الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 635
- بتاريخ: 03 - 09 - 1945
الشعر والقصة
للأستاذ عباس محمود العقاد
حين يقول القائل إن الذهب أنفس من الحديد يقرر شيئاً واحدا، وهو أن الحديد لا يدرك ثمن الذهب في سوق البيع والشراء، ولكنه لا يقرر إلغاء الحديد ولا استخدام الذهب في المصانع والبيوت بديلا منه، ولا يعني أن الذهب يغني عن الحديد أو عن غيره من المعادن في غرض من أغراضه
كل ما يقرره شيء واحد وهو أن سعر الذهب أغلى من سعر الحديد، ولا لوم عليه في ذلك، وإن قيل له إن الحديد أنفع وأشيع من معادن الزينة والتجميل
ونحن قد فضلنا الشعر على القصة في سياق الكلام عليهما من كتاب (في بيتي)، فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة، وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة
فلا يقال لنا جواباً على ذلك إن القصة لازمة، وإن الشعر لا يغني عن القصة، وإن التطويل والتمهيد ضرورتان من ضرورات الشرح الذي لا حيلة فيه للرواة والقصاصين
ويستطيع الأديب الأستاذ محمد قطب أن يقرر كما قرر في (الرسالة): (أن القصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها، لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها القارئ)
يستطيع الأديب هذا كما يستطيع أن يقول: (إن الحديد معدن نافع لا غنى عنه في تركيب الآلات وبناء البيوت، وليس الذهب أو الفضة أو الجوهر النفيس على اختلاف بمغن عنها، لأنه في ذاته أحد المعادن التي يحتاج إليها في الحرب والسلم وفي الصناعة والتجارة)
ولكنه بعد كل هذا يذهب إلى السوق ليشتري الحديد، فلا يبذل في ثمن الذهب والفضة، ولا ينكر على التاجر أن يزن له درهما من النقد برطل من الحديد المفيد
وقد قلنا في كتاب (في بيتي) إن القصاص قد يرجح الشاعر في الملكة الذهنية والقريحة الفنية، ولكننا لا نفضل القصة على الشعر من أجل ذلك كما لا نفضل الجميز على التفاح، لأن الأرض التي أثمرت الجميز كانت في حالة من الحالات أخصب وأجود من الأرض التي أثمرت التفاح
وينفعنا مثل الجماد هنا كما ينفعنا مثل النبات، فإن تاجر الحديد قد يكون أغنى وأقدر من تاجر الذهب، وقد يكون المنجم الذهبي أقل ربحا ومحصولا من المنجم الحديدي في حالة من الحالات، ولكن تقويم المعدنين لا يتوقف على تقويم التاجرين أو المنجمين، لأنهما لا يرجعان إلى نوع واحد من التقدير والحساب
ويقول الأستاذ محمد قطب: (قرأت سارة وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكنني لا أستطيع مع ذلك أن أقول إنني استغنيت به عن قراءة سارة، أو إن سارة ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة. . .)
فالذي نقوله إن الأستاذ غير مطالب بأن يقول هذا في باب الموازنة بين الروايات والقصائد، لأن موافقته على رأينا في الشعر والقصة لا تقتضيه أن يمحو القصة وأن يثبت الشعر وحده، وإنما يبقيهما ويبقي معهما الترجيح بينهما، ويقدم الشعر على القصة في هذا الترجيح
ولا حاجة به إلى جهد طويل للتسليم بفضل الشعر على القصة وفي هذه الموازنة، لأنه ينتهي إلى هذه النتيجة إذا سأل نفسه: أيهما أوفر محصولا من الشعور والثروة النفسية؟ ألف صفحة من الشعر المنتقى، أو ألف صفحة من الرواية المنتقاة؟
أما أنا فجوابي على ذلك جزماً وتوكيداً أن صفحات الشعر أوفر وأغنى. وأن معدن الشعر من أجل ذلك أنفس وأغلى من معدن الرواية
فإذا كان هذا رأيه فقد اتفقنا
وإذا لم يكن رأيه ورأيي متفقين في ذلك، فهذا هو الجمل وهذا هو الجمال كما يقولون في أمثالنا الوطنية: هات ألف صفحة من رواية أو عدة روايات، وخذ ألف صفحة من الشعر الرفيع، وارجع إلى حكم القراء فيما شعروا به بعد قراءة القصائد وقراءة الحكايات، أو قدر ما يشعرون به على سبيل الظن والتخمين، واحتفظ برأيك بعد ذلك كما تشاء
إنني لم أكتب ما كتبته عن القصة لأبطلها وأحرم الكتابة فيها، أو لأنفي عنها عمل قيم يحسب للأديب إذا أجاد فيه
ولكنني كتبته لأقول (أولا) إنني أستزيد من دواوين الشعر، ولا أستزيد من القصص في الكتب التي أقتنيها. وأقول (ثانياً) إن القصة ليست بالعمل الوحيد الذي يحسب للأديب،
وإنها ليست بأفضل الثمرات التي تثمرها القريحة الفنية، وإن اتخاذها معرضا للتحليل النفسي أو للإصلاح الاجتماعي لا يفرضها ضربة لازب على كل كاتب، ولا يكون قصارى القول فيه إلا كقصارى القول في الذهب والحديد: الحديد نافع في المصانع والبيوت، ولكنه لا يشتري بثمن الذهب في سوق من الأسواق
وكتب العالم الفاضل الأستاذ علي العماري المدرس بالأزهر يعقب على المقياسين اللذين ذكرتهما في الكتاب للمفاضلة بين الشعر والقصة، وهما (أولاً) أن القصة كثيرة الأدلة قليلة المحصول، و (ثانياً) أن الطبقة التي تروج بينها القصة لا ترتقي في الثقافة والذوق والتمييز مرتقى الطبقة التي تفهم الشعر وتشعر بمعانيه
وقد قال الأستاذ: (فالمقياس الأول تحدث عنه علماء البلاغة والنقد فكانوا يرون أن خير الكلام وأبلغه ما جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وهذا المقياس - وإن صلح للمفاضلة بين عبارة وعبارة، أو بين بيتين من الشعر، أو قطعتين من النثر في موضوع واحد، فإنه لا يصلح للمفاضلة بين القصة والشعر. وذلك أن فائدة القصة ليست مقصورة على الغرض الأساسي الذي وضعت من أجله، ولم تكن خمسون صفحة في قصة ما ولو بلغت الطبقة الدنيا في القصص تمهيدا لفائدة تقال في سطر أو أسطر، ولكن هناك التصوير الرائع والوصف الدقيق لحركات الأحياء ونوازع النفوس)
والذي نقوله للأستاذ الفاضل إن الموازنة بين الشعر والقصة لا تكون إلا بذلك الميزان الذي قال أنه لا يصلح للمفاضلة بينهما.
لأنك إذا قلت إن هذه القصيدة أبلغ من تلك لجمعها المعنى الكثير في اللفظ القليل، فإنك لا تفاضل بين فنين أحدهما قاصر بطبيعته عن مرتبة الفن الآخر، ولكنك تفاضل بين كلامين أحدهما فاضل في الفن نفسه والآخر مفضول فيه
أما إذا قلت إن الشعر أفضل من القصة، لأن الشعر من شأنه أن يجمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، فتلك هي المفاضلة بين طبيعة الشعر وطبيعة القصة، وإن بلغت في بابها غاية الإتقان
ونرجع إلى التمثيل بالذهب والحديد فنقول: إن ترجيح ذهب على ذهب بخفة الوزن يدل على أن الذهبين ذهب ناقص وأن الذهب الآخر ذهب كامل، ولا يفيدنا شيئاً في الموازنة
بين هذا المعدن وغيره من المعادن
ولكننا إذا قلنا إن قليل الذهب أغلى من كثير الحديد، فلا يلزم من ذلك أن الحديد ناقص في صفاته المعدنية، لأنه قد يكون في بابه على غاية من الجودة والمتانة، وإنما يلزم منه أن معدن الذهب أغلى من معدن الحديد
وهذا بعينه الذي قصدنا إليه حين قلنا إن قليل الشعر يحتوي من الثروة الشعورية ما ليست تحتويه الصفحات المطولات من الروايات، فإن احتياج القصة إلى التطويل لبلوغ أثر الشعر الموجز هو وحده الذي يبين لنا أن قنطارا من القصة يساوي درهما من الشعر، وإن القصة في معدنها دون الشعر في معدنه، لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل ما يساويه الشيء الكثير
أيقول الأستاذ إن خمسين صفحة من القصة لازمة للتصوير والحوار الذي يتحقق به سياق القصة؟
حسن. فهذا اللزوم نفسه هو الذي ينزل بها دون منزلة الشعر في متعة الذهن والخيال، لأن الشعر بغير حوار وبغير تمهيد من أمثال تلك التمهيدات القصصية يعطينا في خمسين صفحة أضعاف ما نعطاه في تلك الصفحات، بل هي لا تعطينا في القصة شيئاً إلا إذا وصلت بعد التمهيد والحوار إلى مادة الشعر في لبابها: وهي التصوير والخيال
وقال الأستاذ عن المقياس الثاني: (أما المقياس الثاني فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائماً إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم. . .)
