحسب ميلهم الغريزي وأن تعطى كل مهنة وحرفة كفايتها من المتخرجين بحسب احتياجاتها وبذلك تعطى البلاد كفايتها من الأطباء والمهندسين والميكانيكيين والكهربائيين والمعماريين والمتخصصين في الصناعات المختلفة وفروع المهن الزراعية والصناعية فلا تشكو البلاد قلة المتخصصين في مهنة على حساب كثرتهم في مهنة أخرى لا أثر لها في التقدم الحقيقي للبلاد. والواجب أن تغير برامج التدريس تغييراً انقلابيا يتفق مع الاتجاهات الحديثة في توجيه أفراد الأمة للإنتاج المفيد.
والواجب أن يكون من أسس المشروع حل مشكلة الأجانب المتوطنين في مصر وهم الذين انقطعوا عن بلادهم وذلك بتمصيرهم وإدماجهم في الحياة المصرية والانتفاع بهم كمصريين في تنفيذ المشروع. كما يجب الاستعانة بالخبراء الأجانب من الخارج المشهود لهم بالكفاية والأمانة والاستقامة.
ويجب لتنفيذ المشروع أن يستعان بالقروض الوطنية وبالاقتصاد في مصروفات الدولة حكومة وشعباً وبتحريم استيراد الكماليات وتنظيم توزيع العمل؛ وأن يلجأ إذا اقتضى الأمر إلى التجنيد المدني لتنفيذ المشروع وأن يشجع الشعب على ذلك بالمسابقات المالية والمكافآت للمجتهدين والمبتدعين.
والواجب أن يكون لكل وزارة وهيئة ومنشأة بل ولكل مديرية ومدينة مشروعها الخاص ضمن المشروع العام للدولة وأن يخصص لكل منها لجنة دائمة لوضع برامجه ومراقبة تنفيذها وأن يشرف على هذه اللجان هيئة عليا (كوزارة للمشروعات). وأن تخضع ميزانية
الدولة وميزانيات الهيئات المختلفة لهذا المشروع باعتباره وسيلة لبلوغ البلاد أسمى أغراضها وهو رفاهية الشعب وسعادته وأمنه. (فوزارة المشروعات) تعتبر المسؤولة عن وضع مشروعات كافة الهيئات والمدن وغيرها وعن انسجام برامج هذه المشروعات وعن إدارة تنفيذها. وهي المسئولة عن موازنة كل ناحية من نواحي الإنتاج والتوزيع والتمويل موازنة تتفق مع برامج المشروعات، فلا تخطو أي خطوة كبيرة في مشروعات الزراعة أو الصناعة أو النقل أو التمويل أو تجديد بناء المدن والقرى والعزب أو غير ذلك إلا بعد موافقة اللجنة العليا للمشروعات التي يجب أن يعاونها مئات من المتخصصين في مختلف أبواب المشروع. ويجب أن يقسم مشروع السنوات الخمس إلى مشروعات سنوية ينجز كل منها في مدى سنة واحدة ليتم المشروع كله في المدة المقررة له.
وليعلم القائمون بالأمر بل وكل فرد من أفراد الأمة أن مشروع السنوات الخمس بالشكل الذي وصفته هو المحك الحقيقي لحيوية الأمة وهو الذي يظهر مدى استعداد أفرادها للأخذ بأسباب التقدم ومجاراة العصر.
الدكتور محمد مأمون عبد السلام
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ إبراهيم هاشم فلالي
من المؤلم ألا يجد القارئ الحجازي في صحيفة (الرسالة) الغراء شيئاً عن أدب بلاده، بينما هو يجد في هذه المجلة الكريمة آداب الأمم العربية ممثلة فيها
فهل هذا القصور ناشئ عن الرسالة؟ أو هو ناشئ عن الأدباء الحجازيين الذين لا يتقدمون بإنتاجهم الأدبي إليها؟ إنك تجد من الأدباء الحجازيين من يقول لك أن الرسالة ضنت بنشر ما قدمناه لها. وقد تقول الرسالة إنها لا تضن بنشر كل ما يصل إليها من أي قطر إذا رأته صالحاً للنشر. والذي أراه أن الرسالة أصبحت لها من المكانة في قلوب أبناء البلاد العربية ما تغبط عليه، لأنها ما زالت تخدم فكرة العروبة ولغة العروبة، حتى ظن أبناء العروبة في شتى بلادهم إنها رسالتهم، فهي قمينة بأن يكتب لها الكاتبون وهم قمينون بأن تنشر لهم كل ما يكتبون، فكثرت لديها المواد، حتى أصبحت صفحاتها لا تسع كل ما يطلب منها نشره، وعلى الأخص بعد أن استحكمت أزمة الورق وتضاءل حجمها حتى أصبحت في الحجم الذي هي فيه الآن، ولم يبق لرئيسها إلا أن يتخير من المواد المتجمعة لديه ما هو أخلق بالشر من غيره. وله الحق في أن يختار ما يشاء ويهمل ما يشاء، وقد تضطره ظروف العمل إلى ذلك، فيرى الذين لم يقدر لإنتاجهم النشر أن لا باعث لهم على الكتابة للرسالة ما دام نصيبهم الإهمال - كما يخيل إليهم - وغالبية الأدباء، لهم مزاج لا يقوى على الاحتمال، ويتأثرون لأوهى الأسباب.
في الحجاز حركة أدبية طيبة، وقد كانت هذه الحركة تتمثل في جريدتي أم القرى وصوت الحجاز بمكة المكرمة، وفي جريدة المدينة ومجلة المنهل في المدينة المنورة. وانتشر الروح الأدبي بين الناس، فبرز بيننا أدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، ووجدت هذه الحركة عطفاً وتشجيعاً من حكومتنا السنية، فحشدت كثيراً من الأدباء والشعراء في دواوينها. وكان لا يزال نائب جلالة الملك المعظم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل يرعى الأدباء ويعطف عليهم ويأخذ بايديهم، فانتعشت الحركة الأدبية، وافتتح لها سعادة الشيخ محمد سرور الصبان مدير المالية العام وكبير الأدباء قاعة في إدارة الإسعاف للمحاضرات الأدبية ليجد فيها كل أديب جواً صالحاً للإنتاج الأدبي القيم، ثم أسس شركة للطبع والنشر لتقوم بنشر
مؤلفات الأدباء على نفقتها، وزود مقر الشركة بمكتبة قيمة لتسهل على الأدباء والمؤلفين مراجعة ما هم في حاجة إلى مراجعته من الكتب وقتما يشاؤون
وحيال كل هذه المغريات نشطت عزائم الأدباء. فألقوا المحاضرات، وكتبوا المقالات، وألفوا الكتب، وشغف الناس بالقراءة، ولذاتهم البحوث الأدبية مما دعا إلى مضاعفة الإنتاج الأدبي وإتقانه. ومن ثم ألفت كتب جمة فاز بعضها بالنشر مثل كتاب (وحي الصحراء) لمؤلفيه الأستاذ المرحوم عبد المقصود والأستاذ عبد الله بلخير، وكتاب (محاضرات الإسعاف). وكتاب (المعرض) للأستاذ الكبير الشيخ محمد سرور الصبان، وكتاب (أدب الحجاز) له أيضاً، وكتاب (خواطر مصرحة) للأستاذ محمد حسن عواد، و (كتابي) للأستاذ أحمد عطار، وكتاب (محمد بن عبد الوهاب) للعطار أيضاً، وكتاب (الأدب الفني) للأستاذ حسن كتبي، وكتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري وهي: التوأمان، إصلاحات في اللغة، آثار المدينة المنورة؛ وكتب أخرى لم تحضرني أسماؤها الآن، كما طبع بجانب هذه الكتب الأدبية كتب أخرى مدرسية وأخذت حركة الإنتاج الأدبي تنمو وتزدهر. ونبغ لدينا كتاب وأدباء وشعراء سنأتي على نماذج من إنتاجهم ليتبين لقراء الرسالة الكرام إلى أي حد من النضج بلغ الشعر والنثر عندنا
أما المؤلفات الأخرى والتي تكاد تكون قيمتها الأدبية أكبر من قيمة المؤلفات التي طبعت، فإنها بقيت محفوظة في مكاتب مؤلفيها، لأن الحرب - خربها الله - قامت في هذه الأثناء وحلت ببلادنا أزمة الورق كما حلت في البلاد الأخرى، فتوقفت حيال ذلك الحركة الأدبية عن السير في طريق الذيوع والانتشار، ولكن الأدباء لم يقفوا عن الإنتاج، لأن الفورة الأدبية جياشة في صدورهم بقوة، فهم ما زالوا ينظمون وينثرون ويؤلفون، وهم محتفظون بذلك كله إلى أن يأتي يوم السلم المنظور وتنحل أزمة الورق، فإذا جاء ذلك اليوم وقد جاء، فسوف يرى الناس أدباً حجازياً له سمته وله خصائصه، وسيكون لبلادنا ذات التاريخ المجيد مشاركة أدبية فعالة في بناء صرح الحضارة الإنسانية، وستقوم بواجبها وتؤدي رسالتها بما يتناسب ومكانتها الدينية والأدبية في تاريخها الماضي المجيد
والآن، سأذكر النماذج الأدبية التي تكلمت عنها آنفاً، وسأبدأ بنماذج شعرية ليرى القارئ الكريم الشعر الحجازي في ثوبه الجديد، وللقارئ أن يحكم له أو عليه بما يستحقه، على ألا
يغرب عن باله لم أتخير في سرد هذه النماذج الشعرية أحسن ما قيل ولا أروع ما نظم، بل ذكرت ما شاع على الألسن دون أن أتكلف عناء البحث والاختيار
قلت في معرض كلامي إنه نبغ عندنا شعراء وأدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، وفي مقدمة هؤلاء كبير الأدباء وحامل لوائهم الأستاذ محمد سرور الصبان، فمن شعره قوله يناجي الليل:
يا ليل صمتك راحة
…
للموجعين أسى وكربا
خففت من آلامهم
…
ووسعتهم رفقاً وحبا
أو ما ترى حدث الزما
…
ن أمضهم عسفاً وغلبا؟
يا ليل إن بسم الخل
…
ى وسادر لهواً ولعبا
فبجنبه يبكي الشج
…
ى وربما لم يأت ذنبا
هذا ينعم باله
…
وأخوه يصلي النار غصبا
يا ليل فارق محدثاً
…
أخبارنا غبا فغبا
فلنا بذلك حاجة
…
إن تقضها فرجت كربا
وابدأ حديثك بالآلي
…
عانوا من الآلام وصبا
فعسى بهم تأسو وعلى
…
لنا بذلك منه طبا
يا ليل ما. للبدر يم
…
رح في السما شرقاً وغربا
يبدو فيضحك ساحراً
…
منا وطوراً قد تخبا. . .
