الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 632
- بتاريخ: 13 - 08 - 1945
روسيا والشرق في السياسة الدولية
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
إن لآسية شأنا عظيما في حياة أوربة التي تنتفع بثروات هذه القارة وتعرف قيمتها؛ ولذا كثرت مسائل الشرق الأدنى والشرق الأوسط وتشابكت، وأصبح فهمها على حقائقها وإدراك أخطارها يوجبان النظر في أصلها القديم وفي ما يؤثر فيها من عوامل لمنافع الدول المستعمرة المختلفة ومصالحها ومطامعها وتنافسها، وفي تعارض مساعي هذه الدول أو توافقها في مواقف السياسة الدولية تبعاً للأحوال والضرورات
فما يقع في هذين الشرقين من الحوادث السياسية ليس يتبين على حقيقته كلها للنظر السطحي في صورته الظاهرة المزخرفة بألوان من الدعايات ومن وحي الأغراض أو الأهواء أو المحازبات أو المسايرات. ولابد لمعرفة الحقيقة المنشودة من تأمل هذه الحوادث في ضوء ينشره عليها البحث في الدوافع الطبيعية وفي تنافس المستعمرين ومصالحهم الأساسية
يزحف الأسيويون إلى الغرب والغربيون إلى الشرق من القدم. ولهذا التزاحف أسباب طبيعية وفطرية، ودواع من مصالح أساسية حيوية وراء العلل الظاهرة والحجج السياسية.
ومن هذه الأسباب والدواعي والعلل نشأ ما سموه مسألة الشرق. ويمكن رد نشأتها إلى العصر العهيد الذي وقعت فيه حرب طروادة، وقد اختلفت أوضاعها في مجرى التاريخ، وهي من أجل مسائل السياسة الدولية شأنا منذ فتح العثمانيون قسطنطينية عام 1453. وكان موضوع المسألة في ذلك العهد دفع العثمانيين عن أرض أوربة إلى آسية، فلما بدأ ضعف إمبراطوريتهم صار موضوع المسألة: لمن يكون إرث استنبول العظيم؟
أهمت مسألة الشرق في أول الأمر دول النمسا وروسيا والفاتكان، ثم أخذت من صدر القرن التاسع عشر تهم فرنسا وإنجلترا رأسا، فقد قوى موقف النمسا أمام العثمانيين في الثلث الأول من القرن الثامن عشر، ونالت منهم روسيا في ذلك القرن منافع كبيرات، فصار موضوع المسألة: هل تحفظ أوربة كيان الدولة العثمانية أو تتركها للتهديم؟ لأن التهديم معناه الإنتهاب وطغيان المنتهب وسيادته، أو خطر الاختلاف في الاقتسام. وقد عظم شأن هذا الأساس من المسألة بالتضاد الدائم بين الترك والعناصر المسيحية البلقانية التي كانت
خاضعة لحكمهم ثم حررت تباعاً، وبالنزعة الروسية إلى الاستيلاء على استنبول
فمن المأثور عند الروس ما يجعل لهم هذه النزعة المزمنة إلى الاستيلاء على استنبول، وأقدم حججهم في ذلك أن بوزنطة آلت إليهم بالإرث، وأن روسيا الأرثوذكسية هي حامية الأرثوذكس: لأن إفان الثالث غراندوق روسيا تزوج عام 1472 الأميرة سوفي بليلوج ابنة أخي قسطنطين آخر أباطرة قسطنطينية العاصمة الأرثوذكسية؛ ولما تزوج إفان هذه الأميرة أدعى للساعة إنه وارث هؤلاء الأباطرة، واتخذ النسر ذا الرأسين شعارا له، وأعلن إنه سينتقم من الترك للأرثوذكسية، وبهذه الصورة بدت مسألة الشرق المشهورة في صدر التاريخ الحديث. والحقيقة أن استنبول في موقعها الجميل وصلة كبيرة الشأن بين أوربة وآسية، وإن من أكبر مصالح روسيا الوصول إلى البحر المتوسط، لأن منافذها الشمالية إلى البحار تجمع ثمانية أشهر في العام. ولكن الدول الغربية، وخصوصا إنجلترا حالت دون وصول الروس إلى استنبول والبحر المتوسط. والسبب هو أن زحف دولة كروسيا في البلقان وامتلاكها مفتاح هذا البحر يردانها دولة بحرية ويزيدان شوكتها وسيادتها، وقد تتوغل بعد ذلك في الأنضول ووادي الفرات، وتصل إلى الخليج الفارسي، وفي هذا كله خطر على الهند وشرقي البحر المتوسط، وطرق الإمبراطورية البريطانية
وقد طرحت مسألة الشرق مراراً من أوائل القرن السابق، وخفف من خطرها تقرير الدول مبدأ حفظ كيان الإمبراطورية العثمانية وقيام دويلات البلقان حواجز بين النمسا وروسيا وتركيا. لكن المسألة لم يزل خطرها، بل ظل كامناً يبدو بين حين وحين
ولما هزمت الدولة العثمانية في الحرب الكبيرة الماضية، واحتلت إنجلترا مع حلفائها استنبول انعكس وضع المسألة: إذ لم يبق الغرض إخراج الترك من أوربة، بل عاد إبقاؤهم فيها لصيانة حرية المضايق تحت حكمهم - مع بعض الضمان منهم - ومنعا لدولة عظيمة أن تتسلط، مباشرة أو بوساطة، على العالم بأسره
من ذلك الماضي تسلسلت مسألتا تراقية وأرمينية، ومسائل سورية وغيرها من بلاد الشرقين الأدنى والأوسط
وحقيق بالذكر ههنا أن مسألة الشرق جاوزت حدود أوضاعها المتقدم بيانها، إذ (كانت منذ انتهاء القرن الثامن عشر كأنها مسألة اقتسام الدول الأوربية لآسية واستعمار هذه القارة؛
فصارت بعد قهر اليابان لروسيا عام 1905 مسألة ثورة آسية على سادتها الأوربيين. فلم يكن الشأن هزم اليابانيين للروسيين، أو كسر دولة لدولة، بل كان شيئا عظيما غريبا هو انتصار عالم على عالم آخر، وثأرا بالإذلال الذي أريدت آسية أجيالا مديدة على احتماله، وأول أمل الشعوب الشرقية). وقد أفاضت الصحف اليابانية يومئذ كلامها في هذا المعنى حتى قالت إحداها:(كان المسلم به حتى الأمس القريب أن مسألة الشرق يجب ألا يحلها سوى الأوربيين أو الأمريكيين، ونحن نعرف من الآن فصاعدا أن اليابان تحلها والأوربيون والأمريكيون ملازمون المقام الثاني)
ذهبت الدول في الاستعمار إلى البلاد النائية. أما روسيا، فإن محلها الجغرافي جعلها تستعمر ما يجاورها متدرجة من بلاد جار إلى بلاد جارة، متجهة بحسب تقاليدها إلى الشرق الأسيوي وإلى الجنوب، ولم يعترض هذا التوسع عائق ذو شأن جدي حتى أوائل القرن التاسع عشر
كان الذي يهم إمبراطورية القياصرة، قبل كل شيء، هو الزحف التقليدي إلى قسطنطينية، وكان يبدو أن انتصاراتها على العثمانيين تضمن لها الفوز في نهاية الأمر بتركة الرجل المريض، فظنت روسيا بعيد منتصف القرن الماضي أن الفرصة سانحة وأثارت حرب القرم، لكن إنجلترا وفرنسا اعترضتا لها، فتقهقرت وانقطع عليها أحد سبيليها القديمين
ذلك سبب الجهود المتواصلة التي بذلتها روسيا في دعم سيادتها نهائيا على آسية الوسطى القريبة من الهند، لتحتفز وتتوثب على عدوتها إنجلترا، وفي توطيد سلطانها على القوقاز القريب من آسية التركية ليقصر طريق غزوها. ولما خابت الجامعة الصقلبية في البلقان اتجه الاستعمار الروسي إلى إيجاد جامعة أسيوية ليعتز بوحدة من القوميات، ثم ترددت روسيا بين أن تفتح نوافذها فتحا تاما على أوربة وأن تتوغل في آسية، وعالجت أن تقوم بالأمرين، فصادفت في زحفها إلى الشرق الأقصى خصما جديدا هو اليابان، على حين أخذت المنافسة الإنجليزية الروسية في الهدوء، حتى سكنت بعد انتصار اليابان على الروس، فجاءت معاهدة عام 1907 التي قسمت إيران ثلاث مناطق: واحدة شمالية للنفوذ الروسي، وأخرى جنوبية للنفوذ الإنجليزي، والثالثة حيادية فاصلة بينهما، والنقط في كل منهما، وكان ذلك تأمينا لحدود الهند واستعدادا لمواجهة الألمان قبل الحرب الكبيرة الماضية
التي جاء بنذرها منطق الحوادث الدولية، ثم دخلت روسيا تلك الحرب إلى جانب الحلفاء لقمع الجرمان
وقد ورد في مذكرات السير بكنان سفير إنجلترا في روسيا يومئذ أن الملك جورج الخامس قال في 12 نوفمبر عام 1914 للكونت بركندورف السفير الروسي: (يجب أن تكون استنبول لكم) وإنه على وفاق مع وزرائه في ذلك
وهذه كلمة توافق حلم الروس الدائم، وتشجعهم وتقوي ثقتهم بحلفائهم، وكان الإنجليز قد عزموا على اقتسام الإمبراطورية العثمانية والحصول منها على نصيب الأسد بسبب انضمامها إلى الألمان في الحرب ونفوذ هؤلاء فيها ونيتهم في بلاد الرافدين التي تغنيهم إن هم استعمروها وتدنيهم من الخليج الفارسي والهند، فوافق الإنجليز على تحقيق أمنية الروس، وشرطوا لذلك إنشاء دولة عربية إسلامية كبيرة، أو جامعة دول عربية إسلامية يقيمونها في الشرق الأدنى صيانة بمعاونتهم للطرق إلى الهند وسدا، في زعمهم، أمام الترك على حين يعترض الروس باستنبول في طريق زحف الألمان إلى الشرق العربي، بل سدا أمام الروس أنفسهم في حقيقة الأمر، لأن ذلك الاقتسام يحصر الترك في منطقة على البحر الأسود تحدق بها أنصبة المقتسمين
لكن حدث في فبراير عام 1915 أن تردد في لندن وباريس كلام في صلح منفصل مع تركيا، وقيل في الدوائر الميالة للجرمان في بتروجراد بشأن مشروع حملة الدردنيل أن الغرض منها إنما هو التفادي من وقوع المضايق في قبضة روسيا، فرابها ذلك كله، وزاد ارتيابها أن فنزيلوس عرض على إنجلترا وفرنسا استعداد اليونان للمعاونة في الحملة، فأخبر سزانوف وزير خارجية روسيا السير بكنان بأنها تعارض في قبول العون اليوناني، وابلغ الملك قسطنطين أن روسيا لا تسمح في أية حال بدخوله استنبول على رأس جيشه، وعرفت ألمانيا هذه الأمور فعرضت على روسيا صلحا منفصلا مقابل إعطائها استنبول والمضايق - كأن هذه المنطقة الحيوية ليست ملك الدولة العثمانية المحاربة في جانب الألمان.
أصبح الحلف الثلاثي حينئذ في خطر حقيقي حتى أن الأمير تروبسكي قال لسزانوف:
(يجب أن نملك المضايق، فإذا أمكن أن نحصل عليها مع إنجلترا وفرنسا ضد ألمانيا، فهذا
حسن، وإلا كان الأجدر أن نقبلها من ألمانيا ضدهما)؛ ولذا طلبت روسيا إتمام الاتفاق مع حليفتها على اقتسام الإمبراطورية العثمانية طبقا للأسس التي كانوا ارتضوها باتفاقات ومذكرات دبلوماسية متبادلة بينهم؛ وأكدت أن كل حل للمسائل المتعلقة بالاقتسام سيكون مزعزعا إن لم يدخل في نصيب روسيا: استنبول وضفة السفور الأوربية وبحر مرمرة والدردنيل وتراقيا الجنوبية إلى خط يمتد في شماليها بين إبنوس وميديا؛ وكذلك جزء من الضفة الأسيوية بين البسفور ونهر سقاريا وموقع يعين بعد خارج الدردنيل؛ ثم جزر بحر مرمرة وجزيرتا إمبروس وتندوس، إذ لا غناء لروسيا في زعمها عن هذا كله من الجهة الاستراتيجية
قبيل كل من إنجلترا وفرنسا إتمام الاتفاق ورفضتا العون اليوناني في حملة الدردنيل التي أخفقت في النهاية
ثم سلم كل من الدولتين، بعد المفاوضة، بسائر طلبات روسيا أمام خطر التطور في الرأي الروسي بسبب خيبة الأمل في بتروجراد لإخفاق جميع المحاولات الإنجليزية الفرنسية في الدردنيل. وقد أظهر الروس غيظهم من توقع الجلاء عن شبه جزيرة غاليبولي، وسمع في بعض البيئات الروسية تلميح إلى أن الجيوش المسكوفية سوف لا تجلى بعد الحرب عن الأراضي التي كانت تتأهب يومئذ لغزوها في أرمينية وجهة الموصل، وهي من بلاد البترول
ومما شرطته روسيا في اتفاقاتها مع حليفتيها أن تضم مناطق ارضروم وفان وبتليس، حتى أردو على شاطئ البحر الأسود غربي طربزون؛ وتضم قسما من أرمينية وقسما من كردستان.
هذا، وفي 8 مارس عام 1914 صرح نقولا الثاني وسزانوف لموريس بمبار سفير فرنسا بأن روسيا تترك لها حرية التصرف في سورية وقيلقية؛ ولكنها لا تترك أبدا لدولة غير أرثوذكسية أن تجعل تحت حمايتها القدس والجليل والأردن وبحيرة طبرية
وقد تم اقتسام الإمبراطورية العثمانية بين الحلفاء في ثلاثة أعوام هي 1915 و16 و17، ولم يتركوا لتركيا غير أرض شكلها شبه منحرف رؤوس زواياه أردو على البحر وسيواس وافيون قره حصار وبرصة، ومنها قوس تمتد حول ركن البسفور، ولولا الثورة الروسية،
ثم الثورة الكمالية، لنفذت الاتفاقات التي تضمنت هذا الاقتسام. ولقد أسفت إنجلترا لتركها استنبول لروسيا ساعة الخطر، لكن حكومة الثورة الروسية أرضت إنجلترا إذ وعدتها بالعدول عن طلب استنبول
بعد الثورة الروسية أصبحت السلطة كلها في يد حزب واحد يتولاها لنفعه، وكانت من قبل بيد طبقة تباشرها في سبيل مصلحتها. أما الحرية، فلم تكسب شيئا ولم تخسر شيئا في روسيا بانتقالها من القيصرية إلى الشيوعية، وقد اتجهت سياسة التوسع لروسية إلى البحث عن الأربح للاتحاد السوفيتي من الأسواق في ذخار المواد الأولية وترويج مصنوعات بلاده
بحث الاتحاد عن هذه الأسواق في آسية وفي أوربة، فجره ذلك إلى إخفاء دعايته السياسية الشيوعية، وإلى الوقوف في العلاقات الدولية موقف دولة كالدول الأخر قادرة على تدبير شؤونها تدبيرا برجوازيا. ولقد أهمل الشيوعيون عددا من مثلهم العليا التي أحدثوا ثورتهم باسمها، ومن أعلى ما أهملوا المبدأ المسالم المضاد للنظم العسكرية والمبدأ المحبذ لاشتراكية دولية على حساب الوطنية. وروسيا اليوم أكثر اعتمادا في نظامها السياسي على الجيش. وحكامها الشيوعيون محتفظون بما كان للقياصرة من أقوى روح وطني في العالم
ومن أقوى أسباب التطور السوفيتي خيفة الحرب مع ألمانيا واليابان التي انتهزت فرصة ضعف روسيا العسكري بعد ثورتها وقبل استعدادها، فغزت مندشوريا شيئا فشيئا، وهذه داخلة كالوتد بين ثغر فلادفستوك وشرقي منطقة بابكال، ثم أعلنت اليابان استقلال مندشوكو وأرغمت موسكو على الاعتراف به، وهدد تقدم اليابان منغوليا التي يحميها السوفيت، حتى توترت العلاقات بين الدولتين عام 1934، وبدا أن نشوب الحرب بينهما كرة ثانية وشيك، لكن الاتحاد سلم مرة أخرى وترك اليابان تعمل ما تشاء في مندشوريا، على إنه أنشأ جيشا خاصا للشرق الأقصى وقاعدة جوية قوية في فلادفتسوك بقي بهما ولايته البحرية القصية من طمع اليابان
عاد الاتحاد السوفيتي في ميدانه الأسيوي إلى العمل بالمأثور عند الروس، فشابه حكومة روسيا القيصرية المقدسة في أمانيها وطمعها بإيجاد جامعة أسيوية تتحد فيها الشعوب الصقلبية والشرقية لتصبح مجموعا عظيما أوربيا آسيويا أوراسيا
وقد قال لنين في مؤتمر الشعوب الصقلبية والشرقية الذي عقده في باكو عام 1920: (إنكم
بالشرق تبلغون الغرض من الغرض)
وجملة القول أن الاتحاد السوفيتي الوارث لمذهب آل رومانوف السلطي قد استأنف الزحف إلى الشرق والتصوب إلى الجنوب منتظرا أن تمكنه الأحوال من العودة إلى محاولة نشر الشيوعية في العالم
لقد وصل الاتحاد إلى برلين واحتل جزءا عظيما من أوربة، وإن أتيح له الاستيلاء على استنبول وما حولها، فقد يحاول الزحف إلى العراق ومصر والهند، لكنه كمن سبقه يحتك في الشرق والجنوب بمنافسين وخصوم لم تخمد حماستهم، والجامعة الأسيوية السوفيتية تتهيأ إذن للهجوم أو لصد هجمات عنيفة
فهل يواجه الاتحاد خصومه في آن معا، أو يساوم كل خصم في الاستعانة ببعضهم على بعض، أو يؤثر التسويات مؤقتا مسترسلا في سياسة فتح الأسواق وادخار المواد ريثما يستجمع له الأمر لقهر الغرب بالشرق والشرق بالغرب؟ وماذا تهيئ له الأقدار؟ أخيرا أم شرا؟
وتأمل أناس كثيرين أن يجمع الأقطاب في بتسدام على أساليب عملية ينفذون بها النظام الموضوع في سان فرنسيسكو، ولكن هذا الإجماع معلق بالطبع على التوفيق أولاً بين مصالح دولهم الحيوية، ومثل هذا التوفيق، إذا تيسر، إنما يكون اقتساما للبلاد يقال أن شعوبها سينعم عيشهم في ظله، وتسعدهم سياسة الجوار الحسن التي ابتدعتها أمريكا بديلا من الإمبراطورية، فتتعاقب أجيال الإنسانية سامية في بلهنية إلى ذروة مثلها الأعلى من السلام الأبدي إن شاء الله!
