الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 631
- بتاريخ: 06 - 08 - 1945
دفاع بليغ
للأستاذ عباس محمود العقاد
عرف الأستاذ صاحب (الرسالة) ما يعنيه بالبلاغة تعريفا بليغا حين قال في كتابه الجديد الذي جمع مقالاته في الدفاع عن البلاغة: (إنها هي البلاغة التي لا تفصل بين لا عقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل، إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفسا لا يتمثل والجسم جمادا لا يحس)
وليس بهذا التعريف من ضير في معناه لأنه بليغ، وليس به من تقصير في الإفادة لأنه جميل، وليس به من نقص، لأنه زاد على الغرض منه إنه أدى هذا الغرض في نسق سائغ وبيان رائق. فما ذنب البلاغة إذن عند من ينكرونها، لأنه كما يزعمون يدينون بمنفعة الكلام، ولا يدينون بالزخرف المضاف إليه؟
إن جماعة (النفعيين) في مذاهب البلاغة العصرية يدعون أن العصر عصر سرعة، وأن الزمن الذي تمتطي فيه السيارة غير الزمن الذي تمتطي فيه الإبل والخيل، فمن أجل هذا ينبغي أن يكون له كلام غير كلام الأقدمين، وبلاغة لا تجري على أسلوب البلاغة قبل ألف عام
وهذا قول صحيح في كل شيء إلا في النتيجة التي يسحبونه إليها سحبا وهو كاره شديد التبرم والالتواء. فإن عصر السيارة الذي يعرفونه به لم يعلمنا شيئا إن لم نتعلم منه أن الفائدة لا تغني عن الجمال، لأنه لا يصنع السيارة للسرعة وكفى، ولا يصنعها للراحة دون غيرها، ولا يصنعها للمتانة ثم لا يبالي بما عداها، بل يصنعها أول ما يصنعها لجمال المنظر وأناقة الصورة والافتتان في النموذج ولطف الحركة والأداة. وما من معمل في الأرض يزاحم غيره في سوق السيارات إلا جعل الزينة مقدمة على الغرض المفيد كما يسمونه، وهو غرض السرعة في الانتقال أو الراحة التي يستمتع بها المنتقلون. ولا تنزل المصانع إلى التزام المنفعة دون غيرها إلا في أحط السيارات وأقربها إلى الابتذال، وهي السيارات التي يعدونها لنقل الحجارة والتراب، أو نقل البضاعة على أحسن احتمال، وإنها مع ذلك لتنتقل إلى الحوذي الأنيق فيزينها ببعض الأصباغ والتعليقات، ويدل بذلك على
ذوق في الحياة أرفع من ذوق البلاغة العصرية والبلغاء العصريين
فالسيارة، أو عصر السيارة، يعلمنا أن الفائدة ليست هي كل ما يتوخاه من الكلام، وأنه إذا وجب على الإنسان وهو ينتقل من مكان إلى مكان في عصر السرعة أن يزيد شيئا على فائدة المركبة المقصودة، فأحرى به أن يصنع ذلك وهو يمثل ذوقه وفكره وشعوره وجملة قدرته على التعبير، لأنه قد ينتقل في سيارة شائهة المنظر، وهو مضطر إلى ركوبها كما قيل إن المضطر يركب الصعب من الأمور، ولكنه لا يضطر يوما من الأيام إلى إهمال مزاياه التي يتفاضل بها المعبرون في الإبانة والجلاء والتأثير
ولقد تحدث أولئك البلغاء العصريون عن بلاغتهم العصرية، فإذا بهم كالذي يتحدث عن السيارة فيعيب على الناس أن ينتقلوا في مركبة غير مركبة الحجر أو مركبة التراب، لأن الغرض المفيد من صنع المركبات هو الانتقال السريع، فما لهم إذن لا يجتزئون عن النماذج الفاخرة بهذه النماذج المبذولة، وهي أقل في الثمن وأيسر في التكاليف؟
لو كان هذا الكلام معقولا لكان تصرف الإنسان كله في تاريخه القديم وتاريخه الحديث غير معقول، لأنه لا يكتفي بالفائدة في مطلب من المطالب ولا في عمل من الأعمال، ولا يزال ينسى الفائدة في سبيل الجمال
وأغلب الظن أن تعريفات هؤلاء البلغاء العصريين للبلاغة لا تنتهي في حقيقتها إلا إلى تعريف واحد يصدق عليهم وعلى ما يلفقون من ذلك اللغط الرخيص، وهو أن البلاغة هي ما يستطيعونه ولا يعجزون عنه، فما استطاعوه من كلام، فهو بليغ مقبول، وما عجزوا عنه فهو من البلاغة السلفية ولو دارت ألفاظه وعباراته على أحدث الآراء
وستمضي العصور وراء العصور، وتنتقل الكتابة من أسلوب إلى أسلوب، ومن موضوع إلى موضوع، ولكن العصور كلها عصر واحد في هذه الحقائق التي لا تقبل الشك ولا تأذن بالتبديل
وهي (أولا) أن الكلام الجميل مطلوب كما يطلب الجمال في كل غرض من أغراض الإنسان
وهي (ثانيا) أن البشر لن يستغنوا في زمن من الأزمان عن لغتين إحداهما تحتاج إلى درس وتعليم، والأخرى تكتسب بالتلقين من الأفواه، وإحداهما تصلح للتعبير عن معاني العلوم
ولطائف الذهن وبدائع الخيال، والأخرى لا تصلح لغير البيت والسوق
وهي (ثالثا) أن التراث الأدبي تراث باق يتجاوز عمر الجيل والجيلين والثلاثة أجيال، وما كان كذلك لا يكتب باللهجة التي تتبدل كل جيل وتختلف من بلد إلى بلد، وتستخدم بغير قاعدة ولا أصل تتفق عليه
ومتى كانت هذه الحقائق من وراء الشك والجدل، فالدنيا لن تخلو من لغة خاصة ولغة عامة، أو من لغة المفكرين وأصحاب القرائح والأذواق، ولغة الجهلاء الذين لا يخلقون الصور الذهنية ولا يحسنون فهمها إذا خلقها لهم الآخرون
وإنه لأرحم بالناس وأكرم لهم أن يتعلم العامة كيف يفهمون الخاصة من أن يحرم على الخاصة أن يكتبوا شيئا يعلو على مدارك العامة. إذ الواقع أننا لو استطعنا أن نكتب العلم والفلسفة بلغة السوق والبيت لم نرفع الصعوبة التي تحول بين الجهلاء وبين فهم تلك الموضوعات كائناً ما كان أسلوب الكتابة فيها
وأعجب العجب أن يقال أن الإنسان يتعلم ليحسن الطبخ واللبس والركوب، ولا يتعلم ليحسن فهم جلائل الأفكار ومحاسن القرائح وروائع الفنون، بل يخلق مستعداً لفهمها بما تلقاه من لهجات البيوت والأسواق
ويخطئ من يعتقد أن العامة من الأعراب كانت تفهم أقوال البلغاء ولا تتكلف دراسة لفهمها والنفاذ إلى معانيها؛ فإن الذين فهموا تلك الأقوال البليغة كانوا أناسا يتعلمون ويحفظون الأمثال ويروون السير والأخبار، ويعرفون الأنواء والنجوم، ولا فرق بينهم وبين متعلمي العصور الحديثة، إلا أن هؤلاء يتلقون دروسهم مكتوبة، وكان أولئك يتلقونها منطوقة لا تثبت في كتاب. أما الذين لم يتعلموا على هذا النمط، فقد كان يفوتهم فهم الشعر المسهل فضلا عن الشعر البليغ، ومن أمثلة ذلك تلك الأعرابية التي لامت زوجها على مدح الناس والترفع عن مدحها والتشبيب بها فقال:
تمت عبيدة إلا من محاسنها
…
فالحسن منها بحيث الشمس والقمر
قل للذي عابها من عائب حنق
…
أقصر فرأس الذي قد عبت والحجر
ففرحت بهذا الهجاء وحسبته من أجمل المدح والتشبيب، وهكذا يفهم مثلها من تسمعه أحيانا من الزجل السهل، وهو عني الفهم رديء المزاج، فإن العامية لا تنفعه في فهم ما ينظم بها
من زجل، ولو كان قريبا إلى الأذهان
ولقد أصاب الأستاذ الزيات كل الإصابة حين أبطل قول المتحدثين عن البلاغة العصرية إنهم يدعون إلى مذهب جديد؛ فقال: (ربما يزعم زاعم أن هذه العامية الأدبية ترجع إلى مذهب من مذاهب الكتابة دعت إليه حال وبعث عليه تطور. فإذا جاز أن يكون هذا الزاعم، فالغالب في الظن إنه لا يعلم إذا كان يجد، أو لا يجد إذا كان يعلم. ذلك لأن المذهب الكتابي والشعري، إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه متبعوه. . .)
وليس في دعوة البلغاء العصريين إلى اللغة العامية أو إلى ما يسمونه بالأسلوب التلغرافي فكرة تسمى مذهبا أو تطورا لمذهب، بل ربما كان التطور الذي حدث في العصور الأخيرة من أسباب سقوط الدعوة والعدول عنها إن كانت قائمة قبل ذلك، لأن العامة يتعلمون في العصور الأخيرة بعد أن كان التعليم في العصور الغابرة وقفا على السراة وذوي الأموال، فلا حاجة إلى الإسفاف باللغة من أجل العامة كما يزعمون، لأنهم في طريق المعرفة إن لم تتم لهم المعرفة جميعا في هذه الآونة، وأيا كان الزمن الذي ينقضي قبل شيوع المعارف الأدبية بين سواد الناس، فما نعلم من أحد من أولئك القائمين القاعدين باسم أولئك السواد يمشي حافيا اليوم، لأن فقراء العامة يمشون حفاة، وينقضي زمن قبل أن يتوافر لهم جميعا لبس الحذاء!
فالتطور الذي أشار إليه الأستاذ الزيات يرتد على البلغاء العصريين، ولن يزال مرتداً عليهم فيما يلي من السنين، وكلما ازداد نصيب العامة من العلم والدراسة قلت اللغة العامية وقل البلغاء العصريون وازدادت البلاغة التي دافع عنها صديقنا صاحب الرسالة فأحسن الدفاع
لقد كان دفاعا جميلا، فلم يضره الجمال ولم يصبه من ناحية الإفادة والإقناع. وقد دافع أناس عن بلاغتهم العصرية، فإذا هو دفاع غير جميل وغير مفيد، وإذا بهم يتكلمون باسم العصر وهم لا يفهمونه ولا يفهمون عصرا من العصور التي سبقته، لأن العصر الحاضر لم تعجله السرعة عن طلب الجمال، بل هو يسرع ويغلو في سرعة ليدرك الجميل ولو تيسر له المفيد
عباس محمود العقاد
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - حواجز اللون
في برقية من لندرة خبر سار يتلخص في أن بعض الجمعيات وجهت نداء قويا يدعو لإزالة حواجز اللون في المستعمرات، وفي ذلك بشرى للأمم المهيضة الجانب، المغلوبة على أمرها
وإنا معاشر المصريين، كأمة عربية، مهما قيل في أنسابها وأحسابها - نفرح ونتهلل لهذا النبأ إن صدق ما يدعون - نفرح لأننا من أنصار الحرية، ومن عشاق المساواة بين الأجناس، ونتهلل لأننا من دعاة الحق، ومن العاملين على نصرة الأمم المضطهدة، ورفع الحيف والظلم عنها
فنحن نعضد هذه الحركة، ونعدها من بشائر الدنيا القادمة، ونرى في نجاحها دعامة من دعائم إنشاء العالم الجديد، وندعو لها بالنجاح، ونصادق كل من يقول بها، ويكافح من أجلها، ويدعو بقلمه ولسانه إليها
لقد قرأنا الكثير مما كتب عن الشعوب الملونة، وضرورة إخضاعها لسلطان الأمم المتمدينة، وخلصنا بنتيجة هي أن تقسيم العالم وشعوبه إلى أبيض واسود وأسمر، وإقامة الحواجز بينها، وحرمان الإنسانية من مجهود بعض الشعوب، إنما هو من عمل الإنسان وحده، ولا شأن للقوانين الطبيعية فيه
وإن النظريات التي تدعو إلى وضع فريق من البشر، في وضع لا يليق بالإنسان، مقضي عليها بالفشل، لأنها من بقايا عصور قد انتهت. . .
ولا محل لها في العالم الجديد، الذي قيل عنه لنا، إنه يسير نحو الديمقراطية والتفاهم والتعاون، وإن الإنسانية تتقدم فيه نحو التساوي في إعطاء الفرص، للفرد وللجماعة بل وللشعوب، بدون نظر إلى جنس أو لون أو دين - فلا فضل لمسيحي على مسلم، ولا مزية لأوروبي على أسود
فهل سيقدر النجاح لهذه الدعوة الصالحة؟
هذا ما ستظهره الأيام في المستقبل، وإن شك الكثيرون في ذلك، وجاهروا بأن ظروف
العالم وما يحيط بنا من دلائل، تجعل الشك أقوى من الأمل، ولكن المؤمنين بالمساواة يقولون بأن الظروف السائدة ليست بدائمة ولا هي أبدية، بل كل ما عليها يتحرك ويتطور: حتى إذا سلمنا بضعف أنصار الفكرة وقلتهم، وإذا تطرق الشك إلى قلوبنا وقلنا إن الملأ قد يجاهرون ويتظاهرون بما ليس في قلوبهم؛ فإن الفكرة في حد ذاتها سامية، ولها من حيويتها ومنطقها وقوة تأثيرها ما يجعلها من ألزم ضرورات هذا العصر، بل تحمل وحدها ما يهيئ لها النجاح. . .
ولقد دعا الإسلام إليها، وكانت إحدى دعائم القوى التي قام عليها، حينما كانت المثل العليا للإسلام ظاهرة واضحة ملموسة، لا يطمسها جمود رجال الدين وتشاغلهم بأمور الدنيا.
ولقد عجبت كيف يمر هذا الخبر على المسلمين فلا يتحرك منهم عالم أو كاتب أو مجاهد، فيقول فيه قولا يتفق مع تقاليد السلف الصالح وحميتهم - ومصر التي ورثت الشافعي وحملت أرضها طائفة من علماء الدين، كانت عزائمهم تهز الدنيا؟ لم لا نتكلم بما أنزل الله؟
أما نحن، فواجبنا فرض كفاية علينا أن نعطي فكرة سهلة، تثير في النفس رغبة الاستزادة في المعرفة والسعي وراء الحقيقة، وغايتنا أن نضع المتناقضات ملموسة أمام نظر القارئ الواعي، ولذلك نتساءل:
هل صحيح أن بعض الحكومات تفرض على ذوي اللون قيودا لا يحتملها الأوربي، فتضع فريقا من بني آدم في موضع المنبوذين؟
أحق ما يقال من أن في القارة الأفريقية ملايين من الناس محرومون من حق الملكية الفردي والإجماعي في أراضي بلادهم، وبعد مضي قرن ونصف على إعلان حقوق الإنسان؟
أصحيح أن حريات السكان الوطنيين ومساكنهم ومعابدهم لا يحميها القانون العام في بعض المستعمرات، فيحرمهم الحماية التي يتمتع بها بقية السكان؟
إذا كان هذا من المبالغة في القول كما يدعون، فهل الحرية الشخصية وما يتبعها من حرية التملك والعبادة والتعليم والثقافة وتعاطي المهن وحق الانتقال، أمور معترف بها للجميع في القوانين المعمول بها للبيض والسود والسمر على السواء؟ أم هناك تفاوت في المعاملة؟
هذه أسئلة عارضة يزيد من أهميتها ما أذيع أخيرا من أن في القارة الأفريقية مساحات
شاسعة من الأراضي، منها ما هو خاضع للدول الأنجلوسكسونية، وما هو مملوك لدول أخرى، وأن المعاملة السيئة التي يلقاها سكان المستعمرات الأفريقية، أو التي تحت الانتداب لدى هذه الدول الأخرى، أثارت اشمئزاز رجال الاستعمار الأنجلوسكسوني وسخطهم، فهل هذا صحيح؟
إننا نتساءل عن هذا، وبقدر ما تزداد رغبتنا في التأكد، بقدر ما تنكشف لنا بعض الحقائق الكونية، وإلا فما هي هذه الحواجز التي تتحدث عن إزالتها تلك الجمعيات المحبة للخير والإنسانية؟
أيتها الشعوب الغالية التي سكرت بخمر انتصاراتها: اعلمي أن السلم العالمي لن يتحقق لغير العدالة، ولا عدالة مع بقاء حواجز اللون، وإلا فقد ذهبت سدى أرواح ثلاثين مليونا من ضحايا الحرب العالمية الثانية، أو كجزية أولى للحرب العالمية الثالثة!
