الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 634
- بتاريخ: 27 - 08 - 1945
عم يتساءلون؟
للأستاذ أحمد رمزي
مشاكل العالم الجديد - التوازن بين الكتل الثلاث الكبرى التي تسيطر على العالم - نظرة شرقية. . .
كان النظام السائد في عالم الاقتصاد في المائة سنة الماضية التي أشرنا إليها في مقالنا السابق، هو نظام الباب المفتوح، وهو يتلخص في حرية التجارة والتكافؤ في المعاملة. فالبوارج الحربية التي فتحت موانئ الصين واليابان من مختلف الجنسيات، كانت تفرض نظام الباب المفتوح، واعتراف الدول بحماية فرنسا على مراكش المستقلة، كان يتضمن بقاء سياسة الباب المفتوح - وفي مصر كان تساهل الدبلوماسية الأوربية لبقاء الاحتلال البريطاني يلازمه اشتراط العمل بسياسة الباب المفتوح، ويأخذ الضمانات على الإنجليز (ألا يكون لهم مركز ممتاز)، أو أكثر رعاية من غيرهم. ولذلك بقيت حرية الحكومة المصرية في زيادة الضرائب الجمركية مقيدة كما كانت طول عهد الدولة العثمانية برغم وجود العامل الجديد، وهو الاحتلال البريطاني
وقد بقيت سياسة الباب المفتوح معمولا بها طوال القرن الماضي، لو كانت إحدى دعامات القوة البريطانية، ولكن حينما تقدمت الدول الأوربية في طرق استغلال أراضيها بالمستعمرات، تطورت علاقاتها مع ممتلكاتها إلى إيجاد نوع من الوحدة الاقتصادية بين الدولة الأوربية وما تملكه في القارات الأخرى. وأخذت كل وحدة تسير نحو الاستكفاء بما لديها - فالميزان التجاري الذي كان يعتمد على حرية التجارة، خضع لمقدرة كل دولة واستعدادها لتصريف الفائض من منتجاتها في المستعمرات التي تملكها - كما أن المواد الأولية التي كانت تحت تصرف الدول الأخرى، أخذت تنحصر رويداً رويداً بيد رجال الدولة الحاكمة، وتصبح مع مرور الزمن محتكرة وفوق متناول يد الدول الأخرى.
ولما كان كوكبنا الأرضي محدود المساحة، ولم تبق بقية من أنحاء العالم خالية، لا يرفرف عليها علم أحمر أو أزرق أو أخضر، ولم يبق شعب من الشعوب إلا وخضع لحكم الأوروبيين، كان من الطبيعي أن تتلاقى القوى على حدود مناطق لا تتعداها، وإلا تصادمت مع قوة لا تقل شأنا عنها.
ولقد انتهى كل هذا إلى تنافس بين الدول الاستعمارية ظهرت بوادره بداية القرن الماضي، فمشكلة فاشودة بين فرنسا وبريطانيا واتفاق سنة 1904 بين الدولتين، وهو الذي جعل مراكش من حصة الأولى، وجعل مصر من نصيب الثانية، جاء ليحد من أثر التنافس، وليوجد حلا للمشاكل الاستعمارية بين الدولتين، كذلك كان اتفاق سنة 1907 بين بريطانيا والروسيا، جاء ليقسم إيران، وليسد الباب على هذا التلاحق أو الاحتكاك بين قوتين تخشيان التصادم
ولقد وصل هذا التنافس بين المستعمرين إلى مداه قبل قيام الحرب العالمية الأولى، أي في سنة 1914، وكثر التحدث عن احتلال المراكز التجارية والمواقع الاستراتيجيكية التي تسيطر على طرق الملاحة والمواصلات
ولما وقامت الحرب العظمى الأولى، كانت أوروبا في عنفوان قوتها ومجدها وسلطاتها. وقد ورثت الأرض ومن عليها، وكانت حرباً قاسية ضروسا تحملتها أوروبا واشتركت المستعمرات فيها بأموالها وبرجالها، وكان الدور الذي لعبته الهند وأفريقيا الشمالية وغيرها هاماً، فبقدر أهمية الخدمات التي أدتها المستعمرات، بقدر ما زاد واستوثق اتصال الدولة الحاكمة بالبلاد الخاضعة لسلطنها ونفوذها
نتساءل بعد ذلك عما كان من أثر الحرب العالمية الأولى ونتائجها؟
ظهر جليا بعد الحرب أن أوروبا تحطم فيها أكثر ما خلفته المائة سنة الماضية من أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية
فلو قدر لمترنخ الوزير النمساوي أو لغيره من أساطين ونماردة الرجعية الذين خيل إليهم أن الأقدار بيدهم يوماً ما
نعم، لو قدر لهم رؤية أوروبا عام 1920 لصعب عليهم أن يجدوا أثراً من الأنظمة التي فرضوها على الشعوب في مستهل هذا القرن الماضي
ولكن أوروبا التي تحررت من أثار القرن التاسع عشر، عرفت - لأول مرة - عهداً من الفقر المادي والمعنوي، ودخلت في طور جديد من المشاكل، إذ كانت العشرين سنة التي أعقبت الحرب العظمى، كشريط سينمائي للحوادث، استمر يعرض علينا مشاكل الحدود والأقليات والثورات المتتابعة، ومسائل التسليح ومقاعد عصبة الأمم - فكانت ما أثارته
الحرب من المشاكل والشكوك والريب والأطماع أضعاف ما عرفته أوربا قبل قيامها، بل استمرت هذه المتاعب تعمل في أوربا وجراحها بعد لم تلتئم، فكان من الطبيعي أن يلجأ السياسيون لكل الوسائل التي اعتادت الدبلوماسية الصامتة من قبل بأساليبها الملتوية
ولقد كانت أكبر متاعب أوروبا مسببة من الشعوب الصغيرة التي أوجدتها معاهدات الصلح بدون أن تستند على أسس تاريخية راسخة - فهذه الدول المرتجلة، أمضت العشرين عاما، تتأرجح بين التيارات المختلفة، فلم تثبت على مبادئ واحدة، ولم تنهج خطة معينة، وكان تنازعها على مقاعد عصبة الأمم مضحكا، كما كان اجتماع مجلس التحالف الصغير المكون من تشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيا ورومانيا للتدخل في الشؤون الداخلية للمجر يدل على مهارة، ولكن تفكك هذا المجلس وانكماشه أمام المصاعب الكبرى مثل مهاجمة النمسا واحتلال تشيكوسلوفاكيا كان يدعو إلى السخرية والتهكم
فهذه الشعوب والدول الصغرى كانت تسبب الكثير من الضجيج، ولكنها لم تكن يوما ما مستقلة في سياستها، أو مخلصة للمواثيق والعهود التي قطعتها على نفسها، بل كانت أكثر الوقت ألعوبة في أيدي الدول الكبرى التي كانت تحركها
وفي وسط هذه الفوضى الأوربية كانت الدول الكبرى تسير بخطوات واسعة نحو تدعيم مستقبلها بالاعتماد على عوامل عالية أو كونية أكثر منها محلية أو أوربية - وكان التفوق الصناعي والمقدرة الرأسمالية والإنتاج الواسع كلها تمهد لهذا الاتصال أو الارتباط وتسير بالدول لاستعمارية وأراضيها ومناطق نفوذها نحو التركيز الاقتصادي، أو نحر أيجاد نوع جديد من الكتل الاقتصادية، أو الوحدات المكونة لمجموعة من الدول والأمم التي أن لم تكن مرتبطة سياسيا، فهي مرتبطة اقتصاديا وماديا، وهذه كانت أول خطوة نحو ظهور الكتل الكبرى التي نراها اليوم
ولم يكن هذا التوجيه في حلم أحد من الناس، بل هو النتيجة الطبيعية للعوامل التي سببها هذا التوسع الاستعماري الجارف وهذا التطور الذي صحب العالم - وبينما هذه الدول تسير بخطوات واسعة نحو تأكيد سيطرتها معتمدة على تفوقها - أي بينما هذا التحول في الحلقة الأولى من حياته - ظهرت المتناقضات والشروخ في هذه الأنظمة الاقتصادية
فالنظام الرأسمالي الذي بلغ اوجه، لم يكن يفكر في شئ من الانهيار والتفكك حينما دهمته
أزمة سنة 1930 وما بعدها، ولم تكن هذه الأزمة أوربية حتى يمكن تلافيها، بل كانت عالمية، فهي أشبه الأشياء بالسنوات العجاف التي تحدثت عنها الكتب المقدسة.
كانت هذه الأزمة الواقعة بين حربين امتحانا قاسيا للأنظمة الاقتصادية ولقوة المقاومة بين الدول الكبرى، وكانت أكثر من ذلك، كانت الدافع الديناميكي الطبيعي الذي اقنع الكتلتين الكبيرتين الانجلوسكسو بأن مستقبل العالم يتطلب تفاهما وتعاونا وارتباطا بين أمريكا الانجلوسكسو وبريطانيا الانجلوسكسونية
ويحسن بنا قبل التكلم عن أثر هذه الأزمة أن نعطي فكرة أولى عن أحوال العالم الاقتصادية، أو نظرة لرجل على ربوة رصد يسجل حوادث تمر أمامه:
كان يبدو للناظر أن الدنيا يغمرها طوفان أو فيض هائل من خيرات الله، فلم يحدث في العالم أن وصلت مستخرجات المواد الأولية إلى الملايين من الأطنان من كافة الأصناف التي وصلت إليها في العشر سنوات الواقعة بين 1920 - 1930 وما يقال عن المواد الأولية، يقال عن المنتجات الزراعية والصناعية، ولكن يقابل هذا الفيض من الخيرات حالة أخرى بين سكان الأرض: فقد ذكرنا في البحث السابق كيف ازداد عدد سكان المستعمرات. وكيف أصبح ملايين من الناس يسكنون جهات لم تكن مسكونة ومأهولة. وهذا القسم من الإنسانية امتاز بشيء واحد اسمه (الحرمان)، أي أن الفقر والفاقة، وأحياناً المجاعات والأوبئة اختصت بأجزاء من الإنسانية قد تقرب من نصف المجموع الآخر أن لم تزد عليه
ففي الوقت الذي كانت فيه ثروات العالم وخاماته تنتقل بانتظام على البواخر بين القارات، وفي الوقت الذي وصل فيه استغلال الشعوب الآسيوية والأفريقية بل والأمريكية إلى درجة لم تعرف من قبل - كان سكان هذه المناطق أو غالبيتهم لا يصيبهم سوى النزر اليسير أن لم يكن أقل من اليسير من الفيض الذي تخرجه أراضى بلادهم، فهو يصدق فيهم أكثر من غيرهم قول الشاعر العربي:
كالعبس في البيداء يقتلها الظما
…
والماء فوق ظهورها محمول
ولعل أكبر المتناقضات التي عرفتها البشرية منذ خلق الإنسان على الأرض، والتي لم يعرفها الحيوان في حياته قط هو ما يأتي:
إذا كان سكان العالم يقدرون بـ 2000 مليون نسمة، وإذا أخذنا معدل المستوى في بلد آسيوي أو أفريقي، فلا أقل من نصف العدد من هم ونساؤهم وأطفالهم في حاجة للكساء، بل يمكن نصفهم عراة، ففي الوقت الذي فيه نصف، أو قل ربع الإنسانية عار، كانت ملايين الأطنان أو آلاف الأطنان من القطن الخام يحرق في مزارعه. لماذا يحرق؟ من أجل نصف ريال يرتفع به سعر القطن ليدخل في جيوب المنتجين!
هذه إحدى المتناقضات، فلننظر إلى مثل آخر:
لا تزال مشكلة الغذاء تشغل العالم، وهي مشكلة مخيفة إذا علمنا أن عدد سكان مصر في القرون الوسطى هبط إلى النصف وأحياناً إلى الثلث من أثر هذه المجاعات. أما قلة الغذاء ونقصه، فيعرفها أهل مصر أكثر من غيرهم، فإذا كانت مشكلة الغذاء نعرفها هنا، فما رأيك بملايين من بني آدم في بعض الجهات لا يلقون سوى وجبة واحدة وضئيلة في اليوم الواحد، أي مكونة من قليل من الأرز والماء، ففي عالم فيه الإنسان محتاج لشيء من العطف والرحمة، أو لقليل من الوعي الإنساني ولشيء من التنظيم والصبر. نعم في هذا القرن العشرين كانت ملايين من المواد الغذائية التي تصلح لتكون غذاء. أي نعم كانت تحرق في القاطرات أو البواخر. . . لماذا؟ لكي لا يخسر زارعوها ربع ريال فقط!
هذه صورة الدنيا وهي لعمر الحق سوداء، حينما قامت الدعوة لمؤتمر اقتصادي عالم يلتئم في مدينة لندرة، ولم يكن اجتماعهم إلا بعد أن توالت النكبات، وتفاقمت الأزمات، وشعر الرأسماليون بنقص في الأموال، وضعف في الأنفس، وإفلاس في بيوتاتهم، فقرروا أن يتجمعوا وإن يتداولوا وإن يتحادثوا، وإن يراجعوا الأرقام ويقارنوا الإحصائيات، وكان معهم الخبراء وغير الخبراء، وما التأم شملهم حتى أخذ كل فريق يكيل الاتهام لغيره ويحمل الأخطاء على كتف سواه!
وتعود بي الذاكرة لبعض ما وعته نفسي: فأنى برغم جهلي بالتفاصيل المملة وعدم أيماني بعبقرية الاقتصاديين والخبراء، وعيت ما ذكره بعض غلاة الرجعية في إذاعتهم: أن بقاء روسيا تحمل وحدها سبع المعمورة قد أخل بالتوازن الاقتصادي العالمي، فهي السبب الأول للازمة؛ وقال آخرون: أن علاج الأزمة هو رفع مستوى الجماعات البشرية وإعطاؤها الفرص لكي تبيع وتشتري، وكثرت المقترحات وتفرعت اللجان، ثم توزعت الأعمال،
فكان المؤتمر كسوق قامت ثم انفضت، فقط لم يربح أحد فيها، وخسر فيها العالم كل شيء، إذ خرج وهو مريض وقد اشتد مرضه، وتسابقت الدول إلى التسليح، لأن مؤتمر لندرة لم يحل مشكلة المواد الأولية، فبقيت المواد الأولية وأصحاب المواد الأولية، أي سكان البلاد الأصليين، على الحالة التي وجدهم المؤتمر عليها، أي ينتظرون تنفيذ أحكام الأقدار فيهم!
أما الأقدار، فكانت في شغل عنهم، لأن الأقدار تحالف القوانين الطبيعية الملازمة لطبيعة الأشياء. نعم كانت في شغل عن تقارير المندوبين والخبراء، كان عملها بسيطا يتلخص في نتيجة منطقية: أن الفريق الغالب في عالم الاقتصاد هو الذي يملك من القوى الإنشائية والدعامات الاقتصادية أكثر من غيره، وهو الذي يزحزح الضعيف من طريقه وينتهي بأن يجذبه إليه، فإما أن يندمج فيه أو يزداد ضعفا على ضعف
وكان أن خطوات التكتل التي بدأت بعد الحرب قد أخذت تسير بسرعة عقب مؤتمر لندرة، فهولندة، والبرتغال أخذت كل منهما تتجه نحو المجموعة التي تلائمها، وجمهوريات أمريكا الجنوبية أخذت تلتئم في النظام الاقتصادي للولايات المتحدة. وفي وسط هذا التنازع السلمي أخذت تظهر على العالم قوات متكتلة تختلف قوة وضعفا وهي:
1 -
بريطانيا العظمى وإمبراطوريتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
2 -
الولايات المتحدة وممتلكاتها وأصدقاؤها وحلفاؤها
3 -
روسيا في أوروبا وآسيا
4 -
فرنسا وإمبراطوريتها تحاول أن تستكفي
5 -
اليابان والشرق الأقصى
6 -
إيطاليا وإمبراطوريتها في المهد
أما بقية العالم، فاستمر حائرا ينظر إلى المستقبل بأساليب القرن الماضي. ألمانيا تحلم بمستعمراتها، وأسبانيا تؤمل في أيام الإرمادا، وإيطاليا تتحدث عن الإمبراطورية الرومانية، والتشك واليوجوسلاف يحاربون مشروع عودة النمسا والمجر، وكل بما لديهم فرحون، حتى دهمتهم الحرب العالمية الثانية، وسنرى ما كان من أمرها أن شاء الله.