ونقول نحن إن ميل بعض العامة إلى الشعر صحيح، ولكن حين يكون الشعر قصة، وحين يكون الشعر من قبيل ملاحم الهلالي والزير سالم. أما حين يكون الشعر وصفا كوصف ابن الرومي أو البحتري، وحكمة كحكمة أبي الطيب وأبي العلاء، وفخرا كفخر الشريف وأبي فراس، فالعامة لا تفضله على القصص التي تفهمها، وإن أسفت غاية الإسفاف
ومما لاشك فيه أن عدد النسخ التي تصدر من ديوان المتنبي في الطبعة الواحدة أقل من
عدد النسخ التي تصدر من ألف ليلة وليلة، أو من الروايات العصرية التي تتداولها الأيدي مرة في كل شهر أو مرة في كل أسبوع، وهذا مع إقبال القراء على ديوان المتنبي لغرض غير لذة المطالعة، وهو غرض الدرس أو المحاكاة، ومهما يكن من طبقة القراء الذين يقبلون على تلك الدواوين وتلك الروايات، فلا نزاع في أن الروايات إنما تروج لأن تحصيل لذتها أسهل وأقرب من تحصيل لذة الدواوين، وليس لارتفاعها عليها في طبقة الفن وملكة التأليف
وقد يأكل الفقير اللحوم ويأكل الغني البقول، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك إن البقول طعام الأغنياء، وإن اللحوم طعام الفقراء
وكذلك قد يوجد من العامة من يقرأ الشعر حتى الرفيع منه، كما يوجد من الخاصة من يقرأ القصة حتى الوضيع منها، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك أن الشعر هو قراءة الجهلاء، وإن القصة هي قراءة المثقفين
عباس محمود العقاد
مراكش العربية تستصرخ
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
من كان يظن - في أثناء الحرب العالمية الثانية - أن هؤلاء الغربيين الذين ملئوا الدنيا صياحا، ورفعوا عقائرهم بالحرية والعدالة والمساواة، وبحقوق الأفراد والأمم؟ من كان يظن أنهم يجيئون في أعقاب حرب ضروس وهيجاء طاحنة، قد ضربت وشب ضرامها، وأتت على الملايين من البشر قتلا وأسراً وتشريداً، فلا يكون لهم منها عبرة ولا مزدجر، ولا تؤثر فيهم المثلاث، فيسلطون جبريتهم على الأمم الضعيفة التي منيت باستعمارهم وابتليت بدائهم، ويحكمونها بما استطاعوا من قوة الباطل وأساليب الظلم التي لا تعرف الرحمة الإنسانية، ولا الشفقة التي يجب أن تكون بين بني الإنسان!!
بالأمس رأينا كيف بطش الفرنسيون بأهل الجزائر في شهر مايو الماضي، فضربوا البلاد ببوارجهم الحربية وطياراتهم المدمرة ونكلوا بالأحرار من أبنائها
واليوم نقرأ في إحدى الصحف اليومية أن الحكومة الإسبانية تنهج نهج الفرنسيين وتسير على غرارهم في التنكيل بمراكش التي أصيبت بالاستعمار الإسباني، كأنها سياسة مرقومة وخطة مرسومة من المستعمرين لا محيد لهم عنها ولا محيص، وهو أن يسلطوا قوتهمالغاشمة على من يقع في حبائلهم من الأمم الضعيفة حتى تخبت وتخشع وتضرب عليها الذلة والمسكنة، فلا يرتفع لها صوت بحق، ولا تجأر بدفع ظلم، فأين مبادئ الحرية والعدالة التي أعلنها أقطاب الأمم المنتصرة؟ وأين الوصايا الإنجيلية التي نشروها في الخافقين؟ بل أين الأربع التي بشروا بها العالم الجديد وزعموا أنها تكفل تحقيق عهد يسوده السلام والأمن والحرية والعدل؟!
إن الحكومة الإسبانية قد فتحت باب الهجرة على مصراعيه للإسبانيين يتدفقون منه على مراكش العربية، ومنحتهم من وسائل التيسير والإغداق ما يمكن لهم في أرضها، ويجعلهم يتحكمون في رقاب أهلها، وما يصيرهم بعد قليل من الزمن أكثر عددا من أبناء البلاد، وأقوى عدة وأكثر مالا، وأعز نفرا، وبذا يتسنى لهم جعلها جزءاً متمما لإسبانيا، وإقليماً من أقاليمها، كما تحاول ذلك فرنسا في الجزائر، وليس أقوى دليل ولا أصدق شاهدا على ذلك من أن الإسبانيين قبل الحرب الأهلية لم تكن نسبتهم في مراكش تعدو 7 % من سكانها،
فأصبحوا بعد سبع سنين قد ذرفوا على ثلث أهلها: سياسة ما أشبهها بسياسة الصهيونيين في فلسطين، يقصدون من ورائها التغلب على أبناء البلاد مما يكون لهم من كثرة العدد وقوة الحكم والاستعمار، ويقصدون إلى قهر العرب والمسلمين بحملهم على التجنس بالجنسية الإسبانية مكرهين، أو بطردهم من البلاد صاغرين!
ولكي ينفذ الأسبان تلك السياسة الباطشة، ويحققوا مآربهم الظالمة، ويسيروا في سبيل الإثم والعدوان بنجوة من الرقباء، ومنأى من الأحرار الذين يغضبون للحق، ويثورون على الظلم - أحاطوا بالمراكشيين، وأخذوهم بأساليب العنف والاستبداد، وسلطوا عليهم وسائل الإخافة، واسترهبوهم وجاءوا بأمر عظيم، فاعتقلوا الزعماء في بيوتهم، ونفوا الأحرار إلى بلاد غير بلادهم، ثم عمدوا إلى الصحف فعقلوا ألسنتها، وحطموا أقلامها، وقضوا على حريتها، ثم أمعنوا وعتوا عتواً كبيراً: فألغوا كثيراً من الوظائف الشرعية، ومنعوا الاجتماعات والمحافل العامة، حتى المحاضرات العلمية ذادوا الشعب عنها وحالوا بينه وبين الاستماع إليها
ظلم عبقري، وجور ليس له ضهى، لا يصدر إلا عن نفوس قد تجردت من نوازع الخير، وقلوب قد ران عليها ما اكتسبت من الإثم والعدوان. وحيل بينها وبين خلال البر والرحمة والإحسان
ألم يحدثكم التاريخ - معشر الأسبان - بأن أسلاف أولئك المراكشيين من العرب والمسلمين قد فتحوا بلادكم فأنقذوكم من ظلم الونداليين، وجور القوطيين، ثم أظلوكم بلواء العدل والرحمة ونشروا بينكم المبادئ السامية والعلوم النافعة، وكان شعارهم في حكمهم:(لأهل الذمة ما لنا وعليهم ما علينا)، فلم يستبيحوا لأنفسهم أن ينتهكوا حرماتكم أو يسلبوكم حقوقكم، أو ينتزعوا منكم دياركم وأموالكم، بل عشتم وإياهم إخوانا متساوين في الحقوق والواجبات، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى أو بعمل صالح.
لقد شيد العرب والمسلمون في الأندلس حضارة قامت على دعائم الحكم الصالح والعلم النافع، حتى صارت المنارة التي يشع منها نور المدنية والعرفان في أسبانيا وسائر أنحاء أوربة، فلم تنكرون عارفتهم، ولم تجحدون فضلهم وهم أساس نهضتكم وقوام حضارتكم؟
ألا فاتركوا للمراكشيين بلادهم، وارفعوا عنهم نير استعبادكم، واعلموا أنهم أباة أحرار لن
يكفوا عن الجهاد، ولن يرتضوا باستقلال بلادهم وحريتها بديلا، ولسوف يبذلون كل مرتخص وغال، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم ويكتب لهم النصر المبين
وللحرية الحمراء باب
…
بكل يد مضرجة يدق
وعلى الجامعة العربية أن ترفع الصوت عاليا بالدفاع عن العروبة والإسلام في تلك البلاد، فإن حقوق العرب والمسلمين لا تتجزأ، وهي واحدة في كل مكان، فمراكش والجزائر وغيرهما من البلاد المهيضة الجناح يجب أن تدخل في نطاق الجامعة لترعى حقوقها وتذود جور القاسطين عنها ليكون التعاون شاملا، وعمل الخير عاما يشمل العرب والمسلمين أجمعين
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
حسن أحمد الخطيب
بعد عيد وفاء النيل
متى نتحكم في نهرنا؟
للأستاذ وديع فلسطين
قديماً قالوا (مصر هبة النيل)، وما كانوا بذلك يمزحون أو يلقون الكلام على عواهنه، وإنما قرروا حقيقة أثبتت الأيام صوابها، وهي أن ماء النيل أثمن شيء في مصر، أثمن من حديدها ومعادنها وذهبها وزيتها.
وما فتئنا نسمع من ربع قرن من الزمان أحاديث تستطيبها الأذن عن مشروعات النيل وضبط مائه والانتفاع بكل نقطة منه واستغلاله في زراعة الصحراوات وو. . . مما يروق لذوي الخيال الواسع أن ينساقوا وراءه. ولو أننا حولنا بصرنا إلى غيرنا من الدول الزراعية ودرسنا أساليبها في الزراعة وضبط الماء، وقلدناهم فيما نجحوا فيه لكان لنا اليوم أن نفخر بنهر أصبحنا أسياده بعد ما كان سيدنا، وتحكمنا فيه بعد ما ظل أربعة آلاف من السنين أو يزيد يشمخ بتحكمه فينا.
وقد احتفلت مصر في الأسبوع الماضي بعيد وفاء النيل. وجدير بنا في هذه المناسبة أن نعرض صفحة مما نهضت به دولة زراعية، فرفعت مستوى المعيشة فيها وأصلحت أراضيها وتزعمت الأمم الزراعية قاطبة.
هذه قصة نهر عظيم في الولايات المتحدة يدعى نهر تنيسي استطاع الأمريكيون أن يتحكموا فيه بعد ما كان يكتسح المحصولات والغابات ويخرب البيوت، فأمكن الانتفاع به إلى أقصى حد ممكن ودرء خطره الذي كان يهدد الدور والحقول على ضفتيه.