أحمد رمزي
المراجع
1 -
2 -
3 -
الاستعمار الفرنسي في الجزائر
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
الأمة الفرنسية - منذ ثورتها الكبرى قبيل نهاية القرن الثامن عشر - تدعي أنها الحفيظة على الحرية البشرية، وواضعة الحقوق الإنسانية؛ بذلت في سبيلها أغلى المهج والأرواح وسطرتها بدماء أبنائها الأحرار، وأعلنتها دينا ومذهبا في فرنسا، وبشرت بها في سائر الأمم الغربية وغيرها، وزعمت أن غراس الحرية نبت في بلادها، ثم زكا وترعرع، حتى استوى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، فيقطف منها الناس جميعا داني الثمر وطيب الجني
ولقد غلت في حبها وأفرطت في تقديسها، حتى اتخذها مفكروها محوراً لتفكيرهم ومصدراً لوحيهم وإلهامهم، وتغنى الخطباء والكتاب والشعراء بالحرية والإخاء والمساواة شعار الثورة ودثارها، ودين فرنسا الجديد وإنجيلها!!
فهل كان ذلك حقا؟ هل كان ذلك ناجما عن خليقة مستعدة للخير وطلب الكمال، أو نخيزة تحفز لرعاية الفضائل، أو قلب مؤمن بأسمى المبادئ، أو عقيدة دفعت المصلحين إلى نقض بناء الظلم وتقويض دعائم الجور والثورة على القاسطين، وتطهير الأرض من الظالمين؟؟
نقول - والأسف يملأ جوانحنا - إن موقدي الثورة وحاملي بنودها والداعين إلى مبادئها، لم يكونوا مؤمنين بها، فلم تخالط بشاشتها قلوبهم، ولم تمتزج بها نفوسهم، إنما هي شقشقة هدرت ثم قرت، وصيحة دوت في الجو برهة ثم لم تنشب أن ذهبت أدراج الرياح، ولم يلبث كبراء فرنسا وحكامها أن عادوا إلى سابق عهدهم، وثابوا إلى ما كانوا عليه من استبداد ظالم، وغشمرية يختفي فيها الحق ويضيع فيها الضعفاء، ورجع الأقوياء فيها أشد صيالا، وأقوى طماحاً، وإلا فما بال الفرنسيين رضوا بنقض عهد الثورة وميثاقها في أنفسهم، وفي أبناء البلاد التي وقعت في حبائلهم، فأذاقوهم عذاب الهون، وصبوا عليهم صواعق غضبهم وهم ما اجترحوا سيئة، ولا ارتكبوا أمراً إداً
ومن هم أولئك الذين يسامون هذا الخسف ويعانون هذا الظلم من مصادرة للحرية، وإنكار للحقوق الشرعية، وهدم لاستقلال البلاد، وإضاعة لمعالم العدل والمساواة؟
هم عرب المغرب ومسلموها في الجزائر وغيرها. هم أنسال أولئك الأمجاد الذين وطنوا
بهذه البلاد وبالأندلس منذ آماد طويلة، فنشروا فيها مبادئ العدل والحرية، والمساواة والتسامح، وحملوا لواء العلم والعرفان، وأرسخوا فيها دعائم المدنية وأركان الحضارة
هم سلالة أولئك الهداة والرائدين من عرب المغرب والأندلس الذين علموا أبناء فرنسا وغيرهم من أمم أوربا، وأيقظوهم من سباتهم العميق، وأخرجوهم من ظلمات الجهل والجور إلى نور العلم وضياء الحرية يوم أن كانوا يهيمون على وجوههم يتخبطون في دياجير الجهل، ويرزحون تحت آصار الجنف والاستبداد
لقد شهد المنصفون من علماء أوربا ومؤرخيها بعدل العرب وإحسانهم، ورحمتهم وتسامحهم، حتى قال جوستاف لوبون:(ما رأيت فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب)، كما اعترفوا بأن نهضة أوربة إنما نبعت من معين العرب، وشيدت بطلبة البعوث العلمية الذين ارتووا من مناهل علومهم ومعارفهم في طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة ومراكش وصقلية وغيرها. كذلك اقتبسوا من محاسن عاداتهم وقوانينهم، وانتفعوا بما شاهدوه من زراعتهم وصناعاتهم، وتنافسوا في ذلك تنافساً عجيباً، حتى انتشرت هذه المعارف والعلوم، وبزغت شمسها في أوربا، ولاسيما فرنسا وإيطاليا وجرمانيا وإنجلترا، وذلك في القرون الوسطى، فنقلوا عنهم الفلسفة والهيئة والطبيعيات والبصريات والرياضة والكيمياء والطب والصيدلة والزراعة، وتعلموا منهم الفروسية، وأخذوا عنهم عمل الورق والبارود، ونسج كثير من المنسوجات وكثيراً من الحبوب والأشجار
جاء في صحيفة مدرسة أدنبرة:
(إنا لمدينون للعرب كثيراً، فإنهم الحلقة التي وصلت مدنية أوربا قديماً بمدنيتها حديثاً، وبنجاحهم وسمو همتهم تحرك أهل أوربا إلى إحراز المعارف، واستفاقوا من نومهم العميق في الإعصار المظلمة، ونحن مدينون لهم بترقية العلوم الطبيعية والفنون النافعة وكثير من المصنوعات التي نفعت أوربا كثيراً علماً وتمديناً)
وقال المؤرخ الفرنسي لافاليه في وصف مدنية العرب والمسلمين:
(إنهم في جميع الفنون فاقوا المسيحيين، وبلغوا الدرجة القصوى في الحضارة، حينما كان أقرانهم من الأوربيين هائمين في أدوية الجهالة والوحشية، فكانوا فوقهم في العلم ومثلهم في البأس، وكانوا حكماء في المجالس أشداء في المآزق)
فكيف يجوز لفرنسا أن تعامل في القرن العشرين أمة ماضيها المجيد حافل بالمكرمات والمآثر معاملة العبيد الأرقاء، وقد كان أسلافها بالأمس معلميها ومعلمي سائر الأمم، كما كانوا ناشري لواء الحرية والعلم في أوربا وسائر أنحاء الدنيا؟ وكيف سمح لها ضميرها الحي ووجدانها اليقظ أن تنكل بالجزائر في شهر مايو الماضي فتضرب أبناءها ومدنها وقراها بمدافع الطائرات، وتصب عليها من سفنها الحربية وابلا من النيران وحمما من سعير الجحيم، وتسوق الأحرار من بنيها إلى المحاكم فتحكم عليهم بالفناء والموت الزؤام!
ماذا صنع أولئك المساكين؟ وماذا نقم منهم الفرنسيون؟ لم ينقموا منهم إلا أنهم آمنوا بحقوقهم وشعروا بالظلم الفادح ينقض ظهورهم ويثقل كواهلهم، فرغبوا في حريتهم وفي حياة الكرامة والاستقلال، وأبوا حياة الضيم والهوان. . .
يا فرنسا: خفضي من غلوائك، واذكري ما كنت فيه بالأمس القريب يوم الاحتلال الألماني، واعلمي أن في بلاد المغرب بسلاء لا ينامون على ضيم، قد انحدروا من سلالة شرف ومجادة، وجرت في عروقهم دماء سلافهم الأولين الذين جاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق وتوفير العزة للمؤمنين
يستعذبون مناياهم كأنهمُ
…
لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
لا جرم إنه من الخير لفرنسا أن تنظر في سياستها الاستعمارية القديمة فتتنكب سبيلها، وترد إلى تلك الشعوب حقوقها، فبذلك وحده تبقى السلم، ويعم العالم الأمن، وإلا فبواعث الحرب قائمة، ونذرها ماثلة، ولن تكف الشعوب المهتضمة عن المطالبة بحقوقها، ولن تني في الجهاد والاستشهاد في سبيل حريتها
إذا غامرت في شرف مروم
…
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في شيء حقير
…
كطعم الموت في شيء عظيم
حسن أحمد الخطيب
المفتش العام بوزارة المعارف
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 11 -
ج18 ص168:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى
…
لسعى نحوها المكان الجديب
قلت: (لو سعت بقعة لإعظام نعمى) والبيت لأبي تمام من قصيدة في محمد بن عبد الملك الزيات، وقبله:
ديمة سمحة القياد سكوب
…
مسِتغيث بها الثرى المكروب
وبعد ذاك البيت:
لذَّ شؤبوبها وطاب فلو تَسْطيع
…
قامت فعانقتها القلوب
ج19 ص208: قال المؤيد الالوسي في صفة القلم:
ومثقف يغني ويفنى دائماً
…
في طورَى الميعاد والإيعاد
فلم يفل الجيش وهو عرمرم
…
والبيضَ ما سُلّت من الأغماد
وُهِبَتْ به الآجاْم حين نشابها
…
كرم السيول وهيبة الآساد
قلت: (والبيضُ) وهذا ظاهر.
(وهبت له الآجام حين نشابها) وقد جاء (الالوسي) بفتح الهمزة في الكتاب، وهو بضمها كما ورد في (وفيات الأعيان). قال إبن خلكان: هذه النسبة إلى ألوس، وهي ناحية عند حديثة عانة على الفرات. وفي (معجم البلدان):(ومهفهف) مكان (ومثقف) وفيه وفي (الوفيات): (يغني ويقني) ويقنى مثل يغنى، وعندي أن الأصل (يقنى ويفنى) قال إبن خلكان: ولقد رأيت هذه الأبيات منسوبة إلى غيره (إلى غير المؤيد) ولم يقل في القلم أحسن من هذا المعنى
ولبعضهم في القلم أيضاً وهو من هذا المعنى:
وأرقش مرهوب الشباة مهفهف
…
يشتت شمل الخطب وهو جميع
تدين له الآفاق شرقاً ومغرباً
…
وتعنو له ملاكها وتطيع
حمى الملك مفطوماً كما كان تحتمى
…
به الأسد في الآجام وهو رضيع
قلت: (في حياة الحيوان الكبرى) للدميري: (مرهوف الشباة) وهي أصح، وكانت (ملاكها) في طبعة (الوفيات)(أفلاكها).
ج10 ص77:
عناءً مُعِنّ وهو عنديَ راحة
…
وسم زعاف، طعمه في فمي حلو
قلت: (مُعنّ) وهو من (عنّي يعنّي) في القاموس في (عنى): وعناء عان ومعنٍ مبالغة. وفي اللسان: وعناء عان ومعن كما يقال: شعر شاعر وموت مائت، قال الأعشى:
لعمرك ما طول هذا الزمنْ
…
على المرء إلا عناء مُعنْ
والبيت الواوي هو لصاحب اللامية التي يقول فيها:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
…
من لا يعول في الدنيا على رجل
ج4 ص54: وله (لأحمد بن علي الأسواني) تآليف ونظم ونثر التحق فيها بالأوائل. قتل ظلماً وعدواناً في محرمٍ سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وله تصانيف معروفة لغير أهل مصر، منها كتاب منية الألمعي وبلغة المدعي: تشتمل على علوم كثيرة.
قلت: في الصحاح: والمحرم أول الشهور. وفي المصباح؛ أدخلوا عليه الألف واللام لمحاً للصفة في الأصل، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم وعند قوم يجوز على صفر وشوال. وفي شفاء الغليل: محرم بدون الألف واللام نصوا على إنه ممنوع لأنه علم بالغلبة فتلزمه اللام أو الإضافة واستعمله أبن الرومي مضافا في قوله (محرم الحول في تقدمه).
وكتاب الأسواني اسمه (أمنية الألمعي ومنية المدعي) وهو مقامة طويلة وصف فيها منشيها عشرين علما وشرحها. وقد (اختصر هذا الشرح من الأصل مع زيادات في بعض المواضع) العلامة الكبير المصلح الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري.
ج17 ص91: أنشدنا (المحسن بن الحسين العبسي الوراق) لنفسه فيه (في مبارك الكاتب):
مباركٌ بورك في الطول لك
…
فأصبحت أطول من في الفلك
ولولا انحناؤك نلت السما - ءَ ولكن ربك ما عدّلك
قلت: مبارك - بضمة واحدة وهو منادى - وللوزن، والهمزة في أول العجز في البيت الثاني، مكانها في الصدر في السماء.
ج18 ص131: كان أبن دريد قد أملى الجمهرة في فارس ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه. . . فلذلك قلما تتفق النسخ، وتراها كثيرة الزيادة والنقصان، ولما أمله بفارس غلامه تعلم من أول الكتاب، والنسخة التي عليها المعول هي الأخيرة.
قلت: ولما أمله بفارس علامة تعلم من أول الكتاب
ج16 ص184: وللفتح بن خاقان (وزير المتوكل العباسي):
أيها العاشق المعذب صبراً
…
فخطايا أخي الهوى مغفورة
زفرة في الهوى أحط لذنب
…
من غزاة وحَجّة مبرورة
قلت: حجة بالكسر في الفصيح والصحاح واللسان والقاموس. وفي اللسان: روي عن الأثرم وغيره: ما سمعنا من العرب حج حجة. وروى عن الكسائي مثل ذلك. وفي النهاية: الحجة بالفتح المرة الواحدة على القياس. وقال الجوهري الحجة بالكسر وهو من الشواذ. وفي التاج: فتبين أن الفعلة تقال بالوجهين الكسر على الشذوذ. وقال القاضي عياض لا نظير له في كلامهم، والفتح على القياس.
قلت: الكسر خير. وقد قال الأثرم والكسائي ما قالاه. ثم استغفر الله من رواية البيتين.
ج4 ص231: تقدم رجلان إلى القاضي أبي أحمد بن أبي علان رحمه الله فادعى أحدهما على الآخر شيئا فقال المدعى عليه: ما له عندي حق. فقال القاضي من هذا؟ فقالوا: أبن هارون النحوي العسكري. فقال القاضي: فأعطه ما أقررت له به. . .
قلت: (ما له عندي حق) بضم اللام، وقد قالها عامية، فورط المسكين نفسه في بلية. وما كان له - وهو العالم اللغوي النحوي - أن ينطق بغير صحيح. وإني لأتيقن إنه راح يردد - وهو يحمل تسجيل القاضي - هذا المثل:(إن البلاء موكل بالمنطق) ويلعن لغة العامة ودعاها - إن كان لها في ذلك الزمان دعاة. . . - لعناً كبيراً.
ج4 ص68: ولم أزل منذ حرمت التشرف بخدمته أنطوي على مبايعته، وأتلظى شوقا إلى التسعد بخدمة حضرته التي هي مجمع الوفود، ومطلع الجود، وعصره المحمود.
وجاء في الشرح: (المحمود) في الأصل المنجود، فأصلحت إلى ما ذكر.
قلت: وعصرةُ المنجود. في اللسان: قال أبو زبيد:
صادياً يستغيث غيرَ مغاث
…
ولقد كان عصرة المنجود
أي كان ملجأ المكروب. وفي الأساس: هو منجود: مكروب. وتقول: عنده نصرة المجهود، وعصرة المنجود.
و (التسعد) طلب مرعى السعدان. في اللسان: خرج القوم يتسعدون يطلبون مرعى السعدان، وهو نبت ذو شوك، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطباً. وفي المثل مرعى ولا كالسعدان.
فهل قاس الكاتب وهو (أحمد بن علي الصفار من فضلاء خوارزم) التسعد على التشرف أم كان الأصل (التيمن برؤية حضرته) أو الاستسعاد أو ما شابه ذلك.
ج17 ص251:
فأتيتُ مُحْتَضَر الجوى قلق الحشا
…
وأظل أعذِر في هواكَ وأُعذر
وجاء في الشرح: محتضر أي كالمحتضر القريب من الموت، وأعذر: أي أقبل عذري في هواك، واعذر مجهول: يقبل مني العذر.
قلت:
فأبيت محتضِنَ الجوى قلق الحشا
…
وأظل أُعذَل في هواك وأعذَر
ج5 ص114: قال أبو العباس: هذا خطأ البتة.
وجاء في الشرح: في الأصل بتة فجعلتها البتة.