(يتبع)
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
معركة إنسانية خالدة
في أفريقيا الشمالية العربية
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
لا شك في أن جهاد العرب والمسلمين في سبيل حريتهم وسيادتهم ضد الاستعمار الأوربي في هذا العصر هو معركة من أروع معارك التاريخ وأبقاها أثرا، لا لأنها معركة عنيفة جبارة يصلى نارها ملايين من البشر، ويمتد ميدانها إلى جميع أنحاء الوطن العربي الإسلامي فحسب، ولكن لأنها معركة فذة في أسلحتها، خطيرة في نتائجها وأثارها. أما أسلحة المستعمرين فهي أسلحة فتاكة مادية، لا تقتصر على الجيوش وسلاحها الذي يقتل الأمنيين المسالمين قبل المجاهدين المحاربين، ولكنها تشمل (السياسة) بما تستخدمه من أحط الوسائل في محاربة أخلاق الأمة بالفساد والانحلال، ووحدتها بالتفريق والشقاق، وشجاعتها بالقتل والنفي والسجن والتجويع، وإنسانيتها بمصادرة الحريات وسلب الحقوق وانتهاك الحرمات. وأما هدفهم، فهو السلب المنظم والسرقة الصريحة باسم التعمير والاستقلال، والهدم والإفناء باسم (التمدين) و (الإنشاء).
أما الجانب المشرق في هذه المعركة الخالدة فهو جهاد لعرب والمسلمين وثباتهم في ميدان الشرف والكفاح في سبيل أسمى غاية، في سبيل الحرية الإنسانية وحقوقهم الطبيعية، وفي سبيل المبادئ الإنسانية السامية التي تكفل لهم حقوقهم وحرياتهم. وسلاحنا في ذلك الكفاح هو قوميتنا ومثلنا الروحية العليا التي عوضت عن أسلحتهم المادية أسلحة روحية سامية، هي الإيمان بالحق الذي نكافح من اجله، وحب الموت والتضحية في سبيله، واحتقار للحياة المادية الشهوانية التي تستسيغ الذلة والعبودية، أسلحة قوية سيكون لها النصر برغم طول الكفاح، وشدة البلاء، وكثرة التضحيات.
تأمل هذه الحقائق ناطقة في معركة أفريقيا الشمالية بين العرب والمستعمرين من الفرنسيين والأسبانيين والإيطاليين وأشباههم، وخاصة في الجزائر وشقيقاتها حيث يتكلم الفرنسيون عن (مشكلة) أفريقيا الشمالية، وكلمة (مشكلة) إنما تدل على أزمة حادة تصيب سياستهم الاستعمارية وفشل خطير يهددها، فما الذي أصابهم بهذا الفشل ورماهم بتلك الأزمة؟ لقد صرح أحد زعمائهم في الجمعية الاستشارية بالحقيقة مستورة ملفوفة حين قال (إن مجهود
فرنسا الاستعماري تعترضه صعوبات (خطيرة) أهمها الوحدة العربية، والمجاعة! أما الوحدة العربية فتشير إلى القومية العربية بكل خصائصها وأسسها، وخاصة أساسها الروحي وهو الدين بمبادئه ومثله العليا التي يتسلح بها المسلمون في كفاحهم. فأي اعتراف بقوة هذه الأسلحة و (خطورتها) ابلغ من هذا؟ ليس ذلك فقط، ولكن بجانب هذا اعتراف آخر بفشل أسلحتهم الاستعمارية الوحشية التي عبر عنها بكلمة (المجاعة)، لأن المجاعة هي النتيجة الطبيعية للسياسة الاستعمارية الغاشمة، والاعتراف بها ابلغ رد على ما يسمونه السياسة الإنشائية والعمل التمديني الذي قامت به فرنسا والذي انتهى بعد قرن من الزمان بالمجاعة، لأن ليس في حقيقته إلا استغلالا همجيا حقيرا.
ونحن العرب والمسلمون نلمس من هذه الاعترافات بشائر نصرنا في هذه المعركة الإنسانية الخالدة التي ستكون نقطة التحول في الحضارة الإنسانية من المبادئ الأوروبية المادية الاستغلالية الاستعمارية الهمجية، إلى مبادئ قوميتنا وحضارتنا الإسلامية الروحية السامية التي عبر عنها ابلغ تعبير عالم الجزائر ورئيس جمعية علمائها المسلمين بقوله: (أن الأمة الجزائرية يجب عليها بحكم دينها أن تحيا من كل من يساكنها حياة الإحسان والخير والرحمة فتحسن وتطلب بالإحسان، وتبذل الخير والرحمة وتطالب غيرها بالخير والرحمة. وإذا قامت بواجب حيوي مشترك كان من الإنصاف لها أن تتمتع بالحقوق الحيوية المترتبة على ذلك الواجب. وإن تساوي غيرها في الحياة كما ساوته في الواجب، مع الاحتفاظ التام بمقوماتها الطبيعية التي هي: الإسلام والعروبة وشخصيتها كأمة مستقلة، وهذا هو ما تقتضيه قواعد الإنسانية وقوانين العدل والإنصاف، هذا هو أيماننا العميق بمبادئنا الإنسانية السمحاء، وهو الذي سيكفل لنا النصر القريب الحاسم، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد
الفلسفة الإسلامية المتأخرة
للدكتور جواد علي
- 3 -
ترك الملا صدرا طائفة من الطلاب والمتعلمين كان أبرزهم تلميذه الملا محسن فيض الكاشاني وهو محمد بن مرتضى المعروف بمحسن فيض (توفي سنة 1091هـ). درس على الشيخ ماجد بن علي بن مرتضى البحراني المتوفى سنة (1028 هـ) والشيخ ماجد عالم مشهور وشاعر معدود تخرجت عليه طائفة من علماء إيران والعراق اشتهر بالفقه والحديث والأصول. ودرس على الملا صدرا وعلى نفر من العلماء البارزين.
غلبت على الفيض نزعتان النزعة إلى الفلسفة العالية والنزعة إلى التصوف. فدرس كتب الفلاسفة واصبح فيلسوفا من كبار الفلاسفة ومارس التصوف حتى أصبح صوفيا من جماعة المتصوفين فاتهم لذلك بنفس التهمة التي اتهم بها أستاذه الملا صدرا من قبل. (فنسب إليه الشيخ علي الشهيدي العاملي في ذيل رسالته في تحريم الغناء وغيرها كثيراً من الأقاويل الفاسدة والآراء الباطلة العاطلة التي تفوح منها رائحة الكفر).
وقد ذهب مذهب أستاذه في تقديس ابن العربي والثناء عليه والثقل من كتبه. وهذا ما أهاج رجال الدين عليه. وهو صوفي بالطبع ومشربه يشبه مشرب أبي حامد الغزالي وقد توصل إلى نفس ما توصل إليه هذا العالم الأخلاقي الكبير ولكنه غالى في التصوف وفي الدفاع عن عقائد المتصوفة حتى تسمى (بالشيخ والدرويش) وحتى انتسب إليه (القلندرية) وقال (بوحدة الوجود). وكتب أكثر كتبه على طريقة المتصوفة والمتفلسفة حتى تلك الكتب التي ألفها في الفقه والأصول والتفسير يقول عنه صاحب روضات الجنات (ولاشتهار مذهب التصوف في ديار العجم وميلهم إليه بل غلوهم فيه صارت له المرتبة العليا في زمانه والغاية القصوى في أوانه رفاق عند الناس جملة أقرانه حتى جاء على أثره شيخنا المجلسي، فسعى غاية السعي في سد تلك الشقائق الفاغرة وإطفاء نائرة تلك البدع الباترة).
والمحسن فيض فيلسوف صوفي، فمن المعقول إذا أن يكون لسلطان العقل عنده المقام الأول بالنسبة إلى سلطان النقل. على أننا لا نلاحظ ذلك عنده لا في كتاباته ولا في تفكيره. نراه يقدم الأخبار على الرأي ويأخذ بالحديث بدلا من الاجتهاد. ويتهجم على (الأصولية)
القائلين بمبدأ الاجتهاد في الفقه وأصوله. وقد كان (أخبار يا صلبا كثير الطعن على المجتهدين ولا سيما في رسالته سفينة النجاة حتى أنه يفهم منها نسبة جماعة من العلماء إلى الكفر فضلا عن الفسق).
والأخبارية على نقيض (الأصولية) تعتقد بالأخبار الواردة عن الرسول اللائمة الاثني عشر المعصومين على رأي الشيعة ألاثني عشرية وتقدم الخير مهما كانت درجته على الدليل العقلي وحجتهم في ذلك أن الاجتهاد رأي والرأي لا يجوز في الدين ولذلك لم يعترفوا إلا بالكتاب وبالأخبار المروية عن النبي والأئمة واختلفوا عن الأصولية في درجات الحديث، أما الأصولية فأخذت بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل. وقد رفضت القياس لأن القياس في نظرها رأي والرأي لا يجوز في العبادة والدين. ونسب إلى المحسن فيض القول (بوحدة الوجود) وقيل أنه ألف رسالة في هذا الموضوع. ولكنه من جهة أخرى يتحامل على الدراويش والصوفية تحاملا قاسيا وله (مقامات) على طريقة مقامات الحريري في وصف حالة زمانه وأوضاعه السياسية وقد تحامل فيها على المتصوفة وأصحاب الطرق تحاملا شديدا يكاد يجعله في عداد المقاومين للصوفية على أنه نفسه من المتصوفة. غير أن تصوفه من قبيل تصوف الملا صدرا بلا ذكر ولا ملابس وعلامات.
ومن الذين تأثروا بمدرسة الملا صدرا عالم آخر وفيلسوف صوفي هو الملا عبد الرزاق بن علي بن الحسين اللاهيجي المتكلم الشاعر وصاحب التصانيف في الحكمة والكلام. وكان كالمحسن فيض صهرا للملا صدرا وخليفة من خلفائه في الفلسفة الإشرافية وله في هذه الفلسفة كتاب (شرح الهياكل في حكمة الإشراق) وكتاب (الشوارق في الحكمة) تلك الفلسفة التي ارتبطت بالصوفي الشهير السهروردي على الأخص والتي أصبحت ذات لون إسلامي خاص - والظاهر أنه لم يصل إلى مرتبة الفلاسفة المتقدمين بدليل ما قاله البعض عنه (من أنه كان قلندراً قبل أن يكون فيلسوفا).
أما الحاج ملا هادي السبزوادي (ولد سنة 17971798م
وتوفي سنة 1295هـ) فقد كان آخر رجل من هذه الزمرة
وهو شاعر فيلسوف طبعت أكثر كتبه في إيران. مثل مدرسة
الملا صدرا خير تمثيل.
رفض الملا هادي مبدأ (الاتحاد) أي اتحاد الله في المخلوقات وفرق بين الاتحاد والحلول. فسر فكرة الاتحاد تفسيرا جديداً. . . أن (عقلي كل)(العقل الكلي) معناه اتحاد (الموضوع بالمحمول) ويتمثل الله الذي هو (العقل الكلي) في (العقل) الذي يشع من نور (المبدأ) أو (العقل الكلي) فالعقل الكلي هو (العقل) أو (الكون) بنفس الوقت. ولكن ذلك لا يعني على رأيه بأن الكون ذاته هو (الله). ولا يمكن أن يكون الكون بجملته شيئاً يقابل (العقل الكلي).
أن الله بحد ذاته لم يتحد بهذا العالم اتحادا تاما ولم يجل فيه لأن الله مستقل بذاته والكون مستقل بذاته ولكنه لا شيء بالنسبة إلى ذات الله. أن الكون حجاب لا يمثل الحقيقة والحقيقة هي الله والله هو أساس المخلوقات. ولولاه لكان الكون لا شيء - ولكن الله يرسل نوره على هذا العالم فيشع عليه ويشرق الكون ولا يكون هنالك (إشراق) لولا (النور) الذي هو الله.
وقد مزج الملا هادي على ما يظهر بين فلسفة الإشرافيين وبين فكرة (المايا - البراهمية وتكون من هذا المزيج فلسفته الخاصة. فالكون على نظرية البراهميين خداع في حد ذاته يظهر لنا كأنه الستار المنقوش على المرسخ الذي يرى الناظر من بعيد كأنها أشياء واقعية، ويفضل (المايا) التي هي اسم آلهة من آلهة البراهميين التي تشرق بالمعارف على العالم تتم معارف الإنسان.
أن النفس الإنسانية واحدة وقديما قال البراهمة بوجود نفس عامة للعالم من إشعاع تكون نفوس الأفراد
وقد فسر ابن رشد نظرية أرسطو طاليس عن (النفس الكلية) نفس هذا التفسير. فمن النفس الكلية تتشعب النفوس الجزئية. وقد أيد السبزوادي هذا الرأي وصرح به أن المادة هي التي تتجزأ في الأفراد أما الروح أو النفس فيها (كلية) عامة وهي وحدها التي تتصف بهذه الصفة، صفة العموم.
(انتهى)
جواد علي
المستقر العقلي لعقيدة التوحيد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أود قبل كل شئ أن انبه الأستاذ سيد قطب إلى أني قلت أن الذهن هو أوسع طريق لإثبات عقيدة التوحيد بوجه خاص. وعقيدة التوحيد واحدة من عقائد الإسلام والدين الصحيح عامة، ولم أقل أنه طريق الإيمان في الأديان الأخرى التي ليس لها أسس عقلية والتي تدين بها ملايين كثيرة من البشر.
وهذا التوضيح قد يفيدنا في تحديد نقطة الخلاف وينهي هذا الجدل الذي طال.
وأنا حين رأيت الأستاذ سيد يقول مقالته عن طريقة القرآن في إثبات عقيدة التوحيد بالمنطق الوجداني وحده خشيت أن يكون قد اتبع المقالة العامة التي شاعت في العالم غير الإسلامي - لأن عقائده لا يسعها الاستدلال العقلي - وانتقلت إلى العالم الإسلامي حديثا، وهي أن الدين أمور لا يمكن إثباتها من طريق الفكر والمنطق وإنما من طريق الوجدان والعواطف التي تستمد من خوف المجهول. وطبيعي أن يستتبع ذلك نفرة كثيرين من العلماء والمفكرين أن يسلكوا أنفسهم في هذا السبيل، وإن يرثوا بعقولهم أن تأخذ شيئاً من غير طريق الآيبات والحكم العقلي.
وما كان للقرآن وهو يعلم أنه سيجابه هؤلاء أن يغفل هذا الميزان الفكري ويتجاهله وقد جاء لعصور فيها رشد الإنسان ونضج قواه الفكرية جميعها.
وإذا كان الأستاذ سيد يفهم من الوجدان أنه يعتمد على (الحس والبداهة والحقائق الخالدة) فالخلاف حينئذ يكون بيننا على الاسم، ولا فرق حينئذ بين المنطق الوجداني، والمنطق الذهني الذي يعتمد هو أيضاً على الحس والبداهة والحقائق الخالدة، ويكون الاسمان لمسمى واحد. فلا داعي إلى أن نقول أن القرآن لم يعتمد على (الذهن) في إثبات عقيدة التوحيد.
