المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 630 - بتاريخ: 30 - 07 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٣٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 630

- بتاريخ: 30 - 07 - 1945

ص: -1

‌أحمد محرم

لصاحب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا

أيها السادة الأماثل:

حباكم الله، فلقد اجتمعتم في هذا الحفل الحاشد لتكريم سيرة راحل خالد كنت أحب أن أشارككم في الاحتفاء بها، فأحضر بنفسي لأرد بعض الصنيع الأدبي الذي علي لفقيد الشعر العربي المغفور له الأستاذ أحمد محرم؛ فكم له من أياد خالدات على مصر والمصريين، سوف يذكرها له تاريخ الأدب الحديث. فقد أضاف الشاعر الكبير ثروة ضخمة إلى تراثنا الأدبي كنا في أمس الحاجة إليها منذ أن ألقى سامي باشا البارودي بأعنة القيادة إلى خلفائه الفحول: شوقي وحافظ ومحرم ومطران والكاشف. رحم الله من رحلوا، ومتع الباقين بالصحة والعافية

كان شاعرنا الكبير أحمد محرم بين هؤلاء الأعلام علماً بارزاً ساهم بأوفى نصيب في بناء صرح الشعر الحديث، فتجاوبت أرجاء وادي النيل بأصداء قصائده الجياد قرابة نصف قرن، وشعره يعتبر سجلا زاخراً بشتى ألوان السياسة والاجتماع، لم يفرط في صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من شؤون القومية الصادقة والوطنية الكريمة العاملة

وشيء واحد أريد أن أقرره لشاعرنا الكبير، كثيراً ما دار بخلدي، ولعله من خصائص شاعريته رحمه الله وهو بهذا الشيء يقف وحده بين سائر أئمة الشعر العربي الحديث، ذلك إنه شاعر الإسلام غير منازع في عصرنا هذا

فلقد توفر منذ حداثته على دراسة آثار الإسلام من علوم ومعارف، ولم يدرج في بيئة دراسية توجهه وتبصره بمناحي الدراسة والتحصيل

. . . فلم نسمع إنه درس في الأزهر أو أي معهد آخر، بل عكف وحده على المنابع الثرة للغة العربية من كلام الله وكلام العرب، يهديه وحي الفطرة النقية، وتدفعه نوازع المواهب الأصيلة، فشب نبتاً كريماً يرويه هذا الورد المورود حتى أينع وأخرج شطأه واستوى على سوقه

وكان لكل ذلك أعمق أثر اضطرب في نفس شاعرنا الكبير مما حداه في أخريات أيامه إلى نظم ملحمته الكبرى (الإلياذة الإسلامية) التي عارض بها (إلياذة هوميروس)، وهو بهذا

ص: 1

العمل المجيد الذي جاء نتيجة موفقة لنشاط المواهب التي استوعبت أمجاد الإسلام ومفاخره وأزهى أيامه وعهوده. . .

هو بهذا العمل يقف وحده في الطليعة بين قادة الشعر الحديث. وليس هذا المجهود على ضخامته وفخامته لشاعرنا فحسب، بل أذكر أنني قرأت له في إحدى المجلات الأدبية الكبيرة ثلاث قصائد في موضوع واحد وغرض واحد متباينة في سمو معانيها، وصفاء ألفاظها، ودقة أساليبها، فلا تكرار في المعاني، ولا تشابه في الأساليب والألفاظ. . . تلك قوة منقطعة النظير، لا تواتي إلا من هو في مواهب شاعرنا الممتازة، وعبقريته النادرة، التي تعاونت في تكوينها أسباب الثقافة الإسلامية، وكان ذلك الموضوع الذي أحدثكم عنه هو (غزوة بدر الكبرى)

تلك ناحية باقية تكفي وحدها لتخليد ذكره بين عظماء الفكر الحديث، فهو الشاعر الإسلامي العربي في كل ما ينتجه ذهنه الخصب وخياله الواسع

ديباجة مشرقة، وأداء محكم، وأسلوب أنيق، كل ذلك يصدر عن طبع أصيل في نفس شاعرة تستلهم أصدق مصادر الشعر العربي، وكان يتجلى ذلك حينما تستثار شاعريته الفياضة في موضوع يتصل بمذخوره العربي الخالص

فمشاهد الحركة الإسلامية الأولى ومجالي طبيعتها الشاعرة في عصورها الناصعة تسيل لها نفسه معاني وأخيلة في كثير من الدقة والجمال. تلكم الصحراء، يزورها الشاعر مع رفقة من أصدقائه وأحبائه، فتجري على لسانه قصيدته الرائعة التي حلت بها جريدة الأهرام جانباً كبيراً من صفحتها الأولى أستهلها رحمه الله بقوله:

هي الدنيا التي تسع الجمالا

فسر إن شئت أو ألق الرحالا

هي الدنيا التي وسعت خيالي

مررت بها فظننتني خيالا

هذا، ولقد مر شاعرنا الكبير يعبر دنياه كما يقول كالخيال الخاطف، لم يخلف من آثاره العديدة شيئاً مذكوراً، وأرجو أن أوفق في رجائي زميلي صاحب المعالي وزير المعارف ليصدر أمره بطبع أثره الفني القيم الماثل في (الإلياذة الإسلامية)

وبذلك تكون الحكومة قد أدت بعض الحق للشاعر الكبير المغفور له الأستاذ أحمد محرم، عوض الله اللغة العربية عنه خيراً، وأجزل له بقدر ما أدى إلى وطنه العزيز في نهضته

ص: 2

الفكرية الحديثة إنه سميع مجيب.

إبراهيم دسوقي أباظة

ص: 3

‌عم يتساءلون؟

للأستاذ أحمد رمزي

إن الذين رأوا حربين عالميتين، أطلقوا على الأولى (الحرب العظمى)، وعلى الثانية (الحرب العالمية)! يتساءلون اليوم عما يأتي به الغد لهذا البلد الأمين

لقد تبلورت أمانينا عند نهاية الحرب الماضية في كلمة (الاستقلال التام)، فخيل إلينا أنها سلَّم النجاة، وتلقينا من قادتنا أن علة بلادنا هي سيطرة الغالب على مرافق الحياة فيها، وأن العلاج الشافي هو (الاستقلال)!

وهانحن أولاء اليوم - كما بدأنا بالأمس فقط - تغير الإسم، فأصبح (الأماني القومية) بدل عنوان (الاستقلال)، ولكن هناك فارق، ففي الماضي كنا نصدق ونؤمل وننتظر، كنا ننظر إلى القادة نظرة ملؤها الإجلال. أما اليوم، فإننا نجر وراءنا ربيع قرن من التجارب القاسية، والأحلام الضائعة، والآمال التي لم تتحقق. فهل لدى هذا المجموع اليوم من القوى الروحية الواقعة ما يجعله يترقب طلوع شمس الحقيقة، كما تطلع إليها الجيل السابق وعمل للوصول إليها؟

من واجب الجيل الناشئ والمخضرمين أن يوجهوا هذا السؤال إلى أنفسهم أولاً، وأن يعلموا يقيناً أنه قد يسهل تحريك الشعور الوطني أو القومي أو العاطفي، كما حدث عام 1919، ولكن لا نريد أن تتكرر أخطاء 25 عاماً مرة أخرى، فما العمل؟

يجب أن نعرف مقدار ما لدينا من عوامل البناء قبل أن نحرك القوى الدافعة، لكي لا تعرض مشروعاتنا دائما للفشل والتراجع كما حدث في الماضي، وكما يحدث في الوقت الحاضر

ولنا أن نتساءل: إلى أي مدى يمكن أن تسير بنا القوى الروحية والمقاييس العليا والسياسة العاطفية؟ ولماذا تتبخر هذه القيم وتفنى لدى الصدمة الأولى؟

إذا عدنا إلى أنفسنا وجدنا أننا نشأنا على النمط الذي وجدنا عليه آباءنا من قبل، فحملنا أخطاءهم ومزاياهم، وجاء التعليم الحديث الأوربي، فتعلمنا على القدر الذي سمح لنا به، كما صيغت نفوسنا في القالب الذي أراد واضعو هذا التثقيف أن تصاغ عليه، فماذا كانت النتيجة؟

ص: 4

جاءت أذواقنا مختلفة، وثقافتنا واهية، ونظرتنا للأشياء ناقصة، وهذه مجتمعة علة هذا التبلبل والتفكك القائم اليوم

واكتفينا بالسير على قدر، والنوم على الأمجاد الماضية، وكانت الوعود غير المعقولة تغذينا، والعبارات المسجعة تشبعنا، وطالما خدرتنا الألفاظ والمقالات المنمقة، فلهونا بالمظهر عن الجوهر وعما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟

وأخوف شيء على مستقبل هذه الأمة أن ننشئ الجيل الجديد على هذا النسق، فهل لدينا من الشجاعة والإخلاص الصحيح ما يدفعنا إلى إنقاذه وحمايته من الأقدار التي لم تنصفنا؟

سؤال تصعب الإجابة عليه، ولكن فلنجتهد أن نواجه أكبر أزمة مرت بالبلاد منذ قرون طويلة، ذلك لأننا نعيش في عالم يتطور بسرعة غريبة لم نعهدها من قبل، وسيصيبنا منه الكثير من الخير والشر معاً.

أضف إلى ذلك أن القيم الروحية والقيود الخلقية التي عشنا أجيالا تحت أكنافها، قد أخذت تنهار ولم تترك ما يحل مكانها، ورأينا في خمس سنوات الحرب، وهي تعدل خمسين عاماً تقدماً مادياً يكاد يكون خاطفاً، وتسابقاً إلى إحراز الغنى والثروة في أي طريق، ويصحب كل هذا تدهور أخلاقي، وفقدان للثقة، وسخرية من كل من يؤمن بالصالح العام، أو يدعو إليه

وأمامنا جيل ناشئ يرجو لأمته حياة أرقى وأعلى وأسعد مما نعيش عليه الآن، وهو جيل سيحاسب ويناقش، وبما إنه إنساني، فمن الطبيعي أن يتعجل الخطوات، بل يخلق الظروف لاستعجالها، وسيتوهم في نفسه القوة والمقدرة، وسيكافح إلى مدنية جديدة أقرب إلى أحلامه وأكثر طلاوة ونفعاً مما ألفناه، وسيقول: إنني أريد أن أحيا حياة أقرب إلى حياة البشر، فماذا أعددنا لهذا اليوم؟

أنا لست بمتشائم، ولن أحاول أن أقلل من طاقة مصر، أو من قيمة القوى الإنشائية والخلقية، ولكني أخشى الأخطار التي تواجه هذا الجيل، وأولها الغرور الذي يتملك الأفراد والجماعات على السواء، وقد أصبح علة من علل المجتمعات الشرقية الناشئة.

إننا ندعوه أن يتعرف على نفسه، فإذا عرف ما ينقصه أسرع إلى استكماله، وإذا اكتشف نواحي القوة الكامنة التي لديه أخذ في تقويتها. ثم ليعرف تماماً أن مقدرات هذا الوطن

ص: 5

ليست ملكاً له وحده، بل هناك من الآباء والأعمام والأخوال والأخوة من لهم الحق معه، وهناك قوى أخرى غير ظاهرة لها وزنها.

وليعلم أيضاً أن المسائل السياسية إذا حلت على حسب رغباته فإنها لا تكفي لإسعاد الأمة، بل إن العمل بعد تصفيتها أخصب في المطالبة بها: لأن قدرة هذه البلاد محدودة، وقوة الأفراد الإنشائية ومقدرتهم على التنظيم محدودة، فلا يمكن أن نبالغ فيما يمكن عمله، وما يمكن أن نصل إليه

أحمد رمزي

ص: 6

‌طلائع المجد الطريف في أفريقيا الشمالية

ماذا فعلنا من أجلهم؟

للأستاذ توفيق محمد الشاوي

دعك من حديث ماضينا المجيد الخالد، فإن التاريخ الأمين لن ينسى هذه القرون الطويلة التي حملنا فيها لواء الحضارة، ورفعنا راية الإنسانية السامية، وانتقل معي إلى حديث طريف، لا تذكره للتاريخ فحسب، ولكن ليسمع كل عربي يؤمن بقوميته وعروبته، وكل مسلم ثابت على عقيدته ورسالته، فينفض عن نفسه غبار الذلة، ويلحق بركب المجاهدين في سبيل دينهم وقوميتهم، قبل أن يسجل التاريخ علينا معرة التفريط والعجز.

هذه صورة مجيدة من صور الجهاد العربي، في شمال أفريقية، ثغر العروبة وحصنها الغربي؛ على سفوح جبال الجزائر الشماء، حركة دائبة، تجمع فيها أسود العروبة وأبطال الكفاح يرقبون مطلع نجم جديد، يسمونه نجم أفريقيا الشمالية، اتخذوه شارة لوحدتهم، وعلامة لاستقلالهم؛ وقد علموا إنه لا يشرق إلا مخضباً بالدماء، ولا يسبح إلا في مجرة من نور التضحية والاستشهاد. من حولهم مدن الجزائر المحبوبة لا يكدر صفوها إلا عبث هؤلاء المستعمرين مستكلبين على شهواتهم، مغرورين بسلطانهم، يحتفلون بما يسمونه يوم (النصر)، النصر الذي لم يستحقوه بجهادهم، ولم ينالوه بتضحياتهم، ثم أبوا إلا أن يحتفلوا به أسبوعاً كاملاً أرادت فرنسا أن تبيح لشعبها فيه ما شاءت من طعام وشراب لا تملك منه شيئا، فبعثت وكلاءها وأذنابها يغتصبون طعام العرب في شمال أفريقية مستعملين في ذلك أساليبهم الرجعية؛ كما انهم عادوا إلى سياستهم العتيقة لمحو القومية العربية ومحاربة عناصرها من دين ولغة وآداب وتقاليد ووحدة، حتى نفد صبر العرب المجاهدين. وهاهم أولاء يبدأون كفاحهم في يوم (النصر) حاملين سلاحهم العزيز، كما حمله أسلافهم من قبل أمثال عبد القادر وابن عبد الكريم. وهذا سبيلهم ينساب على مراكز المستعمرين ومراتع لهوهم وعبثهم، فألقوا عليهم درساً جديداً في بطولة العرب وإبائهم، وشجاعتهم وثباتهم، وذكروهم بأن حرية العربي أغلى من أن تختلس في غفلة، وأن دمه العزيز لا يهمل إلا في ميادين القتال فداء الوطن والدين. . .

ولا يزال صدى هذه المعارك يرهب الفرنسيين ويقض مضاجعهم، وقد جعلهم يفكرون

ص: 7

مرتين قبل أن يقدموا على ما أرادوه من استئناف سياسة الاستعمار الوحشية البالية، وزاد غيظهم أنهم لم ينالوا من المجاهدين نيلاً يروي حقدهم، فسلطوا فلولهم - التي فرت من ميدان الكفاح الشريف أمام الألمان - على المدن الآمنة والسكان المسالمين فضربوهم بمدافعهم وطائراتهم وقتلوا آلاف المدنيين الذين لا ذنب لهم، وانجلت الثورة عن هالة حمراء من دماء العروبة الزكية أطل منها النجم المرتقب، نجم المجد العربي الطريف. نجم وحدة أفريقيا الشمالية واستقلالها يرقب من بعيد هلال الوحدة العربية في الشرق، لعله يستجيب فتجمعها جامعة العروبة وروح الإسلام في سماء العزة والسيادة.

