المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 629 - بتاريخ: 23 - 07 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٢٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 629

- بتاريخ: 23 - 07 - 1945

ص: -1

‌الصوت والشخصية

للأستاذ عباس محمود العقاد

بحث أصحاب الموسيقى في الصوت الإنساني من نواحيه الفنية فقالوا فيه كل ما يعينهم أن يقولوه، ولكني لا أظنهم وفوه بحثاً من ناحية فيه جديرة بالدراسة الطويلة، لأنها تقضي بنا إلى استطلاع أسرار النفس وتركيب الشخصية الإنسانية، ونعني بها ناحية العلاقة بين الأصوات والشخصيات

تلقى إنساناً في الطريق فتتوقع أن تسمع له صوتاً معيناً يناسب ما رأيته من ملامحه الشخصية، ثم يتكلم فتسمع منه ذلك الصوت الذي توقعته، أو تسمع صوتاً لا يلفتك إلى غرابة في التوفيق بين ما رأيت وما سمعت

وتلقى إنساناً آخر فيتكلم، فإذا أنت قد فوجئت بصوت لا تنتظره، ولا يبدو لك أنه يناسب تلك الشخصية في جملة مظاهرها، ولا يرجع الأمر إلى القوة والضعف أو الارتفاع والهبوط، فقد يكون الصوت قوياً كما توقعته، ولكنه من معدن غير معدن الشخصية التي وزنتها بالعين والبديهة والخيال

برزت هذه المسألة عندي بروزاً واضحاً بعد انتشار الصور المتحركة الناطقة وظهور الساسة والعظماء فيها متحدثين أو خطباء أو منشدين، ولم يلفتني الأمر من جانب الممثلين والممثلات، لأن الذين يختارونهم يعتمدون اختيارهم وفاقاً لوقع الصوت والمنظر في نفوس المشاهدين، وإنما لفتني من جانب الوزراء والقواد والرؤساء، لأن أصواتهم بعيدة من توفيقات ذلك الاختيار المقصود

فمن الأصوات التي قرأت عن أصحابها ورأيت صوراً لهم، وعرفت أخباراً عنهم، ثم سمعتهم فلم أشعر بالغرابة فيها، سمعت صوت فرنكلن روزفلت رئيس الولايات المتحدة السابق وهو يخطب في البرلمان ويتحدث إلى الصحفيين، فلم يكن في حديثه ولا في خطابته يخالف ما توقعت من صفة الصوت ولا من نبرته وإيقاعه، بل خيل إلي أن صوت روزفلت لا يمكن أن يكون إلا على هذه الصفة وهذا الإيقاع

أما الأصوات التي استغربت أن تكون لأصحابها، فمنها صوت شرشل وصوت مصطفى كمال، وليس ذلك لضعف فيهما أو مناقضة لصفات الرجلين الرفيعة، ولكن لأنها من معدن

ص: 1

لا يطابق ما يرتسم في نفسك من صورة الشخصية كما تتخيلها وأنت تسمعها. ويزيد دلالة هذه الملاحظة أن الصوت ليس هو الشيء الوحيد الذي تستغربه من شخصية بطل الترك أو بطل الإنجليز؛ فإن عزيمة شرشل الحديدية تتراءى لك كأنها في قناع وراء ملامحه الممزوجة بملامح الطفولة والوداعة، وتتراءى لك طبائع مصطفى كمال الغلابة وكأنها تتردد في اتخاذ تلك المعارف الوجهية التي تطل منها في بعض حالاته. فإذا أردنا أن نقول أن العلاقة بين الصوت والشخصية لا تختلف عرضاً واتفاقاً وجدنا الشواهد على ذلك ماثلة في أحوال الاتفاق وأحوال الاختلاف بين الأصوات والشخصيات

ومن المحقق أن قوة الصوت أو ضعفه لا ترتبطان بالحنجرة وحدها، أو بأجهزة الصوت المحلية في مجاري التنفس بين الحلق والرئتين. فإن هذه الأجهزة المحلية قد تكون على ضعف ظاهر من الوجهة الصحية، ولكنها تعطيك صوتاً قوياً يروع السامع وينقل عن (شخصية) صورة تنم على القوة والتأثير. ولا شك أن مئات بين النساء اصح حنجرة وصدراً من مئات بين الرجال. ولكنك تسمع هؤلاء الرجال وأولئك النساء، فلا تخطئ الفارق بين قوة الأصوات هنا وقوة الأصوات هناك. ولعلك لا تخطئ الاستدلال على القوة من صوت المرأة نفسه إذا كانت على نصيب من قوة الشخصية وصدق العزيمة. مما يوحي إلينا أن الرخامة لا تحرم الصوت مزية التعبير عن الصفات الشخصية، حيث تغلب الرخامة على أصوات النساء

وعندك أناس تنطمس فيهم معالم الشخصية، فلا تستغرب لهم صوتاً من الأصوات كائناً ما كان، ولكنك لا تحس أمامك شخصية واضحة المعالم إلا قرنتها بصوت تتوقعه واستغربت أن تسمع لها صوتاً آخر غير الصوت الذي فيما بدر إليك. ودع عنك دلالة الصوت على التهذيب والتربية، فإن هذا قد يرتبط بأداء المعاني وانتقاء الكلمات وصقل المخارج والعبارات، ولكنك إذا أغضبت النظر عن هذه العوارض التي تكسب بالتعليم بقيت للصوت صفة أصيلة تنم على العقل ولا يسهل أن تختلط فيها أصوات العارفين وأصوات الجهلاء، أو أصوات العقلاء وأصوات المجانين

والمسألة فيما أراه قابلة للتعميم في أوسع نطاق، فإن ارتباط الصوت بالخصائص البدنية والخلقية يعم سائر الأحياء ولا ينحصر في الإنسان وحده، بل ربما تجاوزنا الأحياء إلى كل

ص: 2

كائن من الكائنات له صوت معروف ومعهود

ما قولك مثلا إذا سمعت زئير الأسد من لحصان؟ أو سمعت مواء الهرة من الخروف؟ أو سمعت عواء الذئب من الثعبان؟

ليس من اللازم أن يكون صوت الأسد مطابقاً للزئير الذي عرفناه وعهدناه، غير أننا إذا سمعنا الزئير من الحصان وسمعنا الصهيل من الأسد شعرنا بالغرابة ولا مراء، وشعرنا بين الصوتين والحيوانين باختلاف يحتاج إلى تصحيح، ويبدو لنا أننا نشعر بهذا الاستغراب وإن سمعنا الصوتين لأول مرة بمعزل عن أثر العادة وطول التمييز بين مصدر الزئير ومصدر الصهيل

ولماذا مثلا لم توهب ملكة التغريد إلا للمخلوقات التي تطير في الهواء؟ ولماذا كانت هذه الملكة في تلك المخلوقات وقفاً على الطيور الصغيرة الوديعة دون الطيور الكبيرة الكاسرة؟ ولماذا هذا الاختلاف بين النسور والبلابل، أو بين الصقور والقماري، أو بين العقبان والعصافير؟

إن الخلائق التي تمشي على الأرض تعبر عن خوالجها ببعض الأصوات المعهودة، ولكنها لا تحسب من قبيل التغريد والغناء، وكذلك النسور والصقور والعقبان تدلك بأصواتها على رضاها وغضبها وعلى مناجاتها وندائها، وتقصر عن تمثيل تلك الأصوات في أنغام كأنغام الطيور التي تحسن الصفير والهديل. فهناك ارتباط وثيق إذن بين تكوين الجسم كله وتكوين الخلق في صميمه، وبين طبيعة الصوت وقدرته على ترجمة (الشخصية) لمن يصغي إليه. وليس اتفاقاً ولا خلواً من المعنى أن يغني البلبل والعصفور، ولا يغني الأسد والثعلب، وإن يكون التغريد على العموم مرتبطاً بالقدرة على الطيران، فإن الصون هنا ترجمان صادق يلخص لنا كثيراً من الخصائص المتفرقة التي تتغلغل في طبيعة البيئة وطبيعة البنية وطبيعة الشخصية في أوسع حدودها، وتلهمنا المعاني التي يمكن أن نستخرجها من تحقيق العلاقة بين أصوات الناس ومعالم الشخصيات، فتفتح لنا فتحاً موفقاً في عالم النفس وأسرار الأخلاق، وتنشئ لنا فراسة جديدة تتم على السريرة بالسماع

ومن الأصول التي يعتمد عليها البحث في هذا الموضوع أننا كما قدمنا نربط بين الصوت والشخصية ونتوقع من كل شخصية معروفة صوتاً يناسبها ويعبر عنها، وإن اتفاق

ص: 3

الصوتين بين الآدميين أندر من اتفاق الوجهين، وهو خلاف المشاهد بين الأحياء الدنيا التي تكاد تتشابه في أصواتها ولا يشذ منها واحد في العشرات أو المئات، ومعنى ذلك أن المسألة أقرب إلى العلاقة النفسية أو العلاقة المعنوية منها إلى العلاقة الجسدية، لأن الاختلاف الجسدي قوة وضعفا وصحة ومرضاً، موجود بين الأحياء الأخرى، فلو كان هو المرجع في اختلاف الصوت لكان التفاوت في الصهيل بين مئات الخيل كالتفاوت في نغمة الصوت وإيقاعه بين مئات الآدميين، وإنما يقع هذا التفاوت البعيد بين الشخصيات الآدمية من جانب الفوارق العقلية والنفسية وفوارق الملكات والأخلاق، فإذا استطاع باحث من علماء الصوت وعلماء النفس معاً أن يعقد الصلة بين مقومات الشخصية ومقومات الصوت الإنساني، فقد ترجم الإنسان للآذان، فضلا عن ترجمته أو تفسيره للبدائه والأذهان

وهذه دائرة من دوائر البحث الفني أو العلمي تتسع لمن يشاء من المعنيين بالأصوات أو بالحقائق النفسية، فليس منا إلا من يقابل أناساً يسمع أصواتهم ويستغرب بعضها أو يمر به بعضها الآخر مرور المألوفات التي لا غرابة فيها، فإذا شغل نفسه قليلا بتفسير أسباب الموافقة والمخالفة بين الشخصيات وأصواتها، فلا شك أنه مهتد إلى شئ يفيده في هذا الباب، وإذا تجمعت هذه الملاحظات وحسن التعقيب عليها والاستخلاص منها، فقد تتقرر بها بعض القواعد التي تقيم لنا علماً صحيحاً عن العلاقة بين الصوت الإنساني والشخصية الإنسانية، وييسر لنا البحث في هذا الصدد أننا نعيش في عصر المذياع والصور المتحركة، ونستطيع أن نمتحن الفراسة بسماع الصوت دون رؤية الشخصية أو بتغيير الأصوات والشخصيات بالحيل الفنية المعروفة، وليس في المباحث النفسي أو الموسيقية ما هو أحق بالعناية من هذا المبحث الطريف

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌في إرشاد الأريب

إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 9 -

* ج7ص8:

لازال شكري لهما مواصلا

دهريّ أو يعتاقني صَرف الفنا

قلت: البيت من (المقصورة) المشهورة، وقد حرص ابن دريد على أن تشمل جميع المقصور. و (الفنا) هنا - وهو من الممدود (الفناء) لا من المقصور - إنما هو (المنى) أي القدر كما في الصحاح. وفي شرح المقصورة (طبعة الجوائب): (المنى بفتح الميم المقدر، قال:

ولا تقولن لشيء سوف أفعله

حتى تَبَيْنَ ما يَمني لك الماني

أي حتى تعرف ما يقدر لك المقدر، وفي هذه الطبعة (ممدودة) منسوبة إلى ابن دريد مطلعها:

لا تركنن إلى الهوى

وأحذر مفارقة الهواء

ومنها:

وأرى الغني يدعو الغني إلى الملاهي والغناء

* ج16 ص311:

في موقف يسلب الأرواح سالبها

حيث المواضي قواض والقنا سَلَبُ

قلت: جاءت (سلبُ) بفتح السين واللام وهي (سُلب) بضم الأول والثاني جمع سلوب أي مستلبة للنفس كما في (المخصص) وبيت القطامي:

ومن ربط الجحاش فإن فينا

قنا سلباً وأفراساً حسانا

يروي على وجهين: قال التبريزي في (شرح الحماسة): فالسلب بكسر السين الطويل صفة الواحد، وقد يوصف الجمع بصفة الواحد إذا كان على بنائه، وسُلُب جمع سلوب أي تسلب الأنفس.

ص: 5

قلت: وهذا ما قصده (القاسم بن علي الواسطي) في بيته. والسلب بالتحريك ما يسلب أي الشيء الذي يسلبه الإنسان من الغنائم ويتولى عليه كما في التاج. قال أبو تمام في البائية العبقرية:

لم ينفق الذهب المربى بكثرته

على الحصى وبه فقر إلى الذهب

إن الأسود أسود الغاب همها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

* ج 12ص85: وذكره (أي ابن جني) أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في (دمية القصر) فقال: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات ما له، فقد وقع عليها من ثمرات الأعراب، ولا سيما في علم الإعراب، ومن تأمل مصنفاته، وقف على بعض صفاته.

قلت: هذا ما جاء في الدمية بعد (ما له): (ولا سيما في علم الأعراب فقد وقع عليها من ثمرة الغراب).

قلت: والصواب: (. . ما له ولا سيما في علم الإعراب فقد وقع منها على ثمرة الغراب). بالتاء لا بالثاء. والقول من المثل: (وجد تمرة الغراب) قال الميداني في (مجمع الأمثال): يضرب لمن وجد أفضل ما يريد، وذلك أن الغراب يطلب من التمر أجوده وأطيبه. وضمير منها يعود إلى المشكلات والمقفلات.

* ج 6ص16: وأنت ما لكَ والغناءِ، وما يدريك ما هو؟ قلت: جاءت (والغناء) مجرورة وحقها النصب، والقاعدة معروفة. ومن أبيات (الكتاب) والشعر لمسكين الدارمي:

فما لك والتلدد حول نجد

وقد غَصتِ تهامة بالرجال

قال الشتمري: الشاهد فيه نصب التلدد بإضمار الملابسة إذا لم يمكن عطفه على المضمر المجرور.

* ج 3ص43: أني أخاف عليه لَفْعه العين.

قلت: لقعة العين، بالقاف لا بالفاء. في الأساس: لقعه بعينيه إذا عانه. وفي اللسان: في حديث سالم بن عبد الله (بن عمر) أنه دخل على هشام بن عبد الملك، فقال: أنك لذو كِدْنة، فلما خرج من عنده أخذته فقفقة أي رعدة، فقال: أظن الأحول لقعني بعينيه أي أصابني بعينه يعني هشاماً، وكان أحول.

ص: 6

والكدنة كثرة الشحم واللحم، غلظ الجسم وكثرة اللحم كما في التاج. وفي الكامل: نظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة من نسج أضراسك.