محمد توحيد السلحدار
الفلسفة الإسلامية المتأخرة
للدكتور جواد علي
- 1 -
يختتم أكثر المستشرقين بحوثهم عن الفلسفة الإسلامية بفلسفة المؤرخ والفيلسوف العربي ابن خلدون، كما فعل المستشرق دي بور في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب سلس سهل بسيط لا يوجد مثله في البساطة والسهولة في اللغات الأوربية. وكما فعل أغلب من بحث في هذا الموضوع إذا ما استثنينا كتاب المستشرق ماكس هورتن عن (الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب لا يستعرض الفلسفة الإسلامية عرضا تاريخياً بل يتتبع الترتيب الفلسفي، ويعالج المواضيع معالجة خاصة لا تخلو من نواقص وهفوات.
على أن هنالك طائفة غير يسيرة من الفلاسفة ظهرت بعد ابن خلدون تركت تراثا فلسفياً مهماً وآثاراً خالدة في عالم الحكمة نبعت في أرض الشرق الأدنى، وفي القرن الحادي عشر الهجري وما بعد كونت جيلاً خاصاً عليه طابع فلسفي خاص.
وفي طليعة أسماء رجال هذا الجيل عربي سوري من جبل عامل هو الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجباعي العاملي المعروف (بالشيخ البهائي)(المتوفى عام 1030 للهجرة و1622 للميلاد) والمير باقي الداماد (المتوفى سنة 1041 للهجرة و1631 - 1632 للميلاد) والحكيم الشهير الملا صدرا (المتوفى سنة 1050 للهجرة و1640 - 1641 للميلاد) والملا محسن فيضي (المتوفى حوالي سنة 1091 للهجرة 1680 للميلاد) والملا عبد الرزاق اللاهيجي والحاج ملا هادي السبزوادي (المتوفى سنة 1295 للهجرة و1878 للميلاد).
وتغلب على فلسفة هذا الجيل الفلسفة الإشراقية الصوفية، ولذلك عدهم العلماء في عداد الفلاسفة الصوفيين الذين جمعوا بين الرياضة والمجاهدة وبين الحكمة الإشراقية التي ينسبها المسلمون عادة حين ينسبون هذه الفلسفة إلى أفلاطون
والإشراقيون هم أتباع المذهب القائل بحكمة الإشراق من تلاميذ المتصوف الإسلامي الشهير السهروردي المقتول عام 1191 للميلاد؛ غير أن الفلسفة الإشراقية تسبق عهد السهروردي بزمن طويل. وهذه الفلسفة (هي فلسفة روحانية لها في نظرية المعرفة مذهب
صوفي وتعبر عن الله وعالم العقول بالنور. والمعرفة الإنسانية في هذا المذهب عبارة عن إلهام من العالم الأعلى يصلنا بواسطة عقول الأفلاك. وأكبر أصحاب هذا المذهب هم: هرمس وأجاثوديمن وانبدوقليس وفيثاغورس وغيرهم. ولأفلاطون صلة بهذا المذهب أكثر من صلة أرسطو به. وهؤلاء الفلاسفة يوصفون غالبا بأنهم أنبياء أو حكماء ملهمون. وقد تأثرت الفلسفة الإسلامية بهذا المذهب منذ نشأتها إلى وقتنا الحاضر تأثراً كبيراً. وأتباع مذهب المشائين في الإسلام متأثرون بالفلسفة الإشراقية بعض الشيء. وربما كان أقلهم تأثراً بها الفيلسوف ابن رشد).
نبغ رجال هذا الجيل في عهد الدولة الصفوية. والدولة الصفوية دولة قامت على أسس صوفية؛ ولذلك راج التصوف في هذا العهد رواجاً عظيما واكتسب صبغة رسمية! فلا عجب أن رأينا فلاسفة هذا العهد فلاسفة صوفيين يأخذون بطريقة الإشراقيين ويروجون الفلسفة الإشراقية التي هي أقرب فلسفة إلى مذاق وعقول المتصوفين.
أما أولئك الذين حملوا البذرة الأولى للحركة العلمية والفلسفية إلى هذه الدولة فقد كانوا من العلماء العرب من سوريا ومن العراق ومن البحرين لاقوا ترحابا والحكومة في حاجة إلى أنصار يؤيدون حركتها ووجدوا تشجيعا في كل مكان ومقام. وكان على رأس من هاجر من سوريا إلى إيران الشيخ الحسين بن عبد الصمد بن شمس الدين العاملي الحارثي من قبيلة بني همدان. هاجر على عهد الشاه طهماسب الصفوي فأسند إليه منصب (الشيخ الإسلام) والشيخ زين الدين علي العاملي المعروف بملشار وكان على رأس من جاء من البحرين الشيخ ماجد البحراني المشهور في علم الحديث والفقه.
درس على أيدي هؤلاء العلماء جماعة من المهاجرين العرب. ومن الوطنيين الفرس. وانتشرت بفضل هؤلاء الكتب العربية وتوسعت حركة التأليف بلغة القرآن. وظهرت طبقة فاقت مشائخها في العلم والشهرة على رأسها الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد العالم السوري المعروف المتوفى سنة 1031 للهجرة. ورث هذا العالم من أبيه الميل إلى التصوف والرياضة حتى عد في قائمة المتصوفين. ونبغ في العلوم الشرعية وفي الفروع الفلسفية على الأخص. وكتب في المعارف الإنسانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت فهو دائرة معارف عامة جمعت كل فن وموضوع.
والبهائي صاحب الكشكول وإن كان حكيما ومتصوفا إلا أنه لم ينصرف إلى معالجة الفلسفة وقضايا التصوف انصرافاً كلياً بل عالج المسائل معالجة (الأنسكلوبيدي) الذي يهتم بكل شيء ويبحث عن كل شيء. لم يفعل ذلك في معالجة القضايا الفلسفية والمسائل الصوفية فقط، بل كان ذلك شأنه في كل المواضيع تقريباً (ولذلك كانت كل طائفة من طوائف المسلمين تنسبه إليها)(تراه يعظم كثيراً من الصوفية الأغوياء والملاحدة الأشقياء في جملة من مؤلفاته) مثل مدحه الحسين بن منصور الحلاج وجماعة من المتصوفة الذين تحوم حولهم الشبه. وهذا ما جعل بعض المتعصبين المحافظين أمثال المحدث الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني والعلامة المجلسي وفيض الله التفرشي وأمثالهم يضعفونه في كتبهم ولا يأخذون بروايته. ويغمزون في بعض ميوله ولاسيما في ميوله إلى المتصوفة والتصوف. على أن الرجل ثقة جليل القدر ولا يشك في وثوقه أكثر العلماء.
أما المير محمد باقي الاسترآبادي المعروف بالداماد وهو لقب ورثه من أبيه السيد محمد الذي تزوج من ابنة العالم العربي السوري الشيخ علي بن عبد العال الكركي فعرف به ومعناه (الصهر) فهو فيلسوف عميق التفكير قوي العقل تدل أبحاثه في كتابه (القبسات) على علم غزير في الحكمة والفلسفة ومواضيع علم الكلام.
أما فلسفته فهي فلسفة إشراقية وقد عرف لذلك (بالإشراقي) أو (الإشراق) وأما أشعاره فهي مشرقة الديباجة مسبوكة الأسلوب على طريقة الصوفيين الإشراقيين. وقد أثرت هذه الفلسفة على نفسية تلميذه الشهير المعروف بالملا صدرا وهو صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي أعظم الفلاسفة المتأخرين.
يقول صاحب كتاب روضات الجنات عن الملا صدرا (كان الملا صدرا فائقا على سائر من تقدمه من الحكماء إلى زمن الطوسي منفخاً أساس الإشراق ومفتحا أبواب الفصيحة على طريقة المشائين والرواقيين). ويقصد صاحب روضات الجنات بالمشائين الفلاسفة الأرسطو طاليسيين ويمثلهم كما يقول المستشرق الإنكليزي براون، ابن سينا خير تمثيل. وعلى هذا فتكون فلسفة الملا صدرا فلسفة معاكسة لفلسفة أرسطو وابن سينا كل المعاكسة. أما المستشرق الفرنسي كوبينوه فكان قد ذكر عنه إنه كان من الفلاسفة الذين استمدوا فلسفتهم من الفلسفة الأرسطوطاليسية ومن فلسفة ابن سينا الفيلسوف الذي كان بارعا في
هذه الفلسفة دارساً لها وإن لم يكن مقلدا لها تمام التقليد.
والحقيقة أن رأي كوبينو الذي انتقده المستشرق براون هو المذهب الصحيح. فقد استمد الملا صدرا من المنبع الأرسطوطاليسي ومن فلسفة ابن سينا ما شاء أن يستمد؛ وقد سعى فيما بعد لبث فلسفة ابن سينا التي كانت قد اندثرت وماتت في نواحي إيران حتى وجه أنظار الطلاب والباحثين إليها. وقد كان أستاذه المير باقي الداماد من الحريصين على هذه الفلسفة فلا يستبعد أن يكون هذا الحب الذي نجده في كتب الملا صدرا من أثر ذلك التوجيه الذي رسمه أستاذه في كتبه ولاسيما في كتابه الفلسفي الشهير (القبسات). ويستمد الملا صدرا فلسفته في الواقع من منابع كثيرة أهمها أراء اليونانيين ولاسيما آراء أرسطو وتلميذه إبن سينا ومن أفكار المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي ومن تعاليم الدين الإسلامي. من القرآن والحديث والسنة النبوية وما جاء عن الأئمة من أقوال.
ولابن عربي المتصوف الشهير وصاحب الآراء المعروفة في عالم التصوف مثل رأيه في (وحدة الوجود) وأفكاره الأخرى التي تعارض ظاهرها الشريعة الإسلامية منزلة عظيمة في نظر الملا صدرا وفي نظر الفلاسفة الآخرين من أهل هذا الجيل. وقد تكون وحدة الرأي ووحدة المشارب والأفكار هي التي جمعت بين الاثنين بين محيي الدين بن العربي وبين الملا صدرا في المذهب الصوفي على تباعد الشخصين. وقد اتهم الملا صدرا نفسه بمثل ما اتهم به ابن العربي؛ ففي كتاب (الأسفار) وهو من أهم كتبه في الفلسفة (كلمات لا تلائم ظاهر الشريعة). وقد دافع عنه أتباعه وأنصاره بمثل ما دافع أتباع محيي الدين بن العربي وأنصاره عنه.
(يتبع)
جواد علي
إعجاز القرآن والمقاييس البشرية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
طال الجدل بيني وبين الأستاذ سيد قطب في مسألتي التصوير الفني في القرآن، واستخدام المنطق الوجداني في إقرار عقيدة التوحيد
وأنا من زمن أعلنت أني أكره الجدل العلني في الصحف، ولا أرتاح إلى نتائجه على النفس والحق، لأنه كثيراُ ما يجر إلى مواقف لا يدفع إليها إلا التبرير الجدلي وحب انتصار الشخص لا انتصار الحق
وقد آثرت هذين الموضوعين في نقدي لكتاب الأستاذ سيد برفق وهوادة؛ فقلت بعد أن وفيته حقه من الثناء: (غير أنني أخشى أن تكون قد أفلتت لفظة أو اثنتان من قلم المؤلف في أهم فصل من فصول الكتاب خرجت بهما فكرته الأساسية في جو من المبالغة والتعميم). هكذا أثرت هذا النقد بهذا التعبير المتواضع الذي يكاد يكون استفهاما، حتى أجنب الموضوع مزالق الجفوة، ولا أجره إلى بعض النوازع النفسية التي لا تتصل به، إذ الجدل في المسائل العلمية خاصة يجب أن يكون خاليا كل الخلو من الملابسات الغريبة، وان يكون العقل في برودة وصرامته وحيدته هو المتكلم وحده
ولكن انظر أيها القارئ كيف انتهى جدل الأستاذ سيد معي في المقال الأخير حين يقول: (وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات (آيات سورة الأنبياء (أم اتخذوا آلهة من الأرض. . .) الخ). فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه، فهي في سياق القرآن شيء يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل). (إن القرآن يا سيدي لم يرد الأمر على النحو الذي تريد). (فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني)
ألا يشعر القارئ أن عنصرا دخيلا يتطرق إلى طريقة الجدل فيرفع حرارة المجادل ويفسد هدوء المناقشة؟
لا يا أستاذ سيد! أنا غير مستعد أن أسير في هذا الطريق. . . وقد سرني كثيرا أن أقرأ من
قولك في مقدمة مقالك الأخير هذه العبارة: (وليست المسألة بيني وبين الأستاذ عبد المنعم قضية جدلية على طريقة المناظرات، وإنما هي حقيقة نود تجليتها، وإنه ليسرني من غير شلك أن ألتقي بالصديق في الطريق)
سرني هذا، ولكن ساءني ذاك، لأنه لا يعين على تجلية الحقيقة كما نود. . .
ولولا أن الموضوع يتصل بإعجاز القرآن من جهة، وبتجديد الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة لنفضت يدي من هذا الجدل في الصيف. ولآثرت أن أترك لك الكلمة الأخيرة تدافع بها عن رأيك بأي الأساليب تختاره، ولكن الموضوع موضوع قضية إعجاز الإسلام والعربية، وقضية أساس الفكر الإسلامي والديني الصحيح عامة، بل قضية الكون كله وأعظم شؤونه! قضية الوصول إلى عقيدة التوحيد. . . فلا عجب ولا ضير أن يطول الجدل بيني وبينك في هذا الشأن الخطير ما دمنا نحتفظ فيه بالهدوء وضبط الكلمات حتى لا تشذ كلمة جارحة. . .
- 2 -
أما القضية الأولى، وهي قضية (التصوير هو الأداة المفضلة في القرآن)، فقد وصل الحديث فيها بيننا إلى غايته بعد تكرار الأستاذ سيد اقتناعه برأيه فيها مرة ومرة، وبعد عجزي طبعا عن نقل كثير من الشواهد هنا للاستشهاد بها، كما فعلت بنقل النصوص التي وجهت نظره إليها، وأنا بالطبع ما أردت محاكمته إلى تلك النصوص وحدها، وإنما أحاكمه إليها والى أمثالها، وأمثالها هي الأكثر في القرآن
أما الربط بين (التصوير الفني)، سواء كان هو القاعدة العامة أم لم يكن، وبين سر الإعجاز في تعبير القرآن، فهو مكان الخطر في هذه القضية، لأنه يفسر إعجاز القرآن بأمور في مستوى الصنعة البشرية التي واتت وتواتي كثيرا من عباقرة البيان الذين يستخدمون التصوير الفني في مستوى رفيع فيه الوحدة والتناظر والتناسق وتقسيم الأجزاء وتوزيعها في الرقعة المعروضة، إلى آخر ما هنالك من سمات الطريقة، ولأن الربط بينه وبين سر الإعجاز يؤدي حتما إلى القول بأن المواضع الخالية من استخدام التصوير، سواء أكانت هي الكثيرة أم القليلة في القرآن ليس فيها إعجاز!