يعلو على متن السحا
…
ب يسوقها سرباً فسربا
أتراه يعبث كالولي
…
د فليس يخشى بعد عتبا
يا ليل ما شأن الغرا
…
لة سيرها تيهاً وعجبا
سكرى ترنح عطفها
…
دلا فلا يستطيع خبا
تخذت لها مهد السما
…
ء كمرقص فتدب دبا
طردت إليك بناتها
…
فضممتهن إليك ربا
تلك النجوم المشرقا
…
ت وجوهها بشراً وحبا
وهكذا يمضي - حفظه الله - في القصيدة على هذا النمط المستعذب حتى يتمها.
ومن الشعراء الذين يفتخر بهم ذلك الشاعر المتصوف الأستاذ حسين سرحان ومن شعره قوله:
أتمت والإثم من طباعي
…
وأنت من طبعك الكرم
هبطت بي من ذرى ارتفاعي
…
يا موجد الروح من عدم
أوقفتني عند حد نفسي
…
وقد تجاوزت حدها. . .
والنفس مرهونة برمسي
…
إذا اقتفى الجزر مدها. . .
فكان ما شئت من صراع
…
وزاد ما ذقت من ألم. . .
ضحية أنت: لا تراعي
…
يا نفسي: فاستقري الندم
الطين ما زال يحتويني
…
يرد وثبي إلى الثرى
فشاهت الأرض من قرين
…
وساءت الأرض عنصرا
ردت سموي إلى أتضاع
…
وإن تعلقت بالقمم
ظلت على أمرها المطاع
…
وماتني الخصم والحكم
وشهوة سمها زعاف
…
تشب في الروح والبدن
مكشوفة ما لها غلاف
…
وإن يكن ما لها ثمن. . .
قد استجابت لكل داع
…
وأورث الجسم بالضرم
كأنها في القطيع راع
…
فإن أبى أمرها انحطم
في اللحم والعظم والحنايا
…
وفي عروق وفي عصب
تشف عن أخبث الدنايا
…
فإن تعجبت لا عجب
فإنها غاية المساعي
…
ومصدر الكون والأمم
لولاك يا رخوة القناع
…
ما جالت الروح في نسم
إذا تخيلتني عظيماً
…
أريتني أنني سقط
سبحان من ينضر الهشيما
…
ويخرج الحق من غلط
يا خالط الوحل بالشعاع
…
ونافث السم في الدسم
أقسمت في العالم المشاع
…
بين الورى أصدق القسم
بأننا سذج حيارى
…
وسعينا ذاهب هدر
نريد أن نكشف الستارا
…
كلا: فلن نبلغ الوطر
فإن تعاقب فباقتناع
…
وإن تجاوزت لا جرم
ما أجدر الكون بالضياع
…
لولا الذي يبعث الرمم
ومن شعرائنا المتفوقين الأستاذ الكبير محمد حسن عواد وإلى القارئ أقدم نموذجاً من شعره. قال من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ساحات القتال:
من بليغ ملهمه
…
عزمه المنطيق لافمه
كاسب الإعجاب مغتصبا
…
قلبه الماضي ومخذمه
بكتب التاريخ من دمه
…
أسطراً والمجد معجمه
يخدم الأوطان ينقذها
…
من أذاها وهي تخدمه
لكأن الدين دافعه
…
نحو قربان يقدمه
دعوة القرآن تحفزه
…
أو هدى الإنجيل يسلمه
فهو في اللقيا محمده
…
وهو عيساه ومريمه
أعجبني يا حرب من مرح
…
لاعب لولا تجهمه
ومنها:
يستشير المجد في عمل
…
هائل المغزى يعظمه
حيث موسيقى الخلود إذا
…
طوحت بالجبن تحطمه
والصدى كالصوت صاعقة
…
والصفوف السود ترحمه
يسأل الأقدار هل يده
…
تغسل العدوان أودمه
فإذا بالكون ليل أسى
…
تهاوى فيه أنجمه
وإذا الأصداء قائلة
…
قول صدق لا نجمجمه
أيها التاريخ ذا بطل
…
فعله للخلد مسلمه
هكذا فن الحياة على
…
مسرح الأيام تحكمه
عالم يبدو فيصرعه
…
عالم بانيه يهدمه
وهذا الشاعر المحلق الأستاذ حمزة شحاتة صنو العواد ومزاحمه على المورد الذي يستقي منه يقول من قصيدة غزلية:
بعد صفو الهوى وطيب الوفاق
…
عز حتى السلام عند التلاقي
يا معافىً من داء قلبي وحزني
…
وسليما من حرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأس في وجه
…
ي وهول الشقاء في إطراقي
أي سهم به اخترقت فؤادي
…
حين سددتها إلى أعماقي؟؟
إذ تهاديت مبدلا نظرة العط
…
ف بأخرى قليلة الإشراق
مسرعاً في المسير تنتهب الخط
…
وفهل كنت مشفقاً من لحاقي؟
وتهيأت للسلام ولم تفعل
…
فأغربت بي فضول الرفاق
هبك أهملت واجبي صلفا منـ
…
ك فما ذنب واجب الأخلاق؟
كنت بالأمس مسعدي فتغير
…
ت كثيراً فهل سئمت التلاقي
واعترى قلبك الملال فأعرضـ
…
ت فهلا انتظرت يوم الفراق
لا أداجيك للكرامة معنى
…
تتجلى في صحة الميثاق
سطوة الحسن حللت لك ما كان
…
ن حراماً فافتنّ في إرهاقي
أنت حر والحسن لا يعرف الـ
…
قيد فصادر حريتي وانطلاقي
لم يكن باليسير صبري على عسـ
…
فك لو أنني طليق الوثاق
ومن شعرائنا المجيدين الأستاذ أحمد عطار، فمن قوله هذه القصيدة:
يا شقوة ما تكاد تطلقني
…
من نيرها أو يخف محملها
ثقيلة ما أطيق وطأتها
…
مجنونة باليدين معولها
تعبث في مهجتي عواصفها
…
ترجعها رجة فتذهلها
وينتهي للجنون محتدها
…
وفي مراعي السطا تنقلها
وفي فؤادي تشب معركة
…
ما تنطفي والزمان يشعلها
الحس صال وفي النهى فكر
…
رعن يذيق المنون أسهلها
لا الليل ليل وأنت نائية
…
ولا الدراري يروق أجملها
ولا الأزاهير وهي باسمة
…
تسبي وعين الجبيب تغفلها
أين الليالي التي نعمت بها؟
…
وأنت عند الصباح بلبلها
أستلهم الوحي منك يا أملي
…
شعراً وآيات أرتلها
وكفك البضة التي ذخرت
…
بأنعم لا أني أقبلها
وألثم الخد منك مشرقة
…
أزهاره والفنون يشملها
أين سويعاتك التي غبرت؟
…
ففي فؤادي الرحيب معقلها
أين الورود التي عبثت بها؟
…
وكنت بعد القطاف أكفلها
وأين دار الهوى تظللنا؟
…
وأين أفراحها تجللها
أين الأماني؟ وأين بارقها؟
…
وأين أضواؤها؟ ومنهلها؟
ليت الذي قد يروح يرجعه
…
أمثل أيامنا ومقبلها
وليت تضنى وذكرها حرق
…
لعاً لهذي المنى تخيلها
أين وما أين لي بنافعة
…
إن ينأ عن مهجتي مؤملها
إبراهيم هاشم فلالي
رسالة الفن
10 -