ثم ننتقل إلى المثال الذي استشهد به الأستاذ سيد على إثبات القرآن لعقيدة التوحيد بلا جدل ذهني، والذي بينت ما فيه من ضروب الأدلة الذهنية التي أسماها الصديق (محاولات ذهنية) ووصفها بالتهافت. والمثال هو آيات التوحيد في سورة الأنبياء.
وقبل كل شئ أحب أن أسال: هل حين يقول القرآن أو أي قائل لمعارضيه: (قل هاتوا برهانكم) يكون جدله خاليا من الحركة الذهنية؟ ألا يكون المقام كما قلت سابقا بهذا
الخصوص (مقام جدل كبير يتسع للرد وقرع الحجة بالحجة وتشقيق الدليل وراء الدليل، وليس مقام تسليم بوجدان عن طريق (تعريض الحس والقلب للأصداء والأضواء) والخطابيات والشعريات والنغمات؟
أظن أن هذا التحدي بطلب البرهان يكفي لإثبات أن الفكر هنا هو الأداة الأصيلة، وإن الحركة الذهنية حاضرة لاستعراض القضية وأداتها.
وقد اغفل الأستاذ سيد استشهادي بهذا المقطع من الآية حينما سرد كلامي تمهيدا للتعقيب عليه، وما كان له أن يغفله عامدا وهو يعلم ما فيه!
يقول الأستاذ: (إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الأدلة كما ساقها هو. . .)
أما أن القرآن أعرف مني بكل شيء فذلك ما لا جدال فيه. وما زعمت لنفسي غير هذا وما غيرت سياق القرآن، وإنما شرحت ما فهمته من أدلته شأني شأن أي مفسر آخر. بل شأني شأن الأستاذ سيد نفسه حين أباح لنفسه أن يفهم في هذا الآية كما شاء. ولما اعترضت على فهمه لم أسلك هذا السبيل الذي سلكه هو في بيان خطي. وإنما بينت رأيي وتركته له وللقراء، ولعلي مخطئ، وما زعمت لنفسي أني بهذا التفسير احدد معاني القرآن واحمله على ما أريد. فأنى اعلم من إعجاز القرآن أنه يرضي العقول والعصور جميعاً لأنه حجة الله عليها جميعاً. . .
ولنأخذ في سرد اعتراضات الأستاذ والرد عليها:
(1)
يقول الأستاذ في الاعتراض على قولي: (فالإله (الواحد) هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض): (أفلا يعلم أن قضية البعث كانت من القضايا الكبرى التي تولى القرآن ثباتها لهؤلاء القوم، فكيف يجعل منها دليلا على وحدانية الله - ولو كان منطق الذهن الجدلي هو المحكم - بينما هي نفسها موضع جدل طويل، وليست لإحداهما سابقة على الأخرى، بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها أو تتهافت بطرفيها).
وفي هذا القول ثلاثة مواضع للرد:
1 -
أنه زاد كلمة (الواحد) من عنده فقد قلت: (فالإله هو وحده هو الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق) ولم أقل فالإله الواحد. وفرق واضح بين المعاني مع هذه الكلمة ويدونها:
ولا داعي لشرح هذا الفرق، ولست أدري لم يزيد الأستاذ سيد هذه الكلمة هنا، وينقص الجملة الأخرى عند (قل هاتوا برهانكم)؟
2 -
أنه فهم من كلمة (يُنشرُون) أن الإشارة هو البعث فقط، وليس لإحياء والخلق بوجه عام بينما المادة تفيد الأحياء عموماً، ابتداء واستئنافا، وحينئذ لا يكون البعث - وهو قضية دينية أخرى تحتاج إلى إثبات - مسوقا لإثبات قضية التوحيد. وأنا قد وضحت (ينشرون) بهذا المعنى العام حين قلت:(فالإله وحده هو الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض. . .)
وما كان للقرآن أن يثبت (التوحيد) بالبعث مع أن الأخير لم يثبت بعد ولن يثبت في هذه الدنيا ولم يره المعارضون حتى يساق كدليل عليهم.
3 -
قول الأستاذ: (وليست لإحداهما (قضيتي التوحيد والبعث) سابقة على الأخرى بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها أو تتهافت بطرفيها) قول غريب! فإن قضية التوحيد وقضية البعث كلتاهما مستقلة عن الأخرى. فبعض الأديان الوثنية الداعية إلى آلهة متعددة يدعو إلى الإيمان بالبعث ومصير آخر. . .
وبعض مقالات المؤمنين بالتوحيد لا يحتم البعث عل الله بل ترى أن ذلك محض رحمة منه تعالى ومساوقة لحكمته. (كتب ربكم على نفسه الرحمة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة. . .)
فعقيدة التوحيد هي القضية الأولى في الإسلام، يثبتها العقل الكامل مستقلة عما عداها ولا يقبل منها بديلا. وهي قضية لا يعتمد في إثباتها على شيء غير هذا الكون الموجود الآن الذي يثبت ما فيه من تناسق وانسجام أنه من صنعة يد واحدة هي التي خلقت العين في جوف الرحم باستعداد ترى معه نور الشمس في السماء حينما تولد، وليس (البعث) من أدوات إثباتها هنا، لأنه له كونا آخر تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.
وقضية البعث قضية تتصل بالمنطق الوجداني كما تتصل بالمنطق العقلي، لأنها من جهة قضية (سماعية) أتى بها الدين. واعظم أدواتها هو التعلق المشبوب بالحياة والقيمة السامية للإنسان، وانتظاره دائماً لمصير اكمل يتمتع فيه بالوجود الكامل الذي يرضي ما فيه من آمال السيطرة والكمال والخلود، وأنصاف الخير من الشر ومجازاة المحسن والمسيء، ومن جهة أخرى هي قضية عقلية تقتضيها حكمة الله وتنزيهه، والذي يرى أن الخير جزاؤه فيه
والشر جزاؤه فيه في الدنيا قبل الآخرة لا يرى حتما على الله أن يبعث الناس في حياة أخرى ليجزيهم، بل يرى ذلك رحمة منه وتكرما. وحسب الله في استحقاقه للعبادة أنه حلقنا من العدم لهذا الوجود، وأرانا هذا العالم العجيب، وأدخلنا إلى هذه الدار لحظة سواء كتب لنا الحياة ثانية أم ردنا وزج بنا إلى الفناء المطلق من غير رجعة!
فها نحن نرى أن قضية البعث لون آخر غير لون قضية التوحيد الصارمة التي لا تحتمل هذا الجدل. لأنها تستمد مقدماتها من هذا الكون المحسوس الملموس ومن الطبيعة البشرية المستقيمة التي تستجيب في يقين واقتناع لهذا الكون الواحد.
فالقول بالتسوية بين القضيتين في الثبوت أو التهافت قول غريب حقا. . .
(ب) يقول الأستاذ سيد معترضا على قولي أن التصور البشري لا يملك أن يجرد الآلهة من صفات الناس في الخلاف بين الرياسات المتعددة (أفلا يعلم أن القرآن ذاته قد كلف التصور البشري أن يؤمن بالله (ليس كمثله شيء) فكيف كان يكلفه هذا لو لم يكن في طاقة الإنسان أن يتصوره بوسيلة من الوسائل). .
وهنا أمر واضح في الفرق بين المسألتين: إذ أننا حين نثبت (الإله الواحد) يجب أن نعتقد أنه ليس كمثله شيء، وحين نرى أنه لا مانع من تعدد الآلهة نكون بالطبع قد قبلنا جواز أن يكون له مثل وشبيه، لأن الآلهة المتعددة أمثال وأشباه.
وحين يكلفنا القرآن أن نعتقد أن الله ليس كمثله شيء، لا يكون قد كلف التصور البشري أن يتصور الله بوسيلة من الوسائل كما يقول الأستاذ: لأن هذا تكليف باعتقاد سلبي تجريدي مطموس الصور، والمؤمن العالم ليس في ذهنه مطلقا صورة عن الله وإلا دخل في دائرة التشبيه والتجسيم المؤدى حتما إلى الكفر والجهل. وإنما في ذهنه إثبات الصفات الحسنى لله. أستبطئها من هذا الكون البديع، وقال أن خالقه لابد متصف بها. أما كيف تتعلق هذه الصفات بذات الله فذلك ما ليس للعقل البشري سبيل إلى تصوره لأنه محدود رهين بقيود التجسيم والتشبيه، (وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك). .
وإذا رفض الأستاذ سيد تفسيري لدعوى القرآن بفساد العالم حينما تتعدد الآلهة فكيف يفسرها هو؟ أيفسرها معتمدا على تلك (الصلة الخفية البديهية التي يعتمد القرآن على إيقاظها في الحس كالومض السريع فيؤمن المؤمن ويستريح!) وإذا كنت أمام غير مؤمن،
فكيف يرى هذا الومض أن لم تضاعفه له حتى يصير شعلا تضئ له السبيل؟ أو على الأقل تقيم عليه الحجة عريضة مستعلنة لا لبس فيها ولا خفاء؟
أن المؤمن الوثني المشرك أيضاً مستريح لومض آخر في وجدانه، فكيف تقيم عليه الحجة والتذكرة؟ أليس بالبرهان المحسوس المستمد من استعراض الكون كله بما فيه التجربة الأزلية بفساد الأمور حينما تتعدد الرياسات وتتلاقى الأشباه والأمثال من الآلهة الذين لهم الذكاء والمهارة والقدرة وحبهم لعلو بعضهم على بعض كما يقول القرآن:(ولعلا بعضهم على بعض)؟
(ح) يقول الأستاذ سيد: (أفلا يرى الأستاذ أن كلامه (في مسؤولية الآلهة) لا يثبت شيئاً ولا ينفيه؛ فمسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد لا تحفل بها الآلهة ولا تجيب سائليها وكثير من الناس يحاكم الله مثلها. . .)
كان الأستاذ سيد فرض جدلا أن هناك آلهة أخرى فوق تناول الإنسان لها بالمسؤولية، وفرض أنها في مستوى من القدرة والعقل لا يمكن الإنسان من محاكمتها، ولذلك رتب اعتراضه على ما قلته. . . ولكن الأمر غير هذا في الواقع: فالإلهة التي عبدها أكثر البشرية، وخصوصا العرب آلهة كانت في متناول أيدي الناس يخلقونها بأيديهم ويسألونها عن قرب ويحاكمونها وقد يأكلونها وقد يضربونها ويجعلونها جذاذا وقد يصلبونها إذا كانت من البشر الخ. فهي كما قلت تقع عليها التبعة والدينونة (أتعبدون ما تنحتون)(كانا يأكلان الطعام). أما الله تعالى فلا تقع عليه المسؤولية حتى لو وجهت إليه لأن هؤلاء الحسيين يرون الآلهة المجسمات المزعومة، فيحاكمونها ولا يستطيعون أن يحاكموه تعالى ويسألوه لأنهم لا يرونه ولا يدركونه ولا يحيطون به فهم يحسون أمامه أنهم فراغ مطلق لا يقبض عليه!
والجدل القرآني هنا يخاطب تلك اللحوم البشرية الصغيرة الطفلية التي لا تحيط فكرا بما تقدم عليه، ولا بد له أن يذكرها بصغاراتها وضالة تفكيرها في معاملتها لآلهتها.
(د) أما اعتراض الأستاذ على الدليل التاريخي في (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) بأن القوم لم يؤمنوا بذكر من معه وذكر من قبله حتى يحاسبوا به. فأقول ردا عليه: إن الدليل التاريخي قد لا يخضع للمنطق العقلي، وإيراده للاستدلال به يكون لاستيفاء ضروب الأدلة
واستيفاء الحالات السلبية التي تستعرض لإثبات قضية إيجابية.
فالرسول يقول للمشركين: ما كنت بدعا من الرسل حينما أدعوكم إلى الوحدانية، ولستم أنت معتمدين على كتاب منير أو إثارة من علم في دعواكم تعدد الآلهة. ولو كان في رسالات هؤلاء الرسل الذين يدين لهم العالم المتمدن حولكم ما يفيد تعدد الآلهة، إذا لكان لكم عذركم في اعتناق التعدد. فانتم لا تتبعون إلا الهوى والظن والجهالة. فسواء أكانوا مؤمنين بذكر من معه وذكر من قبله، أم لم يكونوا مؤمنين فإن الدليل التاريخي قد قام على أنهم لا يعتمدون في التعدد على شيء محترم لدى موازين الآراء والمعتقدات التي كانت في العالم المتحضر حولهم. ولا يطعن في صحة الدليل أن المعارض لا يؤمن به ما دام عدم أيمانه بغير دليل
وقد كان يصح الاعتراض السابق من الأستاذ سيد على هذا الدليل لو لم يسبقه الدليل الاستقرائي والدليل التطبيقي اللذان هما جماع القياس الذهني في إثبات صلب هذه القضية بالحكم والتمييز والإدراك. ولكنه أتى بعدهما وبعد الدليل العملي، فكان إيراده للاستيفاء الذي يسد مسالك الجدل على المعارضين.
ولست أدري ما الذي يستطيع أن يقوله الأستاذ في تفسير هذه الآيات غير ما قلت؟ أيقول: (أنها شيء يتصل بالفطرة على استقامتها فتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم بدون أسباب وتعليل؟.
أم يكون القرآن قد ساقها هكذا اعتباطا فاستشهد بالبعث على قضية التوحيد وهو لا يعلم أن البعث نفسه محتاج إلى إثبات قبل الاستشهاد به؟! ويكون قد قال (لفسدنا) هكذا مع أنه يعلم أن الآلهة عقلاء هادئون متعاونون لا يختلفون فيفسدوا العالم بخلافهم!؟ ويقول: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) مع أنه يعلم أن مسؤولية الآلهة أمام عبادها هي مسؤولية نظرية من جانب واحد لا تحفل بها الآلهة وكثير من الناس يحاكم الله مثلها! فهو أيضاً مسؤول وأنه ذكرها للتقرير (وللتأثير الوجداني) فقط! فهي دعوى بغير دليل، وتقرير لا يقره الواقع! وهو يقول:(هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) فيحاكم المعددين إلى ما لم يؤمنوا به فيكون في هذا مغالطة أو غفلة؟!
الحق أنني لست أدري: أيعترض الأستاذ سيد على أقوالي أنا التي ما عدوت بها شرح ما
يستفاد من هذه الآيات ولم أغير بها سياق القرآن، أم يعترض على القرآن ذاته!؟
وكأنه يريد أن يأخذ ما في هذه الآيات في سهولة ويسر واقتناع وتسليم بدون فكر ومناقشة لأنه يراها لا تنهض ولا تستقيم على الفكر والجدل والمناقشة!
ولست أدري ما هو (الوجه الواحد الصحيح) الذي تؤمن به النفس في هذه الآيات إيمان اقتناع وتسليم، وترفض بعده الأوجه المنطقية الزائفة؟
أيكون القرآن قد عجز عن إقامة دليل ذهني واحد على أكبر قضية من قضاياه، قضية التوحيد؟!
ولست أدري لم يسلك الأستاذ سيد الإسلام مع غيره من الأديان موحدة ووثنية ومعددة في تلك الطريق التي ليس فيها هدى من نور العقل، مع أن الفرض أنه يعلم أن القرآن له تفرد خاص وأنه لو لم يكن دينا موحى به لكان المذهب العقلي الطبيعي الوحيد الذي يثبت الموجود الواحد الكامل الأزلي الأبدي كما أثبته (كانت) ونوه به الأستاذ الكبير العقاد في كتابه (عبقرية محمد) وكما قرره في كتابه الأخير (في بيتي) الملخص لفلسفته وآرائه؟
وبعد فانه ليس وراء ما وضعنا القرآن عليه من أعماق الكون مستقر آخر يصح أن نتعمق إليه ونستقر عليه.