يمتد نهر تنيسي من الشرق إلى الغرب في المنطقة الوسطى من الولايات المتحدة، وهو لا يبلغ في طوله مبلغ نهر النيل لأن طول النهر الرئيسي 104 كيلو متراً بينما يزيد طول النيل على ستة آلاف من الكيلو مترات. غير أن الأراضي الصالحة للزراعة في وادي تنيسي تبلغ مساحتها 105 ، 000 كيلو متر مربع في حين أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في مصر لا تزيد عن 13 ، 600 ميل مربع. ونهر تنيسي، على النقيض من نهر النيل الذي يخلو مجراه في مسافة طولها1 ، 600 كيلو متر من الأنهار الفرعية، غنى بمئات من الأنهار الصغيرة التي ترتفع في الجبال في هذه المنطقة من الولايات المتحدة.
وحينما يهطل المطر الغزير في الربيع، تمتلئ هذه الفروع وتفيض على شطآنها. وكما أن نهر النيل يخلف وراءه مقادير وافرة من الغرين يغذي التربة ويعززها، فإن أنهر وادي التنيسي تخلف وراءها كذلك غريناً يهب الحياة للنباتات والغابات.
وكان موضوع ضبط نهر تنيسي والروافد التي تصب فيه أساسا لمشروع كبير يعرف اليوم باسم (إدارة وادي تنيسي) وقد بلغ في مايو الماضي العام الثاني عشر من حياته. وفي الواقع أن (الإدارة) مصلحة تابعة لحكومة الاتحاد. غير أنها تختلف عن سواها من المصالح الحكومية في الولايات المتحدة لأن سلطتها تمتد إلى منطقة معينة من البلاد، لا إلى البلاد بأسرها. والوادي الذي يشق نهر تنيسي طريقه فيه يقع في أجزاء لسبع ولايات في الجزء الأوسط من ولايات أمريكا المتحدة. وتلك الولايات هي: نورث كارولينا وفرجينيا وجورجيا وآلاباما ومسيسبي وكنطكي وتنيسي. وما مشروع وادي تنيسي إلا لاستثمار موارد منطقة كانت الأمطار الغزيرة تفسدها وكانت الفيضانات الكثيرة لأنهر كثيرة تصب في وادي تنيسي فتخر به وتزيل معالمه.
وفي مستهل المدة الأولى لرياسة الرئيس الراحل المستر فرنكلن روزفلت. أثنى الرئيس على مشروع إنشاء إدارة وادي تنيسي وقال في رسالته إلى الكونجرس في 10 إبريل 1933: (إذا وفقنا في هذا، استطعنا أن نسير خطوة خطوة في سبيل تحسين الموارد الطبيعية الأخرى الكبيرة داخل حدود بلادنا). وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، وضع المستر روزفلت ستة مشروعات مماثلة لمشروع وادي تنيسي.
وتقوم مشروعات روزفلت السبعة جميعا على مبدأ مشترك وإن اختلفت في كيفية تطبيق هذا المبدأ في المناطق المختلفة. ويتلخص المبدأ في أن يطبق على مجال واسع وتتولى إدارته هيئة عامة تهدف إلى استغلال الموارد البشرية والطبيعية دون أن تتأثر بالميول الحزبية.
ويجري نهر تنيسي وكمبرلند في منطقة مساحتها 105 ، 000 كيلو متر مربع، وعند المنبع في جبال سموكي وبلورج يصب نهر تنيسي من ارتفاع 900 متر عن سطح البحر في نقطة تنخفض إلى 90 مترا في ولاية كنطكي حيث يتصل بنهر أوهايو. ويصب نهر أوهايو بدوره في نهر المسيسبي. ويقدر معدل هطول الأمطار في السنة في الوادي
بنحو 132 سنتيمترا ويبلغ الهبوط السنوي في بعض الجهات 200 سنتيمتر.
وفي يوم 10 إبريل 1933 ألقى الرئيس روزفلت خطابا في الكونجرس - وقد أسلفنا الإشارة إليه - لخص فيه المزايا المنتظرة لمشروع وادي تنيسي فقال: (إن المشروع إذا نفذ بكليته سيؤدي حتما إلى فوائد جمة؛ فتروى الحقول التي تصل إليها مياه الفيضان، ويمنع تآكل التربة وتعاد زراعة الغابات، ويؤدي إلى عدم إهمال زراعة الأراضي المتطرفة كما يؤدي إلى انتشار الصناعة وتنوعها. وبالإجمال فإنه يؤدي إلى استغلال جميع مرافق الولايات المتحدة لمصلحة الملايين من الأهالي في جميع الولايات. كما إنه يبعث الحياة في جميع مظاهر الحياة وكل ما يهم الإنسان)
واقترح الرئيس لإنشاء إدارة وادي تنيسي إصدار تشريع لتأليف (هيئة لها سلطة كسلطة الحكومة وتتمتع بميزتي المرونة والتوثب شأنها في ذلك شأن الهيئات الأهلية). وقد وافق الكونجرس على مشروع قانون تأليف إدارة وادي تنيسي يوم 17 مايو 1933 وذيله الرئيس روزفلت بإمضائه.
ونص في ديباجة قانون إدارة وادي تنيسي على أهداف المشروع. ومن تلك الأهداف تحسين حالة الأراضي الزراعية والتحكم في فيضان نهر تنيسي وإعادة زراعة الغابات واستغلال الأراضي المتطرفة في الوادي وتحسين حالة الزراعة والصناعة فيه. وخولت لها سلطة نزع ملكية الأراضي لبناء السدود والخزانات ومحطات توليد القوى وغيرها من المنشآت. وخول لإدارة وادي تنيسي الحق في بيع ما يفيض من القوة الكهربائية إلى الشركات والأفراد والهيئات المختلفة فضلا عن الولايات والمقاطعات ومجالس البلديات. وتكون الألوية في الشراء للولايات والمقاطعات ومجالس المديريات.
ويستخدم في الوقت الحالي 21 سدا لضبط الماء في نهر تنيسي. وقد نجحت تلك السدود في جعل المنطقة مقراً لثاني محطة لإنتاج القوة في الولايات المتحدة. وتتمتع 85 ، 000 مزرعة بمزايا الكهرباء، أي بنسبة مزرعة واحدة تضاء بالكهرباء في كل خمس مزارع، وأصبح سكان الوادي يعيشون عيشة جديدة نسبة لاستعانتهم بالكهرباء. فأصبحت المزارع تستخدم المضخات الكهربائية بدلا من رافعات الماء الفطرية:(كالساقية والشادوف. . .) وأصبح السكان يتمتعون بمزايا آلات تجفيف الطعام والثلاجات وتوفرت لهم آلات قطع
الخشب وطحن البقول للماشية. وأصبح اللبن يوضع في ثلاجات حديثة. وأضحى أعداد اللحوم وطهي الطعام لا يستغرق وقتا طويلا. وأصبحت ربات المنازل يستطعن استخدام المدفآت الكهربائية وآلات كي الملابس الكهربائية وغيرها من الأدوات التي توفر الوقت والجهد والمال.
ولم تتجل آثار إدارة وادي تنيسي في أي ميدان من ميادين الحياة كما تجلت في ميدان الزراعة. فقد أمكن للإدارة - بالتحكم في مياه الفيضان والتغلب على تآكل التربة وتوفير مواد الفوسفات للتسميد - أن تجعل المزارع في حالة رخاء لم يسبق لسكان الوادي عهد بها، وأخذت المحصولات التي تسمى في الولايات المتحدة (محصولات الزراعة) كالطباق والقطن والذرة مثلا أخذت تفسح المجال للبرسيم وفول الصويا وهما من المحصولات التي تكسب التربة غنى في المواد العضوية. وأصبح من المألوف حرث الأراضي بالآلات التي تحرثها حرثا منتظما يعمل على توقي تآكل التربة. وأخذ الفلاحون يقومون أفرادا بفلاحة سفوح التلال وإصلاح الأراضي البور. واستطاعت إدارة وادي تنيسي بمعاونة الهيئات الأخرى المتصلة بها أن تقنع الفلاحين في الوادي بالإكثار من زراعة أنواع شتى من الخضروات لزيادة دخلهم وتمكينهم من شراء مزيد من الملابس وغيرها من ضرورات الحياة. واستطاع الفلاحون في منطقة وادي تنيسي أن يستخدموا الكهرباء في إدارة الآلات التي توفر العمال والوقت والمال. وشرعوا يتعلمون كيف يستطيعون توليد سلالات أفضل من الماشية وإنتاج أنواع ممتازة من الفاكهة والخضروات، وهي جهود تهدف إلى إنتاج مواد منوعة غنية بالفيتامينات تقوّم صحة الفلاحين وعائلاتهم، وتكسبهم مناعة وجلداً.
وانتشرت الصناعة في الوادي بفضل إدارة وادي تنيسي. وزاد إنتاج الألمنيوم والمطاط والدقيق والمواد الكيميائية اللازمة للحرب كنترات النوشادر وهي مادة هامة في صناعة المفجرات القوية، واستغل في أثناء الحرب الأخيرة 75 في المائة من قوى إدارة وادي تنيسي في إنتاج المواد الحربية.
وأنشئت إلى جانب هذا المشروع الضخم مشروعات أخرى تتصل بالحياة اليومية لسكان هذه المنطقة فضلا عن مشروعات توفر قوى كهربائية رخيصة وتحسن وسائل الزراعة والإنتاج الصناعي، وشيدت آلاف من المنازل الرخيصة وانتشرت المعاهد واتخذت وسائل
مكافحة الملاريا. ونظمت الهيئات الجماعية للتسلية، وأسست هيئة كبيرة للعناية بصحة سكان الوادي عناية تامة.
وأصبحت إدارة وادي تنيسي نموذجا حيا للتنظيم الإقليمي ولفتت أنظار العالم كله. فزارها رجال من جميع بلدان العالم من مزارعين ومهندسين جاءوا ليتخصصوا في أعمال الإدارة. وسعى مهندسو إدارة وادي تنيسي إلى بلدان أخرى ليقيوا فيها مشروعات مماثلة أو ليعاونوا في حل مشكلات الزراعة وتوليد الكهرباء فيها.