قلت: بتة صحيحة. في الصحاح: لا أفعله بتة ولا أفعله البتة
لكل أمر لا رجعة فيه، وفي النهاية: يقال: بتة والبتة، وفي المقامة الرملية:
طيري متى نقّرت - عن نخلة
…
وطليقها بتة بتلهْ
وفي إرشاد الأريب (ج14 ص220) ولئن استفتى الفقهاء لم يكن عندهم منه إلا التعجب. واقتصر المصباح على بتة. ونقل اللسان والتاج كلام الصحاح ولم يدفعاه، وذكروا قول سيبويه:(قعد البتة مصدر مؤكد، ولا يستعمل إلا بالألف واللام) ولم يؤيداه.
ج17 ص273: ومن شعر (محمد بن أحمد بن حمزة شرف الكتّاب)
أما والعيونُ النجل تُصمى نبالُها
…
ولمعُ الثنايا كالبروق تخالها
ومنعطفُ الوادي تأرج نشره
…
وقد زار في جُنح الظلام خيالها
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى
…
ولكن شديد في الطباع انتقالها
قلت: (أما والعيون النجل تصمي نبالها)(ولمع الثنايا كالبروق تخالها)(ومنعطف الوادي تأرج نشره)(لقد كان في الهجران ما يزع الهوى). فالواو واو القسم.
ج16 ص126: أبو القاسم (محمود بن عزيز العارضي) الخوارزمي الملقب شمس المشرق كان من أفضل الناس في عصره في علم اللغة والأدب لكنه تخطى إلى علم الفلسفة فصار مفتوناً بها ممقوتاً بين المسلمين. وكان سكوناً سكوتاً وقوراً يطالع الفقه ويناظر في مسائل الخلاف أحياناً. وكان الزمخشري يدعوه الجاحظ الثاني لكثرة حفظه وفصاحة لفظه. أقام مدة بخوارزم في خدمة خوارزم شاه مكرماً، ثم ارتحل إلى مرو فذبح بها نفسه بيده في أوائل سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ووجد بخطه رقعة فيها:
(هذا ما عملته أيدينا فلا يؤاخذ به غيرنا).
قلت: وكان ساكناً سكوتًا وقوراً، في الأساس: فلان ساكن وهادئ ووديع. و (سكون) لم أجدها في مكان. وليس هناك إلا (السكون) حي من العرب كما قال التاج.
ذكرتني قصة (شمس المشرق) بهذين الخبرين.
جاء في (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي:
شاهدنا في هذه الأيام شيخاً من أهل العلم ساءت حاله، وضاق رزقه. . . فلما توالى عليه هذا دخل يوماً منزله، ومد حبلا إلى سقف البيت واختنق به، وكانت نفسه في ذلك. فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه. . . فقال بعض الحاضرين: لله دره! لقد عمل الرجال. نعم ما أتاه واختاره. هذا يدل على عزازة النفس وكبر الهمة. لقد خلص نفسه من شقاء كان طال به. . . مع فاقة شديدة. . . ووجه كلما أمه أعرض عنه، وباب كلما قصده أغلق دونه، وصديق إذا سأله اعتل عليه. فقيل لهذا العاذر. أن كان قد تخلص من هذا الذي وصفت على إنه لم يوقع نفسه في شقاء آخر أعظم مما كان فيه وأهول. . . فلعمري نعم ما عمل! لله أبوه! ما أحسن ما اهتدي إليه، وقوى عليه. وينبغي لكل عاقل أن يدفع إلى ما دفع إليه. . . وان كان قد سمع بلسان الشريعة. . . النهى عن هذا وأشباهه فقد أتى بما عجل الله به العقوبة والعار. . . سبحان الله أما كان يسمع من كل عاقل. . . ومن كل من يرجع إلى مسكة. . . النهي عن مثله والزجر عن ركوب ما هو دونه بكثير. فكيف لم يتهم نفسه، ولم يتعقب رأيه، ولم يشاور نصيحاً له. . . لأنه أمر متى ركب بالظن والتوهم اللذين لم
يؤيدا ببصيرة ما عمل فاته التلافي ولم يمكنه الاستدراك. . . وقد قضى العقل قضاء جزماً، وأوجب النظر إيجاباً حتما، أنه يجب ألا يفرق الإنسان بين هذه الأجزاء الملتحمة والأعضاء الملتئمة، وليس هو رابطها، ولا هو على الحقيقة مالكها، بل هو ساكن في هذا الهيكل لمن أسكنه فيه، وجعل عليه أجرة السكنى بعمارة المسكن وحفظه وتنقيته وإصلاحه وتصريفه على ما يعينه على طلب السعادة في العاجل والآجل. وكان سعيه مقصوراً على التزود إلى مبوأ صدق، ولابد له من المصير إليه والمقام فيه. . . على خير غامر وراحة متصلة وغبطة دائمة، حيث لا آفة ولا حاجة ولا أذى ولا حسرة. . . فأما إذا كانت الحال على خلاف هذا، فالشقاء الذي يتردد فيه. . . يكون في وزن ذلك ومقابله.
وجاء في (يتيمة الدهر) لأبي منصور الثعالبي:
لما عاود أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب بخارى من نيسابور. . . وقاسى من فقد رياسته وضيق معاشه قذاة عينه وغصة صدره استكثر من إنشاد بيتي منصور الفقيه:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا
…
في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه
…
وفراق كل معاشر لا ينصف
وقال في معناها:
من كان يرجو أن يعيش فإنني
…
أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
في الموت ألف فضيلة لو أنها
…
عرفت لكان سبيله أن يعشقا
وواظب على قراءة هذه الآية في آناء ليله ونهاره: (وإذ قال موسى لقومه: يا قوم، إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم). فقال بعض أصدقائه: إنا لله! قتل أبو أحمد نفسه. فكان الأمر على ما قال، فشرب السم فمات!!
قلت: مقالة (الإسلامية) في الانتحار والمنتحرين بليغة. روى محمد بن إسماعيل في جامعه:
(من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)
والقوم في الغرب في هذا الأمر مختلفون، فمنهم من يجبن المنتحر ويضعفه وينتقص خليقته ويعده مسيئاً إلى المجتمع وإلى نفسه، ومنهم من يراه مسيئاً إلى المجتمع أو الدولة لا
إلى نفسه، ومنهم من يشجع على الانتحار، ويرى أن المرء إنما يكون عرضاً ولا يكون قصداً، فالأمر في نفسه له.
وروى أرثر شوبنهور في كتابه (في الدين) لأحد حكماء الإغريق ستوبي هذا القول:
على الأخيار أن يعتزلوا الحياة إذا اشتد شقاؤهم، وعلى الأشرار أن يفارقوها إذا عظمت سعادتهم. . .
تطور بلاد العرب الشمالية وتأثير ذلك في علاقاتهم
الخارجية
للميجر ج. ب. كلوب
ترجمة الأستاذ جميل فيعين
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الوجهة التاريخية:
عندما انتقلنا من بحث النظريات المتعلقة بالوجهة الدينية ومناخ البلاد لبحث الوجهة التاريخية - يحسن بنا أن نبدأ بحثنا منذ حكم الرومان والفرس أي من السنة الأولى للميلاد حتى سنة 650 منه. وإن من الخطأ كله الظن بأن العرب قبل الإسلام كانوا قوما متوحشين. إن موقف العرب في ذلك الوقت كان صعباً جداً حيال أكبر إمبراطوريتين عرفهما ذلك العصر. وموقفهم هذا جد شبيه بموقف جرمانيا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر عندما كانت بين الإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية النمساوية. أن اضمحلال هاتين الإمبراطوريتين مكن جرمانيا من الاستقلال والوحدة كما أن نفس السبب أي اضمحلال الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية مكن العرب من تأسيس وحدتهم عند ظهور الإسلام وإنني لا أظن بأن أحدا يحلم بأن يقول إن الجرمان لم يتمكنوا من الاستقلال قبل ذلك الوقت لأنهم شعب منحط. ولذلك يجب أن نعترف بأن العوامل الجغرافية قديرة على تأجيل اتحاد واستقلال أمة ما مدة طويلة.
بظهور الإسلام في القرن السابع ابتدأ الفتح الإسلامي العربي الذي اجتاح أكثر البلدان المعروفة في ذلك الزمان بمدة تقل عن مئة سنة. كما أن العرب تمكنوا من فتح بلاد وجد فيها أوربيون مثل شمال أفريقيا حيث سكن الوندال، وأسبانيا حيث سكن القوط. أن هذه الفتوح التي تعتبر من أعظم الأعمال التي عرفها التاريخ أدت إلى تأسيس إمبراطورية دامت 300 سنة؛ وقد حافظت على كيانها بالرغم من انقسامها فيما بعد وبقيت قوية وعمرت أكثر من الإمبراطورية البريطانية الحالية.
عند قدوم العثمانيين بعد سنة 1350 للميلاد لم يبق للعرب تاريخ ولكن هنا نقطة واحدة
يجدر بنا بحثها لتعلقها بسؤالنا حول قابلية العرب للرقي.
إن العرب لم يعيشوا في خلال السبعمائة سنة الماضية في جو مثبط للعزيمة أو في عصر مدنية راقية وقصروا عنها حتى يمكننا القول بأن طبيعتهم فسدت وفقدوا مزاياهم. إن الأتراك استولوا على الوظائف الرئيسية أبان حكمهم وقطعوا صلات العرب بالعالم الآخر ومع ذلك يصح أن أقول إن العرب الذين نراهم اليوم عاشوا مئات السنين الماضية نفس العيشة التي عاشها الأشخاص الفاتحون الذين قاموا بتأسيس تلك الإمبراطورية الكبرى - طبعا هم جهلة ومتأخرون لحد ما - ولكن لا يوجد شيء يجعلنا نعتقد بأنهم فقدوا صفات الشجاعة والذكاء التي مكنتهم من القيام بفتوحهم وتأسيس إمبراطوريتهم العظيمة.
حيوية العرب العصريين:
دعنا ننتقل برهة وجيزة لبحث حيوية العرب العصريين. وبما أن الوقت لا يتسع لبحث هذه القضية بحثاً واسعاً فسأقصر كلامي على وجهة أو وجهتين بالنسبة للوضع الحاضر.
إنني لم أصادف في تجاربي وأعمالي ما يحملني على الاعتقاد بأن العرب غير قادرين على تيسير الأمور من وجهة حكومية أو إدارية كالحكام الاعتياديين في أوربا أو الاضطرابات والقلاقل التي تقوم عادة عند استقلال أي بلد عربي أمر طبيعي كما حدث في سوريا أو العراق عند انتقال الإدارة من السلطات الأوربية إلى السلطات العربية. وهنا أحب أن أذكر نقطتين: الأولى أن انتقال الإدارة من يد إلى أخرى لابد أن يوجد فترة عدم لستقرار؛ فعندما تسلم البريطانيون والفرنسيون إدارة هذه البلاد من الأتراك حدثت اضطرابات أعظم من هذه ودامت سنين عديدة؛ ولكن الآن وبعد مضي هذه المدة الطويلة على حكمهم يمكنك أن تجد إدارة منظمة كالآلة وموظفين قديرين. الثانية، وربما كانت الأهم أن أهل البلاد التي تحت انتدابنا يعرفون أن من وراء كل بريطاني أو فرنسي قوة عسكرية عظيمة، ومهما حاولنا أن نخدع أنفسنا بقدرتنا فعلينا أن نعترف بأن كثيرا من أعمالنا لا يعزى إلى شخصياتنا بل إلى القوى البرية والجوية التي تزيد من هيبتنا. فإذا ما أخذ عربي مسؤولية الحكم عرف الجميع بأن لا قوة ولا أساطيل وراءه تحميه.
سأقدم إليكم مثلا من وجهة ثانية على قدرة العرب العصريين في تطبيق النظم الفنية والعلمية الحديثة والاستفادة منها. وبهذه المناسبة سأذكر عملا أشرفت عليه بنفسي: عندما
أنشأت قوة البادية حاولت أن يكون أفرادها من البدو الرحل - وهذه الفئة من العرب أجهلها - بعد مضي أربع سنين أو خمس تمكن هؤلاء الجهلاء من القيام بقسم النقل الميكانيكي لتأمين مواصلات القوة كما تعلموا استعمال المدافع الرشاشة؛ وهم الآن يتدربون على إجراء المخابرات اللاسلكية. إن عددا من هؤلاء أرسل إلى مشغل فورد بالإسكندرية ودرسوا جنبا لجنب مع إيطاليين ويونان ومصريين وجنسيات أخرى وعادوا يحملون كغيرهم شهادات فنية في (الميكانيك). ولقد قرأت حديثا في كتاب أن البدوي يذبل ويموت - كالهنود الحمر - عند احتكاكه بالمدنية. فعدا عن خطل هذا الرأي أقرر بأن البدوي - إذا ما أعطي الفرصة - يمكنه أن يصبح متحضرا ومدنيا بكل ما في هاتين الكلمتين من معان.
انقسام الشعوب العربية:
إن الصعوبة التي يواجهها العرب الآن هي عدم التجانس. وقد سبق أن قلت إن سوريا والعراق معرضتان للمؤثرات الخارجية من جهة، وللتأثير العربي الخالص من جهة أخرى. وقد كانت تقوم في أواسط هذه الأقطار وعلى الأخص سوريا وفلسطين وشرق الأردن منافسة شديدة بين ثقافات متباينة. وقد ظهرت هذه المنافسة جلية واضحة بسبب تشدد الأمم الأوربية في مسألة القوميات.
لقد كان ظهور القومية في أوربا سببا في ظهور القومية العربية. ومثل هذه الفكرة كانت مفقودة في زمن الإمبراطورية العثمانية عندما كان العرب لا يعرفون قضية كهذه قبل 50 سنة. لقد كان الولاء زمن الإمبراطورية العثمانية ولاء دينيا لشخص الخليفة أو للإمبراطورية نفسها التي كانت خليطا من أجناس متعددة. وقد كان العرب لا يهتمون بالقضية القومية حتى احتكوا بالأقوام التي حافظت على قوميتها فقاموا ينادون بأنهم أمة واحدة ذات قومية خاصة. وقد كان عرب فلسطين وهم مختلفو الجنسية والدين ينادون بأنهم عرب واتحدوا. ومن ثم بعد أصبحوا يفهمون القومية شعروا باشمئزاز مما يتخيلونه أو يتحققونه من استخفاف الشعوب الأخرى بأمرهم - والخطوة التي تلت ذلك أن الشباب المتعلم قام يعمل ليتعرف إلى الأسباب التي مكنت الأوربيين من حكم بلادهم فوجدوها العلم والمال والقوة، أو بالأحرى ما هو عليه المجتمع الأوربي الحالي، فقام يقتبس كل ما هو أوربي ويعمل على السير وأوربا في مضمار واحد. إن أمام هذه الفئة طريقين مختلفين:
الأول أن تجرب أن تعلم العامة فتسير الأمة وتنهض كلها دفعة واحدة. وتطبيق هذا عملياً جد صعب - والثاني أن يقتبس المتعلمون وحدهم كل ما هو أوربي - وهذا ما فعلوه - فيتركون بذلك طبقة العامة من الأمة - وهم الأكثرية - وراءهم وبذلك يفتحون ثغرة واسعة بين طبقات الأمة. وأرى أن هذا سبب ضعف كبير.
التطورات الحديثة
رأينا في بحثنا عن قابلية العرب للرقي أن الإسلام لا يقف حجر عثرة في سبيل رقيهم، وأن جو بلادهم لا يوجد أمة خاملة، بل على العكس رأينا أنهم شعب قوي حيوي شديد المراس، وأن تاريخ بلاد العرب الشمالية يرينا أنهم أهل عزم وقوة، وقد قاوموا جغرافية بلادهم الشاذة التي جعلت أقطارهم الهامة على الأطراف وأوجدت بادية الشام في الوسط فاصلة أقطارهم عن بعضها البعض - ورأينا كيف أنهم قديرون على الحكم والاستفادة من العلوم والفنون الحديثة كما وجدنا الروح القومية تساعدهم وتسيطر عليهم ولكنها لا تزال الآن محصورة في طبقة خاصة كما أن الأمة غير متجانسة.