وليس مذهب هناك من مذاهب الفكر الخالص يستطيع أن يأخذنا إلى غير ما أخذنا به القرآن في الطبيعة وما بعد الطبيعة.
أنها أحال كل قضايا الإلهية وكمالاتها إلى قوة الحكم العقلي وحده. فكان لقاء بديع بين الدين والعقل، وهو لقاء تحتاجه البشرية مسيس الاحتياج.
عبد المنعم خلاف
على هامش (حادث الشام)
دموع. . . دموع!
يا أيها العرب جميعاً!
خلدوا (يوم 24 تموز)، فانه كان لنا يوم البؤس، وأنه كان لنا يوم النعيم!
للأستاذ علي الطنطاوي
كنت تلميذا في الصف الأدنى من الدراسة الثانوية، وكان لي رفاق لهم على حداثة أسنانهم قلوب فيها إيمان وفيها حماسة وفيها وطنية، وكنا نحس وقد ولى حكم الأتراك، وغاب عنا شبح الذعر والهول: جمال باشا. . . واختفت المشانق، وبطل الهمس، والتلفت كلما ذكر هذا الاسم المرعب، وجاء الشريف فيصل، وجاءت معه الأفراح، وقامت الأعراس، ودقت طبول البشائر. . . كنا نحس أننا نعيش في دنيا من الأحلام، في أيام كلها أعياد، وكنا إذ نجول كل خميس في المدينة ننشد (مرسلييز العرب):
أيها المولى العظيم
…
فخر كل العرب
ملكك الملك الفخيم
…
ملك جدك النبي
فيردده معنا التجار في دكاكينهم، والباعة من وراء دوابهم، والمارة في دروبهم، وتردده منازل دمشق ودورها، ومساجدها وقصورها، وقلعتها وسورها، وتردده الأرض والسماء. . . أو هكذا كان يخيل إلينا، فيشد هذا الخيال من عزائمنا، فننتفخ ونتطاول، ونمد أصواتنا، ونقويها لنشعر أنفسنا أننا صرنا رجالا، وصرنا جندا كالرجال الذين كنا نراهم يصرخون في المظاهرات ويلوحون بالسيوف والبنادق، ويطلقون النار من مسدساتهم كلما أخذت منهم الحماسة وهزهم الطرب، بعد أن مضت علينا أيام ما كنا نرى في دمشق رجلا إلا فارا من الجيش مختبئا يمشي مشية المذعور، يخاف أن يلمحه رسول الموت (أبو لبادة) فيقول له الكلمة التي حفظناها، ونحن صغار لا ندري معناها، ولكنا ندري أنها كانت تخيف وترعب، ويصفر منها الوجه، وترتجف الأضلاع، كلمة:(نرده وثيقة)؟
وأنا لسادرون في أفراحنا، ممعنون في مسيراتنا، مزهوون باستقلالنا، وإذا بنا نسمع الصريخ في الحمى، ونرى الخطباء يقومون في الأسواق ينذرون الناس خطبا داهما، وشرا مقبلا، ولم ندر نحن الفتية الصغار ماذا جرى؛ فسألنا: هل عاد جمال باشا؟ هل رجعت
مشانقه؟ قالوا: لا، جاء ما هو شر منه وأمر، غورو، قلنا: وما غورو؟ قالوا: الأعور. . . فاعتقدنا أنه الأعور الدجال الذي يظهر في آخر الزمان!
ورأينا الدنيا تقوم وتقعد، ففي كل مكان حشد، وعلى كل منبر خطيب، وعجت الشوارع بالناس، ولم نكن نفهم ما يجري من حولنا، وإن كنا نسعى في أعقاب الناس متسائلين مشاركين ما استطعنا، ثم رأينا الجموع تمضي إلى النادي العربي. . .
النادي العربي الذي كان مثوى الوطنية، وكان لنا نحن لصغار المنار الهادي، من خطبه تعلمنا الخطب، ومن بيانه قبسنا البيان، ومن رجاله عرفنا الرجال، هذا النادي الذي خان أهله عهده، وهدروا مجده، وقعدوا به بعد العز، ونسوه بعد أن كان هو الذي يذكرهم أوطانهم، فغدا ويا خجلتاه حانة، أو شيئاً يشبه الحانة، يقال له شهرزاد!
مضت الجموع إلى النادي يموج بعضها في بعض، ومضينا نتبعهم، حتى إذا وقفوا اطل عليهم من شرفته اخطب خطيب عرفته، وأطلقه لسانا، وأشرفه بيانا، واشده على القلوب سلطانا شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي الشاعر الفقيه رحمة الله وسير في الناس طيبة ذكراه، اطل على بحر من البشر يزخر بأقوام برزوا للموت، يدفعون الغير عن الحمى، ويحمون الذمار، فامتلأ بهم ما بين المستشفى العسكري، ومحطة الحجاز، وميدان الشهداء، وحديقة الأمة، ولم يبق في تلك الرحاب كلها موطئ قدم، اطل فلما رأى الناس استعبر وبكى، وخطب خطبة إذا قلت زلزلت القلوب أكون قد أقللت، وإن قلت ألهبت النفوس أكون قد بلغت، خطبة لو كانت بلاغة بشر معجزة لكانت من معجزات البلاغة، خطبة ما سمعت مثلها، وقد سمعت ملوك القول، وفرسان المنابر، حملتني هذه الخطبة إلى آفاق المستقبل، فنسيت أني تلميذ صغير، ورأيتني رجلا، ثم صبت البطولة في أعصابي، فأحسست أني كفولغورو، وجيشه العادي أرده وحدي، وكبرت في نفسي حتى صغر الأعور الدجال، الذي خافوه وخوفونا منه، فلم يعد شيئا، وإني لا أزال احفظ منها قوله عليه رحمة الله، وقد سكت لحظة وهو يخطب، وسكت الناس حتى لو أنك ألقيت إبرة على بساط لسمعت لها صوتا، ثم ولى وجهه تلقاء المغرب، وصرخ من قلبه الكبير صرخة لا تزال إلى اليوم تدوي في مسمعي:(غورو! لن تدخلها إلا على هذه الأجساد)! وأعقبتها صرخة أخرى، تقلقل لها الفلك، ورجف الكون، تكبيرة واحدة انبعثت من أربعين ألف حنجرة
مؤمنة!
ومضى الناس قدما إلى ميسلون!
أما نحن فمضينا إلى بيوتنا، فما كان فينا من بلغ سن القتال
ولم يكن إلا يوم وبعض يوم حتى رأينا الدنيا تتبدل غير الدنيا وأبصرنا كل شئ قد تغير، وإذا الناس في جمود كأنهم في مآتم، وإذا الخطباء الذين كانوا ملء الأسماع وإلا بصار قد اختفوا، وإذا الأعلام ذوات الألوان الأربعة قد طويت، وإذا فيصل الذي كنا نهتف باسمه ونعتز به، ويشعر كل واحد منا أنه يملك فيه ملكا إذ يكون له مكان، قد سافر وخلا منه قصره في (العفيف)، فاحتله عدوه، ونام فيه على فرشه، واستوى على عرشه، فخرنا وسألنا: ماذا جرى يا ويحكم حتى انهار الصرح في يوم واحد. وضاع البشر، وتبدلت الدنيا، قالوا: اذهبوا لا تسألوا، أننا خسرنا، ورجعنا من (ميسلون)، وقد خلفنا فيها استقلالنا الوليد، وقائدنا الشهيد، وصارت الغلبة لهذا العادي العاتي الذي اقتحم علينا بلد اقتحام الغاصب، وغورو! قلنا: الأعور الدجال؟ قالوا: اسكتوا، اسكتوا، لا يسمعكم أحد
وذهبنا نستطلع حقيقة الخبر، فقادتنا الخطأ إلى (الثكنة الحميدية)، فوجدنا عندها جندا غرباء عنا، سدواً برابرة، وسمراً مغاربة، وشقراً فرنسيين، وإذا هم يخفضون علمنا، ويلقونه، ويرفعون علما فيه ثلاثة ألوان. . . وتلفت فإذا رجال منا واقفون ورائي، ودموعهم تسيل على خدودهم في صمت وحرقة وألم خفي يأكل الأكباد، وكان ذلك يوم 24 تموز سنة 1920، وكانت تلك هي (الدموع) الأولى!
ومر ربع قرن، خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقص يوما ولا تزيد يوما، حملنا فيها ألوان الأذى، وذقنا فيها الموت من كل طبق، وعلى كل خوان، ورأينا النار تآكل دورنا، والقنابل تهدم على رؤوسنا منازلنا، فتهدمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق، وقضى فتية من اجمل واكمل وأنبل فتيتها، وأبصرنا أياما سودا، ومصائب شدادا، ولكنا ما جبنا ولا خفنا، وكنا عزلا قلة، وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول، فقارعنا فرنسا، ولقينا بصدورنا الرصاص، وهجمنا بالخناجر على الدبابات، وقابلنا بالحجارة الرشاشات، وصبرنا فانتصرنا
وكان يوم 24 تموز سنة 1945، ورأيت بعيني العلم ذا الألوان الأربعة يرتفع مرة ثانية
على (الثكنة الحميدية) في دمشق، ورأيت رجالا يبكون، ولكنهم يبكون هذه المرة من الفرح، وكانت تلك هي (الدموع) الأخرى!
اللهم لك الحمد أن أحييتني حتى رأيت هذا المشهد، اللهم لك الحمد فما أبالي بعد اليوم أن أموت، لقد أبصرت وطني حرا مستقلا له راية ترفرف، وعلم يخفق، وجيش كان عليه فصار له، وجند كانوا يحاربونه فصاروا يحمونه، لقد غدت الآن أقدر أن أقول مباهيا مفاخرا: أن لي وطنا!
اللهم علم قوى كيف يحفظون استقلالهم، وسدد خطاهم نحو وحدتهم، التي لا حياة لهم إلا بها، ولا اعتماد بعد الله عليها!
اللهم وارحم أولئك الأبطال الذين سقوا بدمائهم هذه النبتة الكريمة حتى صارت دوحة، شهداء الاستقلال من لدن يوسف العظيمة شهيد ميسلون، إلى حسن الخراط شهيد الغوطة، إلى أخي ورفيق مدرستي شهيد الواجب، الطبيب مسلم البارودي، الذي اقبل أمس يسعف الجرحى من أبناء الوطن، فقتله أعداء الوطن. . . رحمة الله على الجميع
علي الطنطاوي
في بيتي.
. .
احدث كتب العقاد
للأستاذ عبده حسن الزيات
هذه سياحة في مكان واحد تحققت فيها وحدات (أرسطو) الثلاث فلم نتجاوز بيت أستاذنا العقاد، ولم نعد شطرا معينا من نهار، وانحصر نظرنا في مشهد واحد هو مشهد الحوار بين العقاد وصاحبه، فجاءت سياحة فريدة في بابها، وكأنما حسب المؤلف أن تحتاج إلى دفاع فقال:(إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة. ولكن المكث في المكان الواحد أيضاً له حجته التي تضارع حجة السياح ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئاً ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير).
ولكنها في الواقع لم تكن محتاجة إلى هذا الدفاع فهي سياحة حقيقية في معارض الآراء والفلسفات ومسارح الأذهان ومحافل الموسيقى، ومواقع المذاهب، ومعاني البطولة، ومجاني الشعر، ومغاني الصور. ولم يكن العقاد فيها سائحا بقدر ما كان ملاحا وأستاذا في جامعة من هذه الجامعات التي حدثونا أن السفينة جدرانها، والأفق العريض سبورتها، وأمواج البحور مدرجاتها؛ رحلة دسمة زاخرة بالمشاهد لا أدري كيف استطاع هذا النوتي الماهر أن يطويها في هذا الزمن القصير وهو 132 صفحة من ورق (أقرأ)، وذلك في طمأنينة مريحة لم تشعر السفر بدوار ولا تركتهم يحسون إحساس المعجل عن التقصي وملء النفس من روائع الجزر والمرافئ.
في هذه الرحلة أو في هذا الكتب تعرض على القارئ أمور كثيرة منها: النور والتملي فيه وسيلة وغاية، الروح والمادة والشان العملي لبحوث ما وراء الطبيعة، فلسفة النسك، مذاهب السخط والتشاؤم وبيان ما فيها من هدم وبناء، نقد المذاهب الشيوعية والنازية والفاشية، الموسيقى وتصوير المعاني والنسبة بين الموسيقى الشرقية والغربية، آداب الطرب، الموازنة بين عظماء الفنون وعظماء الدعوات العملية، الموازنة بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، فلسفة التغذية وعلاقة الأطعمة برقي الأمم، شرح بعض الصور
العالمية مثل (شالومة) للفرنسي بروسيير و (الزهرة) للأسباني فلاسكيه، الفنان والعصبية القومية، وحدة الخلق وتلاحم سلسلة المخلوقات، البومة وشهرة الشؤم، ابن الرومي ونحسه، تقدير الموهبة التصويرية في شعره، الإلمام بصور بعض المصورين المصريين المحدثين، تقدير القصة وبيان مكانها بين سائر ألوان الأدب، السيكولوجية والقصة، الشيوعية والقصة، التماثيل والأخلاق الخ.
وقد كنت أحب أن اعرض رأي المؤلف في هذه الأمور جميعاً ولكنه عمل فوق طاقة نقد قصير معجل فحسبي أن أسجل بعض الخواطر التي قامت في نفسي أثر القراءتين الأولى والثانية لهذا الكتاب النافع الممتع.
تجلت ملكات العقاد الأصيلة أو تجلى كثير منها، في هذا الكتيب بصورة أخاذة رائعة؛ وإني أصارح القارئ أين سألت نفسي هل انطلق قلم العقاد على سجيته أو رسم له صاحبه رسما معينا واختط شرعة وبذل بعض الجهد لتحقيق هذه الغاية؟ تساءلت ولم اقطع بجواب لأني حين رأيت الشعر المنثور المترقرق يزكي الفرض الأول، رأيت الجدل العلمي الدقيق المستند إلى الحجج المنطقية والمادية يؤيد الفرض الثاني:
نعمت بهذا الشعر المؤثر في مطلع الكتاب:
(قلت لك يا صاحبي أنني أحب مدينة الشمس لأنني أحب النور احبه صافيا واحبه مزيجا، واحبه مجتمعا واحبه موزعا، واحبه مخزونا كما يخزن في الجوهر، واحبه مباحا كما يباح على ألازاهر، واحبه في العيون واحبه من العيون، واحبه إلى العيون!
ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني افتحها فلا أرى منها إلا النور. . . والفضاء.
والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.
وكيف يكون فضاء ما يملأ العينين ويملأ الروح ويصلى الأرض بالسماء؟
قلت لك يا صاحبي أنني أحببت النور فسكنت في مدينة النور!
فإنني لا احبه لأنه يريني الدنيا وما فيها أو لأنه هو واسطة الرؤية واداتها، ولكنني احبه لأراه ولو لم أر شيئاً من الأشياء.
وقديما كنت أقول أن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنما هي تسبح
وتطفو عليه). ثم نعمت واغرورقت نفسي لقوله في ختام رحلته:
(إذا وجل القلب فهذا الكرسي يعلمني أن الخوف عبث وإن الذي أخافه قد يخطئني ويسبقه إلى الذي أرجوه، فكم من مرة جلست عليه أطيل النظر في أعقاب الأمور واقلب الظنون في كل وجه من الوجوه ثم جاء الوقت المحذور ولم يجئ معه ما حذرناه!