* ج 2ص281: قال جحظة: دعوت فَضِيلا الأعرج، وكان عندنا جماعة فكتب إلينا:

أنا في منزلي وقد رزق الله

نديماً ومُسمعاً وعُقارا

فاعذروني بأن تخلفت عنكم

شغل الحليَ أهلُه أن يعارا

قلت: لا مسمّى بفضيل - كسميع - عندهم. هناك فضل وفضيل وفضالة - كسحابة ويضم - و (شغل الحليُ أهلَه أن يعار) برفع الحلي ونصب أهله، وهو من أمثالهم

* ج 17ص210:

يا عجباً لشيخنا الأهوازي

يُزهي علينا وهو في هَوَانِ

وجاء في الشرح: الهوان: الذل

قلت: (يا عجبا) غير منون لأنه ينادي عجب نفسه، لا عجبا نكرة غير مقصودة، والأصل (يا عجبي) أبدلت أو قلبت ياء المتكلم ألفاً. وقد تكررت الكلمة بذلك الضبط في الكتاب و (هوان) هو (هواز) بالزاي. يُزهي علينا وهو جاهل، مبتدئ، في التهجي. والبيت لابن الأشرس في أبي الحسن الأهوازي.

* ج5 ص151:. . . ثم ضرب الدهر مَن ضَرَبَهُ فرأيت ابن ثَوَابة قد دخل إلى أبي الصقر بواسط فوقف بين يديه.

قلت: (ضرب الدهرِ مِن ضَربِه) في النهاية: فضرب الدهر من ضَربانِه ويروي من ضربه أي مر من مروره وذهب بعضه. وفي التاج: وضرب الدهر ضربانه: أحدث حوادثه. ومن سجعات الأساس: لحا الله تعالى زماناً ضرب ضربانه، حتى سلط علينا ظَربِاته. وقد منع (واسط) من الصرف هنا وفي مواضع كثيرة من الكتاب. وسيبويه يقول: وأما واسطٌ فالتذكير والصرف أكثر.

* ج19 ص189:

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا

للموت ألف فضيلة لا تُعرف

منها أمان بقائه بلقائه

وفراق كل معاشر لا ينصف

وجاء في الشرح: كانت هذه الكلمة بقائه (لقائه). قلت: (الحياة فأسرفوا)(في الموت) (منها

ص: 7

أمان لقائه بلقائه) كما روى الثعالبي في (الإيجاز والإعجاز) والتبيان لمنصور بن إسماعيل المصري الفقيه الضرير. ذكره ابن خلكان وسرد شيئاً من أخباره، منها أنه أصابته مسبغة في سنة شديدة القحط فرقى سطح داره، ونادى بأعلى صوته في الليل:

الغياث الغياث يا أحرار

نحن خلجانكم وأنتم بحار

إنما تحسن المؤاساة في الشدة

لا حين ترخص الأسعار

فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة حمل براً (قمحا) قلت: في الأساس: وأطعمنا ابن بُرّة وهو الخبز.

* ج 14 ص146: ولقي (علي بن محمد بن دينار) المتنبي فسمع منه ديوانه، ومدحه بقصيدة أولها:

ربَّ القريض إليك الحل والرَّحْلُ

ضاقت على العلم إلا نحوك السُبلُ

تضاءل الشعراء اليوم عند فتى

صعاب كل قريض عنده ذُلُلُ

قلت: الرَّحَلُ جمع رحلة.

* ج7 ص200: وله (لجعفر بن محمد الموصلي):

وما الموت قبل الموت غير أنني

أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر

قلت: ربما كان الأصل بهذه الصورة:

وما الموت قبل الموت عنديَ غير أن=أرى ضرعاً بالعسر يوماً لذي اليسر

* ج16 ص44: وتصدر (ابن العديم) وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم، وأعجب الناس.

قلت: الظن أن (العالم) هي (العلماء) و (أبهر) إنما هي (بهر) وهذه تتعدى و (أبهر) فعل لازم. في اللسان والتاج: أبهر الرجل: جاء بالعجب، وأبهر إذا تلون في أخلاقه دمائه مرة وخبثاً أخرى. وأبهر إذا تزوج بَهيرة مَهيرة. . .

* ج2 ص13: وأنشدني أبو البركات لوالده:

أنا ابن سادات قريش وابن من

لم يبق في قوس الفخار منزعا

وابن عليّ والحسين وهما

ابر من حج ولبى وسعى

من كل بسام المحيا لم يكن

عند المعالي والعوالي وَرِعا

ص: 8

طابت أصول مجدنا في هاشم

فطال فيها عودنا وفُرّعا

قلت: ضبطت (ورعا) بكسر الراء وإنما هي بفتحها هنا. والورع بالتحريك الجبان والورع بكسر الراء الرجل التقي كما في الصحاح. والفعل للتقي ورع يرع رِعة ووَرَعَا، والفعل للجبان ورُع يوْرُعُ ورْعا بالضم ساكنة الراء.

* ج16 ص14:

سقت عهودهمُ غداء واكفة

تَهمى ولو أنها من أدمعي تكف

وجاء في الشرح: الغداء: الغادية وهي السحابة تنشأ غدوة. قلت: الغادية كما فُسرت. ولم أقف على الغداء في معجم أو كلام. وعندي أنها (عزَّاء). في اللسان: العز المطر الكثير، أرض معزوزة أصابها عز من المطر. والعزاء: المطر الشديد الوابل.

* ج16 ص116: وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفاً فقيراً، غريباً مُمَجَّجاً في البلاد: وجاء في الشرح: ممججاً أي مشرداً.

قلت: مُمِجًّا. في التاج: أمج الفرس جرى جرياً شديداً، وأمج زيد ذهب في البلاد، وأمج إلى بلد كذا انطلق. وهذا ما قاله (التاج) في مَجّج:(ومجج تمجيجاً إذا أرادك بالعيب) هكذا في سائر النسخ (نسخ القاموس) ولم أدر ما معناه، وقد تصفحت غالب أمهات اللغة وراجعت في مظانها فلم أجد لهذه العبارة ناقلاً ولا شاهداً، فلينظر.

* ج5 ص62:

لو كان ينطق قال من تحت الثرى

فليحسن العمل الفتى ما استطاعا

قلت: (ما اسطاعا) للضرورة ولان ذلك جائز، حذفت التاء لمقاربتها الطاء في المخرج، فاستخف بحذفها كما استخف بحذف أحد اللامين في ظَلْت.

ص: 9

‌على هامش (حادث الشام)

نحن المذنبون!. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

اهتزت الأرض لما كرث دمشق، وزلزلت الدنيا لما أصابها، وانبرت أقلام بواتر تناصرها في محنتها، وازدلفت إليها الوفود تمسح جراحها، وتلعن جراحها، ولم تبق في المشرق والمغرب صحيفة لم تتل أخبارها، وتصف حريقها ودمارها، وأنا في فراشي قد ملكتني الحمى فلم أشارك قومي في جهاد، ولم أبذل لهم (وطالما كنت باذلا) قلمي هذا الضعيف ولساني.

وكنت أطل من شباكي على دمشق (وداري كما يعلم من يعلم من القراء تعلو عن دمشق ضاربة في الجبل مائتي متر) فأرى مسقط القنابل. وأشاهد مواقع القذائف، وأبصر النار تأكل بلدي الحبيب. والرصاص يحصد حصداً قومي، فأحس في أعصابي فوق الحمى حميات، ولكني لا أقدر على شئ.

ولم أقرأ في هذه البرهة الطويلة مجلة ولا أبصرت (رسالة)، ولا رأيت ممن وفد على دمشق من (الإخوان) الكرام أحداً، ولا حضرت (وقد دعيت) لتكريمهم احتفالا. قد قيدني المرض بفراشي فلا أستطيع له براحا. . . وهذي أول ساعة أقدر فيها على القلم، وأتمكن من خطامه، رأيت فرضا عليّ فيها فرض الاعتراف والوفاء، أن أكتب للرسالة التي أحببتها محبة العاشق، لا أصبر على فراقها، ولا أطيق هجرها. وأحببت صاحبها وأجللته قبل أن أراه. فلما رأيته بعد اثني عشر عاماً تشرفت فيها بمراسلته، والكَتْب في رسالته، وحضرت مجلسه، ورتعت شهرين في جنة نبله وفضله، وأخذت من ماله ومن أدبه، ازددت له حباً وإجلالا. وما رأيت في مصر أديباً، هو أعرب عربية، وأنقى طوية، وأقل لمصر عصبية، وأخلص لبلاد العرب كلها نية، من الثلاثة الأخيار: الزيات وعزام وخلاف. وإن في مصر لكراماً كثيرين وأدباء عرباً مخلصين، وما شحت مصر بالرجال ولكنني أشهد بما رأيت.

جلست لأكتب في محنة دمشق، فرأيتها قد سارت بحديثها الركبان، وامتلأت بها الآذان، ومشت على كل لسان، فكدت أدع القلم، ثم قلت لنفسي، لئن تأخرت اليوم فلقد كنت يوماً

ص: 10

سباقة، يوم هوت تحت السنابك (باريس)، وقام كتاب (منا. . .) يبكونها، وما يبكون إلا لذات لهم فيها محرمة فقدوها، ومفاسق خسروها، وكنا وكان سيف فرنسا العادية مسلولا علينا، فكتبت في الرسالة (368) في 22 يوليو 1940 كلمة قصيرة ولكنها كان الرمح لا يضره مع مضائه قصره، صغيرة ولكنها كالقنبلة إذا تفجرت دمرت، ولقد شرقت شظاياها وغربت فأصابت فيمن أصابت مستشار المعارف الفرنسي، حملها إليه بعض (الأذئاب. . .) ممن تبدل اليوم لأن الدهر تبدل ودار. فدعاني وكان بيني وبينه كلام لو أنا نشرته خفت ألا يصدقه من لا يعرف قائله، من القراء، لا أقول ذلك فخراً ولكن ليعلم الناس، أنا - بني الشام - ما ذللنا قط ولا خنعنا، ولا أخافتنا فرنسا يوم كانت فرنسا وكان لها في الأرض سلطان، وبين الأعزة الأقوياء مكان!

ولئن فاتني الكلام في (حادث الشام) فما فاتني أن اكتب (على هامشه). وإن لديّ صوراً، وإن في يدي عبراً، إذا وفق الله وواليت نشرها في الرسالة، اجتمع منها كتاب. ولست أعيد ما قاله الكتاب، ولا أحب أن أعرّف المعروف. ولقد فرغ الناس من الحكم على فرنسا ومدنيتها، وخرشت ألسن كانت تسبح بحمدها، وتمجد حضارتها، وما تحمد منها (وآباء القراء) إلا مطارح الهوى الفاجر، ومسارح الفن الداعر، وجفت أقلام كانت في أرضنا (جيشاً خامساً) وما حديث الجيش الخامس ببعيد. . . فلم يبق إلا أن نسوق صوراً لا يراها إلا القريب المشاهد، وعبراً لا ينتبه لها إلا الرقيب المفكر، وأن ننذر قومنا يوما أشد، وخطباً أعم، إذا لم يقطعوا أسبابه، ولم يغلقوا بابه. . .

وإن أول ما ينبغي أن نخرج به من هذا الذي كان أن نعلم إن الله عادل لا يصيب قوماً إذا بما قدمت أيديهم، وإن من بديع صنعه لهذه الأمة أن يبعث لها هذه الشدائد تبينها من غفلتها كلما غفلت، وتوقظها إذا نامت، وإن من أسرار هذه العربية أن الابتلاء هو الامتحان، وأن الله يمتحننا ليرى الفوز في الامتحان أم نكون من الخاسرين. . . فتعالوا يا إخواننا نحاسب أنفسنا وننظر من أين أتينا؟

أما أنا فلقد فكرت فرأيت أن الذنب ذنبنا ما هو بذنب الفرنسيين، وانك أن عانقت الحية فلدغتك فما تلام الحية بل تكون أنت الملوم، إن الفرنسيين قد جروا على سنتهم، واستجابوا لطبيعتهم، ففاض إناؤهم بالذي فيه، وما فيه إلا الطيش والحرق والغرور والتبجح وعشر

ص: 11

أخر من هذه الصفات، ولقد بلوهم ربع قرن فما رأينا من حضارتهم إلا البارود والنار وآلات القتل والدمار، ولا أبصرنا من فنهم إلا الفسوق والعرى والاستهانة بالعرض وإضاعة الذمار، ولا شاهدنا من قوتهم إلا العدوان على الأطفال والنساء والعجائز الكبار، ولقد طالما تبدلت عليه الوجوه، ولكن السنَّة السنَّة، والطبع الطبع، كل في الحماقة سواء.

ولكنا مع ذلك واليناهم وقد نهانا الله عن موالاتهم، وقلدناهم وقد منعنا ديننا من تقليدهم، وتركنا بياننا لرطانتهم وفضائلنا لأزيائهم، وشريعتنا لقوانينهم، ومساجدنا لملاهيهم، والقادسية لأوسترلتز، ومكة لباريس؟

نحن أعطيناهم هذا السلاح الذي قاتلونا به: جاءونا بالخمور تهرئ أمعائنا، وتمزق أكبادنا، فشربناها ودفعنا الثمن. وجاءوا بالكتالوجات فيها الأزياء العارية التي تذهب فضيلتنا، وتفسد شبابنا وبناتنا، فعملنا بها وتركنا لها قرآننا ودفعنا الثمن. وجاؤو بالأرتستات يخربن بيوتنا، ويمرضن جسومنا، ويسممن أرواحنا، فهبطنا على أقدامهن ودفعنا الثمن، وجاءونا بكل بلية فيها الأذى وفيها الهلاك، فدفعنا الثمن، فأخذوه فجعلوا منه دبابات وطيارات ثم أتوا فقالوا هذا لجيشكم السوري. أليس جيشكم قلنا: بلى، وهل في ذلك شك. قالوا: هاتوا ثمنه فدفعناه مرة ثانية، فقاتلونا بسلاح شريناه نحن ودفعنا ثمنه مرتين!

نحن أعطيناهم الجنود الذين حاربونا بهم: أبناؤنا، قلنا لهم خذوهم وخذوا بناتنا فعلموهم في مدارسكم، ونشئوهم على مبادئكم، واستعمروا عقولهم كيف شئتم، فجعلوا من أبنائنا عدواً لنا، يا أيها القراء في مشارق الأرض ومغاربها اعلموا أن الذي ضرب الشام بالمدافع (بأذن أوليفا روجه وأمره) إنما هو رجل شامي ومسلم وابن شيخ واسمه (علاء الدين الإمام)!

فهل استيقظنا؟ إذا لم توقظنا هذه المدافع المدوية، إن لم ينبهنا لذع النار، فما والله يوقظنا شئ؟

هل علمتن يا آنساتي ويا سيداتي الآن. أن هذا (الكتالوج) إنما هو (ديناميت) أن احتفظتن به في دوركن دمر الدور وأهلها؟ وإنكن حين تكشفن عن شئ من مواطن الفتنة في أجسامكن إنما تكشفن للعدو قلعة من قلاع الوطن، لأن كشفها يفسد أخلاق الشباب فتذهب رجلوتهم ويفقدهم روح الكفاح ويشغلهم عن الحرب بالحب؟ وإن هذا الأحمر على خدودكن وشفاهكن إنما هو دم الشهداء، لولاه ولولا أشباهه ما تمكن لعدو منا. وما كان ليغلبنا لولا أن

ص: 12

أضاع علينا أخلاق صحرائنا. وشغلنا عنها بكن، وشغلكن بهذا الأحمر عن كل واجب عليكن؟

هل علمتم أيها الآباء أن من يضع ابنه في مدرسة عدوه، إنما يخون وطنه ودينه وربه؟

وهل سمعتم أيها القراء اللعنة التي أطلقها في الشام. خطباء على المنابر، وأئمة في المحاريب، فتجاوزت بصداها الأودية والشعاب:

ملعون كل من ينسى ما صنع بنا الفرنسيون، ملعون كل من يحب فرنسياً أو يتزوج بعد اليوم فرنسية، أو يشتري بضاعة فرنسية، ملعون من يدخل ابنه أو بنته مدرسة فرنسية، ملعون كل شركسي أكل خبزنا وحاربنا، ملعون كل سوري أعان على بلده عدواً، ملعون علاء الدين الإمام، لعنة مجلجلة صارخة مستمرة متجددة، متنقلة في البطون، ماشية في الذراري، لعنة الأم التي فجعها الفرنسيون بوحيدها، واليتيم الذي أفقدوه أباه، والزوجة التي أيَّموها بعد زوجها، والأسرة التي قتلوا ربها وخربوا دارها، والتاجر الذي أحرقوا دكانه وسرقوا متاعه، لعنة مغموسة بالدم، مغسولة بالنار. . .