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
الفصل السابع - عن الأمس وعن اليوم
منذ بضعة أيام صحبت أوجيست رودان إلى متحف اللوفر إذ كان ذاهبا لمعاينة تماثيل أودون النصفية مرة أخرى. ولم نلبث أن وقفنا أمام تمثال فولتير النصفي وعندئذ صاح رودان:
(يا له من أعجوبة! إنه الخبث والدهاء بعينه. انظر! إن نظراته الشزراء لتبدو كأنها ترقب خصماً. أما أنفه فأقنى مستدق كأنه أنف ثعلب ليخيل إليك إنه يتشمم المثالب والمعائب من كل ناحية. ولتستطيع أن تراه بدمع. . . والفم! يا له من فوز عظيم! لقد خد بخطين من القذع والهجاء، ويلوح كأنه يغمغم بالتهكم والسخرية. ولا يسعك وأنت تنظر إلى فولتير هذا الذي يفيض نشاطاً وحيوية، ويغص سقاماً، والذي يعوزه الكثير من سمات الرجال - لا يسعك إلا أن تقول عنه إنه محدث بارع عجوز). وبعد فترة من التأمل عاود حديثه قائلا:
والعينان! إني لأرجع دواماً لمشاهدتهما. إنهما شفافتان، مضيئتان.
(ولكنك تستطيع أن تقول مثل هذا عن كل تماثيل أودون لقد أدرك هذا المثال كيف يجعل حدق العيون أكثر شفافية من أي مصور. إنه يخرقها ويثقبها ويبرزها، ويجعل بها معالي ومواطي بحيث تحدث تأثيراً فذاً عندما يقع عليها الضوء أو ينحرف عنها، ويقلد تلك اللمعة الحية التي بإنسان العين. وما أعظم ما تختلف التعابير التي بعيون كل هذه الوجوه! إنها تدل على الخبث من فولتير، وعلى الصداقة الطيبة في فرانكلن، والرقة المبهجة في السيدة هودون، وعلى المكر في ابنته وفي طفلتي برونيار الجميلتين. ولقد تعدل اللمحة عند هذا المثال أكثر من نصف التعبير، فهو يقرأ الأرواح من الأعين التي لا تخفى عليه سراً. ولهذا فلا داعي للتساؤل عما إذا كانت تماثيله مشابهة لأصحابها مشتبهة تامة).
وهنا استوقفت رودان سائلاً:
(إذا أنت ترى أن المشابهة صفة هامة لازمة؟).
(لا ريب في ذلك فلا غنية عنها).
ومع ذلك يزعم كثير من الفنانين أن بعض التماثيل والصور يمكن أن تبلغ حداً كبيراً من الجمال من غير أن يتوفر فيها شبه قوي. وأذكر بهذه المناسبة حادثاً نسب إلى المصر إينر الذي شكت إليه سيدة من أن صورتها لم تأت شبهها. فأجابها بلهجته الإلزاسية:
(هيه يا سيدتي! بعد ما تموتين سوف يحسب ورثتك أنفسهم سعداء لأنهم يقتنون لوحة طيبة من ريشة إينر، ولكنهم سوف لا يجهدون أنفسهم البتة ليتحققوا مما إذا كانت تشبهك).
فقال رودان:
من المحتمل أن يكون المصور قال ذلك. وأغلب الظن أن هذا تسرع منه لا يمثل حقيقة أفكاره لأني لا أعتقد أن له مثل هذه الآراء الخاطئة في فن أبدى فيه براعة عظيمة وألمعية نادرة.
ولكن دعنا نتفهم أولاً مدى التشابه المطلوب توفره في تمثال أو صورة ما.
(إذا قصر الفنان نفسه على إظهار القسمات السطحية كما هو الحال في الفوتغرافية، أو إذا نسج معالم الوجه تماماً كما هي من غير ما رجوع إلى الخلق أو اعتباره فهو لا يستحق أي ثناء أو إعجاب. أما الشبه الذي يتحتم عليه إظهاره فهو شبه الروح. وهذا وحده بيت القصيد. وهو ما يجب على المثّال أو المصور أن يبحث عنه تحت ستار القسمات. وقصارى القول يجب أن تكون كل القسمات حافلة بالتعبير أو بمعنى آخر تكون ذات فائدة في الإفصاح عن شعور باطن).
(ولكن ألا يحدث في بعض الأحوال أن يكون الوجه مناقضاً للروح؟).
(وهل نسيت نصيحة لافونتين التي تقول: (لا تحكموا على الناس من ظواهرهم؟).
إن هذه النصيحة موجهة لأولئك الذين لا يتعمقون الأشياء، إذ كثيراً ما تخدع الظواهر نظراتهم العجلى. ويكتب لنا لافونتين أيضاً عن الفأر الصغير الذي حسب الهرة أعظم الحيوان حدباً وعطفاً. ولكنه يتكلم عن فأر صغير أي عقل غر ضعيف تعوزه القدرة على التمييز. ولا يسع من يدرس الهرة بإمعان إلا أن يجد في ظاهرها ما يحذره من القسوة التي تستتر وراء تناومها وتكمن في وداعتها.
وفي مقدور من يستطيع قراءة الوجه أن يميز بين من يصطنع الحنان وبين من طبع عليه، وانه لمن أخص واجبات الفنان أن يكشف عن الحقيقة ولو من المظاهر الخادعة.
ولتقرير الحقيقة أقول إنه لا يوجد عمل فني يحتاج إلى كثير من التعمق مثلما يحتاجه التمثال النصفي والصورة الإنسانية. وقد يقال أحياناً إن حرفة الفنان تتطلب مهارة يدوية أكثر مما تتطلب فطنة وذكاء. وما عليك إلا أن تدرس تمثالا نصفياً طيباً حتى تستطيع أن تدحض هذا القول وتصحح هذه الأغلوطة. إن عملا كهذا خليق بأن يترجم له. وأنت حين ترى تماثيل أودون مثلاً تخالك تقرأ فصولاً من مذكرات مدونة، فترى فيها العصر الذي عاشت فيه، والحرف التي احترفتها، والأجناس التي انتمت إليها وأخلاقها الشخصية، ترى كل ذلك فيها واضحاً جلياً.
وهاهو روسو قبالة فولتير. ترى في نظراته حذقاً وذكا وفطانة بالغة. وهذه ميزة عامة امتازت بها شخصيات القرن الثامن عشر. كانوا نقده. كانوا يناقشون ويجادلون في كل المبادئ والمعتقدات التي كان مسلماً بها من قبل من غير ما تحقيق وتمحيص. كانت لهم أعين فاحصة باحثة نفاذة.
أما عن نشأته من عامة السويسريين. كان سوقياً غير مثقف بقدر ما كان فولتير شريفاً نابهاً. وبينما ترى عظم وجنتيه البارز، وأنفه القصير، وذقنه المربعة تبين فيه ابن صانع الساعات والخادم الذي امتهن الخدمة من قبل.