وفي يوليو 1943 كتب المستر جوليان هكسلي العالم البريطاني والكاتب المعروف مقالا قال فيه: (إن فكرة إدارة وادي تنيسي على أساس إقليمي - كاستغلال نهر في واد مثلا - أصبحت فكرة يدين بها العالم أجمع. وإن آراء الإدارة ووسائلها تعمل على إرشاد هيئات جديدة مماثلة ونموها. . . وأجريت دراسات ليمكن تنفيذ مشروع مماثل على نطاق دولي بدلا من النطاق الوطني الضيق، ومن شأن هذا المشروع الدولي أن يحد من سلطة دول العالم شأنه في ذلك شأن إدارة وادي تنيسي التي تحد من سلطة الولايات وخاصة فيما يختص بالحقوق والحدود).
وجاء في ختام تقرير خاص يبحث في موضوع الإدارة: (إن بيت القصيد في مشروع وادي تنيسي، أنه يوفر للرجال وسائل جديدة واقعية لاستخدام الموارد الطبيعية. كما إنه يهيئ لنا طريقة جديدة لمعالجة المشكلات المرتبطة بعضها ببعض الخاصة باستغلال الموارد الطبيعية التي تهم الجميع).
وديع فلسطين
1 - نظرات في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية
للأستاذ كوركيس عواد
تمهيد:
حينما يريد المؤرخ الأمين المنصف عرض أهم المصنفات المنقولة إلى العربية في عصرنا الحاضر، واستقصاء أنفس ما طبع منها، يجد في طليعتها (دائرة المعارف الإسلامية) التي اضطلع بترجمتها من أصولها الفرنجية لجنة عاملة، قوامها أربعة أساتذة وهبهم الله مزايا وخلالا حسنة كالصبر والمثابرة وبعد الهمة واستسهال الصعب
وإذا ما قيل (دائرة المعارف الإسلامية)، فذاك يعني مجموعة كبيرة من المباحث ادخرت كنوزا من العلم بشؤون البلدان العربية والإسلامية وبشعوبها وأديانها ولغاتها ورسومها ومشاهير رجالها وأهم أحداثها التاريخية وأحوالها الاجتماعية والاقتصادية والدينية. وبعبارة أخرى إن هذه الدائرة احتوت على كل ما يحسن الوقوف عليه في هذه المناحي الخطيرة الشأن، فهي وحدها خزانة شرقية حافلة تشيد لمؤلفيها - وهم أقطاب الاستشراق في هذا العصر - بالاطلاع الواسع على ما يتعلق بالشرق وبالبراعة في الجمع والتأليف والدقة في التبويب والتصنيف
ولا مراء أن الإقدام على ترجمة سفر كبير كهذا يكون محفوفا بصعاب لا يدرك مداها إلا من يعاني أمر الترجمة. وفي تذليل أغلب تلك العقبات ما يحملنا على الإقرار بفضل هؤلاء الأساتذة المترجمين والاعتراف بما أفرغوه من جهد محمود في إتقان عملهم والسير به إلى الأمام ما وسعهم ذلك
بيد إنه لترامي أطراف الموضوع وتشعب مناحيه لا مناص من أن يحصل هنا وهناك بعض الهفوات، أو تقع العين على ألفاظ مصحفة أو عبارات تفتقر إلى إيضاح أو تعقيب. وهذا كله لا يحط من قدر الترجمة ولا يغض من جهد المترجمين في شيء
وقد كنا وما زلنا نترقب صدور أجزاء هذه الدائرة الواحد تلو الآخر فنتلقفها ونطالعها بشوق. وكنا نعنى بوجه خاص بالمباحث العراقية المنشورة فيها، فنعلم على المواطن التي
تحتاج إلى تأمل وإعادة نظر في ترجمتها. ولما اجتمع لدينا من هاتيك الملاحظات ما يؤلف مقالا رأينا أن نستأذن المترجمين الكرام في نشرها اليوم إظهارا للحقيقة التي هي رائد كل نفس كبيرة وإفادة لمن يملك نسخة من هذه الدائرة بترجمتها العربية
وقد صنفنا ملاحظاتنا هذه فجعلناها على أبواب خمسة وهي: أعلام الناس، الأمكنة والبقاع، الكتب والمراجع، الأعداد، الملاحظات المتفرقة. وسنسير في إيرادها وفقا لسياقة المجلدات والصحائف ومن الله التوفيق
أولا: أعلام الناس
ورد في 1: 81 ب15 معن بن صاعدة. وصوابه معن ابن زائدة
وفي 1: 827 البيروتي (بالتاء) وصوابه: البيروني (بالنون).
وهذا من أوهام الطبع
وقد تصحف اسم القس ميخائيل (الغزيري) اللبناني الماروني
(1710 - 1794م) غير مرة إلى (كازبري) (انظر مثلا 1:
1207؛ 1: 1526و 19؛ 1: 245 ب7) وذلك لأن اسمه
يكتب باللاتينية هكذا وللوقوف على ترجمة الغزيري نحيل
القارئ إلى مراجعة: الآداب العربية في القرن التاسع عشر
للأب لويس شيخو اليسوعي (1: 18)، وما كتبه الأب بولس
مسمد في مجلة المشرق (34 (1936) ص601 - 604).
وفي 1: 163ب25 أبرد يصان. والصواب: برديصان
وورد في السطرين الأخيرين من 1: 163 ب ما هذا نصه: (كان أبوه (أبو برديصان) يدعى نهامة وأمه تدعى نهشيران) والصواب: (كان أبوه يدعى نوحاما وأمه تدعى نحشيرام). ونوحاما لفظة إرمية معناها البعث والنشور
وفي 1: 217 ب9 عطاء مالك الجويني. والصواب: عطاء ملك الجويني، على ما هو مشهور في المظان التاريخية
ومن الغريب أن اسم الإمام أبي منصور (الثعالبي) قد صحف
إلى (الثعلبي) في غير موطن (انظر مثلا 1: 223 ب19؛ 3:
4735؛ 3: 473 ب1)
وفي 1: 255 ب2 ذكر (سوش الرسى)، ولكن هذا الاسم ورد بصورة (سوسن الرسى) في معجم البلدان (1: 723 طبعة وستنفلد؛ مادة: بلغار).
ومن هذا القبيل تصحيف اسم صدر الدين محمد (الخجندي) إلى (الخوجندي) في 1: 291 ب24. والخجندي (بخاء معجمة مضمومة ثم جيم مفتوحة وسكون النون ودال مهملة) نسبة إلى خجندة، مدينة بما وراء النهر على شاطئ سيحون (راجع معجم البلدان وكتب الانساب).
وفي 1: 30722 ذكر (بني كشير). وصوابها (بني قشير)
راجع: أخبار النحويين البصريين للسيرافي (ص15 طبعة
كرنكو) ونزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري (ص7
من طبعة سنة 1294هـ).
وذكر في 1: 3111 عن أبي بكر بن سعد بن زلكي أتابك
فارس أنه من الأسرة (السلغورية). قلنا: الصواب أن تكتب
(السلغرية)(بحذف الواو) وهم على ما جاء في الكامل لابن
الأثير (10: 238 طبعة تورنبرج، حوادث سنة 495هـ)
قبيل من التركمان يقالى لهم سلغر.
ومن الأعلام الشرقية التي أصابها التصحيف غير مرة (انظر
مثلا 1: 32419؛ 1: 324 ب2، 4: 573 و22 و27) هو
هرمزد (رسام) الموصلي، المتوفى سنة 1911، الذي نزح
إلى انكلترة وأحرز شهرة بعيدة بين علماء الآثار العراقية،
وألف تصانيف مختلفة بالإنكليزية (راجع ترجمته في تاريخ
الموصل لصائغ (2: 274 - 276). قلنا: هذا الرجل الذي
يكتب اسمه بالإنكليزية قد تصحف في الدائرة إلى (رسم)
وذلك في المواطن المشار إليها أعلاه.
وفي 1: 335 13 لابن حيان. وصوابه: لأبي حيان. وكأن
هذا من أغلاط الطبع.
وفي 1: 413 ب9؛ 1: 415 3 ديوان أبي نواس طبعة
آصف. والذي يرى على غلاف الطبعة المذكورة من الديوان:
آصاف
وقد وقع نظرنا في 1: 421 25 على اسم (مينوس). قلنا:
عرف اسم هذا العالم الرياضي اليوناني في المراجع العربية
القديمة بصورة (منالاؤس) أو (منالاوس) راجع: الفهرست
لابن النديم (ص267 طبع ليبسك أو ص374 طبع القاهرة)،
وأخبار الحكماء للقفطي (ص321 طبع ليبسك) وتاريخ
مختصر الدول لابن العبري (ص64 طبعة صالحاني)، وكشف
الظنون عن أسامي الكتب والفنون للحاج خليفة) (1: 90 طبعة
ليبسك، أو 1: 134 طبعة استانبول الأولى، أو 1: 143 طبعة
استانبول الثانية).
وفي السطر الأخير من 1: 504 ب ورد اسم (البرازيلي) وصوابه: البرزالي. وغالب الظن إنه من أوهام الطبع.
وقد وجدنا طائفة من أسماء المؤلفين الفرنج قد أصابها التشويه
من ذلك (1: 530السطر الأخير) ريتر والصواب روتر.
وكذلك (1: 531 18) صوابه
ومن الأعلام الشرقية التي لم تسلم من التصحيف ما ذكر في
1: 548 5 باسم (جبرييل سيونيتا) وصوابه: جبرائيل
الصهيوني، وهو كاهن ماروني من قرية اهدن في لبنان. عاش
سنة 1577 - 1648م. وقد ترجمه الأب أغناطيوس طنوس،
في المشرق (38 (1940) ص253 - 304).