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 13

‌المنطق الوجداني والعقيدة

للأستاذ سيد قطب

- 2 -

البداهة والبصيرة طريق الإيمان، والمنطق الوجداني أداته في القرآن، كما أقول أنا؟ أم الذهن المجرد طريقه، والمنطق الذهني أداته، كما يقول الأستاذ عبد المنعم خلاف؟

أحب قبل أن أمضي في البحث أن أقرر: أنه لا يجوز أن يجرفنا الجدل إلى تقسيمات جدلية حاسمة لطرق الإيمان وأدواته في النفس البشرية؛ فإننا لن نجد حالة نفسية واحدة تتم بهذه السذاجة في التقسيم. وأبسط الحالات النفسية الساذجة معقد كل التعقيد، ولابد فيه من شتى الاحتمالات

وليست المسألة بيني وبين الأستاذ عبد المنعم قضية جدلية على طريقة المناظرات؛ إنما هي حقيقة نود تجليتها. وأنها ليسرني من غير شك أن ألتقي بالصديق في الطريق

لذلك أحب - قبل كل تعليق - أن أستعرض ما قلته أنا في كتابي (التصوير الفني في القرآن) عن المنطق الوجداني؛ وما قاله الأستاذ عبد المنعم في مقاله الأخير عن (المنطق الذهني)، فمن يدري، فلعلنا متفقان في جوهر الموضوع ولبه، وإن اختلفنا في التعليل وتقرير المصطلحات، وإن يكن يبدو لي أن الخلاف في أساسه خلاف طبيعتين وطريقتين في الإحساس!

استغرق فصل (المنطق الوجداني) من كتابي عشر صفحات، ووردت فيه هذه الفقرات في مواضع متفرقة:

1 -

(لقد جاء القرآن لينشئ عقيدة ضخمة - عقيدة التوحيد - بين قوم يشركون بالله آلهة أخرى، ويكون من العجب العاجب عندهم أن يقول لهم قائل: إن الله واحد: (أجعل الآلهة ألهاً واحداً؛ إن هذا لشيءٌ عُجاب! وانطلق الملأُ منهم: أنِ امشوا واصبروا على آلهتكم، أنّ هذا لشيءٌ يُراد، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق!)

2 -

(كانت وظيفة القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة. وموطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال

ص: 14

إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة؛ وليس هو على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.

(وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام، بعدما فتن الناس، آثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف، وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة فيؤمن بها، ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته على قواعد المنطق الذهني، أو التجريب العلمي!

(إن هؤلاء - في اعتقادي - يرفعون الذهن إلى آفاق غير آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه، لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعو إليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن، أو (المحسوس) في تجارب العلم، ليس هو كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة؛ ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشؤون الكبار.

(فلندع الذهن يدبر أمر الحياة اليومية الواقعة، أو يتناول من المسائل ما هو بسبب من هذه الحياة. فأما العقيدة، فهي في برجها العالي هناك، لا يرقى إليه إلا من يسلك سبيل البداهة، ويهتدي بهدي البصيرة، ويفتح حسه وقلبه لتلقي الأصداء والأضواء.

(ولقد آمن بالبداهة والبصيرة - وما زال يؤمن - العدد الأكبر من المؤمنين بكل دين وعقيدة في الوجود؛ ولقد ظل علماء الكلام في الإسلام قروناً كثيرة، يبدءون وبعيدون في الجدل الذهني حول مباحث التوحيد، فلم يبلغوا بذلك شيئاً مما بلغه المنطق القرآني في بضع سنين). . .

3 -

(لقد عمد القرآن دائماً إلى لمس البداهة، وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان. وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة؛ أو المشاهد المشخَّصة والمصائر المصوَّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة)

4 -

(كانت المشكلة الأولى التي واجهها الإسلام - كما قلنا - هي مشكلة التوحيد مع

ص: 15

جماعة تنكر هذا التوحيد أشد الإنكار، وتعده إحدى الأعاجيب الكبار ، فلننظر كيف حاجتهم في هذه القضية المعقدة:

(لقد تناولها ببساطة ويسر، وخاطب البداهة والبصيرة، بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشِرون؛ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فسبحان الله رب العرش عما يصِفُون؛ لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون)

أو: (ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه إله. إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض)

(هكذا في بساطة البداهة التي لا ترى في السماوات والأرض فسادا، إنما ترى نظاماً محكما، لا يكون إلا حين يكون المدبر واحداً قادراً عالماً حكيما.

(وهذه الصورة التي يخيلها - لو كان هناك آلهة - (إذن لذهب كل إله بما خلق) وأنها لصورة مضحكة: أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله. وإن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب. إلى أين؟ لا ندري! ولكننا نتخيل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة إذا كانت نتيجتها هي هذه النتيجة!)

وهكذا وهكذا إلى آخر ما ضربت من الأمثلة، على سائر ما واجه الإسلام من مشاكل العقيدة، وطريقته في مواجهتها. . .

أما الأستاذ عبد المنعم فيناقش المسألة على النحو التالي، الذي تثبته فقرات من مقاله ننقلها هنا:

1 -

(كل ما في القرآن من (منطق، الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ ضيقة. وأي كلام اعتمد على (الحقائق البديهية الخالدة) وعلى مقدمات ونتائج صحيحة، سواء أكانت محسوسة ومنظورة أم غير محسوسة ومنظورة، فهو منطق ذهني. فإذا جمع إلى صحة المقدمات والنتائج جمال التعبير وروعة الأسلوب وإشراق الطلعة فهو منطق (وجداني) كذلك. منطق الوجدان - وإطلاق (المنطق) هنا تجوز في التعبير - هو

ص: 16

الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة، (ونقط الارتكاز الواضحة في عالم البداهة و (الحكم العقلي). والتأثر بهذا المنطق تأثر وقتي لا يترك رواسب في الذهن، ومقاييس تملأ اليد، يستطيع الفكر أن يتحاكم إليها، ولأنها ألوان وظلال ونغمات وأعراض عير ملازمة تنفعل لها النفس انفعال الانقباض أو الانبساط وقتا، ثم يزول تسلطها عليها.

(وليست هذه الأعراض هي طريق إقرار (العقائد) ودعائم الفكر والحياة عند الراصدين المتيقظين الواعين. وخصوصاً الدعامة الأولى، والقضية الكبرى، قضية (التوحيد) التي هي قضية الكون كله وأعظم شئونه! إن الوجدانيات من الخطابيات والشعر والموسيقى وسائل إقناع وقتي للبسطاء، وليست وسائل يقين ثابت للذين يبحثون لعقولهم عن عواصم تستند إليها من طوفان الأهواء والنوازع والوجدانات المتقلبة. . وما كان للقرآن وهو يتصدى لإثبات القضية الكبرى أن يعتمد على (المنطق) الوجداني. وإني أرى الذهن في إثبات العقائد وخصوصاً (التوحيد)، هو أوسع المنافذ وأصدقها وأدقها)

2 -

(قلنا أن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء، وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه، فلنقرأها معاً (وذكر نص الآيات المذكورة هنا في هذا المقال) ثم قال:

(فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض، فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حي مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وأنه للدليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بنى عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. وأنه للدليل المفضل عند المربين وعلماء النفس)

(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . . وأنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه المتسعة، ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين، ولا يمنع خلافهم وتحاسدهم أنهم آلهة في

ص: 17

طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقة فهو معذور!)

(فسبحان الله رب العرش عما يصفون)! ذلك موقف وجداني فيه انفعال وتقزز من تلك الدعوى، وتنزيه لله عما وراءها من أزمات ومحرجات. وهو موقف معترض للإسراع بالتنزيه تعود الآيات بعده إلى الاستدلال:(لا يسال عما يفعل وهم يسألون) وهذا مقطع آخر فيه ضرب عظيم من ضروب الاستدلال هو الدليل العملي الواقعي، وهو كذلك أحد ضروب الأدلة الكبرى، وله في الفلسفة العصرية المقام الأول، إذ به تسير الحياة العملية، وهو محور الاجتماع. . .

(فما دام الواقع أن جميع الآلهة المزعومة مَلَكَ الناسُ أن يواجهوها بالمسؤولية والمحاكمة، فلا يصح أن تكون آلهة ما دامت تقع عليها الدينونة. . . ولكن الذي خلق السماوات والأرض، لا يملك عابد له أن يرفع عينه إليه بمسؤولية، بل ليس له إلا التسليم والإذعان ما دام عاجزاً عن الهرب من أقطار السماوات والأرض)

(أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم!). . . (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) وهذا مقطع عظيم أيضاً من مقاطع الاستدلال هو ما يسمونه (الدليل التاريخي) إذ أن التاريخ لم يثبت حياة رسول جاء قومه بغير الوحدانية. . . إذا فقد سد القرآن مجالات القول والاستدلال أمام المشركين حتى اثبت أنهم لا يستندون في دعواهم إلى أي حق، وإنما إلى التكبر والجهل والإعراض. وكان هذا الختام (بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) نتيجة منطقية ذهنية واضحة لمقدمات واضحة أخذت بضروب الأدلة جميعاً ولم تترك مفراً لجدل مجادل)

1 -

وبعد: فلا بد أن يكون القارئ قد لاحظ اختلافاً في تعريف (المنطق الوجداني) حسبما بسطته وعنيته، والتعريف الذي يضعه له الأستاذ عبد المنعم ليبني عليه اعتراضاته. ولاشك أنني غير ملزم بتعريف الأستاذ، فأنا لم اترك الاصطلاح الذي وضعته بلا شرح معيِّن، وعلى هذا الأساس يجب ن تدور المناقشة.

فهو يعرفه بأنه (الذي يتأثر بالخطابيات والشعر والموسيقى وغير أولئك من ألوان الفن التي لا تعتمد على الحقائق الثابتة ونقط الارتكاز الواضحة في عالم البداهة والحكم العقلي).

ص: 18

بينما أنا قد أسلفت أنه يعتمد - فيما يعتمد عليه - على الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة وتدركها الفطرة المستقيمة. كما كررت أنه يلمس البداهة ويوقظ الحس، ليتصل منهما بالضمير وبالوجدان.

فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني على أساس صورة خاصة في تعريفه لهذا المنطق غير التي عنيتها بوضوح. ولست أنا المسؤول طبعاً عن ترتيب الأمور على هذا النحو الذي يبدو واضحاً عند الموازنة بين ما قلت هنا وما قال!

على أنني أحب أن أقول له هنا: إن الشعر والموسيقى والفنون ليست خواء كلها من الحقائق الخالدة - كما يصورها - ولو خلت من هذه الحقائق ما عاشت وما حسبت فناً صادقاً، فنحن في حاجة إلى أن نوسع آفاقنا عند النظر للفن الصادق، فنجده يلتقي في النفس بينابيع العقيدة على نحو من الأنحاء. وإلا كان فناً مزيفاً لا يعيش، وزخرفاً ظاهراً تزيفه الحياة

2 -

وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات، فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه. فهي في سياق القرآن شئ يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل كما يأتي:

(أ) يقول الأستاذ عن مقطع الآية الأول: (فالإله الواحد هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض. الخ) أفلا يعلم أن قضية البعث كانت من القضايا الكبرى التي تولى القرآن إثباتها لهؤلاء القوم. فكيف يجعل منها دليلا على وحدانية الله هنا - ولو كان منطق الذهن الجدلي هو المحكم - بينما هي نفسها موضع جدل طويل، وليست لإحداهما سابقة على الأخرى بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها، أو تتهافت بطرفيها.

(ب) ويقول عن فساد الأرض لو تعدد الآلهة: (فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقه هو فهو معذور). . . أفلا يعلم أن القرآن ذاته قد كلف التصور البشري أن يؤمن بأن الله (ليس كمثله شئ)! فكيف كان يكلفه هذا لو

ص: 19

لم يكن في طاقة الإنسان أن يتصوره بوسيلة من الوسائل، وأنه ليؤمن بهذا لا عن طريق المنطق الذهني، ولكن بالبداهة، وبالصلة الخفية بين الإنسان المحدود والإله غير المحدود. تلك الصلة التي يعتمد القرآن على إيقاظها في الحس كالومض السريع فيؤمن المؤمن ويستريح! ولو عهد بها إلى الذهن لما استطاع تصورها كما يعترف الأستاذ عبد المنعم.

(ج) وعن مسؤولية الآلهة. أفلا يرى الأستاذ أن كلامه لا يثبت شيئاً ولا ينفيه، فمسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد، لا تحفل بها الآلهة ولا تجيب سائليها. وكثير من الناس يحاكم الله مثلها - والله تعالى عنها - ولم يذكرها القرآن للجدل هنا. ولكن ذكرها للتقرير والتأثير الوجداني بهذا التقرير.

(د) ثم الدليل التاريخي كما يراه في (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) فلو سرنا في الاستدلال على طريقة الأستاذ عبد المنعم لقلنا: إن هؤلاء القوم لم يؤمنوا إلا بهذا الذكر ولا يذكر من قبله. فكيف يحاسبون بما لم يؤمنوا به، وهو نفسه موضع الجدل؟

إن القرآن يا سيدي لم يرد الأمر على النحو الذي تريد. . . وأنه لأفطن للنفس البشرية وأعرف بدروبها ومسالكها، وأنه ليأتي هذه النفس من منافذها الواسعة جميعاً، لا من كوة الذهن المحدود وحدها هذا، الذهنِ الذي يعجز عن تصور صفات الإله لو عهد بها إليه! وإن في كل نفس بشرية - ما لم تفسد فطرتها - لمنافذ ومسارب تصلها بالحقيقة الأزلية الكبرى، والأديان وحدها هي التي تلتفت لهذه المنافذ والمسارب جميعاً، فتصل الناس بالخالق في يسر جميل، معتمدة على البداهة والبصيرة والحس والوجدان وسائر القوى الإنسانية ومن بينها الذهن الذي هو إحدى هذه القوى وبعدها جميعاً فلا نكبر من قيمة هذا الذهن المحدود، ولا نتجاوز به الحدود. . . والسلام:

سيد قطب

ص: 20

‌الأذان في الإسلام

للدكتور جواد علي

تتطلب بعض الأديان من المرء الحضور إلى المعبد لتأدية فريضة الصلاة مع إخوانه المؤمنين؛ والصلاة في هذه الحالة (صلاة جماعة). وإلا لن تتقبل له صلاة. ولم تشترط الديانة اليهودية هذا الشرط في أداء الصلاة (التفيلة). واليهودي مخير بين أداء هذه الصلاة في بيته أو في حديقته أو في العراء أو في أي مكان آخر، وبين أدائها جماعة في (الكنيس) مع إخوانه وأبناء دينه. على أن من المستحب في الديانة اليهودية حضور المؤمن صلاة الجماعة لما في ذلك من ثواب عظيم وأجر عند الله كبير

وقد حثت البركة الثامنة من البركات الثماني عشرة المؤمنين من الإسرائيليين على حضور صلاة الجماعة في الكنيس (توراة) جاء (من قرأ التوراة وقام بالأعمال الحسنة المحبوبة، ومن أدى الصلاة جماعة اعتبره الله في جملة عبيده وخدمه، وفي جملة أولئك الذين يساعدون أبناءه في الخلاص من أيدي أبناء الشعوب الأخرى) وجاء في الحديث المأثور (من أحجم عن زيارة كنيس مدينته عد جار سوء لهذا الكنيس).