ونحن في المشرق، ماذا فعلنا من أجل هذا النجم العزيز وهذا الأمل المشترك؟ هل مددنا أيدينا إلى هؤلاء العرب المجاهدين في المغرب لنربط جهادنا بجهادهم، ونشد أزرهم في كفاحهم؟ ستجيب (الجامعة العربية) عن ذلك؛ ولكني أسائل المصريين الكرماء الذين ساعدوا منكوبي الإنسانية من كل جنس ولون: من الحبشة إلى اليونان إلى اليوغسلاف والهولنديين والبلجيكيين بل والروسيين في ستالنجراد، ألم يعلموا أن هذه الثورة العظيمة في الجزائر قد أسفرت عن منكوبين لا يقلون عن خمسة آلاف وأسرهم، بين قتيل وجريح وسجين باعتراف الحكومة الفرنسية نفسها، وإن كانوا لا يقلون عن ثلاثين ألفاً في تقدير المصادر المحايدة؟ فأين ذهبت النجدة والكرم، وأين حكومتنا التي تدفع الملايين من الجنيهات لتعمير بلاد أوربا (المحررة) أليس من الأولى أن نفكر في تحرير أوطان العروبة المستعمرة، أو إنقاذ إخواننا المنكوبين في تلك البلاد الشقيقة؟

توفيق محمد الشاوي

مدرس بكلية الحقوق - بجامعة فؤاد

ص: 8

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 10 -

ج17 ص260: وله (للأبيوردي):

ما للجبان الآن الله ساحته

ظن الشجاعة مرقاة إلى الأجل

وكم حياة جبتها النفس من تلف

ورب أمن حواه القلب من وجل

فقتَ الثناء فلم أبلغ مداك به

حتى توهمت أن العجز من قِبلي

والعي أن يصف الورقاء مادحها

بالطوق أو يمدح الأدماء بالكْملي

وجاء في الشرح: الآن الله ساحته: أي سهل الله حياته (جبتها): جمعتها، وهي في الأصل (حبتها) تحريف

قلت: (ما للجبان الآن الله جانبه) ذلله. و (كم حياة جنتها النفس من تلف) جنى يجني. و (بالطوق أو يمدح الأدماء بالكحل).

ج14 ص199: ومن مستحسن شعره (يعني أبا الفتح ابن العميد علي بن محمد):

عودي وماء شبيبتي في عودي

لا تعمِدي لمقاتل المعمود

وصليه ما دامت أصائل عيشه

تؤويه في فيء لها ممدود

ما دام من ليل الصبا في فاحم

رجْل الذرا فينان كالعنقود

قتل الزمان فطارقات جنوده

يبدلنه يققاً بِرُبْد سود

قلت: في اليتيمة، ومنها نقل ياقوت:

قتل المشيب فطارقات جنوده

يبدلنه يققاً بسحْم سود

والخصومة اليوم بين الشاعر وبين المشيب، وهو إنما يدعو عليه. والمعروف قولهم: شعر أسحم - والأسحم الأسود - لا شعر أربد. والربدة هي نحو الرمدة وهي لون الرماد كما في الأساس. أو نحو الطحلة وهي بين الغبرة والبياض بسواد قليل، وهو طحل والأربد نحوه كما في القصص قال الحماسي (بكر بن النطاح):

بيضاء تسحب من قيام فرعها

وتغيب فيه وهو وَحْف أسحم

فكأنها فيه نهار ساطع

وكأنه ليل عليها مظلم

ص: 9

وقال أبو الطيب:

راعتك رائعة البياض بعارضي

ولو إنها الأولى لراع الأسحم

ولقد رأيت الحادثات فلا أرى

يققاً يميت ولا سواداً يعصم

وقال الأبيوردي:

لكِ من غليل صبابتي ما أضمر

وأسر من ألم الغرام وأظهر

وتذكري زمن العذَيب يشفني

والوجد ممنوّ به المتذكر

إذ لمتي سحماء مد على النقا

أظلالها ورق الشباب الأخضر

وقد ذكرني بيت ابن العميد وقوله فيه: (بسحم سود) بنكتة مهمة لغوية في (المخصص) وهي هذه:

فأما قوله تعالى: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. . . فلا أعلم لأحد فيه مزيداً على أن سماه تأكيداً؛ والتأكيد ساذجاً غير مزيد عليه لا يقر عين الفهم بالنظر إليه، بل هو فرع داني الجناة، وشرط يدركه طالبه بالتؤدة والأناة، فنحن نلتمس له طبيعة تمده، ومعنى يجلو من صدته فيسجده، إلا أن تدفع داعية الضرورة، إلى أن يكون بخلاف هذه الصورة. فأما ونحن نجد عن ذلك منتدحاً عريضاً، ومنفسحاً أريضاً، فإنا لا نفرغه، من فائدة تمرئه وتسوغه. وهذا التأكيد الذي في هذه الآية مما يقبل التعليل، ويسع التأويل، فلا تقبلنه ساذجاً، ولا تستعملنه خارجاً، فأقول: إن في هذه الآية ثلاثة أنواع من اللون محمولة بالاشتقاق على موضوعاتها، وهو الأبيض والأحمر والأسود، ولهذه الأنواع الثلاثة في هذه اللسان العربية أسماء مستعملة قريبة، وأخر بالإضافة إليها وحشية غريبة، لا تدور في اللغة مدارها، ولا تستمر استمرارها، ألا ترى أن قولنا أبيض وأحمر وأسود من اللفظ المشهور، وقد تداولته ألسنة الجمهور، وقولنا في الأبيض ناصع، وفي الأحمر قمد، وفي الأسود غربيب. من الأفراد التي رفعت عن الابتذال، وأودعت صواناً في قلة الاستعمال، مع إنك لا تجدها في غالب الأمر إلا تابعة للألفاظ المشهورة، يقولون أبيض ناصع وأحمر قمد وأسود غربيب، وإن كان قد يستعمل مفرداً كقوله:(بالحق الذي هو ناصع) و (يعصر منها ملاحي وغربيب) و (يقمد كسائل الجريال) لكنني إنما قلت بالأغلب والأذهب. فلما ذكر تعالى هذين النوعين المشتقين بالاسمين المشهورين الأبيض والأحمر،

ص: 10

وشفعهما باللفظ الغريب الذي لا تكاد تراه إلا تابعاً وهو الغربيب قرنه بالاسم المشهور الذي هو الأسود، وصار بمنزلة صفة.

قلت: وابن جرير الطبري في (جامع البيان) وهو تفسيره المشهور يقول: وجعل السواد ههنا صفة للغرابيب.

ج18 ص171: الله المستعان، أساء سمعاً فأساء إجابة.

وفي الحاشية: في الأصل فأساء جابة. قلت: الأصل صحيح. وهذا من أمثالهم. وقد رواه الصحاح والأساس واللسان والتاج، وقال الجوهري: هكذا يتكلم بهذا الحرف، وقال الزمخشري: أي إجابة كالطاعة والطاقة. وفي (مجمع الأمثال) في شرحه: يقال: أجب إجابة وجابة وجواباً وجبيبة، ومثل الجابة في موضع الإجابة - الطاعة والطاقة والغارة والعارة.

ج13 ص289: قال (علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ) لما وفدت على سيف الدولة وقع في أبو العباس النامي، وقال: هذا يكتب التعاويذ. فقلت لسيف الدولة: يتأمل الأمير فإن كان يصلح أن يكتب مثله على المساجد بالربج فالقول كما قال. وأنشدته قصيدة أولها (الدهر أيامه ماض ومرتقب) وقلت فيها:

فارحل إلى حلب فالخير منجلب

من ليل كفك إن لاحت لنا حلب

فقال: يا أبا الحسين، بيت جيد لكنه كثير اللبن. . .

وجاء في الشرح: الربج في الأصل الديخ، والربج والروبج: الدرهم الصغير الخفيف.

قلت: (يكتب مثله على المساجد بالزاج) في التاج: والزاج ملح معروف، وقال الليث: يقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية وهو من أخلاط الحبر. وفي (الألفاظ الفارسية المعربة): الزاج تعريب زاك أي ملح يصبغ به.

ج3 ص251: والمنجم أبو الفتح أحد من سلك سبيل آبائه في طرق الآداب (واهتدى بهديهم في تلك إلى الفضائل من كل) روى عنه أبو علي التنوخي في نشواره فأكثر، ووصفه بالفضل وما قصّر.

قلت: ربما كانت الجملة التي وضعتها بين قوسين بهذه الصورة: واهتدى بهديهم من تلك الفضائل إلى كل باب.

* ج17 ص161: أحسنت والله يا أبا الندى، وأحسنت. قلت: وقد وردت هاتان الجملتان

ص: 11

أنفسهما في ص162 من هذا الجزء، ومعهما هذه الواو العاطفة، واليقين أنها من زيادة الناسخين، إذ بين الجملتين كمال الاتصال، وهو مانع من مثل هذا العطف.

ج17 ص161:

يا قبر نجدة لم أهجرك مُقلِيةً

ولا جفوتك من صبري ولا جلدي

قلت: مقلية - بفتح الميم لا ضمها كما ضبطت في الكتاب - وليس في العربية اقلاه حتى تجيء مقلية. في اللسان: قليته قلي وقلاّ ومقلية: أبغضته. وفي الأساس: وهو بقليه وبقلاه، وفعل ذلك عن قلي ومقلية.

ج2 ص93: وله (للصابي):

وجع المفاصل وهو أيسر

ما لقيت من الأذى

جعل الذي استحسنته

والناسُ من حظي كذا

والعمر مثل الكأس يرسب

في أواخرها القذى

وجاء في الشرح: من حظي متعلق بأستحسن، وكذا إشارة إلى وجع المفاصل، والناس ترفع عطفاً على فاعل استحسن وينصب مفعولا معه وهو أرجح:

قلت: واليأس بالنصب عطفاً على الذي، و (كذا) كتابة عن حالته هنا.

ج16 ص165: لا تتصدر إلى فائق أو مائق.

قلت: (لا تتصد لفائق أو مائق) لأن الأول يغلبك والثاني يتعبك.

ج15 ص69: ومن كتابه (كتاب سرعة الجواب ومداعبة الأحباب) أنشدنا الإمام أبو الحسن علي بن أبي تمام في المذاكرة وقد رقي إليه كلام قبيح عن بعض أصدقائه فقال مستشهداً:

إني إذا ما الخليل أحدث لي

صَرماً ومل الصفاء أو قطعا

لا أحتسي ماءه على رنق

ولا يراني لبينه جزعا

اهجره ثم ينقضي زمن الهجران

عنا ولم أقل قاعا

أحذر وصال اللئيم، إن له

عَضْها إذا حبل ذكره انقطعا

وجاء في الشرح: عضها أي تمزيقاً وتفريقاً.

قلت: الأبيات للمتوكل الليثي في (الحماسة) وفيها (غبر الهجران) مكان (زمن الهجران) و (حبل وصله انقطعا).

ص: 12

ج7 ص158: ومن شعر (جعفر بن أحمد السرج البغدادي):

دع الدمع بالوكف يُنكي الخدودا

فإن الأحبة أضحوا خمودا

وجاء في الشرح: من نكأ الرجل القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.

قلت: (تنكى) بفتح التاء، نكاه ينكيه لا أنكاه، ولم يكن قبل البكاء في الخدود قرحة حتى يدعو الدمع إلى نكئها. وإنما يدعوه اليوم إلى نكايتها: إلى جرحها وتعذيبها. . .

ج18 ص143: وقال إبن دريد في النرجس:

عيون ما يلم بها الرقاد

ولا يمحو محاسنها السهاد

إذا ما الليل صافحها استهلت

وتضحك حين ينحسر السواد

لها حدق من الذهب المصفى

صياغةَ من يدين له العباد

وأجفان من الدر استفادت

ضياء، مثله لا يستفاد

على قضب الزبرجد في ذراها

لأعين من يلاحظها مُراد

قلت: (مراد) بفتح الميم هنا لا ضمها. أي مجال. في الأساس: وراد روداناً: جاء وذهب، وراد النعم في المرعى: تردد، وهي في مرادها. وفي التاج: مراد الريح: حيث تجيء وتذهب.

في الرسالة 625 في القسم - 6 - يروي البيت الآتي بهذه الصورة:

بل ثياب القين بزكم

وثياب القين مشتهرة

ص: 13

‌محالفة ثلاثية ضد العالم

للأستاذ نقولا الحداد

بعد أول اجتماع بين تشرشل وروزفلت ألقى تشرشل خطبة في مجلس العموم، قال فيها إنهما اتفقا على أن يكون في العالم هيئتان دوليتان كبريان تحلان محل جامعة الأمم المرحومة: الأولى غربية لجميع دول أوربا وأمريكا. والثانية شرقية على مثالها. والهيئة الأولى تؤلف من روسيا وإنجلترا والولايات المتحدة كدول أساسية، ثم تنضم إليها الدول الأخرى تابعة أو ثانوية لها. ولم يقل شيئا عن الشرقية.

ووافق ستالين على هذا.

ومن ثم نشأت عبارة (الأقطاب الثلاثة) فقلنا حينئذ إن هذا النظام هو تحالف ثلاثة ضد العالم كله لأنه فهم من نحو تلك الخطبة أن الكلمة النافذة في تلك الهيئة الغربية هي لهذه الدول الثلاث وأن للدول الصغرى رأياً استشارياً فقط. فما تقرره دول الأقطاب ينفذ.

ولما صدر ميثاق سان فرانسيسكو الأخير وفيه دستور (مجلس الأمن) ظهر أيضاً أن الرأي الأول الأعلى هو لهؤلاء الدول الثلاث. وأما سائر دول الاتحاد الدولي وعددها 48 دولة فتعتبر ثانوية ورأيها ثانويا. وقد أضيف إلى الدول الثلاث الرسمية فرنسا والصين. وبهذه الإضافة سقط مشروع (الهيئة الدولية الشرقية) التي نوه بها تشرشل في خطبته المشار إليها. وكان يظن أن الصين تكون رئيسة هذه الهيئة الشرقية.

وقد ألحقت الصين وفرنسا بهذا المجلس كدولتين دائمتين كدول الأقطاب الثلاثة لا لأنهما دولتان كبريان فلابد من أن يحسب حسابهما إذا اختلفت دولات الأقطاب فتعدلان الميزان - ليس لهذا السبب فقط، بل لأن فرنسا المخلفة التي قومتها إنجلترا على قدميها، وهي على أنف ألمانيا من جهة الغرب، لازمة لكل من الدولتين روسيا وإنجلترا اللتين تخشيان مناوءة ألمانيا لهما إذ استطاعت أن تعود إلى المناوءة. ولهذا تجاذبتها روسيا من ناحية وإنجلترا من ناحية أخرى كل منهما تخطب ودها. فغريب أن قوتين تتنافسان في الالتجاء إلى ضعيفة. فمن حسنات الخلاف القائم الآن بين الأقطاب أو من مساوئه أن الضعيفة استقوت وتدللت وعادت تشمخ بعد أن تمرغ أنفها في حمأة الذل والهوان.

وأما الصين فتجاذبتها دول الأقطار جميعاً لأنها المرعى الخصيب للاستعمار التجاري فلابد

ص: 14

من التملق لها. على أن النفوذ الأول والأخر لدول الأقطاب الثلاثة أولاً وآخراً.

وكان من مناقضات الديمقراطية أو مفارقاتها في (مجلس الأمن الدولي) السانفرسيكي أن المجلس يرفض أية شكوى من أية دولة صغيرة أو ثانوية ضد دولة كبرى رئيسية إذا كانت واحدة من الدول القطبية ترفضها - هذا بحسب دستور المجلس المذكور.

وقيل إن سبب هذا الرفض المخالف للعدل والحق والديمقراطية أن الدولة الرافضة قد تطلب النزال إلى الميدان. فتحاشيا للجنوح إلى الحرب سنّ هذا القانون الغريب العجيب. وهو موافقة الدول الكبرى للدولة الرافضة على الرفض حتما.

إذاً لا ينظر مجلس الأمن في شكوى دولة صغيرة من دولة كبرى بل ينظر فقط في شكوى صغيرة من صغيرة. والدولة الكبرى فوق القانون أو في حصانة القانون.

إذن فمجلس الأمن هذا هو مجلس تحكم الأقوياء بالضعفاء. هو محالفة ثلاثية قوية ضد جماعة من الدول الصغرى. ولا يؤمن ظلم هذا المجلس إلا إذا وقع خلاف شديد بين الأقطاب الثلاثة أو الأقطاب الخمسة. فأين الأمن الذي ينتمي له هذا المجلس القطبي العظيم؟ وكيف يطمئن العالم إلى أمن دولي يترنح بخيطٍ واهٍ في الهواء؟

إذا كان لمجلس الأمن شأن في فض مشاكل الدول فما معنى أن يجتمع الأقطاب الثلاثة الآن لكي يفضوا مشاكل الأمم الشرقية: طنجة، والدردنيل، وأردهان، والبلقان، وسوريا، ولبنان، وفلسطين الخ فضلا عن مشاكل أوربا نفسها؟ إذن ما هي وظيفة (مجلس الأمن) الذي يحسبونه أعظم نتاج لمؤتمر سان فرانسيسكو إذا لم يكن من شأنه أن ينظر في هذه المشاكل؟

نرى أن مصالح العالم كله أصبحت رهن قرارات مؤتمر الأقطاب الثلاثة، ومن يدري أن هذا المؤتمر الثلاثي لا يعقد كل حين بعد آخر لتسوية مشاكل الأمم ما دام أعضاؤه متفقين. فيكون أمره الأمر.