وإذا تقطعت النفس حسرات على نعمة من نعم العيش فهذه الشرفة تقول لي: بل انتظر طويلا أو قصيرا فسنرى كما رأينا وسنعلم كما علمنا أنك ستعيش بغير هذه النعمة التي كنت تقرنها بالحياة.
. . . وهذا المكن قد صعدت سلالمه ثلاثاً ثلاثاً ثم صعدتها اثنتين اثنتين ثم اصعده درجة درجة على غير عجلة ولا اكتراث، وهذا المسكن قد نزلت به والشعرات البيض يتوارين في السواد، وما زلت انزل به والشعرات السود يتوارين في البياض. . .)
ولكن هذا الشعر المنثور وما استدعاه المقام أحياناً من الاستشهاد بشعر منظوم بعضه من شعر المؤلف القديم، ليسا إلا (نثارة) وسط ذخائرنا من المناقشات الحادة والبحوث الجادة تنتظمها دفتا (السفينة) أو دفتا الكتاب:
انظر إلى هذه المناقشة لما قرره (أرثر بلفور) من نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح وأقرا هذه المحاجة الدقيقة الصلبة الناعمة: (إنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك إذ وضعوهما موضع النقيضين وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها. أنك حين تضرب الأرض بقدمك فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء إنما تصدم شيئاً غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار. فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى فتصدم الحواس. هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في اطوائها. . . وإن شئت مصداقا لذلك فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة فهل تقف عندها؟ كلا أنها لا تقف عندها بل تعبرها. كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء، أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية فادفع الماء بقوة من بعض العيون. . . أنك إذن لتضر به بالسيف القاطع فلا يمضي فيه. . . فليست الكثافة
المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها بل لقوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة وفي كل مادة ملموسة أو محسوسة).
ثم نطوي نحو ثلث الكتاب لنقابل بحثا اعمق في الميتافيزيقا وسر الوجود: (أن الفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم، فالوجود موجود. بلا أول ولا آخر لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص، لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك. . . موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور. . . والوجود الكامل الأمثل هو الله)
(البقية في العدد القادم)
عبده حسن الزيات
العلية الاجتماعية
التاريخ. . . ما هو؟
(إذا أراد العالم أن يكون مؤرخاً، فعليه أن يكون رجل
اجتماع. . .)
للأستاذ فؤاد عوض واصف
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وقد ظهر تأثر التاريخ بهذه النظرية في عدة كتب لمشاهير المؤرخين، فعند كوجنوزوفسكي الروسي ارتفاع درجة الكثافة في سكان أمة ما يرجع إلى نشاط الغريزة الجنسية والعكس بالعكس. وهكذا ترد العلية في الأحداث التاريخية إلى هذه الغرائز والدوافع. وفي حين ترد نظرية التقليد الأحداث التاريخية إلى النفس الواعية تردها نظرية الدوافع إلى النفس غير الواعية
غير أن نظرية الدوافع هذه لا تلقى كبير تأييد من الأوساط. فقد انتهى علماء الأحياء وعلماء النفس إلى نظرية علمية جديدة تعارض نظرية الدوافع كل المعارضة ونعني بها (نظرية مرونة الإنسان - وتبعاً لهذه النظرية الجديدة، الحياة الروحية والعقلية هي المسيطرة على الغرائز والميول والنزعات وهي الموجهة لها. وقديما قال ابن باجة في رسالته (تدبير المتوحد) أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات بقوة فكرية من شانها أن تخضع النفس البهيمية لأوامرها فلا تعاندها (والواقع أن اتجاه العلم الحديث في أيامنا يرفض كل الرفض نظريات من شانها أن تجعل الإنسان عبدا لعامل فسيولوجي أو عامل طبيعي
4 -
النظرية الفسيولوجية: تزعم هذه النظرية وجود اختلافات وراثية بين الأجناس المختلفة؛ فكل جنس يولد مزودا بصفات وراثية خاصة به تتحدد الأحداث التاريخية تبعا لها. واهم من قال من بهذه النظرية سنيوبوس من جامعة السوربون وجوستاف لوبون. سنيوبوس يقسم الأجناس البشرية إلى ثلاثة أقسام الأبيض والأسود والأصفر ويقول أن الجنس الأسود لم ينتج أي حضارة في حين أن الجنس الأبيض أبو الحضارة.
والواقع أن النظرية الفسيولوجية ابعد ما تكون عن النظريات العلمية برغم ادعاء أصحابها وفي اغلب الأحايين تقوم على نزعات قومية تعصبية.
تلك هي أهم النظريات العلمية التي تناولت تفسير الوقائع التاريخية بوجهات نظرها المختلفة، وقد تبين لنا بوضوح وجلاء أنها ابعد ما تكون عن طبيعة التاريخ نفسه، ولذلك لم تسلم نظرية منها من وجوه النقد وأثبتت كل نظرية قصورها عن تفسير التاريخ ووقائعه وأحداثه. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت مدرسة جديدة زعم أنصارها أن دراسة العلية في التاريخ يمكن أن تخضع لمنهج علمي دقيق يجمع بين طائفة من النظريات السابقة وبمقتضاها يكون موقف المؤرخ من تفسير الوقائع التاريخية كموقف عالم الطبيعة من تفسير لوقائع الطبيعية ولقد عرفت هذه المدرسة بالمدرسة المنهجية الحديثة.
وقواعد المدرسة المنهجية حتى أيامنا هذه هي رائد المؤرخين في أبحاثهم عن علل الوقائع التاريخية، ومعظم الكتب التاريخية التي تدرس في المدارس والجامعات موضوعة حسب قواعد هذه المدرسة.
ولكن احدث الدراسات العلمية قد بنيت في قواعد المدرسة المنهجية أمرين:
1 -
اعتبارها العلية التاريخية كالعلية العلمية.
2 -
قصورها على إعطاء تفسيرات صحيحة للعلل التاريخية.
أولاً: العلية التاريخية تختلف تمام الاختلاف عن العلية العلمية فالتاريخ يتكون من وقائع حدثت مرة واحدة والى الأبد، في حين أن العلوم الطبيعية تتكون من وقائع تتكرر باستمرار. والقاعدة الأساسية في العلوم الطبيعية أن نفس العلة تنتج نفس المعلول:
2يد + 1 يعطينا دائماً 2يد1. أما في التاريخ فنفس العلة لا تتكرر أبداً. فالخلاف بين العلية التاريخية والعلية العلمية، خلاف ينشق عن طبيعة العلمين المختلفين.
ثانياً: إذا كانت المدرسة المنهجية تدعى أنها تعطي تفسيرات صحيحة للوقائع التاريخية لا تقبل النقد، فإن البحث الدقيق في كتب المنهجية يكشف عن أخطاء كبيرة وعديدة.
ففي كتاب (التاريخ السياسي لأوربا المعاصر) لسينوبوس أحد أعلام المدرسة المنهجية، من الأخطاء ما يجعل المؤرخ الحق يرفض قواعد هذه المدرسة في البحث التاريخي.
ففي صفحة 158 من هذا الكتاب يقول سيوبوس: (إن جريمة الزنى التي ارتكبتها بارنيل مع السيدة أوشيعه كانت علة التخلخل الطائفة الأيرلندية وضعف مركزها في مجلس النواب). هذا التعليل خطأ، فجريمة الزنى في كثير من المجتمعات لا تحدث ذلك الأثر العظيم الذي أحدثته جريمة بارنبل مع السيدة أوشيعه، وإنما التعليل الصحيح يرتد إلى الاتجاه الجمعي ضد هذه الجريمة، هذا الاتجاه هو الذي يفسر الأثر الذي أحدثه بارنيل بجريمته.
وفي صفحة 33 من نفس هذا الكتاب يقول المؤلف: (الثورة الفرنسية بما أثارته من الخوف والفزع في الطبقات صاحبة الامتيازات، قد حالت بينها وبين القيام بأي إصلاح خلال ثلاثين عاما. . .) والعلامة سيميان يكشف لنا عن هذا الحكم التعسفي، فالدراسة الحقيقية للظروف المحيطة بالطبقات صاحبة الامتيازات تجعلنا نتحقق من علل أخرى لعل أقلها أهمية الخوف والفزع. وفي مكان آخر من نفس هذا الكتاب:(إن قيام الصناعات الكبيرة قد ضاعفت في عدد العمال، وكان نتيجة ذلك أن ازدادت الشقة بعدا بين طبقة الأغنياء والفقراء. . .) فهذا التعليل لا يرمز إلى الحقيقة بحال من الأحوال.
والأمثلة على أخطاء المنهجية عديدة وهي من ذلك النوع من الأحكام التعسفية البعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي. . .
رأينا إذا إخفاق المدرسة المنهجية في أبحاثها عن العلل التاريخية. وقد رأينا من قبل إخفاق النظريات الشائعة المختلفة في توجيه الأبحاث التاريخية. ذلك لأن هذه النظريات المختلفة قد بحثت في التاريخ قبل أن تبحث عن طبيعة التاريخ. . . بحثت في الوقائع قبل أن تبحث في طبيعة الوقائع، ومن هنا كان إخفاق المؤرخين وإخفاق أبحاثهم.
ولو أن المؤرخ عني بالبحث عن طبيعة التاريخ قبل البحث في وقائعه، لوجد أنه الإنسان: هذا الكائن الاجتماعي.
اجل، أن الحياة الاجتماعية هي وحدها القادرة على تفسير الأحداث التاريخية وهي علة هذه الأحداث، ويرجع تنبه المؤرخين إلى هذه الحقيقة إلى السنوات الأخيرة فقط، فقد نشر الأستاذ جيدبجر الأمريكي في سنة 1903 رسالة عنوانها:(نظرية في العلية الاجتماعية) رد فيها التاريخ كله إلى مجال علم الاجتماع. وقد قال في هذه الرسالة: (إنه إذا كانت
الصفات الفردية والخاصة للوقائع التاريخية - وهي المحددة بزمان ومكان - لا تتكرر بل تحدث مرة واحدة والى الأبد، فإن هنالك اطرادا في بعض العناصر التاريخية العامة. ولما كان العلم يعين بالاطراد والتكرار لأنه لا يستطيع أن يدرس ظاهرة لا تتكرر، فكذلك التاريخ إذا أراد أن يكون علما بالمعنى الصحيح فلابد له من دراسة العناصر العامة المطرودة في الوقائع التاريخية وبعبارة أخرى: إذا أراد العالم أن يكون مؤرخا فعليه أن يكون رجل اجتماع).
ولئن كان بعض المؤرخين المنهجيين يدافعون عن نظريتهم التقليدية بقولهم: (أن التاريخ علم لا يستطيع أن يتجنب الاتجاه الزمني وإن الطابع المميز للمعرفة التاريخية هو اتصالها الأساسي بالزمن، وعلم الاجتماع كسائر العلوم الطبيعية يدرس الوقائع خارج الزمن فلا يمكن رد التاريخ إلى علم الاجتماع) فمن السهل أن نرد على زعم هؤلاء المنهجيين بقولنا: (إن هذه الحقائق الجزئية التي يعنون كل العناية بالكشف عنها تظل غامضة وتافهة إذا لم ترتبط بقانون معين يوضحها ويجلو قيمتها). ومن العجيب حقا أن أكثر ما يعني به المؤرخ حتى أيامنا هذه في أبحاثه عن بعض المؤسسات كالمعابد الدينية مثلا، هو وصف هذه المعابد بأصحابها وهيئاتها ووصف من أمر بإقامتها. . . الخ دون أن يعنى أقل عناية بالكشف عن القوانين التي يربط بها تطور المعابد الدينية والتي وحدها يمكن أن تفسر لنا علة قيام هذه المعابد أو تلك في هذا العصر أو ذاك. نحن لا ننكر أن البحث في الوقائع الجزئية في التاريخ على جانب عظيم من القيمة العلمية، ولكننا ننكر كل الإنكار أن هذا البحث وحده يمكن أن يقدم لنا تفسيرات هذه الوقائع الجزئية. فلابد من أن يلجا المؤرخ إلى الصفات العامة في الوقائع التاريخية ويستخلص منها القوانين التي بمكانها أن تفسر الوقائع التاريخية، والتي يمكننا على أساسها أن نجعل من التاريخ علما. فلابد أن يلجأ المؤرخ إلى القوانين الاجتماعية وهي العناصر العامة المطردة في الوقائع التاريخية؛ وبهذا يستطيع أن يقدم لنا حقائق علمية.
ولنفترض أن أمامنا مؤرخا يبحث عن تاريخ الأزمات الاقتصادية ويقف في بحثه عند أزمة فينا سنة 1873 والتي بلغت نهايتها العظمى سنة 1874، فيسترعي التفات المؤرخ في وصفه لهذه الأزمة ازدياد نسبة الانتحار وارتفاع عدد المنتحرين ارتفاعا كبيرا، ولنفترض
أن هذا المؤرخ من المدرسة المنهجية فإن التعليل الوحيد الذي سيعلل به ازدياد نسبة الانتحار في أبان أزمة فينا هو الفقر والجوع. ولا يكون المؤرخ قد قدم لنا في هذه الحالة إلا أوصافا ابعد ما تكون عن الصحة وعن الطابع العلمي. ذلك لأن الواقع كما يقول العلامة دركيم في كتابه عن الانتحار هو أن الأزمات الاقتصادية كثيراً ما تنتج تأثيرا عكسيا في نسبة الانتحار كما هو مشاهد في ايرلندا مثلا، فعلى الرغم من هذه الأزمات الاقتصادية التي يعانيها الفلاح الايرلندي فانه قلما يقدم على الانتحار. ولو أن هذا المؤرخ الذي قرر أن الفقر الذي أحدثته أزمة فينا سنة 1873 هو علة ازدياد نسبة الانتحار، كان قد درس ظاهرة الانتحار وقوانينها الاجتماعية العامة، وابعد نفسه قليلا عن حادث فينا الخاص، لوجد تفسيرا آخر لازدياد نسبة الانتحار عامة وليس في حادث فينا الخاص فقط. وهذا التفسير نجده في قانون الانتحار الذي استخلصه العلامة دركيم من دراسته لهذه الظاهرة. وقد ربط به عدة قوانين أخرى. وخلاصة هذا أننا في حالة التاريخ لا يجدينا البحث عن الوقائع إلا بقدر ارتباطها بقوانين عامة.
وقد تقدم العلامة سيميان في سنة 1606 إلى الجمعية الفلسفية الفرنسية برسالته الشهيرة: (العلية في التاريخ) أوضح فيها اتجاه التاريخ الحديث نحو علم الاجتماع. وقد عدت رسالته ثورة في الأبحاث التاريخية وأشاد بها كثيرون من علماء فرنسا في ذلك الحين من أمثال: لاكمب وبلوخ ولالاند.
ولقد أراد العلامة سيميان برسالته أن يتقدم بمنهج نظري وعملي في الوقت نفسه. فوضع للأبحاث التاريخية عن العلل أربعة قواعد شكلية تكون بمثابة منهج تطبيقي للمؤرخ الحديث. وقد أراد بهذه القضايا الشكلية أن يجعل من التاريخ فرعا من فروع علم الاجتماع؛ فهو يرى أن العلمين يتفقان كل الاتفاق في موضوعهما وطبيعتهما. . . ولا بد لنا من أن نعرض لهذه القضايا لأنها المنهج الاجتماعي في الأبحاث التاريخية.
القضية الأولى: (يجب تفسير الواقعة التاريخية في حدود عامة). أعني أن نربط الواقعة الجزئية بقانون عام يفسرها؛ فمثلا في وصفنا لبناء معبد ديني، يجب أن نربط وصفنا هذا بقانون عام يفسر التطور الديني الذي انتهى إلى بناء هذا المعبد. . .