عليّ أن أذكر تحت هذا العنوان نقطتين وهما الموارد المعدنية وتحسين طرق المواصلة الحديثة. لقد سبق أن قلت إن أمما كثيرة حاولت أن تحكم البلاد العربية الشمالية ولكن لم يكن القصد من ذلك استثمار موارد البلاد الطبيعية نفسها ولكن لأنها الممر إلى الشرق والجسر البري الوحيد لأفريقيا.
وقد بقيت أواسط الجزيرة العربية حرة في كل أدوار التاريخ إذ كان يظن أنها فقيرة لدرجة أنها لا تساوي كلفة فتحها. لقد اكتشف النفط - البترول وزيوته - في عدة مواضع من هذه الأقطار، ولكن لم تعرف مناطقه وكميته بوجه التحديد. وكذلك يظن وجود بعض المعادن الثمينة فيها، ولكن لا يمكن لأحد أن يتكهن الآن عما ستكون نتائج هذه الاكتشافات - فهي إما أن تدر الثروة - التي هي أساس القوة في العالم على البلاد وإما أن تنبه أطماع الأمم الأوربية.
بقيت هناك قضية طرق المواصلات الحديثة. لقد سبق أن تكلمت بهذه المناسبة عن صعوبة اتحاد الأقطار العربية ثقافيا أو إداريا أو عسكريا بسبب الصحارى التي تباعد بينها، وقد استغرقت رحلة قمت بها قبل 15 سنة على ظهور الجمال من العراق إلى شرق الأردن
ثلاثة أسابيع، ولكن قطع هذه المسافة الآن لا يستغرق أكثر من 20 ساعة بالسيارة أو ساعتين ونصف ساعة بالطائرة. يجوز أن يكون للتحسين الذي طرأ على طرق المواصلات أثر بعيد في توحيد الثقافة بأقطار كالأقطار العربية التي تعد صعوبة المواصلات بينها من أكبر الموانع للقيام بأي عمل من الأعمال. ويجوز أن يقضي هذا التحسن على أهمية مركز حلب الحربي قضاء كليا - فقد سبق أن تعرضت بكلامي لهذا الموضوع وقلت إن من يتمركز في حلب يمكنه أن يعزل سوريا عن العراق عزلا تاما - ولكن إذا أمكن تعبيد طرق جيدة وكثيرة في وسط البادية فإن أهمية هذا المركز تزول.
وأخيرا أرى من الأهمية بمكان أن أذكر شيئا عن الإذاعة واللاسلكي - مع العلم بأن هذين الفنين متأخران في الأقطار العربية. لا ريب إنه سيكون للإذاعة واللاسلكي أثر بعيد في تقدم التهذيب السياسي بين الشعوب المتأخرة كما أن الإنسان يمكنه إهمال إرسال الجرائد لأناس أميين ويمكنه أيضاً الاستغناء عن البريد ولكن من السهل عليه أن يبث أية آراء سياسية بين سكان أقصى واحة من واحات الجزيرة مهما بلغ سكانها من الجهل وذلك بواسطة الإذاعة اللاسلكية.
هذه نهاية ما أردت أن أقوله وأحب إن سمحتم لي أن أقرأ عليكم قبل الختام النتائج التي وصلنا إليها في بحثنا.
1 -
إن موقع بلاد العرب الشمالية وتكوينها الجغرافي، كممر إلى الشرق وجسر بري يؤدي إلى أفريقيا جعلها عظيمة الأهمية - وستبقى على الأغلب كذلك مستقبلا.
2 -
إن تباعد الأقطار العربية الشمالية وتكوينها مثلثا تتوسطه الصحراء جعل الاتحاد السياسي والعسكري بينها صعبا جدا
3 -
إن البلاد المجاورة للصحراء من سوريا والعراق وشرق الأردن كان يؤمها ويتوطنها العرب النجديون على مر العصور بينما نرى بلدان الساحل من سوريا وفلسطين - وحديثا - المدن العراقية خاضعة للتأثير التركي والأوربي وبذلك وجدت ثقافات متباينة في البلاد.
4 -
إن روح القومية التي اكتسحت أوربا خلقت مثلها في الأقطار العربية وقد غذيت هذه الروح باتباع نفس الطرق التي اتبعتها أوربا للحصول على القوة ونتج عن ذلك أن الفئة الراقية من العرب التي أرادت أن تجاري أوربا بسرعة لم تتمكن من النهوض بسواد
الشعب الجاهل مما سبب حدوث فروق ثقافية واسعة بين طبقات الشعب.
5 -
بعد درس مناخ وتاريخ وديانة ونفسية سكان الأقطار العربية الشمالية يمكننا أن نقرر بأن ليس في الإمكان وضعهم في عداد الأمم غير القابلة للرقي؛ فقد ظهر لنا جليا أن العرب يملكون كل المؤهلات التي تمكنهم أن يكونوا شعبا عاملا كأي شعب أوربي.
6 -
إن وجود النفط ومعادن أخرى في بلاد العرب أوجد احتمالات لا يمكن التكهن بنتائجها فقد تدر الثروة على العرب فيضحون قوة عالمية أو تكون مرتعا جديدا لأطماع الأمم القوية الأخرى.
7 -
إن صعوبة المواصلات كانت تقف في وجه الوحدة العربية ولكن استمرار تحسين طرق المواصلات الحديثة قد يساعد في وصول البلاد العربية إلى اتحادها ونهائيا إلى وحدتها.
المستقبل:
يمكننا حصر منهج الرقي في البلاد العربية بما يلي:
1 -
ستمضي برهة غير قصيرة حتى يتمكن سكان الأقطار العربية الشمالية من الحصول على تجانس سياسي وثقافي ويجوز أن تعجل طرق المواصلات الحديثة إنجاز هذا العمل.
2 -
إن وسائل الدفاع عن الأقطار المذكورة صعبة ولكن تحسين طرق المواصلات في البادية قمين بتخفيف هذه الصعوبة.
3 -
إن العرب يملكون المؤهلات الكافية لصيرورتهم. أمة عصرية هامة ولكنهم لا يقدرون على السير وحدهم الآن.
4 -
يتوقف الاستقلال السياسي في كثير من الأحوال على العوامل الخارجية ولذلك لا يمكن التكهن من الآن عن الوقت الذي يمكن للعرب فيه أن يصلوا إلى وحدتهم وينالوا استقلالهم السياسي.
المترجم
جميل قيعين
لا يا معالي الوزير.
. .
لقد أخطئك التوفيق!
للأستاذ سيد قطب
في جلسة مجلس النواب التي نظرت فيها ميزانية وزارة الشئون الاجتماعية وقف النائب المحترم عبد الفتاح عزام ليقول:
(إننا في حاجة إلى حماية أخلاق أبنائنا وبناتنا مما تحمله إليهم الإذاعة في بيوتهم من عبارات جارحة من (يا حبيبي) و (يا روحي) ويجب أن نحذف اعتماد الإذاعة، ما لم تكف عن هذا الذي تذيعه ولا نستطيع حماية بيوتنا منه. . .)
ووقف معالي وزير الشئون الاجتماعية ليقول:
(إن في كلام حضرة النائب المحترم مبالغة، وإن هذا الذي يشكو منه له نظائره في بلاد العالم المتمدن. . .)
أما أنا فأكاد أجزم بأن معالي الوزير لا يستمع لكل ما تذيعه محطة الإذاعة، وإلا لكان رده على النائب المحترم غير هذا الرد. فما يستطيع إنسان سليم الفطرة أن يستمع لهذا الذي يذاع، ثم لا يدركه شعور الاشمئزاز، حتى ولو كان لا يقيم وزنا للأخلاق!
وأحب قبل كل شيء أن أقرر أن الأخلاق التي أعنيها ليست هي الأخلاق التقليدية التي يتحدث باسمها بعض الجامدين والتقليديين، والتي لا تتعدى ظواهر السلوك، وشكليات التقاليد. . . إنما أعني بالأخلاق ذلك الشعور الطبيعي السليم الذي ينفر من التخنث كما ينفر من الفحش، وهذا الشعور في أبسط صوره هو الذي يخدشه ما تذيعه محطة الإذاعة المصرية في أغلب الأحيان
والحب الإنساني الرفيع ليس عيباً، والتعبير عنه ليس عاراً. . ولكن الحب - كما يبدو في محطة الإذاعة - هو حب التخنث مرة، وحب التهتك مرة، وكلاهما ليس هو الحب الفطري السليم الذي يقوم بين الرجل والمرأة لتبنى عليه دعائم الحياة
ولعل أشنع بدعة تكثر منها المحطة في الأيام الأخيرة خاصة، هي الإذاعة من الصالات والإذاعة من الأشرطة السينمائية. وهو تصرف غير مفهوم، ما لم يكن القصد هو ملاحقة الناس في بيوتهم بما يقال في أوساط وأماكن يعف كل إنسان مهذب عن الذهاب إليها،
ويعف بصفة خاصة أن يسمح لبناته وأهل بيته بمشاهدتها.
وكلنا نعرف رواد الصالات، ونعرف ما يجري داخل هذه الصالات. . . نعرف أن جماعة مهذبين يرتادون هذه الأماكن، وقد استعدوا للسهرة بالخمر كيما تنطلق في أجسادهم أقصى حيوانيتها، وكيما يستثير حيوانيتهم ما يشاهدونه من اللحم الرخيص في هذه الصالات. . . ثم هذا اللحم الرخيص يعرض في أضواء حمراء مهيجة على أوضاع لا يرضاها إلا (الرقيق الأبيض) الذي يقتات من هذه الموائد القذرة. . . ثم يهيج السعار الحيواني. . . يهيجه النور الأحمر، والرقص الخليع، والكلمات المكشوفة، والحركات الداعرة، والنبرات المتخلعة، ويهيجه السكر المسرف، والدم المتنزي في أجسام جائعة. . . فينطلق ذلك كله في جو معربد صاخب داعر تشمئز له الفطرة السليمة
. . . ثم تأتي محطة الإذاعة - الإذاعة الحكومية - فتنقل ذلك كله إلى البيوت الطاهرة. . . إلى الزوجات الفاضلات، وإلى العذارى، ونجب أن نقول للمحطة:(إنه لا يزال هناك عذارى ولو قليلات. . .!) وإلى الصبية والأطفال والمراهقين، وإلى جميع أولئك الذين عفوا عن مشاهدة هذا الفحش الداعر في مكانه، فانتقل إليهم في بيوتهم، وتسور الجدران عليهم، لا لذنب جنوه إلا انهم يقتنون جهازا للاستقبال، وأن محطة الإذاعة الحكومية تريد لهم هذا الفحش الذي يفرون منه، فيلاحقهم إلى البيوت!
فأما الأشرطة السينمائية، فلا نستطيع الحديث عنها، فأصحابها يملكون من السلطة في الدوائر الرسمية ما يسمح لهم بأن يخرجوا لنا ألسنتهم إذا نحن حاولنا مقاومة الفساد النفسي والخلقي الذي يبثونه فيها، من ذلك الغزل المخنث يتطرى به رجل رقيع في أغانيه، أو ذلك الفحش الواطئ تتخلع به امرأة هلوك في نبراتها. . . ثم يدعون ذلك حبا. . .!
وإنه لحب، ولكنه ليس حب الرجل السليم الفطرة للمرأة السليمة الطبع. . . هو حب المخنثين والسواقط من الرجال والنساء. ذلك الحب الذي تعرفه المواخير ولا تعرفه البيوت، بل لا تعرفه الشوارع ذات الهواء الطلق. فما يتم حب من هذا الذي تعرضه الأفلام في الهواء الطلق. . . إنما يتم في جو راكد حبيس يغشيه دخان النرجيلة، وسرحان الأفيون في ماخور. . .
ومع هذا كله، فنحن لا نطمع في أن تراقب هذه الأشرطة قبل إخراجها، ليحذف منها ما
يخدش الطبع السليم، حتى لا نصور الحب - وهو عامل البناء والخلق في هذه الحياة - تلك الصورة المريضة المتخاذلة الرخوة الرقيعة. . .
لا نطمع في هذا لأننا نعرف مدى نفوذ أصحاب هذه الأشرطة في الدوائر الرسمية وغير الرسمية! ولكننا نطمع على الأقل في أن تصان أسماع البقية القليلة الباقية في البيوت من العذارى والسيدات عن أن تلوث وتخدش بالأغاني المائعة الهابطة الداعرة المخنثة، يتطرى بها رجل رقيع، أو تتخلع بها امرأة هلوك. . . وذلك أبسط مظاهر الحماية لمن يعفون عن مشاهدة هذه الأفلام واستماع هذه الأغاني، فإذا بها تتسور عليهم الجدران خليعة ماجنة مخنثة، في حين لا يملكون لأنفسهم منها حماية، لأنهم إن أغلقوا جهازهم الخاص حملتها إليهم أجهزة الجيران!!
وكل ما يحتج به مروجو هذا (الأفيون) الخطر الذي يقتل في الشعب كل شعور فطري سليم، ويحيله جماعة من مخنثي الشبان، ومبتذلات الفتيات، وداعرات النساء. . . كل ما يحتج به تجار هذه (المخدرات) أن الشعب يقبل عليها، فهي إذن تلبي رغباته الحقيقية
الشعب يقبل عليها. . . هذا صحيح، لأن الحيوان الهائج كامن في كل إنسان، فإذا نحن ظللنا دائما نهيج سعار هذا الحيوان، ولم نحاول مرة أن ترتفع به إلى مستوى الآدميين، فلابد أن يأتي اليوم الذي لا يبدو فيه إلا هذا السعار
والناس يقبلون على (الأفيون) وسائر المخدرات، ولكن السلطات تكافح الأفيون وسائر المخدرات. . . ذلك أن هناك رجلا إنسانا في حكمدارية القاهرة قد آمن بفكرة المكافحة وأصبحت جزءا من دمه - (وهو أجنبي، وأنا لا أستريح لبقاء الأجانب في وظائفنا الكبرى. . . ولكن الحق حق)!
فهل يتاح لمصر من أبنائها رجل يؤمن بخطر مثل هذه الأفلام والأغاني التي تأكل نفوس الشعب أكلا، وتفسد فطرته الإنسانية، بل تفسد فطرته الحيوانية، حين تصور له الحب في ذلك المظهر المترهل الذميم؟
هل يتاح لمصر ذلك الرجل الذي لا تخدعه كلمات (العالم المتمدن) عن الشعور الفطري السليم، والذي يرصد لمكافحة هذا (الأفيون) الخطر جهده وقواه؟
على أية حال هذه أمنية لا نخدع أنفسنا بتحقيقها، ولكننا نقنع فقط بأن نطلب لأنفسنا الحماية
من محطة الإذاعة الحكومية على النحو الذي اقترحه النائب المحترم، أو على نحو سواه
وهذا الذي نطلبه هو أضعف الإيمان!
سيد قطب
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كتب الأستاذ (إبراهيم هاشم فلالي) مقالا تحت هذا العنوان في عدد سابق من (الرسالة) عرض فيه صورا جميلة من الأدب الحجازي الحديث، فرأيت إتماما للفائدة أن أتبع مقاله بكلمات عن النهضة الحديثة لهذا الأدب حتى يدرك قراء الرسالة شيئا من أسباب هذه النهضة والاتجاهات الأدبية في هذه البلاد المقدسة.
ولست أريد في هذه الكلمات أن أتتبع النهضة من لدن وجودها في الحجاز على يد أحمد بن زيني دحلان المتوفى سنة 886 م ولكني سأكتفي بالنهضة السعودية القائمة فإذا ما انتهيت من عرضها بسطت الكلام في الشعر والنثر وبينت خصائصهما واتجاهاتهما.
النهضة السعودية
الحجاز الحديث قطر متوثب للرقي مؤمن بقديمه العريق وواثق بالنجاح؛ فهو يبذل الجهد ويواصل العمل لمسايرة الأمم العربية التي سبقته في النهضة. وقد بعث فيه هذا الروح القوي ملك عربي واسع الآمال يجيد العربية ويطرب للشعر البارع والنثر البليغ ويستحث الأدباء للإجادة ويدفعهم إلى العناية، فهو يكافئهم على إحسانهم ويحلهم من نفسه منزلة سامية، ويكفي أن يقرأ الزائر لهذه البلاد ثبتا بأسماء المستخدمين في الإدارات والمصالح، فيؤمن بعد ذلك أن الحكومة السعودية لم تخترهم عبثا وإنما كشفت فيهم البراعة في الأدب فأرادت أن تكافئهم عليها بهذه المناصب ليعيشوا راضين مطمئنين منصرفين إلى الإجادة والإنتاج: فالشيخ محمد سرور الصبان، والغزاوي، وعلي حافظ، وعبد القدوس الأنصاري. كل أولئك وغيرهم من الأدباء يتولون كثيرا من مناصب المملكة وينهضون بأعبائها وينالون فوق ذلك عطف جلالة الملك وإحسانه، ولهذا وغيره من الأسباب الثقافية والقومية، رأينا الأدب الحجازي في هذه الفترة الوجيزة من الزمان يثب وثبة توشك أن تكون طفرة.