لسنا والله على أمل ورجاء في الأمل والسلام إذا كان الأقطاب يضطرون أن يجتمعوا لكي يدبروا أمور الأمم حسبما يروق لهم وحسبما تقتضيه مصالحهم من غير اعتبار للعدل والحق. وقد صدر قانون مجلس الأمن باستهلال نذير بأنه ليس إلا ألعوبة سخرية أو مهزلة تمثيلية لأنه في ساعة ما كانت فرنسا توقع على ميثاق الأمن والسلام كانت تغدر بسوريا

ص: 15

وتنكل وتفظع فيها بلا حياء ولا خجل وهي عزلاء. فإذا كانت فاتحة نظام الأمن هكذا فأي مهزلة أقبح من هذه المهزلة! وما قيمة هذا الميثاق إذا كان أحد أركانه وقطب من أقطابه يفتتح العمل به، بهذا التمثيل والتفظيع.

وإذا كان مجلس الأمن يؤلف من خمسة أعضاء دائمين وستة ينتخبون بالتناوب، وإذ كان فصل الخطاب للدائمين والطاعة العمياء للستة المتجددين، فأين الديمقراطية وأي قضاء هذا؟ وكيف يكون عادلا؟ هل قضاته ملائكة في السماء لا مطامع لهم على الأرض؟

وما معنى أن يقتصر مؤتمر الأقطاب على الثلاثة فقط ولا يشمل الأقطاب الخمسة جميعاً؟ هل العضوان الآخران (طرطوران)؟

لم نخطئ في قولنا أن مصالح العالم كله أصبحت في أيدي ثلاثة رجال فقط وهو أمر من أغرب أمور التاريخ الجديد.

ترانا أمام هيئات:

1 -

الأقطاب الثلاثة

2 -

الأقطاب الخمسة

3 -

مجلس الأمن ذي الأقطاب الأحد عشر.

4 -

جمعية الدول العمومية ذات الـ51 عضواً.

فبأي هذه الهيئات يتعلق مصير الأمم الصغرى يا ترى؟ وأيها أحق بفض مشاكل الأمم وأصلح لها؟

نرى أننا في فوضى من الأنظمة الدولية المتضاربة المتعاكسة المنذرة دائماً بالاضطراب العالمي. الأمن في يدها تحت خطر.

أضف إلى ذلك خوف العالم من عقبى اختلاف الأقطاب. وهو شر نذير بالخطر المخيف. فإذا اختلفوا يحتدم الخطر ويقع القضاء والقدر. اللهم أنقذنا من أقتداح الشرر، حسبنا ما كان وما غبر.

نقولا الحداد

ص: 16

‌تطور بلاد العرب الشمالية

وتأثير ذلك في علاقاتهم الخارجية

للميجر ج. ب. كلوب

ترجمة الأستاذ جميل قبعين

أريد أن أقسم موضوع مقدار الرقي والتغير في بلاد العرب الشمالية إلى قسمين: أولاً بحث الموضوع من الوجهة الجغرافية؛ ثانياً بحث قابلية سكان تلك الأقطار للرقي. وفي النهاية نستخرج خلاصة هذين القسمين في نتيجة لنكون لنا فكرة عن المستقبل.

العوامل الجغرافية الخارجية

يجدر بنا عند بحث الوجهة الجغرافية أن نقسمها إلى فصلين: عوامل خارجية وأخرى داخلية. إن أول ما يلفت نظر الإنسان في بحث أهمية الأقطار العربية في السياسة الدولية من وجهة جغرافية خارجية هو كونها ممراً بين أوربا وآسيا، وإذا ما رجعنا إلى الوراء نجد إنه منذ بدء التاريخ لم توجد طريق بين الهند والشرق الأقصى وبين أوربا - طريق يمكنها أن تحتل بالفعل مكانة الطريق التي تمر من الأقطار العربية. ويرجع ذلك لكون بلاد فارس والأناضول تحتل جانباً من جانبي هذه الطريق، والسودان والحبشة والصحراء الكبرى تحتل الجانب الآخر، ونظرة إلى الأناضول وبلاد فارس، وهما بلدان جبليان، وإلى الحبشة والسودان والصحراء وهي بلاد صحراوية، ترينا أنهما يشكلان حاجزين في طريق الشرق وبينهما مصر وسوريا الطريق الوحيد للشرق. لقد حفرت قناة بين النيل وبين البحر الأحمر لتحمل التجارة منذ زمن الفراعنة. وعند قيام البتراء كانت البضائع تحمل على الجمال على طول الشاطئ الحجازي لتوزع على الإمبراطورية الرومانية، كما نقلت التجارة على الفرات قاطعة بادية الشام إلى تدمر. وفي زمن النبي (صلعم) كانت لمكة أهميتها التجارية الخاصة إذ كانت البضائع تحمل على الجمال وتقطع الحجاز إلى الإمبراطورية الرومانية ليستفيد الرومان منها دون الاضطرار إلى مرورها بالمناطق الفارسية. وقد حاول البرتغاليون في القرون الوسطى تأسيس مراكز تجارية في الخليج الفارسي والبحر الأحمر ثم في عدن - كما أن البريطانيين اتخذوا الفرات لتأسيس مصلحة مراكب بخارية تنحدر

ص: 17

من سوريا الشمالية عليه. وفي هذه الفترة حفرت قناة السويس فعادت طريق التجارة إلى مصر. ومن الحرب الكبرى نرى أن سيارات الصحراء والمواصلات الجوية حولت قسماً من التجارة إلى سورية وفلسطين والعراق. ولكن مهما تأرجحت طريق التجارة نجدها دائماً بين أيدٍ عربية - مصر من جانب، وبلاد الرافدين (الجزيرة) من جانب آخر.

إن أهمية البلاد العربية لا تنحصر في كونها ممراً بين أوربا والشرق فحسب، بل لأنها أيضاً الجسر البري الوحيد إلى أفريقيا. ولقد مر كثير من الجيوش المغيرة عن طريق سورية - فلسطين - سينا إلى أفريقيا. لقد حاول الفراعنة احتلال سورية عن هذه الطريق، ومنها انحدر الاسكندر لاحتلال مصر، والرومان يوليوس قيصر - أوغستين مرا من هذه الطريق. ومنها خرج العرب إلى أفريقيا بعد قطع سينا وسار الصليبيون إلى مصر، كما أن حملة أخرى منهم نزلت مصر للسير منها إلى فلسطين. وقد هاجم نابليون مصر لفتح آسيا. وفي الحرب العالمية السابقة نرى كيف سار الأتراك لمهاجمة مصر، وكيف دخل الإنكليز فلسطين عن طريق سينا. إن الأقطار التي نتحدث عنها حافظت على أهميتها الدولية السياسية أكثر من أي قطر آخر في العالم. لهذا يمكننا القول بأن أهمية هذه الأقطار ترجع لكونها الممر إلى الشرق الأقصى أولاً. ولأنها الجسر البري الوحيد لأفريقيا ثانياً.

العوامل الجغرافية الداخلية

إن جغرافية هذه الأقطار الداخلية لا تقل أهمية عن جغرافيتها الخارجية. وعندما أتكلم عن البلاد العربية الشمالية أعني (سورية وشرق الأردن وفلسطين والعراق. والنصف الشمالي من جزيرة العرب) فإذا ألقينا على خريطة هذه البلاد نظرة نجدها تشكل مثلثا رأسه حلب يخترق ضلع المثلث سورية وشرق الأردن وفلسطين وشمالي الحجاز، كما يخترق الضلع الآخر العراق حيث ينتهي برأس الخليج الفارسي، وتمتد قاعدته من البحرين حتى المدينة المنورة. أما قلبه فهو الصحراء. إن القسم الأهم من تاريخ هذه الأقطار يرتكز على هذا التكوين الجغرافي الخاص فضلا عن كون الصحراء فرقت هذه البلاد، فقد وضعت سورية والعراق على اتصال بالبلدان الخارجية (استعمل الآن كلمة سورية لأعني الأقطار المعروفة الآن بسورية وفلسطين وشرق الأردن)، وهذا ما جعل هذين القطرين عرضة للمؤثرات الخارجية، وبقيت حضارة نجد والحجاز - فقط - حضارة عربية محضة. وكانت نتيجة

ص: 18

هذه الحضارات المتباعدة أن نرى الحجاز ونجداً عربيتين في حضارتهما، بينما نرى أن أوربا وبلاد فارس والأناضول ومصر قد أثرت على حضارتي جانبي المثلث الشماليين.

الهجرة من وسط الجزيرة العربية

بينما نجد بادية الشام التي تشكل قلب المثلث تكون حاجزاً في طرق المواصلات بين سوريا والعراق، نراها واسطة الاتصال والنقل لسكان نجد أو البلاد السعودية. وأن تلك البقعة الممتدة من الحجاز إلى الخليج الفارسي آهلة بقليل من السكان يعيشون على زراعة النخيل في واحات متفرقة، وهم على الأرجح ينتمون إلى شعوب ما قبل التاريخ. وبالرغم من معيشتهم في أراض زراعية نراهم يجوبون الصحراء ويقطعونها، وبالعكس نرى أن أهالي سوريا والعراق الذين يعيشون في مناطق مملوءة بالسكان لم تبق لهم حاجة لقطع الصحراء لاستقرارهم في البلدان التي يقطنونها. وهكذا نجد أن الصحراء التي تقف في طريق المواصلات بين سورية والعراق هي طريق المواصلة بين سكان قلب الجزيرة وبين الأقطار الشمالية، وهي بالنسبة لهم كالبحر بالنسبة إلى الشعوب البحرية.

توجد مقابلة شيقة بين بادية الشام وبين القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. توجد على شواطئ الجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط موانئ تحمل كلها طابعاً مدنياً واحداً. فإذا سرت من الإسكندرية إلى حيفا فبيروت فأزمير فالقسطنطينية تجد شبهاً كبيراً بين هذه المدن؛ مع أن هناك بونا شاسعاً بينها وبين المدن الداخلية. إن مصر وبلاد العرب وتركيا واليونان بلدان مختلفة ولكن ثغورها متشابهة. كما أن العرب قطعوا الصحراء وأنشئوا مدناً هي عمان ودمشق وحماه وحلب، وهي تحمل المدنية والطابع العربي. ولذلك فإن الإنسان يقدر أن ينظر إلى بادية الشام كبحر يقابل البحر الأبيض المتوسط الذي تحمل ثغوره مدنيته الخاصة، تقابلها مدنية عربية محضة على أطراف المثلث المحيط ببادية الشام أو الصحراء السورية.

الصحراء كحاجز حربي

إن هذه الصحراء التي رأيناها في بحثنا واسطة اتصال - نوعا ما - لسكان قلب الجزيرة العربية، نراها تقف حجر عثرة في سبيل الأعمال الحكومية أو العسكرية، فبينما نجد أن

ص: 19

سوق جيش من الأناضول إلى سورية أو العراق سهل، نجد الصعوبة كلها في سوق جيش من قلب الجزيرة يقطع مئات الأميال من القفار. وإذا ما ألقينا نظرة إلى تاريخ سورية والعراق نجد أنهما من بدء الميلاد حتى سنة 650 للميلاد حكمها الرومان والفرس. ومع أن الهجرة الفردية من الجزيرة إلى هذين القطرين لم تنقطع فقد كانت تقوم صعوبات جمة في وجه أية حملة حربية يراد سوقها من الجزيرة إليهما. هذا فضلا عن سهولة الاحتفاظ بسوريا على الرومان من آسيا الوسطى، وبالعراق من إيران على الفرس.

لقد كان سكان تلك الأقطار عربا، وبالرغم من حكم الرومان والفرس فقد كانت ثقافتها عربية محضة؛ وقد قامت فيهما إمارات عربية صغيرة كإمارات الغساسنة في سوريا واللخميين على الفرات. إن ثقافة بلاد العرب كانت مستمدة من الجزيرة، وكانت القوة السياسية والحربية مستمدة من الأناضول وغيران. وهذا الموقف الذي لم يتغير أبداً يتلخص في أن العرب أقوياء بثقافتهم ضعاف بقوتهم الحربية، وهذا أمر يعزى أكثره إلى جغرافية الصحراء السورية

لقد غير الإسلام الوضعية، وذلك بتأثير الروح التي أثارها في العرب، فتمكنوا من التغلب على هذه الصعوبات وفتحوا سورية وإيران، ولكن لم تنقض فترة حتى ظهرت هذه الصعوبات مرة ثانية. لم يتمكن الخلفاء من البقاء طويلا في الحجاز واضطروا عند قيام الأمويين لنقل عاصمة ملكهم إلى دمشق، وعند قيام العباسيين الذين لم يرضوا ببقاء العاصمة في دمشق نقلت إلى بغداد وهكذا نجد أن العرب عندما كانوا حاكمين على المثلث بأجمعه، وعندما كان الإسلام في القمة عملوا على مقاومة هذه الصعوبات الجغرافية، أي الصحراء التي تلتف البلدان العربية الهامة حولها

رأس حلب

عند سقوط الإمبراطورية العربية وقيام الأتراك ظهرت حقيقة أخرى تتعلق بالمثلث، وهي ما يمكننا أن نسميه (رأس حلب) إن جانبي المثلث (جانبي العراق وسورية) يلتقيان في حلب، فإذا ما أراد أحد القطرين مساعدة الآخر وجب عليه قطع الممر الضيق المأهول بالسكان حول حلب، إذ لا طريق غيره - خلا طريق الصحراء - وبذلك نرى أن أي قوة حربية تنحدر من الأناضول إلى حلب يمكنها قطع خط المواصلة بين القطرين، أو أن أي

ص: 20

قوة حربية يمكنها الدفاع عن حلب تقدر أن تقطع خط الرجعة على أي جيش يسير من سوريا إلى العراق وبالعكس. ومن المؤكد أن الهجوم على جانبي المثلث واحتلالهما من قبل قوة تعسكر شمالي حلب، اسهل بكثير من سوق قوة من العراق إلى سورية أو بالعكس للدفاع عن أحد هذين الجانبين

وإذا لاحظنا أن الأتراك حكموا البلاد مدة تزيد على 600 سنة نرى أن الأثر الذي أبقوه وراءهم بسيط جداً؛ إذ لم يتمكنوا من التأثير على الثقافة العربية - وبالرغم من مرابطة الفيالق في الأتراك في اكثر المراكز الهامة، ومن وجود موظف أو موظفين كبيرين من الأتراك فقد كان أكثر الموظفين الصغار عرباً وكانت أكثرية أهل البلاد يحكمهم الزعماء لا الحكومة؛ هذا عدا عن بقاء اللغة العربية اللغة المستعملة في البلاد. وهكذا نضطر أن نعود إلى معادلتنا الأولى وهي أن العرب ضعفاء بقوتهم الحربية أقوياء بثقافتهم.

أرجو إن سمحتم لي أن أعدد نتائج العوامل الجغرافية التي وصلنا إليها مرتبة كما يلي

العوامل الجغرافية الخارجية

1 -

إن بلاد العرب ممر بين أوربا وآسيا يحيط به بلاد فارس والأناضول من جهة، والصحراء الكبرى والسودان من جهة أخرى.