القضية الثانية: هي توكيد التفرقة بين العلل والوسائط وتصاغ هكذا: (من بين الأسباب
المختلفة لظاهرة تاريخية، نعتبره علة ذلك السبب الذي يكون مرتبطا بالظاهرة التاريخية بواسطة الرابطة الأكثر عمومية). والواقع أن الخلط بين العلل والوسائط شائع في التاريخ إلى ابعد حد فلا يجب أن نعتبر فولتير وروسو ومونتسكيو عللا مباشرة للثورة الفرنسية بما أذاعوه من التعاليم والمبادئ، وإنما هؤلاء الرجال وسائط فحسب؛ بحيث أنه إذا لم يكن هؤلاء الرجال قد وجدوا فانه لمن المؤكد أن وسائط أخرى كانت ستتولد من خميرة الثورة الكامنة في الشعب الفرنسي. فيجب على المؤرخ أن يحترس من الخلط بين العلل والوسائط. والعلل تكون دائماً قوانين عامة.
نتيجة أولى: (يكون من الضروري دائماً تفسير السبب المباشر (العلة). أعنى أن القضيتين السابقتين ستفرضان على المؤرخ أن يحلل السبب المباشر للواقعة التاريخية تحليلا وقتيا حتى يكون تفسيره علميا صحيحاً.
نتيجة ثانية: (الوصول في أبحاثنا عن العلل التاريخية إلى قضايا تتكون الرابطة بينها صحيحة دائماً). وهذا ما ينتهي إليه البحث العلمي وهو اكتشاف القوانين الصادقة دائماً.
تلك هي قواعد سيميان الأربع الشكلية، وضع اثنتين منها على صورة قضايا واثنتين على صورة نتائج لتأخذ قواعده الطابع العلمي الرياضي.
وبهذه القواعد يكون للمؤرخ منهج عملي في أبحاثه؛ ويكون موقفه من التاريخ هو موقف العالم الاجتماعي.
التاريخ: ما هو؟
سؤال افتتحنا به هذا البحث؛ والآن نعلم أن التاريخ ليس شيئاً آخر غير الإنسان: هذا الكائن الاجتماعي. ولست ازعم أنني في بحثي هذا - رغم ما كلفني من مشقة - قد أحطت إحاطة تامة بكل تفاصيل هذا الموضوع، ولكن لعلها محاولة أرجو أن تتيح لي الأيام فرصة مواصلتها لتحقيق تلك الصلة الوثقى بين علم التاريخ وعلم الاجتماع.
فؤاد عوض واصف
ليسانس في الفلسفة
هذا العالم المتغير
للأستاذ فوزي الشتوي
جراحة القلب ومعجزتها
هي معجزة جديدة في عالم الطب. فلم يعد الرصاص الذي يصيب القلب من العوامل التي لا علاج لها. وقد تمت المعجزة خلال الحرب، وصقلت تجاربها على قلوب الجنود الذين كانوا ينقلون بالعشرات إلى المستشفيات، وفي قلب كل منهم أو في رئتيه رصاصة أو شظية. كان الطبيب في الماضي يكتفي من مجرد رؤياها بأنه لا آمل في حياة المصاب.
أما الآن فتيسر للأطباء إنقاذ مئات الأرواح التي كان الطب القديم يفقد الأمل في حياتها. وهؤلاء الأفراد الذي استخرجت الأجسام الصلبة من قلوبهم أو من رئاتهم يعيشون في أتم صحة ويواصلون حياتهم كأن رصاصة لم تخترق قلوبهم أو تمزق أنسجة رئاتهم.
وليست معجزة اليوم جراحية في كل تفاصيلها فجزء كبير منها من عمل المريض نفسه، ومن المعونة التي يلقاها الطبيب من المصاب ذاته. فعندما تخترق إحدى الرئتين مادة غريبة تتوقف هذه الرئة عن العمل. ويعيش المريض فترة يتنفس برئة واحدة. وهي سنة طبيعية في الإنسان تمنع عنه الإحساس بالألم المبرح.
فإذا أزيل الجسم الغريب من الرئة فواجب المريض أن يتعلم كيف يتحرك ذلك الجزء الذي توقف عن أداء عمله. وهي مسألة لا يتيسر لي أو لك إنجازها، فهي تحتاج إلى بعض المران الذي عرفه الأطباء لتحريك تلك الرئة المضربة عن العمل، فإن هي إلا فترة حتى يتعلم المصاب كيف يعيدها إلى سابق واجبها.
وعمليات القلب الجراحية من العمليات الدقيقة الشاقة فيتحتم أن يحدد الطبيب مكان الجسم الغريب من القلب تماما حتى يصل إليه مشرطه ويقبض عليه ملقاطه من أصغر فتحة. ويستلزم هذا أن يجري للمصاب كشف بالأشعة في عدة أوضأ قد تصل إلى العشرة وعلى ضوء هذه الصور يحدد الجراح موقع الجسم الغريب وحجمه بالضبط.
ووصف أحد الكتاب إحدى العمليات التي شاهدها لاستخراج رصاصة من عيار 30 مليمترا من قلب أحد الجنود فأدهشه ما بدا عليه من هدوء وثقة برغم أنه كان يعرف ما سيحدث له فلما نقل إلى غرفة العمليات حقتنه الطبيبة المختصة بالمخدر فلم يلبث أن راح
في سبات عميق. وعندئذ اعمل الجراح مبضعه لمدة ساعة ونصف ساعة استخرج خلالها الرصاصة وما صحبها من أنسجة القماش التي غاصت في القلب معها.
وأتم الجراح عملية التنظيف ثم طهر كل جرح بالبنسلين قبل تضميده وأعادته إلى اصله.
وتلقى أطباء آخرون المصاب يزودونه بما يحتاج إليه من دم جديد بدل الذي فقده ويعالجونه بالأكسوجين لكي يفيق وغير ذلك من الوسائل التي تحتفظ بجسمه في حالة جيدة، فمن العوامل الهامة أن يتمتع المصاب بحالة نفسية هادئة وقوة بنية تساعده على مغالبة إصابته. فلو توافر هذان العاملان فإن المصاب لا يلزم الفراش أكثر من يوم واحد يسمح له بعده بالمتنزه في الحديقة حتى يتم شفاؤه.
وعندما تنتهي العملية الجراحية تبدأ عملية التنفس، وقد درب الأطباء عددا كافيا من الجنود لكي يتولوا تدريب المصابين الجدد فيعلمونهم كيف يوقظون الأجزاء المصابة ويرسلون فيها الحركة والحياة
وتخصص في عمليات الصدر بكافة أنواعها عدد من الأطباء والطبيبات الأمريكيين تحول إليهم جميع إصاباته فتشغلهم طول وقتهم. وقد مضت عليهم عدة شهور فلم تفشل معهم حالة واحدة بل دخل المستشفى آلاف الجنود الفاقدي الأمل في الحياة فخرجوا منه ممتلئين بالصحة والعافية.
أما مبدأ أطباء ذلك المستشفى فكما قال الجراح هاركن (كان هدف جراحة الصدر في الحرب الماضية إنقاذ الأرواح فحسب أما هدفنا، فهو معرفة احسن السبل لكي يعود المصابون إلى الحياة وهم على احسن حال وفي اقصر وقت).
وعلى ضوء هذا المبدأ سار الأطباء في تجاربهم ونجحوا في تأدية واجباتهم دون أن يصبهم ملل أو كلل وكانت أول واجباتهم رفع الروح المعنوية في المصابين واستغلال حبهم في الحياة لكي يصلوا إلى الشفاء من إصاباتهم المميتة ودخلت الجراحة في مرحلة جديدة وهي جهد المريض نفسه.
تخرج معدتها لتأكل
من الحيوانات الغريبة نجمة البحر ولكن الأغرب هي الطريقة التي تتغذى بها لأنها لا تأكل بفمها بل تخرج معدتها للحصول على طعامها.
وعندما تجوع نجمة البحر تزحف في قاع البحر إلى أن تجد حيوانا يسهل عليها التهامه. ومن هذه الحيوانات المحار بأصدافه القوية. ولكن نجمة البحر تلتف حول الصدفتين، وتثبت أقدامها بمصاصاتها على كل منها وتجذب الصدفتين لتفتحهما وتلتهم ما في الداخل. ويصر المحار طبعا على أن لا يأكل ولكن المقاومة ترهقه بعد حوالي 30 دقيقة وتنفتح الصدفتان.
ولنجمة البحر فم ولكنه صغير جدا بالنسبة للمحار فتخرج النجمة معدتها وتدخل فيها لحم المحارة وتتركها خارج فمها لحظة حتى يتيسر للإفرازات المعدية تفتيت لحم المحار وتحويله إلى سوائل يسهل تسربها إلى داخل جسم النجمة. وعندئذ تعود معدة النجمة إلى داخل جسمها لتبحث لها عن فريسة أخرى.
لمكافحة السل:
تيسر لأطباء السل سرعة الكشف على مرضاهم بفضل الجهود التي بذلها بعض المهندسين إذا أتاحوا لهم الحصول على ست صور مختلفة للصدر في الدقيقة الواحدة أي ضعف العدد الذي كان متاحا لهم بالأجهزة القديمة. وبذلك سهل على الوحدة الطبية الواحدة الكشف على ألف مريض كل يوم وفحصه فحصا جيدا.
ولا يعجب القارئ إذا عرف أن السل وانتشاره من الأمراض التي تهدد الدولة الغربية. فإن الحرب ونقص الأغذية عرضت أكثر من 70 % من أفراد الشعوب للإصابة بهذا المرض مما دعا المهتمين بالشؤون الصحية إلى اعتبار مكافحة السل من أول أهداف البلاد القومية.
وتتلخص هذه الطريقة في عكس صور الصدر على لوحة باستخدام عين كهربائية تضبط كمية الضوء المطلوب بطريقة آلية ويحدد التعديل أيضاً زمن عرض اللوحة الحساسة للضوء أيا كان حجم جسم المريض وأيا كانت الأجسام الغريبة أو المعتمة داخل صدره.
وتمتاز هذه الطريقة برخصها وكمال وضوحها برغم صغر الصور التي تنتج عنها.
تجارب على البنسلين:
توالى الهيئات الطبية في الخارج تجاربها لاستخدام البنسلين في علاج الأمراض أيا كان لونها. وقد أجرى معهد ميو الطبي تجربة جديدة على الأمراض الخطيرة التي تنتقل إلى
الإنسان من الحيوان عن طريق الميكروب المعروف باسم انثراكس. وهو من الجراثيم القوية التي لم يفلح في القضاء عليها كثير من العقاقير المعروفة مثل السلفا وسم الميكروب نفسه.
ويحمل هذا الميكروب عادة في فراء الحيوانات ثم ينتقل منها إلى الإنسان فيصيبه بعدة أمراض خطيرة عجز الطب في كثير من الأحوال عن شفائها.
وقد جرب البنسلين على الفيران فوجد أنها تكتسب المناعة ضد الإصابة بأمراض الانثراكس القتالة. وأثبتت التجارب أن الفيران تحتفظ بصحتها نسبيا إذا حقنت بجرعات قتالة من الانثراكس ثم عولجت بالبنسلين ولو بعد أصابتها بست عشرة ساعة فإن تلقت العلاج سريعا بعد ساعة واحدة من الإصابة فإن نجاتها تكون أكيدة واستعادتها لصحتها كاملة.
وجرب استخدام البنسلين في علاج الضعف والالتهاب الرئوي فشفي بعض المصابين بعد عشرة أيام من بدء العلاج.
ولا يعطي البنسلين في هذه الحالة كما هو بل يطحن إلى ذرات متناهية الدقة على ألواح زجاجية. فإن الذرات الكبيرة يتعذر توغلها في أجسام المرضى فلا تصل إلى الميكروبات وتقتلها.
إرسال الخطابات بالكهرباء
اكتشفت إحدى شركات الكهرباء طريقة حديثة لإرسال الخطابات من مدينة إلى أخرى في اقصر وقت وبغير أن تقع عليها عين إنسان لأنها ترسل على الموجات الكهربائية. فعند ما يتناول مكتب البريد الراسل الرسالة يضعها داخل آلة ضاغطة من المطاط ترسل إلى المحطة المرسل إليها علامات بيضاء أو سوداء تعكس بالات خاصة تحل رموزها وتكون الرسالة الأصلية بالشكل الطبيعي.
وليس لهذه الرسائل غلاف منفرد بل غلافها وخطابها واحد على مثال الأشكال المعروفة الآن التي تطبق وتلصق فتكون الرسالة والخطاب.
وعندما تصل الرسالة إلى مكتب البريد المختص وتحل رموزها يتولى عامل البريد العادي إيصالها إلى أصحابها. وتمتاز هذه الطريقة عن البريد المصور بأنها لا تحتاج إلى أفلام
تطبع وترسل. وهي ليست أيضاً بالراديو المصور لأن أدواتها أقل منه دقة وإن كانت تستعمل في الغالب أكثر نظرياته.
ويتوقع مديرو الشركة التي توصلت إلى هذا الاكتشاف صقلها وتيسير استعمالها في التجارة في أمد قريب حتى تكون عملية الإرسال بسيطة يستطيع الموظف العادي أداءها.
سر حياة النبات
يخطو العلم خطوة جديدة لكشف أسرار الحياة النباتية بدراسة ما يحدث من تطورات داخل البذرة، ويتولى هذا البحث أحد المعامل في جامعة كورنل بمعالجة سر الحياة النباتية بوسائل خاصة تكشف نموها وتغيرها.
وتوصل العلماء خلال دراساتهم من اكتشاف عامل يوقف نمو النبات ويجعله في شبه حالة نوم. وهذا العامل مقيم في الأنسجة التي تغذى الجسم الحي من النبات. وتمكنوا أيضاً من قتل هذا العامل فأدت أبحاثهم إلى نتائج ذات أهمية كبيرة. ففي بعض البذور تيسر لهم الإسراع بإنماء النبات بأن فصلوا العامل الذي يعمل على توقف الإنبات في بعض فترات السنة.
ويعمل هؤلاء العلماء على فحص هذا العامل في مختلف النباتات، ومدى تأثيره على نموها، وطرق القضاء عليه بغير أن تتأثر الأجزاء الحية من البذور. وتشمل التجارب الذي يؤديها العامل الآن على 500 بذرة.
فوزي الشتوي
السراب الثاني
للدكتور إبراهيم ناجي
لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا
…
ولا لِقلبك عن ليلاكَ أنباء
جفا الربيع ليالينا وغادرها
…
وأقفر الروض لا ظل ولا ماء
يا شافيَ الداء قد أوْدى بيَ الداءُ
…
أما لذا الظمأِ القتال إرواءُ
ولا لطائر قلب أن يقر ولا
…
لمركب فزع في الشط إرساء!