ذلك مفهوم كلام الأستاذ سيد، وهو مفهوم خطر!
ولا يقولن ردا على هذا: (أحسب أن ليس هكذا تكون مقاييس الفنون!) كما قال إزاء الأمثلة التي ذكرته بها، لأننا لسنا أمام (كتاب فني) يقدر بمجموعه لا بأجزائه، بل أمام كتاب يتحدى بسورة واحدة منه (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله)
وليس بذي خطر في الموضوع أن يكون التصوير هو القاعدة العامة أو لا يكون، فانه إذا صح فلن يضير القرآن، وإذا لم يصح فلن يضير. ولكن الخطر الذي يضير، هو ذلك الربط بينه وبين سر الإعجاز، فواجب الأستاذ سيد كما أرى - وله رأيه - أن يراجع هذا الموضع، ويحذف كلمة (الإعجاز) من الجملة الأخيرة من صفحة 31، ويضع كلمة أخرى مناسبة
سيقول الأستاذ سيد في الرد على التعليل الأول لرفض الربط بين سر الإعجاز وبين التصوير ما قاله سابقاً (إن العبرة ليست باستخدام التصوير، ولكن بمستوى هذا التصوير من التناسق والحياة. . .)
وأرد عليه بما قاله الأستاذ الكبير العقاد في مناسبة شبيهة بهذه المناسبة، حينما كان ينقد كتاب المرحوم الرافعي (إعجاز القرآن) قال:
(وإنما الأساس فيها (المعجزة)، والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة وتشذ عن السنن المطرقة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيراً يطابق المعهود من سنن الطبيعة، لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها)
والأستاذ سيد يحاول أن يفسر سر الإعجاز في تعبير القرآن بهذا التصوير الفني فيطابق بهذا التفسير بين القرآن وبين المعهود من سنن الطبيعة في البلاغة البشرية العبقرية، يلحق القرآن بالآثار البلاغية الشائعة
وما أشبه ما حاوله في بيان الإيقاع الموسيقي في القرآن على إنه لون من ألوان التصوير الفني الذي يرتبط به إعجاز القرآن بما حاوله الرافعي في فصل (الكلمات وحروفها). وقد
علق الأستاذ العقاد على هذا النحو الذي نحاه الرافعي في هذا الفصل بقوله: (هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه ترى إنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء هيهات أن يكون مقصوداً أو سارياً في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود (قيل يا نوح اهبط بسلام هنا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم)
(فإن كانت بلاغة الكتاب الكريم مرتهنة بذلك النسق الذي تصوره الأديب؛ فهل يناقض البلاغة في رأيه توالي الميمات الكثيرة والنون والتنوين في هذه الكلمات المتعاقبة؟ أو يظن الرافعي هذه الآية بدعا من الكتاب؟)
ما أردت بنقل هذين النصين وخصوصاُ النص الثاني من كلام الأستاذ العقاد الذي يجل آراءه الأستاذ سيد ونجلها جميعاُ، إلا أن أبين أن السر في إعجاز القرآن لا يمكن أن يخضع لمقاييس شائعة، ولا لقواعد بشرية يتناولها الجهد البشري بالتعديل والتغيير والتنقيح والنقد والرفض
فالحيرة القديمة التي كانت تمتلك عقول القدماء في فهم سر الإعجاز القرآني لا تزال تتجدد وتمتلك عقول المحدثين، ولن تزال كذلك ما دام القرآن معجزاً، وما دام الشرط في المعجزة أن تكون شاذة عن حوادث السكون الشائعة ولا يستطاع تفسيرها.
وحسن جداً من الأستاذ سيد، وتوفيق يهنأ عليه أن يكشف عن معالم للجمال الفني في القرآن يجليها وان يصف آثارها في النفس وعجبها منها وانفعالها لها، ولكن من غير الحسن فيما أرى أن يربط بينها وحدها وبين سر الإعجاز
وموعدنا المقال الآتي في الرد على اعتراضات الأستاذ سيد على ما أسماه (المحاولات الذهنية) التي حاولت بها أن أكشف ما في آيات الوحدانية بسورة الأنبياء من استخدام ضروب الأدلة الذهنية جميعها، وأشكر الأستاذ سيد أن أتاح لي فرصة الكشف عنها صدفة لأول مرة فيما أعلم، لتضاف إلى أسرار القرآن الكثيرة التي تكشف عنها الأيام فيما تحت (سطحه التعبيري)
عبد المنعم خلاف
الحياة الأدبية في الحجاز
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ظل حال التعليم هكذا حتى تولى أمر الحجاز عاهل الجزيرة العربية الملك عبد العزيز فعمل جاهدا على نشر الثقافة في هذه البلاد لتساير النهضة القوية في البلاد العربية الشقيقة، وقد استطاع في هذه الفترة الوجيزة من الزمان أن يخلق في الحجاز جوا علميا حديثا يغبط عليه الحجاز الآن فهو يبشر بمستقبل قريب محقق.
والذي يدعو إلى الغبطة أن التعليم الأساسي (الأولى) والتعليم الابتدائي قد أديا رسالتهما في الحجاز في المدن على الوجه الأكمل حتى إنك لتجد الكثرة الغامرة من البنين والبنات في هذه المدن يجيدون القراءة والكتابة، فإذا نحن تجاوزنا هذا النوع من التعليم إلى ما هو أرقى منه وجدنا ابن السعود يجاهد في إحيائه ويعمل على نشره ليخرج من الحجازيين صفوة صالحة تبني الحضارة الجديدة على أسس صالحة قوية، قد عارض في هذه السياسة الحازمة الرشيدة في بادئ الأمر المعارضون من أهل نجد، ولعل جلالة الملك قد لقي في هذا الصدد ما لاقاه محمد علي باشا في بداية النهضة المصرية حينما كان يحمل الناس على التعليم حملا فيلاقي منهم انصرافا وإعراضا.
ومن ثم صار في الحجاز في العهد السعودي مدارس ثانوية متعددة تسير مناهجها على غرار المناهج المصرية وتعد الطلبة للحاق بالجامعتين المصريتين، ويقوم بتدريس بعض المواد فيها أساتذة مصريون ليوحدوا بين الثقافتين ويؤلفوا بين الاتجاهين حتى إذا ما وفد الطلبة الحجازيون إلى مصر وجدوا أنفسهم بين إخوان لهم قد اتحدت ثقافتهم وتقاربت مداركهم.
وفي الحرمين الشريفين الآن تدريس للعلوم الشرعية واللسانية ينهض به علماء مصريون وحجازيون ونجديون وعلماء من شنقيط ويسير التدريس فيهما على نظام الحلقات حيث يلتفت الطلبة حول أستاذهم يستمعون إليه وهو يلقي درسا في الحديث أو التفسير أو الفقه أو النحو والصرف. وهذا اللون من التعليم يكاد يكون عاما شاملا لأهل مكة والمدينة، وينتظم في الحلقة الواحدة الكثير منهم على اختلاف أسمائهم وتباين أعمالهم؛ فتجد تلميذ
المدرسة بجانب التاجر أو العامل قد أصغى كل واحد في اهتمام إلى ما يلقيه الأستاذ في وقت الفراغ من العمل. والجميل في هذا النوع من التعليم أن الحجازي لا يحجم عن الانتظام في سلكه مهما تقدمت به السن، وهو كذلك يتعلم رغبة في العلم، وطلبا لإدراك أسراره ولا يريد من وراء ذلك عملا ولا شهادة.
والنقص الظاهر في علوم الحرمين خلوها من الآداب فليس من بينهم من يتصدى لتدريس النقد والسرقات أو تاريخ الأدب والنصوص حتى يأخذ بيد المتعلمين إلى فهم الأدب وتذوق أسراره ومعرفة مواطن الجمال فيه.
ومن هنا نستطيع أن نقول إن التعليم على اختلاف أنواعه في الحجاز يخرج علماء حفظة، ولا يخرج أدباء قادرين.
فكيف إذا استطاع أدباء الحجاز أن ينهضوا هذه النهضة وأن يبلغوا هذه المنزلة في الشعر والنثر؟
إن الفضل الأكبر في ذلك راجع إلى الاطلاع الحر والمجهود الذي يبذله الأديب معتمدا على نفسه في قراءة الكتب التي تحلو له وتتفق وذوقه. وهذا المجهود ملحوظ ظاهر في ناشئة الحجاز إذ لا يكاد الطالب في المدارس الابتدائية وغيرها ينال قسطا من التعليم حتى تتوق نفسه إلى الاستزادة من الأدب العربي والثقافة العامة الواسعة، وغاية يأمل الشادي في الأدب منهم أن يستطيع بعد القراءة الدائمة أن يصل إلى نظم الشعر ليلقى في المحافل أو كتابة النثر في الجرائد فإذا ما وصل إلى هذه الغاية تجددت له آمال أخر فواصل القراءة ودأب على التحصيل حتى يصبح من الشعراء المعدودين في هذه البلاد.
هذا الروح وهو الاطلاع الحر ولده في الحجازيين إكبارهم لماضيهم وعنايتهم بمجدهم السابق وأملهم الواسع العريض في أن يعود ذلك المجد قوياً ثابتاً كما بدأ في هذه البلاد، فقد علموا أن أقرب طريق يوصلهم إلى بغيتهم إنما هو طريق الاعتماد على النفس في استيعاب الآداب القديمة والحديثة والمعارف المنقولة إلى لغاتهم.
ولعل الذي مهد لهم سبيل الاطلاع، فراغهم في كثير من الأوقات، وبخاصة في غير موسم الحج - عندئذ يجدون عندهم الوقت متسعا للاستزادة واستيعاب ما حوته الكتب. وثمة سبب ثالث هو خلو بلادهم مما يشغل الناس في الأقطار الأخرى من ضروب اللهو ومفاتن
المدنية؛ فأعمال الحجازي مقسمة بين العمل والعبادة والتعلم.
والكتب التي يطلع عليها الحجازيون كثيرة متنوعة: فهم يقرءون الكتب العربية القديمة ليتأثروا صياغتها وأساليبها ويجدون هذه الكتب هناك في المكتبات العامة التي احتوت على كثير من الكتب وبعضها فريد نادر، وهم كذلك مولعون بشراء ما يطبع منها في بلادهم وفي الأقطار الأخرى.
غير أن عنايتهم بالكتب الحديثة تفوق عنايتهم بالكتب القديمة؛ فهم يقرءون كل ما يصدر منها في مصر والشام والعراق وأمريكا وإقبالهم على هذه الكتب بالغ حد الإعجاب؛ فلا تجد هناك شادياً في الكتابة ولا بادئاً في الشعر إلا وهو يعلم عن أدبائنا المصريين ما يجهله كثير من المصريين المتعلمين، ثم هو يحيط بإنتاجهم ومؤلفاتهم إحاطة وافية ويدرك منازعهم وطرائقهم: فليس منهم من يجهل مؤلفات الدكتور طه حسين بك، والدكتور هيكل باشا، والأستاذ العقاد، والأستاذ أحمد أمين بك، والأستاذ (الزيات)، والدكتور زكي مبارك وغيرهم، بل ليس منهم من يجهل أسلوب كل واحد من هؤلاء وخصائصه والموضوعات التي أجاد فيها وهو يحدثك عن كل أديب حديث الواثق الملم بما يقول. ولا تقف معرفتهم هذه عند حد الإعجاب بالأدب: فهم يختلفون إزاءه أحزاباً؛ هذا يفضل أسلوب الزيات لروائه ورونقه، وبراعة تصويره؛ وذلك يفضل أسلوب العقاد لدقة تعبيره، وتسلسل معارفه وقوة حجته، وآخر يتحيز لأسلوب الأستاذ أحمد أمين بك لعمق الفكرة والاستقصاء، والدقة في الأداء، وغيره يؤثر أسلوب الدكتور طه حسين بك معجبا بسهولته وتجليته للحقائق. وهكذا، وقد يتخذون من أدب هؤلاء وغيرهم مجالا للنقد والتحليل فتزخر صحفهم ومجلاتهم بنقدهم للأدب المصري. وما قلناه في تأثرهم بالأدب المصري نرى مثله في تأثرهم بالأدب الشامي والعراقي، وأدب المهجر بأمريكا.
ولكن أي هذه الآداب أشد تأثيرا في أدب الحجازيين؟ يقول الدكتور هيكل باشا: (إن عنايتهم بالأدب المصري تفوق عنايتهم بالآداب الأخرى).
وهذه العناية التي يذكرها هيكل باشا لم تكن إلا في السنين القليلة الأخيرة حينما فاقت مؤلفات المصريين مؤلفات غيرهم في بلاد الحجاز وحينما راجت صحفهم هناك، ولكن الأساس الذي بني عليه الحجازيون أدبهم والمعين الذي استمدوا منه مناهجهم إنما هو أدب
المهجر؛ ولذلك نراهم إلى الآن متأثرين اشد التأثر بأساليب هذا الأدب وطرائقه وإن مالت طائفة منهم إلى اتباع طريقة المصريين وفي بيان هذه الحقيقة يقول الأستاذ أحمد العربي: (أما أدب اليوم فهو وإن كان أدبا فنيا ما يزال في الطور الأول من أطوار نموه ونضوجه، فهو ماض في طريقه إلى الأمام، سائر بخطوات ناجحة موفقة لا يسع المنصف تجاهلها أو الغض من شأنها. ويرجع الكثير من الفضل في ذلك إلى آثار أدباء العربية العصريين التي تجاوب صداها في الشرق العربي فكان لها أحسن الأثر في توجيه الأدب العربي وتلقيحه بلقاح الحياة والطرافة والتجديد، وقد كان أثر أدباء المهجر من السوريين أقوى وأظهر في أدبنا الحديث حتى عهد قريب. أما الآن فقد بدأ يتحرر قليلا من قيود التقليد وأخذ يسند ساعده وإن كنا نجد لنفثات أقلام الأدباء المصريين أثراً متميزاً في هذه السنوات الأخيرة) ومع أن ثقافة الحجازيين لا تعدو الثقافة العربية، لأنهم لم يختلطوا بالأوربيين كما اختلط غيرهم إلا أنهم في العهد الأخير قد استطاعوا أن يستوعبوا الكثير من ألوان هذه الثقافة استيعابا يغبطون عليه: فهم يقرءون الكتب المترجمة عن هذه اللغات، وهم يقرءون إنتاج المتأثرين بالثقافات الأجنبية من أدباء مصر والشام والعراق وأمريكا في شوق وعناية، وقد استطاعوا باطلاعهم الحر على هذه الثقافة أن يثبتوا وثبة فكرية موفقة بدت آثارها فيما يكتبون ويشعرون.
وإلى عهد قريب لم يكن لتعليم اللغات الأجنبية نصيب في مناهج التعليم الحجازي، فأحس الأدباء حاجتهم إلى معرفة هذه اللغات ليتصلوا بالنهضة المتوثبة في بلاد الغرب. ويعبر عواد عن هذه الحاجة قائلا: (كم هي شديدة حاجتنا في الحجاز إلى اللغة الإنجليزية خصيصاً وإن عليها لمعولا ضخما في استعمال العلاقات بيننا وبين هذا الشعب الإنجليزي الهائل، فيجب أن يفهم كيف يستفيد من تلك العلاقات على اختلافها وتنوعها وكيف نستخدمها في مصالحنا فردياً وأمميا.
إلى أن يقول: من العبث أن يستغني الحجاز عن رواج اللغات الأجنبية ولاسيما الفرنسية والإنجليزية في مدارسه ومجتمعاته ونواديه رواجا لا كرواج العربية لغة حياتنا الأولى، لغة سيرنا إلى الأمام وإنما أقول: لنتكلم اللغة العربية ولكن لنتعلم اللغة الأجنبية أيضاً لنستفيد منها حضارة وعلوماً وأفكاراً) وقد تعلم بعض الحجازيين في العهد الأخير بعض هذه اللغات
ولكن هؤلاء لا يزالون أقلية، وقد اعتمد كثير منهم في تعلم اللغة الإنجليزية على السفر إلى الهند والإقامة هناك، كما أن أهل المغرب الذين استوطنوا الحجاز حديثا يعلمون اللغة الفرنسية إلى درجة يستطيعون بها الترجمة عن هذه اللغة.