2 -

إن البلاد العربية هي الجسر البري الوحيد بين أفريقيا وبين بقية أقطار العالم الأخرى

3 -

إن بلاد العرب نقطة الاتصال بين ثلاث قارات، وهي قلب العالم القديم

العوامل الجغرافية الداخلية

1 -

إن بلاد العرب تكوّن مثلثاً تتوسطه بادية الشام

2 -

إن بادية الشام فرقت بين الأقطار العربية، كما أن سورية والعراق اتصلتا بحكم مركزهما الجغرافي بالأناضول ومصر وإيران وأوربا، وهذا الاتصال جعل لهما ثقافة خاصة تختلف عن ثقافة قلب الجزيرة العربية

3 -

إن بادية الشام هي طريق الاتصال لسكان قلب الجزيرة العربية الذين ما زالوا على اتصال بالأقطار الشمالية، والذين حافظوا على ثقافتهم العربية

4 -

بينما تجد بادية الشام واسطة نقل وبث للثقافة العربية نراها تقف حجر عثرة في سبيل

ص: 21

الأعمال الحربية، ولذا نرى أن العرب وجدوا من الصعب حينما تولوا الحكم أن يحكموا سورية والعراق وقلب الجزيرة العربية من عاصمة واحدة

5 -

إن التقاء جانبي المثلث في رأس حلب يجعل أية قوة حربية في الأناضول قديرة على مهاجمة كل من سورية والعراق دون أن تتمكن إحداها من مساعدة الأخرى

قابلية العرب للرقي

إن بحثنا عن قابلية العرب للرقي أعمق واصعب من بحثنا عن الموقع الجغرافي الذي يمكن تحديده إذا ما نظر إلى الخريطة والذي يتلخص في سرد الحقائق. وتزداد الصعوبة على الأخص عندما نرى أنفسنا مضطرين أن نخمن درجة قابلية العرب للرقي بالوقت الحاضر، ودرجة استعدادهم وقابليتهم مستقبلا، لأن كلا منا متأثر بعقائده ودراساته الخاصة، وقد يكون متأثراً بدرجة قابليته بنفسه. وعلى كل حال فإذا لم أتمكن من إقناعكم بعقائدي فلعلي أتمكن من فتح باب للمناقشة بإعطائكم آراء جديدة. وقبل الدخول في بحث استعداد العرب للرقي علينا أن نعرف ونحدد الرقي. أظن أن الرجل الأوربي ينعت الرقي بالنجاح المادي، وقد ينعته بالنجاح الفكري إذا ما طلب إليه تعريفه ولكن النجاح الفكري يتوقف على النجاح المادي الذي نتمكن بواسطته من تأسيس جامعات ومختبرات تساعد على تهذيب الإنسان، ولذلك يمكننا في بادئ الأمر أن نعرّف الرقي بأنه القوة والثروة والاستقلال السياسي والمؤسسات الحكومية الأخرى كمصالح الصحة والمعارف والأشغال العامة الخ. ولهذا أرى أن أضع سؤالا في الصيغة التالية: (هل يمكن أن يصبح العرب القاطنون في البلاد العربية الشمالية، وهل يريدون أن يكونوا في عداد الأمم الأوربية الحديثة؟

الديانة

سنتناول في البحث عن هذه المسألة مظهراً أو مظهرين كلا على حده. أولهم: هل يؤمن المسلمون والمسيحيون حقاً بتعاليم أديانهم أم لا؟ كلنا يعلم بطبيعة الحال أن أدياننا أثرت في حياتنا الاجتماعية وطرق معيشتنا، ولذلك فإن العلاقات بين الإسلام والمسيحية تدخل في موضوع بحثنا. ولا أدري إن كنتم تعرفون أن الإسلام والمسيحية متقاربتان كل التقارب برغم ما قام بينهما من نزاع في الماضي. وهذه الحقيقة يؤكدها المسلمون أكثر من

ص: 22

المسيحيين. ويعتبر المسلمون من زمن النبي (صلعم) إلى يومنا الحاضر أن المسيحيين أقرب إليهم أكثر من أتباع أي دين آخر. إن العقائد الروحية السامية المتشابهة بين الديانتين كثيرة، فكلتاهما أسستا على اليهودية، أو بالأحرى إن الإسلام أسس على اليهودية والمسيحية، وكلا الإسلام والمسيحية خرجا من بلد واحد ولهما نفس الأنبياء. وكلاهما يعترف بالعهد القديم (التوراة)، وقد حدثني قس مسيحي عمل في بلاد العرب سنين عديدة قائلا: إن الإسلام شكل من أشكال المسيحية باستثناء الاعتقاد بالعجائب. وقد اتضح لي أن هنالك مظهراً آخر للتشابه بين الديانتين، وهو إصرار كل من المسلمين والمسيحيين على ضرورة الإيمان بحوادث تاريخية معينة، كما وأن لكل من الديانتين شعائر وقواعد يجب إعادتها كل يوم، ونحن قد اعتدنا هذا المظهر من الإيمان في الدين، حتى إنه لم يعد يخطر لنا ملاحظة أهمية ذلك بالنسبة إلى الإسلام والمسيحية.

أنا لست ثقة في البوذية أو الكنفوشية أو الهندوكية، ولكني أرى وأتصور أنهم لا يتشددون في أهمية الإيمان، كما يتشدد المسلمون والمسيحيون، وأرى أن هذا المظهر الذي اتخذته الديانتان أوجد شبهاً كبيراً بين الأمتين

كثيراً ما نسع أن الإسلام عائق لرقي العرب، وبدون شك وجد كثير من المسلمين الذين اعتقدوا بأن الأرض منبسطة، وبأن الاختراعات العلمية من عمل الشيطان، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا بأن كثيراً من المسيحيين اعتقدوا نفس الشيء، وكانوا هم الذين أجبروا غاليلو على التراجع عندما قال إن الأرض تدور حول الشمس. ومن الإنصاف أن أقرر أن الإسلام دين عملي أكثر من المسيحية من جهات عديدة - فالمسيحية هي التي نطقت بعدم جمع الثروة وفرضت حياة الزهد والتقشف، ولذلك فإننا نجد قول المسيحيين بأن الإسلام دين غير عملي للإثراء غريباً - وإذا نظرنا إلى مبادئه الأولية يظهر لنا أنه دين عملي أكثر من المسيحية، لأن المسيح عليه السلام لم يتفق والدرهم أبداً

المناخ

كثيراً ما يكون هواء البلاد وحالتها الجوية مفتاحاً لمعرفة أخلاق السكان، وإذا نظرنا إلى مناخ بلاد العرب نتحقق إنه لا يمكن أن ينبت أمة خاملة. ولا مراء في أن مناخ الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط هو مناخ البحر الأبيض المتوسط، ولكن إذا ما تجاوزت

ص: 23

الشواطئ إلى شرقي لبنان والأردن تجد الجو بارداً جداً، ويشاهد الثلج والصقيع بكثرة في أماكن عدة، كما أن الجو غير رطب في الصيف، فهو بالعكس يلتهب حرارة، ومثل هذا المناخ يحتاج لأمزجة متينة وأجسام قوية لمقاومته

(البقية في العدد القادم)

جميل قبعين

ص: 24

‌الأدب العربي في الهند

للأستاذ محمد يوسف البنوري

ربما يظن أن تقدم الهند في صناعة الأدب العربي والشعر ليس كتقدمهم في علوم الحديث والفلسفة، والمنطق، والرياضة، والطب، وما إلى ذلك من الفنون العقلية

حقيقة أن تقدمهم في كثير من العلوم العقلية القديمة قد أصبح منذ عهد قديم، بحيث لا يبارى ولا يجارى، وأضحت عبقريتهم في علوم الحديث مثلا في العهد الحديث منذ أوائل القرن العاشر للهجرة حين سرى الوهن في المجتمعات العلمية الدينية في البلاد العربية، غير أن ميزتهم الأدبية وبراعتهم في الشعر العربي على رغم أن البلاد أعجمية قد خفيت على كثير من رجال الأدب في البلاد العربية، ومع أن مآثر نهضتهم الراقية المزدهرة في خدمة اللغة العربية وتاريخ اللغة العربية، والأدب العربي لا تنكر ومقامهم فيها مشهود.

ومن العجيب أننا مهما حدثنا أحداً منهم بشيء عن رقيهم الحاضر في اللغة العربية والأدب العربي، سمع ذلك وهو في حيرة مطبقة يكاد يسرع إلى الرد بالنفي لو لم تحل دونه رزانة العقل

وما من شك في أن العصبية القومية إذا حلت مكاناً رحلت عنه فكرة الوحدة الإسلامية، فإذا باتت آراء قوم مقصورة على مفاخر قومهم ولم تعد مطالعة مزاياهم الخاصة؛ وعرتهم غفلة أو غفوة من أن يقفوا على مزايا إخوانهم في البلاد، انقطعت صلة الأخوة العالمية، ورابطة الوحدة، وتفككت عرى المواساة.

ففكرة العروبة التي نشأت حديثاً في الأفكار، وتتجلى بين حين وآخر على صفحات المجلات، كما أنها تنتج فوائد خاصة، تمنع كذلك من ناحية أخرى فوائد هامة بلاد العروبة أحوج إليها منها إلى تلك الفوائد الضئيلة أمامها؛ فلا يستتب نظام عام بين الأمم الإسلامية المبثوثة في أنحاء البسيطة الذي جاء به سيدنا المرسل إلى كافة الناس عجمهم وعربهم صفرهم وبيضهم عليه أزكى صلوات وتحيات مباركة. فمن الحتم اللازم أن يكون هناك نظام آخر يلوذ إلى كنفه وأحضانه سائر أقوام الأمة الإسلامية على حد سواء، حتى تمنح بلاد العروبة فوائد عظيمة وتنتظم قوى الأمة في الأنحاء قاطبة، فتصبح الأمم كأمة واحدة، وتدعم أركانها بدعائم الأخوة الموطدة كبنيان مرصوص لا يتزعزع بالقواصف الهوجاء

ص: 25

والعواطف النكباء

ويكاد يكون عدم وقوفهم على الأدب العربي في الهند أثرا من آثار هذه الفكرة أو مثلها. كنت أردت أن أكتب كلمة في الموضوع هذا منذ نزلنا القاهرة من نصف عام، بل أكثر، ولكن حالت دونه الأمور التي لأجلها امتطينا صهوة الرحيل إلى مصر، وكتبت شيئاً في بعض المجلات والجرائد عن الحركة الدينية والنهضة السياسية في الهند، فوددت أن تكون رسالتي هذه إلى إخواننا المصريين وطلبة الأدب موضوع مقالتي في مجلة (الرسالة) الزهراء، وقد أزفت ساعة تفويض خباء الإقامة، فتكون مقالتي هذه في الرسالة رسالة وداع، والأمر كما قال النابغة:

أفد الترحل غير أن ركابنا

لما نزل برجالنا وكأن قد

لست أريد في هذه النهزة ذكر الأدباء والشعراء في الهند، أو سرد تآليفهم في الأدب وتاريخ الأدب العربي وسمو مكانتهم في التفكير الأدبي، أو البحث عن شعر نوابغ الشعراء منهم، والموازنة بين أشعار هؤلاء وهؤلاء في هذا الصدد؛ فإن ذلك يستدعي نطاقاً أوسع مما عندي، غير أني أذكر شيئاً من شعر بعض علماء المعهد الديني القديم في الهند، وأم المعاهد الدينية فيها (أريد بها دار العلوم) بديوبند بالقرب من عاصمة الهند (دهلي).

إن هذه الجامعة العربية الدينية، كما أصبحت مثلا أعلى في نهضة الدين والعلوم الشرعية، كذلك أصبحت قدوة في الحركة الأدبية وثقافة اللغة العربية، فظلت بقعة ديوبند، تلك الأريضة الطيبة، مرتعاً خصباً لطلبة الأدب، ونبغت فيها نوابغ الأدب وجهابذة اللغة ورجال الشعر. وكثير من السياحين الناطقين بالضاد والزائرين لهذا المعهد من علماء البلاد العربية، لما نزلوا هناك شاهدوا للأدب فيه وجوهاً باسمة، وطلعات وسيمة، ورأوا فيه للشعر العربي ارتياحاً، ولاقوا في ترحيبهم نغمات ترق لها قلوب من قصائد عربية أنطقتهم بكلمات طيبة تبدي شعورهم وتأثر نفوسهم بتأثرات دقيقة نحو هذه النهضة

وأخيراً، هذه البعثة الأزهرية قوبلت هناك بحفاوة واحتفال هز أعطافهم، وقام خطيبهم رئيس البعثة، فأثنى جميل الثناء على ما شاهد من نهضتهم وأبدى إحساسه العميق نحوهم على الرغم مما أبداه في تقرير البعثة لمصالح سياسية أدركناها

هذا المعهد العظيم بلغ شعره ألوف الأبيات عالم من علمائه في شتى نواحي الشعر، وهو

ص: 26

إمام العصر الأستاذ المحدث الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله. ومن الغريب أن هذه الناحية لم يتخذها كمالاً علمياً عكف عليه طول عمره، أو عرف به، لا بل مزيته هذه لا تعد مزية إلى ما خصه الله بجلائل النبل وآيات الفضل التي أصبح فيها نسيج وحده. ومع هذا له شعر بارع مطبوع عليه أبهة الشعر القديم بمتانة وفخامة مع انتقاء فصح الكلمات بانسجام رائق، مصوغ في قالب بديع، فترى له روعة وجمالا في حسن السبك، وصياغة الألفاظ، وأبعد به عن ركاكة في اللفظ، أو سماجة في التعبير، أو تفكيك في التركيب والنسق، أو اختلال في النظم والانسجام

نعم، إن شعره ترى فيه بريقاً يتألق من الشعر القديم، ولمعة من شعر المخضرمين، وربما تبدو فيه آثار من كلام المولدين مع فخامة في اللفظ وجزالة في المعنى

أجل، إنما الشعر لوعة فكر، ولمعة خيال؛ ولكل فكر منزع، ولكل خيال مذاق، وذلك أمر لا مندوحة عنه. ومن خصائص شعره أنه قلما تخلو قصيدة له عن عواطف حزينة تثير في القلوب رقة، كأن نفسه تذوب حسرات، ولا بدع، فكان عميق الشعور، دقيق القلب، ومن ثم نجد أكثر شعره وألطف شعره في الرثاء والبكاء، فكان كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

إذا تصفحت ديواني لتقرأني

وجدت شعر المراثي نصف ديواني

لا يتسع النطاق لذكر سائر النواحي من شعره إلا أني أقدم هنا شيئاً من شعره في الرثاء وغيره لتنم نفحاته المسكية على حديقته الزهراء. قال رحمه الله في رثاء الإمام الأستاذ محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند.

قفا نبك من ذكرى مزار فند معَا

مصيفاً ومشتىً ثم مرأى ومسمعاً

قد احتفّه الألطاف عَطْفاً وعِطْفة

وبورك فيه مربعاً ثم مربعاً

إلى أن قال:

وكان حشا أُذنيَّ دَرّاً وحكمة

فتخرج من عينيَّ دمعاً مرصعاً

وقال:

فوافيت دهراً ثم دهراً بمنيتي

وألفيت عمراً ثم عمراً ممتَّعاً

وقال:

فلله دَرّ الحبّ حتى أقامني

أقول وأحكي أن في المض مطمعاً

ص: 27

وقال:

وأذكر أيام المزار وأنثني

على غصص في القلب حتى تصدَّعا

وقال:

يضيق نطاق في المراثي لحقِّها

وثمَّ مجال كيفما شئت فاصنعا

وقال في مطلع قصيدة عصماء له في مديح رسولنا العربي الهاشمي عليه صلوات الله وسلامه:

برق تألق مَوْهِنا بالوادي

فاعتاد قلبي طائف الإنجاد

أسفاً على عهد الحمى وعهاده

تُولى على الإبراق والإرعاد

رِهَمٌ تناوح تارة ديم لها

حتى غدا الأيام كالأعياد

هبّ النسيم على الربى فتضاحكت

بشرى العميد عرارها والجادي

سنح الظباء فكاد يهلك مغرم

حور العيون وعطفة الأجياد

وأكاد أشرق بالدموع إذا بدا

هجر فتبكي الورق بالأسعاد

أسقي التلول وأستحثّ ركائبي

وجدا على التأويب والإسآد

ومن شعره:

إمن عهد ربع طالْما كان أبكما

أجبت بدمع حين حيا وسلما

ووجد تراه زورة بعد زورة

على غصص الأزمان نادى وأبرما

وقفت بها صحبي وجددت عهدهم

عسى إن عهداً ناء أن يتوسما

تهلل وجه الصبح يفتر ضاحكاً

عن الثغر حتى كاد أن يتكلما

تباشير صبح أو تباشير مبسم

تنفس عن روح وبشر تبسما

وما ثم إلا من حديث قديمه

وتحديث اشجان ووجد تكلما

ورجع قواءٍ كاد مما أبثه

وأسقيه دمع العين أن يتبسَّما

فقدت به قلبي وصبري وحيلتي

ولم ألق إلا ريب دهر تصرَّما

ومن عبرات العين ما لا أسيغه

ومن غلبات الوجد ما كان همهما

ومن نفثات الصدر ما قد بثثته

ومن فجعات الدهر ما قد تهجما

فأذكر أزمان الرفاق وأنثني

على كبدي من خشية أن تحطما

ص: 28

تكففت دمعي أو كففت عنانه

وصار يجاري الدهر حتى تقدما

فهل ثم داع أو مجيب رجوته

يجاملني شيئاً دعا أو ترحما

وأظن، أن في هذا القدر الآن كفاية للبصير. وقد عزم (المجلس العلمي) بالهند أن يجمع كلام إمام العصر المرحوم ويرتب ديوانه ويطبعه نرجو الله له التوفيق.