ومن أسباب النهوض في العهد السعودي العناية بالقومية العربية بعد أن أغفل الناس شأنها ردحا طويلا من الزمان؛ فقد جاء العهد الجديد يحمل الطابع العربي الخالص من كل شائبة ودخيل، ويحمل القوم على التعصب لكل مظاهر العروبة حتى لا تفنى شخصيتهم وتتضاءل ذاتيتهم، عندئذ أدركوا أن في الحياة الجديدة مغزى ساميا لم يدركوا إلا أوائله في
الثورة الحجازية، ولاشك أن ارتباط الأدب بهذه القومية ارتباط متين فهو يقوى بقوتها ويضعف بضعفها. ويكفي أن يشعر الناس أن مليكهم معنى بنهضة عربية تعيد إلى الحاضر سيرة عهود أجدادهم السابقين؛ حينئذ يعملون جاهدين ليسجوا على منوالهم ويتأثرون في كل شيء: في أخلاقهم ولغتهم ومظاهر حياتهم.
والقارئ للشعر الحجازي في النهضة السعودية يجد ظاهرة التعصب للقومية العربية واضحة جلية: فالشعراء كثيرا ما يذكرون ما كان للشرق والعرب من مجد سابق ويتحسرون على هذا المجد الذي ضاع واندثر وحل محله التأخر والجمود. وفي هذه المعاني يقول الشاعر الغزاوي شاعر الملك ابن السعود:
أجلْ. تقهقر هذا الشرقُ فانغمزَتْ
…
قناته بعد أن صالت بها الأمم
واندكّ مجدُ بنيه منذ أن غفلوا
…
عن الحياة وزلّتْ منهمُ القدمْ
وخالفوا فطرة الأخلاق واختلفوا
…
فسامهم كلَّ خسف من رقي بهمْ
وهو يقول أيضاً في موضع آخر مبينا أن العرب قد عرفوا الحضارة وسبقوا إلى النهضة قبل الغربيين:
هل كان للغرب المصوّتِ نأمةٌ
…
أيام كان الشرق لا يستسلمْ
أو كان للغرب المدل بعامه
…
بَصرٌ بما أمسى به يتنعمْ
في هذه الأبيات وأمثالها نرى اعتدادا بالمجد التليد الذي تركه العرب باقيا على الزمان كما نرى اعتزازا به وحرصا على إعادته ففيه البطولة وفيه المجد والمعاني السامية. وقد قال أحدهم وهو عبد الوهاب آشي في هذا المعنى:
بلادٌ سمتْ بالآلي عرفوا
…
طريقَ المعالي ومضمارَها
سعى المجدُ طوعا إلى بابهم
…
وأولتهم الأرضُ أمصارها
إذا جَد جِدّ الوغى يمموا
…
ميادينها وجلوا عارها
وما عن ونى يؤثرون السلام
…
ولكن يربحون ثوارها
بهذا الإيمان الصادق بمجد الأسلاف يتدفق شعر الحجازيين المحدثين ويرون انهم لن ينجحوا في حاضرهم إذا لم يقتفوا آثار السابقين ويعملوا على غرارهم فإذا فعلوا ذلك كان المجد قريبا منهم لأنهم أهل له من قديم الزمان وفي ذلك يقول عبد الله بلخير:
بوركتَ يا عزم الشباب وقدستْ
…
روحُ الشجاعة فيك والإقدامُ
أملُ الجزيرة قد أنيط بعزمكم
…
بغدادُ ترقب نورَه والشامُ
متطلعين إلى الحجاز فإنه
…
في كل عصرٍ قائدٌ وإمامُ
ومن الخير في هذا المقام أن ننقل إلى القارئ ما كتبه معالي الدكتور هيكل باشا في نهضة الحجازيين عن طريق الالتفات إلى الماضي والاعتزاز بالقومية العربية فهو يقول: (وما دام شباب العرب قد بدءوا نشاطهم الفكري على هذه الصورة الواضحة في (أشعارهم) فمن حقهم وحق كل عربي أن ينفسح أمامهم ميدان الأمل في المستقبل، فالأدب نواة كل عمل وكل حياة بل هو رحيق الحياة وروحها، والروح ما قويت قديرة على كل شيء، ولقد أتيح لي أن أتعرف إلى كثيرين (منهم) فرأيت فيهم طموحا وأملا وحرصا على تحقيق هذا الأمل، أما وهذا شأنهم وهذه عزيمتهم الصادقة فلهم أن يصوروا مستقبل بلادهم كما يشاءون، فإذا جاء الوقت الذي تدوي في العالم صيحته كان هذا طليعة العظمة العربية المقبلة وكان المتقدم الذي يسير في أثر أمجاد يعيدون لبلادهم عظمتها ومجدها)
والحجازي خليق ببلوغ هذه الغاية التي يسعى إليها لأنه جلد صبور، قد أوحت إليه الحياة الخشنة في الصحراء كثيرا من أخلاق الصرامة والثبات والعمل المتلاحق الذي لا يدركه فتور ولا كلال.
ولاشك أن هذا الاتجاه العربي القومي قد أفاد اللغة والأدب أجل الفوائد، ولاشك كذلك أن هذه الآمال التي استمدوها من الماضي العريق قد دفعت الأدب دفعا قويا ظهرت ثمراته في عهد قليل، ولن يتوانى هذا الأدب عن تقدمه السريع وإمعانه في التجديد والرقي ما دامت القومية العربية طابعه وفسحة الآمال تستحثه وتنهض به. وتاريخ الآداب في الأمم المختلفة يوضح لنا هذا القول؛ فما قوى أدب أمة من الأمم إلا في ظلال قوميتها وعلى أساس من آمالها المتوثبة الجريئة، وما ضعف إلا في العهود التي تخاذل فيها الناس وتناسوا قوميتهم وفقدوا آمالهم؛ لأن الأدب يتمشى مع القومية والآمال ويستمد منهما معاني الحياة الباقية الخالدة
الثقافة
الثقافة عماد الأدب ومادته ولا ينهض أدب في أمة من الأمم ما لم يتهيأ لها من وسائل العلم
ما يقدرها على إدراك الحق والجمال، وبهذه الثقافة يتسع أفق الأديب فإذا ما تناول موضوعا تناوله عن بصر به وعلم بدقائقه ونواحيه المختلفة.
وقد منيت الثقافة في الحجاز في العهد العثماني بما جعلها ضئيلة متأخرة ومحدودة تافهة لا تغني ولا تنفع في إعداد الأديب المثقف؛ فقد اقتصر التعليم في ذلك العهد على التعليم الابتدائي وهو كما نعلم لا يعد شاعرا ولا يخرج كاتبا، فإذا عرفنا مع هذا أن العناية باللغة التركية قد فاقت العناية باللغة العربية وأن المواد المختلفة في هذه المدارس كانت تدرس بالتركية؛ أمكننا أن ندرك إلى أي حد ضعفت العربية في هذه البلاد.
نعم كان في الحجاز الحرمان الشريفان يقوم فيهما العلماء بتدريس الدين واللغة العربية على الطريقة التي كانت تتبع في الأزهر الشريف وهي طريقة لم يظهر فضلها إلا في حفظ العلوم اللسانية والدينية من الضياع ولكنها لم تجد في تخريج الأدباء والشعراء.
لهذا كله أشفق المصلحون في الحجاز من ذوي المروءة على اللغة العربية ومصيرها فهبوا لإنشاء المدارس التي تنهض بالدين والأدب وكان أسبقهم إلى هذا العمل السيد محمد زنبيل فقد أنشأ مدارس الفلاح في جدة ومكة سنة 1326 للهجرة وجاهد في سبيل نهضتها وبقائها على الرغم مما أثير حولها من الشكوك والأوهام، وكان لهذه المدارس الحرة الفضل الأكبر في تخريج طائفة من الشبان هم الآن حملة لواء النهضة الأدبية والفكرية في البلاد الحجازية.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أبو بكر إبراهيم
النظام الزراعي في بلاد السوفييت
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
اتساع الروسيا وأثره في الزراعة
ليس في العالم دولة باتساع الروسيا، فمساحتها 8 ، 764000 ميل مربع ممتدة من أواسط أوربا غربا إلى المحيط الهادي شرقا، ومن المنطقة المنجمدة الشمالية شمالا إلى البحر الأسود وبحر الخزر والقوقاز وإيران والصين جنوبا. فبلاد مثل هذه تختلف أجواؤها من البرد القارس في الشمال إلى الحر اللافح في الجنوب، ومن غزارة الأمطار وما يتبعها من الرطوبة إلى الجو الصحراوي الجاف ذي الرياح الحارة. فتكاد تكون روسيا سلسلة من السهول المتسعة الأرجاء تفصلها سلاسل من الجبال وعدة من الأنهار، فالزراعة فيها إذن تمثل زراعة المناطق شبه الحارة، وكذلك الزراعة الصحراوية الجافة، وزراعة المناطق المعتدلة الرطبة والمناطق الباردة الثلجية. وكان يسكن هذه البلاد نحو 170 مليون نسمة منهم نحو 80 % من الفلاحين المسخرين لأسيادهم من أسرة القياصرة والنبلاء والأشراف الذين كانوا وحدهم يمتلكون الأرض
حالة الفلاح قبل عهد السوفييت
نعم كان هؤلاء الفلاحون عبيدا أرقاء ينتقلون من سيد إلى سيد، وكان الفلاح يسمى (موجيك)، وهي تصغير كلمة (موج) أي الإنسان بالروسية. ومعنى ذلك أن الفلاح الروسي كان في نظر مستعبديه في عهد القياصرة مخلوقا أدنى من الإنسان كالمنبوذين في الهند، فلا عجب أن وصموه بما يوصم به الفلاح المستعبد في أي بلد آخر بالوحشية والقسوة والكسل واللصوصية والنفاق والغش وغير ذلك من الصفات المنفرة، ونسوا ما وضعه الله فيه من المحاسن الخلقية التي برزت في أوضح شكل بعد نيله حريته. فالفلاح الروسي كغيره من أبناء الطبيعة ماهر في الاستفادة من كل ما حوله فتراه في الغابات الشمالية الروسية يصنع قوارير السوائل من قلف الأشجار، ويجدل الألياف الداخلية لهذا القلف ويصنع منها أحذيته. وتراه في بلاد أوكرانيا، حيث تنعدم الأشجار الخشبية يبني أكواخه من قصب الغاب والطين. وترى الفلاح الروسي يصنع سروج خيله بنفسه من الجلود التي يدبغها، فهو لا
يترك من منتجات بيئته شيئا إلا استغله لمصلحته
حالة الفلاح في عهد السوفييت
فلما نشر السوفييت حكمهم في هذه الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، حرروا الفلاح من عبوديته، وعاملوا كافة الشعوب والجنسيات التي كانت تحت حكم القياصرة على قدم المساواة، فجعلوا الإمبراطورية الروسية القديمة التي تضم 180 جنسية في إحدى عشرة جمهورية وطنية و22 جمهورية مستقلة لكل منها دستورها الخاص مع تمتعها بكامل استقلالها وحريتها ومساواتها مع كافة جمهوريات الاتحاد السوفيتي الأخرى، ولكل من هذه الجمهوريات مطلق الحرية في الانفصال عن الاتحاد السوفييتي متى شاءت. فالاتحاد السوفيتي إذن عبارة عن مجموعة من الأمم المستقلة المرتبطة برباط الثقافة والمصلحة الاقتصادية، وهذه الجمهوريات هي جمهوريات الاتحاد الروسي في أوربا ثم أكرانيا وبيلوروسيا وكاريليا الفلندية ومولدافيا ولتوانيا ولاتفيا والجمهوريات الاستونية واذربيجان وجورجستان واريفان أي أرمينيا وترمكنيان والأزبك والتادجيك والقازاق والكرغز، وذلك عدا المقاطعات المستقلة داخل هذه الجمهوريات التي تمثل نحو أربعين جنسية تتمتع كل منها بكامل حقوقها في إدارة نفسها بنفسها
استصلاح الأراضي والتوسع في الزراعة
مساحة الأراضي المزروعة
كانت مساحة الأراضي المزروعة في الروسيا القيصرية (في سنة 1913) 252 مليون فدان. فلما تولى السوفييت الحكم رأوا أن السكان في الروسيا يزيدون سنة عن سنة حتى أن تعدادهم بلغ في يونيو (سنة 1941) 190 مليون نسمة فعملوا على استعمار الموات من الأراضي باستصلاحها ونشر الزراعة شمالا وشرقا في مساحات هائلة لم تمسها يد المزارع من قبل فبلغت مساحة الأراضي الزراعية بجهودهم (في سنة 1929) 783 مليون فدان وبلغت 317 مليون فدان في سنة 1935 أي بزيادة قدرها نحو 65 مليون فدان. وقد استصلح السوفييت في ثلاث سنوات من سنة 1933 إلى سنة 1935 خمسة ملايين فدان كانت من قبل مستنقعات، وأربعة ملايين فدان أخرى في سنة 1936. وقد استمروا في
التوسع في الزراعة في المناطق الشمالية النائية، وفي الشرق في الأراضي شبه الجافة حتى بلغت مساحة الأراضي الزراعية في سنة 1937 (428 مليون فدان) أي أن مساحة الأراضي الزراعية زادت في حكمهم عما كانت عليه في سنة 1913 (179 مليون) فدان أي بزيادة نحو 70 % وقد ازدادت المحصولات بهذه النسبة وكانت الزيادة واضحة بصفة خاصة في المحصولات الصناعية كحاصلات الألياف مثل القطن والكتان والقنب والرامي وغيرها، وفي حاصلات الزيت كالسمسم والفول السوداني وعباد الشمس والسلجم والخروع وبذر الكتان والقرطم وغيرها وفي بنجر السكر. وقد اهتموا بصفة خاصة بالتوسع في الخضروات فزادوا مساحتها بنحو ضعفين ونصف، وبمحصولات العلف إذ ازدادت مساحتها بنحو أربعين أضعاف، وأدخلوا محصولات منها جديدة مثل حشيشة السودان وأنواع من الحندقوق والقصب (البرسيم الحجازي) والفصفصة والجلبان وحشيشة التيف وأنواع مختلفة من البرسيم والحشائش النجيلية.
إلغاء الزراعة القروية وإنشاء الزراعة التجمعية
وقد وضع السوفيت نظامهم الزراعي على أساس جعل موارد الإنتاج ملكا للدولة، وهم ينفذون إصلاحاتهم طبقا لمشروعات موضوعة لصالح الشعب عامة لا لمصلحة طبقة خاصة على حساب باقي الطبقات؛ وبرامجهم موضوعة بحسب الأصول العلمية الحديثة؛ ولكن مشروعاتهم تتبدل وتتغير طبقا لتبدل الظروف والأحوال. كما أنهم لا يتقيدون لإتمامها بميعاد خاص، فهم بذلك يتبعون تعاليم زعيمهم لينين الذي قال:(ليست تعاليمنا قانونا ثابتا فستعلمنا الحياة والتجربة لنهتدي إلى الطريق المستقيم، فخبرة الملايين من الناس وهم يسعون ويعملون تنير لنا الطريق).
وقد وضعوا نظامهم الزراعي على أساس إلغاء الزراعة الفردية لأنها لا تتفق مع التقدم الميكانيكي الحديث ولا تصلح لبلاد متسعة الأرجاء مترامية الأطراف مختلفة الأجواء كالروسيا وعلى إحلال نظام الزراعة الواسعة بالآلات الميكانيكية الحديثة محلها.
وقد دخل السوفييت في تجارب قاسية لبلوغ هذه الغاية كلفت البلاد الروسية عشرات الملايين من الضحايا وأموالا لا تحصى. فبنوا سياستهم الزراعية على إلغاء الملكية الفردية واستبدالها بإنتاج تجمعي لكيلا يضيعوا المجهود الآدمي من غير مبرر في الزراعات
الفردية الصغيرة. فأنشئوا المزارع الحكومية الواسعة والمزارع التجمعية ومحطات للجرارات والآلات الزراعية لتقوم بجميع العمليات الزراعية.