ونظيره في أبعاده عن اسمه الحقيقي (يوحنا الحصروني)
(نسبة إلى حصرون من قرى لبنان) المتوفى سنة 1632م، فقد
تصحف اسمه في الدائرة (1: 548 6) إلى (جون هسرونيتا).
وفي 1: 571 16 - 18 وردت العبارة التالية: (كما إنه
حكمها (حكم مدينة إربل في العراق) ابان الساسانيين حكام
استطاعوا أن يستقلوا بحكمها في فترات متفاوتة، نذكر منهم
قردغ الذي اتخذ حصن ملقى القريب من إربل مقراً لهم).
قلنا: الصواب في (قردغ) أن يكتب (قرداغ) وهو أحد مشاهير شهداء المشرق في العهد الساساني، قتل سنة 359م. وللوقوف على ترجمته وأخباره يرجع إلى المؤلفات التالية: أعمال الشهداء والقديسين (بالإرمية 2: 442 - 506 طبعة بيجان في ليبسك)؛ وشهداء المشرق لأدى شير (1: 311 - 345)؛ وتاريخ كلدو واثور لأدى شير أيضاً (2: 87 - 88)؛ ويزداندوخت لصائغ (ص111 - 124، 193 - 202، 300 - 308) 138) و ' و 224 - 632 49)
وفي 1: 571 ب7 مظفر الدين قكبري. وهو تصحيف ظاهر. والمشهور في الكتب التاريخية: مظفر الدين كوكبوري فقد ضبطه إبن خلكان (وفيات الأعيان 1: 624 طبعة بولاق الأولى) بضم الكافين بينهما واو ساكنة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ساكنة وبعدها راء، وقال إنه اسم تركي معناه بالعربي ذئب أزرق. ولم ينفرد إبن خلكان بهذا الضبط، بل تابعه فيه غير واحد من المؤرخين، راجع في ذلك: تاريخ أبي الفداء (4: 398 طبعة ريسكي، أو 3: 153 طبعة الحسينية بالقاهرة) والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردى (5: 378 و6: 282 طبعة دار الكتب المصرية)، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي (5: 138).
على أن هذا الاسم ورد في بعض المراجع الأخرى بحذف واوه الثانية، فقيل (كوكبري). راجع: فهارس الكامل لابن الأثير وتاريخ مختصر الدول لابن العبري (ص404) والحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة لابن الفوطي (ص44 طبعة الدكتور مصطفى جواد)، والبداية والنهاية في التاريخ لابن كثير (13: 136) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (1: 247 طبعة الدكتور محمد مصطفى زيادة).
وقد قرأنا في 1: 753 10 - 15 ما هذا نصه: (وهناك
مصنف يتعرض لأهمية إربل في تاريخ بلاد الشام (كذا)
الديني قبل الإسلام، صنفه كنسي من أسقفية إربل، ونشره
في ج1، ليبسك 1908 ودرسه ساخو في ص1915
رقم 6) انتهى.
قلنا: في هذه الأسطر المنقولة أمور تحتاج إلى تعديل أو إيضاح.
فلفظة (بلاد الشام) لا معنى لها ها هنا، وهي في الأصل الفرنسي وهي على ما يبدو لنا مصحفة عن ' أي بلاد آثور، فهو مطابق للمطلب.
أما هذا الرجل (الكنسي) الذي صنف الكتاب المشار إليه، فقد ذهب ناشره إلى إنه (مشيحا زخا) النسطوري، ولكن بعض الباحثين من المستشرقين شكوا في صحة أدلته فلم يوافقوه على رأيه.
وأما (منجانا) فمحرف أيضاً. واسمه الصحيح القس (ثم الدكتور) ألفونس (منكنا)، وهو امرؤ عراقي ولد في قرية شرانش من أعمال الموصل في شمالي العراق، وبعد أن أنهى دروسه في الموصل وعاش فيها مدة، نزح إلى انكلترة فلبث هنالك حتى توفى سنة 1937.
والمصنف التاريخي المشار إليه لم ينشر في ليبسك كما ورد في الدائرة، إنما نشر (بنصه الإرمي منقولا إلى الفرنسية) في مطبعة الدومنكان بالموصل وأمره مشهور. كما أن سخو لم يدرس هذا الكتاب فحسب؛ بل نقله أيضاً إلى الألمانية بعنوان أما الرقم 1915 المذكور في الفقرة المنقولة أعلاه، فلا يدل على الصفحة، إنما يدل على سنة طبع تلك الترجمة الألمانية.
(يتبع)
كوركيس عواد
في بيتي.
. .
أحدث كتب العقاد
للأستاذ عبده حسن الزيات المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
فإذا سأله صاحبه وهو يحاوره - وأكبر ظني أن هذا الصاحب ليس إلا العقاد نفسه أو شخصية اختلقها من خلقه على غرار ذاته -: (وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟) انفلت من هذا المأزق بقوله: (هذا سؤال غير يسير، لأننا نحن الفانين لن نرى إلا جانباً واحداً من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم الصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟ بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع؟) فإذا حلق عليه مجادله بهذا السؤال المحير الخالد: (أليس عجزا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟ أليس عيباً أن نقصر عن الكمال وفي الوسع أن يبلغ الكمال؟) لاذ المؤلف بإجابة صوفية (كلامية) فقال: (وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟ إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول) ولكن صاحبه يضيق ذرعاً ويثور ثورة الإنسان في ضعف إنسانيته: (قل ما شئت، فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الرحمة وآيات الخلود الرحيم). فيطامن المؤلف من ثورته ويسكب عليها شآبيب الهدوء: (إن هذا لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات، وهي القياس كل القياس لما كان وما يكون. لكن إذا كانت حياة الفرد عرضا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد - فما قولك في بكاء الأطفال؟ إن الأطفال أول من يضحك لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام. . . يا صاحبي هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، فإذا لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تحزم بأن العيب عيب الكون وعيب تدبيره وتصريفه وما يبديه وما يخفيه. ولك أن تنكر منه ما لا تعرف، ولكن ليس لك أن تزعم إنه منكر لأنه مجهول لديك)
وعلى هذا النحو الصعب الذي يثير ملكات التفكير والنقد يقطع السائح أكثر رحلته وراء (ريس) معتز بقدرته، واثق من نفسه، يأبى إلا أن يقتحم قلل الصخور اقتحاماً، ولو كانت عنها ندحه من طريق سواء وسط ريح رخاء. على هذا النحو يعرض لفلسفة النسك، ويعترض للماركسية ودعوتها العلمية، ويعرض للنازية والفاشية والشيوعية، ثم يضرب بسهم واحد هذه الفلسفة الماركسية وهذا المذهب الشيوعي حين يقول:(فإن كان للنبوءات الماركسية فضل بعد هذا في ثورة الروس، فذلك هو الفضل المعكوس، لأن المؤمنين بها حاولوا تطبيقها كما آمنوا بها، فضيعوا عشرين سنة في هذه التجارب المخيبة، وضاعت معها ملايين الأرواح التي فنيت بالسلاح أو فنيت بالقحط والوباء، ثم آل بهم الأمر إلى إقرار ما أنكروه وحاربوه وقتلوا الملايين من أجله، وهو اقتناء الملك وإيداع المال في المصارف وتوريث الأبناء وإباحة الفروق في المعاش وإعلان العصبية الوطنية)
ولا يلهيه هذا عن التنديد بالجشع الذي يمتلك بعض الرأسماليين وينتهي إلى التبشير بالتعاون ترياقاً وحيداً، وهو (التعاون بين الأمم كبارها وصغارها، والتعاون بين الطبقات غنيها وفقيرها، والتعاون بين السلطات والتعاون بين الأفراد). ومن قبل رأينا العميد (ديجي) يعتنق مذهب التضامن الاجتماعي ويتخذه أساساً لكل تشريع، ولا يرى للفرد إلا حقاً واحداً، هو أن يمكن من أداء واجبه في تحقيق هذا التضامن
وبمثل هذا الدرس والتقصي يعالج العقاد مذاهب التصوير، ويتناول الإحساسيين باللوم المرير، وهذا إن لم تخني الذاكرة رأي له قديم سبق أن أبداه منذ نحو خمس عشرة عاماً في بعض (ساعاته بين الكتب) أو (مطالعاته)
- 2 -
وثانية الملاحظات التي أحب أن أدونها أني شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب شعورا قويا بأن العقاد محام من الطراز الأول لمحامي المذكرات المتفوقين؛ وقوته في المحاجة، ومصارعة الخصم تظهر على أتمها في القضايا الصعبة حين يكون مركزه أضعف المركزين، أو حين تكون النقطة التي يدافع عنها دقيقة مفتقرة إلى مجهود جبار في التجلية والبيان. إنه لم يحتج إلى عناء كثير لكي ينتصر على الدعوة الماركسية والمذهب الشيوعي، ولا احتاج إلى عناء كبير لكي يبرهن على الفشل الختامي للطريقة التي اتبعتها النازية والفاشية لحل
أزمة البطالة بإنشاء طوفان من صناعات الحرب، ولكنه كان محتاجا إلى قوته الجدلية (فوق العادية) في مواقف أخرى كموقفه من أسئلة صاحبه المحرجة عما وراء الطبيعة وسر الوجود، وموقفه في الدفاع عن البومة المسكينة التي ظفر لها لأول مرة في التاريخ بحكم البراءة من تهمة النحس اللاصقة بها على الأجيال، وموقفه إزاء اعتراض صاحبه حين استمع إلى المفاضلة بين جمال الدين ومحمد عبده: قال العقاد إن الأول أعظم أثرا وإن الثاني أعظم نفسا. فسأله صاحبه بم، فأجاب (بالإيثار) فقال دهشا:(ومحمد عبده الذي تسنم المناصب ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثاراً من جمال الدين؟) إن الاعتراض قد أصاب المحز وظن القارئ أن المحامي قد أسقط في يده، ولكن المحامي القدير مستعد بالجواب:(قلت: قد تكون العزوبة مزيداً من الاعتداد بالشخصية، وقد تكون الأبوة مزيدا من الإيثار)
- 3 -
وإذا كنت قد أحسست في بعض المواضع أني أمام محام قدير فإني قد أحسست في مواضع أخرى أني أمام قريحة فقهية متمكنة، فإن من خير مزايا الفقيه أن يميز بين المتشابهات، فلا تنبهم عليه الأمور حين تتشاكل. هذا الإحساس الدقيق بالفروق الناعمة ثم هذه القدرة الجبارة في تجلية الفروق و (تجنيب) كل مشتبه على حدة، هما أمران يطالعاننا في مواضع كثيرة من الكتاب وحسبي أن أسوق أمثلة وأشير إلى أخرى: اسمع إليه حين ينحى صاحبه باللائمة على الموسيقى الشرقية لأنها لا تصور المعاني ويندفع إلى حيث يقول: (إنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين). فيجيبه العقاد: (لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة. فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بتهوفن وأمثاله. ولعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى منهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة ولا نقسمها إلى إقليمين جغرافيين بين أناس في الشرق، وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال، وأناس في الجنوب).