ومن فحول شعراء هذا المعهد العظيم الشيخ حبيب الرحمن المرحوم مدير المعهد وله شعر رقيق اللفظ منسجم رائق جزيل المعنى. ومن العجيب إنه كان شديد الاشتغال بشؤون المعهد الإدارية ولكن مع هذا له شعر غزير يربو على أربعة آلاف بيت في غاية من اللطافة وحسن السبك ودقة النسيج وحلاوة اللفظ يكاد يظن إنه طول عمره كان عاكفاً على الشعر العربي، ويمتاز شعره عن شعر إمام العصر المذكور بالرقة والانسجام، وشعر إمام العصر يمتاز بالجزالة وفخامة الأسلوب، وشعره أقرب إلى شعر المولدين، كما أن شعر إمام العصر يشبه كلام المخضرمين. وأرى نفسي موفقاً في الفرق بين شعرهما إن قلت إن الشيخ المدير كان بحتري عصره، وإمام العصر فرزدق وقته. وديوان شعره مطبوع وإن لم تحل أشغالي دون مرامي عسى أن أنتهز فرصة وأقدم شيئاً من شعره لأخوان القاهرة والله الموفق.

محمد يوسف البنوري

الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالهند. وعضو (المجلس العلمي)

نزيل القاهرة

ص: 29

‌محرم الحكيم الاجتماعي

بمناسبة مرور الأربعين على وفاته

للأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم

هي سنة واحدة قضاها أحمد محرم في المدرسة، أو على الأدق في مدرستين: العقادين الابتدائية، فمدرسة الجيزة بالقاهرة، بعد أن تلقى مبادئ القراءة والكتابة في مكتب قرية الدلنجات من أعمال مديرية البحيرة وحفظ القرآن الكريم في الثانية عشرة من عمره.

وبعد هذه السنة جاءه أبوه التركي المرحوم حسن أفندي عبد الله بطائفة من علماء الأزهر يدرسون له النحو والعروض وسائر علوم العربية، وعكف من ثم على التراث الأدبي العربي في مختلف عصوره دارساً وحافظاً. هذه هي دراسة الشاعر الأولى، أو هذه هي مدرسته الأولى التي هيأته للشعر يقوله. . . ومنها انتقل إلى المدرسة الأخرى، مدرسة الحياة الكبرى التي كونته حكيماً اجتماعياً إلى أن انتقل إلى العالم الباقي. . .

وللحكمة في قيثارة الشاعر وتر واحد، عن هذا الوتر تصدر الحكمة والاجتماعيات في نغمة واحدة أو في أنغام مختلفة. . . سهمان ينطلقان إلى هدف واحد، هو تعمق الحكيم وشمول نظره، وما يكون المرء اجتماعياً إلا لأنه حكيم، وما يكون حكيماً إلا لأنه اجتماعي.

وفي المدرسة الكبرى، مدرسة الحياة راح الشاعر - من جديد - يدرس ويتعلم بالكثير من راحته، وسكون نفسه واطمئنان باله، وينفذ وراء بصره إلى أعمق ما تعرض الحياة من قضايا، وما تكن زوايا البشر من خبايا. . . كانت هذه الدراسة، وهي قطعة من حياته، أو هي حياته كلها - تأملاً، وشعوراً يستحيل عند فيضانه إلى تعبير جلي قوي تتمشى الحرارة في ثناياه، وتنبض الروح بين طواياه. . .

وكان جل ما تعرض عليه الحياة، تحت شجرة إلى جانب مقهاه الأثير في دمنهور أمام المحكمة الأهلية، حسبه منها، ومن الحياة، أن تفيء عليه ظلها ساعات في الصباح، ومثلها في المساء. لم يكن يحتمل جو المقهى إلا ريثما يأخذ الصحف والبريد بنظرة خاطفة، يهتز بعدها من الضيق فيحمل كرسيه ويطلب إلى الانتقال إلى (شجرة العرش) باسماً!

وننتقل إلى ظلال (شجرة العرش) لنراجع النفس فيما سمعنا ورأينا وعلمنا، ثم لنسكت، أنا في شأني، وهو في تأمله الهادئ العميق.

ص: 30

وكثيراً ما كنت استحضر فكرة ما - في موضوع الساعة، لأحدثه بها، فأتعقب ما لا أرى ببصري في الأرض وفي السماء. فكان يهز رأسه ويقول: قيد ما يحضرك. فإنه يقرها ساكنة، حتى تطلبها فتجدها في مكانها (مقيدة)!

ورغم ذلك فقد كان رحمه الله على قوة في الإرادة، ونفاذ في البصر، ويقظة في الشعور، إلى درجة تريح نفسه من العمل بهذه النصيحة. فكان أبدا على ثقة من العثور على (الفكرة) أو قل من (اصطيادها) أسمن وأغنى مما كانت حين سنحت له وخلاها. . .

في ظل هذه (الشجرة) وهي كالمرصد للفلكي، والمعمل للكيميائي، جعل الشاعر (يصطاد) عناصر حكمته الاجتماعية، ويتأمل في هذا النبع الفياض، من نفسه ومن الحياة ويشعر به شعوراً قوياً جياشاً، ثم يسوق تأمله وشعوره في حكمة هي الشعر، وفي شعر هو الحكمة، فيتقدم على كثير من الشعراء - أمام الناس جميعاً، حكيماً اجتماعياً يضع إصبعه على أخطر الأدواء، ويصف بالساحر من بيانه أنجع الدواء. . .

وما أريد أن أعود بالقراء إلى يومه الأول لأعرض عليهم فنون حكمته فيه. فلذلك مكانه من الكتاب إن شاء الله. وإنما أريد أن أعرض عليهم أبياتاً من قصيدة حديثه، هي قصيدة العصر، أو هي آلامه وآماله. .

وسبب هذه القصيدة - ومعذرة إلى القراء - مناظرة على صفحات (البلاغ) الأغر في حياة صاحبها المغفور له عبد القادر حمزة باشا رحمات الله ورضوانه - بيني وبين صديقي الأستاذ محمد السوادي في (العبقري) في الثراء، والزواج، والحب) من هو العبقري، وما شأنه؟ قلت يوم ذاك إنه رجل طليق، في الثراء والزواج والحب والحياة كلها. . . أو إنه بشر فوق البشر. . .

ورمى الشاعر ببصره فماذا وجد؟ وجد الوسط الأدبي في مصر يزخر بطوائف من المخبولين والممرورين والحالمين. . . هذا يستنشق الأثير، وثان يكرع الخمر الرخيص، وثالث يتعاطى الأفيون، ورابع يدخن الحشيش، وخامس يتمرغ في أوحال الرذيلة، وسادس وسابع. باسم العبقرية، أو وراء (أشباح العبقرية) كما يسميها جورج دهامل يجري كل هؤلاء المرضى والضعفاء. ولم يقل أحد إن العبقرية صحة، وصحيح - كما يقول المدافع عن الأدب - أن هذه السموم تولد عند آلاف البؤساء شعوراً ذاتياً بالعبقرية، ولكنها لم تهب

ص: 31

العالم البشري كتاباً واحداً ممتازاً.

العبقرية تصيح كل يوم: (رباه! رباه!. . لم تركتني وحيداً)

هذا هو العبقري في رأي جورج دهامل الأديب الفرنسي، وهذا هو أسلوبه، فانظر إلى العبقري في رأي شاعرنا الحكيم المصري، وهذا هو بيانه:

يقول القوم هذا عبقري

وذاك مثقف وأقول: واها!

عيوب العبقرية من قضاها

وآثام الثقافة من جناها؟

وهذا النور كيف تراه عيني

ظلاماً يسلب الدنيا سناها؟

بهذا البيان نفى حكيمنا الاجتماعي أحمد محرم، من العبقري والمثقف ما يحاول الجهل أو الخبل أن يلصقه بهما من عيوب وآثام. . .

ولم يقف عند هذا الحد، فنظر إلى الشعوب ماضياً وحاضراً ومستقبلا نظرة هذه ترجمتها في الحكمة شعراً:

أرى ملك الشعوب يقوم فيها

على أخلاقها، وعلى نهاها

ولنمض مع الشاعر إلى ما مضى إليه. . . هي فكرة قرنها إلى فكرة، وحقيقة صارخة تصيدها فقيدها بحقائق أخرى. قال:

رأيت نساءكم غلبت عليكم

فأمسى الخزي قد وسم الجباها

عجبتُ لذي الحليلة راودته

عن الشرف الرفيع، فما عصاها

وللأب مال بابنته هواها

عن السَّنن السويّ فما نهاها

إهابة جازع على أول وأهم ركن في المجتمع. . . وأي خير في الأسرة إذا كان هذا حالها، أو إذا انتهت إلى هذه الحال؛ ولماذا لا ينعى دولة الرجال فيقول مقرراً في أسف وألم لا يحس بهما غير الرجال:

وما عند الرجال قضاء أمر

إذا قضت النساء على لحاها

وماذا بعد هذا مما يرضاه الحكيم الاجتماعي؟ لا شيء إلا أن يقول:

برئت إلى المروءة من بلاد

تبلد شيخها، وغوى فتاها

ولكن هذا هو الداء، فما هو الدواء؟ هو أن:

أعيدوا الدين سيرته وشدَوا

عرى الأخلاق إذ وهنت عراها

ص: 32

وردوا بالزواجر كل غاد

إذا وضحت له المثلى أباها

فبهذه الوسائل مع الدين، أو في الدين تعاد إلى الرجل دولته، وتحل المرأة في محلها، ويساق الأنباء إلى الجادة في أثرهما. . .

ولكن كيف ذلك وهو يقول ولا ينكر عليه أحد ما يقول:

لبئس القوم ما حفظوا كتاباً

ولا عرفوا رسولا أو إلها

ولم يكن يقصد مصر وحدها، فالعروبة كلها قصده، وهذا العالم الإسلامي المترامي هو - قصيدته - مجال آلامه وآماله. . . لذلك يتساءل بعد هذا كله ولكل جوابه عليه:

وما تبغي العروبة من شعوب

إذا ذكرت لشاعرها بكاها؟

هذا هو (محرم الحكيم الاجتماعي) في أبيات من الشعر، و (لشاعر العروبة) قصة أليمة، محيرة، في ديوانه (مجد الإسلام) نرجو أن نقدمها إلى الرأي العام في فرصة أخرى إن شاء الله.

(دمنهور)

إبراهيم عبد اللطيف نعيم

ص: 33

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

أعصابك ولماذا تثور؟

كيف تنشأ احساساتنا المختلفة من حب وحقد وغضب أو قلق واضطراب؟ كل هذه الاحساسات منشأها تكوين المخ، ففي وسطه فص صغير في حجم البندقة اسمها السلامي. وهي قديمة جداً في تركيب أجهزتنا العصبية ورثناها فيما ورثنا عن أجدادنا الأول الذين كانوا يعيشون بشريعة الغاب.

ويقابل السلامي في المخ ويحاول السيطرة على احساساتها قشرة رفيعة تغطي المخ وفصوص صغيرة موزعة خلف الجبهة، وهذان الجهازان حديثان في التركيب العصبي للإنسان. وبهما نفكر ونتنبأ ونتغلب على احساسات السلامي التي وهبتنا إياها الطبيعة في بدء الخليقة لتكون بمثابة جرس الإنذار ينبهنا إلى الخطر أو الجوع.

والسلامي دائمة الطلبات فهي تدعوك دائما إلى الإقبال على الخمر والميسر أو ما يطابق طبيعة الغاب الأولى من تخلص من القيود؛ فإذ طلبت السلامي كأس خمر تصدت لها قشرة المخ وفصوص الجبهة قائلة حذار فإنك تعرف أن الخمر منكر وأنك تفقد وعيك وترتكب أعمالا شائنة إن سكرت.

وإن أغلق الباب بعنف وأنت في ظلام الليل الرهيب صرخت السلامي (عفريت قادم لقتلك)، فتجيبها الأخريان:(كلا. . . إن هذا إلا ريح عاصف) وهكذا دواليك؛ فالسلامي تدفعك إلى عالم الخيال والخزعبلات، بينما قشرة المخ وفصوص الجبهة تعيدك إلى عالم الحقيقة والمنطق.

ويقول العلماء إن الموسيقى تخفف من حدة السلامي وتهدئ إحساساتها؛ ولهذا فإن الأنشودة العاطفية تثير فينا احساسات الحب والصداقة بينما الأنغام العسكرية القوية تثير فينا الشجاعة والتضحية. وهذه الاحساسات تظل مسيطرة إلى أن يعيدها إلى الواقع شيء من منطق القشرة وفصوص الجبهة.

دراسة تربة النيل

ص: 34

تجري كلية العلوم بإشراف بعض إخصائييها دراسة تفصيلية لتربة قاع نهر النيل وشواطئه، واستلزم الحصول على عينات من النهر سفر الدكتور رشدي سعيد في باخرة خاصة مسافة عشرة آلاف ميل إلى أعالي النيل حصل منها على 400 عينة من مختلف أنحائه، واستغرقت الرحلة 45 يوماً

والطريقة التي اتبعها هي الحصول على عينة من قاع النهر بأدوات خاصة، ثم عينة أخرى من الشاطئ، وفي المناطق الهامة كان يأخذ عينة كل خمسة كيلو مترات، وبالأخص كلما تغير شكل التربة

والغرض الأساسي من هذا البحث معرفة الزمن الذي فيه اتصل نهر النيل بمنابعه في أعالي السودان، فإن علماء الجيولوجيا يقولون: إن منابع النيل في أوغندا والسودان كانت منفصلة عن النهر، ولعوامل جيولوجية خاصة التقى المجرى المقبل من الحبشة بزميله المقبل من السودان

وتفرع عن هذا البحث دراسة أخرى، فإن إحدى شركات الأراضي الكبيرة في الصعيد المصري تملك قطعة أرض مساحتها عشرون ألف فدان. لوحظ أن مستوى الماء في باطنها يرتفع ويفسد الزرع، وأجرت الشركة عدة مشروعات لتصريف المياه، فلم توفق، وظلت الأرض تفقد حيويتها حتى قدرت الخسارة في السنوات الأخيرة بمائة ألف جنيه

واستعادت الشركة بأحد الأخصائيين ولكنه امتنع عن إبداء رأيه حتى يحصل على دراسة تفصيلية لتكوين هذه الأرض الجيولوجي.

سيشمل إجراء هذه الدراسة والغرض منها معرفة خير الوسائل لتصريف الماء من باطن الأرض. وهل هذه المياه متسربة من النيل أو من مياه الأمطار أو الآبار؟

وستحلل عينات الأرض والنهر لمعرفة تركيبها الكيمياوي وصلة الواحدة منها بالأخرى. وينتظر أن يكون لهذه الدراسة بجوار أهميتها العلمية فائدة عملية لأنها تؤدي إلى تحسين الزراعة ووسائلها.

ديدان الأرض تضاعف منتجاتها

عرف داروين منذ قرن مضى أن ديدان الأرض تقويها على إنتاج المحاصيل الزراعية.

ص: 35

وقد تيسر أخيراً استخدام هذه الديدان في تقليب التربة. وينتظر باحثو هذا الموضوع أن يتضاعف محصول الأرض من مرة إلى ثلاث مرات.