المزارع الحكومية (مزارع السوفهوز)
رأى السوفييت أن ازدياد مساحة الأراضي وامتداد الزراعة في المناطق النائية لا يتأتى بإنشاء المزارع الحكومية الواسعة التي سموها باسم (سوفهوز)، وقد بدءوا إنشاءها من مبدأ حكمهم فبلغ عددها في سنة 1922 ألف مزرعة تقريبا. ومن سياستهم أن يعمل فيها العمال الزراعيون كموظفين بمرتب ثابت، وكونت حكومة السوفييت لجنة للحبوب غرضها تنمية مزارع الحبوب الحكومية للحصول على كميات من الحبوب تزيد قليلا في السنة عن مليون ونصف طن، فأنشئوا 150 مزرعة حكومية جديدة مساحة أراضيها 12 مليون فدان في جمهورية قراقستان، وفي الفولجا الأوسط والسفلى وفي ألأورال وشمال القوقاز وأوكرانيا وجمهورية البشكير وأنشأوا بعض المزارع الكبيرة في المناطق الجافة وشبه الجافة، وكانت أراضي هذه المزارع قبل الانقلاب الزراعي الميكانيكي في الروسيا لا يمكن الانتفاع بها في الزراعة
وتعتبر هذه المزارع محاولة من حكومة السوفييت لاستعمار هذه المناطق التي كانت فيما سبق مراعي طبيعية للخيل والأغنام، ولكي ينتفع بهذه المساحات الهائلة من الأراضي التي طردت منها الأغنام والخيل اعتمد السوفييت اعتمادا كليا على استعمال الآلات في الزراعة ليتجنبوا بذلك فعل الرياح الحارة الجافة المحرقة للمحصولات. ولا جدال في أن ري هذه الأراضي إذا أمكن يأتي بالفائدة المطلوبة، ولكن هناك صعوبات تجعل ريها باهظ التكاليف، لذلك اعتمد السوفييت في سقيها على ثلوج الشتاء، فهم يحرثونها بعد إزالة المحصول الصيفي، ثم يزرعونها في الربيع بعد ذوبان الثلج زراعات متعاقبة من القمح. وقد أنتجت هذه الأراضي البكر محصولا فاق كل متوسط في الأراضي الروسية الأخرى.
وقد بلغ عدد العمال الزراعيين في هذه المزارع الحكومية في موسم سنة 1934 ثلاثة ملايين نسمة فيما يزيد قليلا عن أربعين مليون فدان زرع ثلاثة أرباعها حبوبا. وبلغ عدد المزارع عشرة آلاف مزرعة مساحتها 28 مليون فدان منها مساحات كبيرة لم تزرع بل تركت للرعي
وتتبع المزارع الحكومية أكثر من عشر من الإدارات الحكومية المختلفة؛ لذلك اختلفت طرق إدارتها والنتائج المتحصلة منها، فكانت مصلحة المزارع الحكومية تدير 173 مليون فدان لا يزرع غير تسعها فقط، وتدير قومسيرية الزراعة 531 مزرعة مساحتها 17 مليون فدان يستغل ثلثاها في تربية الخيل وكذلك لإكثار التقاوي ولزراعة القطن والكتان والقنب والحاصلات البقولية والأرز ونباتات المناطق شبه الاستوائية وتربية الحرير والماشية والأغنام والماعز، ويتبع قومسيريات مزرعة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي المختلفة 600 مزرعة للخضروات والدجاج والفواكه وكروم العنب؛ ولقومسيرية صناعات الأغذية نحو هذا العدد من مزارع بنجر السكر والخضروات والبطاطس والدخان والدجاج والخنازير والزيوت العطرية عدا مساحات هائلة من الصوبات الزجاجية. وقد أعطى السوفييت عناية خاصة لصناعة الزيوت العطرية التي تستعمل في الروائح العطرية فخصص لزراعة محصولاتها 6000 فدان في سنة 1936 ولا يقوم بهذه الزراعة والصناعة إلا النساء.
وكان لقومسارية التجارة الخارجية 28 مزرعة مساحتها 7 ، 000 ، 000 مليون فدان خصصت لتربية الثعالب الفضية والأغنام الفارسية والأرانب وحيوانات الفراء المختلفة.
وكانت قومسارية الصناعات الثقيلة تزرع المحصولات التي يستخرج منها المطاط في مساحة 130 ألف فدان موزعة في مناطق واسعة وخاصة في مناطق قازاقستان وبحر أزوف والبحر الأسود.
وكان 13 مليون فدان تتبع ست قومسريات مختلفة لتمد هيئات مختلفة تعاونية وغير تعاونية مثل مطاعم المصانع والحوانيت ولتزويد المصالح الحكومية الأخرى المختلفة باحتياجاتها من المواد الخام، ولم تتعد مساحة الأرض المزروعة في المزرعة الواحدة ألفي فدان
وقد راعت حكومة السوفييت أن تجعل مساحة المزارع الحكومية (السوفهوز) كبيرة جدا لتخفض بذلك نفقات الإنتاج فكانت تتراوح مساحة المزرعة بين 80 - 160 ألف فدان ولكن منها ما كان أكبر من ذلك كثيرا مثال ذلك المزرعة المسماة أي الضخمة ومساحتها 600 ، 000 فدان.
ولكن نظام مزارع السوفهوز أخذ يظهر عيوبه ابتداء من سنة 1931 فقد اتضحت خطورة الاعتماد على نظام زراعة محصول واحد والتمسك به تمسكا شديدا ولذلك عدل باتباع دورة زراعية منظمة. وقد اتضح أيضاً أن مزارع الحبوب متسعة جدا لدرجة يصعب معها إدارتها إدارة ناجحة. لذلك خفضت مساحة المزرعة الواحدة منها في سنة 1932 بحيث لا تزيد عن 108 ، 000 فدان على أن تقسم داخليا إلى عدة مزارع صغيرة يدير كل منها مساعد مدير. وقد نتج عن إنشاء مزارع تربية الحيوان العظيمة الاتساع أن الحيوانات كانت تتجمع في قطعان كبيرة مما ساعد على انتشار الأوبئة بينها، فقد كانت مساحة تربية الماشية 63 ألف ميل مربع ومزرعة تربية الأغنام تزيد عن 46 ألف ميل مربع فقسمت هذه المساحات الهائلة إلى مساحات أصغر منها لتسهل إدارتها. وكان من أكبر الأخطاء التي ارتكبت أن استولى عمال الحكومة على الماشية قبل أن تنشأ لها الحظائر اللازمة لإيوائها ويعين لها الكلافون اللازمون للعناية بها. وقد عاقبت حكومة السوفييت الموظفين المسؤولين عن هذه الأخطاء بإعدام ثلاثين منهم.
وقد اتضح في النهاية أن تجربة إقامة مزارع السوفهوز قد فشلت تماما فأعلن ستالين في سنة 1933 أنها لا تغطي نفقاتها فيما عدا بضع عشرات منها. وفي نهاية سنة 1935 أعلنت الحكومة السوفيتية حل عدد كبير منها وإضافة أراضيها إلى المزارع التجمعية، ولم يستبق من مزارع السوفهوز غير التي رأوا ضرورة إبقائها للاستغلال على أساس تجاري، وقد وضعت تحت إدارة ثلاث قومسيريات هي: قومسيرية المزارع الحكومية، وقومسيرية صناعة الأغذية وقومسيرية الزراعة.
(البقية في العدد القادم)
دكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم أمراض النباتات بوزارة الزراعة المصرية
التعليم ووحدة الأمة
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
- 7 -
يسر الباحث في مسائل تربية الجيل الجديد وتعليمه أن يرى آراءه التي يدلي بها بين آن وآن موضع عناية وتقدير من الجهات ذوات الشأن، فإن التصريحات التي قام بها معالي وزير المعارف عن مشاكل التعليم الأصيلة والمؤقتة، وعن الخطوط الأولى للسياسة التعليمية العامة، وعن ضرورة توحيد المرحلة الأولى في التعليم العام، وعن العمل لتحسين حال المعلمين ورفع الغبن عنهم. وأن ما قرأناه في الصحف عن التفكير في ضم طوائف المعلمين بعضها إلى بعض، وتوحيد صفوفها لتدل كلها دلالة واضحة على صحة الاتجاهات التي اتجهنا إليها في إثارة هذه المسائل وبحثها.
كما وأن ذلك لمما يشجعنا على المضي في بحوثنا عسى أن يساعد على إنارة الطريق أمام العاملين على النهوض بالتربية والتعليم عندنا وعند الأمم العربية الشقيقة التي قد زادت رابطتنا بها وبنهضتها وبثقافتها هذه الجامعة العربية الفتية. وعسى أن يمكن ذلك من إيجاد أسس قوية موحدة في بناء نهضة هذه الأمة، وتوحيد صفوفها، ورفع شأنها بين الأمم عن طريق العناية بناشئتها، وتسليحهم في مستقبل حياتهم بأسلحة العلم الحديث والتفكير السليم مع تقوية أسباب التناصر والتعاون بينهم آملين ألا يمضي وقت طويل حتى تجتمع لجنة الثقافة في الجامعة العربية لبحث هذه المسائل الهامة، كما اجتمعت لجنتا الزراعة والاقتصاد فإن توحيد الثقافة هو أساس التفاهم والتعاون كما إنه هو أساس التكوين والتدعيم.
إن اتجاهات الإصلاح التعليمي في مصر لم تتناول في مختلف أطوارها مع الأسف التفكير الجدي في تنشئة المعلم وتكوينه واختياره والعناية به إلا في حدود ضيقة جدا؛ فقد اعتدنا ألا نفكر إلا إذا اضطرتنا الحاجة الملحة إلى ذلك التفكير ولم توضع سياسة ما من قبل لإعداد المعلمين المتآخين المتحابين المتجانسين المتعاونين وتنشئتهم بل كان أمر إعدادهم يتبع ظروف إنشاء المدارس الجديدة أو فتح فصول في القديمة، فإذا وجدنا ضغطا في هذه الناحية قمنا على وجه السرعة بإيجاد معهد لتخريج عدد من المعلمين، ثم لا نلبث أن نستغني عنه، ونغلق أبوابه إذا ما خف الضغط وقل الطلب، ولذا نرى معاهد ومدارس
لتخريج المعلمين كثيرة وجدت ثم أغلقت حسب الظروف. ومن هنا نشأت هذه التشكيلة المختلفة من المعلمين في التعليم العام التي لا نظير لها في تعدادها وتفاوتها وتنافرها وقلة انسجامها وعدم تعاونها في أي بلد آخر من بلاد الله مما كان له الأثر الملموس في جمود المدرسة وخمود روحها، وضعف أثرها في أبنائها، وانعدام روح التعاون بينهم مع ضعف الروح العلمية، وقلة الإقبال على الاستزادة من العلوم والفنون إلا ما كان خاصا بالامتحان وضعف روح الإقبال على العمل الحر المنتج إذا ما انتهوا من الدراسة وحصلوا على الإجازة التي تسلمهم إلى الوظيفة خصوصا بعد أن وضعت لها التسعيرة الجديدة المغرية.
فإذا كان معالي وزير المعارف قد ذكر في بياناته أن نجاح المشروعات الجديدة في التعليم يتوقف أساسيا على المدرس فإن هذا هو الحق لا ريب فيه. ولذا فقد ذكر معاليه إنه قد عني عناية شديدة بأمور المعلمين، ولديه مشروعات عديدة لترقية معاهد إعداد المعلمين، وتهيئة الوسائل لتكميل ثقافة الحاليين منهم، وأنه حفظه الله يعمل على إزالة الشعور بالغبن المستولي على نفوسهم. وإن في هذا كله ما يدل على الروح الطيبة المحبة للإصلاح والخير التي أملت على معاليه هذه العناية وهذا التقدير وهذا الاتجاه المستقيم. فما أقسى هذا الشعور بالغبن الذي يحز في نفوسهم. وما أشد أثره في أعمالهم ومسؤولياتهم! وما أعمق تأثيره في الرسالة الملقاة على المدرسة وواجباتها! وإذا كان معاليه قد سبق أن قسم مشاكل التعليم إلى أصيلة ومؤقتة؛ فإن مشاكل المعلمين وهي فرع هام من مشاكل التعليم فيها كذلك الأصيلة وفيها المؤقتة، فأما مشكلتهم الأولى الأصيلة في رأينا فقد سبق أن تناولناها بالبحث وهي تنحصر في تعدد طوائفهم، واختلاف ثقافاتهم، وتباين تفكيرهم، وتنوع نظراتهم إلى واجباتهم وأعمالهم وإلى الحياة العامة كلها، ولعل هذا هو السبب الأساسي فيما نلمسه من انعدام فكرة التعاون في المدرسة، ومن جمود في حركتها ومن انحطاط في روحها، ومن خمود في اتباع أساليب التربية الحديثة فيها. ومن تجاهل لرسالتها الحقيقية التي لا تتعدى النجاح في الامتحانات والعمل لها.
من أجل ذلك سرنا ذلك الاتجاه الجديد الذي أخذت الوزارة في بحثه وبدت بشائره على صفحات الجرائد من الميل إلى ضم طوائف المعلمين بعضها إلى بعض في اتحاد واحد ثم ظهر أثره فعلا في ضم ناديي دار العلوم وتوحيدهما في ناد واحد. ولعل هذه الخطوة الطيبة
تتبعها خطوات أجرأ منها وأعظم في وضع أساس الوحدة المنشودة التي يجب أن تمتلئ بالإيمان بها قلوبنا وعقولنا. والتي بها نستطيع أن نرفع مستوى المدرسة رفعا يليق بكرامتنا ونهضتنا.
لهذا نرى أن من واجبنا الأول أن نضع في رأس سياستنا التعليمية الجديدة توحيد معاهد تخريج المعلمين لأنا نؤمن أن في هذا التوحيد الخير كل الخير لمعاهدنا العلمية. فإذا كنا قد آمنا بأن التوحيد ضروري وأنه لازم لمدارس المرحلة الأولى من التعليم الإلزامي والأولى والابتدائي فإنه لاشك ألزم لمعاهد المعلمين المكلفين بالسهر على تكوين النشء وتثقيفهم حتى تتركز في تضافر المعلمين وتآزرهم وتعاونهم تلك المعاني السامية العظيمة التي ننشدها في مدارسنا ومعاهدنا وأبنائنا بل وفي وحدتنا العامة وجامعتنا العامة وأخوتنا العامة.
أما المشكلة الأصيلة الثانية في تكوين المعلم فتنحصر في العمل الجدي على تقوية روحه وشخصيته وخلقه وضميره والسمو بها جميعا إلى المكانة التي تشعرها حقا بجليل رسالتها وعظيم مسئوليتها أمام الله وأمام الوطن وأمام الأمة جمعاء. ولن نتمكن من السمو بالمعلم هذا السمو المنشود إلا بتمهيد السبيل الحق إلى انتقائه من بين الصفوة الممتازة بخلقها وبحبها الحقيقي للمهنة، ولن نستطيع أن نصل إلى هذه الأمنية مطلقا إلا إذا سوينا على الأقل بين المعلمين وبين زملائهم وإخوانهم من رجال القضاء والمهندسين والأطباء وغيرهم من أرباب المهن المحترمة الأخرى. صحيح أن هذا سيكلف الدولة بعض المال ولكنه في الوقت ذاته كفيل برفع مستوى المعلمين رفعا يؤثر في الجيل الناشئ تأثيرا كبيرا لأن هؤلاء المعلمين الذين يلجون المهنة حبا في المهنة والذين تختارهم من الصفوة سيدفعهم حبهم لعملهم دفعا إلى بذل الجهود الحقة في تنشئة الجيل الجديد على المبادئ السليمة التي تنشئ أبنائها عليها الأمم القوية العزيزة فيكون مكسبنا من وراء عملهم مكسبا لا يقدر بمال، فعلينا أن نبني سياستنا الجديدة على تكوين هؤلاء الرجال حتى نضمن لمصر وللأمة العربية كلها نهضة رائعة تعيد إليها سالف مجدها وغابر عزها.