ثم استمع إليه بين فضل عظماء الموسيقى إلى جوار عظماء السياسة والاجتماع: (لا
تحسبنه حتما لزاماً أن يكون زعماء الاجتماع والسياسة أعظم من زعماء الفنون، لأن المعول على الكفاءة اللازمة للعبقرية لا على أثرها في مواطن الجاه والسلطان، وليست حاجة الناس إلى الشيء هي مقياس العظمة فيه لأن الناس يحتاجون إلى مقابل القمح ويستغنون عن اللؤلؤ والزمرد).
ثم تأمل حواره مع صاحبه في دلالة المطبخ على الأخلاق والتمييز بين (المطبخ الذي يستخدم للغذاء والذي يستخدم للذة الطعام) وتأمل تحديده لكنه التعصب الوطني المقبول من الفنان وتمييزه بين التشاؤم الباني والتشاؤم السلبي الهدام.
- 4 -
ومما يأخذ نظر القارئ لهذا الكتاب وفرة الصور المادية التركيبية التي يستغلها المؤلف للإيضاح والإقناع كقوله: (أليس الذين يتعجلون النعم، فيخيل إليهم أن ازدحامها خير من تفرقها وأجمع لمحاسنها يخطئون كما يخطئ الذين يتعجلون النغم فيحسبون أن مائة لحن في وقت واحد خير من اللحم الفرد وأوفى؟ شيء واحد في وقت واحد، وجميع الأشياء في جميع الأوقات، وهذا هو نظام العيش وقوام الجمال في كل نفع وكل سرور).
ومن هذا القبيل قوله في معرض الفصل بين عبقرية كاتب القصة أو (الرواية) على حد تعبيره المستحدث وبين مقدار محصوله في الرواية: (إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز والكراث لا يفضلان التفاح وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه).
ونشير إلى مثل ثالث دون أن نقتبسه وهو مثل القطار المندفع إلى هاوية يصلها بعد زمن محسوب. وقد مثل بهذه الصورة للنتيجة الحتمية التي زعمها المذهب الماركسي، ولكن في هذا المثل تهكما عقادياً لاذعاً وسخرية قاتلة تقابلها مرة أخرى في هذا الحوار الخيالي البديع الذي افترض الكاتب وقوعه بين خريستوف كولمبوس، وبين موظف المكتب الشيوعي حين يستأذنه في الخروج لرحلة الكشف.
- 5 -
ولكني أتأمل فيما كتبت فلا أجد إلا مدحا وتقريظا. ولقد عرف قاسم أمين قضاة حكموا ظلما ليشتهروا بين الناس بالعدل فإن ركبت شيئا من الحيف فليس طلبا لسمعة العدل وإنما هروبا من تهمة المحاباة. فلتدقق إذن عين النقد لعلها أن تظفر ببعض اللقى:
أ - لقد عرض المؤلف لقدرة الأمم على العمل والقول وقرر بحق إنه (لا تناقض بين القدرتين) ثم أرسلها قضية عامة حاسمة فقال: (انه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول) فهل النسبة محفوظة دائما بين القوتين؟ ولقد ضرب الأستاذ مثلا من أمة الإنجليز فقال إنهم في العصور الحديثة أطبع الأمم على مراس الواقع والعناية بالفكر العملي والخلائق العملية) ومع ذلك (فليس هناك أمة من جيرانهم ومنافسيهم سبقتهم في مضمار الشعر، وأنجبت نصف من أنجبوه من عباقرة الشعراء).
ولا اعتراض لي على هذا المثل ولكن ما الرأي في أمة اليابان؟ أترى عندها من (منتجات القول) ما يتكافأ وما عندها من منتجات العمل؟ وإذا وازنا بينها وبين الصين والهند من هذه الناحية فهل نصل إلى حل يعزز الأمثلة التي أوردها الأستاذ؟
ب - وأمر آخر: لقد سبق إيراد المفاضلة بين الأفغاني ومحمد عبده، ولكن المؤلف لم يقم الحجة في كتابه على هذا الترجيح أي ترجيح الثاني من جهة العظمة النفسية، وحين سبق إلى المؤلف اعتراض صاحبه الوجيه تخلص منه مجرد تخلص بارع ولكنه لم يهدم قوة الاعتراض. وأنا أعلم أن الرحلة سريعة وان حيز الكتاب ضيق، وأن الأستاذ المؤلف يود أن يخرج كتابا مطولا عن محمد عبده، - ولكني أرى بالرغم من ذلك كله أن واجب الإنصاف لشخص جمال الدين كان يقتضي المؤلف الإدلاء بحجته ما دام قد عرض للأمر وأدلى فيه بحكم.
ولم يفضل المؤلف محمد عبده من هذه الناحية على الأفغاني فقط، ولكنه فضله كذلك على سعد زغلول. وإني لأحس في دخولي بين سعد والعقاد فضولا فحسب؛ والعقاد كتابه الخالد عن سعد، ولكني مع ذلك ظللت من الوجهة العلمية جاهلا بحيثيات الحكم فغير مسلم به. هل يكتب لهذا الاعتراض أن يكون استحثاثا للأستاذ الكبير أن يسرع في إخراج كتابه عن الأستاذ الإمام فنقرأ فيه بيان هذا التفضيل؟
ج - وعرض الأستاذ للتفسير السيكولوجي لمؤيدي الشيوعية فرد تأييدهم إلى الحسد والحقد
وفسر بذلك أن (يكون فلان من الشيوعيين وهو سليل بيت قديم وصاحب مال موفور فإنه يحسد أمثاله وينقم على الدنيا لأنه لا يحسب فيهم حين يحسب ذوو الكلمة أو ذوو الرأي أو ذوو المنصب والجاه) - وهذه نظرة صائبة دقيقة ولكنها لا تفسر لنا شيوعية بعض الناجحين الذين طالوا من المجد والمال وبعد الصوت والنفوذ وما يحسدهم عليه أناس أجدر منهم، ثم لا يكون الحاسد شيوعيا، ويكون المحسودون شيوعيين. وأغلب الظن أن هؤلاء يتاجرون ليصبحوا أدنى إلى أفئدة الجماهير ومهوى قلوب وأصوات الجماعات فهي نزعة ديماجوجية يراد بها مزيد من الشهرة وفضل جديد من السلطان.
د - وقد سبق إيراد المثل الخاص بسنابل القمح واللؤلؤ ولكن نفاسة اللؤلؤ ليست نفاسة ذاتية وإنما هي نفاسة نسبية وعرضية مردها الندرة؛ فلو أصبح اللؤلؤ في كثرة السنابل فما أظنه يحتفظ بنفاسته الحالية، ولو أصبحت السنابل في ندرة اللؤلؤ لجاز أن تظفر بمثل نفاسته.
هـ - ونعى على القصص والروايات قلة محصولها مع كثرة أداتها، ومثل ببعض الصور الرائعة التي تضمنها بيت واحد من الشعر (وأن خمسين صفحة من القصة لا تعطينا مثل محصوله).
وليس لي ما ألاحظه في هذا الشأن إلا إنه غير منطبق على نوع خاص من الأقاصيص يضخم مغزاه ويكثر محصوله في حين أن أداته قصيرة قليلة كخرافات (إيزوب) و (لافونتين).
ووهذا الانتقاد الختامي لا أعرف إلى من أتوجه به، فإن الأخطاء المطبعية كثيرة وقد أصبحت كالبقعة وسط هذا الكتاب القيم النفيس ووسط هذا الورق الأنيق؛ لقد أحصيت بين صفحتي 90 و132 نحوا من اثنتي عشرة غلطة، وليس هذا نقصا كبيرا ولكنه نقص في حق القادرين على التمام.