وأما عن حرفته فهو الفيلسوف بجبهته المائلة المفكرة، ينتمي لطراز قديم يتجلى في العصابة التقليدية التي تدور حول رأسه. زري الهيئة بشكل ظاهر متعمد، أشعث أغبر مما يجعله قريب الشبه من ديوجنيس أو منيبس هو المبشر الذي يدعو للرجوع إلى الطبيعة وإلى الحياة البدائية الفطرية.
(وأما عن أخلاقه الشخصية فترى تجهما في وجهه ينم عن كراهية للنوع الإنساني، وحاجبيه المقطبين وجبهته المغضنة، ترى فيه الرجل الذي يشكو بحق ويتذمر من الظلم والاضطهاد).
(قل لي بربك. أليس هذا التعليق على الرجل بأحسن وأدق من اعترافاته؟
(ثم هاهو ميرايو إنه عصر بأكمله. يبدو بحالة تحد. شعره المستعار مشوش غير مصفف،
بزته غير حسنة، وهيئته زرية، وكأن ريحاً من عاصفة ثائرة تمر على هذا الوحش الكاسر الذي يهم بالزئير أو يرعد بجواب على سؤال يلقى إليه.
(ولنتقص نشأته الآن: نتوسم في طلعته المهيبة، وحاجبيه الدقيقين المقوسين، وجبهته المرتفعة المتعجرفة شريفا كان في زمرة الأشراف، ولكن ديمقراطية خديه الثقيلين المجدورين ورقبته الغائرة بين كتفيه جعلت الكونت دي ريكتي - ميرابو - يجوز على تيير ويفوز بعطفه ومراحمه ومن ثم أخذ يدافع عنه.
(ولننتقل إلى حرفته: إنه القاضي، يبرز فمه إلى الأمام كأنه بوق على وشك أن ينفجر منه الصوت مجلجلا. يرفع رأسه عالياً لأنه قصير كما هو شأن جمهرة الخطباء. ونرى في مثل هذا الطراز من الرجال أن الطبيعة تزيد في قوة الصدر والأضالع على حساب الطول. أما العينان فلا تثبتان على شيء معين وإنما تدوران على جم غفير. يا لها من نظرة عظيمة غامضة! ناشدتك الله خبرني أليس من أجل الأعمال وتمام الفوز أن يمثل في هذا الرأس وحده جمعاً حاشداً بل أمة بأسرها تصغي وتستمع؟
ولنبحث بعد ذلك عن أخلاقه: لاحظ الشفتين الحساستين، والذقن المزدوجة، والمنخر المرتعد فترى الآثام والانغماس في الشهوات وطلب الملذات مرتسمة عليها جميعاً. نعم تراها كلها هناك. وإني لمخبرك بذلك.
وإنه لمن السهل الهين أن نقرأ في كل تماثيل أودون مختلف الأخلاق على هذا النمط.
وهنا أيضا تمثال فرانكلن: ترى فيه هيئة عظيمة، وخدين ثقيلين متدليين فتقول هذا هو الصانع السابق، ثم الشعر الرجل الطويل الذي يشبه شعر الرسل، وحب الخير والمعروف مرتسما فتقول هذا هو، ريتشارد المهذب الطيب القلب.
ثم إن جبهته العالية المائلة إلى الأمام تتسم بالعدد وتنم عن الثبات والصبر الذي أظهره فرانكلن في تحصيل علومه، وفي السمو بنفسه حتى أصبح معلماً نابهاً يشار إليه بالبنان. وأخيراً إلى تحرير وطنه. ذكاء جم تفيض به العينان ويكمن في زوايا الفم. على أن أودون لم ينخدع بجسامته فابان فيه مادية الرجل المالي الذي جمع مالا فأخلده، ودهاء السياسي الذي استظهر بواطن السياسة الإنجليزية. فها هنا نرى أحد أسلاف أمريكا الحديثة على قيد الحياة
(عجباً! ألا ترى في تلك التماثيل البديعة أخباراً متقطعة عن نصف قرن؟ وأن أكثر ما يسر النفس من تلك المذكرات المتخذة من الصلصال والرخام والشبه كما هو الحال في أجمل القصص المكتوبة - هو جمال أسلوبها الناصع، ورشاقة اليد التي دونتها وفيض تلك الشخصية الساحرة - الفرنسية لحما ودما - التي خلقتها، إن أودون هو سنت سيمون لكن تنقصه نزعاته الأرستقراطية. هو في ذكاء سنت سيمون ولكنه أسمى منه عاطفة. آه يا له من فنان مقدس!).
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين
صدى الحوادث
مؤتمر سان فرانسيسكو
للأستاذ علي الجندي
تجمعتُم من كل جنس وأمة
…
ولون لنشر السلم، هل نشر السلم؟!
وهل رفع الحق الذليل جبينه
…
وهل نحن بتنا لا يروعنا الظلم؟!
وإلا فما بال (الشآم) دماؤه
…
تسيل، وأنتم عن مناحته صم!
ويطلب (ديجول) تراث (أُمية)
…
وليس له في الشام خال ولا عم!
سمعنا كلاماً لذّ في السمع وقعه
…
ورب لذيذ شاب لذته السم
أمانيّ كالأحلام زخرفها الكرى
…
وقلَّ - على الأيام - أن يصدق الحلم
وحبر على القرطاس ليس بعاصم
…
ضعيفاً، إذا همت به الغِير الدهم
أرى الدول الكبرى لها الغُنْم وحدها
…
وقد عادت الصغرى على رأسها الغُرم
يخيل لي أن (الوفود) تفرقت
…
ولم يندِملْ من طيِّب الكلِم الكلْم
إذا ساءت النيات كانت عهودكم
…
(قصاصات أوراق) وللغالب الحكم
مواثيق، معناها يكذب لفظها
…
فظاهرها برٌ، وباطنها إثم
وتأويلها عند القوى، فمن لنا
…
بأن نضمن الإنصاف، والحكم الخصم
ذا حل منها الأقوياء نفوسهم
…
تقيدنا الأخلاق، والشيم الشم
وفاء بدنيا - لا وفاء لأهلها -
…
به شقيت في (شرقها) العُرب والعجم
هي الحال ما زالت على ما عهدته
…
فويل لأقوام يغرهم الوهم
متى عفت الذؤبان عن لحم صيدها
…
وقد أمكنتها - من مقاتلها - البهم
ألا كل شعب ضائع حقه سدى
…
إذا لم يؤيد حقه (المدفع) الضخم
الحنين إلى الوطن
للأستاذ حسن أحمد باكثير
يا بلادي! يا بلادي! يا فراديس البحار!
أي ذكرى منك طافت بي وقد ولى نهاري؟
فاستثارت لوعة حرى بقلبي المستطار
وحنيناً في حنايا الصدر مشبوب الأوار
واشتياقاً جارفاً يصدع أركان اصطباري
واستطارت زفرات كاللظى جد حرار
من فؤاد يتلوى من جواه المستثار
واستدرت من جفوني أدمعاً جد غزار
يا بلادي! يا حنان الشرق! قد طال انتظاري
يا للأشواق للقياك! ويا نار أدكاري!
أي وجد يتلظى في فؤادي؟ أي نار؟
كلما زار خيال منك مُغرىً بازدياري
أو بدا لي في ثنايا الأفق طيف منك ساري
طيف أحباب وخلان وأهل وديار
ورباً تفتر عن أزهارها أبهى افترار
وجنان باسقات الدوح غضات الثمار
وحقول قد كساها النبت أفواف النضار
ورياض يتوشَّحْنَ بأضواء النهار
يا بلادي! يا جنان الشرق! قد طال انتظاري
يا لأشواقي للقياك! ويا نار ادكاري!
أين من عيني جنات وأنهار جواري
وجبال بين وديان سحيقات القرار
وعيون في أندفاق وزروع في اخضرار
وطيور في انطلاق وزهور في ازدهار
وعذارى السَّرو يرقصن خليعات العذار
ونخيل الجوز يحملن رواقيد العقار
والقمارى يساوقن أغاريد الهزاز
أين هن الآن مني؟ يا فراديس البحار!
يا بلادي! يا جنان الشرق! قد طال انتظاري
يا للأشواق للقياك! ويا نار ادكاري!
البريد الأدبي
معجم الأدباء وهل هو لياقوت
سماه ياقوت في مقدمته إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، ولكن أبن خلكان يسميه إرشاد الألباب إلى معرفة الأدباء، ويقول بأنه يقع في أربعة مجلدات كبار.