وقد جعل جلالة الملك عبد العزيز تدريس اللغة الإنجليزية من منهجه الإصلاحي فاستقدم المدرسين المصريين لتدريس هذه اللغة بمدارس الحجاز، واستطاع الطلبة هناك أن يعلموا منها ما يعلمه الطلبة المصريون في المدارس الثانوية، ولكن هذا كله لا يعدو في حاضرة البذرة التي ستنمو وتثمر في مستقبل الأيام، ولم يظهر لتعلم هذه اللغة أثر يذكر فيما نحن بصدده وهو نقل الثقافات الأجنبية إلى اللغة العربية نقلا يتجلى فيه الإلمام والبراعة، ولذا نستطيع أن نقول: إن ثقافتهم الأجنبية لا يقعون عليها بأنفسهم ولكنها تصل إليهم في الكتب المصرية وغيرها. وسوف ينهض بهذا العمل الخطير في المستقبل أعضاء البعثات الحجازية بعد أن يعودوا إلى بلادهم، فيتحقق بذلك للبلاد المقدسة أملها البعيد ورجاؤها المحبوب
(الفيوم الثانوية)
أحمد أبو بكر إبراهيم
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
حينما ندرس حالة العالم بعد هذه الحرب يتبين لنا بوضوح أن تاريخ الإنسانية لم يعرف عهداً مملوءاً بالانقلابات المتتابعة والتغييرات السريعة التي يتميز بخروجها عن كل قاعدة، ومخالفتها المألوف والمعهود مثل ما نراه أمام أعيننا اليوم
فهل بوسعنا أن نستخلص، بعض القواعد العامة، أو الاتجاهات؟ أو نضبط شيئاً من العلائق التي تربط بين الأسباب وبعضها، أو بين الأسباب والظواهر؟ أو نستبق الحوادث فنكتشف شيئا مما قد تأتي به الأيام المقبلة؟
يصعب ذلك علينا نظراً لتتابع الحوادث، ولكن الظروف التي مرت بالعالم بين حربين، والدروس التي ألقاها علينا تاريخ المائة سنة الماضية، قد تمهد لنا الطريق، وتسهل لنا السبل لتكوين فكرة تقرب من الصواب، بل يمكن أن تساعدنا على تحديد بعض النتائج التي حصلت عليها الإنسانية بعد خروجها من حربين عالميتين
كانت المائة سنة التي سبقت الحرب الماضية مملوءة بالحوادث الكبرى، فهذه الفترة التي تقع بين 1815 - 1914، أي بين مؤتمر فينا وإعلان الحرب العظمى الأولى، فترة فذة في تاريخ البشرية: لأنها بدأت بتأكيد مبدأ القوميات والمناداة بتحرير الشعوب واستقلالها، ثم خضعت لفكرة حفظ التوازن بين الدول الكبرى الأوربية، وكانت هذه المائة سنة فترة الثورات التي نقلت أوربا من عهد الإقطاع وبقايا القرون الوسطى، إلى عهد الصناعة الآلية وما يلازمها من تنازع الطبقات وتضخم المدن ونمو الرأسمالية وبروزها كعامل أساسي في حياة الشعوب الأوربية
كانت هذه الفترة كل هذا، ولكن ما هو أكبر مظهر لهذه المائة سنة؟
لا يتردد الآن أي مخلوق في أن يعترف أن هذه الفترة من الزمن كانت عصر التوسع الاستعماري الجارف
وما معنى هذا؟ الذي يبدو لنا في سنة 1914 ويمكن إبرازه ظاهراً ملموساً هو ما يأتي:
إن الدول التي توسعت في أملاكها وازدادت علاقاتها بالأمم المحكومة، قد أخذت تتحول من دول أوربية إلى دول ذات صبغة عالمية!
كيف تم هذا التحول؟ وكيف دخلت الدول الكبرى ميدان الاستعمار فأصبحت غير قادرة على التراجع والانكماش بعد أن ذاقت طعم حلاوته؟ كل هذا يمكن درسه وبحثه إذا عرفنا شيئا عن أثر المائة سنة الماضية وتطوراتها
فمن المسلم به أن بعض الدول كانت تملك المستعمرات، وكانت تعرف طريقة الاستغلال - قبل المائة سنة التي أشرنا إليها - ولكن نشاطها كان محدودا، وفي دائرة ضيقة، ولم يكن اتصال هذه الدول بمستعمراتها أو اعتمادها عليها بالقدر الذي وصلت إليه في الفترة الأخيرة، بل حصل ما هو أكثر من ذلك، إن البشرية لم تعرف زمناً، في كل عصورها السالفة بلا استثناء. خضعت فيه شعوب العالم المختلفة بمدنياتها وتقاليدها، بل وبمعاشها لحكم الأوربيين مثل العهد الذي جاء بين ابتداء القرن التاسع عشر وابتداء القرن العشرين
ففي هذه اللفتة من الزمن، اشتد التنافس والتسابق والتزاحم بين دول أوربا الكبيرة والصغيرة، القديمة منها والناشئة، لدرجة أن وصل إلى المناطق المتجمدة والصحارى القاحلة، فأصبح الجليد والصخر والرمال ميداناً لكل هذا
فكل بحث أو دراسة لشئون العالم، وكل قاعدة نستخلصها يجب أن يسبقها تعرف هذا التوسع وأثره وأهميته، ولكي تعرف بالضبط العلاقة بين الشعوب المحكومة والحاكمة، ولكي يحدد مركزنا وموقف الأجيال القادمة من هذه السيطرة وعلاقتها بآمال الشعوب ومقدراتها ومستقبلها
فلنتساءل عن أول أثر لهذا التحول أو التطور العالمي الذي أوجد أمماً قوية سائدة وأمماً ضعيفة خاضعة؟
كان من أثر هذه السيطرة الأوربية أن فنيت بقايا المدنيات القديمة التي حملتها أراضي الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، بل اندثرت وتلاشت أمام مدنية الأوربيين وتفوقهم المادي والعسكري
هذا هو الأثر السلبي، أما الإيجابي، فقد كان من أثر هذه السيادة أن ازداد سكان المعمورة، لأن سكان المستعمرات قد تكاثروا وتناسلوا فكثر عددهم وأصبحت هذه الزيادة في السكان
مظهرا من مظاهر هذا الاستعمار الأوربي، والذي يدعو للدهشة أن هذه الزيادة في السكان لم تعرفها الإنسانية من قبل في أي عصر من عصورها السالفة
ثم كان من نتيجة هذه السيطرة وما تبعها من تنافس وتصادم أن ارتبطت أنحاء العالم بطرق مواصلات سهلة تعذر القيام بالثورات، كما أثر على علاقات الشعوب المحكومة، لأن هذه الأمم التي جهلت نفسها، وجدت أمام سهولة الانتقال والتعارف في مركز يسمح لها أن تستعيد العلاقات والروابط التي كانت قائمة بينها ثم انقطعت
ولما استقرت سيادة الأوربيين وسيطرتهم على أنحاء الدنيا وأمنوا أن تقوم الشعوب ضدهم، وظهر التفوق العسكري، وعرفوا طريقة تجنيد المرتزقة وكتائب الجنود الملونة، فألقى عليها عبء القتال واستتباب الأمن، انتقل الاستعمار من ميدان الفتح واستعمال العنف إلى ميدان جديد: نعم اتجهت في النصف الثاني من القرن الماضي إرادة الدول المستعمرة إلى الاستعانة بالعلم والاقتصاد على تنظيم استغلال ثروات ومرافق هذا الكوكب الأرضي، واقترن ذلك باندفاع نحو السير بهذا التطور الجديد نحو أهداف عالمية، أي اتجهت هذه الحكومات وهيئاتها الاستعمارية إلى تحقيق فكرة سيطرة الإنسان على أفق الحياة وإخضاع الطبيعة لسلطانه وإرادته بكل ما في العلم من قوة ثائرة، وما في الاقتصاد من قوة منتجة
أما من الناحية السياسية، فقد اخرج القرن الماضي لدى الدول التي تقدم لديها الوعي الاستعماري نشاطا أشد خطراً وأعمق أثراً وهو الدراسات العلمية والنفسية وتطبيقها على إدارة المستعمرات وفي حكم الشعوب المغلوبة على أمرها
لقد أصبحت هذه الدراسات أقوى دعامات سيطرة الأوربيين ودليل تفوقهم، بل برهان تمكنهم من قيادة الشعوب التي يحكمونها، أو كإحدى مظاهر الطبيعة التي ألانوا قناتها وأخضعوها لمشيئتهم في عالم الجماد والحيوان
(للكلام بقية)
أحمد رمزي
-
النظام الزراعي في بلاد السوفييت
للدكتور محمد مأمون عبد السلام
بقية ما نشر في العدد الماضي
المزارع التجمعية
كان تسعة أعشار الروسيين إلى عهد قريب فلاحين، وفي سنة 1941 كان الثلثان من سكان الروسيا السوفيتية يعيشون في القرى، وكان أكثر من نصف السكان يعيشون على فلاحة الأرض، فالزراعة في روسيا كما في غيرها من البلاد سبيل للحياة لا وسيلة للعيش فقط كما يقول بذلك بافلوفسكي المؤرخ الزراعي الروسي، وقد استمرت الزراعة في الروسيا وسيلة لعيش ملايين من الخلق وسبيلا لحياتهم، أما الحياة الصناعية فإنها لا تزال وسيلة إضافية
وكان الفلاح الروسي قبل الثورة عبدا مسخرا لطبقة النبلاء والأشراف، فحرره السوفيت ووضعوه على قدم المساواة بسكان البنادر، ولا يزال الفلاح الروسي العمود الفقري للهيكل الاقتصادي السوفيتي، فهو الذي يدفع نحو ثلاثة أسباع مصروفات الدولة غير ما يدفعه من الضرائب غير المباشرة، وقد ضمنت له الحكومة مقابل ذلك حقوقه كاملة في نظام المزارع التجمعية التي هو عضة فيها، وفتحت له أبواب الفرص على مصراعيها لتثقيف نفسه وأولاده وأبعدت عنه مشاق العمل الجسماني المضني في الزراعة بإدخال الزراعة الآلية الحديثة ونظمت له الإدارة تنظيما جعله يستفيد من أوقات فراغه الكثيرة بالثقافة الريفية العامة والتعليم الزراعي. والفلاح في نظر السوفييت عامل كعامل المصنع لا يختلف عنه في شيء إلا في كونه يعمل في الهواء الطلق على نظام حساب القطعة فيختلف ما يتقاضاه من الأجر باختلاف مقدرته على الإنتاج.
وغرض السوفييت من إلغاء الزراعة الفردية التي كانت من خصائص النظام القديم القيصري وتحويلها إلى النظام الزراعي التجمعي هو أن تجول المزارع إلى مجموعة من مصانع زراعية يعمل فيها العمال تحت قبة السماء. وهذا النظام الجديد إنما هو وليد عبقرية مبتدعة لأنه نظام يجمع بين قوة الفردية ومزايا الاشتراكية، وهو نظام غير ثابت
في تفاصيله لأنه يتكيف حسب نتيجة التجارب والتعلم من الأخطاء طبقا للعقيدة السوفيتية المشهورة المحببة إليهم. وقد استفاد السوفييت من المفعول السحري للألقاب على عقول الجمهور فاستبدلوا بألقاب الفلاحين التي كانت تشعرهم بالمهانة والتحقير أخرى ترفع نفسيتهم وتشعرهم بعزة النفس والأنفة؛ فسموا (كلاف الخنازير) باسم (خبير الخنازير) ولقبت زوجته (باللبانة) وسمحوا لها بالالتحاق بالمجموعة النسوية في المزرعة التجمعية. ويعتبر السوفييت المزارع التجمعية في حرفة الزراعة كاتحادات العمال في الصناعة؛ فهي عبارة عن هيئة تنظيم الفلاحين وتوحدهم لمصلحتهم؛ وهي فضلا عن كونها هيئة تعاونية للإنتاج فإنها تعمل في الوقت نفسه لمصلحة أعضائها من الفلاحين فتزودهم بإعانات أثناء مرضهم، وبمعاشات عند بلوغهم السن، وبالتعليم المجاني وتنظيم ساعات فراغهم من حيث الانتفاع بها في النوادي والرحلات والساحات، وتحصل لهم على خدمات خاصة من الحكومة كتعليم الأطفال والعناية بصحتهم وإنشاء مدارس الحضانة ورياض الأطفال وبيوت المسامحات وإعطائهم إجازات سنوية أسبوعين في السنة بأجر كامل والقيام بجميع التأمينات لهم مجانا. ولا يشتغل الفلاح في هذه المزارع التجمعية أكثر من ثماني ساعات في اليوم.
أشكال المزارع التجمعية
والمزارع التجمعية على ثلاثة أشكال، أبسطها ما كان عبارة عن شركة لزراعة الأرض أو رعي الماشية وتربيتها كما هو موجود فعلا في مناطق البدو في جمهورية قازقستان وفي بعض مناطق شمال القوقاز.
وأعقدها هي المزارع الشيوعية الكاملة التي تكون فيها الأرض والآلات والماشية وكافة المنشئات مندمجة في بعضها البعض ومشاعا بين أعضائها فيعيش الكل فيها معيشة شيوعية في مبان شيوعية ويأكلون من مطبخ واحد وفي غرفة طعام واحدة، وليس لأحد منهم شيء خاص يمتلكه لنفسه اللهم إلا حوائجه الشخصية. ولا يزيد عدد هذه المزارع الشيوعية المطلقة عن 1 % من المجموع الكلي للمزارع التجمعية. أما النوع الثالث وهو يكون الأغلبية الساحقة من المزارع التجمعية فهو المسمى (كلهوز) وفيها يحتفظ الأعضاء بمساكنهم الخاصة لكل عائلة بيتها وقطعة أرض ملحقة به لتزرعها العائلة لحسابها ولتربي
فيها الدواجن والحيوانات الصغيرة لا يشاركهم فيها أحد؛ وبذلك تحافظ كل عائلة على استقلالها في معيشتها. أما ما يتبقى من أرض المزرعة وحيواناتها فتستغل على المشاع فيعطى كل فرد حقه من الإنتاج حسب مقدار عمله. وفي هذا النوع الأخير من المزارع التجمعية تظهر فردية المزارع وشخصيته ومقدرته على أوضحها. ويسمي السوفييت هذا النوع من المزارع التجمعية باسم (كلهوز) ومعناه بالروسية منشأة أو مزرعة اقتصادية تجمعية، ويدل هذا التعريف على أن المزارع التجمعية ملك للدولة ولكن لأعضائها حق الانتفاع الدائم بها في حدود قيامهم بالالتزامات التي يحتمها عليهم الدستور والقانون.
وقد بدأ عهد المزارع التجمعية في سنة 1929 ولم يمض عليه ثلاث سنوات إلا وأصبح 61 5 % من الأراضي الروسية مزارع تجمعية وفي سنة 1938 ارتفعت هذه النسبة إلى 3 99 % إذ بلغ عدد المزارع التجمعية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي 000 242 مزرعة. وقد أصبحت بلاد السوفييت في بدء هذه الحرب أكثر بلاد العالم مساحة في الأراضي الزراعية وأعظمها تقدما في وسائل الزراعة الآلية الحديثة وذلك بفضل نظام الزراعة التجمعية. كما ازدادت بفضله مساحة ما يخص العائلة من أرض الزراعة من نحو 17 فدانا في المتوسط في العهد القيصري (مع مراعاة أن نحو 50 % من فلاحي ذلك العهد لم يخص العائلة الواحدة منهم أكثر من 2 ، 5 إلى 5 فدادين) إلى متوسط 48 فدانا في عهد المزارع التجمعية وإلى نحو 120 فدانا في بعض المناطق مثل سيبريا العربية.
وتختلف مساحة مزرعة الكلهوز كثيرا من منطقة لأخرى، فتبلغ مساحة الأرض المزروعة فيها أقل من 600 فدان في المناطق الشمالية وفي روسيا البيضاء والقوقاز وآسيا الوسطى الإسلامية. وتزيد عن 1300 فدان في أوكرانيا وتبلغ نحو ستة آلاف فدان أو أكثر في حوض الفولجا. وعلى العموم تبلغ مساحتها في المتوسط نحو 1600 فدان. ومتوسط عدد بيوتها أي عائلتها 95 بيتا ولكنها تكون أقل من خمسين بيتا في الشرق الأقصى والمناطق الشمالية النائية و133 في أوكرانيا و152 في شمال القوقاز
وقد زادت مساحة الأراضي المزروعة في بلاد الاتحاد السوفيتي بفضل هذا النظام بمقدار 11 مليون فدان في سنة 1940 عما كانت عليه في العهد القيصري في سنة 1913 وهذه الزيادة تشمل نحو 40 مليون فدان من الغلال ونحو 18 مليون فدان محصولات صناعية
ونحو 15 مليون فدان بطاطس وأكثر من 38 مليون فدان من محصولات العلف.