عبده حسن الزيات المحامي
القصة عند العقاد
للأستاذ نجيب محفوظ
الفن - أيا كان لونه وأيا كانت أداته - تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى، ففي عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقى سيد لا يدانى وهكذا، فالفنون جميعا تتفق في الغاية وتتساوى في السيادة كل بحسب مجاله، وهي في مجموعتها تكون دنيا الأفراح والمسرات والحرية، حيث يعيش أبناؤها على وفاق ومحبة وتعاون، لا يكدر صفوهم مكدر، إلا أن يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة، فيرمي بحيرتها الساجية بحجر ثقيل يطين رائقها، ويبعث الثورة في أطرافها. فيقول: إن هذا اللون من الفن وذاك منحط، هذا عزيز وذاك مبتذل، يقول هذا وهو أعلم الناس بالفنون، وأحبهم لها. وأحقهم بأن يعرف لكل قدره ومنزلته. ولن يفيد الفن شيئا من تحقيره لبعض أنواعه. إلا أن يغضب قوما أبرياء يحبون الحق كما يحبه ويولعون بالجمال كما يولع به، ويبذلون في سبيل التعبير عنه كل ما في طاقتهم من قدرة وحب. وعسى أن يقول قائل: إن العقاد ما قصد التحقير، ولكنه مفكر وله الحق كل الحق أن يرتب الفنون عامة أو فنون الأدب خاصة كيفما يرى. وهذا حق في ذاته، ولكني في هذه القضية رأيت العقاد الخصوم يتغلب على العقاد الناقد. انظر إليه وقد لاحظ حواريه (في بيتي العقاد) صغر نصيب القصص من مكتبته فأجابه قائلا:(. . . لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول). فالرجل الذي لا يقرأ قصة حيث يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذي يقضي في قضية القصة. والرجل الذي يلاحظ على مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغي أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه في حكم يتصل بها. بل إنه يفضل النقد - لا الشعر والنثر الفني وحسب - على القصة. والمعروف أن النقد ميزان لتقويم الفنون، فكيف يفضل على أحدهما؟! وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند شخص إلا إذا كان كارها وعليها حاقدا؟! فحكم العقاد على القصة حكم مزاج وهوى لا حكم نقد وفلسفة. بيد أني أريد أن أتناسى ذلك، وأريد أن أنظر نقده بعين مجردة، لأن لكلام العقاد قيمة خاصة عندي، ولو كان مصدره المزاج والهوى
قال العقاد لصاحبه وهو يحاوره: (. . إنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهي الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون. . . ما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:
وتلفتت عيني فمذ بعدت
…
عني الطلول تلفت القلب
إلى أن قال: (أما مقياس الطبقة. . . فلا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من الفنون الخ)
هذان هما المقياسان اللذان قضى بينهما العقاد على القصة بالهوان وما هي القصة؟ هي سيدة فنون الآداب دون منازع لثلاثة قرون خلت من أزهى عمر البشرية، هي الفن الذي جذب إليه أكبر عبقريات الأدب في جميع الدنيا المتحضرة المثقفة. فما حقيقة هذين المقياسين؟
أما عن الأداة والمحصول، فالحق أنهما شيء واحد في كل فن رفيع، ففي الشعر الجيد كما في القصة الجيدة تتحد الأداة والمحصول، وهذا يتفق ومعنى البلاغة الذي يقول فيه الزيات:(إنها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق ولا بين الفكرة والكلمة ولا بين الموضوع والشكل). ذلك المعنى الذي أعجب به العقاد أيما إعجاب (الرسالة رقم 631). ففي الفن الجيد - قصة كان أو شعرا - ينمحي التنافر بين الأداة والمحصول، فإذا زادت الأداة على المحصول فذلك شاهد ضعف أو ركاكة قد يعتوران الشعر كما قد يعتوران القصة، ولكنه ليس صفة ملازمة للقصة دون غيرها من فنون الأدب، فهذا المقياس نافع للتمييز بين الجيد والرديء من آيات الفن الواحد، لا للموازنة بين الفنون المختلفة، لأن كل فن في ذاته يشترط الانسجام الكلي بين أداته ومحصوله. إذا كيف يرى العقاد كثرة الأداة وقلة المحصول صفة ملازمة للقصة؟! لا أجد لذلك تفسيرا إلا إذا كان العقاد يعد التفاصيل في القصة زيادة في الأداة، وإلا إذا كان يعتبر القصة عملا أدبيا مطولا ذا مغزى يمكن تلخيصه في بيت واحد من الشعر. وهذا تفسير عجيب إن صح. فالقصة لا ترمي لمغزى يمكن تلخيصه في بيت من الشعر، ولكنها صورة من الحياة، كل فصل منها يمثل جزءا من الصورة العامة، وكل عبارة تعين على رسم جزء من هذا الجزء، فكل كلمة وكل حركة
تشترك في إحداث نغمة عامة لها دلالتها النفسية والإنسانية، وكل جملة - في القصة الجيدة - تقرأ وتستعاد قراءتها ولا يغني عنها شيء من شعر أو نثر. ولا تحسين التفاصيل في القصة مجرد ملء فراغ، ولكنها ميزة الرواية حقا على فنون القصة الأخرى وفنون الأدب عامة. وهي لم توجد اعتباطا ولكنها جاءت نتيجة لتطور العصر العلمي العام، فالعلم هو الذي وجه الانتباه للأجزاء والتفاصيل، بعد أن ركزته الفلسفة طويلا في الكليات. اكتشف العلم لكل جزء من أجزاء المادة - حتى الذرة - حياة وأهمية، وبدت آثار هذه النزعة العلمية في عالم الآداب في عناية الرواية بالتفاصيل، لم يعد الأدب يكتفي بتحضير الأقراص المركزة، وأدرك أن التفاته أو فلتة لسانية أو حال إنسان وهو يتناول طعامه، كل أولئك أمور لها دلالتها النفسية وتعبيرها الصادق عن الحياة. ومن عجب حقا أن العقاد يعلم ذلك كله، وأنا أذكر أنه كتب مرة - لا أدري متى ولا أين - عن توماس مان، فاشار إلى تفاصيله الدقيقة في رواياته وبراعتها في الدلالة والتأثير، فكيف يساوي بيت من الشعر خمسين صفحة من قصة؟ بل هل نغالي إذا قلنا إن صفحة من قصة تحتاج لعشرات البيوت من الشعر لتحيط بدقائقها وجمالها؟! خذ مثلا هذا البيت من الشعر الذي استشهد به العقاد (وتلفتت عيني. . .) ولنفرض أننا نريد أن نستوحيه أقصوصة، فماذا نصنع؟ أما الشاعر فقد تصور المعنى وليس هو بالبعيد المنال وصبه في هذا القالب الجميل. أما القاص فينبغي أن يتصور إلى ذلك ذكرا وأنثى، ويتخيل لكل منهما نموذجا بشريا خاصا، وعليه أن يصور زمانا ومكانا، وموقف وداع، تارة محسوس تلتفت فيه الأعين، وتارة معنوي يتلفت فيه القلب. فليس هذا العرض هو نفس البيت ولا أكثر، ولكن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الشجرة النامية ذات الزهر والثمر والبذرة الضئيلة، لقد رمى بعض المتعصبين للأجناس العرب بضعف الخيال والعجز عن الإبداع والتحليل والتفصيل والاكتفاء بتصور المعاني وتركيزها، فهل يريد العقاد أن يؤيد هذه الأقوال الجائرة؟! والواقع أن الإبداع الفني لا يتمثل في عمل أدبي كما يتمثل في أدب القصة. ولذلك اتخذ أغلب السفر الخالد صورة من صور القصة كالملحمة والتمثيلية. هذا بعض ما يقال في المقياس الأول
وأما المقياس الثاني، فهو مقياس الطبقة، يريد العقاد أن يقول: إن القصة تنتشر في طبقة لا يتنازل إليها الشعر، وإذا فالشعر أرقى من القصة. وهذا قول وجيه من الظاهر! ولكنه لا
ينطوي على شيء خطير، فمجرد انتشار فن في طبقة لا يدل على شيء ما لم يبحث أسباب انتشاره. فالموسيقى تنتشر في جميع الطبقات حتى بين الأميين، فهل يقال إن النحت مثلا أرقى منها لأنه لا يكاد يتذوقه إلا رواد المتاحف؟! ثم ما هي القصة المنتشرة حقا؟ أليست هي قصة الجريمة والمخاطرة والغرام المبتذل؟ وكل أولئك ليس من القصة الفنية في شيء. القصة الفنية - كما يعلم الدارسون لهذا الفن - حكاية تروى كالقصة المبتذلة، إلا إنه يشترط فيها أن تعرض في ثنايا روايتها قيمة إنسانية أو أكثر كتصوير الشخوص وتحليل النفس والشاعرية والفكاهة والمعاني الفلسفية والآراء الاجتماعية، بل من القاصين المحدثين من يستهين بالحكاية ويقنع بالقيم، فإذا خلت القصة من هذه القيم، فهي حكاية وليست قصة فنية، ولا يجوز لمنصف أن يحكم بها على هذا الفن وإلا جاز لنا أن نحكم على الشعر ببعض الأزجال الجنسية التي يحفظها العوام.
أجل إن القصة لا تزال أعظم انتشارا من الشعر ولكن أكان ذلك لسيئة فيها أم لحسنة؟ إن الخاصة التي تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه تقرأ القصة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطرا فطه والمازني والحكيم وايزنهاور يقرءونها بغير اضطرار. ولئن انتشرت القصة في طبقات أخرى فما ذلك لسيئة بها ولكن لحسنتين معروفتين: سهولة العرض والتشويق. فانتشار القصة الجيدة بين قوم لا يهضمون الشعر الجيد مرده إلى أن القصة في ظاهرها حكاية تروى يستطيع أن يستمتع بها القارئ العادي لسهولتها وتشويقها، وليس بالسهولة من عيب يجرح الذوق السليم، ولا بالتشويق من انحطاط يؤذي الفهم الرفيع وهي بعد ذلك تحوي قيما إنسانية كالشعر الرفيع يتذوق كل قارئ منها على قدر استعداده. وحسب القصة فخرا أنها يسرت الممتنع من عزيز الفن للإفهام جميعها، وأنها جذبت لسماء الجمال قوما لم يستطع الشعر على قدمه ورسوخ قدمه رفعهم إليها، فهل يكره العقاد ذلك أو إنه يحب كأجداده كهنة طيبة أن يبقى فنه سرا مغلقا إلا على أمثاله من العباقرة!!