عندي سماء شتاء غيرُ ممطرة
…
سوداء في جنبات النفس جرداء
هوجاء آونةً خرساء آونةً
…
وليس تخدع ظني وهي خرساء
فكم سجا الليل إلا هامس قلق
…
كأنه نفسٌ في الليل مشّاء
أأنت ناديتِ أم صوتٌ يخيل لي؟
…
فلى إليكِ بأذْنِ الوهم إصغاء
لبيكِ لو عند روحي ما تطير به
…
وكيف ينهض بالمجروح إعياء
لمنْ قِيامي وبعثي هذه صورٌ
…
لا تصطبي وتماثيلٌ وأزياء
ومعرضٌ أجوف المعنى وأسماء
…
مذ آذَنتْنا بهذا البين أسماء
يا ليل! كل نهار ميّت فإذا
…
ناديتِ قام كما للبعث إحياء
وليس يبلى نهار في هواك مضى
…
هيهات ينسيه إصباح وإمساء
طاب اللقاء به لاثنين فانفردا
…
فتى به سقم بادٍ وحسناء
جمالها توبة الدنيا وغُرتها
…
كفارة عن ذنوب الدهر بيضاء
وشعرها الفاحم انسابت جداوله
…
تكاد تسطع حسناً وهي سوداء
نامت به خٌصلٌ واسترسلت خصل
…
لها وللعاج خلف الليل إغراء
توهجتْ شمس ذاك اليوم واتقدت
…
كأنها شعلة في الأفق حمراء
تفرق الناس حول الشط واجتمعوا
…
لهم به صخبٌ عالٍ وضوضاء
وآخرون كسالى في أماكنهم
…
كأنهم في رمال الشط أنضاء
تحَّللوا من قيود العيش وانطلقوا
…
لاُ همْ أسارى ولا فيهم أرقّاء
تنزّل الدهر يوماً عن مشيئته
…
وحكمه فلهم في الدهر ما شاءوا
هُمُ الورى قبل إفساد الزمان لهم
…
وقبل أن تتحدى الحب بغضاء
لم يُخلقوا وبهم من نفسهم عِلَلٌ=لكن حضارة هذا العالم الداء
ضاقت نفوس بأحقاد وقد سلمت
…
لو أنها كسماء البحر روحاء
ما لي بهم أنتِ لي الدنيا بأجمعها
…
وما وعتُ ولقلبي منكِ إغناء
لو كان لي أبدٌ ما زاد عن سنةٍ
…
ومُدّة الحلم بالجفنين إغفاء
أرنو إليك وبي خوفٌ يساورني
…
وأنثنى ولطرفي عنكِ إغضاء
إذا نطقتُ فما بالقول منَتفَع
…
وإن سكت فإن الصمت إمشاء
أحبك القلب حباً ما هتكت له
…
سرّا ولا مستطاعٌ فيه إخفاء
وأّيما خطرة فالريح ناقلةٌ
…
والروض حاكٍ لها والأيك أصداء
يا ليل! مَنْ علْم الأطيار قصتنا
…
وكيف تدري الصَّبا أنا أحباء
لما أفقْنا رأينا الشمس ماثلة
…
إلى الوداع وما للبين إرجاء
شابت ذوائب وانحلت غدائرها
…
شهباء في ساعة التوديع صفراء
مشى لها شفقٌ دام فخضبها
…
كأنه في حواشي الشعر حناء
يا من تنفس حرّ الوجد في عنقي
…
كما تَنّفسُ في الأقداح صهباء
ومن تنفستُ جر الوجد في فمه
…
فما ارتويتُ وهذا الريّ إظماء
ما أنتَ عن خاطري بالبعد مبتعد
…
ولن تُواريك عن عينيّ ظلماء
ناجي
السعادة
للمرحوم أبي القاسم الشابي
ترجو السعادة يا قلبي! ولو وجدت
…
في الكون لم يشتعل حزن ولا ألم
ولا استحالت حياة الناس أجمعها
…
وزلزلت هاته الأكوان والنظم
فما السعادة في الدنيا سوى حلم
…
ناء تضحى له أيامها الأمم
ناجت به الناس أفهام معربدة
…
لما تغشتهم الأحلام والظلم
فهب كل يناديه وينشده
…
كأنما الناس ما ناموا وما حلموا
خذ الحياة كما جاءتك مبتسما
…
في كفها الغار أم في كفها العدم
وارقص على الورد والأشواك متئداً
…
غنت لك الطير أو غنت لك الرحم
واعمل كما تأمر الدنيا بلا مضض
…
والجم شعورك فيها! أنها صنم
فمن تألم لم ترحم مضاضته
…
ومن تجلد لم تهزأ به القسم
هذي سعادة دنيانا! فكن رجلا
…
أن شئتها - أبد الآباد يبتسم!
وإن أردت قضاء العيش في دعة
…
شعرية لا يغشى صفوها ندم
فاترك إلى الناس دنياهم وضجتهم
…
وما بنوا لنظام العيش أو رسموا
واجعل حياتك دوحاً مزهراً نضراً
…
في عزلة الغاب ينمو ثم ينعدم
واجعل لياليك أحلاماً مغردة
…
إن الحياة وما تدوى به حلم!
أبي القاسم الشابي
على الشاطئ
حمام الشمس
للأستاذ إدوار حنا سعد
قف بشط الجمال واحسد رماله
…
عانقت جسمها وضمت ظلاله
إنها كالربيع حساً ومعنى
…
شابهتْ سره وحاكت جماله
غادرت ثوبها ولم تبق منه
…
فوق بعض الأعطاف غير فضاله
وتعرت كالورد حان قطافاً
…
أو جنى الروض إذ يوافي كماله
وتهادت بالشط تصلي العذارى
…
غيرةً مُرةً وتصمى رجاله
سكر الموج من صبا وجمال
…
فلوى قيده وفك عقاله
يتبارى للشط سبقاً إليها
…
وهي تلهو لم تحسن استقباله
لاطمٌ بعضه من الشوق بعضاً
…
ساكبُ في هديره إعواله
كلما شارفَ الحبيبَ وأوفى
…
في حماهُ الرحيب يلقى رحاله
خانه صبره وخارت قواه
…
فتولى مجرجراً أذياله
لست أدري أمن وبي وتوانٍ
…
أم لفرط التقديس هاب وصاله
قد أطلت التحديق في حسنك العا
…
ري كما حاط ناحتٌ تمثاله
وبكرهي أهواك هل في فؤادي
…
فلذة تجهل الهوى ونصاله؟
فاعذريني فقد أضعت شبابي
…
شاعراً يتبع المنى وخياله
همت والقلبَ بالجمال نغنى
…
وعرفنا الغرام في كل حاله
فسئمنا صدوده ووصاله
…
ومللنا وفاءه ومطاله
ويحَ قلبي إذا صبوت تجنى
…
وإذا ما اعتزلت مل اعتزاله
حينما للمرة الصبا وجمالٌ
…
عبقري لم نرتقب أمثاله
سكنت نفسه وقرت مناه
…
وجفا نسكه وعاف احتماله
هاك صدري أحنى من الرمل صدري
…
آه لو ذقتِ صفوَه وخلاله
إن فيه حرارةَ الشمس والرم
…
ل وليلا مغرداً وهلاله
(الإسكندرية)
أدوار حنا سعد
القصص
قصة مصرية:
حزن وسرور. . .
للأستاذ نجيب محفوظ
كانت أسرة هانئة البال، يرعاها فتى في الخامسة والثلاثين، وتتعهدها بالعناية والتدبير أم حنون، وتعيش في كنفها أخت في مراقي الشباب الأولى. لم تكن من الثروة في شيء، فمرتب الفتى لا يجاوز الخمسة عشر جنيها وهو كل مالها. ولا كانت غفل الزمان عنها، فقد فقدت راعيها الأول الأب والابن في المراحل الأولى من التعليم الثانوي وأخته في مدارج الطفولة، فلاقت متاعب شديدة من الحاجة والضنك قبل أن بلغت بر الاستقرار والأمان. أنها كانت تعودت الشدة والبؤس على عهد الكفاح الذي أعقب وفاة الأب، فانتقلت بتوظيف الابن إلى حال من اليسر لم تكن - على بساطتها - تحلم بمثلها، وصارت أسرة هانئة البال، ودام لها هذا الحال خمسة عشر عاما، حتى أذنت مظاهرها بما هي مقبلة عليه حتما من التغيير والتطور وفق ما تقتضيه طبائع الأشياء وسنن الحياة. ففتاها بلغ حدا من العزوبة لا يجوز أن يتعداه، وإحسان أوفت على العشرين، فبات زواجها ينتظر اليوم أو غدا، وبدت الأم في شيخوختها تحث الخطو في مفترق الطرق. حقا أن كل شئ ينذر بالتغيير وغدا تنقسم هذه الخلية الواحدة فتصير خليتين، وتأخذ كلتاهما نصيبها المستقل من الحياة والنمو المتكاثر. وجاء الغد ولكن بما لم يكن في حسبان. فقدت هذه أسرة الشاخصة إلى الأفق بعين الرجاء عاهلها الأوحد. . . ذهب الرجل بأسرع مما يخطر على بال في عزة الشباب وعنفوانه. فما كان إلا أن وجد دملا في ساقه اليسرى، وأهمله أياما فبرز وغلظ ثم عالجه بإبرة محماة ففتحه، ولكنه لم يوله ما هو أهل له من العناية والتنظيف، فورم مرة أخرى وامتد ورمه شيئاً فشيئا، وسرى الألم في الساق كلها، فمضى يتصبر على آمل أن تزول تلك الإعراض وحدها، حتى أقعده الألم عن الحركة، واستدعي عند ذلك الطبيب فأشار في الحال ببتر الساق. . . وحمل إلى المستشفى وأجريت العملية فانتهت بغير السلامة، واسلم الروح ومضى بصحبته ورجولته ونفعه. وأوشكت الأم العجوز أن
تجن. كانت تطمع أن يواريها في التراب بعد عمر طويل، فوارته في التراب هي بعد عمر قصير، وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيدا بأسرته الجديدة، فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط. أما إحسان، فكانت أشقى أخت وأشقي فتاة، فقدت - أو هكذا خالت - الأمل الحاضر والأمل المتخايل في غضون المستقبل. وترك الرجل معاشا جنيهين وربع جنيه، ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيها التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد. ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن اليم. إلا أن الله الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة. فقد كان لإحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها. وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال - إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب - وكانت إلى هذا حولاء، فاختفى حسنها وراء أهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم؛ وربما أدرك الناظر إليها أن شبابها غير عاطل من جمال، ولكنه جمال مختنق تأبى عليه أثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر، فجسمها لطيف التكوين، إلا أنه ذابل، ووجهها مستدير حسن القسمات، إلا أنه مصفر عليل، وعيناها صافيتان واسعتان، ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون. ثم جاء موت أخيها علة على علة فانهارت قواها وغلبها الحزن، فازدادت ضعفا على ضعف وشحوبا على شحوب، وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة. ذاك كانت حلها حين فتحت لها صدرها عمتها، ثم أخذ كل شئ يتغير من بعد ذلك، بدا هذا التغير في الأشهر الأولى التي أعقبت الوفاة، ثم صار طابع الحياة الجديدة وأملها المرموق، ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل، فاقبل إليها يدعون لها ويقولون لامها (ربنا يفرحك بإحسان)، وغمروها بالعطف والحب والدعاء، ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا. أما الذي فازت به حقا، وكان فوزها به عظيما، لأنه بعثها بعثا جديدا، فهو قلب عمتها، تلك المرأة الطيبة المحبة التي تتفجر نفسها رحمة وحنانا، أحبتها كما كانت تحبها، وأحبتها كما كانت تحب أخاها، وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التي حرمتها، فمن أي هذا الحب أن قبلتها يوما وقالت لها:
- لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى وقد المها ما تراه في وجهها من الشحوب والذبول
- لا يرتاح لي بال إذا تركت هذا المرض يهتصر شبابك الغض. . .
ومضت بها إلى الطبيب، وتفحصها الرجل بعناية ووصف لها حقنا ونصحها بتبديل الهواء، فأحضرت المرأة الحقن، ثم شدوا الرحال جميعاً إلى بلبيس - بلدة العمة - وهناك بين أحضان الريف الحنون وهدوئه الشامل في الهواء النقي والشمس الصاحية سارع إليها البرء ومشى في أعصابها الشفاء، فانتهت النوبات التي كانت تعتريها، ونجت مما كان يشقي حياتها من القلق والمخاوف، وسرعان ما امتثل جسمها الهزيل واعتدل قدها وجرى في وجهها ماء الشباب ورونق الصبا وجاذبية الأنوثة. وسرت العمة بما رأت، وكأنها بستاني يجنى ما غرست يداه لأول مرة، وأطمعها هذا الظفر بالمزيد، فحدثت نفسها:(آه لو يذهب هذا الحول. . . فأي عينين تكونان!) ولكن ما الذي يمنع هذه الأمنية من أن تتحقق. . . لقد سمعت أن من أطباء العيون من يعالج الحول ويرد البصر سالما. ولم يقعدها التردد فقفلت هي وآسرتها الجديدة إلى القاهرة وقصدت إلى كبير من أطباء العيون فأملها خيرا وأجرى العملية فنجحت نجاحا باهرا فاق كل تقدير. واستوت عينان فطرتا على الميل والانحراف، وأخلى الحول مكانه لحور فاتن، ونظرة حلوة تقطر ملاحة، ونظرت إحسان في المرآة فرأت وجها جميلا لا عهد لها به، يحسد على ما حبته الطبيعة من الحسن والجمال، فانبهرت الفتاة، واستخفتا السرور، وتناست أحزان الماضي وهمومه، وتفتح صدرها للحياة كما تتفتح الزهرة عانقها أول شعاع لشمس الربيع، وابتاعت لها عمتها أبهى حلل وأليقها بجسمها اللدن، فتبدت في ثوبها الأسود النفيس في بهاء العاج ورونقه، وأبرزتها من خدرها فقدمتها إلى أبهاء الاستقبال في بيوت المعارف والجيران، وكانت تقول لها وهي ترمقها بعين الحب والإعجاب:
- لكم يشرح صدري ويسر قلبي إذا جاءنا العروس المدخر غدا. . .!
ولم يتثاقل هذا الغد ولا تأخر العريس طويلا، فجاء يطلب يدها البضة، ولما علمت الأم سر فؤادها المكلوم، ودارت دمعة ترقرقت في عينيها حين ذكرت ما ادخره الفقيد من مال لهذا الزواج ولزواجه هو أيضاً
وباتت إحسان تلك الليلة في سرور عظيم بل كانت اسعد لياليها
وعندما رنق النوم بجفنيها في ساعة متأخرة، رأت فيما يرى النائم حلما مؤثرا، رأت أنها
عادت إلى الشقة التي كانوا يقيمون بها قبل وفاة شقيقها، وأنها في حجرته بالذات وعلى فراشه، ورأت في وسط الحجرة نعشا ملفوفا في الحرير الأبيض، يجلس عل رأسه شيخ كبير في عباءة سوداء وعمامة بيضاء، وكانت تبكي وتكابد ضيقا يكاد أن ينشق به صدرها، وكأنما الشيخ رق لها فوجه إليها الخطاب متسائلا:
- لماذا تبكين؟
فقالت وقد أثر فيها عطفه فانهالت مدامعها:
- أخي. . . أني أبكي أخي. . .
فأومأ الشيخ إلى النعش وقال بهدوء:
- أنه يرقد ها هنا
فحنت رأسها حتى تساقط الدمع على حجرها وقالت بصوت تختنقه العبرات:
- اعلم ذلك وا أسفاه
فسألها مبتسما:
- أتحبين أن يعود إليك؟
فنظرت إليه بعينين لا تصدقان وقد كفت عن البكاء وتساءلت:
- أتستطيع ذلك حقا؟
- نعم بغير شك
فقال بلهفة ورجاء:
- رد إليه الحياة. . . أعده إلينا
ولم تتمالك نفسها، فنهضت قائمة يلعب بفؤادها الأمل؛ فقال الشيخ بهدوئه الذي لا يفارقه:
- ليس الأمر باليسر الذي تتصورين، فلابد من ثمن يؤدي
- أي ثمن. . . وهل يغلو لقاء أن يعود أخي؟!
فهز الرجل رأسه المعمم وقال:
- إذا رد إلى الحياة، وهذا على هين، فستردين أنت إلى حالتك الأولى، يعاودك المرض ويعتريك الذبول والاصفرار والحول، ولا يلبث حتى يسترد ماله فتفقدي خطيبك!