ويتراوح عدد بيوت (أي عائلات) المزرعة التجمعية الواحدة بين 50 بيتا في الشرق الأقصى والمناطق الشمالية النائية و133 بيتا في أوكرانيا و152 بيتا في شمال القوقاز. ولكن متوسطها كان قبل هذه الحرب 78 بيتا وعدد أعضائها 342 شخصا منهم 149 من العمال الشغالين الذين لا يقل عمر الواحد منهم عن 16 سنة
ويعمل عمال المزارع التجمعية في نظام يشبه نظام عمال المصانع؛ فمواعيدهم محددة، ولكل فرقة رئيسها. ويعاقب المذنب بعقوبات تتناسب مع جرمه وذلك طبقا لأوامر الحكومة الصادرة في أبريل سنة 1938 التي تنص على أن أي عامل ذكرا كان أو أنثى يرتكب ما يخل بالنظام الداخلي للمزرعة يعاقب بالتوبيخ العلني أو بالتشهير بكتابة اسمه على السبورة السوداء. أو بتغريمه، أو بإنزاله إلى عمل أدنى من عمله، أو بتشغيله مدة معينة بدون أجر، أو بالطرد من المزرعة بعد موافقة جمعيتها العمومية بأغلبية ثلثي الأعضاء
وتقبل المزارع التجمعية النساء في عضويتها على قدم المساواة مع الرجال على أن يقمن بالعمل الذي يتفق مع طبيعتهن وأن يرتقين كما يرتقي الرجال وأن تقبض المرأة أجرها بنفسها، فترتب على إعطاء الحرية للمرأة الفلاحة الروسية عدم تقييدها بقيود المعيشة المنزلية فأنشئت من جراء ذلك المطاعم العامة الشيوعية والمغاسل العامة وبيوت الحضانة ومعاهد الأطفال للعناية بهم أثناء عمل أمهاتهم في النهار وأنشئت مدارس للأولاد الأكبر سناً.
وتدفع المزارع التجمعية ضريبة دخل للحكومة. ولكن الضريبة الحقيقية هي ما يعود على الخزانة من البيع الجبري لمحصولاتها ومنتجاتها. والواقع أن الفلاح الروسي يدفع الآن ضريبة مباشرة للحكومة بين 15 % و18 % من مجموع محصولاته عدا الضريبة غير المباشرة التي يدفعها بالنسبة لاستهلاكه. وتجبي الحكومة الضريبة المباشرة عينا فترتب على ذلك أن أنشأت الحكومة أهراء للغلال التي تجبيها ليس لها مثيل في العالم. ولا يمكن لأي دولة غير شيوعية أو اشتراكية أن تشيد مثلها. وأقامت الحكومة السوفيتية وسائل ومصانع للانتفاع بالمحصولات المختلفة الأخرى التي تجبيها عينا كالألبان مثلا؛ فأنشأت مصانع هائلة للألبان ومشتقاتها في مناطق تربية الماشية ومصانع السكر في مناطق زراعة
البنجر وهلم جرا.
من هذا يتضح لنا أن نظام الزراعة التجمعية يتطلب دقة فائقة وعناية للانتفاع بمحصولات البلاد على أكمل وجه وتوزيعها توزيعا اقتصاديا يعود بالنفع على كل فرد من أفراد الأمة. كما إنه يمكن البلاد من الانتفاع بفضلات المحصولات انتفاعا علميا. والدليل على ذلك أن قومسارية الأغذية تنتفع بفضلات المحصولات إلى أقصى حد في صناعة الأغذية فتحسنت بسبب ذلك حالة الأغذية في المدن بعد سنة 1933.
ولا جدال في أن جباية الحكومة ضريبة عينية من اللبن عن كل بقرة قد أدى إلى اهتمام الفلاحين بتحسين البقر الحلوب وإيجاد عشرات منه أكثر إدرارا. كما أن ازدياد حاجة الزراعة إلى الأسمدة أدى إلى الإكثار من الماشية والى إنشاء مصانع الأسمدة الكيميائية على نطاق واسع.
وقد أدت طريقة دفع الأجور على حساب القطعة إلى تسابق الفلاحين في العمل ومباراتهم في ابتداع الوسائل الكفيلة بسرعة إنجازه وإتقانه فزادت غلة المحصولات في كثير من الحالات زيادة مدهشة
وقد أقام السوفييت في سنة 169 - 40 معرضا زراعيا عاما في موسكو استعرضوا فيه أوجه نشاط المزارع التجمعية وإنتاجها ودرجة تقدم الحياة الاجتماعية فيها فاتضح منه جليا أن المزرعة التجمعية وحدة زراعية نموذجية للإنتاج كاملة بعمالها وآلاتها الزراعية ومبانيها ومواشيها فهي تضم كل مستحدث في الفنون الزراعية مما يسهل العمل لعمالها ويجلب الراحة والهناء والسعادة والرخاء والصحة لهم. وقد بلغ عدد حظائر تربية الماشية التابعة للمزارع التجمعية عند بدء الغزو الألماني لبلاد السوفييت 618000 حظيرة تحوي نحو 18 مليون من حيوانات الفصيلة البقرية و7 ملايين خنزير و33 مليون من الغنم والماعز. وفي كل مزرعة مهندس زراعي وخبير للتقاوي وخبير لتربية الماشية وطبيب بيطري وخبير لفلاحة البساتين وميكانيكيين، وقد بلغ عدد المتخصصين تخصصا علميا في فروع الزراعة المختلفة في المزارع التجمعية ببلاد السوفييت 322000 من مهندسين زراعيين وخبراء في شتى شؤون الزراعة وبيطريين
وليس أدل على نجاح نظام المزارع التجمعية مما وصل إليه رخاء أعضائها. فقد وصل
دخل الفلاح السنوي في بعض المزارع التجمعية إلى 2400 روبل علاوة على ثلاثة أرادب مصرية وثلث أردب من القمح و600 رطل من الخضروات و300 رطل من البطاطس و300 لتر من الخمر بخلاف ما يحصل عليه من مزرعته الخاصة الملحقة ببيته وما يكسبه من إيوائه في بيته للنزلاء الذين يفدون إلى الريف طلبا للنزهة والراحة.
ومما يدل على رخاء الفلاحين في المزارع التجمعية نوع البضائع التي تعرض في المخازن التعاونية في القرية مثل: الجوارب والأحذية وأحمر الشفاه، واسطوانات الجراموفون، وساعات الحائط، والدراجات، والراديوات وغير ذلك من الكماليات التي لم يسبق للفلاح الروسي أن تمتع بها من قبل.
ويرجع رخاء الفلاح السوفيتي إلى عدة عوامل أخرى نذكر منها زيادة مساحة الأراضي الزراعية بالنسبة لعدد السكان، وزراعة محصولات أخرى أكثر ربحا، وزيادة المنتجات الحيوانية، وتحسن التسويق، ونظام الأسواق، وازدياد الدخل من موارد غير زراعية، ونقص أثمان البضائع المصنوعة مقدرة على أساس أثمان المحصولات الزراعية، ونقص الضريبة المفروضة على الفلاح وتخلصه من أثقال الربا وإيجارات الأرض والوصول إلى طريقة تقلل الفقد في المحصولات في عمليات الضم والدراس والتخزين وغيرها فقد أمكنهم باستعمال آلة الضم والدراس المزدوجة أن يقللوا الفقد في محصول الحبوب بنسبة قد تصل إلى 33 % في القمح
وقد أثرى الفلاحون في المناطق الشمالية الوسطى من إنشاء مصانع الألبان، ومن زراعة الخضروات والبطاطس والمحصولات الصناعية. كما أنهم قد استفادوا من امتداد منطقة زراعة القمح شمالا في أراضي كانت تعتبر في الماضي غير صالحة لإنتاج المحصولات الغذائية
ويدل ما تخطه أقلام الكتاب السوفيتيين على أن الفلاح الروسي قد أصبح سيد نفسه له حق التمتع بما تنتجه عبقريته ويداه لا يشاركه في إنتاجه أحد. فقد كتب بوريسوف عن الفلاح وهو يخاطب القديس نقولا العجائبي: (لمن أيها القديس العزيز يجب أن تكون الأرض والحقول والقرى) فأجابه القديس نقولا: (إليكم يا اخوتي وإلى أبنائكم، نعم إليكم دون غيركم).
ويقول الكتاب الروسي بلسان رجل المستقبل وهو يخاطب الشعب: (أنا لا أتكلم إليكم عن الجنة وعدكم بها المسيح بل أكلمكم عن جنة الدنيا التي هي للجميع ما عدا ضعفاء النفوس)
ويقول الكتاب بلسان الفلاحين الروسيين: (نحن الذين لم نكن شيئا فأصبحنا الآن كل شيء). ويقولون أيضاً: (الأرستقراطية الحديثة هي أرستقراطية العمال المهرة الفنيين، فهؤلاء هم الذين يجب أن يتمتعوا بحقهم من الراحة والرياضة والتعليم والعناية بهم وبأطفالهم).
محطات الجرارات والآلات
رأى السوفييت أن تقدم الزراعة ووصولها إلى الذروة العليا التي يرمون إليها لا يتم في بلادهم المتسعة الأرجاء الفسيحة السهول بغير استعمال الآلات الزراعية والميكانيكية الحديثة، ولذلك أنشأت الحكومة نظام محطات الجرارات والآلات الزراعية
وتتوقف طبيعة المحطة على نوع المحصول الأساسي لكل منطقة سواء كان من الغلال أو القطن أو بنجر السكر أو غير ذلك. ولما بدأت الحكومة السوفيتية التحول الجبري في سنة 1930 من الزراعة الفردية إلى النظام التجمعي كان في الروسيا 158 محطة من هذه المحطات ملكا للحكومة و479 محطة تعاونية وكان عدد الجرارات في الروسيا أربعين ألف جرارة صالحة للأعمال الزراعية منها عشرة آلاف جرارة تابعة محطات الآلات الزراعية الحكومية، وهي صالحة لفلاحة المزارع التجمعية التي أنشئت في البلاد حديثا.
ومن الدوافع الأساسية التي حدث بالسوفييت إلى تعميم نظام المزارع التجمعية هو جعل الزراعة بالآلات الميكانيكية الحديثة ممكنة واقتصادية، ولذلك أنفقوا ملايين الجنيهات في بناء مصانع إنتاج هذه الآلات التي خرجت من طور التجربة إلى الإنتاج في نهاية سنة 1933 إذ كان لديها مائة ألف جرارة. وجميع هذه المحطات حكومية تؤدي جميع ما يطلب منها من العمليات الزراعية في المزارع التجمعية التي أصبحت تعتمد عليها في ذلك فهي تقوم بالحرث والضم والحصاد والدراس وغير ذلك مقابل نسبة مئوية من محصول المزرعة تتراوح بين 10 - 20 % حسب قلة المحصول أو وفرته.
وقد كان نصف العمل الزراعي قبل الهجوم الألماني في الحرب الأخيرة يؤديه الخيل والنصف الآخر تؤديه الآلات. وقد بلغ عدد الخيول في المزارع التجمعية 5 8 مليون
حصان بمتوسط 250 حصانا للمزرعة، ولكل حصان 29 فدانا، ولكل مائة فدان من الأرض الزراعية 12 عاملاً زراعياً عضواً في المزرعة التجمعية. وفي سنة 1935 أصبحت محطات الآلات الزراعية تخدم نحو ثلاث أرباع المساحة المزروعة في الاتحاد السوفيتي.
وقد بلغ عدد محطات الآلات الزراعية في بلاد السوفييت في سنة 1940 مقدار 6980 محطة تجمعت نحو 5 ، 94 % من الأراضي المزروعة بالمزارع التجمعية، وقد وفرت بعملها عمل 11 مليون عامل. وقد بلغ عدد الجرارات في سنة 1940 في الزراعة السوفيتية 523000 جرارة وآلات الضم والدراس المزدوجة 128000. وقد تمكن السوفييت بفضل محطات الآلات أن يدربوا في المدة بين سنة 1933 - 1940 عدد 60208 ميكانيكي و106302 رؤساء فرق سواق الجرارات و117 و365 و2 سواق جرارات و562 و305 سواق لآلات الضم والدراس و268 و161 و2 مساعد سواق و196323 ميكانيكي لآلات الضم والدراس و207216 سواق أتوموبيل، وقد التحق كثير من هؤلاء بالفرق الميكانيكية في الجيش السوفيتي خلال هذه الحرب وكانوا من أقوى العوامل في النصر
والسبب في تركيز الآلات الميكانيكية الزراعية في محطات هو سبب اقتصادي، لأن إدارة هذه الآلات وصيانتها تتطلب خبرة ومهارة خاصة لا تتوفر إلا في أناس يتخصصون لها ويكونون خاضعين لسلطة واحدة مكلفة بهذا العمل ومسؤولة عنه في كل منطقة زراعية ويكون في متناولها كل وسائل إصلاح الآلات وصيانتها، وهذا من مستلزمات الاقتصاد في المال والوقت والمجهود. وإشراف الحكومة الأشراف الكلي الكامل على كافة الأعمال الزراعية في البلاد لأن هذه المحطات ملك للحكومة وهي التي تقوم بجميع العمليات الزراعية في كافة البلاد مقابل جزء معين من المحصول يذهب طبعا إلى الحكومة.
ونقطة الضعف الوحيدة في نظام محطات الآلات هي تأثر زراعة المنطقة تأثراً يتمشى مع سوء إدارة محطة الآلات في المنطقة.
وجميع سائقي الجرارات وميكانيكي الآلات المزدوجة للضم والدراس هم غالبا من الأعضاء العاملين في المزرعة التجميعية تدربهم محطة الآلات ليقوموا بالعمل في اشتداد
الموسم، وبهذه الطريقة تمكنت حكومة السوفيت من غرس العقلية الميكانيكية في الفلاح الروسي الذي أخذ ينظر إلى جرارته نظرة صوفية لأن عليها رزقه كما ينظر الفلاح المصري إلى ماشيته. وقد علمت التجارب حكومة السوفيت أن من الأفضل لها اتباع سياسة المكافأة لكل عمل حسن يقوم به العامل بدلا من التهديد عن كل عمل رديء يقوم به ولكنها لا تغفل في الوقت نفسه عن معاقبة المهمل والمخطئ والمذنب في كل ما يعرض زراعة الدولة للخطر. ففي نهاية السنة يمنح مدير المحطة رؤساء العمل فيها مكافآت تتراوح من شهر إلى ثلاثة شهور ماهية إذا كانوا قد نفذوا مشروعهم وكان محصول المزرعة التي اشتغلوا بآلاتهم فيها قد وصل إلى معدله أو زاد عنه.
الدكتور محمد مأمون عبد السلام
وكيل قسم النباتات بوزارة الزراعة المصرية
الشرق كما يراه الغرب
الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
كتاب الموالد الذي نلخصه لقراء الرسالة كتاب طريف وجليل يتناول ناحية طريفة وجليلة من حياتنا الشعبية. ومؤلف هذا الكتاب البمباشي ماكفرسون أمضى ما يزيد على ربع قرن في مصر تقلب خلالها في عدة مناصب إدارية، فاشتغل زمنا بوزارتي المعارف والزراعة، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية وشغل منصب (مأمور ضبط) برتبة بمباشي، وظل في هذا المنصب عدة سنين. فهو إذن بحكم السنين الطويلة التي أمضاها في مصر، وبحكم منصبه في البوليس على الخصوص من أفضل من يمكنهم الكتابة في موضوع الموالد
وينقسم الكتاب إلى قسمين: في القسم الأول تناول المؤلف الموالد على العموم، فتكلم في نشأتها ومصادرها ومظاهرها الدينية والدنيوية وما إلى ذلك. أما القسم الثاني، فقد تكلم فيه المؤلف عن بعض الخصائص التي يتميز بها كل مولد على حدة، وينفرد بها دون غيره من الموالد
ولكن الكتاب على قيمته لا يخلو من بعض العيوب، وأظهر هذه العيوب هو عدم تسلسل أفكار الكاتب تسلسلا منطقيا، فنجده ينتقل من فكرة لأخرى بدون سابق تمهيد، ثم ما يلبث أن يعود ثانية إلى الفكرة الأولى مما قد يوقع القارئ في شيء من الاضطراب. كذلك يكثر من الاستطراد والتكرار في ثنايا الكتاب، وقد يبلغ أحيانا إلى حد الإملال. ويأخذ عليه الأستاذ ايفانز برتشارد أستاذ علم الاجتماع السابق بجامعة فؤاد الأول - وهو الذي كتب مقدمة الكتاب - أن المؤلف لم يلتزم في كتابه أصول المنهج الاجتماعي الدقيق الذي يوجب على الباحث أن يكتفي بوصف ما يقع أمام ناظريه وصفا دقيقا دون أن يجعل شعوره الخاص يطغى على ما يكتب ويوجه كتابته ناحية معينة، وألا يسمح لنفسه بالحكم على الظواهر الاجتماعية التي يراها حكما أخلاقيا، فيصفها بالخير أو الشر، بالصحة أو الخطأ، كما حاول ماكفرسون أن يفعل وخاصة في الفصول الأولى، ولكن مهما يكن من شيء، فإن هذا الكتاب يسد فراغا هائلا في دراسة مظاهر الحياة الشعبية عند المصريين المحدثين
- 1 -
يرى ماكفرسون أن الموالد ظاهرة اجتماعية عريقة في القدم، ترجع أصولها إلى احتفال المصريين القدماء بأعياد آلهتهم - مثل أوزيريس وعيد عروس النيل وغير ذلك من الأعياد السنوية التي يمكن اعتبارها موالد من باب التجوز. إنما ظهرت الموالد - بمعناها المتعارف عليه الآن - في مصر الإسلامية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ وقد كانت في أول أمرها احتفالات دينية شعبية محضة، ثم أخذت تكتسب الصفة الرسمية بعد ذلك شيئا فشيئا ابتداء من القرن التاسع الهجري حتى لم يعد يباح الآن الاحتفال بمولد أحد الأولياء إلا بعد الحصول على ترخيص خاص من وزارة الداخلية (وزارة الشؤون الاجتماعية الآن)؛ بل أخذت الهيئات الحاكمة ذاتها تشارك الشعب في هذه الاحتفالات - وخاصة بمولد النبي (صلعم) إذ يشترك فيه رجال الإدارة ويحضره الملك نفسه أو من ينوب عنه. ومن هنا يتضح أن الموالد مظهر شعبي عظيم يمثل ناحية هامة من الحياة الروحية عند الشعب المصري. ولكن مع أهمية هذا المظهر الذي يطبع مصر بطابع خاص فريد نجد أن هناك بعض حركات مضادة ترمي إلى القضاء على الموالد ومنع الاحتفال بها.