وقد وجدوا بالتجارب أن القدم المربع يحتاج تقليبه إلى عشرة ديدان أي أن الفدان يحتاج إلى مليون دودة تقلب من أرضه ما يقدر بمائتي طن من التربة الجافة التي تساعد على تهوية جذور النبات. وهي تضيف إلى فائدة التهوية فائدتين أخريين، لأن تأكل الجذور الميتة كما تبتلع البقايا النباتية والحيوانية المختلفة تعطي الأرض كمية طيبة من السماد العضوي بما تفرزه في الأرض من بقاياها مما يغذي النبات ويزيد نموه.

ويقول الدكتور توماس بارت إن الفلاح يستطيع الحصول على عدد وفير من هذه الديدان بتوليدها. وليبدأ أولاً ببعضها في صندوق صغير، فعندما تبيض الدودة يستمر بيضها من 14 يوماً إلى 21 ثم يفرخ وهذه الأفراخ بدورها تبيض في فترة تتراوح بين 60 و90 يوماً.

ويقول هذا الأخصائي في الديدان الأرضية أن تزويد الأرض بها يفيد صاحبها فوائد جزيلة. وقد اهتم بعض التجار في الريف بهذا الديدان وجعلوها من المواد التجارية التي تباع وتشترى مثل ديدان القز.

ذكاء طفلك وموعد حمله

أثبتت الاختبارات التي أجراها بعض العلماء أن النظرية القائلة أن الأطفال الذين يتم بهم الحمل أثناء فصول الشتاء أكثر ذكاء ممن تم بهم الحمل في فصول الصيف.

وفي مدينة باث اختار العلماء 3361 طفلا من طلبة المدارس وأجروا عليهم تجارب الذكاء وفحصوا أحوالهم فوجدوا أيضاً أن الأطفال الذين يتم بهم الحمل في الشتاء أقل أخوة أو أخوات من الذين يتم حملهم في فصل الصيف.

وكتب الدكتور فريزر روبرت مدير مصلحة الأبحاث الطبية في المجلة الطبية البريطانية فقال إن الأبحاث أثبتت أن الوالدين الأكثر ذكاء أكثر ميلا إلى الحمل أثناء فصول الشتاء، وأن الوالدين الأقل ذكاء أكثر ميلا إلى الحمل أثناء فصول الصيف.

أحدث أنباء العلوم والمخترعات

ص: 36

قد لا ينتهي هذا العام، حتى تنتهي هذه الحرب، ويبدأ العالم ثورته الاجتماعية والاقتصادية، ويقفز بنا تقدم العلوم والمخترعات إلى بيئات جديدة، ويفتح لنا مجاهل لم تطرق من قبل

وهدف هذا الباب من (الرسالة) اطلاع القارئ العربي على آخر أنباء تقدم العلوم والمخترعات التي نجزم على ضوء ما عرفناه عنها أننا مقبلون - بعد الحرب - على عالم جديد مختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفناه

والعالم العربي بحكم مركزه الجغرافي يربط ثلاث قارات تعتبر من أهم مراكز النشاط في العالم كله، فجدير بالعالم العربي أن يدرك الانقلاب المقبل ويستعد له

سيارة بدون سائق

يستطيع سائقوا السيارات إذ انتشر الطراز الجديد من السيارات الأمريكية أن يتركوا سياراتهم تسير وهم نيام في الطرق القليلة الزحام. فإن أحد المخترعين تمكن من تجهيز السيارات بآلة كهربائية تسيطر على عجلة القيادة

وهذه الآلة عبارة عن عينين كهربائيتين تصحح وضع السيارة إذا انحرفت عن الخط الأبيض الذي يرسم عادة في منتصف الطريق، فإن أراد السائق التخلص من سيطرة هذا الجهاز في الطرق المزدحمة فإنه يضغط على زر صغير أمامه ليسير سيارته كما يريد

عصا تتعقب ملكة النحل

اخترع أحد مهندسي محطة الإذاعة البريطانية عصا سحرية. يسهل بها العثور على ملكة النحل، ولو كانت مختفية بين 50 ألف نحلة، كما اخترع أيضاً جهازاً يعرف به أن خلية نحل على وشك التمرد وهجر مسكنها، فيقودهم إلى خلية أخرى

وسر هذين الجهازين مادة خاصة كثيرة النشاط يصبغ بها ظهر الملكة فترسل إشعاعاً غير منظور، فإن أردت العثور على ملكة النحل وإخراجها من جموعه قربت العصا المجهزة بأدوات كهربائية خاصة من جموع النحل، حتى تسمع صوتاً قوياً يرشدك إلى مكانها، فإن أرادت الملكة هجر الخلية تحركت من مكانها، فتسمع أجراس الإنذار المعدة لذلك

فوزي الشتوي

ص: 37

‌رسالة الفن

12 -

الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

عن الأمس وعن اليوم

(تابع)

(وعلى ذلك ذهبت عنده وعملت منه عدة دراسات سريعة بالقلم الرصاص ليسهل علي عمل التمثال فيما بعد. ثم أحضرت منصتي وشيئاً من الصلصال. ولما كان من عادة الشاعر أن يجلس في البهو مع أصدقائه كان من الطبيعي ألا أجد مكاناً سوى الشرفة أضع فيه تلك الأدوات القذرة. وإنك لتستطيع أن تدرك صعوبة واجبي. كنت أدرس الشاعر العظيم في انتباه كبير وأحاول أن أطبع شخصه في ذاكرتي ثم أجري فجأة إلى الشرفة لأطبع في الطين ما لاحظته والتقطته ذاكرتي من هنيهة. ولكن كثيراً ما كانت تخبو ذاكرتي وأنا في طريقي إلى الشرفة. فإذا ما وقفت أمام المنصة لم أجد في نفسي القوة على لمس الطين. وكان يتحتم على أن أقفل راجعاً إلى مثالي مرة أخرى. (وعندما قاربت النهاية من عملي سألني دالو أن أقدمه إلى فكتور هوجو. فأجبته إلى ذلك في حينه. ولم يعش الرجل العظيم الهم بعد ذلك كثيراً. وما استطاع دالو أن يبلغ غايته إلا من صبيبة أخذت للشاعر بعد موته).

قادني رودان وهو يتكلم إلى ظرف من الزجاج بداخله قطعة واحدة من الحجر. إنه الحجر الأوسط من عقد، الحجر الذي يضعه المهندس وسط العقد ليدعم به منحناه. نحت على واجهته قناع مربع من ناحية الخدين والصدغين، متمشياً في ذلك مع شكل الحجر المربع. رأيت ثمت وجه فيكتور هوجو. وعند ذلك قال المثال الكبير:(كثيراً ما أتخيل مثل هذا الحجر يتوسط بناء يوهب للشعر)

وكان من السهل علي أن أتخيل ذلك. فإن جبين فكتور هوجو وهو يدعم في ذلك الوضع حنية تذكارية فكأنما يرمز بذلك إلى العبقرية التي ارتكزت عليها آراء وجهود عصر

ص: 38

بأكمله. ثم عاود رودان حديثه قائلا:

إني لأعطي هذه الفكرة أي مهندس يستطيع أن يخرجها إلى حيز التنفيذ).

وقريبا منا قام التمثال النصفي لهنري روشفور، وهو معروف تمام المعرفة؛ فرأسه رأس ثائر تعلوه خصلة شعثاء من الشعر تموج كأنها شارة التسليم، وبجبينه عجر كثيرة كأنه جبين طفل مشاغب، دائم الشجار مع أترابه، له ثغر قلصته السخرية، ولحية نافرة صاخبة. إنه ثورة لا تهدأ، وروح النقد والكفاح بعينها. إنه قطعة فنية رائعة نستطيع أن نرى فيها ناحية من نواحي ذهنيتنا المعاصرة. وهنا قال رودان.

(وكانت معرفتي بهنري رشفور عن طريق بازير أيضاً، فقد كان رئيساً لتحرير الجريدة التي يعمل بها. ورضى هذا المناظر الشهير أن يجلس إلي. كان ذا روح مرحة حتى ليحس المرء منه السحر عندما يصغي إليه وهو يتكلم. ولكنه ما كان يستطيع الجلوس ساكنا لحظة واحدة. وكان يؤنبني في رفق لأني أنصرف بكليتي إلى مهنتي؛ حتى لقد قال لي مرة وهو يضحك إني قضيت جلسة بأكملها في إضافة قطعة من الطين إلى التمثال، وجلسة أخرى في رفعها عنه.

(وفيما بعد، عندما رأى أن تمثاله حظي بإطراء ذوي الذوق الرفيع وثنائهم جاراهم في ذلك الإطراء غير متحفظ، ولكنه ما كان يعتقد أن تمثاله ظل على حاله الأولى من ساعة أن حملته من منزله، وكان يكرر ويعيد علي هذه العبارة: (لقد أعملت يدك فيه كثيراً. هذبته تهذيباً. وحقيقة الواقع أني لم أمسسه حتى بظفري).

وعند ذلك أخفى رودان خصلة الشعر بإحدى كفيه واللحية بكفه الأخرى ثم سألني عما يمكن أن يشبهه إذ ذاك). فقلت:

(تستطيع أن تقول إنه قيصر من قياصرة الروم)

(هذا ما أردتك أن تقوله تماماً، إذ أني لم أستطع أن أجد الطراز اللاتيني القديم نقياً خالصاً كما وجدته في روشفور)

وإذا لم يدر عدو الإمبراطورية الألد للآن وجوه تشابه بين وجهه ووجه القياصرة، فإني أراهن أن مجرد علمه بذلك سيبعثه على الابتسام

وعندما تكلم رودان من لحظة عن دالو، صورت في مخيلتي تمثاله الذي صنعه لذلك المثال

ص: 39

والمودع الآن بمتحف اللوكسمبورج إنه رأس متكبر عات يقوم على رقبة رفيعة معروقة كأنها رقبة طفل. له لحية كثة كأنها لحية صانع ماهر، وجبهة مغطنة متجهمة، وحاجبان أشعثان كأنهما حاجبا شيوعي قديم، وهيأة متكبرة محمومة ترى فيها الديمقراطي الذي لا يحول. أما العينان الكبيرتان والتقعر البسيط الذي بالصدغين، فتنم كلها عن الشغف العظيم بالجمال

سألته عن هذا التمثال فأجابني بأنه عمله عندما عاد دالو من إنجلترا بعد أن شمله العفو السياسي وقال:

(إنه لم يأخذه قط، لأن علاقتنا انصرمت من بعد أن قدمته لفيكتور هوجو بقليل.

كان دالو فناناً عظيماً، ولكثير من أعماله قيمة زخرفية رائعة تجعلها من أجمل مجموعات القرن السابع عشر. ولو لم تتملكه شهوة الحصول على وظيفة حكومية لكان كل ما أنتجه قطعاً خالدة؛ ولكنه جهد ليكون لوبران جمهوريتنا، وليكون زعيما لكل فنانينا المعاصرين. لقد مات قبل أن تتحقق أمنيته؟

(إنه ليستحيل على المرء أن يمتهن مهنتين في وقت واحد. فكل الجهد الذي بذله لكسب أنصار وأعوان يركن إليهم، وفي محاولته أن يكون ذا شأن وخطر - كان كل هذا خسارة للفن. ليس أصحاب الدسائس أغراراً مغفلين؛ فعندما يريد الفنان مناهضتهم أو ينهز معهم بدلوهم فإن عليه أن يكيد لهم بقدر ما يكيدون، وبذلك لا يبقى له وقت ينصرف فيه لعمله.

(ومن يدري فلو كان دالو لزم مرسمه دواماً ومضى في سبيل فنه هادئاً وادعاً لأنتج روائع يخطف جمالها الأبصار، ولربما أجلسه الإعجاب العام على عرش الفن وتوجه ملكا على الفنانين - وذلك هو الذي بذل في سبيله كل ما في وسعه لتحقيقه، ولكن في غير طائل.

ومع كل ذلك لم يذهب طموحه سدى؛ لأن نفوذه وحظوته في الأوتيل دي فيل كانا سبباً في إخراج قطعة خالدة من أعظم قطع عصرنا الحاضر. فهو الذي مكن بوفي دي سافان من أن ينال الإذن بزخرفة جانبي السلم بمدخل الأوتيل دي فيل، وذلك رغم مناهضة أعضاء اللجنة الإدارية مناهضة علنية وأنت تعرف بأي شعر سماوي أضاء المصور العظيم حوائط البلدية).

وقد استرعت هذه الكلمات انتباهي إلى تمثال بوفي دي شافان قال عنه رودان:

ص: 40

(لقد رفع رأسه عالياً. أما جمجمته فصلبة مستديرة وكأنما خلقت لتلبس خوذة. وأما صدره المقوس فيظهر كأنه اعتاد لبس الدروع. ولقد يسهل على المرء أن يتصوره في بافيا يحارب ذياداً عن شرفه إلى جانب فرنسيس الأول).

ترى في التمثال أرستقراطية شعب قديم. فالجبهة والحاجبان المرتفعان تدل على الفيلسوف. وتشف النظرة الهادئة التي تشمل أفقاً كبيراً بعيداً عن ذلك المزخرف العظيم والمصور الطللي السامي. هذا ولا يوجد فنان معاصر يمكن له رودان من التقدير والإعجاب بقدر ما يكنه لمصور القديسة جنيفيف. ثم صاح رودان:

(أكان هذا الرجل يعيش بيننا ويخالطنا، أكان هذا العبقري الخليق بأزهى عصور الفن يتكلم معنا! وإنني شاهدته ووضعت يدي في يده! ليخيل إلي أني صافحت يد نيقولا بوسان!

(يتبع)

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 41

‌على الشاطئ.

. .

للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن

أي سحر يفيض من ناظريك

حبس الفكر والفؤاد عليك

روعة تسلب العقول هداها

فتذيب القلوب في عينيك

ملأ الشط فتنة وحياة

رائع اللمح من سنا وجنتيك

وأشاع الضياء والبشر نور

من شعاع الخلود في شفتيك

عالم أنت من فتون وسحر

لهفات القلوب جُنَّتْ لديك

قد حسدت الرمال تحنو عليك

وحسدت النسيم يهفو إليك

وحسدت المياه والموج يسعى

قِبل الشط لاثماً قدميك

عبد الحسن فيك قلبي وعيني

أحرام أن ترحمي عابديك

آه لو تصدق الأماني يوما

والأماني عصيها في يديك

مصطفى علي عبد الرحمن

ص: 42

‌الظلام.

. .

للأستاذ أحمد مخيمر

الظلام العظيم يهبط في بط

ء، ويلقي عصاه فوق الروابي

زاحفاً للوهاد كاليم ما جف

بدفق ولا انطوى بانسكاب

الذرى فيه مغرقات تبدي

بعد حين في وحشة واكتئاب

كسهام إلى السموات تعلو

وقفت في الهواء دون السحاب

ما لها كلما نظرت إليها

أنذرتني برحلة واغتراب؟

أترى لست بالغريب. . . ونفسي

شردتها خطوبها في اليباب

لم تجد في الأيام خلا فلاذت

بقلال الربا، وشم الهضاب

يا لها من حمامة ذات حسن

هجرت عشها لوكر العقاب!

وحياتي - يا للأسى! - في يد الأقدار

كنز تسوقه للتراب

إنما الموت كان أجمل لولا

ما طوى القلب من رفيع الرغاب

أنا يقظان كالنجوم، عميق

كالظلام العميق، رحب الجناب

تتمشى بي السكينة. . . كالجد

ول زحفاً بين الغصون الرطاب

وتغنى بكل قلبي أشوا

قي بلحن مزمجر صخاب

جائشات جميعها بفؤادي

جيشة الموج واصطخاب العباب

ليس إلا الظلام تسكن فيه ال

روح مما تحس من أوصاب

فيه ترقى إلى معارج حب

لم تنلها قبلي يد الأحباب

تكشف الحسن والحقيقة والغي

ب وتسري وحيدة في الشعاب

وتلبي النداء تحمله الري

ح، لناي الرعاة بين الغاب

جلسوا القرفصاء حول لهيب الن

ار يشدون في حنين عجاب

ويبثون للظلام أقاصي

ص، طوتها سريرة الأحقاب

وحفيف الظلام والريح والغا

ب رهيب ينساب أي انسياب

يترك الجالسين في شبه حلم

وحنين خاف إلى الغياب

ويطيل السكون فيهم إلى النا

ر ورقص اللهيب رقص السراب

ص: 43

يقلبون اللظى بعود، وفيهم

تقلب الروح ذكريات الشباب

والقطيع الوديع يمضغ في النا

ب ندياً من ناضر الأعشاب

مصغياً للرعاة، ذهلان، تبدو

في محياه نشوة التطراب

ساهماً كالغريق في ذكر المر

عى مطلا في هدأة واكتئاب

ناظراً في الظلام للأفق النا

ئي وللكلب في طريق الذئاب

إيه يا ليل لو دعيت نجائي

حين يسري ولو رثيت لما بي

أنا في هذه الحياة غريب

ووحيد الأشواق بين الصحاب

غربة ما يزال دمعي منها

في جفوني مرقرقاً لانسراب

وأماني في الضلوع صبيا

ت إلى الورد عاريات الإهاب

خافقات وما خفقن بريب

هاتفات وما هتفن بعاب

دائرات يُلبْن من طول ما ذق

ن من الشوق لانسكاب الشراب

بذراعين خشنتين سأصعد للنب

ع في الصخور الصلاب

إنما النبع في القلال فمن يب

غ يجده وراء ألف حجاب

ثم يخطو إليه ألف سبيل

حين يخطو محفوفة بالصعاب

إيه يا ليل كل سر سرى في

ك مطل بعينه لاقترابي

قد حملت الأجيال يا ليل فاحمل

هتفات الأجيال في محرابي

وافتح اليوم شاطئيك لقلبي

إن كل الحياة بين ثيابي. . .!