بقي من هذا الكتاب نسخة من جزئيه الأول والثاني رديئة الخط يرجع تاريخ نسخها إلى القرن السابع عشر حصل عليها من الهند الأرشيديكون بارنس، كبير الشمامسة في بومباي، وبعد موته اشتراها من ورثته المستر و. هـ. جي الوراق وهذا باعها إلى مكتبة بوريل في إكسفورد سنة 1882 فوضعها تحت رقم 723 وخطوطات بوريل.
قام بنشر هذين الجزأين المستشرق (دافيد صامويل مرجليوث) بمساعدة إبراهيم اليازجي وقسطاكي الحمصي وجرجي زيدان، فتم طبع الجزء الأول سنة 1907، والجزء الثاني سنة 1909 على نفقة تذكار جيب بمطبعة هندية بالقاهرة وهذان الجزءان يشتملان على تراجم مشاهير الأدباء من القرن الرابع بعد الهجرة إلى أيام المؤلف أثبت سيرهم على سياق حروف المعجم من حرف الألف إلى حرف الجيم.
هذا ما صح عندي من تأليف ياقوت؛ وأما باقي أجزاء الكتاب من الثالث حتى السابع التي نشرها مرجليوث فهي دخيلة على ياقوت لم يعمل فيها فكره وهذا ظاهر بين وأول حجة أستطيع أن أتمسك بها هي أن كتاب ياقوت أربعة مجلدات كما ذكر ابن خلكان في وفياته فإذا بطبعة مرجليوث تبلغ سبعة مجلدات، ولقد حرص من تمم الكتاب ونسبه إلى ياقوت أن ينقل من الكتب التي نقلت عن ياقوت ككتاب الوافي بالوفيات وفوات الوفيات وبغية الوعاة وغيرها.
ويسوءني بل ويسوء الأدب أن ينشر الكتاب وينسب إلى ياقوت ثم يعاد طبعه في القاهرة سنة 1938 في عشرين جزءاً دون أن يشار إلى أن معظم الكتاب دخيل على ياقوت.
ويجدر بي أن أشير هنا إلى أن ما وجد من كتاب ياقوت ينتهي في الصفحة 214 من الجزء السابع من طبعة سنة 1938 وهي آخر حرف الجيم.
ومن البديهي أن الواضع الذي يرغب في أن ينسب قصيدة إلى شاعر أو مقالة إلى كاتب يعمد إلى فهم روح ذاك الشاعر أو ذاك الكاتب باطلاعه على قصائده وكتاباته، فكيف بمن
أراد أن ينسب تأليفاً أو يدخل مصنفاً.
نظر صاحبنا نظرة مقلوبة، وهذه النظرة كانت جميلة عواقبها لتفضح أمره وترجع الحق إلى نصابه. عمد إلى كتب التراجم وشغله النسخ فأعماه عن فهم روح ياقوت أو تتبع أخباره، عمد إلى فوات الوفيات وبغية الوعاة واليتيمة ونسي كتابه معجم البلدان، أو قل أمله تصفح هذا الكتاب الضخم فرغب عنه لزهده فيه، فكان هذا الكتاب خير برهان أزاح الستار عن الخمسة أجزاء الدخيلة.
1 -
أما البراهين فكثيرة، ذكر ياقوت في معجم البلدان كثيراً من الكتاب والمؤلفين فقال بأنه ذكر تراجمهم في معجم الأدباء ومن جملتهم عين القضاة عبد الله بن محمد، وأبو بكر الأدفوي، وأسعد بن علي النحوي، وابنه محمد النساد، ولكنا إذا رجعنا إلى معجم الأدباء نراه خلواً من تراجم هؤلاء.
2 -
جاء في أول نسخة خطية قديمة لكتاب الألفاظ الكتابية ترجمة مختصرة لمؤلف الكتاب عبد الرحمن الهمذاني نقلاً عن معجم الأدباء ونرى أن لا أثر في معجم الأدباء لهذه الترجمة
3 -
وأبلغ برهان ساطع ومضحك في الوقت ذاته هو أن ياقوت ذكر في معجم البلدان ج4 ص 125 قصيدة لأبي العيناء في ديربا شهرا من رواية الشابشتي ولكنه أردفها بقوله: إن صح - أي شعر أبي العيناء - فهو عندي غريب لأن أبا العيناء قليل الشعر جداً لم يصح عندي له شيء من الشعر البتة، وفي معجم الأدباء نرى للأبي العيناء تسع قطع من الشعر، ولا يخفى أن ياقوتاً ألف محجم الأدباء قبل تأليفه معجم البلدان، وهذا تناقض لا يمكن أن يصدر عن مثل ياقوت.
4 -
قال ياقوت في مقدمة معجم الأدباء أنه جمع فيه من غلب عليه النثر والتأليف وأما من غلب عليه الشعر ولم يشتهر بكتابة الكتب وتأليفها فقد ذكره في معجم الشعراء، وإننا لنرى خمسة الأجزاء الأخيرة كثيراً من الشعراء والشاعرات الذين لم نعرف عنهم بضع قطع وليس لهم في عالم النثر والتأليف ذكر، وهذا تناقض في الكتاب نفسه.
والآن أستطيع أن أقول للكاتب السيد محمد فهمي عبد اللطيف الذي ركن إلى رأيه المؤرخ ياقوت في كيفية ضبط لفظ لقب (المبرد) في الصفحة 916 من السنة الخامسة من سني هذه المجلة، أستطيع أن أقول له الآن إنه أجهد نفسه في غير طائل لأن الضبط الذي وجده
في كتاب ياقوت لم يجر ياقوت فيه قلمه وإنما نقل إلى الكتاب حديثاً في جملة ما نقل إليه من كتاب بغية الوعاة للسيوطي.
(حلب)
آملة
جاء الإشكال من الإشكال
أشكل شطر ذاك البيت في (إرشاد الأريب) بهذه الصورة:
حالي بحمدِ اللهِ حالٌ جيِّدهْ
فجاء الإشكال من الشكل أو من الإشكال، وما كان لي أن يشكل علي. والحق مع الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد يوسف نجاتي في الذي قاله في الرسالة الغراء 626 في هذا الوقت
محمد أسعاف النشاشيبي
تحية إلى (الرسالة) وكتابها
أثلج منا القلوب، وأبهج النفوس، أن نرى (الرسالة) المجيدة في أعدادها الأخيرة تفسح صدرها كله لأبحاث قيمة تمت إلى مأساة سوريا الشقيقة، ومأساة لبنان من قبلها، حتى أن الرسالة كانت أوسع الصحف والمجلات المصرية طراً للدفاع عن حقوقها واستنكار اعتداءات فرنسا الشنيعة بين الآونة والأخرى على استقلالنا، على الرغم من أن هذه المجلة أدبية قبل كل شيء، ونحن لا ندخر وسعاً في الثناء على موقف الصحافة المصرية بالإجمال، اليومية منها والأسبوعية، لما تلقاه بلادنا من عطف وحب ودفاع عنها، فأحر بنا أن نخص (الرسالة الأدبية) بثنائنا وشكرنا وتحيتنا الخالصة أن تهتم لنا هذا الاهتمام البالغ، وتعنى بأنبائنا هذه العناية، فلقد كنا - والحق يقال - نتهافت على أعدادها الأخيرة لنرضي - قبل كل شيء - عاطفتنا الوطنية الثائرة؛ ولكن لم يكن ليغرب عن أذهاننا أن هذه المجلة العزيزة تمي إلى تحقيق هدف سام يخيل إلينا أن الأدب العربي قصر حتى الآن في السير إليه وأقصد به (الأدب القومي العربي). فالرسالة تشعرنا اليوم أنها تقصد إلى إيقاظ هذه النزعة القومية العليا في الأدب العربي، فتزيد إلى صفاته لوناً جديداً يميزه كل الميزة
ويبرز خصائصه إلى حد بعيد، وبذلك تحقق هدفين في آن واحد: تشاركنا عواطفنا ووطنيتنا، وتساعد على خلق الروح القومية في الأدب العربي الحديث الذي يفتقر - ولا شك - لمثل هذه الروح. فشكراً لك أيتها (الرسالة)، وتحيتنا لكتابك الأفاضل
(بيروت)
سهيل إدريس
[القصص
من أروع القصص الإنكليزي
مغامرات ممثل جوال
للكاتب الشاعر الإنكليزي كوند سمث
بقلم الأستاذ يوسف روشا
ولد أوليفر جولد سمث في 1728 وتوفى في 1774 وكان أحد
أعضاء (النادي الأدبي) الذي كان يرأسه الأديب الإنكليزي
الكبير الدكتور جونسون.