ولعل أكبر حركة ضد الموالد هي الحركة التي يقوم بها جمهرة المتعلمين في مصر ممن تشبعوا بروح الثقافات الأوربية المختلفة حتى أضلتهم وأعمتهم عن مظاهر الحياة الشرقية وما هي عليه من روعة وجلال؛ فشوهت نظرتهم إلى الموالد حتى اعتبروها مظهرا من مظاهر الحياة البدائية المتأخرة التي يجب أن تتخلص مصر منها سريعا أن أرادت لنفسها أن تساير ركب الحضارة الحديثة ولا تتخلف عنه. وينعى ماكفرسون على المتعلمين هذه النظرة الخاطئة المشوهة، فالموالد قبل كل شيء وعلى الرغم مما قد يشوبها من ضروب الرقص وأفانين الشعوذة البدائية تمثل ناحية لها خطرها من حياة الشعب وأفكاره وأعياده، تنفرد بها مصر دون غيرها من الأمم - حتى الأمم الإسلامية نفسها التي لا تتمثل فيها الموالد بمثل هذه الروعة التي تظهر بها في مصر. أضف إلى ذلك أن هذه الموالد ليست بدعة جديدة في مصر حتى نقضي عليها ونستريح منها، إنما هي - كما ذكرنا من قبل - أعياد قديمة تمت إلى تاريخ مصر القديم بصلة قوية، فهي بالتالي جزء جوهري من مقومات الروح المصرية، وعلى ذلك فلاشك أن مصر لابد أن تخسر خسرانا مبينا وتفقد
جزءا هاما من ملامح حياتها الشعبية التي ينبغي أن تتمسك بها في عزة وفخر لو أنها تابعت تلك الحركة الهوجاء التي يقودها المتعلمون.
وهناك فريق آخر من المتزمتين الرجعيين، يتخذ من اسم الدين سلاحا لمحاربة الموالد؛ ويحتجون بأن الرسول (صلعم) لم يحتفل قط بمولد أحد من الصحابة ولم يأمر غيره بذلك، وكل ما لم يأمر به الرسول فهو بدعة وضلالة يجب محاربتها حتى تواد - ولكن ماكفرسون يرى أن هذه الحجة لا تكاد تقوى على الوقوف على قدميها حتى تتهافت، فالمسلمون اليوم يحيون حياة لم يحيها الرسول العظيم ولم يأمر الناس بأن يحيوها: والمسلمون اليوم يتخذون كثيرا من وسائل الحضارة الأوربية الحديثة لم يتخذها الرسول قط، ولم يأمر الناس بأن يتخذوها فماذا يكون من أمر المسلمين إذن لو أنهم نفضوا أيديهم من كل ما يباشرونه اليوم من أعمال، وما يتخذونه من وسائل للحياة لم تكن على أيام (الرسول)؟ لاشك أن طائفة لرجعيين الذين يهاجمون الموالد بهذه الحجة هم من أبعد الناس عن أن يفكروا في نبذ وسائل الحياة الحديثة التي لم يأمر الرسول بها ويعيشوا عيشة العرب على أيامه (صلعم). وإذا كان أنصار الرجعية هؤلاء يحتجون أيضاً بضرورة القضاء على الموالد نظرا لما تحويه من ضروب الإغراء والإغواء من رقص وموسيقى وغناء وما إليها، فإن ماكفرسون يرى أن هذه الجوانب لا تمثلها إلا ناحية واحدة من الموالد لا يقاس ضررها إلى ما يلحق مصر من ضرر لو أنها منعت الاحتفال بالموالد أصلا. ويضيف ماكفرسون إلى ذلك أن الرقص والموسيقى والغناء كانت دائما عناصر جوهرية من عناصر الدين في كل عصوره، فالنبي داود كان ينشد الأناشيد ويعزف على المزأمير؛ والمسيحية لا تزال تعتمد في كنائسها على أنغام الموسيقى لإثارة كوامن الشجن في قلوب الناس؛ ولا يزال هناك بعض الصبية يرقصون في دير سانت كاترينا في شبه جزيرة سينا؛ فالصلة بين الدين والموسيقى صلة وثقة في الواقع على عكس ما يظنه بعض الناس - ونحن هنا نجد أن ماكفرسون لم يفهم طبيعة الشريعة الإسلامية حق الفهم ويخلط بين تعاليم الدين الإسلامي وغيره من الأديان والملل، فتعاليم الإسلام تنهى صراحة عن الرقص والموسيقى والغناء إذا ترتب عليها مفسدة أو شغلت القلوب بغير ذكر الله.
وهناك أخيرا حركة ثالثة يقوم بها العلماء والفقهاء ضد الدراويش؛ واصل هذه الحركة هو
اختلاف فهم العلماء عن فهم الدراويش للدين؛ فالعلماء يأخذون الدين على إنه مجموعة القوانين والشرائع التي جاء بها القرآن الكريم والسنة، وبذلك يعتبرون أعمال الدراويش أنها نوع من الدجل والشعوذة. والواقع غير ذلك؛ فإن للدين مظهرين: مظهرا خارجيا أو ظاهريا هو الذي يتمثل في الشرائع ومختلف الأعمال التي يقوم بها الإنسان باسم الدين، وهذا هو المظهر الصوري الذي يتخذه العلماء لأنفسهم؛ ومظهرا باطنيا داخليا يعتمد على حال القلب والوجدان في التقرب إلى الله. وهذا المظهر يتخذه الدراويش. والمظهران في الواقع متكاملان؛ فالدين حالة عاطفية في القلب، كما هو أوضاع ظاهرية تظهر في مختلف العبادات، وفي ذلك يقول بليس (إن الدراويش يبحثون عن الله في قلوبهم، أما العلماء فإنهم يبحثون عنه في نصوصهم). فأعمال الدراويش ليست إذن بعيدة تماما عن الدين كما يزعم الفقهاء، وإلا فبماذا تفسر سكوت الخلفاء وسكوت نقباء الأشراف - ومنهم نقيب الأشراف الحالي - طيلة القرون الماضية على أعمالهم لو لم تكن من الدين؟
وعلاوة على ذلك، فإن للموالد فائدة أخرى توجب على المصريين أن يحافظوا عليها ويتمسكوا بإقامتها دائما، وهي فائدة اجتماعية سياسية لها أهميتها القصوى في بلد مثل مصر بلغ فيه مستوى المعيشة حدا من الانحطاط لا يبشر بخير لو لم يكن هناك ما ينفس عن الشعب الفقير المحروم بعض ما يعاني من ألم الفاقة والحرمان ويدخل عليه شيئا من السعادة. إن الروح المصرية روح مرحة بطبيعتها تميل إلى الانطلاق واللهو والعبث. والموالد هي الفرصة الوحيدة التي يتاح فيها لعامة الشعب الفقراء أن يتناسوا همومهم وضيقهم من حياتهم الحالكة. فمنع الاحتفال بالموالد ليس من الحكمة في شيء إذن، لأنه سيحرم الشعب مصدر سروره وبذلك يزيد من ثقل وقع الفقر على نفوسهم ويشعرهم بوطأة الحرمان مما قد يدفع بهم إلى الثورة على حكامهم الذين جمعوا في أيديهم كل الثروة وتركوا لهم الفقر كله. وفي التاريخ شواهد كثيرة على أن الأعياد الشعبية كانت أبدا عاملا يلطف حدة وقع الظلم على نفوس الطبقات الدنيا، وأن منع الاحتفال بهذه الأعياد ساعد على انفجار مشاعر الحقد الدفينة؛ ومن أكبر الأمثلة على ذلك الثورة الفرنسية الكبرى.
وعلى العموم فإن ماكفرسون يرى أن الحكمة تقضي على المصريين بأن يحتفظوا بأعيادهم وبمظاهر حيلتهم الشعبية الأخرى ويعتزوا بها كل الاعتزاز ويضنوا بها عن أن تضيع
وتتلاشى من موجة الحضارة الأوربية الجارفة؛ فإن هذه المظاهر تبين تماما خصائص الروح الشرقية، فلو أن المصريين سمحوا بضياعها وتلاشيها لكان نذيرا بضياع مصر وتلاشيها كدولة شرقية لها خصائصها ومميزاتها الذاتية التي تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من الدول.
- 2 -
للمسلمين والنصارى في مصر موالدهم الخاصة؛ إلا أن كلمة (مولد) تنطبق على أعياد المسلمين الدينية أكثر مما تنطبق على أعياد المسيحيين؛ لأن المسلمين يهتمون في الواقع أكبر الاهتمام باليوم الذي ولد فيه (الولي)، ويعتبرونه حادثا جليلا يستحق التمجيد والاحتفال بعكس المسيحيين الذين يهتمون بيوم الوفاة ويعتبرونه يوم الميلاد الأبدي.
ولم تظهر الموالد الإسلامية - كما قلنا من قبل - إلا في القرن السابع الهجري بعد موت السيد أحمد البدوي. وقد كان السيد البدوي وليا من أشهر أولياء مصر، عرف بكراماته الباهرة حتى اعترف له أولياء مصر لعهده بالزعامة عليهم. وقد كان للسيد البدوي شهرة مدوية ليس في مصر وحدها بل في سائر البلدان الإسلامية الأخرى، وخاصة البلدان التي زارها؛ فقد جاب السيد شمال أفريقية، ورحل إلى مكة وأمضى هناك عشرين عاما يعظ الحجاج ويهديهم سواء السبيل؛ ثم سافر إلى العراق فالتف الناس حوله وأحاطوه بمظاهر الإجلال والإكبار حتى كان بعضهم يعده في منزلة الأنبياء. ولما رجع السيد إلى مصر ومات بها شاع خبر موته في أرجاء العالم الإسلامي، فتوافد الناس على مصر من جميع الأنحاء. وفي طنطا احتفلوا بجنازته احتفالا رهيبا؛ وفي العام التالي، بدلا من أن يحتفلوا بذكرى وفاته احتفلوا بيوم مولده. ولقد كان لاحتفال أهالي طنطا بمولد السيد أثر عظيم في نفوس أهالي دسوق ودمنهور، فأثار فيهم شيئا من الغيرة مما دفعهم إلى الاحتفال بمولد وليهم (سيدي إبراهيم الدسوقي)، على غرار ما فعل أهل طنطا. وبهذه الطريقة انتشرت الموالد من مكان لآخر حتى عمت مصر كلها وخاصة القاهرة.
وتعتبر القاهرة أسعد مدن مصر، بل أسعد مدن العالم الإسلامي أجمع نظرا لكثرة ما تضمه من رفات الأشراف والأولياء من نسل النبي (صلعم) وغيرهم؛ فالقاهرة في ذلك لا يضارعها حتى مكة نفسها؛ ففيها يوجد رأس الحسين وراس ابنه زين العابدين ورفات
فاطمة وسكينة ابنتي الحسين أيضاً، ورفات السيدة زينب شقيقته، وجثمان السيدة فاطمة النبوية وأختها عائشة بنتي الإمام السادس جعفر الصادق، ورفات السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن (وقد أمضت السيدة نفيسة ستة أعوام في القاهرة قبل أن تنتقل إلى الرفيق الأعلى)؛ كما يوجد بها أيضاً قبر سيدتنا رقية وسيدي هارون، والشيخ عبد الله الحجر من نسل الحسين، وغير هؤلاء كثيرون من نسل النبي (ص). ولقد كان للفاطميين (اللذين حكموا مصر من القرن السابع الهجري إلى القرن السادس) اليد الطولي في العناية بمقابر آل البيت ومخلفاتهم بعد أن أسسوا القاهرة وجعلوها عاصمة ملكهم، وبذلك صار للقاهرة مكانة ممتازة في العالم الإسلامي كله. ويحتفل المسلمون في مصر اليوم بأعياد كل هؤلاء الأشراف وغيرهم لتمجيد ذكراهم واكتساب رضوانهم وشفاعتهم في الآخرة.
فالدافع الأول إذن على الاحتفال بالموالد كان في الأصل دافعا دينيا بحتا الغرض منه تمجيد ذكرى أولياء الله الصالحين، ولكن لم تلبث أن داخلتها بعض المظاهر الدنيوية، وشابتها بعض عناصر اللهو والتسلية، وأخذت تتغلغل فيها شيئا فشيئا حتى أصبحت الموالد احتفالات شعبية أكثر منها دينية، وأخذ الشعب كله يشارك فيها على اختلاف طوائفه الدينية، فيشترك الآن بالاحتفال بالموالد الإسلامية كثير من غير المسلمين من أقباط مصر ويهودها بل ومن الأجانب أيضاً؛ كما أصبح المسلمون يشتركون مع المسيحيين في أعيادهم (وموالدهم) مثل عيد القديسة تيريزا في شبرا، وعيد الشهيد مارجرجس وغيرهما. ولاشك أن هذه الظاهرة الجميلة ترجع إلى ما عرف بين المصريين من روح التسامح وعدم التعصب الديني وروح الصداقة التي يحسونها نحو النصارى كما أمرهم القرآن الكريم.
- 3 -
من أصعب الأمور على المرء أن يحاول تحديد مواعيد الاحتفال بالموالد في مصر تحديدا دقيقا؛ وتزيد هذه الصعوبة بالنسبة للأجنبي عن البلاد الذي لا يعرف أصول التقويم القمري الذي يسير عليه المسلمون. فالسنة القمرية تقل عن السنة الشمسية بأحد عشر يوما، والموالد الإسلامية تتبع التقويم القمري، وذلك يستدعي وجود تغير كل عام في موعد الاحتفال بالنظر إلى التقويم الشمسي. واتباع التقويم القمري يحدث أحيانا شيئا غير قليل من الالتباس على الأجانب على الخصوص. ومن ألطف ما حدث في هذا الصدد أن
الجرائد طلعت على الناس (في عام 1939) بأن مصالح الحكومة ودواوينها سوف تعطل يوم الثلاثاء 12 ربيع الأول الموافق 2 مايو بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي؛ وفي اليوم المذكور توجهت جماعات كبيرة من نزلاء مصر من الأجانب للاشتراك في الاحتفال ولمشاهدة (الزفة) ولكنهم لم يجدوا شيئا، لأن (الزفة) كانت قد تمت في مساء اليوم السابق (الاثنين 11 ربيع)؛ وأخيرا عرفوا أن المسلمين يعتبرون الليل - وليس النهار - هو بداية اليوم الجديد؛ فمساء يوم 11 ربيع يعني يوم 12 ربيع!
وتواريخ الموالد ذاتها تواريخ فضفاضة متذبذبة وعرضة للمد والجزر بشكل غريب بحيث يكاد يستحيل على الإنسان أن يضع تاريخيا صحيحا ثابتا لأحد الموالد؛ بل إن شيخ الجامع نفسه لا يستطيع أن يحدد التاريخ بالضبط. وهو أن ذلك يرجع - كما يظن ماكفرسون - إلى عدم التثبت من يوم ميلاد الولي مما يدعو الناس إلى اختيار أي يوم كان. بل إن ذلك اليوم الذي يختارونه اعتباطا يخضع هو أيضاً للتغيير إذا طرأ طارئ مثل موت أحد كبار المحسنين أو عدم جمع المال الكافي لإقامة الحفلات والزينات وغير ذلك من الأسباب التافهة. ويذكر ماكفرسون إنه في عام 1938 منعت الحكومة الاحتفال بمولد الشيخ مظلوم لأن يوم الاحتفال كان يوافق ذكرى المغفور له الملك فؤاد. ويقص الناس حكاية عن أن الشيخ مظلوم استاء من فعل الحكومة أبلغ الاستياء فتراءى في المنام لبعض ولاة الأمور وهددهم بالويل والمصائب إن لم يحتفلوا بمولده كما جرت العادة؛ وقد كان للشيخ ما أراد!