أما في الإسلام فالمسلم مخير بين أداء صلاته جماعة وبين أدائها منفرداً في أي مكان شاء. وقد راعت من هذه الناحية الحكمة العملية التي تتطلب التساهل في هذا الباب. ولكنها حثت من جهة أخرى على صلاة الجماعة ورغبت المسلمين في ثوابها وفي التسابق إليها واعتبرها الفقهاء (فرض كفاية) و (فرض الكفاية) غير (فرض الوجوب أو العين) طبعاً

ولا تقام صلاة الجماعة عند اليهود إلا بشروط، ومن جملة هذه الشروط هو (العدد القانوني) أو (نصاب الجماعة)، ولا يتم (نصاب صلاة الجماعة) إلا بحضور عشرة رجال بالغين، وهذا هو الحد الأدنى، ومتى كمل هذا العدد جاز أداء الصلاة جماعة. ولم يشترط المسلمون في صلاة الجماعة أي شرط من هذا القبيل فما زاد على الواحد عد جماعة وجازت لذلك صلاة الجماعة إلا في صلاة الجمعة إذ جعل العدد أربعين فما فوق وهي صلاة الجماعة طبعاً.

ويحتاج المصلون في صلاة الجماعة إلى إمام يؤم المؤمنين في الصلاة. ويطلق المسلمون عليه كلمة (إمام) أو (إمام الجماعة) ويطلق اليهود عليه لفظة (شليح صبور) أو (حزان)

ص: 21

ومعنى الكلمتين (المندوب عن الجماعة). وليست الإمامة في الصلاة عند اليهود وظيفة دينية رسمية في الأصل؛ إذ يستطيع أي مصل من المصلين إمامة إخوانه في الصلاة إذا كانت له المؤهلات الكافية والصفات التي يجب أن تتوفر في الزهاد والمؤمنين. ثم خصصت الإمامة (شليح صبور)(حزان) في أشخاص معينين يمارسون هذه المهمة ويقومون بتنفيذ طقوس الصلاة. وهذا التخصيص هو من قبيل العرف والعادة فقط إذ لا يتيسر في الغالب لجميع المؤمنين معرفة قواعد الديانة ولا سيما بعد القضاء على المملكة اليهودية وبعد تشتت شمل اليهود وتكلمهم بلغات جديدة هي لغات البلاد التي رحلوا إليها وإغفالهم أمر اللغة العبرية حتى غدت لغة غريبة بالنسبة لأكثر العبرانيين الذين ارتحلوا إلى البلاد الأجنبية فاحتاج اليهود بحكم الضرورة لا بحكم الدين إلى (إمام) يحسن اللغة العبرية القومية ويحفظ القطع المقدسة التي تتلى في الصلاة وأصبح هؤلاء الذين لم ينسوا لغتهم وأمور دينهم بمرور الزمن أئمة ورجال دين.

وهذا هو عين ما حدث في الإسلام، فالديانة الإسلامية لم تعين مبدئياً طبقة خاصة لتقوم بواجب (الإمامة) في الصلاة. ولم تعترف بطبقة (كهنوتية) تحتكر لنفسها تعليم الدين وإقامة شعائره من دون سائر الناس. ولا إمامة الناس في الصلاة دون سائر المؤمنين المصلين. وقد كان النبي (ص) نفسه يأتم بغيره كما كان الصحابة يأتم بعضهم ببعض. نعم قد كان الرسول ينص على صحابي معين بإمامة الناس في الصلاة؛ ولكن ذلك لا يعني حصر الإمامة فيه ما دام حيَّا بل كان ذلك في ظروف خاصة وأحوال معينة. جاء عن مالك بن الحويرث أنه قال:(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي فأمْنا عنه عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً؛ فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا؛ فإذا حضر الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).

وحدث مثل ذلك من الخلفاء الراشدين: كانوا يعينون رجلا بعينه مع الأمير أو القائد لإقامة الصلاة. أو كانوا ينصون على الأمير نصاً بإمامة الناس في الصلاة. غير أن ذلك لا يعني كما قلنا آنفاً أن الإمامة مرتبة من المراتب الدينية أو وظيفة معينة لا يتقلدها إلا بعض الأشخاص من ذوي الرتب والدرجات الروحية. وإذا كانت الإمامة في المساجد اليوم تعيينا - في بعض البلاد الإسلامية فإن ذلك لا يعني شرعاً أن الإمامة في المساجد لا تكون إلا

ص: 22

لهؤلاء الأئمة فقط، بل من الجائز لأي شخص آخر ولو كان من غير رجال الدين أن يؤم المسلمين في نفس ذلك المسجد. وتعين هؤلاء الأئمة ليس إلا ضماناً لإمامة المصلين في الصلاة حين خلو المسجد ممن يحسن قواعد الصلاة وأمورها كما يجب وفق أحكام الشرع.

ولتسهيل تعيين مواقيت الصلاة ولدعوة الناس إلى عبادة ربهم في الأوقات الخاصة اتخذت الأديان طرقاً مختلفة للدعوة إلى الصلاة. من هذه دق الناقوس أو التبويق أو إشعال النار إلى آخر ما هنالك من علامات. وقد شعر المسلمون بهذه الحاجة حينما تكاثر عددهم وتزايد جمعهم حتى شمل أكثر أهل المدينة. وشعر النبي (ص) نفسه بهذه الحاجة، وتشاور مع أصحابه في المسألة فقيل له (انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رآها الناس آذن. فلم يعجبه ذلك؛ فذكر له بوق اليهود ويقال له الشبور أو القبع وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم؛ فقال هو من أمر اليهود. فذكر له الناقوس الذي يدعو به النصارى لصلاتهم فقال هو من أمر النصارى. فقالوا لو دفعنا ناداً فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس).

وجاء في الأخبار أيضاً أن الرسول (ص) قال: (أولاً تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؛ ففعلوا ذلك) وكان اللفظ الذي ينادي به بلال قبل رؤيا عبد الله: (الصلاة جامعة) وجاء أيضاً: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة. فبينما هم على ذلك إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بالحرث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى عليه وسلم فقال له يا رسول الله أنه طاف بي هذه الليلة طائف: مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده؛ فقلت له يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ قلت ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت وما هو؟ قال تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أخبر بها رسول الله صلى عليه وسلم قال أنها لرؤيا حق أن شاء الله. فقم مع بلال فألقها عليه فيلؤذن بها فانه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت

ص: 23

مثل الذي رأى. فقال رسول الله فلله الحمد على ذلك).

تلك هي قصة الأذان في الإسلام. وهي قصة تناقض رأي من قال من المستشرقين بأن الأذان في الإسلام إنما هو ترديد لأذان اليهود أو لأذان النصارى وهو دق الناقوس.

أما في مكة وقبل الهجرة فلم تكن هنالك ضرورة للأذان، لأن الحكم كان للوثنية، ولان الجماعة الإسلامية لم تكن سوى أقلية لا قبل لها بالتظاهر أمام الوثنيين. فلما استقر النبي (ص) في المدينة وتكاثر عدد المسلمين أصبح الأذان ضرورة لابد منها، ولم تعد كلمة (الصلاة جامعة) تكفي لأداء وظيفة إسماع الناس في أقاصي المدينة وكل المسلمين شوق لأداء الفرائض مع النبي (ص) فصار بلال يدعو إخوانه من علٍ إلى الصلاة بالشكل المعروف. واقتصرت كلمة (الصلاة جامعة) على صلاة العيدين حتى ينادى بها إلى اليوم.

وكانت هنالك كلمة أخرى بسيطة يرددها المسلمون قبل معرفتهم الأذان؛ والظاهر أنها كانت أبسط شكل من أشكال الأذان هي (الصلاة. الصلاة) ولعلها أقدم عهداً من كلمة (الصلاة جامعة) وهذا الشكل البسيط من الدعوة إلى الصلاة كان يردده الخلفاء أنفسهم حين مجيئهم إلى المسجد صباحا على الأخص لتنبيه النائمين وطالما قرأنا في كتب التاريخ كلمة (الصلاة. الصلاة يرحمكم الله) لتنبيه الغافلين إلى الصلاة ولا زالت مستعملة إلى الآن في صلاة الصبح جماعة على الأخص.

ويتألف الأذان الذي أقره الرسول (ص) من سبع فقرات، السادسة منها تكرار للأولى. وتردد العبارة الأولى أربع مرات متتاليات، والمالكية ترددها مرتين، كما تردد كل عبادة من العبادات الأخرى مرتين ما عدا العبادات الأخيرة فينادى بها مرة واحدة فقط. وبعد أن يؤذن بالعبارتين الثانية والثالثة مرتين يرفع الصوت بها عند المرة الثالثة. وقد أوصى بهذا الترجيع الشرع. أما الحنفية فترفضه. ويضاف إلى أذان الصبح عبارة (الصلاة خير من النوم). عند أهل السنة، وتردد مرتين (تثويب) بين العبارة الخامسة والسادسة.

ويتفق المسلمون جميعاً على صيغة الأذان؛ وهذا يدل على أنه كان على هذه الصورة منذ عهد الرسول. غير أن هنالك خلافاً بسيطاً بين أهل السنة وبين الشيعة في عبارة (أشهد أن علياً ولي الله) التي تردد مرتين بين الفقرتين الثالثة والرابعة؛ وفي عبارة (حي على خير العمل) التي تردد مرتين بين الفقرتين الخامسة والسادسة.

ص: 24

ويعاد الأذان في داخل المسجد بصورة مختصرة إذ تذكر عبارات لآذان مرة واحدة قبل المباشرة بالصلاة، ويطلق على هذا الأذان كلمة (إقامة).

فالأذان كما رأيت ضرورة من الضرورات التي اقتضتها الظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأت في المدينة. ويقول المستشرق بيكر (الأذان في الإسلام لا يمثل فكرة الدعوة إلى الصلاة، أو بتعبير آخر: الأذان تماماً لأن عناصر الدعوة إلى الصلاة فيه قليلة أو تكاد تكون معدومة؛ فهي لا تتمثل فيه تمام التمثيل وليس الأذان على رأيه إلا قطعة من القطع الكنائسية التي يرددها الكاهن والشماس حيث الترجيع الديني بين الاثنين. يقوم الإمام في الإسلام مقام الكاهن؛ أما المؤذن فيؤدي واجبات الشماس).

وهذه النظرية خاطئة طبعاً؛ فالأذان وإن كان يعيده الإمام إقامة. فإن المصلين يعيدونه أيضاً. ولا وجه للشبه أبداً بين الترجيع الديني في الكنائس وبين الأذان عند المسلمين.

وذهب المستشرق اليهودي ميتوخ إلى أن الأذان في الإسلام مأخوذ من الأذان عند اليهود. وحجته في ذلك هو دعوة المؤذن (اللاويين) إلى الصلاة وعادة النفخ في الصور (البوق). تلك العادة التي لا زال اليهود يمارسونها حتى اليوم في طقوسهم الدينية في نهاية السنة، والتي كانوا يمارسونها سابقاً في عهد الهيكل لإعلان أوقات الأضحية، وفي أيام الجمع قبيل قدوم المساء لإعلان قدوم السبت إلى الجمهور. وفي عهد التلمود المتأخر.

أما حجته في أن اليهود يدعون طبقة اللاويين إلى أخذ محلاتهم قبل البدء في الصلاة وتلك الدعوة هي علامة الأذان أو الأذان بعينه، فإن تلك الدعوة هي دعوة خاصة في داخل (الكنيس) بينما الأذان دعوة عامة لجميع المصلين السامعين. وعبارات الأذان الإسلامي تختلف كل الاختلاف عن عبارات دعوة اللاويين. واليك هذه الدعوة: أيها الكهنة استعدوا لأعمالكم. أيها اللاويون قفوا في مصاطبكم. أيها الإسرائيليون خذوا مواقعكم)

وهذه الفقرات هي فقرات خاصة بطبقة كما ترى.

وأما قضية (التبويق) فقد رأيت أن النبي (ص) كرهها كما كره استعمال الناقوس. وليس هنالك بين الأذان وبين التبويق أي وجه من أوجه الشبه، اللهم إلا الفكرة والفكرة عامة في جميع الأديان.

يقول المستشرق ميتوخ: (يظهر من عبارة وردت في كتاب المقريزي أن الأذان إنما كان

ص: 25

تنبيها للرسول عليه السلام وأخباره بحلول وقت صلاة الجماعة، كما كان تنبيهاً لخلفائه من بعده بحلول وقت الصلاة. وقد نبه إلى هذه الفكرة المستشرق بيكر أيضاً. وأما الإقامة فإنها علامة لبدء الصلاة أو مقدمة قصيرة للصلاة.

جواد علي

ص: 26

‌سيباي الكافلي

آخر نائب للمملكة المصرية بالشام

للأستاذ أحمد رمزي

تتمة ما نشر في العدد الماضي

كان سيباي من تلك الزمرة الممتازة من الرجال الذين تملأ قلوبهم الدوافع النفسية للعمل والحركة ولا ترضى بغير المعالي والقيادة والسيادة، وكان شجاعاً إلى أقصى حدود الشجاعة لا ترهبه الأخطار، وصريحاً إلى أقصى حدود الصراحة لا يبالي بما تأتي به صراحته من خير أو شر، ما دام في ذلك إرضاء لنفسه. فكان لا يلين إذا قام عالم من الناس يحاربه أو يؤذيه أو يحط من قدره. ولا يهمه إذا وجد نفسه وحده، يدافع ويناضل عما يقول ما دام الحق في جانبه.

وبهذا وحده يمكن تفسير مواقفه مع الغوري ورسائله إليه وصراحته؛ فلولا قوة أخلاقه وجرأته لأظهر ليناً وسياسة وكياسة ولا نطوي انطواء الغزالي وخير بك وغيرهما وترك العاصفة تمر واكتفى بفتات الموائد؛ ولكنه كان قوة والقوة تنتصر ولا تلين.

ولم يكن ينقصه شئ من الذكاء والنجابة ليحل المكانة الأولى بين رجال الدولة المصرية. ولو قدر لها وعاشت لكان لبطلنا شأن فيها ولذكر اسمه في التاريخ بين الخالدين من رجالنا.

ولم تحرمه الدنيا في السنين التي قضاها فيها من شئ، فقد أوتي من الهيبة والقوة والنفوذ والاحترام والعلم الشيء الكثير، كما ابتلته الأيام فلم يسلم من كيد الناس ودسهم ولا من نكد الدنيا ومقارعة الزمن وكان في كلتا الحالتين صبوراً:

وقد أجمع المؤرخون على أنه رجل يعد برجال.