ولأوليفر جولد سمث أسلوب في الملكية يسيل رقة وعذوبة، وأن مؤلفاته على قلتها من أروع الأدب الإنجليزي
أنا شديد الكلف باللهو أني وجدته، وإن النكتة البارعة وإن ألقيت في ثوب خلق، فهي أبداً حبيبة إلى نفسي. ذهبت منذ بضعة أيام إلى متنزه (سانت جيمس) في الوقت الذي يتركه زائروه لتناول العشاء. ولم يكن هناك سوى أناس قلائل ممن كانت تبدو على ملامحهم آثار الفقر والمسغبة، فخططت نفسي على أحد المقاعد، بينما جلس على الطرف الآخر من المعقد رجل في ثياب رثة جداً
ظللنا نهمهم ونغمغم ونسعل كما هي العادة في مثل هذه الحالة، وأخيراً اجترأت على الكلام مخاطباً إياه:(معذرة يا صاحبي، ولكن يخيل لي أن رأيتك من قبل. إن ملامح وجهك ليست غريبة عني). فأجابني قائلا: (أصبت يا أخي كبد الحقيقة. إن وجهي لا يكاد يجهله أحد، كما يزعم أصدقائي، وإن شهرتي في جميع أنحاء إنكلترا لا تقل عن شهرة الجمال والتماسيح. ولا يخفى عليك يا سيدي بأني كنت طيلة الست عشرة سنة الأخيرة، أقوم بدور البهلول في فرقة تمثيلية، ولقد نشب بيني وبين أستاذي خلاف افترقنا على أثره فراح هو ليبيع أشياءه في شارع (روزماري) وأنا جئت لأموت جوعاً في متنزه (سانت جيمس)
(يؤسفني جداً يا سيدي أنك تعاني كل هذا الضيق، وأنت على ما أنت عليه من نباهة الذكر
وذيوع الصيت). فرد علي مواصلا الحديث: (نباهتي في خدمتك يا مولاي، ولكن على الرغم مما أنا عليه من إملاق، فإن ثمة قليلا من الناس هم أمرح مني نفساً، فلو قدر أن يكون لي عشرون ألفاً من الدنانير لكنت من أسعد الناس. وأنا الآن، والحمد للمقادير، لا أملك فلساً واحداً، ومع هذا، فإني لا أزال سعيداً، ذلك لأني لا أقيم وزناً للمال، فهو عندي وسيلة لا غاية، فإذا ما حرمته لا أجد غضاضة من قبول دعوة الكرماء إياي للطعام. والآن ما رأيك يا سيدي في لحم حنيذ مع قدح من الشراب؟ فإن أنت أطعمتني اليوم، فلسوف أطعمك يوماً من الأيام عندما أجدك في المتنزه وأنت أشد ما تكون رغبة في الطعام، وليس لديك من المال ما تدفع به ثمن العشاء)
ولما كنت لا أبخل أبداً بدريهمات أنفقها في سبيل رفيق طروب قصدنا تواً حانة مجاورة، ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى كان الطعام والشراب مصفوفين على المائدة أمامنا. وإنه لمن العسير جداً أن أصف مبلغ طربه وانشراحه لرؤية الطعام والشراب فقال:(أنا استمرئ يا سيدي هذا العشاء لأسباب ثلاثة: أولا: لأني أحب لحم البقر؛ وثانياً: لأني جوعان؛ وثالثاً: لأني أحصل عليه بلا ثمن؛ إذ ليس هناك أشهى من اللحم الذي لا ندفع ثمنه)
لم ينته من كلامه هذا حتى أقبل على الطعام والشراب بنهم فائق، فلما انتهى العشاء أشار إلى أن اللحم كان نيئاً، ثم استطرد وقال:(ومع هذا فقد وجدته لذيذاً سائغاً، ما أفسح حياة الفقير وما أعظم شهيته! نحن معشر الشحاذين لقطاء الطبيعة نهيم في كل سرح، ونأخذ الحياة على علاتها، فإن هي أقبلت علينا فرحنا بها واغتبطنا، وإن هي أدبرت عنا لم نشتك ولم نتذمر. أما الأغنياء، فالطبيعة تعاملهم كما تعامل الربة أولاد زوجها، فهم أبداً يرمون بها ساخطون عليها، أعطهم قطعة من غريض اللحم، فإذا هي عندهم صلبة عسيرة الهضم، أمزجها بالتوابل، حتى التوابل لا تستطيع أن تشحذ شهيتهم، على حين أن الطبيعة شديدة الحدب على الشحاذين ترعاهم بعنايتها وتكلؤهم برحمتها. إن الخمر المعتقة لأحلى مذاقاً من الشمبانيا. . . السرور. . . السرور. . . تلك هي فلسفتي في الحياة، وهي قطعة من لحمي ودمي، فإن فاض النهر وغرقت نصف أراضي (كورنول) ألفيتني مطمئن النفس مرتاح البال، إذ ليس لي أملاك هناك، وإن ساءت أحوال السوق وتدهورت الأسعار. . . نمت
ملء جفوني، فما أنا ممن تهمهم هذه الأمور، إذ لست يهودياً). ولقد أغراني مرحه وخفة روحه، على الرغم من فقره المدقع، أن أعرف شيئاً من حياته؛ فقلت ملتمساً منه تلبية طلبي فأجاب: (بكل سرور يا مولاي، ولكن على شريطة أن نشرب قليلا لندفع عن أعيننا النعاس. لنشرب قدحا آخر قبل أن يهجم الكرى على أجفاننا. . . آه. . ما أجمل منظر القدح وهو ملآن!
(يجب أن تعلم إذن أني أنحدر من أرومة طيبة وأن أسلافي قد أحدثوا بعض الضجة في العالم، ذلك لأن أمي كانت تبيع (المحار) وأن أبي كان طبالاً. ولقد قيل لي إنه قد كان في عائلتي أيضاً بعض البواقين. فهل تراني بعد هذا مبالغاً إذا قلت إن قليلا من الأشراف يضاهونني في الحسب والنسب؟ ولما كنت الابن الوحيد لوالدي فقد أرادني، على أن أكون طبالاً مثله، وعلى الرغم مما كان يبذله معي الوقت والأناة، لتعليمي الأناشيد العسكرية، لم أتقدم خطوة واحدة، ذلك لأني لم أكن ميالا إلى الموسيقى، فانخرطت في الجيش وأنا في الخامسة عشرة من عمري. ولم ينقض يوم واحد حتى تبين لي أن كراهيتي لحمل البندقية لم تكن لتقل عن كراهيتي لدق الطبل، ذلك لأن الطبيعة قد أعدتني لأكون سيدا لا مسود. إن وجودي في الجيش يحتم علي إطاعة أوامر رئيسي التي يفرضها علي، وليست أوامره إلا ظلا لأهوائه ورغباته، وإنه لمن الأجدى على الشخص أن يطيع رغباته لا رغبات سواه.
(لذلك لم يمض وقت طويل حتى أصبحت ضيقاً بحياة الجندية شديد المقت لها فعولت على الاستقالة، ولكن الرئيس رفض استقالتي، لأني كنت طويل القامة مفتول العضل، فاسودت الدنيا في عيني ولم يبق أمامي إلا الاستنجاد بوالدي فبعثت إليه برسالة، كلها شكوى واستعطاف، طلبت فيها منه أن يجمع المبلغ الكافي لإخراجي من الجندية ولكن الرجل الطيب القلب كان شديد الولع بالخمر، كما كنت أنا حينئذ، (في خدمتك يا مولاي) وأن الذين شأنهم لا ينتظر منهم أن يدفعوا رسم التسريح من الجندية - وقصارى الحديث، لم يرد والدي على رسالتي البتة، ما العمل إذاً؟ قلت لنفسي: لما كنت لا أملك المال الكافي لشراء حريتي فما علي إلا أن ألتمس وسيلة أخرى وهي الهرب، وفعلا هربت.