هاتان هما المشكلتان الأساسيتان من مشاكل التعليم والمعلمين وحلهما كفيل برفع مستوى المعاهد الدراسية وبحل مشكلة تكوين الجيل الجديد. فإذا عملنا حقا على حلهما فقد ضمنا لهذه الأمة حياة مستقبلة سعيدة وقوة حافزة جديدة تضعها في مصاف الأمم المحترمة
العزيزة، أما المشاكل المؤقتة في حياة المعلم فسنفرد لها مقالا آخر إن شاء الله.
عبد الحميد فهمي مطر
عود على بدء
الفردوس المفقود
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
(أصدر الشاعر منذ شهر وبعض شهر ديوانه الذي أسماه (من وحي المرأة) لأنه - كما قال الأستاذ العقاد - لم يكن إلا وحيا فاض فيه حزنه على زوجته الفقيدة، فخرج في جملته منظوما كأنه لا يحتاج إلى نظم، وجاء فيه بقصائد ومقطوعات ستبقى في عداد الشعر الخالد، سواء منه ما نظم في هذا الموضوع أو غير هذا الموضوع. ويبلغ الديوان نحو ألف بيت. وقد جاءتنا من الشاعر القصيدة التالية - ولم يسبق نشرها - وهي في الموضوع نفسه، يذكر فيها كعهده شريكة حياته ورفيقة دراساته).
بحِّبيَ وحدي كان قلُبك يهتف
…
ولي كان منكِ الناظرُ المتشوِّف
وبي دون أهل اْلأرض أُنسُك كلُّه
…
كأن رحابَ الأرض دونيَ صفصف
فخورٌ على الدنيا بأنك زوجتي
…
وما أنا قارونٌ ولا أنا يوسف
تصّباك مني ما يخِّيب ذا الهوى
…
وَيزْوِي قلوبَ الغانيات ويصدف
تصّباك أني ذو حديث وأنه
…
علومٌ وفنٌّ لا مجونٌ وزخِرف
وأنك قد طالعتِ أسفار مكتبي
…
إذا ليَ فيها حيث وقَّفتِ موقفِ
نظرتِ إشاراتي هناك وهاهنا
…
تحدّث عن أغوار نفسي وتكشف
لدى كلّ تعقيبٍ وكلّ إشارة
…
تصافح روحانا فكان التعرف
وعهدي للأنثى مدارٌ، وللفتى
…
مدارٌ، ولولا النسلُ ما كان مَألف
فلو فرحنا أن قد تعانق عالمي
…
وعالمها، فالشمل نَظْمٌ مؤلف
ويا فرحتنا أُطلقتُ من سجن وحدتي
…
فروحي مع الروح الأليف ترفرف
تحلق في الآفاق طوراً، وتارة
…
نسِفُّ إلى روض الغرام فنقطف
تضاعفُ بالكتب الحياة، فحظنا
…
من الحسّ والتفكير حظٌّ مضَّعف
وتَعرض للعقل الفنونَ فتنجلي
…
وندرس بالقلب العلومَ فتلطف
نمارس هذا العيشَ، بالقلب والحجى
…
معاً، مثلما طابت على المزج قرقف
حبيبان بين الكتب عشٌّ غرامنا
…
نديمان في حضن الهوى تتفلسف
تذوق كطعم الخلد أعيت صفاته
…
بياني، وطعم الخلد هيهات يوصف
فوا حسرتا أن قد خلدنا هنيهةً
…
هي الخلد لكن من سنا البرق أخطف
ويا حسرتا أني إلى سجن وَحدتي
…
رجعت، وذكرى الخلد بالقلب تَعْنُف
فلا القلب عن ذكرى هواكِ يُمرْعو
…
ولا الدمع عن سُقْيا ثراك مكفكَف
نهاية المطاف.
. .
للأستاذ سيد قطب
تنشد السلوان من حب عقيمْ
…
وتروم البرء من داء قديمْ
هاهو السلوان فانظر: أترى
…
شارةِ الموت على تلك الرسوم؟
شاء في خاطرك الكون ومات
…
وتخلت عنك أحلى الذكريات
وبدا العمر حزيناً عاطلاً
…
كامد السحنةَ مَجْفُوَّ السمات
قد مضى الحلم، فحقِّق في العيان
…
هل ترى الإخُواء في الزمان؟
وتهاويل الرؤى. . . يا ويحها!
…
غالها الصحو فماتت منذ كان!
نم قرير العين إن كنت تنام
…
لفَّك الصمت وغشاك الظلام
يأمن الدنيا ويخلو للكرى
…
مُعْدِمُ الكفين مفقود الحطام!
قد خلا الهيكل من وحي الصنم
…
وغدا معبودك الأسنى حطم
أتطيق الآن تحيا مُلحدا
…
أم تُرى تخلو لشيطان العدم؟
ضقت بالخوف ودنيا الاضطراب
…
أترى الأمن هنا بين اليباب؟
أيها المنكوب في أحلى المنى
…
الحياة الحب والحب العذاب!
ضقت بالقيد! فها أنت طليق!
…
ما يباليك إذن حادي الرقيق!
فهو يخلى في الفيافي كل من
…
لا يساوي ثمن القيد الوثيق!
عمرك الفارغ. كالثقل زهيد
…
ليس فيه من طريف أو تليد
وهي الأيام تُقضي مثلما
…
تنقضي أيام مأجور شريد
أين أحلامك بالعش الجميلِ؟
…
أين آمالك في الظل الظليل؟
قد مضى الحلم وولى موهنَا
…
فاركن الآن إلى الصحو الطويل!
نم يا منكود ما كنت تروم
…
ومشى السلوان في الحب القديم
نم قرير العين واهنأ بالكرى
…
الكرى الميت في القلب العقيم!
يا رمال الشط.
. .
للأستاذ مصطفى عبد الرحمن
يا رمال الشط بالله أجيبي؟
…
أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
يا رمال الشط. . . . . . . . .
جئتُ والبسمةُ تعلو شفتيا
…
لأرى بسمة آمالي عليك
لم أجد يا شط من يهفو إليا
…
مثلما أقبلتُ لهفانً إليكْ
غير موج يتلوى لبكائي
كلما رددت في الشط ندائي
يا رمال الشط أجيبي
…
أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
هاهنا يا رمل كان الموعد
…
ما الذي أنساه صفو الوعد
إنني وحدي غريب مبعد
…
هائم بالغائب المبتعد
جئت ألقاه. فلم ألق سوى
خافق يهتف من مر الجوى
يا رمال الشط بالله أجيبي
…
أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
أُترانا نلتقي قبل الرحيلْ
…
نستقي الفرحة فيما نستقي
ونرى الدنيا سنا صبح جميل
…
ليت أنَّا يا ليالي نلتقي
طال شوقي وحنيني فأتيت
لم أجد أحباب قلبي فهتفت
يا رمال الشط بالله أجيبي
…
أين غاب اليوم عن عيني حبيبي
أيها الرمل إذا مرْ حبيبي
…
كالندى في ومضة الفجر الرطيب
سله عن أمسي وأفراحي وكوبي
…
وارو عن يومي وحدث عن نصيبي
كل من حولي يلهو ويغني
وأنا من ذا الذي يسأل عني
يا رمال الشط. . . . . . . . .
البريد الأدبي
حول ترجمة كتاب:
نقل الأستاذ محمود محمود للعربية كتاب (وسائل وغايات) لألدوس هكسلي، وهو اختيار موفق وجهد مشكور، فالكتاب من أجل كتب الفكر والمؤلف في طليعة مفكري هذا العصر. ولكني لا أريد هنا أن أتكلم عن الكتاب نفسه ولا عن مؤلفه، وإنما يدعوني للكتابة أمر هام يتعلق بمبدأ من مبادئ الترجمة حقيق بالعناية والرعاية، خصوصا ونحن بصدد نهضة الترجمة آخذة بأسباب التعضيد والقوة والانتشار أعني بهذا المبدأ روح الأمانة التي ينبغي أن يأخذ المترجم بها نفسه متوخيا الدقة البالغة في نقل روح المؤلف وأفكاره كي يحسن التعريف بالمؤلف وكتابه ويعطي القارئ حقه من الثقافة والاحترام. هذا مبدأ هام لا يجوز أن يغيب لحظة واحدة عن انتباه المترجمين، فليس المترجم مطلق الحرية في التصرف فيما يترجم. حقا هو حر فيما يختار من المؤلفين والكتب كيفما تراءى له وجه الحق والفائدة، فإذا اختار فلا معدي له عن أداء الأمانة لأهلها وإلا صار عمله افتئاتا وتشويها وعبثا بالمؤلف والقارئ على السواء. خطر لي أن أقول هذا عندما قرأت ما كتبه الأستاذ محمود محمود في مقدمة كتابه إذ يقول:(. . . وقد عرضناه على القارئ العربي مسهبين حينا وموجزين أحيانا. وقد أوجزت بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق لأنه كان فيها هداما أكثر منه منشئا). فعلمت محزونا إنه أباح لنفسه أن يوجز وأن يسهب، وأن يوجز بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب لأن المؤلف - على حد قوله - كان فيها هداما. عجبت أيما عجب وساءلت نفسي مغيظا محنقا إذا كان المؤلف هداما فكيف يتحايل المترجم لتقديمه للقراء منشئا أو شيئا بين المنشئ والهدام؟ إذا أراد الرجل أن يعلن نفسه للعالم هداما فكيف تدارى أنت صفته وتقدمه في صورة أخرى؟ هذا كما قلت عبث، وفيه روح استعلاء توهم المترجم بأن له حق الوصاية على القراء، فمتى يحق لجمهور القراء - وقراء مثل هذا الكتاب من المثقفين عادة - أن يطلعوا على الحقائق كما هي! وختام يعاملون معاملة الأغرار؟!
ويزيدني أسفا أن مؤلف الكتاب يقول في نهاية الفصل الأول (. . . ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجا عمليا لأمراض المجتمع ببحث في
المبادئ الأساسية والمعتقدات. فالفصول الثلاثة الأخيرة قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرا، بل إنها من ناحية عملية بحتة قد تكون أهم ما فيه). فترى من ذلك أن المترجم قد استباح التصرف في أخطر فصول الكتاب بحكم المؤلف نفسه، وأن ترجمته لم تعد بمغنية عن الأصل بحال، وأن تعبه يوشك أن يكون مجهودا قليل الثمر.
فماذا يقول بعد ذلك؟
كلمة واحدة. فأما ترجمة صادقة، أو لا ترجمة على الإطلاق. وليمحق عهد الوصاية إلى الأبد.
نجيب محفوظ
الترتيب التاريخي للزوميات المعري
كتب إلينا من بيروت الدكتور عمر فروخ رسالة مطولة حول هذا الموضوع يقول فيها:
طالعت المقالات التي كتبها الدكتور عبد الوهاب عزام عن لزوميات المعري وعن ترتيبها التاريخي في مجلة الرسالة الغراء، ولقد لفت نظري أمران.
أولهما - أن الدكتور عزام قال في آخر المقال الثالث: (هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكورا بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته) ومعنى ذلك إنه أول من فعل ذلك
وثاني الأمرين - أنني وجدت شبها عظيما بل تطابقا بين الأسس التي اتخذها الدكتور عبد الوهاب عزام لترتيب اللزوميات وبين الأسس التي كنت قد استخرجتها ثم جعلتها أساسا لكتابي (حكيم المعرة) الذي صدر في بيروت في فبراير من عام 1944 أي منذ عام ونصف عام، وذلك لمناسبة مرور ألف عام على ولادة أبي العلاء المعري (363 - 1363 هـ)
في هذا الكتاب عنيت عناية بالغة بوضع أسس لترتيب اللزوميات، إذ أنني كنت أحاول حل قضية معقدة، هي ما ينسيه بعض الكتبة المتأدبين الذين يتعرضون لمعالجة الموضوعات الثقافية من التناقض إلى حكيم المعرة. وبعد تدبر هذه القضية بدا لي أن ذلك راجع إلى ترتيب اللزوميات على حروف الروى ليس الترتيب التاريخي لها مما بسطته في
موضعه، وليس هذا موضعه. ولقد كانت دراستي كلها مبنية على هذه الفكرة الأساسية.
ثم ذكر الدكتور فروخ طريقته في ترتيب اللزوميات ترتيبا تاريخيا. . .
وخرج من ذلك إلى أن الدكتور عزام قد اطلع على كتابه الذي نشره منذ عام ونصف واستفاد من طريقته ونتيجته، ثم لم يشر إلى ذلك في بحثه، والقارئ المنصف لا يرى في ذلك التشابه مظنة للاختلاس أو الاقتباس، إذ ليس من البعيد أن يقع كاتبان في موضوع واحد على نتائج متشابهة إذا كان البحث قائما على الاستنباط والاستنتاج من نصوص واحدة. وترتيب اللزوميات ترتيبا تاريخيا يقتضي النظر في تتبع حوادث التاريخ وتحقيق أقوال الناظم، فلابد أن تتقارب النتائج ما دام النظر سليما، والبحث قويما، والغاية واحدة
عمر فروخ
حول (أصداء بعيدة)
قرأت في (الرسالة) كلمة عنيفة وجهها إلي صديقي الكاتب الأديب الأستاذ ثروت أباظة لمناسبة صدور ديواني الجديد (أصداء بعيدة)؛ ولست أدري ما الذي دفع صاحبنا إلى كتابة ما كتب ولا أود أن أقول (من الذي)، فأنا أثق في نزاهته واستقامة فطرته الأدبية
وفي ديواني مقال طويل عن فني في الهجاء وبراعتي في ذلك الفن، واستقامة الفكرة والتعبير بين يدي، وسهولة النظم وعذوبة العبارة مما أوشك أن يذهب بشعري كله مذهب السهل الممتنع
أتدري - أيها القارئ الكريم - من الذي كتب ذلك التمجيد؟ إنه ثروت أباظة بعينه. . .
قال صاحبنا: إن في الديوان إسفافا وسقوطا. . . ثم أخذ القارئ ليضرب له مثلا، مثلا على الإسفاف والسقوط. . . فماذا صنع، وعلى أي شيء وقع؟ وقع على الأبيات الآتية، وهي من قصيدة في الهجرة المحمدية:
فتح القفر روحه للصديق
…
ين فأمسى باديه كالبستان
أُّيما ذرة من الرمل غنت
…
ولكادت تهم بالطيران
حدثت أختها وفيها دبيب
…
وهي نشوى بمقدم نشوان
وأول ما ألاحظه عليه أنه روى البيت الأخير خطأ فقال (بمقدم النسوان)، ولعل له غرضا
في إيراده على تلك الصورة!
وثانيا: رواها وصمت. . . فلم يبين لنا مواضع الإسفاف الذي ادعاه، وإني أشكره أن هيأ لي فرصة بيان معنى هذه الأبيات
أقول: إن القفر الجديب تلقى الصديقين المهاجرين تلقي الشوق، ففتح لهما روحه، ونسمت عليهما منه نسمات لا تهب إلا من أعطر الرياض وأندى البساتين، فهما إذن في بستان معطار وليسا في بطائح ولا قفار. . . والرمل. . . إنه ابتهج بهذا المقدم السعيد، حتى لكأن ذرات الرمال أمست تغني فرحا بالضيفين العظيمين، واستولى على تلك الذرات شعور الفرح والغبطة، فكادت تطير!!
وتحدث الرمل، معجبا، مزهوا، بأن يكون موطئ قدم ذلك النبي العبقري وصاحبه، وأخذته نشوة بذلك المقدم النشوان!
أفهمت يا صاحبي ثروت ما وراء هذه الأبيات من معنى ضخم وخيال واسع؟!
وينصحني أخيرا بالتروي ليبرر ما كتب، ولعله لا يعلم أنني معجب غاية الإعجاب بموهبتي في سرعة النظم، وقد نص معالي والده الشاعر دسوقي باشا على إعجابه بهذه الموهبة في المقدمة القيمة التي كتبها لهذا الديوان عني كما شاركه هذا الإعجاب معالي الدكتور هيكل باشا، الذي تفضل فسطر هذا الإعجاب في تقديم لفني وشاعريتي إلى جمهور القارئين بالعربية في مصر وفي غير مصر كما يقول معاليه
هذه كلمة هادئة أرجو أن تنال من ضميره النزيه قبولا
(مصيف أبي قبر)
العوضي الوكيل
القصص
قصة مصرية
راهبة بلا دير
للأستاذ إدوار حنا سعد
كان ظهور حمدي فجأة في أفق حياة سنية إعصارا مدمرا قلب كل شيء وجعلها تضيق بحياتها وتسأل نفسها فيم إصرارها على العزوبة وفيم تحاشيها للرجال. وأخذت تستعرض صور حياتها التي تجردت من كل ما يبعث النفس البهجة، وأطياف ماض كان حافلا بالأسى والحزن.