أصل سيباي من رجال قايتباي وأعتقه وجعله من أمراء جند مصر، ثم أخذ يرقى إلى أن تولى وظيفة كافلي الممالك الحلبية وهي بدرجة أمير ألف، وذلك في عهد الغوري. وكان الأتابكي قيت الرحبي يوم بويع الغوري بالسلطان أمير سلاح، وهو الذي تقدم ومعه الأمير مصر باي وأخذا بيد السلطان بالبيعة وناديا باسمه وهو يمتنع، فبايعه الأمراء والقضاة وغيرهم - فحدثته نفسه بعد حين أن يتسلطن، وكتب إلى نواب مصر بالشام، والى سيباي

ص: 27

بحلب، فاشتبك الأخير مع نائب القلعة وحاصره وقاتله فاحترقت بسبب الحصار المدرسة الظاهرية الشهيرة بالسلطانية وقتئذ، فنذر سيباي أن يبني مدرسة مثلها. وقد بر بوعده وبنى جامعه الذي زرناه. في إبان هذه الفتنة تغير قلب الغوري من جهة سيباي فعزله ثم عاد فضمه إليه وأنعم عليه بإمرة السلاح بالقاهرة.

وفي شوال 911 عين سيباي ثانياً بالشام، وكان الغوري في نفسه أشياء منه؛ فهو يعلم بأنه بطل من أبطال الحروب لا يخطر الموت على باله، علاوة على أنه من أشجع فرسان مصر وأنجبهم ومن ذوي العزم الشديد ولكنه كان يتخوف منه ويخشاه ولذلك رسم له أن يتوجه إلى دار الأمير أزدمير الداودار وإن يقابله هناك أمير المؤمنين الخليفة المستمسك بالله يعقوب والقضاة الأربعة وبعض الأمراء، فإذا انعقد المجلس اخذوا عليه المواثيق والإيمان بالطاعة لسلطانه؛ وقد تم ذلك. ثم لبس الخلعة وخرج بموكب من القاهرة وهو يحمل التقليد بنيابة دمشق.

ويرجع ذلك الشك لأمرين ما سبق من تحالف سيباي وانضمامه لحركة قيت الرحبي المطالب بالعرش، وبما اتصل إلى علم الغوري من بعض المنجمين من أن الذي يلي الحكم بعد الغوري يبدأ اسمه بحرف السين. فأخذها السلطان على سيباي وتطير من اسمه، وأصبح لا يأتمنه ولا يصغي لنصائحه ولا يأخذ بأقواله.

ولما تولى سيباي النيابة عن مصر بالشام واضطلع بالأمور حتى علم بما بين خير بك نائب مصر بحلب والسلطان سليم العثماني من اتصالات مكتومة وبالمكاتبة، فأبلغ الخبر فوراً إلى بلاط القاهرة؛ ولكن الغوري لم يأخذ الأمر جدياً بل اعتمد على قوة المصريين في الحروب وثقته بما سبق أن أبدوه من البسالة في حروبهم أيام قآيتباي وانتصاراتهم المتتالية بقيادة (أمير الجيوش) أوزيك أتابك العساكر المصرية. ثم لعدم ارتياحه لكل ما يأتي من حامل حرف السين. وأخيراً لأن خبر بك نائب حلب وسيباي كان يشغل هذا المنصب قبله ولابد أن بين الأميرين أشياء.

ولم يكن ذلك من المصلحة لأن التغاضي عن نائب حلب جرأ الغزالي نائب حماه الذي قلد زميله في الشمال ولم يحدث طول تاريخ مصر أن تجرأ العمال والنواب على الاتصال بالأعداء كما حدث في تلك الأيام، بل يذكر لنا التاريخ بعض الأمراء الذين حاولوا شيئاً من

ص: 28

ذلك فعوقبوا بما يستحقون.

وقد ظهر علمه وفضله أيام نيابته بالشام، فكان يجمع العلماء عنده في كل ليلة جمعة يتذاكرون بين يديه في أنواع العلوم والفقه وأعد لهم سماطاً كبيراً. ولما توترت العلائق مع العثمانيين كان من رأيه إلا يخرج السلطان من مصر، بل يبقى بها يمد الجيوش وهو في مأمنه حتى لا تتعرض البلاد للأخطار. وفي سبيل ذلك تحمل الكثير، وجاءت النتائج محققة لظنه مؤكدة حسن فراسته وبعد نظره، ولو أخذ برأيه لما وقعت الكارثة ولما زالت عظمة مصر والشام من التاريخ

وقد ذكر ابن إياس وغيره شيئاً من ذلك فقال أنه بعث إلى الغوري برسالة جاء فيها: (يا مولانا السلطان، أن الغلاء شديد بالبلاد الشامية وفيها نقص العليق والتبن، والزرع في الأرض لم يحصد، وليس ثمة عدو متحرك فلا يترك السلطان سره ولا يسافر، وإن كان ثمة عدو فنحن له كفاية) فلم يلتفت السلطان لكلامه واستمر على رأيه

ولم تكن القاهرة مرتاحة لخروج السلطان، فأخذوا يعيبون عليه أنه خالف ما اعتاد عليه الملوك السابقون في أشياء كثيرة من ترتيب الجيوش وجمعها، وأخيراً قالوا أنهم كانوا يخرجون في فصل الربيع والوقت رطب. أما الغوري فقرر سفره في فصل الصيف والجو في شدة حرارته. ثم أذاعوا أن الملوك إذا ذهبوا للجهاد كانوا يخرجون من الجهات النائية ولا تشعر القاهرة بمواكبهم إلا في عودتهم من ميادين القتال. وقد خالفهم الغوري في ذلك فشق العاصمة بموكبه عند سفره.

ولكن السلطان لم يكن ليلتفت لشيء من ذلك بل بقي متمسكاً برأيه في جميع الأمور ونفذ ما يريد.

وتحرك ركاب آخر سلاطين مصر والشام ومعه الجيوش المصرية في يوم الجمعة 20 ربيع الآخر سنة 922هـ قاصداً الشام عن طريق الريدانية فسر ياقوس ثم الصالحية فقطيا إلى غزة التي أقام بها ثلاثة أيام.

ويقول المحلي: (ولما كان السلطان في غزة وردت إليه مكاتبة من الأمير سيباي يذكر فيها: الذي يعرضه المملوك على المسامع العالية أعلاها الله تعالى وأدامها أن العبد سمع بأن السلطان يريد السفر لقتال ابن عثمان، وإن المملوك يقوم بهذا الأمر ويكون السلطان مقيما

ص: 29

بمصر ويمد المملوك بالعساكر المنصورة. والذي يعلم به مولانا السلطان أن خير بك ملاحي علينا ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل حين) فرد عليه الغوري هانحن قد جئناكم بأنفسنا. ثم أمر برحيل الجيوش والعساكر وهم يموجون كالبحر الزاخر.

في يوم الاثنين 18 جمادي الأولى سنة 922 استقبلت دمشق العاصمة الثانية الملك الأشرف أبا النصر قانصوه الغوري، وقد حفظ لنا التاريخ وصف ذلك اليوم الخالد فقالوا: إن موكبه دخل من باب النصر وشق المدينة وخرج منها إلى ناحية القابون العليا، حيث كان معسكر الجيش وأقام تسعة أيام بمصطبة السلطان. ولم يتفق مثل موكبه لسلطان من سلاطين مصر بعد الأشرف برسباي سنة 826 هجرية فدقت البشائر بقلعة دمشق - وكانت عامرة - وزينت المدينة أجمل زينة وفرشت شقق الحرير تحت أرجل خيله ابتداء من جامع سيباي، ويذكر ابن إياس أن قنصل الفرنجة بدمشق وتجارهم اشتركوا مع الأهلين في الترحيب بملك مصر ونثروا دنانير الذهب عليه وجاء رئيس دار الضرب بدمشق المحروسة المعلم صدقة الإسرائيلي، فنثر نقوداً من الفضة جديدة ضربت لهذه المناسبة السعيدة.

وكان سيباي قد خف إلى ناحية سعسع على طريق مصر، وقيل إلى طبريا لاستقبال الغوري، ولما دخل دمشق كان بجوار السلطان يحمل له القبة والجلالة، كما جرت بذلك المراسيم المعتادة للملوك المصريين

وسار الغوري إلى حلب ومعه سيباي وأمراء الشام، وهناك تجمعت جيوش ممالك مصر والشام وحلب استعداداً ليوم مرج دابق - وليس هنا موضع درسه ولا بحثه - وإنما نذكر حادثة وقعت هناك أن دلت على شئ، فهو جرأة سيباي وصراحته المتناهية، وهي أن والي عين تاب، وكانت من أعمال مصر، انضم إلى العثمانية، فلما رأى أهبة المصريين ندم على ما فعله، وجاء إلى السلطان منضماً إليه تائباً، فلم تجز عليه حيلته، وأعدم لتسليمه المدينة، وكان ذلك بحضور الأمراء والنواب والأعيان، فقام من بينهم سيباي وقبض على خير بك نائب لب وجره بين يدي الغوري وقال:(يا مولانا السلطان أن أردت أن ينصرك الله على عدوك فأقتل هذا الخائن) فقام الغزالي وقال (يا مولانا لا تفتن العسكر ونبدأ في قتال بعضنا بعضاً: وتذهب أخباركم إلى عدوكم ويزداد طمعه فيكم وتضعف شوكتكم

ص: 30

والرأي لكم!)

والتفت السلطان نحوهم وطلب إليهم (بأن يتحالفوا ثانياً، وألا يخون منهم أحد، والخائن يخونه الله تعالى وعليه لعنة الله) ثم أمر بأن ينادي بالرحيل، وتحركت القوى إلى حيث تلقى جموع العثمانيين في شمالي حلب على بعد ثلاثين كيلو متراً في وسط سهل مرج دابق ليوم من أيام مصر السود، وهو يوم الأحد 25 رجب سنة 922، وهناك كان مثوى ملك الأمراء سيباي آخر من حكم دمشق باسم مصر

في يوم شديد الحر وقد انعقد الغبار حتى صار لا يرى المقاتلون بعضهم بعضاً خطت الأقدار حكماً ضد مصر وجندها فخسروا المعركة بعد يوم لعبت فيه البطولة والخيانة وعظمة النفس مع الكيد وسوء الظن معا، وكان على رأس جند الشام سيباي في ميمنة الجيش يقاتل قتال المستميت، ويصادم مع أمراء مصر لكسب معركة خاسرة. قال المحلي:(ولكنهم مع قلتهم أوقفوا هذا الجيش العظيم ولم يقدر أحد منهم أن يتقدم). وفي مواجهة العدو وتحت لأمة الحرب سقط أمير الأمراء سيباي الكافلي مع من استشهد في وطيس ذلك النهار.

ماذا كان من أثر ذلك اليوم؟ كان أن أصبحت مصر العظيمة تحت الجزية بعد أن أمضت القرون تفرض الجزية على غيرها.

وفي حارة من حارات دمشق على رأس شباك من زاوية يطلق عليها اسم زاوية السلطان عمر بن عبد العزيز أبقى الزمن هذا المرسوم بالخط النسخ المملوكي منقوشاً على الحجر

(مما رسم بالأمر الكريم العالي المولوي السيفي سيباي مولانا ملك الأمراء كافل الشام المحروسة اعز الله أنصاره بأبطال المظلمة المحدثة على حارة القنوات بسبب واقع في النهر وبأبطال الجبايات والحماية وشيخ الحارة). تلك تحية من الزمن لمصر الخالدة!

أين عظامه؟ أين تراثه؟ أين الأوقاف التي أرصدها على مدرسته بدمشق؟ أين آثاره بحلب؟ كل ذلك ذهب مع الريح!

لا لم يذهب شئ، إن سيباي وغيره باقون مع الزمن، لأن الدروس التي نتلقاها من الموت والهزيمة أقوى وأشد وقعاً من دروس النصر والغلبة، وراحة البال والطمأنينة.

أحمد رمزي

ص: 31

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان

ص: 32

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

الفيتامينات تغذي عقلك أيضاً

سمعت طبعاً عن الفيتامينات وضرورتها للحياة السعيدة وللصحة الجيدة. وعرفت أن الجسم الذي يعاني نقص منها يعاني من الآلام والعلل ما لا يتيح له مواصلة الحياة. ولكنك لم تعرف أن العلماء اكتشفوا أخيراً أنها غذاء العقل أيضاً. وإن نقصها يؤدي إلى حالات مختلفة من الاضطراب العقلي فيصاب الإنسان بالقلق وضعف الذاكرة وسرعة التعب وعدم الرغبة في العمل كما يحس بالآم خفية في مفاصله وظهره ويفقد شهيته.

وقد يكون الضعف التناسلي نتيجة لنقص أحد أنواع الفيتامينات المتعددة. بل هناك نوع من الفيتامين ينظم قدرة الإنسان الجنسية. وأولئك الذين يعانون نقصاً في الفيتامينات هم في الواقع أقل قدرة على مواجهة الحياة وأكثر تعرضاً للفشل لأنهم محرومون من صحة الجسم وسلامة العقل.

ولكي ندرك تأثير الفيتامينات على العقل يجب أن نعرف عملها في الجسم. فالفيتامينات إحدى الهبات التي نجدها في منتجات الطبيعة من الأغذية والخضراوات التي نأكلها مثل البيض والكبد واللبن والقمح والطماطم والفواكه وغيرها. وتيسر منذ سنوات قلائل الحصول على هذه المواد بالطرق الصناعية فانتشرت مركباتها في الصيدليات كحبوب أو كحقن تستخدم لعلاج حالات نقصها أو للتغلب على بعض الأمراض الناشئة.

ولا يحتاج جسم الإنسان إلى مقادير كبيرة من هذه المواد الضرورية فما نحتاجه من فيتامين (ب) المعروف اسم الثيامين لا يتجاوز جزاءاً من ألف من الأوقية في اليوم الواحد، أي أن أوقية واحدة من الفيتامين تكفيك ثلاث سنوات أو تكفي ألف شخص ليوم واحد.

وعمل الفيتامينات في جسم الإنسان أنها تساعد على تحويل المواد الغذائية التي تتناولها إلى نشاط جسماني وعقلي. وبغيرها لا يستفيد الجسم شيئاً من المواد التي نأكلها. وقد اكتشف الطب والكيمياء عشرة أنواع من الفيتامينات مرتبة على الحروف الهجائية تبعاً لوقت اكتشافها. ولا يزال العلماء منهمكين في اكتشاف أنواع أخرى منها.

وأكثر الفيتامينات تأثيراً على العقل هو فيتامين ب بأنواعه الستة، ولأثنين منها تأثير خاص

ص: 33

على العقل وهما الفيتامين والنيكوتين. وتوجدان بكثرة في الخمائر والكبد والبيض. وأيسر طريق لتعاطي هذين النوعين من الإقبال على حبات الخمائر المجهزة المعروفة في الصيدليات، فإن تعذرت فعليك بإحدى خمائر الأفران الإفرنجية أذبها في قليل من الماء المحلى بالسكر واشربها في الصباح وفي المساء فتحصل على كمية وافرة من الفيتامينات التي يحتاج إليها جسمك وعقلك.