وهكذا تخلصت من الجندية وبلائها فبعت ثيابي العسكرية واشتريت أسوأ منها وسلكت ما أمكن سبلا غير مطروقة. ففي أمسية يوم من الأيام، بينما كنت أدخل إحدى القرى، إذ
أبصرت رجلا - علمت فيما بعد إنه قسيس القرية - قد وقع عن فرسه وغاص في الوحل. فتقدمت لمساعدته وانتشلته بمشقة فشكرني على صنيعي، إلا أني لحقته إلى داره إذ كنت أحب دائماً أن يشكرني الناس عند أبواب دورهم، فألقى على القسيس مائة سؤال وسؤال: أبن من أكون؟ ومن أين جئت؟ وهل أكون أميناً؟ فأجبته كما يحب مؤكداً له بأني لم أذق الخمر في حياتي قط (لي الشرف يا مولاي أن أشرب نخب صحتك)، وبأني من أتقى خلق الله نفساً وأرجحهم عقلا. وقصارى الكلام، لقد كان بحاجة إلى خادم فاستخدمني ولكني لم أعش معه إلا شهرين، ذلك لأنه لم يكن يحب أحدنا الآخر. فقد كنت أكولا وهو لم يكن يطعمني إلا ما يسد الرمق. وقد كنت مغرماً بالجواري الرعابيب على حين أن خادمته العجوز كانت شرسة الطباع قبيحة الصورة. ولقد تآمرا فيما بينهما على قتلي جوعا فعقدت العزم على أن أحول دون اقترافهما جريمة القتل. كنت أسرق البيض حال وضعه، وكنت أفرغ في جوفي ما يتبقى في قناني الشراب التي تقع في يدي، وكان كل ما أصادفه في طريقي من الأكل لابد أن يختفي في لمح البصر. وقصارى الحديث لقد رأيا أن لا فائدة من بقائي ففصلت صباح يوم من الخدمة ودفع لي ثلاثة شلنات وستة بنسات لقاء أجور شهرين كاملين.
(وبينما القس يعد الدراهم كنت أتهيأ للرحيل. كانت ثمة دجاجتان تبيضان فدخلت عليهما كالعادة وأخذت البيضتين. ولقد عز علي أن أفرق الأم وولدها فأخذت الدجاجتين أيضاً ووضعت الكل في حقيبتي وقفلت راجعاً لتسلم أجوري. فلما أزف الرحيل وقفت، والحقيبة على ظهري والعصا في يدي، أودع الشيخ والعبرات تنهمر من عيني. لم أبتعد عن الدار إلا خطوات حتى سمعت صوتاً من ورائي يصيح (اقبضوا على اللص) ولكن الصوت زاد في سرعتي فانطلقت كالسهم، وإن كنت أعلم علم اليقين أن الصوت لم يكن موجهاً ضدي. ولكن مهلا. . . يخيل لي أني قضيت ذينك الشهرين بلا شراب. هات يا صاح، فإن الأيام عصيبة وليكن هذا الذي أحتسيه سماً في جوفي إن أنا قضيت شهرين آخرين من حياتي في ورع مصطنع وزهد سخيف.
(لم أترك خدمة القس حتى أخذت في التطواف، وبعد أيام من تجوالي عثرت على جوقة من الممثلين المتجولين فما رأيتهم حتى هفا لهم قلبي، ذلك لأن حبي للتشرد والمتشردين
طبيعي لا تكلف فيه. كانوا منهمكين في ترتيب حقائبهم التي انقلبت في طريق ضيق فأخذوني خادماً لهم. كانت الحياة مع هؤلاء جنة حقا فهم لا ينفكون يغنون ويأكلون ويقصفون ويطوفون في آن واحد. وحياة الأنبياء ما كنت أحسبني أعيش قبل ذاك، فقد أصبحت من أمرح الناس طراً؛ وكنت دائم الضحك لسبب أو لغير سبب. ولقد أحبوني كما أحببتهم وكان لي، كما ترى، شأن كبير ولكني على فقري، لم أكن معتدلا في حياتي.
(إن حياة التشرد كما أسلفت أحب إلي من كل شيء في العالم. فاليوم حر وغدا قر، واليوم عسر وغدا يسر. آكل متى وسعني الحصول على الطعام؛ واشرب (القدح فارغ) متى وجدت الخمر إزائي. لقد وصلنا (تنتردن) ذلك المساء فاستأجرنا غرفة واسعة حيث عزمنا على إخراج رواية (روميو وجولييت) فقام بدور (روميو) أحد الممثلين من مرسح (دروري لين) وقامت بدور (جوليت) سيدة لم يسبق لها الظهور على المرسح، بينما أخذت أنا على عاتقي إطفاء الشموع. كان التمثيل بالنسبة لنا، رائعاً على الرغم مما كان ينقصنا من وسائل، فإن الثوب الذي كان يرتديه (روميو) كنا نقلبه على بطانته الزرقاء فيصلح لباساً لصديقه (مركوتيو) وأن قطعة من (الكرب) كبيرة كانت تكفي في آن واحد فستاناً (لجوليت) وغطاء للنعش. ولم يكن لدينا ناقوس فاستعضنا عنه بهاون استعرناه من صيدلية مجاورة ثم جمعنا عائلة صاحب الدار فدثرناهم بملاءة بيضاء لإكمال الموكب. وقصارى القول، لم يكن ثمة سوى ثلاثة ممثلين نستطيع أن نقول بأنهم كانوا يرتدون ألبسة لا غبار عليها وهم الممرضة والصيدلي الجوعان وأنا. كان التمثيل، كما قلت، رائعاً؛ ولقد هتف لنا الجمهور طويلا، ولا عجب، فإن لسكان (تنتردن) ذوقا.
فإذا أراد الممثل الجوال لنفسه النجاح فما عليه - على حد تعبيرنا - إلا أن يبالغ في محاكاة الشخصية التي يقوم بتمثيلها. ذلك لأن مراعاة الدقة في الكلام والحركة ومحاولة إبراز الشخصية على صورتها الطبيعية لا يسمى تمثيلا ولا هو مما يأتي الناس لمشاهدته. أن الحوار الطبيعي الذي لا تكلف فيه هو كالسلاف الحلو المذاق ينحدر إلى الحلق بسهولة دون أن يترك وراءه طعماً، على حين أن الإمعان في المغالاة والمبالغة كالخل يثير الإحساس ويشحذ الذوق ولا يشعر به إلا شاربه. وعليه فإن رمت إرضاء الناس وجب عليك أن تصرخ وتتلوى وتتنطع بكلامك وتضرب جيوبك وتظهر أمام النظارة كأنك تعاني
آلاماً مبرحة؛ فإن أنت عملت كل هذا فزت باستحسان الناس وأصبحت ممثلا يشار إليك بالبنان.
(ولما كان التوفيق حليفنا كان من الطبيعي أن أعزو قسما من النجاح لنفسي. لقد أطفأت الشموع؛ ودعني أقول لك إنه لولاي لفقدت القطعة نصف رونقها.
(ظللنا نمثل على هذه الصورة أسبوعين كاملين كانت الدار في أثنائها تكتظ بالنظارة. وقبل الرحيل بيوم واحد أعلنا على لملأ بأنا سنختم موسمنا بأعظم رواياتنا التي سنبذل في سبيل إخراجها كل ما لدينا من جهد ومال. ولقد كنا نعلق آمال جساماً فضاعفنا الأجرة. وبينا نحن في نشوة الأمل غارقون إذا بكبير ممثلينا يصاب بحمى صالب؛ فذعرنا وشق ذلك على جماعتنا الصغيرة فقررنا الذهاب إليه جميعنا لتوبيخه وزجره لمرضه في وقت غير مناسب كهذا، وخاصة لابتلائه بمرض قد يحتاج لمعالجته مالا وفراً. فانتهزت أنا هذه الفرصة وعرضت نفسي لأحل محله فقبلوني، فجلست تواً، والدور في يدي والكأس أمامي، (نخب صحتك مولاي) أدرس الشخصية التي سأؤدي الامتحان عنها غداً وأقوم بتمثيلها بعد ذلك بقليل.
(ولقد وجدت أن ذاكرتي تسعفني كثيراً وقت الشراب إذ تعلمت دوري بسرعة مدهشة فطلقت دور (إطفاء الشموع) منذ ذلك الحين لأن الطبيعة أعدتني لوظيفة أسمى من هذه وأشرف، ولقد قطعت على نفسي عهداً ألا أخيب ظنها بي.