إلا أن بعض الموالد تتبع الآن التقويم الشمسي أو التقويم القبطي دون التقويم القمري؛ ومن هذه الموالد مولد السيد البدوي نفسه إذ يقام في شهر بابه دائما (أكتوبر) ومولد سيدي إبراهيم الدسوقي، وسيدي البيومي، وسيدي الامبابي وغيرهم؛ ومع ذلك فأن هذه التواريخ ذاتها تتعرض للتغير كل بضع سنوات، ذلك لأنه لما كان التقويم القمري يفترق عن التقويم الشمسي بأحد عشر يوما في كل عام، فإنه يحدث أن يأتي عام يصادف وقوع الاحتفال فيه بالمولد وجود شهر رمضان؛ وفي شهر رمضان لا يحتفل المسلمون بأي مولد من الموالد، وبذلك لا يكون ثمة مندوحة عن تغيير تاريخ المولد! - أما موالد المسيحيين في مصر فلعلها أكثر ثباتا من موالد المسلمين لأنها تنبع دائما التقويم القبطي؛ فمولد مارجرجس يحتفل به دائما في برمودة (أبريل) عند الكاثوليك، وفي بشنس (مايو) عند الأرثوذكس؛
ومولد ستنا دميانة يحتفل به دائما في بشنس، ومولد ستنا مريم في مسرى (أغسطس) ومولد سيدي برسوم العريان يحتفل به في توت (سبتمبر) وهكذا.
ولكن الموالد الإسلامية مع تعرضها لتغير تاريخ الاحتفال بها، تنم دائما في يوم معين بذاته من أيام الأسبوع دون أن تحيد عنه قط. فمولد السيدة فاطمة النبوية مثلا يتم دائما في يوم الاثنين (وفي العادة يكون يوم الاثنين الأخير من ربيع الأول)، ومولدا السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق يقام دائما يوم الثلاثاء (أي يوم ثلاثاء من شعبان) وكذلك يحتفل بمولد سيدنا الحسين يوم الثلاثاء دائما (آخر يوم ثلاثاء من ربيع الآخر في العادة) ويقام مولد السيدة زينب في يوم الثلاثاء أيضاً (أقرب ثلاثاء من منتصف رجب) وهكذا. فليس هناك إذن أي تغير أو اختلاف في يوم المولد ذاته على الرغم من تغير التاريخ.
(يتبع)
أحمد أبو زيد
رسالة الفن
13 -
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
يا لها من إشارة بارعة! أيمكن أن يكون ولاء أعظم وأوقع في النفس من أن يرجع بمعاصر إلى طيات الماضي حيث يقرنه إلى رجل من رجالاته الأفذاذ الذين لمع نجمهم وتألق تألقا فريدا ثم يبلغ منه التأثر لمجرد شعوره بالاتصال الحسي بهذا العبقري الشبيه بإنصاف الآلهة (بوسان). وعاود رودان حديثه قائلا:
لم يرض بوفي دي شافان عن التمثال الذي عملته، وكان ذلك من أمر ما غصني في حياتي الفنية. لقد ظن أني صنعت له تمثالا مسخا. ومع هذا فأني مؤمن أني أودعت في التمثال كل الحماس والإجلال الذي شعرت به نحوه).
ودفعني بوفي دي شافان إلى التفكير في تمثال جان بول لوران الذي يوجد باللكسمبورج أيضاً. إنه ذو رأس مستدير ووجه يهم بالحركة، ويفيض منه الحماس يكاد لا يتردد فيه نفس - إنه من مواطني الجنوب، عتيق غير مصقول تظهر عيناه كأنهما مأهولتان بأخيلة بعيدة - ذلك هو مصور العصور التي كانت أدنى إلى الهمجية حيث كان الرجال أقوياء زاخري العواطف. قال رودان:
(كان لوران من أقدم أصدقائي. وقفت له كمثال لواحد من الميروفيين الذين كانوا يعاونون ساعة موت القديسة جينيفياف، وذلك بلوحته الموجودة الآن بالبانتيون (كانت محبته لي خالصة على الدوام. وهو الذي تحصل لي على الأذن بعمل رهائن كاليه. ومع أن الصفقة لم تعد علي بنفع مادي إذ أني قدمت ستة من التماثيل المعدنية بالثمن الذي عرض لواحد منها فقط، فإني مدين له بالامتنان العظيم العميق لأنه حفزني لخلق عمل من أجل أعمالي.
(وكم كان سروري عظيما بأن أعمل له تمثالا. ولكنه عتب علي عتابا رقيقا لأنني أظهرته بفم مفتوح، فأجبته بأني رأيت من تصميم جمجمته إنه ربما انحدر من سلالة القوط الأسبان. وأن هذا الضرب من الناس يمتاز بكبر الفك الأسفل. وإنني لست على بينة مما
إذا كان اقتنع بصحة ملاحظتي العلمية التي ترتكز على علم الأجناس).
وأبصرت في تلك اللحظة بتمثال لفا لجوبيرر إنه متوقد، ذو خلق ثائر، بوجهه كثير من التجاعيد والعجر كأنه أرض اجتاحتها العواصف. أما شاربه فشارب امرئ متذمر، وأما شعره فكث قصير. قال عنه رودان إنه كان ثورا صغيرا. لاحظت فيه غلظ الرقبة حيث تبدو أثناء الجلد وتضاعيفه كأنها غبب الماشية، وكذلك جبهته المربعة. أما رأسه فمائل عنيد، على وشك أن يشيح بحركة إلى الأمام. حقا إنه. ثور صغير! كثيرا ما كان رودان يتمثل بتشبيهات من المملكة الحيوانية. فمثلا إذا كان الإنسان ذا رقبة طويلة وحركات آلية فهو الطائر يتذبذب يمنة ويسرة، وإذا كان جد ظريف كثير الحركات الرشيقة فهو كلب الملك شارك وهكذا. ومن شأن هذه التشبيهات أن تسهل العمل لمن يبحث وفي تقسيم سحن الناس وسيمائهم أقساما عامة. ثم طفق رودان يشرح لي الظروف التي أدت به إلى فالجويير قال:
(كان ذلك عندما رفضت جمعية الآداب قبول تمثالي (بلزاك) أصر فالجوبير الذي تولى عمل تمثال آخر لبلزاك من بعدي على أن يبين لي بحافز من صداقته إنه لم يضلع بتاتا مع أولئك الذين أرادوا الغض من قدري وسمعتي. فدفعني حدبه إلى عمل تمثال له. وعند ما انتهيت منه ورآه قدره تقديرا وعده فوزا عظيما. وإني لأعلم إنه كان يدفع عنه نقد الناقدين في حضرته. وفي مقابل ذلك عمل لي تمثالا بدوره فجاء جد ظريف).
وعندما كنت أهم بالانصراف وقعت عيني على نسخة شبيهة لتمثال برتلو الذي عمله رودان قبل وفاة الكيميائي العظيم بسنة واحدة فقط
كان العلامة الكبير يبدو كأنه مطمئن إلى تأدية رسالته. إنه يتأمل. إنه منطو على نفسه، وحيدا يواجه العقائد البالية المتداعية، وحيدا قبالة الطبيعة التي نفذ إلى بعض أغوار أسرارها ولكنها ما زالت جد غامضة؛ وحيدا على حدود الأفق الغير محدودة. جبينه معذب، وعيناه المسبلتان مليئتان بالهموم وكأن هذا الرأس الجميل رمز للفكر العصري وقد ازدحم بالعلم والمعرفة وأضناه التفكير، ينتهي به الأمر إلى التساؤل (وما جدوى كل ذلك).
احتشدت برأسي الآن كل تلك التماثيل التي كنت أعجب بها والتي كان يتكلم عنها رودان، وقد بدت لي كأنها وثائق قيمة عن عصرنا الحاضر ثم قلت:
(إذا كان رودان كتب مذكراته عن القرن الثامن عشر، فقد كتبت أنت مثلها عن أواخر القرن التاسع عشر. أما أسلوبك فأخف وأغلظ من أسلوب سلفك، وأما تعابيرك فأقل رشاقة، ولكنها طبيعية صادقة - إذا جاز لي أن أقول ذلك إن الشك والإلحاد الذي كان واضحا بينا في القرن الثامن عشر، والذي كان مليئا بالتهكم والسخرية أصبح فيك اليوم عنيفا حادا. كانت أشخاص أودون أميل إلى الاجتماع والتمازح والتنادر، أما أشخاصك، فأكثر انصرافا إلى أنفسهم. كانت أشخاص أودون تنتقد عورات أنظمة الحكم، أما أشخاصك فيظهرون كأنهم يتساءلون عن قيم الحياة الإنسانية نفسها ويشعرون بالآلام والرغائب التي لم تتحقق)
فأجابني رودان ردا على ذلك:
لقد بذلت كل ما في وسعي، لم أكذب ولم أغرر بمعاصري قط. لم ترق تماثيلي في أعين الناس، لأنها على جانب كبير من الإخلاص، ولكن مما لا ريب فيه أن بها حسنة واحدة هي الصدق، فليعوضهم هذا من الجمال)
(انتهى)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين
اللحن الحزين!
للأديب إبراهيم محمد نجا
(قبلت رثاء فقيد العروبة والإسلام الأستاذ أحمد محرم بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته).
نبأ ألمَّ فهاج كامن دائي
…
إذ كنت أستشفي من الأدواء
متعزيا بمواجعي، متفرداً
…
بمدامعي، متوحداً بعنائي
نبأ به تدمى النفوس، وإنما
…
تدمى النفوس بفاجع الأنباء
قالوا لقد ذهب الردى بمحرم
…
في غير ما ريث ولا إبطاء
عجِلا به إذ كان يحمل مهجة
…
كالشمس قرب سنًي وبعد سناء
والأهل يبكون الفقيد، وإنما
…
يبكون خير مشيَّع ببكاء
ما بال هذا النعش يسرع بالخطى
…
في لهفة محفوفة برجاء؟
كمسافر نِضو السِّفار بدت له
…
وقت الهجيرة واحة الصحراء
والناس أنضاء الحياة، وإنما
…
تلك المقابر واحة الأنضاء
ما بال هذا الجمع يرجع مطرقا
…
في وحشة وكآبة خرساء؟
أين الفقيد؟. . . لقد نأى متغربا
…
وا رحمتاه للغريب النائي
تركوه في قلب الثرى متفردا
…
إن التفرد شيعة الشعراء
يا شاعراً عرف الحياة مآسياً
…
مصبوغة بمدامع ودماء
يا شاعراً عرف النفوس وما بها
…
من جامح النزعات والأهواء
ورأى الزمان وكيف يخترم الورى
…
بفواجع النكبات والأرزاء
ورأى الفناء حقيقة عُلْويَّةً
…
ورأى البقاء ضلالة الأحياء
فأتى يصور في القصائد ما رأى
…
ببراعة عزت على النظراء
في كل طارقة، وكل مُلِمَّةٍ
…
غراءُ تخلب أنْفُس الفصحاء
معنى كنور الشمس. . . فيه من السبي
…
روح الحياة، وجوهر الأشياء
يوحي إلى النفس العلاء، وإنما
…
تعلو النفوس بقوة الإيحاء
وكريم لفظ صيغ من محض الشذى
…
ومن السنا والظل والأنداء
طوراً كرقراق النسيم، وتارة
…
كالعاصفات يثرن في البيداء
وخيال منشور الجناح محلِّق
…
كالنسر فوق القمة الشماء
شعر يخلَّد في الصدور، وغيره
…
يفنى كما يفنى حَباب الماء
أبقى لنا الصوت القوي، وغيره
…
لم يُبق إلا خافت الأصداء
وهدى إلى سبل السلام مباركا
…
كمنارة في ليلة ظلماء
والشعر مثل النفس. . . منه مظلم
…
يعمى القلوب، ومنه ذو أضواء
يا شاعراً مسَّ القلوب بشعره
…
فإذا بها تصحو من الإغفاء
كالغيثُ باكر في الصباح سباسباً
…
فتألقت برياضها الغناء
شعر كما تهوى النفوس، موكل
…
بالنفس يكشفها لعين الرائي
أبصرت فيه سرائري فعشقته
…
عشق النفوس لغادة حسناء
وجعلته سلوى حياتي كلها
…
وملاذ أحلامي، وحصن رجائي
من أي شيء صغت شعرك، إنه
…
طب الجراح وبلسم الأدواء؟
إني عرفتك في الحياة مجاهداً
…
بعزيمة وقادة ومضاء
تمضي على الأحداث تدفع موجها
…
عن منكبيك بهمة قعساء
ولقد أراك - وأنت لَهْبٌ للأسى -
…
تخفي الهموم ببسمة غراء
كالسيف يبدو في غبار عجاجةٍ
…
متألقا كالكوكب الوضَّاء
ما هنت يوماً في الحياة، وإن تكن
…
قد عشت بين براثن اللأواء
يا للحياة، وما يكلِّف حبُّها
…
من حمل مكروه، وبذل فداء
عجباً لنا نهوى الحياة، وإن تكن
…
بالغدر مولعة وبالإيذاء
كالغادة الحسناء تذكي حبهَّا
…
في القلب بالهجران والإقصاء
سيان في حب الحياة منعَّمٌ
…
جمُّ الثراء، ومعدم البؤساء
سيان في شرع الحياة وذينها
…
حزن الشقي، وفرحة السعداء
وإذا طلبت من الحياة عدالة
…
فلقد طلبت قلائد الجوزاء
ما العدل من شيم الحياة، وإن تكن
…
تخفي مظالمها على الفطناء
أيها فقيد الشعر في البلد الذي
…
لم يرْعَ حق الشعر والشعراء!
وأساء عيش ذوي البصائر والنهى
…
حسداً، وأحسن عيشة الدهماء!
ويموت فيه الماجدون فيحتمي
…
بالسيئين: الصمت والإغضاء!
ما أنصفوك من الزمان إذا همو
…
جعلوا نصيبك منه حفل رثاء
هل ينصفونك في الممات، وإنهم
…
ما أنصفوك وأنت في الأحياء؟
جهلوك إذ كانت حياتك بينهم
…
والدر مجهول من الدأماء
لا تعتبن على الزمان وأهله
…
ما دمت لا تحظى بطول بقاء
وكفاك أنك قد فرغت من الأسى
…
وسلمت من حسد ومن بغضاء
وخلصت من قيد السنين، وإنه
…
صنع الحياة، ومن قيود الداء
ولقيت ربك ذا الجلال، وعنده
…
ما شئت من أجر وحسن جزاء
نم في رحاب الخلد، وأنعم بالرضى
…
في ظل تلك الجنة الفيحاء
واذكر مريديك الذين تركتهم
…
حتى يكون الموتَ يومَ لقاء
(دمنهور)
إبراهيم محمد نجا
البريد الأدبي
إلى الأستاذ العقاد
أستاذي الكبير:
قرأت كتابكم الأخير (في بيتي)، وأنا اقرأ كتبكم لأفيد منها علما بالحياة وبالنفس الإنسانية، ومتعة فنية عظيمة. وقد وجدت العلم والمتعة في كتابكم هذا كما وجدتهما في كتبكم الأخرى
ولكن ليسمح لي الأستاذ أن أخالف رأيه الذي جاء في الكتاب عن القصة، فقد جاء في ص27 ما يأتي:
(ثم راح (الصديق) يجول ببصره (في رفوف المكتبة) وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
(قلت: نعم. وأنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه، لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول)
ولاشك عندي في أن الشعر فن أرقى من القصة، لأنه تعبير جميل عن النفس الإنسانية في أصفى حالاتها، بل أنا أحب أن أزيد يقينا بذلك، لا إيمانا بالفن الرفيع فحسب، ولكن اعتزازا كذلك بما أكتبه من الشعر بين الحين والحين!