وظواهر نقص الفيتامين تبدو من تنمل الأطراف، فإن كانت الحالة حادة شعرت بألم في يديك وقدميك. ويبدو هذا الألم في الغالب كأنه التهاب لا تعرف سببه. وأحياناً يخطئ فيظنه نوعا من الروماتزم. ويلاحظ في الوقت ذاته أن الإنسان يحس بالتعب السريع والضعف إن هو اجهد نفسه.

ومن نتائج نقص الفيتامين أيضاً المرض العرف بالنورستانيا. وظواهره مختلفة متباينة من ميل إلى الخمول أو فقدان الشهية والذاكرة والأرق، كما يبدو الإنسان مغموماً ورأسه مثقل بالهواجس، ولا تكون هذه الظواهر شديدة حادة ولكنها تكفي لأن يشعر الإنسان أنه مريض أو متوعك المزاج.

فإن أقبل المريض على تعاطي نوع جيد من مركبات الخمائر فانه لن يلبث أن يدهش للتقدم السريع الذي يحصل عليه في أيام قلائل فانه سيحس بانتعاش عاجل، وبتطور غريب يعيده إلى حالته الطبيعية.

وثاني أنواع الفيتامين تأثيراً على العقل هو المعروف باسم حامض النيكوتين وتركيبه الكيمياوي قريب من نيكوتين التبغ. وقد تكلمنا عن نقصه في مقال سابق عن البلاجرا وذكرنا مدى انتشارها في بلادنا.

ولم يكشف العلم الغطاء تماماً عن أسرار فيتامين حامض النيكوتين وإن كانت ظواهر البلاجرا من إسهال وميل إلى النحافة وظهور الالتهابات الجلدية وغيرها من الآلام التي يعانيها الجسم من النتائج الثابتة لنقصه.

ولا يعنينا في هذا المقال أن نتحدث عن الظواهر الجسمانية بل أن ما يهمنا هو الظواهر العقلية التي يحس فيها المصابون بقلق وعدم اطمئنان فهم يخشون شيئاً لا يعرفون ما هو ويغلب عليهم الاضطراب والميل إلى التقلب وصعوبة التفاهم ولا يستطيعون السيطرة على

ص: 34

عواطفهم، فما أسرع ما تبكيهم وما أسرع ما تضحكهم، تغضبهم ضوضاء حركة المرور، وإقفال الأبواب بعنف. وقد يثيرهم سماع الراديو ويتعب أنظارهم الضوء الوهاج.

فإذا كانت الحالة حادة أوجدت فيهم استعداداً للجنون فلا مفر من نقله إلى المستشفيات العقلية. وعلاج هذه الحالة إذا لم تؤد إلى حالة أخرى هو طبعا تعاطي فيتامين حامض النيكوتين.

والمواد الكحولية والمسكرات تؤدي إلى نقص الفيتامينات في الجسم لأن المعدة تستهلك كمية أكبر لتوازن كيماويات الكحول ولتعادل تأثيرها فضلا عن أن الجسم نفسه يحتاج إلى مقدار أوفر من فيتامينات ب. فإن وصلت حالة النقص إلى تأثيرها الحاد اختلط العقل ورأى المصاب أشباحاً وحيوانات مخيفة تسبح فوق رأسه وتكتنفه من كل جانب، ومن الضروري في هذه الحالة حقن المصاب بكميات كبيرة من فيتامينات ب. وهذا العلاج في الغالب يؤدي إلى تحسن ملموس.

ومن الخطر أن يهمل الإنسان نفسه أن أحس بنقص هذه المواد الحيوية لأن النتائج تكون في الغالب وبيلة. وقد تنفع في علاجها في أول الأمر بضع حبات من الفيتامين المطلوب فإن أزمنة فإنها ستنقلب إلى أمراض أخرى يتعذر شفاؤها ولا سيما أن الأمراض العقلية من أعسر الأمراض علاجاً، وقال بعض الأخصائيين أن علاجها ليعود الإنسان إلى الحالة الطبيعية ولا يتجاوز الثلاثة في المائة.

الأشرطة السينمائية واختبار نجاحها

توصل الدكتور جورج جالوب إلى اختراع آلة تسجيل استجابات الجمهور من نشوة أو ابتهاج أو استسخاف حيال مسرحية أو شريط سينمائي وتسجيل هذه الآلة احساسات كل فرد من المشاهدين على لوحة من الورق حيال كل منظر من مشاهد الشريط. وبتطبيقها على مفتاح للشريط يعرف منتجوه أي أجزائه حاز القبول أو الاستهجان.

وبعد انتهاء عرض الشريط أو المسرحية تجمع الآلة استجابات الجمهور وتوضحها في خمس درجات وهي (مقبول) و (مقبول جداً) و (محايد) و (سخيف) و (سخيف جداً).

وطريقة استخدام هذه الآلة أن يجلس الجمهور في الحفلات الأولى كالمعتاد ويمسك كل مشاهد بيده آلة صغيرة متصلة بالآلة الكبيرة فتسجل إحساسه في كل مشهد يراه على شريط

ص: 35

من الورق. وتعتمد الآلة في تسجيل هذه الاحساسات على اهتزازات الإنسان المختلفة حيال المشاهد المختلفة، فللفرح هزته، وللانتعاش هزته أيضاً.

وقد توصل العلماء الأمريكيون من زمن إلى تحليل ظواهر الاحساسات النفسية. ويقسم الدكتور جالوب رواد الملاهي أيا كانت ثروتهم أو فقرهم إلى 42 قسما من مختلف الأعمار والميول.

ويتوقع أصحاب الملاهي لهذه الآلة مستقبلا باهراً كما يتوقعون انتعاشاً كبيراً لأعمالهم فعلى هديها يتاح لهم أن يقدموا للجمهور ما يحتاج إليه من متع. وغنى عن القول أن هذه الآلة سوف تطلعهم على مواطن الضعف في مباهجهم فيعدلونها بما يناسب طلبات الجمهور وذوقه.

وقد اختبرت هذه الآلة حتى الآن 45 شريطاً سينمائياً وصححت بعض الأشرطة بعد اختبارها بهذه الآلة فارتفعت من مرتبة ضعيف جداً إلى نجاح كبير.

فوزي الشتوي

ص: 36

‌رسالة الفن

11 -

الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

عن الأمس وعن اليوم (تابع)

فقلت وأنا أطبق ما شرحه صديقي على التماثيل التي أمامنا:

(لابد وأن يكون صعباً على المرء أن ينفذ إلى أعماق نفوس الآخرين على هذا النحو).

(نعم لا ريب في ذلك) ثم عاود حديثه في شئ من التهكم:

(ولكن أكثر الصعاب التي تصادف الفنان الذي يمثل تمثالا أو يصور صورة لا تأتي من ناحيته ولكن من ناحية العميل الذي يعمل له الفنان. إن الإنسان الذي يطالب الفنان بعمل مثال له يشابهه تمام المشابهة لهو الذي يعنت الفنان عنتاً شديداً بقانون عجيب قاتل. إذ قلما يستطيع امرؤ أن يرى نفسه على حقيقتها، وإن هو استطاع ذلك فانه يأبى على الفنان أن يظهره على تلك الحقيقة. بل يريد منه أن يظهره بمظهر مبتذل تافه. أنه يود أن يبدو كاللعبة التي تحركها الخيوط، يسره أن يظهر بالوظيفة التي يؤديها أو بالمركز الذي يشغله في الهيئة الاجتماعية، وإن يمحى الرجل الذي فيه محواً تاماً. فيرغب الحاكم أن يرى ثوبه المنمق، والقائد عباءته الموشاة بالذهب ولكن قلما يعني أحد منهم بأن تقرأ أخلاقه ونفسيته من صورته.

وفي هذا ما يفسر نجاح الكثيرين من أوساط المصورين والمثالين الذين يقنعون بإبراز المظهر الذي لا يدل على شخصية عملائهم كملابسهم المزخرفة وهيئاتهم الرسمية. أولئك هم الفنانون الذين لهم الحظوة الكبرى لدى الجمهور لأنهم يسدلون على مثلهم ستراً من العظمة والأبهة. وكلما زادت تهاويل الصورة وتزاينتها كانت أقرب إلى اللعبة الجامدة المزوقة، وازداد ارتياح العميل إليها.

ربما لم يكن هذا كذلك في كل الأحوال. إذ يظهر أن بعض سادة القرن الثامن عشر مثلا كانوا يطربون لرؤية أنفسهم مصورين على هيئة ضباع أو نسور على ظهر أنواط من تلك

ص: 37

التي كان يصنعها بيزانللو. كانوا ولا شك فخورين بشخصياتهم أو بالحري كانوا قد أحبوا الفن وأجلوه، واستساغوا صراحة الفنان الجافة النابية كما لو كانت جزاء موقعاً من رئيس روحي.

لم يتردد المصور تيتيان في إظهار أنف الباب بولس الثالث على هيئة فنطسية ابن عرس، ولم يحجم عن إيضاح غطرسة شارل الخامس الجافية، أو عن تبيان شهوانية فرانسوا الأول. ومع كل ذلك لم يفقد مكانته أو شهرته لديهم. كذلك كان شأن فلاسكويز الذي لم يملق الملك فيليب الرابع فصوره كرجل غفل خامل برغم ما يبدو عليه من الظرف وحسن الشمائل؛ ولم يتحرز من إظهار فكه المتدلي، ومع ذلك استبقى حظوته لديه فاستحق بذلك الملك الأسباني الإجلال والإكرام من الأجيال القادمة لأنه كان نصير العبقرية وملاذها.

أما رجال اليوم فقد أصبحوا يخشون الحق ويحبون الكذب. ويبدو منهم أنهم يمقتون رؤية أنفسهم على سجيتها في الصور والتماثيل. كلهم يريد أن تكون عليه سيما التجمل والتزين.

حتى أكثر النساء جمالاً ممن لهن قسمات مليحة ممتازة يستبشعن جمالهن وينكرنه عندما يبرزه مثال نابه. فتراهن يضرعن إليه أن يجعلهن دميمات بأن يضفي عليهن ملامح كالتي تبدو على عرائس الأطفال ودماهم.

وعلى ذلك، فعلى المثال الذي يشرع في عمل تمثال أن يخوض غمار معركة طويلة مضنية. وكل ما يهم في الأمر إلا ينكص على عقبيه أو يضعف أو يهن بل يظل ثابتاً مخلصاً لنفسه. فإذا ما رفض عمله زاد الطين بلة. وربما كان الخير في ذلك لأنه غالباً ما يكون لذلك العمل مزايا عظيمة.

أما العميل الذي يقبل قطعة طيبة على غير مشتهاة ورضاه، فانه لا يلبث أن يغير شعوره نحوها عندما يمتدحها الهواة، وينتهي به الأمر أخيراً إلى الإعجاب بها، وبعد ذلك يعلن في صراحة أنه كان يحبها ويقدرها دائماً.

وفضلا عن ذلك أن أروع التماثيل هي ما صنعت للأهل أو للأصدقاء بلا مقابل، وليس ذلك لأن الفنان يعرف مثاله معرفة طيبة من طول النظر إليه ومحبته له فحسب، بل لأن مجرد شعوره بإهداء عمله إليه يطلق له عنان الحرية في العمل.

ومع ذلك فقد رفضت أحسن التماثيل عندما وهبت للأصدقاء بغير مقابل، وعلى الرغم من

ص: 38

أنها قطع خالدة، فقد أعدت إهانة للمهدى إليهم. ينبغي على الفنان أن يسير في طريقه قدماً، ويجد تمام لذته وحسن جزائه في أن يقوم بعمله على خير الوجوه وأحسنها)

لقد تابعت باهتمام كبير نفسية الجمهور الذي يتصل به الفنان ولكن يجب علي أن أثبت هنا أن كثيراً من المرارة كانت تمازج تهكم رودان، قلت له:

(ولكن يظهر يا أستاذ أنك أغفلت تجربة من تجارب حرفتك، وهي أنك تصنع تمثالا لعميل لا يحوي رأسه تعبيراً ما أو ينطوي على غباوة ظاهرة. فضحك رودان من قولي ثم أجب:

(هذا لا يمكن أن يحسب في عداد التجارب. ثم لا يجب أن تنسى مبدئي الذي أستمسك به دائماً وهو: أن الطبيعة جميلة أبداً. وليس علينا إلا أن نفهم ما تظهره لنا. أنك تتكلم عن وجه بلا تعبير. وفي الواقع لا يوجد مثل هذا الوجه لدى الفنان الذي عنده أن كل رأس يدعو إلى الاهتمام. دع مثالا يلحظ وجها غفلا ساذجا، أو دعه يظهر لنا معتوهاً منصرفاً إلى العناية بمظاهر دنياه فنرى منه تمثالا جميلا رائعاً.

(ثم أن ما يسمى (بالسطحية) غالباً ما يكون شعوراً غير مكتمل بالنسبة لنقص التعليم والتهذيب وفي تلك الحالة يتخذ الوجه مظهراً غامضاً جذاباً لعقلية تبدو كأنها مقنعة بقناع شفاف).

(وأقول أخيراً. . . ولا أدري وايم الله كيف أفصح عما أريد أن أقول - إن أحقر الرؤوس شاناً، وأقلها خطراً ما هو إلا مستكن لتلك القوة السحرية العجيبة - الحياة. وعلى ذلك فهو معين لا ينضب لعمل الطرفة الفنية الفذة).

شاهدت بعد عدة أيام بمرسم رودان في ميدون صبائب لكثير من تماثيله البديعة. وهناك انتهزت الفرصة وسألته أن يوقفني على الذكريات التي تبعثها تلك التماثيل. كان هناك تمثال فيكتور هوجو - غارقاً في بحار التأمل، جبهته المجعدة كأنها البركان، وشعره الأشعث كأنه ألسنة لهب أبيض تندلع من جمجمته. . . أنه تمثيل صادق للشعر الغنائي الحديث من حيث عمقه واصطخابه. قال رودان:

(إن صديقي بازير هو الذي قدمني لفيكتور هوجو وعرفني به. وكان بازير كاتم سر جريدة المارسيز ثم جريدة الانتران سيجان فيما بعد. وكان يعبد فيكتور هوجو. وكان أول من فكر في عمل حفل سنوي للشاعر العظيم بمناسبة عيد ميلاده الثمانين. وكان الحفل كما

ص: 39

تعلم هادئاً رائعاً. فقد أشرف الشاعر من شرفة منزله يحي الجماهير الغفيرة التي قصدت منزله تطلب مشاهدته. فكان كأنه البطرك يبارك شعبه. ومن أجل ذلك اليوم احتفظ هوجو بامتنان عظيم لذلك الرجل الذي دعا إلى الحفل ونظمه. وهكذا استطاع بازير أن يقدمني إليه في غير مشقة. ولسوء الحظ كان فيكتور هوجو مبتوراً من مثال وسط أسمه فيلان اضطره إلى جلوس ثمان وثلاثين جلسة أخرج له بعدها تمثالا رديئاً. ولهذا فإني عندما تقدمت إليه متعثراً بأذيال الخجل، مبدياً له رغبتي في تخليد قسمات مؤلف (التأملات) قطب حاجبيه الأوليمبيين وقال: (أنا لا أستطيع أن أمنعك من العمل، ولكني أصارحك القول أنني سوف لا اجلس إليك وسوف لا أبدل عادة من عاداتي من أجلك، فدبر أمرك وتخير أداتك.