أحمد مخيمر

ص: 44

‌البريد الأدبي

من وحي المرأة

أخي صدقي. . .

. . . إنك لتعلم رأيي في دموعك هذه التي نظمتها قصائد. تعلمه من هذه الانفعالات التي كنت أحاول أن أخفيها عنك فتظهر، وأنت تسمعني هذه القصائد قبل نشرها فأسمع، وأنا أحس أنك تعيش في أثناء قراءتها وتتألم!

ولقد كنت أستزيدك منها كلمات هممت أن تطوي أوراقك الحبيبة في صدرك، وأنت تضمها إليك ضمة الحب والأسى، ريثما تزدرد عيناك دمعة ندّت، فلم تشأ أن تطلقها على سجيتها، لأننا لسنا وحيدين، بل حولنا الناس في المقهى أو في الطريق!

كنت أشفق عليك أن تقرأها، وكنت أستزيدك من قراءتها. . . لأنني أعلم - وقد جربت من قبل تجربة شبيهة بتجربتك في الأم الصديقة - أن هذا الألم النبيل الكريم الذي تحسه وأنت تستعيد هذه الصور العزيزة، هو ألم كذلك عزيز مريح!

والألم النبيل الكريم يا صديقي نادر في هذه الدنيا الحافلة بشتى الآلام! وما أحوج الإنسانية إلى مثل هذا الألم بين الحين والحين، يظهرها وينقيها، ويرفعها من ثقلة الأرض، ويطلقها ترفرف في السماء

ولكن الذين يعرفون مثل هذا الألم ويقدرونه نادرون مثله في هذا الوجود. وأنت الذي تقول في صدق مفجع حزين:

كأنيَ بالأحزان غّيَرنَ طابعي

وأن بوجهي ما تجن أضالعي

ظلال جحيم من دخان ولاعج

وأشباح تعذيب دوامٍ دوامع

وإلا فما للناس يجتنبونني

وقد كنت منشوداً بتلك المجامع؟

وإني لألقاهم كعهدي مرحباً

وأبسط كفي في سلام مسارع!

أفرّج ما بين الشفاه تبسما!

وأدعو أساريري وأجلو مطالعي!

وأضحك أحياناً وأظهرنا جدي!

وآخذ في أسمار غِرّ وخالع!

فما لهم لا يطمئنون؟ ما لهم؟

وضحكي عالٍ مسمِع ذو قعاقع

ابِشْرِيَ غير البشر في عين ناظر!

أضِحْكَي غير الضحك في سمع سامع؟

ص: 45

أجل صدقوا، مذ مُتِّ يا سرَّ فرحتي

طُبعتُ كتمثالٍ على الحزن فاجع

أجل يا صديقي، لأن الناس في هذا الزمان يريدون أن يضحكوا دائماً، ويا ليتهم يعرفون كيف يضحكون!

أما أنا فلست بناصح لك أيها الصديق - كما لم أنصح لك في فورة الألم - أن تتسلى، فما أرخص السلوى في الحياة، وما أعز الألم الصادق النبيل؟ وما أفدح الخسارة حين نمسي ونصبح، فإذا أيدينا خالية من هذا الألم الذي يربطنا بأعز أحبابنا، ويصلنا بذلك الماضي الذي لن يعود

وإنني لأقرأ ثم أقرأ في احترام بالغ قصيدتك (تساؤل):

أتغلبني هذي الحياة على حزني

فاصبح مثلوج الحشى ضاحك السن؟

أيأتي زمان تخطرين بخاطري

فلا يسبق الدمع الهتون إلى عيني؟

أيجري لساني باسمك الحلو صادحاً

مبيناً فلا يومي إليه ولا يكنى؟

وقد كان في حلقي يجف ويلتوي

ويهمس مبحوح الصدى مجهش اللحن!

أيحلو لطرفي أن يطالع صورة

لحسنك من بعد الفجيعة في الحسن؟

وقد كنت أخفيها وكانت بناظري

إذا عرضوا عفوا - كغاشية الدجن

أيخلو مكان من خيالك ماثلا

بكل مكان - أينما سرت - أو ركن؟

ويطغى على نفسي شعور وفكرة

ولم تشركيني في شعوري وفي ظني؟

ويشغلني شيء ولو بعض ساعة

فلا أنت في قلبي ولا أنت في ذهني؟

نشدت زماناً يورث الناس سلوة

ليكفينني برد السلو ويستأتي

بديلي منك الحزن لم يبق غيره

فلا حبذا السلوان غبناً على غبن

وإني لأستحييك إن غب مدمعي

وأحزن يوماً إن غبت على حزني

إنك لغني يا صديقي بهذا ال

كنز من الألم الرفيع النبيل

فكن أمينا عليه، فمثله نادر في هذا الوجود!

سيد قطب

كلمة هادئة - إسكان أواخر الكلمات

ص: 46

ألمع ابن خلدون في مقدمته الشاملة إلى اقتراح السكان أواخر الكلمات تخلصاً من حركات الإعراب فقال: (ولعلنا لو اعتلينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد - عهد ابن خلدون - واستقرينا أحكامه نعتاض من الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى). وقال أيضاً: (ولم يفقد منها - أي من لغة مصر مقارنة بلغة عهد ابن خلدون - إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن). ومن الملاحظ أنه لم يشرح شيئاً من (الأمور الأخرى) في قوله الأول ولا شيئاً من (القرائن) في قوله الثاني بحيث لا يمكننا أن نستنبط منهما وسيلة تنفيذية إلا التقديم والتأخير أي تقديم الفاعل وتأخير المفعول مثلا للتمييز بينهما وأظن أنها وسيلة غير كافية لأن اللغة ليست قاصرة على حالتي الفاعلية والمفعولية وليست قاصرة على حركتي الرفع والنصب وليس حتما أن تشتمل الجملة على اسمين اثنين لا غير

مع هذا لا يزال ينادي بهذا الاقتراح الظريف باحثون معاصرون يرون في اللغات الأوربية المسكنة الأواخر برهاناً تطبيقياً نافذاً.

والذي يخيل إلي أنهم لم يبحثوا الموضوع على الأقل من الناحية الشكلية التي يبدو فيها خلاف كبير بين اللغة العربية واللغات الأوربية يستعصي معه إتباع هذا الاقتراح.

فأولا: صب اللفظ العربي يحتاج إلى ضبط كامل لا يفيد معه إسكان الآخر لأنه يتكون من حروف ظاهرة في الكتابة وحروف أخرى تظهر في النطق. ولا زلت أذكر قصة لأحد الظرفاء إذ شاهد مع بعض ضيوفه من الريف حيواناً عجيباً في حديقة الحيوان فسألوه ما هذا؟ فحار في قراءة كلمة (الببر) على قفصه لا لجهله بحركة آخرها طبعاً بل لجهله بحركات سائر الحروف.

وثانياً: استقلال اللفظ، فنجد أن اللفظ في اللغة الأوربية منفصل قائم بذاته في كل معانيه بينما هو في العربية خاضع لغيره أو متصل به. فنحن نقول: كتابهما - كتابهم - كتابهن. . . فأين الحرف الذي يسكن؟ الأخير أصلا أم الأخير رسماً؟ اللفظ الأصيل! كتب وآخره الباء فحينما أسند إلى غيره تغير آخره بالاندماج فيه. بينما الإنجليز مثلا يقولون: لهذه الحالات الثلاث. ولسْت بصدد القول بأن أساليب التعبير عندنا أدق وأوفى وهذا ربح لا يهون بجانب تسهيل النطق عندهم.

ص: 47

وثالثاً: حركة الآخر ليست خاضعة لاتصال اللفظ بغيره اتصالا مباشراً فحسب بل أيضاً تخضع للاتصال غير المباشر بالألفاظ المجاورة. فإسكان الأواخر يكثر من (التقاء الساكنين) أو تعذر النطق لتعاقب حركتين. . فإذا تعمدنا الوقوف عند كل كلمة قطعنا في المنطق تقطيعاً مضحكاً مرهقاً وإذا استرسلنا بغير ضوابط خرجنا على القاعدة خروجاً همجياً، وإذا اعتمدنا على التقديم والتأخير أخفقنا في الجمل المتشابهة الكلمات والجمل التي تتكرر فيها كلمات معينة.

ورابعاً: كثير من الألفاظ ساكن ما قبل الآخر. فإسكان الآخر أيضاً ثقيل جداً. وهو بالغ الثقل عندما نصل مثل هذه الألفاظ بألفاظ ساكنة الأول أو طيعة الأول على الأصح.

وخامساً: بعض الألفاظ مبني على حركة تدل دون غيرها على معنى خاص. مثل: أنتَ - أنتِ فإسكان (أنت) يحرمنا من فهم المعنى إلا بالسياق والإطناب حيث يغني الإيجاز.

إلى غير ذلك من الأحوال الخاصة بطبيعة لغتنا وحدها.

والعجيب أن اللغات التي تلائم طبيعتها قاعدة إسكان الآخر قد تجنح إلى أدوات شاذة لتعذر اطرادها. مثل إقحام حروف غريبة لا تمت إلى الأصول والأصلاب بصلة ما كالحرف في - أي: (هل هناك. . .؟) والجواب: بلا وجود للحرف الذي وجد لتحاشي التعقيد بالتخلص من تعاقب ولا أعرف لذلك ضريباً إلا في لغة بعض قبائل النوبيين فهم يقولون مثلا: (إتِّرْكِ اكِّرِى) (إتر: طعام - اكرى: هات - الكاف: زائدة لهذا الغرض. وللنوبيين عذرهم في لغة لا تكتب ولا تطرد لها قواعد مدونة.

وعلى العموم فإن إسكان الآخر عامل من عوامل إضعاف اللغات. حتى الأوربية بدليل الاختلاف بين سماعها وقراءتها إلى حد ما. فمعظم حروف الآخر فيها صامتة مثل: - ذلك مستقبلا إلى ضمورها كما أدى تمهيدياً إلى انقطاع الصلة بين المكتوب والمنطوق. لذلك يلتزم بعض الفقهاء في فن القراءات ضرورة الاتكاء على الحرف الأخير في حالة السكون بالقلقلة والغن والتنوين حتى لا يعتريه ضمور أو إبهام أو إضغام.

وهب أننا سنهتدي إلى قواعد للغة المقترحة فلابد من بذل مجهود ضخم في تعليم العامي أن كلمة (مستأبل) خطأ وأن صوابها (مستقبل) بإسكان الآخر وأنها تقدم في حالة الرفع وتؤخر في النصب. بمثل هذا المجهود تقريباً يمكن تعليمه أن الصواب (مستقبلٌ)، (مستقبلا).

ص: 48

والفرق بين المجهودين بسيط لأن القواعد التي تسري على كلمة واحدة تسري على أشباهها جميعاً.

وليس الإعراب بهذه الوعورة التي تنتهي بنا إلى القنوط. والذين لا تحتمل عقولهم بعض القيود المادية كالإعراب لا يرجى أن تحتمل آراء وعلوماً وفنوناً.

عبد الفتاح البارودي

ص: 49

‌القصص

ابن. . .

للأستاذ لبيب السعيد

كان ذلك في مطالع شبابي غب تخرجي في مدرسة التجارة، حين آثر أبي أن ينشئ لي متجراً، وكان هو وجدي وقتئذ يرعيان تجارتي الناشئة، ويقضيان معي الساعات، يوجهان العمال، ويشاركان في استقبال الحرفاء، وينيران لي في كل مناسبة طريقي الجديدة. وكنت يومئذ شديد الرغبة في النجاح، فكنت أستدفع الضجر، وأطامن من اعتزازي بآرائي، وأتقبل توجيهات أبي وجدي راجياً أن أتنور على هديهما مقصدي

وكان أبي لا ينفك يوصيني بألا أبيع بالنسيئة أبدا، ويقول لي: يا بني! خير لك أن تبقي بضاعتك أمام عينك من أن تعطيها الناس ثم تظل في انتظار ثمنها يدفع أو لا يدفع. وكنت أعرف ما جرته النسيئة على أبي من متاعب، فبدا لي أن أتخذ وصاته مبدأ أساسها لمتجري لا أنحرف عنه

ووقفت عصر يوم بجانب مكتبي النصف دائري، وأنا جذلان بنظام محلي ووفرة محتوياته وببشائر النجاح بادية في إقبال الحرفاء ورضاهم. . . وقفت أقبض أثمان المبيعات، وأوجه للعمال أمرا بعد أمر، وأنطلق بين لحظة وأخرى مع مرسلات الأماني. وفيما أنا كذلك، إذ أقبل عليَّ شيخ حطمه الشلل يتحامل على عصا غليظة، وعليه ملابس بلدية موشكة على البلى وإن تكن فاخرة الصنف، وفي صحبته طفل في نحو الخامسة يلبس جلباباً قصيراً خفيفاً، ويحمل وجهه سمات حزن لا يكون في أمثاله

وقال الشيخ في لهجة عزيزة ومنكسرة معاً: (أعطني يا بني عشر أقات دقيقاً)، فهتفت حالاً بالعامل القريب:(زِنْ لحضرته ما يطلب وخذ منه ثلاثين قرشاً)؛ وأجاب الرجل وهو يتكلف الابتسام: (بل يزن المطلوب ويكتب عليَّ ثمنه)، فما أسرع ما اندفعت قائلا في تصميم قاطع:(مستحيل هذا)؛ وابتسم الرجل ابتسامة واهنة، وقال وهو يتلفت كأنه يتحرى ألا يسمعه أحد:(بل ليس مستحيلا، ولا تمنع عمك أحمد الناجي ما يطلب، لا ضامتك الأيام)، ولكني نظرت إليه نظرة لا رفق فيها، وقلت كأني استعجله مغادرة المتجر:(مستحيل جداً يا عمي، وبالله دعنا في شغلنا)

ص: 50

ونظر الشيخ إليَّ ثم إلى طفله نظرات المغضب المغلوب المتحسر فكدت لفرط ما تأثرت بهذه النظرات أستجيب لطلبته لولا أن ذكرت أن الأمر أمر مبدأ، وإني إن بذرت اليوم للنسيئة حبة فسأبذر غيرها غداً، وإذن فسأجني الثمرة المرة التي جناها أبي، والتي حذرني منها تحذيرا. واستدار الرجل في صعوبة وهو يتكئ ببدنه كله على عصاه، وجر رجليه جرا إلى الطريق ومعه طفله الذي كان يحكي هزاله وحقارة ملبسه حكاية البؤس مؤثرة وجيعة

ونزل جدي في هذا الوقت من عربته يصلح وضع مُطرَفه، ويلقي السلام على جيران المحل، وما بصر الشيخ حتى وقف يصافحه بحرارة مبادلا إياه تحيات أيدتهما لي كشقيقين على صفاء ومحبة، وأسرعت فقدمت لجدي كرسياً، ولكنه قدمه إلى الشيخ في اهتمام وهو يقول:(أيها الأخ! إني سائل عنك، قلبي معك) ونادى صبياً يعمل في المتجر أن يحضر قهوة للشيخ. وإذ رأيت عواطف جدي نحو الشيخ تولاني خجل شديد لما فعلت معه، ولكن تولاني أيضاً خوف من أن أورط في هذه العشر الأقات

وتحدث جدي مع الشيخ لحظات في صوت خفيض، فما لبث جدي إن صاح بي في لهجة ناهرة:(أهكذا يا محمد تفعل مع الشيخ؟! زِنْ له عشرين أقة) وصدعت بالأمر كارهاً!