وعلاها وجوم، وشعرت بثقل الكابوس على صدرها، فرشح جبينها عرقا وزاغ بصرها.
فابتسم الشيخ وسألها كالمتهكم:
- إيه. . هل أعيده إليك حقا؟
رباه. . . ماذا تقول؟ هل يمكن أن تنكص عن الجواب؟ وقالت وهي تزفر:
- نعم أعده
وتغير وجه الرجل، فلاح في محياه الجد والاهتمام، ووثب قائماً، ثم تحول إلى النعش يفك أربطته ويرفع غطاءه دون تردد وألقت الفتاة ببصرها إلى النعش لتستقبل العائد العزيز. . . ولكن اشتدت وطأة الكابوس وثقله، ورأت نفسها تتغير في مثل لمح البصر فترد إلى حالتها الأولى، فاستردت صورتها العليلة وبشرتها الشاحبة وعينيها القبيحتين، وغابت كل المسرات: فلا نضارة ولا شباب ولا مال ولا زواج. . . وشعرت بإعياء وخور فلم تعد قدماها بقادرتين على أن تحملاها، فسقطت جاثية على ركبتيها، وعيناها لا تتحولان عن النعش. . . ثم غلبها البكاء، واستيقظت عند ذاك، فرفعت رأسها عن الوسادة، وتحسست يداها وجهها والفراش، لتتأكد من أنها يقظة، وإن ما كانت تكابده حلما من الأحلام، وكان قلبها يدق بعنف اضطرب معه ما فوق القلب من قميصها الأبيض، ثم أسلمت رأسها مرة أخرى إلى الوسادة وهي تتنهد تنهدا عميقاً، وما لبثت أن أجهشت في البكاء، لا لأنها مسخت فردت إلى حالتها الأولى، ولكن لأنها ذكرت أخاها الراجل، فثارت كوامن أشجانها. . .
نجيب محفوظ
الكتب
أربعة كتب
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الحياة الزوجية في الإسلام - الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
- نظرات في الحياة والمجتمع - الإنكليز كما عرفتهم. . .
1 -
الحياة الروحية في الإسلام
(للدكتور محمد مصطفى حلمي)
في هذه الفترة المادية التي نعيش فيها على سمع التاريخ الحديث وبصره، وفي هذا الجو المختنق بأبخرة المادة الكثيفة التي تكاد تغشى القلوب. وفي وسط هذا الصراع الجبار بين الرغبات المادية الجامحة نقرأ هذا الكتاب الذي تجد فيه النفس اطمئنانها إلى حياة الروح في الإسلام.
ويظهر أن المؤلف نفسه - على غير معرفة لنا به - فيه نزعة من هذه الحياة الروحية النبيلة التي تعلوا عن المادة؛ ويتبين ذلك من سطور كتابه ومن المقدمة الواضحة التي قدم بها بين يدي الكتاب ، فهو لا يرمي إلى كشف النقاب عن الحياة الروحية فحسب، ولكنه يرمي أن يكون وراء الكشف عنها (ما يعين على كبح جماح الشهوة، وكسر حدة المادة، وتمكين الخلف من الاستجابة لهذا الدعاء الروحي الصادق الذي ردده السلف).
وواضح من هذا الكلام أن للمؤلف غرضين: الغرض العلمي الذي كان موفقاً في إبرازه والنهج به على أقوم سبيل؛ والغرض الخلقي، وهو غرض نبيل صرح به في المقدمة فكشف لنا عن روح نبيل في تناول الموضوعات العلمية.
والحق أن العلم وحده لا ينفع ما لم يعن على إشاعة الخلق الجميل. ولا تكفي دراسة النظريات وتحديد المنهج والمعرفة بأصول البحث ما لم يكن هناك هدف سام من الأخلاق. وهنا تظهر القيمة العلمية لدراسة العلوم.
ويرد المؤلف بدء الحياة الروحية في الإسلام إلى تحنث محمد عليه السلام في غار حراء
قبل أن ينزل عليه الوحي - أي قبيل الإسلام - وكأنه بذلك يريد أن يجعل بروز التصوف والروحانية الإسلامية نابتة في قلب الجزيرة العربية وفي صميم كفوفها وأغوارها. ولست أرى باسا أن تختلف مصادر الحياة الروحية في الإسلام ما دامت الأديان كلها تهدف إلى غرض واحد هو صفاء الروح.
وفي الكتاب فصول عن النساك والزهاد والعباد والتصوف ونشأته والنزاع بين الصوفية والفقهاء، والغزالي وطريق المعرفة عنده، وما إلى ذلك من الأبحاث التي تدل على أن المؤلف دارس الموضوع الروحية الإسلامية دراسة سعة وشمول.
وأسلوب الكتاب واضح ينساب في سهولة ويسر، وبذلك حقق
غرض الجمعية الفلسفية المصرية من تبسيط هذه الموضوعات
لجمهور القارئين، إلا أن فيه تكراراً في بعض المواطن
وخاصة في الفصل الثاني من الكتاب. وعندي أن التكرار لا
يملح من كل كاتب، فخير للمؤلف الفاضل لو أنه استقل
بأسلوب يكون هو صاحبه ولا يكون فيه من المقلدين. 2 -
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
(للدكتور أبو العلاء عفيفي)
وهذا كتاب آخر من كتب الجمعية الفلسفية المصرية التي يشرف على إصدارها الأستاذان الجليلان الدكتور علي عبد الواحد وافي والدكتور عثمان أمين؛ وهما من أكثر رجالنا نشاطا في التأليف وأشدهم انكبابا على العلم. والكتاب لأستاذنا الدكتور أبو العلاء عفيفي أستاذ الفلسفة بجامعة فاروق الأول. وهو من سبيل الكتاب الأول ومن بابه. فلحياة الروح فيه مجال كبير. وقد وفق المؤلف فيه إلى حد كبير فقد أزاح الستار عن طريق (الملامتية وأهل الفتوة) ورجع في ذلك إلى طائفة من كتب التصوف بعضها بالعربية وبعضها باللغات الأجنبية.
والكتاب قسمان: قسم عن مذهب الملاميتة ونشأته في الإسلام والصلة بين تعاليم الملامتية وتعاليم الصوفية وأهل الفتوة. والقسم الثاني نص رسالة الملامتية التي ألفها أبو عبد الرحمن السلمي من العارفين بأسرارهم.
وفي القسم الأول تحقيق كثير لا يصدر إلا من رجل كالدكتور أبي العلاء عفيفي له في البحث العلمي مقام محمود. والحق أنه وفى الكلام عنه هذا المذهب التصوفي توفية منعه تواضعه من أن يعلى من قيمتها. فقد أشار في المقدمة إلى أن الصورة العامة التي صور بها هذا المذهب (قد يعوزها الكثير من التفاصيل)
وخير فصول الكتاب هو الفصل الخاص بالتحليل النقدي لأصول الملامتية. فقد تكلم عن فلسفتهم في النفس ومحاربتهم للرياء، واتهام النفس ولومها، والرياء في الأعمال والأحوال والعلم. وهو كلام يدل على فهم صحيح للمذهب وطول تتبع له ووصول إلى أعماقه.
وإذا كان المستشرق الأستاذ ريشارد فون هارتمان قد سبق الدكتور عفيفي إلى البحث في رسالة السلمي نفسها فإن أستاذنا المصري قد تناول في رسالته القيمة المذهب الملامتي نفسه والفرق بينه وبين تعاليم الصوفية، وتاريخ هذه الفرقة ونشأتها.
وهي أبحاث تدل على سعة في العلم وعلى صبر في البحث وعلى قراءة كثيرة لكتب التصوف والمذاهب التي خرج منها المؤلف بهذا المحصول العظيم.
- 3 - نظريات في الحياة والمجتمع
(للأستاذ علي أدهم)
مؤلف هذا الكتاب أديب يمتاز بمزايا كثيرة لابد منها لمن يريد أن يكون في عالم الأدب أصيلا لا متبعاً. فهو يقرأ كثيراً في الأدب العربي والغربي؛ وهو يهضم قراءاته ويحسن هضمهما لأن معدته الأدبية صحيحة موفورة العافية؛ وهو قادر على معالجة الأدب المقارن بحسن أدراك وصحة فهم وقوة أسلوب.
أما إدراكه فيظهر من رؤوس الموضوعات التي يتناولها والتي يحسن الكلام فيها فينتقل بك من فكر إلى فكر، ومن موضوع إلى موضوع حتى يأتي على البحث إلى آخره، ولا يدع في نفسك شهوة لاستزادة وأما أسلوبه ففيه من القوة ما يؤدي به الأغراض احسن أداء، فلا
تحس ضعفا هنا ولا لينا هناك. ولكنك ترى الكلام مستويا مع الغرض علواً واتساقا.
وتقرأ الموضوع الواحد لعلي أدهم فتراه طائفا معك من أبي تمام إلى المتنبي إلى فرويد من غير أن تحس تكلفا في الانتقال؛ لأنه يصدر عن طبع وإحاطة.
ويغلب على كتابته ناحية الفكر والفلسفة. فهو أديب الفكرة لا أديب العبارة. وإن كانت عبارته في مكانها العلي من لغة العرب لأنه يقرأ كما قلت لك كثيراً ويفيد مما قرأ كثيراً
وفي موضوعات على أدهم لذة؛ لأنه يعرف كيف يختارها ويعرف كيف يعرضها؛ ويعرف في النهاية كيف يقنعك برأيه ويكسبك إلى صفه. وتحس وأنت تقرؤه أنك تقرأ أفكار الحكماء مجموعة في كتاب ومضمومة في أهاب، وهو مع ذلك متواضع، لا يدعي أنه من العلماء المختصين ولا من الحكماء الموهوبين (ولكني أحب أن أسير في أثار هؤلاء الهواة الذين راقهم أن يعرفوا أشياء عن الطبيعة الإنسانية، وشاقهم حب التطلع والاستبانة)
وهو في النهاية ليس خياليا ولا (يوتوبياً). ولكنه واقعي يصف الواقع ويعلل له.
4 -
الإنكليز كما عرفتهم:
(للأستاذ أمين المميز من رجال السلك السياسي العراقي)
تفضل الأستاذ الكبير الزيات فأعارني هذا الكتاب لقراءته والحديث عنه. ثم تفضل المؤلف الفاضل نفسه فأهدى أليّ نسخة منه عن طريق صديقنا الأديب الوفي السيد محيي الدين رضا، فأتيحت لي بذلك فرصتان لقراءة هذا الكتاب الطريف المفيد الممتع
ولقد عشت في إنكلترا حقبة من الزمان، فما ازعم لنفسي أنني عرفت من أحوال القوم وأمورهم وألوان الحياة عندهم ما عرفته من هذا الكتاب.
وكان مصدر المؤلف في كتابه شيئين: التجربة والقراءة فقد عاش في إنكلترا مدة وخالط أوساطها الراقية بحكم منصبه، كما خالط أخلاطا من القوم دون ذلك بحكم نيته في التأليف. وقرأ كثيراً عن الإنكليز وبلادهم وتاريخهم وعاداتهم مما كتبه الإنكليز أنفسهم، أو مما كتبه عنه غيرهم
ومن هنا كانت مراجع الكتاب كثيرة تبلغ بضع عشرات من الكتب لبضع عشرات من الكتاب أمثال بابكر وبرادلي وهاملتون وروم لانداو ومورتون وغيرهم
وفي الكتاب فصول عن الرجل الإنكليزي والمرأة الإنكليزية وحياة الإنكليز السياسية والاجتماعية، فإذا شئت أن تعرف شيئاً عن الدستور الإنكليزي والوزارة والميزانية ووزارة الخارجية ومجلس العموم ومجلس الأعيان والأحزاب الإنكليزية والإمبراطورية والدومنيون، فارجع إلى الفصل الثالث.
وإذا شئت أن تعرف شيئاً عن نظام الطبقات في إنكلترا والثروة والمهرجانات العامة وقصور العائلة المالكة والأعياد الدينية والوطنية والنادي وحياة الشوارع والملبس وآداب المعاشرة وغيرها فاقرأ الفصل الرابع
وليس الكتاب رحلة عابرة في بلاد الإنكليز، ولكنه دراسات علمية تاريخية بذل المؤلف فيها كثيراً من الجهد في المطالعة والقراءة والرجوع إلى المصادر، كما بذل كثيراً من الدقة في الملاحظة والمشاهدة والمعاشرة، حتى خرج الكتاب مرجعا من أوفى المراجع العربية عن حياة الإنكليز وتاريخهم
وإذا كان سبيل التقارب بين الشعوب هو حسن التفاهم بينها، فإن ذلك لا يكون إلا عن فهمها، فمتى صح الفهم صح التفاهم
ولا شك أن كتاب الأستاذ أمين المميز هو خطوة فسيحة موفقة في سبيل فهم الإنكليز، وبالتالي في سبيل التفاهم معهم
فأهنئه وأشكره على هديته، وأرجو له التوفيق في إخراج الجزء الثاني من كتابه الذي وعد به في هذا الجزء النفيس
محمد عبد الغني حسن
مات الإمام المراغي
في ليلة الأربعاء الماضي استعز الله بالإمام الأكبر الأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، فكان نعيه المفاجئ حدثاً بارزاً في الأحداث العالمية هفت له القلوب جزعاً، والتاعت له النفوس حسرة. والأسى على فقد الأستاذ المراغي عدل ما يعرفه العالم الإسلامي عنه من رسوخ القدم في العلم، وعلو المكانة في الأدب، وثقوب الفكر في الإصلاح، ونفوذ الكلمة في الدولة. والحق أن المراغي كان عالم جيله إذا أردنا من العالم الديني أن يكون عليماً أحوال العصر، خبيراً بسير الزمن، بصيراً بطبائع الناس، يوفق بين الدين والعلم في قصد، ويجمع بين الشريعة والمدنية في حكمة. وقد هيأة لهذه المزايا بعد الاستعداد الطبيعي فيه عوامل اجتماعية أهمها اتصالها المباشر بالموظفين الإنجليز في السودان أيام كان صاحب القضاء فيه. والموظفون الإنجليز في مصر والسودان كانوا الصورة الحقيقة للمدنية الغربية في سمو الخلق وحسن النظام وحرية الفكر وسداد المنهج، كما كانوا في الإدارة والسياسة الكمال الذي يظهر لك النقص واضحاً في شتى النواحي الاجتماعية المصرية؛ فكان من الطبيعي أن يطمح إلى هذا الكمال من طريق الإصلاح الديني والاجتماعي بحكم منصبه. كما فعل الإمام محمد عبده حين اتصل بالفرنسيين في المنفى وبالإنجليز بعد الاحتلال
ولقد كان موقفه في الإصلاح الديني من شيخه الإمام محمد عبده، كموقف اسماعيل الإصلاح المدني من جده محمد علي: كان موقف المتبع من المبتدع، والمقلد من المجتهد، والحائر المتردد من الزميع المصمم.
وكان الظن بالفقيد الكريم وقد ورث أكثر خصائص الأستاذ الإمام أن يؤدي رسالة الإصلاح على الوجه الذي يرتضيه العلم، ويقتضيه العصر، ويرتجيه الناس؛ ولكن الأسباب المعوقة من مهاواة السياسة، ومصانعة المعارضة، ومماطلة الحزم، واضطراب السلام في الخارج، وانقطاع الوئام في الداخل، حالت بين الشيخ وبين ما يريد حتى أتاه اليقين وهو على شك من استعداد النفوس لفكرة الإصلاح.
تغمده الله برحمته، وجزاه أحسن الجزاء على حسن بيته، وأخلف بالخير على أسرته وأمته.