(يتبع)

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 40

‌من وحي إنكلترا

نهر الجمال

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

في مقاطعة دنفونثير الجميلة بإنكلترا مفاتن من الجمال الطبيعي؛ وأحد هذه المفاتن نهر (الأكس) الذي ينبع من مرتفعات ديفون مارا بمدينة إكستر. وهنا يناجيه الشاعر بهذه الأبيات: -

ألفيتُ في واديك أُنسا

وصفاء عيش ليس يُنسى

أمسٌ طوته يدُ الغي

وب فمن يردُّ إلىَّ أمسا؟

أودَعتُ تلك الذكريا

تِ لديك بالكتمان رمسا

فاحفظْ وديعتَك التي

خُلِسَت الأيام خلسا. . .

خلتُ الحياةَ على ضفا

فك لا تزولُ ولا تضيعُ

فإذا الحياةُ قصيرةُ

وإذا البطيءُ بها سريعُ. . .

وإذا الليالي الذاهبا

تُ لديك ليس لها رجوعُ

لا دام يا نهرُ الشتا

ءُ بها. ولا بقيَ الربيعُ

سيَّانِ منبعكَ الموشَّى

بالبدائع أو مصُّبك

أين الذي روَّيتَه

ماَء الحياةِ ولا يحبُّك؟

وعلى ضفاف النيل ظَمْ

آن مُناهُ لو يعبُّك!

القلبُ بَاحَ بسرِّه

أفهل يبوحُ اليومَ قلبُك؟

تلك الهضابُ الحانيا

تُ على ضفافك لا تزال؟

وعلى صحيفتك المُضي

ئة لم تزل تلك الظلالُ؟

وهل الليالي المُقْمِرا

تُ هناكَ يُحْيها الوصال؟

حيث القلوبُ تشبُّ جذْ

وتها ويَسْتعرُ الخيال؟

أين الطيورُ الرائحا

تُ على مياهك والغوادي؟

تلهو الصغارُ بها وتُط

عمها الوليدةُ بعضَ زادِ

هي آمناتُ السربِ تَمْ

رَحُ تحت أكناف العباد

ص: 41

هل فرَّقتها اليومَ غا

رات الوحوش على البلاد؟؟

هل ظلَّ منبعك الغزي

ر من الشَّمالِ كما رأينا؟

وهل المصبُّ كما افترق

نا في رُباه أو التقينا؟

والصخرة الحمراءُ هل

بقيت كما كانت علينا؟؟

أين السبيلُ إليكَ يا

نهر الأحبة أين أينا؟؟

محمد عبد الغني حسن

ص: 42

‌يا شعر!

للمرحوم أبي القاسم الشابي

يا شعر! أنت فم الشعور، وصرخة الروح الكثيب

يا شعر! أنت صدى نحيب القلب، والصب الغريب

يا شعر! أنت مدامّع علقت بأهداب الحياة

يا شعر! أنت دم تفجر من كلوم الكائنات

يا شعر! قلبي - مثلما تدري - شقي مظلم

فيه الجراح النجل يقطر من مغاورها الدم

جمدت على شفتيه أوزار الحياة العابسة

فهو التعيس، به مرارات القلوب البائسة

أبداً ينوح بحرقة بين الأماني الهاوية

كالبلبل الغريد ما بين الزهور الذاوية

كم قد نصحت له بأن يسلو وكم عزيته

فأبى وما أصغى إلى قولي، فما أجديته

كم قلت: صبراً يا فؤاد! أما تكف عن النحيب!

فإذا تجلدت الحياة تبددت شعل اللهيب

يا قلب. لا تجزع أمام تصلب الدهر الهصور

فإذا صرخت توجعاً. هزئت بصرختك الدهور

يا قلب! لا تسخط على الأيام، فالزهر البديع

يصغي لضجات العواصف قبل أنغام الربيع

يا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور

فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور

يا قلب لا تسكب دموعك بالفضاء فتندم

فعلى ابتسامات الفضاء قساوة المتهكم

لكن قلبي وهو مخضل الجوانب بالدموع

ص: 43

جاشت به الأحزان إذ طفحت بها تلك الصدوع

يبكي على الحلم البعيد بلوعة لا تنجلي

غردا كصداح الهواتف في الفلاة يقول لي:

طهر كلومك بالدموع وخلها وسبيلها.

إن المدامع لا تضيع حقيرها وجليلها

فمن المدامع ما تدمع جارفاً حسك الحياة

يرمي لهاوية الوجود بكل أشواك الطغاة

فارحم مضاضته ونح معه على أحلامه

فلقد قضى الحلم البديع على لظى آلامه

ردد على سمع الدجى أنات قلبي الواهية

واسكب بأجفان الزهور دموع قلبي الدامية

فلعل قلب الليل أشفق بالقلوب الباكية!

ولعل جفن الزهر احفظ للدموع الجارية!

كم حركت كف الأسى أوتار ذياك الحنين

فتهاطلت أحزان قلبي في أغاريد الأنين

ولكم أرقت مدامعي حتى تقرحت الجفون

ثم التفت فلم أجد قلباً يقاسمني الشجون

فعسى يكون الليل أرحم فهو مثلي يندب

وعسى يصون الزهر دمعي فهو مثلي يسكب

قد قنعت كف السماء الموت بالصمت الرهيب

فغداً كأعماق الكهوف بلا ضجيج أو وجيب

يأتي بأجنحة السكون كأنه الليل البهيم

لكن طيف الموت قاس والدجى طيف رحيم

ما للمنية لا ترق على الحياة النائحة!؟

سيان أفئدة تئن أو القلوب الصادحة؟

ص: 44

يا شعر! هل خلق المنون بلا شعور كالجماد؟

لا رعشة تعرو يديه إذا تملقه الفؤاد؟

أرأيت أزهار الربيع وقد ذوت أوراقها

فهوت إلى صدر التراب وقد قضت أشواقها؟

أرأيت شحرو الفلا مترنما بين الغصون

جمد النشيد بصدره لما رأى طيف المنون؟

فقضى وقد غاضت أغاريد الحياة الطاهرة

وهوى من الأغصان ما بين الزهور الباسره

أرأيت أم الطفل تبكي ذلك الطفل الوحيد

لما تناوله بعنف ساعد الموت الشديد؟

أسمعت نوح العاشق الولهان ما بين القبور

يبكي حبيبته فيا لمصارع الموت الجسور؟

طفحت بأعماق الوجود سكينة الصبر الجليد

لما رأى عدل الحياة يضمه اللحد الكنود

فتدفقت لحناً يردده على سمع الدهور

صوت الحياة بضجة تسعى على شفة البحور

يا شعر! أنت نشيد أمواج الخضم الساحرة

الناصعات، الباسمات، الراقصات، الطاهرة

السافرات، الصادحات، مع الحياة، إلى الأبد!

كعرائس الأمل الضحوك يمسن ما طال الأمد

ها إن أزهار الربيع تبسمت أكمامها

ترنو إلى الشفق البعيد تغرها أحلامها

في صدرها أمل يحدق نحو هاتيك النجوم

لكنه أمل ستلحده جبابرة الوجوم

فلسوف تغمض جفنها عن كل أضواء الحياةِ

ص: 45

حيث الظلام مخيم في جو ذياك السبات

ها أنها همست بآذان الحياة غريدها

فتلت عصافير الصباح صداحها ونشيدها

يا شعر! أنت نشيد هاتيك الزهور الباسمة

يا ليتني مثل الزهور بلا حياة واجمة

إن الحياة كئيبة مغمورة بدموعها

والشمس أأضجرها الأسى في صحوها وهجوعها

فتجرعت كأساً دهاقا من مشعشعة الشفق

فتمايلت سكرى إلى كهف الحياة ولم تفق

يا شعر! أنت تحيها لما هوت لسباتها

يا شعر! أنت صداحها، في موتها، وحياتها

يا شعر! يا قيثارة الأحلام يا ابن صبابتي

لولاك مت بلوعتي وبشقوتي وكآبتي

فيك انطوت نفسي وفيك سكبت كل مشاعري

فاصدح على قمم الحياة بلوعتي يا طائري

أبي القاسم الشابي

ص: 46

‌البريد الأدبي

في (طبيعي لا طباعي ولا طبعي)

جاء في (اللسان): (والطباع واحد طباع الإنسان على فعال مثل مثال).

وقد ضبطت (طباع) الثانية في هذا الكتاب بالكسر، فتوّهني هذا الضبط، وظننت اللفظة المفردة جمعاً، فقلت في كلمتي (طبيعي لا طباعي ولا طبعي):(والأزهري أو غيره يقول: - كما نقل اللسان والتاج - الطباع واحد طباع الإنسان على فعال قلت: فهو عنده كهجان وهجان ودلاص ودلاص). وقد أخطأ ضابط الطباع هنا بالكسر، وأخطأت أنا في ظني أنها جمع، ومن دأب (اللسان) تكرير العبارات التي ينقلها دون تبيين كاف، والصواب هو ضبط (الطباع) الثانية بالضم، وهي تفسير لقوله (الطباع واحد)، فليست الطباع في هذه الجملة جمعاً.

محمد إسعاف النشاشيبي

بمارستان قلاوون

في الأسبوع الماضي أقام اتحاد خريجي الجامعة في ناديهم حفلة تأبين للدكتور الراحل محجوب ثابت، وقد قام أصدقاء الفقيد وزملائه وطلبته يعددون مآثر الفقيد ويترحمون عليه بما هو أهل له. ولست بصدد الكلام عن الحفلة، بل أقول أن الكلمة الختامية لهذه الحفلة كانت للأستاذ عبد العزيز عبد الحق أستاذ التربية بكلية الشريعة، وقد بين فيها ما كان للفقيد من مشروعات وبرامج إصلاحية من الوجهة التعليمية، وذكر منها: أن الفقيد كان يرمى إلى إنشاء كلية إسلامية للطب يكون مقرها مستشفى قلاوون (البيمارستان)، تلك المستشفى التي زارها كثيرون من الأجانب، والتي وعت كتب التاريخ عنها الشيء الكثير، فقد ذكرت أن الذي كان يقوم بالتدريس في هذا البيمارستان شيوخ معممون من الذين تشبعوا بالثقافة الشرعية والعلوم الإسلامية، وتكون تلك الكلية تابعة للأزهر، وهو بذلك العمل يريد أن يعيد لذلك البيمارستان ما كان له من المجد الغابر والمكانة العظيمة أيام المماليك.

تلك بعض معلومات تناولها الأستاذ عبد العزيز في كلمته ولما كان بعض القوم ليس لهم علم بهذا المشروع، وتساءلوا عنه حين سمعوه، وود البعض الآخر لو يعرفه حق المعرفة،

ص: 47

ويفهم مراميه حق الفهم، فإننا تتقدم إلى الأستاذ راجين منه أن يوضح لنا هذا المشروع الذي خفي على بعضهم، والذي أنتجته رأس مفكرة، وقريحة متقدة قبيل الوفاة!

حسين عبد اللطيف السيد

المركسية والحرية الفردية

يقول الأستاذ العقاد في مقاله (السلفية والمستقبلية) أن الحرية الفردية والتبعة الشخصية هي مقياس التقدم التاريخي، وإن الماركسية تقضي على هذه الحرية كما تقضي على التبعة الشخصية، وهو اتهام قديم طالما وجه إلى الماركسية، فالماركسية لا تنفي الفردية وإنما تنفي الانفرادية، وهي لا تهدم الشخصية ولكنها تهدم الانعزال. والانفرادية معناها تجريد الفرد من المجتمع، وعزلته عن الجماعة التي يعيش بين ظهرانيها، ومعناه إنكار أثر المحيطات والظروف الاجتماعية في حياة الفرد، ومعناها أن الدوافع الحقيقية التي تسيطر على الإنسان تظل مجهولة له، فيتخيل دوافع زائفة أو ظاهرية، ليست في الحقائق المعقولات، ولكنها المثاليات التي نحتفظ بها لا بلا شعور، ولكن بشعور زائف. وعندما تقول الماركسية بأثر التطور في وسائل الإنتاج في التطور التاريخي وفي الروابط القائمة بين بعض الأفراد، وبين الطبقات وبعض، أو على الأصح بين الطبقتين اللتين يتكون منهما المجتمع، فإنها تبنى هذا القول لا على تضارب الترهات، وإنما تبنيه على أن الطبيعة ليست أحداثاً فجائية، لا رابطة تقوم فيها بين الشيء والظاهرة، ولكنها كل مرتبط ببعضه، فيه الأشياء والظواهر مرتبطة حيوياً ارتباطاً يجعل كلا منها أساساً للآخر ومعتمداً عليه ومكيفاً له، وعلى هذا لا يمكن تجريد أي شئ في الطبيعة وأخذه لبحثه في ذاته، وعلى هذا فالانفرادية شئ يتعارض مع قوانين الطبيعة

والماركسية تؤكد الشخصية والفردية، كما تؤكد الحرية حين تقول أنها تقدير الضرورة، وحين تقول أن الضرورة عمياء ما دامت غير مفهومة، وحين تبني التحول في فهم ماهية الأشياء من كونها ذات قيمة ذاتية إلى كونها ذات قيمة لنا، وحين نقول أن الحرية الفردية إذا لم يدعمها استقلال مالي، ومستوى معيشة مرتفع، وإلغاء للملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ولاستغلال اقتصادي، تصبح لا قيمة لها. وحين تعمل على دعم الحرية بعناصرها الحقة،

ص: 48

فإن تساوي الفرص وتكافؤها هي عنصر الحرية الأول. أما الانفرادية البرجوازية، انفرادية الأبراج العاجية والأرستقراطية الفكرية والجهل المطبق بروح الجماعات وميزات الشعوب، وأما الاستقلالية البرجوازية، استقلالية الاستغلال والرجعية، وأما الحرية البرجوزاية حرية الأقلية في سلب الأغلبية ثمار عملها، هذه الانفرادية، وهذا الاستقلال، وهذه الحرية، هي التي تنادي الماركسية بهدمها وتكافح لإلغائها، لأنها تتعارض مع اجتماعية الإنسان.

إبراهيم عامر

إلى الدكتور مأمون عبد السلام

أعجبني مقالك في الرسالة (البحث العلمي) بقدر ما أفادني أنها ملاحظات عميقة وإرشادات سديدة لا غنى عنها لكل باحث متتبع. ولا سيما تلك الشروط الحكيمة التي لو سار عليها العلماء والمتعلمون في بلادنا لتقدموا في مضماري العلم والعمل على سواهم.

ذلك قولك: (فإن كشف في بحثه نقطة تخص أحدهم فليبادر بإطلاعه عليه لأن التعاون من روح العمل. وإن عثر على كتب أو نشرات تفيد أحدهم وجب إرسالها إليه لأن ذلك يبعث على توثق العلاقة ومحو التنافر وغرس المحبة والوئام بين أفراد يجب أن يكونوا أدعى الناس إلى التضامن في خدمة العلم والإنسانية).

من ذلك المقال النفيس زدتني تفاؤلا بعدم انعدام الإنسانية وكمونها في نفوس لا تزال نبراساً يستضاء به، وبلسماً للجروح المتسممة وعوناً على نهوض الضعفاء والعاجزين. . .

(نعمانية)

عبد الجبار محمود

جائزة (الكاتب المصري) للقصة

قررت إدارة (الكاتب المصري) للطبع والنشر التي يشرف عليها الدكتور طه حسين بك من الناحية الثقافية إنشاء جائزة سنوية للقصة قدرها مائة جنيه.