(فلما كان الغد اجتمعنا لإجراء (البروفا) فأخبرت زملائي، وقد كانوا أساتذتي بالأمس، عن التغيير العجيب الذي طرأ علي وقلت: ليطمئن المريض في فراشه ولا يشقين نفسه في أمر الشفاء فإني سأقوم بدوره أحسن قيام، وسيدهش الناس من براعتي ونبوغي وليمت إن شاء فإني أعده بأنه سوف لن يفتقد.
(ابتدأنا بالبروفا، فرحت أتبختر أمامهم وألغط بكلام غير مفهوم فيعج المكان بالتصفيق والاستحسان وسمعت، أو يخيل لي أني سمعت صوتاً يقول: (ها قد بزغ نجم متألق في سماء التمثيل) فلم يعد الكون يسعني فقررت بيني وبين نفسي على أني لما كنت السبب في استدرار المال على الجمعية فيجب أن يكون لي في الربح نصيب، فأنشأت أخاطب الجماعة قائلا: (أيها السادة، إن الذي سأقوله لكم ليس أمرا أريد فرضه عليكم كلا. فلست
والحمد لله ناكر للجميل إلى هذا الحد. ولكن لما كنتم قد تفضلتم علي بنشر اسمي في الإعلانات، وتلك منه لن أنساها ما حييت، فلا يسعكم والحالة هذه الاستغناء عني، ولذلك فإني أرجو أن تدفعوا لي جعلا أسوة بكم، وإلا عدت إلى دوري القديم وهو (إطفاء الشموع). لقد كان هذا الاقتراح شديد الوطأة عليهم، ولكن لابد مما ليس منه بد، فأذعنوا وأنوفهم في الرغام. فلما حان الوقت ولجت المرسح في ثياب الملك (بجازات) وحاجباي المقطبان قد شد طرفاهما بجورب دس في عمامتي ويداي المغلولتان تلوحان بالسلاسل. لكأن الطبيعة قد اختارتني لهذا الدور فقد كنت مديد القامة جهوري الصوت، وإن مجرد دخولي المرسح أثار عاصفة من الهتاف والتصفيق، فدرت بنظري على الجمهور مبتسما وانحنيت أمامهم انحناءة كاد فيها رأسي يلمس الأرض، فتلك عادة شائعة بيننا. ولما كان الدور عاطفياً للغاية، فقد أنعشت نفسي بثلاثة كؤوس ملآى (الكأس موشكة على النفاد) من الكونياك. لله ما أروع الدور الذي قمت به! إن (تامرلين) يكاد يبدو ضئيلا بجانبي، وهو وإن كان صوته يرتفع أيضاً في بعض الأحيان، إلا أن صوتي كان يعلو عليه، كان لي ثمة مواقف كثيرة مجيدة، منها أني كنت أطوي يدي هكذا فوق سرتي، وهي عادة مستحبة في (دروري لين) وإذ أنا رحت في تعداد مزاياي لنفذت الكأس قبل أن أنتهي من سردها. وقصارى الكلام، إن تمثيلي كان أعجوبة الأعاجيب مما جعل أعيان البلد من الرجال والنساء يتهافتون على بعد انتهاء التمثيل لتهنئتي على نجاحي الباهر، فمنهم من مدح صوتي، ومنهم من أثنى على قامتي، ولقد سمعت امرأة العمدة تقول:(أقسم لكم بشرفي إنه سيصبح من أقدر الممثلين في أوربا، أقول ذلك عن علم ودراية، وإن لي في هذا الفن لذوقاً).
(إن المديح الذي يغمرنا به الناس في أول عهدنا بالتمثيل شيء طبيعي ومقبول ولا يقصد منه سوى التشجيع، ونحن نتقبله شاكرين، ونعده فضلا منهم علينا، أما إذا استمر المديح وكثر فنحن والحالة هذه نعتبره ديناً لنا عليهم نتقاضاه منهم بمقدرتنا ونبوغنا، وعليه عوضاً عن أن أشكرهم كنت في داخلي أثني على نفسي. ولقد طلب إلينا الجمهور إعادة القطعة للمرة الثانية فأجبناه إلى طلبه، وكان نصيبي من الثناء أكثر من ذي قبل
وأخيراً تركنا المدينة لنحضر سباقاً للخيل، وسوف لا أذكر (تنتردن) إلا انهمرت من مآقي
دموع الامتنان والاحترام، ذلك أن السيدات والسادة هناك كانوا على جانب عظيم من الدراية بالتمثيل والممثلين. هات لنشرب، نشدتك الله نخب صحتهم؛ قلت تركنا المدينة، ولقد كان ثمة فرق عظيم بين دخولي إليها وخروجي منها، دخلت المدينة ممثلا حقيرا وخرجت منها بطلا كبيرا، تلك هي الحياة، تقبل يوماً وتدبر يوماً، وإن شئت لتوسعت في الموضوع ولذكرت لك شيئاً كثيراً عن تصاريف الزمان وتقلبات الأيام، ولكن ما لنا ولهذا، فإن إثارته، إثارة لكامن شجونا.
(انتهى السباق قبل أن نصل المدينة الثانية التي خذلتنا جميعاً، ولكن ليس من السهل قهرنا، ذلك أننا عزمنا على أن نجرب حظنا عسى أن نظفر منها ببعض الذي ظفرنا به في المدينة الأولى. وقمت أنا بالأدوار الرئيسية وارتفعت فيها إلى الذروة كالعادة. وإني لا أزال أعتقد لو أن ملكاتي أعطيت ما تستحقه من العناية والرعاية لأصبحت اليوم من أبرز الممثلين في أوربا، إلا أن عاصفة هوجاء اقتلعتني من مهدي وردتني إلى مستوى الغوغاء، كنت أمثل دور السير (هاردي ولدير) فأدهشت السيدات ببراعتي وأطربتهن. فإن أنا أخرجت علبة النشق ضجت القاعة بالضحك، وإن أنا لوحت بهراوتي في السماء سرت في النظارة قشعريرة الخوف والفزع.
(وكان ثمة سيدة سبق لها أن تثقفت في لندن لمدة تسعة أشهر فأخذت تزعم لنفسها الإلمام بالمسائل الفنية مما جعلها قبلة الأنظار في أي محفل حلت. ولقد أخبروها عني وعن موهبتي ولكنها رفضت، أول الأمر، الذهاب لمشاهدة تمثيلي، زاعمة إنها لا تتوقع من ممثل جوال ضئيل الشأن مثلي أن يجيد التمثيل. ثم مالت بالحديث إلى الممثل الذائع الصيت (كاريك) فأطرته وعددت مزاياه وأدهشت السيدات بنبراتها العذبة وصوتها الرصين. ولقد أقنعوها آخر الأمر بمشاهدتي، وترامى إلي سراً أن جهبذة من أبرز جهابذة العصر في شئون المرسح ستحضر الحفلة المقبلة، ولكن ذلك لم يخفني فظهرت في ثياب السير (هاري) واضعاً يداً في جيب البنطلون والأخرى على صدري، كما هي العادة في (دروري لين). إلا أن النظارة، عوضاً عن أن ينظروا إلي، اتجهوا بأنظارهم إلى السيدة التي قضت تسعة أشهر في لندن، ليتلوا حكمها الذي إما سيرفعني إلى مصاف النابغين من الممثلين أو سيضعني إلى الحضيض. أخرجت علبتي، فأخذت منها نشقة، ولكن السيدة لم تحرك ساكناً
وكذلك النظارة. فأخذت عندئذ هراوتي وأهويت بها على ظهر العمدة المهرب حتى تكسرت، فما تململ أحد، كأنما الوجوم قد نشر أطنابه على الحاضرين فدمدمت السيدة وغمغمت وهزت كتفيها استخفافاً، فحاولت بضحكي أن أفوز منهم ولو بابتسامة ولكن وجوههم الباسرة ازدادت إغراقاً في العبوس، فدارت بي الدنيا وأصبحت حركاتي مصطنعة وضحكاتي (هستيرية). ومهما تكلفت إذ ذاك من المرح وخفة الروح، فإن عيني كانتا تفيضان بما كان يجثم على صدري من الهم والغم. وقصارى الكلام. لقد حضرت السيدة وفي عزمها إيذائي وقد فعلت، سامحها الله، وهكذا التفت شهرتي ونفذ شرابي بينما أنا لا أزال، كما ترى، حياً أرزق.
يوسف روشا