إنها عندما ولدت ووطأت قدماها الصغيرتان شاطئ الحياة أقلعت سفينة الموت تحمل أمها بين الراحلين، والذين حضروا ساعة الميلاد ورأوا أضواء الحياة ترقص في عيني الطفلة البريئة وظلال الموت تجثم على وجنتي الأم الشهيدة، أحسوا في بكاء الطفلة رثاء لأمها وندبا لحظ وضع عليه اليتم ميسمه.
غير أن السماء لم تكن قد أرادت بسنية يتما كاملا، فقد أبقت لها أباها العطوف وجعلت من شقيقتها الكبرى (إنعام) ملاكا حارسا يملأ بنور الحنان لياليها ويجمل بزهر العطف أيامها وينسيها ما استطاع مرارة اليتم وشقوة الحرمان. وكانت إنعام تحس - وهي ترعى شقيقتها الطفلة - زهو الأمومة المبكرة وسعادة الوفاء بالجميل نحو أمهما التي كانت دنيا من الشباب والحسن والعطف فلم يبق منها إلا صورة معلقة على جدار، وقبر نائي المزار، وذكرى ما تزال تغدو في خيالها وتروح.
وتوالت مواكب الأيام ومرت على البيت الصغير وسنية سادرة في غي الطفولة وإنعام حالمة أحلام الشباب، وأبوهما منصرف إلى عمله الذي يستغرق سحابة أيامه وصدر لياليه.
وأخذت الطفلة تنمو وتترعرع وبدأت الغشاوة تنجاب عن عينيها وعرفت أن أنعام ليست أمها بل شقيقة وافرة الحنو. على أن ذلك لم يقلل من حبها البنوي لها، بل لعله زاد عنفا واتسع أفقا، وأصبح نوعا من العبادة الصامتة وعرفان بالجميل وأخذ يطغى عليها الشعور بالرغبة في خدمتها وتوفير الراحة لها.
إن سنية الآن عذراء وافرة الأنوثة قد لمس الحب قلبها لأول مرة، وإنها لتستعرض حياتها الجرداء التي ولت هباء لم يورق فيها الحب من قبل، وتذكر أنها كانت في الثانية عشر من عمرها حين تقلدت الدار عقود الزهر ورفرفت عليها الأعلام وتوافد الناس وعزفت الموسيقى معلنة أن حياة إنعام قد ارتبطت بحياة رجل كان غريبا فأضحى أقرب إليها من كل قريب. ثم هي تذكر أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين اتشحت الدار بالسواد وتوافد الناس وتعالت الأصوات بالندب والبكاء معلنة أن الأب الحزين قد ألحق بالزوجة الراحلة.
ومنذ ذلك الحين أقامت سنية بصورة مستمرة في بيت إنعام وأخذت عيناها تتفتحان على أمور كثيرة غريبة. رأت سامي زوج أختها قد أشهر الحرب على زوجه وساقه إلى ذلك طعمه في الميراث الضخم الذي خلفه أبوها وأطمعه فيها ضعفها وقلة حيلتها وانفرادها، فما كان لها من الأقارب إلا عم يقيم في السودان. وكانت إنعام مضطرة إلى مداراته وإعطائه ما يطلب، وأسرف في شرب الخمر وساءت أخلاقه وزاد طلبه للمال، والمال كماء البحر كلما شرب منه الإنسان زاد عطشه وكانت الزوجة البائسة تسرف في البكاء والتفكير إسرافها في منحه المال، وكانت تشحب وتزداد نحولا بالرغم من تأكيد الطبيب بأن ضعفها يضر بالجنين الذي كان يتحرك في أحشائها.
وعلى صدر سنية كانت تنهدات إنعام تترامى في يأس مرير فتجد لها في ذلك الصدر الشفوق صدى وبلسما؛ ولطالما مرّ الليل أوائله وأواخره على الشقيقتين كبراهما تقول بشجوها وتبكي، والصغرى تحاول أن تمسح بيد العزاء أحزانا قاسية حتى إذا أجهدها ذلك فيئست أخذت تبكي فعانقتها أختها وتعانق الدمع فوق خدود لم تخلق للدموع.
وكانت إنعام تزداد نحولا، وسنية تزداد بغضا لسامي وللرجال على وجه العموم، وساعد على ذلك أنها لم تكن قد خبرت من الرجال إلا أباها، وكان على حنانه كثير الانصراف إلى عمله، وإلا هذا الرجل النذل الذي استغل ضعف امرأتين فأقبل يسرقهما كلما طاب له أن يسرق، وساء ظنها في الرجال، ولم تكن هي الملومة على أية حال.
وتتابعت أمواج الذكريات على خيال سنية وهي ساهدة تفكر وتذكرت كيف أبى القدر إلا أن يكرر في هذه الأسرة للمرة الثانية في تاريخها القصير، فعندما أنجبت إنعام ضيفا جديدا في
ذلك المنزل، غادرته هي على الأعناق، وكان هذا المولود فتاة هي عدالات.
تولى الأستاذ عبد المجيد القليني المحامي الكهل الشهير، شؤون الوكالة عن سنية وإدارة أملاكها، وكان رجلا أمينا، وزاد من عطفه عليها عرفانه بحالتها وصداقته القديمة الوطيدة لوالدها. وتفرغت هي إلى تربية عدالات والقيام بذلك الواجب المقدس نحو أختها والوفاء بذلك الدين القديم.
إن التاريخ قد أعاد نفسه سريعا والحنان الذي شربته سنية من يدي إنعام قد عادت تسقيه إلى ابنة إنعام، وأضحت لها هذه الطفلة الجميلة بمثابة الكأس والخمر والحلم والنور الذي أفلت من يد الحزن وكف القدر لكي تعيش على ضوئه ذكريات تلك الشقيقة الراحلة.
وكأن الطفلة كانت قد سرقت من أمها وهي تموت كل جمالها: شعرها الكستنائي وعينيها المعسولتين، وذكاءها الوقاد وروحها الخفيفة ونظراتها الحالمة، وغدت سنية تشرب هذا الحسن في كأس القبل وتخال أنها تقبل الإبنة والأم معا.
والشقة التي كانت تسكنها في أحد البيوت التي تملكها، قد غدت صومعة أقامتها لتعيد فيها ذكريات إنعام ولتحرق لابنتها حياتها بخورا وتقضي العمر في هذه العبادة.
والبسمة البريئة على ثغر عدالات والنظرة الشاكرة في عينيها واللثغة الساحرة في شفتيها كانت العزاء الوحيد للحسناء الزاهدة في متع الحياة.
وكان الأستاذ عبد المجيد المحامي الذي يحضر ليعطيها نصيبها من إيراد الأملاك، وسامي زوج أختها الذي نسي زوجه وتزوج من أخرى والذي يحضر ليرى ابنته ولكي يقترض منها النقود أحيانا ولم يفكر في رد ما اقترض ولن يفكر في ذلك على التحقيق. هذا كانا الرجلين الوحيدين اللذين تطأ أقدامهما هذه الصومعة.
وظل نهر الأيام يجري وعلى صفحته تسبح سنية وعدالات، وكانت الأخيرة تتفتح كالزهرة وتنمو كالغصن النضير وسنية تظللها وتحنو عليها كالسرحة الزكية وتتعجل الأيام كي تراها عروسا ذات بعل وأما لأولاد.
وحين بلغت عدالات السادسة عشرة، وانقطعت عن الدراسة أضحت الثياب الأنيقة والعطور الغالية من نصيبها، ولطالما تمنت على خالتها أن تشاركها استعمال العطور أو أن تجاريها في أناقة الملبس فكانت تبتسم لها وتقول:(لقد كبرت يا بنيتي العزيزة) فتضحك
عدالات وتقول: (حقا، لقد نسيت إنك هرمت وبلغت الثلاثين).
كان بين سكان (العمارة) التي تسكنها سنية مهندس أعزب يدعى حمدي، يقيم مع أمه العجوز وخادم، ولم تكن سنية قد رأته لأنها كانت قليلة الفضول قليلة الزيارة لجيرانها.
وذات مساء سمع رنين الجرس في مسكن سنية وفتحت الخادم الباب فوجدت حمدي أمامها يطلب مقابلة (الهانم) باعتبارها المالكة ليشكو إليها سوء أدب البواب في معاملة والدته المريضة، وترددت سنية هل تسمح له بالدخول أم لا؟ ووجدت من الأذوق أن تستقبله فإنه جارها وهو فيما تعلم رضي الخلق.
ووطأت قدما هذا الرجل الغريب بيت الأنثى الزاهدة ورأت سنية أمامها شابا طويل القامة قوي الجسم فتان الطلعة جريء النظرات يناهز الخامسة والثلاثين ويبدو عليه عدم الاكتراث بشيء ما. ومدت يدها تصافحه فضغطها في كفه الغليظة كأنما يصافح رجلا، وجلس قبل أن تسأله أن يجلس وخلع طربوشه ووضعه على مقعد بجانبه فتهدلت خصلة من شعره الفاحم السبط فوق جبينه الأسمر العريض، ووضع ساقا فوق أخرى وأشعل سيجارة ونفث دخانها عقدا في الهواء وبدأ يتكلم، وأخذت سنية تصغي لكلماته ثم تعلقت نظراتها بشفتيه الممتلئتين الحمراوين تلتقيان وتنفرجان وهو يتكلم ولم تعد تنصت إلى الألفاظ أو تتفهمها ولكنها غرقت في بحار من التيه عميقة وكانت ألفاظه تنساب كأصابع رقيقة تمزق عن ذاكرتها ستار الإهمال والكبت وتعرض عليها أحلام الشباب وتعيد إليها الشعور بتفاهة حياتها وحاجتها إلى الحياة الحافلة المليئة بحنان امرأة وعطف رجل.
وشعرت بالخجل وأحمر خداها وخشيت أن يكون قد اطلع على مجرى أفكارها ولكنه كان ما يزال يتكلم وينفث الدخان من أنفه الجميل وفمه الممتلئ بعد أن يكون قد ملأ به صدره العريض وأحست إنها رأته قبل ذلك، من سنين عديدة بل من أجيال عديدة إن صوته ليس غريبا عنها، وهذه الملامح طالما رسمتها يد المنى على لوح خيالها. وعادت تنظر إلى شفتيه تنفرجان وتلتقيان وخيل إليها أنهما في كل انفراجة والتقاء إنما تتهيآن لقبلة أو تفرغان من قبلة. وكبحت جراح نفسها وأنصتت إلى كلامه وسمعته يسألها هل يرضيها ما فعله البواب، ولم تكن قد فهمت شيئا مما قال، ولكنها وعدته بأنها ستنزل به العقاب؛ ونهض قائما وهو يعتذر من إزعاجه إياها، ولكنها أكدت له العكس ورجته أن يبلغ تحياتها
وأسفها وتمنياتها إلى والدته. في تلك الليلة لم تنم، بل عادت بذاكرتها إلى حياتها كلها الفارغة من المتع وظلت تستعيد منظر الشفتين الممتلئتين والعينين اللامعتين الواثقتي النظرة. إن عينيه تلتقيان بذور الهناءة في حقل عمرها الأجرد، وشفتيه ترسمان بحركتهما السريعة خطوط حياة راقصة سعيدة تتمناها. لماذا ولدت ولماذا تعيش؟ لقد طالما حبرها هذا السؤال فكانت تجيب بأنها تعيش لعدالات. أما الآن فقد اهتدت إلى الجواب الصحيح. لقد قرأته في عينيه وسمعته في رنين ألفاظه، إنها خلقت له وإن حياتها وجدت لكي ترتبط بحياته.
واندفعت إلى خاطرها صور كثيرة، إن نظراته إليها كانت أكثر من مجرد نظرات، كان فيها توسل وأمر، وطاعة وعصيان، ومنى وأمل، وفيها دليل هوى ونجوى غرام. وسألت نفسها هل يتزوجها، وضغطت قلبها أصابع الفرح حين طاف به هذا السؤال وأجابتها نفسها: ولم لا؟ لعله لم يحضر إلا ليراك، وقد اتخذ من قصة البواب ذريعة لذلك. تذكري نظراته وابتسامته وضغطه يده على يدك وعادت تتساءل (وهل أرضى به) فأجابتها نفسها (نعم، أتظلين عانسا طول العمر؟ أم هل تظنين أن كل الرجال أدنياء كسامي زوج إنعام. أما تتوقين إلى رؤية أطفال لك يملئون بيتك بهجة. (ولكن أهذا هو الحب من أول نظرة) فوجمت نفسها قليلا وأجابت (نعم. بل كلا. هذا ليس حبا. إنه اللهفة التي تغمر الظمآن إذا أشرف على النبع الفرات، والنشوة التي تعمر القلب الضارب في الصحراء إذا اهتدى إلى الواحة، والراحة التي تفيض على الساهد إذا أوشك الكرى أن يغمض جفنيه. (وعدالات ما يكون شعورها إذا تزوجت؟) وللمرة الأولى تغيرت نظرتها إلى عدالات. لماذا تحطم هي حياتها لكي تسعد عدالات؟ إن إنعام لم تظل عانسا وهي تربيها، فلماذا تبقى هي عانسا من أجل ابنة إنعام؟ يكفي عدالات ما رأت من حنان، ويكفيها أنها ستظل لها كما كانت دائما ولكنها لن تحرم نفسها ليشبع الآخرون، ولن تكون الشمعة التي تحترق وعلى نورها تنصب العناكب شباكها وفي نارها تموت الفراشات الراقصة. وأغمضت عينيها ونامت ورأت نفسها في المنام تزف إلى حمدي.
وتكررت زيارات حمدي تصحبه والدته، فنجلس الجميع عدالات يسمرون ويتحدثون، وأخذت سنية تبالغ في التأنق وامتلأت ثقة بنفسها فتوردت وجنتها وزاد نشاطها والتماع
عينيها الجميلتين وطفقت تلقي على حمدي نظراتها الحنون وتوسد نظراته إليها أجفانا ذابلة يقظة. وكانت تتلقى ضغطة يده على كتفها كأنها تأكيد لعهدهما وميثاق أبدي.
وفي ذات أصيل جاءت أم حمدي بمفردها وحيت وقالت: إن حمدي يسره أن يصاهر أسرتها الكريمة. فتوردت وجنتا سنية وخفق قلبها وكادت تثب من الفرحة الكبرى التي غمرت كيانها وواصلت أم حمدي الحديث قائلة (وهو لذلك يطلب يد عدالات).
ووجمت سنية وأصابها تبلد غريب، ولأول مرة أحست أن عدالات الطفلة الناردة قد أصبحت مزاحمة خطيرة. وعجبت من نفسها كيف قابلت النبأ بهدوء وكيف ودعت الضيفة في ثبات ووعدتها وعدا جميلا بعد أن تخاطب أبا عدالات في الأمر. وعادت إلى غرفتها وسبحت في يأس مرير. إنها تمنت أن تعيش بين يده فكيف فر منها إلى طفلتها الصغيرة؟ أتكون عدالات زوجة أفضل منها وهي الفتاة الطائشة الرعناء وكبحت جماح غيرتها العنيفة أن شقيقتها إنعام قد أطلت من وراء الغيب تسألها الرفق بابنتها وتنهدت سنية وملأ رأسها عزم جديد.
(لقد تمنيت أن أرى أولاده مني، وقد استجاب الله نصف الأمنية. إن أبناءه من عدالات سيكونون أبنائي، وسأشرف على تربيتهم كما أشرفت على تربية أمهم)
(ما الذي تغير في حياتي؟ سأعيش بقربه، وسأراه دائما، وسأحنو عليه حنوي على عدالات. إن الحجر الصغير الذي ألقى في نهر حياتي الهادئ قد انداحت له الدوائر، ولكن سطحه سرعان ما عاد إلى هدوئه وسيظل يجري في الصحراء التي قدر له أن يجري فيها حتى المصب). (لقد عشت شبابي زاهدة، وكثيرات غيري قد فررن من مثل هذا الألم إلى الدير، فلم لا أصبح راهبة بلا دير؟)
(إسكندرية)
إدوار حنا سعد