وهي تدعو الكتاب والمؤلفين إلى الاستباق لنيل هذه الجائزة. وستحكم بين المستبقين لجنة

ص: 49

مكونة قوامها خمسة من كبار الأدباء الممتازين في مصر - وقد حددت آخر موعد لتقديم القصة يوم 31 يناير 1946.

وهذه هي أصول المسابقة:

1 -

المسابقة مفتوحة للكتاب العرب جميعاً على اختلاف الأقطار العربية في الشرق والغرب.

2 -

الكاتب حر في اختيار الموضوع الذي يكتب فيه لا يقيد بزمان ولا مكان ولا بيئة ولا اتجاه.

3 -

يجب أن تمتاز القصة بالابتكار وقوة الخيال وجمال اللغة العربية في الشرق والغرب.

4 -

القصة التي تظفر بالجائزة ملك لشركة الكاتب المصري - إدارة الطبع والنشر تطبعها وتذيعها على أن تحتفظ لصاحبها بحق المؤلف وقدره عشرون في المائة من ثمن البيع الفعلي بعد الخصم - وهذا الحق مستمر مهما تتعدد الطبعات. وكل ذلك يجري طبقاً للنظام المعمول به في شركة الكاتب المصري والذي يستطيع كل كاتب أن يطلع عليه.

5 -

يجوز لشركة الكاتب المصري أن تطبع القصة الثانية إذا أوصت بذلك لجنة التحكيم وقبله صاحب القصة في حدود النظام الذي أشير إليه في البند السابق.

6 -

يرسل الكاتب نسختين من قصته مكتوبة على الآلة الكاتبة بعنوان شركة الكاتب المصري 26 شارع جلال - القاهرة - إدارة الطبع والنشر - ولا تقبل أي قصة تصل بعد تاريخ 31 يناير 1941.

ص: 50

‌القصص

أُم. . .

للكاتب النمسوي فنستر شيافكي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

(هذه قصة أم - فرقت عن زوجها - فحاولت وجاهدت وضحت في سبيل رفع ولدها إلى ذروة المجد. . . فهل وفقت؟. . . ذلك ما أبانه (فنستر شيافكي) في سياق هذه القصة، وهي من روائعه ويعد (شيافكي) من كتاب (النمسا) المبرزين في فن القصة، إذ يمتاز بطلاوة أسلوبه وصدق وصفه وسمو معانيه)

(مصطفى)

في ضحوة يوم رائع من خريف سنة 1844 وقفت سيدة في نافذة دارها المعروفة باسم (ستاج هوس) في حي (ليبولد ستادت) تلقي بنظرات حائرة قلقة إلى الطريق؛ وكانت تبدو فاتنة حسناء على الرغم من أنها تدنو من عقدها الرابع. . . أما وجهها فكان مجالا لانفعالات شتى تعانيها امرأة طلقها زوجها، فاضطرت إلى إعالة بنيها. . . وأخذت على عاتقها تربيتهم وتنشئتهم. . .

ويغلب على أخلاق تلك السيدة - وهي من الطبقة المتوسطة - الرَّزانة والتواضع والهدوء. . . ومع بساطة ثوبها شاعت فيه الأناقة والبهاء. . . وينبعث من عينيها شعاع يعبر عما تستران من قلق، ويجول فيهما التوسل إذا ما انحسرت أهدابهما. . .

حانت ساعة الغداء فطرح على المائدة خوان ناصع نظمت فوقه ست صحاف - صنعت في (فينا) - وتوسط المائدة زهرية محلاة بالزخارف وصفت في أنحاء الغرفة أريكة وستة مقاعد كسيت بالمخمل - وقام في أحد جوانبها صوان بأدراج نحاسية الحلقات. . . استقرت فوقه ساعة فوق قاعدة من الرخام. . . أما في الجانب المقابل فصوان آخر عليه صليب غطي بزجاج - رسمت عليه بعض الطيور المائية والبرية - ويوجد في ركن متطرف (بيان) وضعت عليه زهرية فيها زهور ذابلة أما جدران الغرفة فزينت باللوحات الزيتية. . . والصور التذكارية. . .

ص: 51

جلس في الحجرة التالية غلام في السادسة عشرة: باهت الوجه، يعلوه الشحوب. . . مكباً على لوحة للرسم وقد انصرف إلى عمله بكل حواسه. بينما جلست على مقربة منه في النافذة فتاتان تحيكان في صمت، وبعد هنيهة اندفع طفل في الثامنة من عمره إلى أمه ودفن رأسه بين ثنايا ردائها. . . وراح يئن ويصيح:(أني جائع يا أماه) فقالت الأم في تهكم وقد أضجرها بنواحه: تناول شيئاً من الملح فسوف تغدو عطشان أيضاً. . .) وراحت تحدث نفسها: (لست أدري ما الذي يفعله إلى الآن، وهو يعلم أني سأقدم إليه اليوم (طبقه المحبوب). لابد أن شيئاً مهماً عاقه عن العودة. . .)

وفي هذه اللحظة دخلت خادمة العائلة العجوز (وابي) تحمل باقة من الزهور وضعتها على المائدة، فسألتها سيدتها في دهشة:

- من ذا الذي بعث بتلك الزهور الجميلة؟!

- أنها من لدني يا سيدتي، وسأهديها إلى سيدي (جوني). . . فاليوم من أدق أيام حياته، ولكني متأكدة من رضائه. . . لقد قال لي عندما تركنا هذا الصباح (انظري يابتي) فهو يناديني (ببتي) لا (وابي) كالآخرين، فهو طيب القلب. . . قال:(انظري يا بتي) إذا عدت بأقدام ثابتة راسخة وفي سترتي زهرة فاعلمي أني نلت ما كنت أطمع إليه، وإذا كانت ساقاي متخاذلتين والزهرة في قبعتي. . . فهذا معناه الفشل والإياب بخفي حنين. . .)

فقالت سيدتها: (ولكنه لم يطلعني على شئ مما تقولين. . . يا إلهي لو أنه نال الإذن الذي يوده! أني لخائفة من رفض طلباته لأني سوف أكون الملومة، فقد كنت أستحسنه وأقف إلى جانبه ضد أبيه. . .)

- أنت مخطئة في زعمك. . فسوف يجاب إلى طلبه وينال بغيته.

- أني لست خائفة من ذلك، فهو لا يهتم بالجيش كاهتمامه بتكوين فرقة موسيقية. . . ولكن. . . ماذا سيؤول إليه أمره أن هو فشل؟ سوف يفقد آماله في العثور على وظيفة في الجيش. . . ويعود إلى البحث عن عمل موسيقي حقير في المطاعم. . . وهذا النوع من الأعمال. . . آه طالما حذره والده من ذلك. . . عن تلك الأعمال شاقة جداً وأفقها ضيق، فواحد في المائة هو الذي ينال مأربه ويرتقي إلى ذروة المجد. . .) فقاطعها يوسف بعد أن ترك لوحة الرسم قائلا:

ص: 52

- ولكن جوني سيكون ذلك الشخص. . . فهو عبقري. . . وقد عزف لي لحنه (الولس) الجديد البارحة. . . ولم أسمع من قبل شيئاً يسيطر على النفس ويملك الفؤاد كذلك اللحن. . .

- أصبت يا بني، فهذا اللحن جعلني أضحك وأبكي في آن واحد. . . أنه ليذكرني بلحن أبيه. . . ولكن لحن جوني يداخله شئ من الحرارة. . . شئ من - لا أدري بماذا أعبر. من المؤكد أني لم أكن مخطئة عندما تشاجرت مع أبيه في هذا الشأن. . . لأني أعتقد أن جوني لا يقل عن أبيه عبقرية ونبوغاً. . . أني أعرف بعض الشيء عن هذا اللحن؛ لأن أباك كان يعزف لي أحياناً أنغامه الجديدة في ركن من الحديقة عندما خطبني. . . كنت أصاحبه بالعزف عل قيثارتي. . . وكان يرجع تلك الأنغام ويعيدها حتى تبلغ شأو الإتقان.

- لست أدري سبباً لتلك القسوة التي يصبها والدنا على (جوني)

- ليس من شأنك أن تتحدث عن أبيك أيها الأحمق. . . ربما كان على حق؛ ولكن قلبي لا يدعني في سلام. إن ذلك يعني كل السعادة لذلك الفتى. فبهذا يخبرني قلبي. . .) فصاحت (وابي) في اضطراب.

- هه. . . هاهو سيدي جوني ينحدر إلينا في الطريق. . . ولكن لا أستطيع أن أتبين أن كانت الزهرة في سترته أو في قبعته!) فقالت الأم في مرح:

- أنها لا شك أنباء سارة. . . فها هو يشير بيده إلي.

الزهرة؟ أين الزهرة؟

- أنها من المؤكد في سترته. . .

وبعد لحظات هرول (جوني ستروس) وهو شاب في التاسعة عشرة ذو قوام نحيف وشعر أسود وعينان براقتان. . . وصاح وهو يمسك بورقة في يده: (نلته. . . نلت الإذن. . .) فقالت الأم وهي تتهالك على مقعد:

- (شكراً! شكراً يا الهي. . .) فركع جوني إلى جانب كرسيها. . . وراح يمطر يديها بالقبل. وصاح في حماسة:

- آه يا أماه. . . إن ذلك كله يرجع إلى فضلك أنت. . . أيتها الأم العزيزة. سترين كيف أني سأشرف لقب العائلة. . . أني لتجري في عروقي دماء آل (ستروس) إن رأسي يموج

ص: 53

بالأنغام، منها ما يحزن ومنها ما يفرح. . . إن عائلة ستروس ستفخر بي. . . ولن تهدأ ثائرتي حتى أضيف إلى مجدها التالد مجداً طريفاً. . .

- (إذن فقد نلت الإذن للظهور أمام الجمهور. . .) ولكن ما لبثت الأم أن قالت في لهجة حزينة: (لست أدري كيف يتلقى أبوك ذلك النبأ!) فأجاب جوني في غير مبالاة:

- ليس هناك من يكترث لما يقوله أبي. . . كم كنت حزيناً عندما أخبروني أنه يجب أن أحوز موافقة والدي. . . لولا أن السيد (بال) ذلك الحاكم الطيب جعل الأمر في غنى عنها. . . والآن ليس هناك ما يعوق ظهوري أمام الجمهور مديراً لإحدى الفرق الموسيقية. . . أتعلمون ما الذي سيعود علي من ذلك؟! الحرية. . . الشهرة. . . المجد، حياة ترفع الإنسان فوق ذلك العالم الخامل. وداعاً أيتها السجلات. . . لقد حطمت قيودي بعزمي الراسخ واعتدادي بنفسي. . . ضعوني على منصة المدير ودعوني أنصت إلى التصفيق. . . ثم استمعوا إلى تلك الألحان العذبة الشجية التي ستنساب في تسلسل. . .)

وأخذ - في نشوة تلك الحماسة - يراقص والدته ثم خادمته العجوز (وابي).

خيم الصمت على الجميع حول المائدة ما عدا جوني الذي طفق يتحدث عن مشروعاته: -

سأطلق على لحني الجديد اسم (قلب أم) وسنعزفه في صالة (دمرير) ذلك المطعم الشهير. . . والكل يدرك ماذا أعني بذلك الاسم. . . أنه أنت. . . أنت وحدك يا أماه. . . يا من عاونتني على صعود أولى درجات المجد. . . ولكن والدته كانت في شغل عنه، متجهة بتفكيرها إلى والده، وانتبهت واقترحت على جوني أن يسمي اللحن الجديد (الأمر بالمعروف).

وأخيراً حل اليوم الخامس عشر من أكتوبر، وعلم الجمهور من الإعلانات الضخمة مدار الحديث في الأندية والحوانيت والمقاهي. . . أدرك أن (جوني ستروس) كون فرقة موسيقية يديرها لعزف لحنه الجديد في صالة (دمرير) في (هتزيج). . .

واجتمع جميع أهالي (فينا) لمشاهدته: أما نصراً يسمو إلى أوج المجد، أو فشلاً يهبط إلى الحضيض. . . وبلغت حالة التوتر أقصاها بين ذلك الجمع الحاشد،. . . وكان لظهور ذلك الفتى الفتان بمظهر الفنان بتجاعيد رأسه وبريق عينيه اجمل وقع متباين في النفوس. . . وتمت النساء وقد استخفهن الإعجاب فرحن يهتفن ويشدن بعبقرية ذلك الفنان. . . بينما

ص: 54

جعل فريق المعضدين يصفقون ويصفرون. . . وقوبل لحن المقدمة بشيء من الفتور وتصفيق ضئيل خلو من حرارة الإعجاب. . .

وجلست في المطبخ - المجاور للصالة - امرأة تحاول أن تسيطر على أعصابها التي شملها الاضطراب. . . فقالت (وابي) العجوز - وكانت جالسة بالقرب منها: (ما هذه إلا المقدمة. . . ولحننا هو التالي. . .)

وكانوا إذ ذاك قد بدءوا في عزفه. . . وانتهى لحن (الأمر بالمعروف). . . انقضت لحظة من الصمت. . . لحظتان. . . ثلاث، ثم إذا بعاصفة من التصفيق ترج أنحاء الصالة. . . وكان ذلك باعثاً على تورد وجنتي الأم بعد أن علاهما الشحوب. . . كانت تقدر مبلغ الإخلاص الذي يقابل به الجمهور لحن ولدها. . . وفجأة سكنت الضجة وأعيد عزف اللحن من جديد وعادت عاصفة التصفيق أشد من الأولى. . . كانت تزيد كلما أعيد عزف اللحن حتى لكان ليس لها نهاية. . .

جلست الأم في مكانها الخفي - وقد ارتضته لنفسها - ترتجف من الابتهاج. . . وأبكمها الفرح فعجزت عن النطق. . . وكانت نيران المطبخ تلقي على وجهها ظلالاً أرجوانية. . . وبغتة اندفع (جوني) إلى ذراعيها واحتضنته، وتدفقت دموع الفرح على وجنتيها في انفعال ظاهر. . . فصاح جوني: -

أسمعت يا أماه؟! لقد كنا على حق دائماً. . . والآن يجب أن نعمل على إغاظة ذلك الرحيل العجوز. . . والدي. . .)

واندفع خارجاً. . . وبدئ في عزف لحن (لوريا ولس) الذي ألفه والده. . . فثار الجمهور وأخذ يصيح ويطلب إعادة لحن (الأمر بالمعروف) فكان هذا فوزاً له. . . وانتصاراً على أبيه. وتنهدت (وابي) العجوز وأغرورقت عيناها بالدموع وقالت (آه. . . لو يرتد لي شبابي وأعود جميلة. . . لقبلت سيدي جوني مراراً، وتكراراً. . .)

وفي طريق العودة في عربتهم. . . مالت الأم على ولدها وطبعت على جبينه قبلة مترعة بالحنان. . . وقالت:

جوني. . . إن هذه ساعة حزني وسعادتي التي لا تقدر يا بنى. . . إني لأشعر كأني ولدتك من جديد. . .)

ص: 55

وكانت هذه هي الكلمات الحقة التي قدر لأم أن تعثر عليها. . . أم ضحت بنفسها في سبيل ولدها. . . تجلدت أمام المشقات وذللت ما عرض لها في سبيل تحرير عبقرية ولدها من الاندثار. . .

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي

ص: 56