ولكني أخالف الأستاذ في قوله: إنه لو نقص ما نقرؤه من القصة لما أحسسنا بهذا النقص، فالقصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها قارئ (الحياة)
وقد قرأت (سارة)، وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكني لا أستطيع مع ذلك أن أقول إنني استغنيت به عن قراءة (سارة)، أو إن (سارة) ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة فوق إنها من خيرة ما أخرجه الأستاذ، ولكني أقول إن هذا طعم وذلك طعم آخر، وكلاهما جيد مفيد
ويقول الأستاذ - في تقليل شأن القصة - (فكلما قلت الأداة، وزاد المحصول، ارتفعت طبقة الفن والأدب؛ وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف
(وما أكثر الأداة واقل المحصول في القصص والروايات! إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
(وتلفتت عيني فمذ بعدت
…
عني الطلول تلفت القلب)
ثم أورد الأستاذ أمثلة أخرى من الشعر
ولكني أحسب أن (التركيز) ليس في كل الحالات خير ما في الأدب، وأنه لا يغني في كل حالة عن التفصيل والتطويل، وليست التفاصيل الدقيقة التي تعرضها القصة لغواً باطلا يمكن الاستغناء عنه، أو إنها (كالخرنوب الذي فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة)! فهي تؤدي مهمة فنية كبيرة، هي إعطاء صورة حية مفصلة من الحياة الإنسانية
والعقل يشبه الجسم في تمثيله للغذاء واستفادته منه، والجسم حين يقدم له من الطعام ما يمضغه، ثم يبتلعه، ثم يهضمه، ثم يمثله، ثم ينفي ما فيه من فضلات غير نافعة، يكون أنشط وأكثر استفادة مما لو أخذ مادة هذا الطعام بعينها (مركزة) في قرص صغير
والأستاذ يشير إلى مثل هذا المعنى حين يقول:
ليست خلاصة كل شيء غنية
…
عنه ولو كانت خلاصة ماهر
ثم أحسب أن الأستاذ يكاد يستدل على إسفاف القصة بأن قوماً كالشيوعيين قد استغلوها في دعوتهم إلى أقصى حدود الاستغلال، وقالوا إنها اشرف أبواب الأدب
ولكن الشيوعيين قد استغلوا كل أنواع الأدب ومن بينها الشعر، وهذا شاعرهم الكبير (بوشكين) شاهد على ذلك، فلا يقال إن الشعر أو القصة فن غير رفيع لأن الشيوعيين قد استغلوه، وإنما يقال بحق إن القصة في إنتاج ما بعد الثورة قد هبطت كثيراً عما كانت عليه أيام تولستوي ودستيوفسكي لأنها اتخذت مظهر الدعاية وحادت عن الأدب الرفيع
ولاشك في أن القصة تستطيع أن تسف أكثر مما يستطيع الشعر أو غيره من الفنون الرفيعة، ولكن ذلك لا يعني أن القصة الجيدة ليست فناً رفيعاً، أو إنها لا تحتل مكانة عالية بين الفنون الإنسانية الكبيرة
وليس دفاعي عن القصة ومكانتها اندفاعاً مع العصر الحديث، فإن هذا العصر قد بالغ في شأنها أكثر مما ينبغي، ولكن إذا كانت مهمة القراءة كما قال الأستاذ في كتابه هي (الاستزادة من الحياة)، فإن القصة الجيدة كالشعر الجيد والفنون الأخرى ضرورية لتلك الاستزادة لا يغني عنها وغيرها من الفنون
محمد قطب
خادمك المليونير
(للأستاذ عثمان نوية)
هي قصة تجمع بين الجد والفكاهة في أسلوب رشيق، وعبارة أنيقة، وهي أيضاً تحليل لشخص غريب الأطوار، هو مادة الفكاهة في القصة، وهو في الواقع مورد للفكاهة لا ينضب
ولا تخلو القصة بعد هذا من ناحية الجد، إذ نجد إنها تتناول شخصية شاعر حساس، يصارع موجة من الحب العنيف العفيف ونشهد نحن هذا الصراع، متنقلين مع الشاعر في جولاته وخطراته إلى أن ينتهي هذا الصراع. . . ينتهي فلا يموت الشاعر، ولا تموت الحبيبة، ولأتفصم عراهما، بل ينتهي بكل ما تريده النفس الطيبة. . نعم، لم يركن الكاتب إلى الدرامة العنيفة، أو النهاية المؤلمة التي يقصد إليها الآخرون لوجه الإيلام فحسب، وإنما نجده يركن إلى الصفاء والسرور والمرح. . . وما أحوجنا في هذه الأيام إلى الصفاء والسرور والمرح! وحبذا لو جرى الجميع على هذا النهج. . . حبذا لو عرفوا أن السرور يهز الشاعر كما تهزها الفجيعة تماما. . . مع الفرق الشاسع بعد هذا بين السرور والفجيعة
وكاتب هذه القصة فنان مطبوع، يتحامل على نفسه، فيرى الحسن في كتابه سيئاً، ولا يرضى عنه إلا بعد أن يصير إلى أحسن
ولكن لي على الكاتب نقداً أرجو أن يتقبله هادئاً كما عهدته؛ ذلك إنه يختم الحلقة الثالثة من عمره، وروايته هذه هي أول مؤلفاته، ومعنى هذا إنه قضى هذه الحلقات الثلاث في إحدى اثنتين: إما إنه كان يحشد نفسه لهذه الرواية، وإما إنه كان يهمل الكتابة طول هذه المدة، وفي كلتا الحالتين يكون قد أساء إلى الأدب كثيراً، وفي كلتا الحالتين يكون أنانياً لا يحب إلا نفسه، فهو يقرأ ويقرأ ولا يكتب، فيسر هو وحده، دون أن يتيح للقراء أن يسروا بما ينفحهم به من ثمرات قلمه، التي عرفنا قيمتها في (خادمك المليونير)
لعل الأستاذ عثمان يصلح ما قد جنته أنانيته فيطالعنا دائماً بمثل هذه الرواية الممتعة
ثروت اباظة
إلى الأستاذ العوضي الوكيل
يظهر أن الأستاذ العوضي الوكيل قد كتب مقاله هذا بنفس السرعة التي ينظم بها قصائده، أرجو أن يقرأ مقالي مرة أخرى.
ثروت
الترتيب التاريخي للزوميات
وُضع سهواً اسم الدكتور عمر فروخ في ذيل الكلمة التي نشرت تحت هذا العنوان في بريد العدد الماضي، لأن التلخيص والتعليق (للرسالة)
القصص
الخطيب. . .
لأنطوان تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
(كتب هذه القصة الممتعة أنطون تشيكوف أمير القصصيين في روسيا، منذ حوالي نصف قرن. . . ويسرنا أن نقدمها إلى قراء الرسالة مثالا للحياة الاجتماعية في ذلك العهد المظلم. . . ولعل تلك القصة من القلائل التي أجاد فيها قلم تشيكوف الفكاهي في أسلوب ممتع ومعنى ظريف، يتخللها نقد صريح للتقاليد والعادات التي كانت تغل الناس في ذلك الحين. . .)
مصطفى
. . . في صبيحة يوم مشرق كان (كيريل ايفانفتش بيلولوف) كاتب الجامعة على وشك أن يدفن، وهو رجل مات متأثراً بالآفتين الشائعتين في بلادنا: زوجة سيئة الخلف، وإدمان للخمر
وبينما كان موكب الجنازة يجتاز الطريق إلى المقبرة قفز أحد رفقاء المرحوم ويدعى (بيلافسكي) إلى عربة، وراح يركض بها منقبا عن (جرجوري بتروفتش زبوكين)، وهو رجل - مع حداثته - يتمتع بهيبة ومحبة من معارفه، ويحيط بقسط وافر من العلم - كمعظم قرائي - وقد خلع الله عليه موهبة نادرة في ارتجال الأحاديث التي ينطلق لسانه بها في الأعراس والأعياد والجنازات، وفي قدرته أن يتحدث كيفما وحيثما يشاء. . . في نومه، في خواء معدته، عندما ينتشي لكثرة ما نهل من الخمر، عندما تعتريه الحمى فتسيل الألفاظ من فمه في سلاسة ولطف كما تنساب المياه في الجداول، ويعج قاموسه الخطابي بكلمات لا تدانيها (صراصير) المطاعم في الغزارة والوفرة. أما أسلوبه ففصيح بليغ يفيض بالإطناب والإسهاب، ولذا يلجأ القوم - في بعض أعراس التجار - إلى الاستعانة بالشرطة لإيقاف ذلك السيل المتدفق. . .
وابتدره بيلافسكي حينما عثر عليه في داره قائلا: (لقد أتيت في طلبك - أيها العجوز - هيا
ارتد قبعتك وسترتك على عجل واصحبني. . . فقد مات أحد رفقائنا ونحن على وشك أن نشيعه إلى الآخرة، ولذا وجب عليك أن تودعه بكلمة من كلماتك الرائعة فأنت أملنا الوحيد، ولولا أن ذلك الفقيد له مقام في المجتمع ويستحق ما يقال في تأبينه لما أتعبناك وأزعجناك، ولكنك تعلم إنه كاتب الجامعة وناموسها والدعامة الراسخة التي كانت تعتمد عليها الإدارة، فينبغي أن نشيعه ولو بحديث لائق. . .) فقال زبوكين بغير اكتراث:(هه. . . كاتب الجامعة! أتعني ذلك الرجل السكير؟!)
- (نعم. سيكون ثمة فطائر وغذاء. وستنال أجرة العربة. . . هيا، عجل يا عزيزي، يكفيك أن تلقى ببعض الألفاظ الحزينة عند القبر كما كان يفعل سيكرو العظيم. . . آه كم ستحوز من الشكر والثناء!)
فوافق (زبوكين على الفور وراح يعبث بغدائر شعره وجعل على سحنته مسحة كآبة وحزن، وانطلق في الطريق بصحبة (بيلافسكي)، وقال وهو يهم بركوب العربة:(إني أعلم من هو كاتبكم هذا. . . رجل شرير خبيث، وحش لم أصادف نظيره في حياتي. . . فليكن الله في عونه).
- (آه. . . (جريشيا) هيا معنا فليس من العدل أن نسيء إلى رجل ودع الحياة).
- (لا مجال للشك في ذلك: (فما يذكر للميت سوى حسناته) ولو كان شريراً. .).
وأدرك الرفاق الثلاثة موكب الجنازة، وراحوا يسيرون معه. أما النعش فكان يتقدم وئيداً وعلى مهل حتى أنهم استطاعوا - قبل وصولهم إلى المقبرة - أن ينسلوا ثلاث مرات إلى حانة خمر وينهلوا بعض الأقداح (نخب) حياة الراحل (الكريم).
وفي المقبرة راح الجميع يصلون إلى جانب اللحد. . . أما حماته وزوجته وأختها فأخذن يذرفن الدمع - مراعاة للتقاليد والعادات - وعندما واروا النعش في التراب صرحت الزوجة في لوعة وأسى (دعوني أرحل معه) ولكنها لم تصحب زوجها إلى القبر فقد تذكرت ما ستنال من معاش الفقيد. . .
ولبث (زيوكين) حتى خيم الصمت على الجميع. . . فخطأ إلى الأمام. . . وراح يقلب طرفه في الحاضرين. . . وبدأ يقول:
(أأصدق ما تراه مقلتاي، وما تسمعه أذناي؟. . لا. إن هذا إلا أضغاث حلم مزعج. . . هذا
القبر، هذا الدمع الذي يتألق على الوجنات. . . هذه الإناث وهذه الزفرات. . . أهذا كله وهم؟ لا وا أسفاه ما هذا بحلم. . . إنما هي الحقيقة وأعيننا لا تخدعنا. . . لقد قضى نحبه من كان بيننا منذ لحظات، من كان أمام أعيننا كالنحلة الدؤوب. . . لا يقر قرارها حتى تخرج العسل شهياً لصالح الخلية الاجتماعية. . . لقد ارتد الآن إلى التراب. . . إلى التراب الخداع، لقد اختطفته يد المنون القاسية الجبارة في لحظة كان يفيض فيها - مع تقدمه في العمر - بالحياة والقوة والطموح. إنها لعمري خسارة لا تعوض. . . ترى من سيخلفه في منصبه، لاشك أن في حوزتنا من هو كفء لها، ولكن (بركوفي اسبتسن) معدوم النظير. . . لقد كان منصرفاً إلى تأدية واجبه بما وسع مقدوره. . . لم يضن بقوته بل كان يجهد نفسه في العمل إلى لحظات متأخرة من الليل. . . كان مثلا عالياً للقلب والطيب والضمير المنزه عن الرشوة، كم كان يحتقر أولئك الذين يأكلون مال الناس بالحق وبالباطل. . . لا يفتأون يحللون له الضلال ليحيدوا به عن السبيل السوي. . . نعم أمام أبصارنا (بروكوفي اسبتسن) الذي يجود براتبه لإخوانه التعساء. . . كم ستطرق آذاننا تلك الأنات التي تطلقها الأرامل واليتامى بعد أن قضى نحبه من كان يحسن إليهم، من كان منصرفا إلى أعمال البر وإلى تأدية واجبه. . . من كان عزوفا عن ملذات الحياة وبهجتها. . . من نبذ سعادة هذا المجتمع. . . بل نبذ الزواج وجانب النساء إلى آخر أيامه. . من ذلك الذي في قدرته أن يخلفه كرفيق جبلنا على حبه. . . وكأني أنظر إلى وجهه الحليق تعلوه الرحمة يلتفت إلينا وعلى ثغره ابتسامة مشرقة. . . وكأني أنصت إلى صوته الحنون الشفيق. أسأل الله أن يشملك برحمته يا بروكوفي أسبتسن فقد كنت شريفا أمينا مع ما في ذلك من عناء. . .).
وواصل زبوكين حديثه. . . بينما شاع الهمس بين المنصتين، لقد أرضى حديثه الجميع. بل وجعل بعض الدموع تنهمر من المآقي. . . ولكن بدت معظم الفقرات الخطابية غريبة؛ فأولا: لم يدركوا السبب الذي دعا الخطيب من أجله الفقيد باسم (بروكوفي اسبتسن) مع أن اسمه (كيريل ابفنفتسن). ثانيا: أن الجميع يعلم ما كان ينشب بين الراحل وزوجته من الشجار. فمن المؤكد إذن إنه لم يكن أعزب كما نعته (الخطيب). ثالثا: كان ذا لحية كثة حمراء وهذا يتنافى مع قول الخطيب من إنه كان (حليق الوجه). ولهذا أعجز الجميع فهم
معظم أقوال الخطيب. . . وعلا وجوههم الوجوم، وبهتوا وأخذ يتلفت بعضهم إلى البعض، بينما راح فريق منهم يهز أكتافه في ملل وضجر.
واستمر الخطيب في خطبته - وقد اتخذ في رفقته هيئة الحزين. فقال: (بروكوفي اسبتسن. . . لقد كان وجهك وضاحا مع إنه قبيح. . . كنت عبوسا مقطب الجبين، ولكن كلنا يدرك أن تحت هذا المظهر الخارجي قلبا يغلب عليه الشرف والشفقة والحنان. . .). وفجأة لحظ المستمعون أن الخطيب نفسه بدأ يعتريه شيء من الاستغراب كان يتفرس في جهة معينة من الجمع الغفير. ولم يلبث أن كف عن الحديث وفغر فاه في دهشة. . . ثم مال على صديقه بيلافسكي وقال وهو يحملق في فزع (هه. لقد رأيته. . . إنه ما زال على قيد الحياة؟!).
- (من هو الذي لا زال على قيد الحياة؟!).
- (بروكوفي اسبتسن!! ها هو قائم عند حجارة القبر!!)
- (إنه لا زال على قيد الحياة. . . إنما الذي مات كيريل ايفانفتسن أما بروكوفي اسبتسن فقد كان كاتب الجامعة منذ حين وقد نقل إلى المنطقة الثانية رئيسا للمكتبة. . .).
- (يا للشيطان الذي أوحى ألي بذلك!).
- (لِمَ وقفت عن الحديث. . . انطلق عجبا!! إنك مضطرب). والتفت زبوكين إلى القبر، وفي فصاحته المعهودة تابع حديثه. أما بروكوفي اسبتسن كبير الكتبة الكهل ذو الوجه الحليق فقد كان قائما حقا قرب حجارة القبر. . . كان ينظر إلى الخطيب شزراً. . . وقد انتابته موجة من الغضب.
أخذ رفقاء زبوكين يتغامزون عليه في عودتهم (هه. . . هه. . . يا لك من غر! عجبا! أتود أن تدفن رجلا وهو يفيض بالحياة؟) ودنا منه بروكوفي اسبتسن وراح يقول في تذمر: هذا لا يليق أيها الشاب، إن حديثك هذا له قيمته إن كان في رجل قد ودع الحياة، أما إذا كان يمت إلى رجل حي فهو كلام فارغ وتهكم واستهزاء. . . كم تحدثت طويلا عن روحي وعن نفسي! أيها الأبله! ماذا كنت تقول؟! مثلا عالياً للقلب الطيب والضمير المنزه عن الرشوة. . إنها كلمات تقال للأحياء على سبيل التهكم، ومع ذلك من الذي دعاك إلى التحدث بإطناب عن وجهي؟! قبيح عبوس، ولنفرض إنه كذلك، ما الذي عاد عليك أيها الأبله من
وصف محياي على ذلك الملأ. . . إنها والله إهانة لن أغفرها لك
مصطفى جميل مرسي