أمر جدي أحد العمال بنقل الدقيق إلى بيت الشيخ الذي علا البشر صفحته، والذي قال وهو قائم يخطو إلى الشارع:(أكتب عندك ستين قرشا على أحمد الناجي)؛ وانطلق متحاملا على نفسه وأنا أتبعه بنظراتي غضبان أسفاً لكسر مبدئي التجاري، وأهمس لعامل قريب معرضاً بجدي:(شيوخ طيبون، يصدقون كل شيء، ويدخل الاحتيال عليهم)

وقعد جدي يردد أدعية بالستر الجميل له ولذريته، ثم قال مسمعاً إياي والأسف ظاهر في وجهه:(إنها الدنيا! الشيخ أحمد الناجي تعوزه أقات من الدقيق! الشيخ الناجي الذي كان يتصدق القمح أرادب! قضاء الله! ضاعت أمواله الضخمة، وأصابه الكبر والشلل، وتخطف الموت امرأته وهو أحوج ما يكون إليها، وله كما رأيت طفل ضعيف تُعوزه التربية!)

وجعل جدي يحرك قبضة عصاه في شبه حركة عصبية، وهو يبدأ ويعيد في الحديث عن صديقه الشيخ مظهراً غضبه مني إذ لم أسارع إلى تنفيس ضائقته، ولم أقدم إليه من الاحترام ما هو كفاء منزلته وعراقته

ص: 51

وجاءني أبي مساء، فحدثته بالذي كان، وكأنما كنت أريد أن أقول له: أنظر ماذا فعل أبوك! فكان يضحك للهجتي، ولكن وجهه كان ينم عن تأثره لمأساة الشيخ الناجي، ومضى يحكيها لي مفصلة وهو يحوقل ويسترجع، على أنه ما لبث أن قالها بينة صريحة:(ومع ذلك فلا تعط أحداً بعدها شيئا بالنسيئة)

ومرت أيام، فجاء الشيخ الناجي بوجه فيه الأسى، وكعهدي به اتخذ من عصاه رجلا بعد رجل، وتكلف لي ابتسامة جاءت خجلى منكمشة وقال: لا تضق بي يا بني، إن لي إليك رجاء يسيراً. . . أتأذن بقرش حلاوة لهذا الصغير؟ (مشيرا إلى ولده)

وعض الحزن على قلبي للطفل الشاخص ببصره إلى الحلاوة، واستحيت لكرامة جدي، فأسرعت بنفسي وقدمت إلى الطفل قطعة من الحلاوة، ثم التفت إلى الشيخ أسأله مجاملا: ثم ماذا؟ فأجاب: (لا شيء، جعلك الله من السعداء)

وجلس على كرسي وإمارات التعب الساغب عليه، واحتضن ولده في حنان وأسف وهو يقول له بنبرة حزينة: يا بني المسكين! تأكل مما يقترض أبوك؟!

وسمعت عاملين يتهامسان بما ينقض عوز الشيخ، وبأنه يقول ما يقول ليسرق عطفي، ولينفي عني كل شك، فهمت نفسي بتصديقهما لولا أن ذكرت تفاصيل ما قصه علي أبي وجدي

ومضى الشيخ يجر جسمه وطفله. وانقضت أشهر وأنا لا أراه حتى كان يوم وردت فيه جنازة إلى المسجد القريب من المتجر ليصلى عليها. ووقف المشيعون ينتظرونها عن كثب من المحل؛ وقال قائل: يرحم الله الشيخ أحمد الناجي! وقال آخر: يا ما أحرز! فقال ثالث: ويا ما أضاع!

وسعى أمامي الركب الذي لا يعود صاحبه، وأنا أتمتم في غير اكتراث كبير:(الله يرحمه. . . ويعوض علي ما في ذمته!)

وغبرت سبع سنين ورد فيها جدي حياض المنون، ولم يفسح بعده لأبي في رحاب العمر، بل عاجله الأجل الصارم، وتحلبت على أموالنا أشداق الطامعين من الأقارب والأباعد، حتى ليخيل إلي أن لو كنا نؤكل ما عفوا ولا شبعوا.

وكنت رشيد أخوتي فألقيت على كتفي أثقال الأسرة. وكان أفدح هذه الأثقال أن أسترد ما

ص: 52

لأبي وأقضي ما عليه. لقد كان أبي يكره أن يستدين أو يدين؛ ولكن التجارة أركبته برغمه هذا المركب واتصلت بالمدينين فهالني الأمر. هذا مُعِدمٌ يقول: كان بودي. . .؛ وهذا منكر يقول: أمامك المحاكم. . .؛ وهذا مخاتل كتب أملاكه لزوجه فراراً من العدل. فأما الموسر ذو التقوى فيريد أن يدفع المائة جنيه عشرين. فأما الدائنون، فقد حسروا لنا اللثام عن بطش وكيد فإنذاراتهم ما تنفد وعنتهم ما ينتهي.

ودخلت المحاكم فكم أموال أنا في حاجة إليها أخذتها مني، وكم قال لي المحامون: هات.

وادركني اليأس من طهارة الذمم، وروعني خراب الضمائر، وثقلت عليَ وطأة الحياة، وأصبحت لا أتبين في غمرات المظالم طريقاً

وقعدت يوماً في متجري أرسل فكري في ظلمات الأحداث المحدقة، وأنعى متوجعاً على المحيط الذي أنا فيه خلوه من رجل يستوحي الضمير ويقدر الشرف، وأدير عيني في مكان أبي وجدي فلا أراهما، وغشيني همَّ أذهلني عما حولي فترة، فما نبهني غير صوت غلام في نحو الثمانية عشرة يلبس جلباباً قذراً وطاقية رخيصة ويحمل علبة صفيح صدئة يقول لي وهو يمد يده إلي بالعلبة: يا عمي محمد! خذ حقك واحداً وستين قرشاً. قلت مستغرباً: أي حق يا بني؟ قال: حقك. . . ثمن الدقيق الذي اشتراه أبي أحمد الناجي، وثمن الحلاوة الطحينية التي أعطيتنيها.

وغمرتني الدهشة، فقد طوى النسيان مساحبه منذ سنين على أحمد الناجي. ولكني سرعان ما ذكرته. ذكرت لهجته، وذكرت فقره، وذكرت جدي وأبي وما قالا في شأنه وما فعلا، وذكرت الدقيق والحلاوة، وذكرت قوله لابنه وهو يحتضنه في حنان وأسف: يا بني المسكين. . . تأكل مما يقترض أبوك.

ذكرت هذا كله، وتفكرت فيما أرى من الغلام، فهزني هذا التصرف الكبير منه، وكأني أمام حادثة من خيال الشعراء، وقلت جاداً: خل هذا المبلغ لك يا بني؛ فأجاب في تمرد وقد اربد وجهه: أتريد أن يدخل أبي النار؟. . . لقد قال لي وهو في أشد التعب قبل أن تصرخ عمتي بأنه مات بوقت قصير، قال لي: يا علي! إذا أراد الله لك أن تشب وتجتاز السنين وتكسب شيئاً فلا تنس أن تسد ثمن الدقيق والحلاوة. وما دمت كبرت واشتغلت في مصنع السجاد بخمسة قروش في اليوم فلابد أن أقضي دين أبي ليدخل الجنة. . .

ص: 53

وأشرق وجه الغلام وهو يضع النقود على مكتبي في عزم وإصرار، وابتسم ثغره ثم مضى في قوة شامخة.

لبيب السعيد

ص: 54

‌الكتب

الترجمة وأثرها في النهضة الفكرية

(تصدير معالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق باشا لكتاب

(المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية) ترجمة الأستاذ يوسف

موسى، وسيظهر هذا الأسبوع)

لقد كانت الترجمة - وما تزال - دعامة من دعائم النهضات الفكرية

والثقافية للشعوب، وبالترجمة بدأت النهضة الثقافية في عصور الإسلام

الأولى؛ إذ أدرك الخلفاء المسلمون حاجة الأمم إلى استتمام غذائها

الفكري من كل سبيل، فتدفقت إلى النهر العربي وديان من مختلف

الثقافات العالمية، وظهر من بينها هذا اللون العربي الإسلامي على

خير ما يكون الاستواء.

وعندما نهضت أوربا من سباتها، ونفضت الكرى عن عيونها، رأت أن أقوم وسيلة لانتعاشها أن تنحو نحو الترجمة، فاندفع الناقلون يترجمون أمهات الكتب اللاتينية واليونانية، وتناولت أيديهم وأقلامهم كذلك أصول الكتب العربية التي عملت على ازدهار الثقافة الأوربية الحديثة.

وحين أسفر فجر هذه النهضة المصرية، وأدرك رجل مصر الحديثة رأس الأسرة المالكة محمد علي باشا، ما للترجمة من أثر فعال في إنعاش البلاد وإحيائها، هداه نظره الثاقب إلى إرسال البعوث العلمية إلى أوربا، لنقل معارف الأوربيين وثقافتهم إلى مصر باللغة العربية، فأرسل ثلاثة بعوث علمية في أزمنة مختلفة، كونت ثلاث طبقات من العلماء والأطباء والضباط والمهندسين، فنقلوا إلى العربية مئات من الكتب في العلوم والمعارف المختلفة. ولقد كان لذلك - بلا ريب - أثره الملموس في اللغة العربية والثقافة العربية.

ومما هو قمن بالذكر أن كل المدد الذي استمده محمد علي باشا لتلك البعوث لم يكن من

ص: 55

الأزهر، تلك الجامعة التي نشرت النور والمعرفة في أرجاء العالم الشرقي. وكان من أظهر هؤلاء الأزهريين وأبعدهم صوتاً، المرحوم رفاعة بك الطهطاوي، الذي عهد إليه برياسة الطلبة المبعوثين إلى باريس، فقام بهذه المهمة خير قيام، واتصل في فرنسا برجلين عظيمين هما المسيو جومار والبارون دماسي، فأفاد من صحبتهما خيراً كثيراً، واستقدمه محمد علي إلى مصر في سنة 1246 هـ وعينه مترجماً في مدرسة طرة، ثم وكل إليه إدارة مدرسة الألسن ووضع نظام لها؛ وكان لتلك المدرسة فضل في نبوغ جماعة من فحول المترجمين.

وكان المرحوم رفاعة بك بطبعه ميالاً إلى الترجمة، فعرب مدة إقامته بباريس وبعد رجوعه منها كثيراً من الكتب والرسائل؛ منها تعريب قانون التجارة، وتعريب القانون المدني الفرنسي، ورسالة المعادن، والمنطق وهو ترجمة لكتاب دومرسيه، وهندسة سانسير، وغيرها، حتى ليقال إنه ترجم بنفسه وبإشرافه ما يربو على ستمائة كتاب.

على أن هذه النهضة التعريبية التي كان زعيمها رفاعة بك، سرعان ما سلط على دوحتها أعاصير من جو السياسة عبثت بأصولها، وأصابتها بما أوقف نموها وأطرادها، وهي بين الفينة والأخرى ما تزال بين النماء والذبول، إلى أن استقر أمرها في وقتنا الحاضر بما نرجو له دوام الاطراد والتقدم والتحرر، بفضل جهود العاملين على رفع مستوى الثقافة من رجال العلم ورجال الحكم.

لقد خطر لي أن أتحدث عن رفاعة بك هذا الحديث الذي أسجل به فضله وسبقه، عندما أردت أن أقدم هذا السفر النفيس الذي وضعه المستشرق الفرنسي الأستاذ جوتييه، وقام بترجمته الأستاذ الشيخ محمد يوسف موسى. لقد سرني أن يصل هذا الأستاذ الأزهري ما بين ماضي رجال الأزهر وحاضرهم في تعريب الثقافات الأوربية التي نحن في أشد الحاجة إليها وإلى من يحسن نقلها، وأعجبني أن ينهض الأستاذ بإكمال ما بدأ به رفاعة بك. وعسى أن يكون فيما أدرك من نجاح وتوفيق في تعريب هذا الكتاب حافز له ولأمثاله من نابهي رجال الأزهر، على إتمام تلك السلسلة التي صاغ حلقتها الأولى سلفهم الكريم.

إني إذ أهنئ الأستاذ بإخراج هذا الكتاب في ثوب عربي فائق، لأهنئه بحسن اختياره للموضوع؛ إذ أن كتاب الأستاذ جوتييه هذا يعد من الكتب ذوات الخطر في دراسة الفلسفة

ص: 56

الإسلامية.

ولقد كان من حسن حظ هذا الكتاب أن يجد من أبناء العربية رجلا فاضلا مثل الأستاذ المعرب، له من الإلمام الواسع بالعلوم الفلسفية ما مكنه من أن يحسن عمله، فيستحق منا ومن قراء العربية شكراً موفوراً.

ص: 57

‌من رسالة إلى صديق

ساعات بين الكتب

(للأستاذ العقاد)

للأستاذ حسين الغنام

عندما زرت أخي الأستاذ الأديب محمد محمد يوسف وهو مريض، لم يمنعه مرضه أن يسألني عن الكتب الجديدة ما ظهر منها وما قرأته، فلما آنست فيه قدرة على قراءة بعد مرضه أرسلت إليه كتاب العقاد مع رسالة جاء فيها عن هذا الكتاب الجديد ما يلي: -

تذكر يا أخي الدراسة المطولة التي كتبتها عن رسالة العقاد (مجمع الأحياء)، عندما قرأتها لك، وتذكر الجزء الذي نشرته منها في مجلة (الرسالة) وقلت فيه:(كان فرحي بظهور هذا الكتاب فرحاً عظيماً، لأن إعادة طبعه كانت رغبة، بل أمنية، اشتهيتها منذ بضعة عشر عاماً، وظهوره في طبعته الثالثة يسد نقصاً في المكتبة المصرية)

وهذه الأمنية وهذا الكلام ينطبقان على كتاب العقاد الجديد وهو الجزء الثاني من (ساعات بين الكتب)، حتى لقد هممت - كما تعلم - مرات عديدة أن أكتب إلى العقاد ليجمع تلك المقالات وينشرها في كتاب، في زمن كادت تنعدم المقالة فيه، إلا بعض مقالات للعقاد نفسه، وللزيات، ولطه حسين، وآخرين قليلين

والذي طالع الجزء الأول من كتاب العقاد (ساعات بين الكتب)، طالع فيه جديداً، ولاشك في الأدب العربي، حتى أن الكثيرين من الكتاب أخذوا يقلدونه، ولكنهم عادوا فانصرفوا عنه يائسين!

وهذه الدراسات التي جمعها العقاد مما نشر في البلاغ الأسبوعي والضياء، والدستور، وطبعها في كتاب، فصارت أشبه بالجامعة التي تفرقت كلياتها ثم اجتمعت في بقعة واحدة!.

وفي الحق أن مقالات العقاد، أو كتبه، هي مدارس أو كليات قائمة بذاتها، ففي كل مقالة منها، وفي كل رأي له، درس جديد. . .

وكتابة العقاد تمتاز بميزات كثيرة، أولها:

1 -

الثقافات الواسعة المهضومة على تعددها، مع استقلال الرأي

ص: 58

2 -

التركيز والإلمام بالموضوع من أطرافه

3 -

نفاذ البصيرة وإشاعات الذكاء العبقري

4 -

قوة التركيب ومتانة الأسلوب وحلاوته

هذه هي الخصائص الأولى في كتابات العقاد، وهذا ما يطالع القارئ في هذا الكتاب، وهذا ما سوف يطالعك عند قراءته!

وإذا كان لي أمنية أخرى، فهي طبع المقالات العديدة المتفرقة للعقاد، في الرسالة وغيرها من المجلات، ثم تدريس هذه المقالات المستقلة لطلبة الجامعتين المصريتين، فإن فيها فناً أدبياً قائماً بذاته، ولا نظن أحداً يستطيع أن يجاري العقاد فيه. . .

ص: 59