ولعله توجد أسباب أخرى تفسر لنا انتشار القصة هذا الانتشار الذي جعل لها السيادة المطلقة على جميع الفنون الجميلة، ولعل أهم هذه الأسباب ما يعرف بروح العصر. لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد، يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث
بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار فليس ذلك لأنه أرقى من الزمن ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة. وسبب آخر لا يقل عن هذا في خطره وهو مرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض، مما يجعلها أداة صالحة للتعبير عن الحياة الإنسانية في أشمل معانيها. لذلك توجد قصة عاطفية، وقصة شعرية، وقصة تحليلية، وقصة فلسفية، وقصة علمية، وقصة سياسية، وقصة اجتماعية، ولعل الشمول في التعبير يكون مقياسا أصدق من المقياسين اللذين يقترحهما الأستاذ الكبير، ودلالته واضحة في أن القصة أبرع فنون الأدب التي خلقها خيال الإنسان المبدع في جميع العصور.
نجيب محفوظ
الشرق كما يراه الغرب
2 -
الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
قلنا إن المولد في أصله احتفال ديني بعيد أحد الأولياء. . . ولا تزال الموالد حتى الآن - على الرغم مما طرأ عليها من التغير وما داخلها من عناصر اللهو - تحتفظ بالكثير من الملامح الدينية التي تتمثل على الخصوص في شدة إقبال الناس على ضريح الولي صاحب الاحتفال للتبرك به والطواف حوله واتخاذ ذلك وسيلة للتزلف والتقرب إلى الله. . . ومن الناس من ينتبذ من المسجد جانبا يخلو فيه لنفسه، يرتل القرآن، أو يتوجه بالدعاء إلى الله؛ ومنهم من يشترك بحلقات الذكر التي تقام كل ليلة من ليالي المولد في المسجد؛ ومنهم من يتخذ الإحسان وسيلته إلى الله. والموالد سوق رائجة للإحسان يدلى فيها كل محسن محب للخير بدلوه حسب قدرته وطاقته؛ فأغنياء الحي الذي يقع فيه ضريح الولي ينحرون الذبائح ويولمون الولائم ويوزعون الطعام والملابس والصدقات على الفقراء والمعوزين - وما أكثرهم في مصر!. . ومن هم دون ذلك قدرة وثراء من أوساط الناس يسلكون سبلا غريبة للإحسان؛ فبعضهم يشتري قربة ماء ليسقي الناس، أو يشتري (دورقا) من التمر الهندي أو العرقسوس، أو (الدندرمة) يوزعها عليهم، وهم يبتغون من ذلك رضا الولي ومرضاة الله.
ومن الطرق الغريبة التي يلجأ إليها الناس في مصر للاحتفال بالموالد أن الحلاقين - مثلا - يتبرعون بإجراء عملية الختان لأطفال الحي الفقراء بالمجان أو بأجر زهيد جدا لا يتجاوز بضعة قروش. ويعلق كل (حلاق) من هؤلاء لوحة كبيرة على واجهة حانوته كتب عليها (الطهارة للفقراء مجانا)، والى جانبها يعلق صورة تمثله وهو يختن أحد الأطفال، ويزين الحلاقون لهذه المناسبة حوانيتهم بالمصابيح الكهربائية الملونة والأعلام الزاهية لكي يجذبوا إليهم أنظار الناس. ويذهب بعض الحلاقين إلى أبعد من ذلك، إذ يعدون لأنفسهم حوانيت متنقلة ينتقلون بها من مولد لآخر، بل ومن بلدة لأخرى، لكل من يتقدم من الفقراء.
ومن الظاهرات الشعبية ذات اللون الدينية الخطابة الدينية في الشوارع. فكثيرا ما يقوم بعض المشايخ من رجال الدين، أو حتى بعض المتحمسين من عامة الشعب فيخطبون الناس على قارعة الطريق، يحثونهم على الفضيلة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن
المنكر. وهم في ذلك يصدرون عن قوة إيمانهم وشدة غيرتهم على الدين. ومن هنا كانت خطبهم تأتي في أغلب الأحيان قوية حارة عنيفة صادرة عن القلب وتجد طريقها إلى قلوب السامعين في غير مشقة ولا عسر. ويخص ما كفرسون بالذكر شيخا أعمى يدعى الحاج حسين له مقدرة خطابية فائقة وقدرة عظيمة على اجتذاب الناس إليه. ويذكر ماكفرسون إنه شاهده مرة في مولد السلطان الحنفي يخطب الناس والمطر ينصب من فوقهم أنصبابا، والشيخ مع ذلك ماض في خطابته لا يتريث ولا يتوقف، والناس منصتون إليه لا يفكرون في الانفضاض من حوله.
ومن هذه الظاهرات أيضاً إقبال الناس على اقتناء الأحجية والطلاسم والرقي ابتغاء التبرك ودفع الشر والأذى. والدراويش هم الذين يقومون بكتابة هذه الأحجية لمن يطلبها من أفراد الناس. ويشهد ماكفرسون بأن الدراويش يقومون بذلك العمل رغبة منهم في فعل الخير فحسب؛ فهم لا يتخذون من غفلة الناس وسذاجتهم وسيلة لجمع المال، إذ أن كثيرين منهم يرفضون أن يأخذوا أجرا على ما يكتبون، والبعض الآخر لا يتناولون إلا أجرا قليلا تافها؛ ومنهم من يقنع بكتابة عدد معين من الأحجية لا يتعداه بأي حال ومهما اشتد عليه الإقبال.
ولكن كل هذه الظاهرات، على جلال معناها الديني - ليست هي الظاهرة المميزة للموالد؛ إنما الظاهرة الأساسية التي تمتاز بها الموالد هي سلسلة الحفلات الدينية التي يقوم بها كل ليلة من ليالي المولد جماعة الصوفية والدراويش. وهذه الحفلات يشرف عليها أحد مشايخ الطرق؛ ويكون في الغالب من نسل الولي نفسه. وقد يكون أحد تلاميذه الروحيين؛ فإن تعذر ذلك عهدت الحكومة بهذه المهمة إلى أحد كبار العلماء.
ونظام الدراويش نظام قديم من نظم الصوفية كان موجودا في أيام أبي بكر صهر الرسول (ص)؛ فهو بعيد كل البعد عما يلحقه الناس إليه من ضروب الشعوذة وفنون الدجل. ونظام الدراويش نظام متماسك له تعاليم متوارثة؛ لأن الدرويش لا يصبح درويشا حتى يمر بمراحل معينة؛ فهو يكون في الأصل طالب ثم يرتقي إلى درجة أعلى فيصبح مريدا يتلقى العلم الروحي على يد مرشد يلقنه الأوراد والأذكار حتى يحصلها جميعا فيسلمه (سندا بسلسلة) والسند عند الصوفية بمثابة شهادة تشهد بأن السلسلة (وهي رمز التسلسل الروحي الذي يربطالدراويش بمؤسس الطريقة ثم بالنبي عليه الصلاة والسلام وحدة لا تنقطع -
ولكن مع أن نظام الدراويش يرجع إلى أيام الإسلام الأولى، فإن تنظيمهم ذلك التنظيم الرائع الذي ظلت عليه طول هذه القرون، يرجع الفضل فيه إلى سيدي عبد القادر الكيلاني (من رجال القرن السادس الهجري). ومن هنا كانت الطريقة القادرية هي الطريقة الأصلية، وعنها تفرعت طريقتان رئيسيتان هما السعدية والرفاعية. ويشتهر رجال الطريقة الأخيرة بوسيلتهم الغريبة في التغلب على الآلام وقهرها، إذ يمشون على النار ويلتهمون الجمر ويأكلون الزجاج ويبتلعون الحيوانات السامة وما إلى ذلك دون أن يصيبهم أدنى ضرر أو أذى.
فهذه الطرق الصوفية وغيرها (وفي مصر حوالي مائة طريقة) هي التي تحتفل في الواقع بالموالد احتفالا دينيا له صبغته الخاصة، وهي التي تضفي على الموالد ثوبا رائعا مميزا. ففي كل ليلة من ليالي المولد تتوجه بعض هذه الطرق إلى المسجد فتعقد حلقات الذكر والإنشاد حتى ينقضي شطر كبير من الليل؛ ويستمر ذلك طيلة المدة المرخص بها للاحتفال - وهي أسبوع في العادة - حتى تأتي الليلة الأخيرة - أو ليلة الخاتمة - وهي الليلة التي يفترض أنها ليلة ميلاد الولي، فتتجمع الطرق الصوفية كلها في إحدى الساحات أو الميادين ثم تنتظم على شكل (زفة) يتقدمها رجال البوليس وفرق الموسيقى، وينتظم فيها (أولاد أبو الغيط) وهم يرقصون رقصاتهم الجميلة، والدراويش بملابسهم الملونة الزاهية (وطراطيرهم) الخضراء، كما يسير فيها أيضاً بعض الحواة والمشعوذين. . . وتتقدم كل طريقة البيارق (جمع بيرق) التي تدل عليها، وقد نقش عليها أسماء النبي (ص) والخلفاء الراشدين، أو اسم الطريقة واسم مؤسسها والطرق الصغيرة المتفرعة عنها، وتسير الزفة - وقد توسطها الخليفة - متجهة نحو ضريح الولي في ضجة كبيرة تختلط فيها أنغام الموسيقى بقرعات دفوف الصوفية وأصوات (الكاسات) و (النقارات) بنغمات الأرغول و (الزمارة) وغير ذلك من الآلات الموسيقية التي يستخدمها الصوفية والدراويش. ويتوقف موكب الزفة من أن لآخر في الطريق كي يتسنى للناس في المنازل التفرج والمشاهدة؛ وبعد لأي تصل (الزفة) إلى المسجد. . . وهكذا يختتم المولد وتنتهي لياليه، ويصبح الصباح فإذا الزينات ومعالم الأفراح قد زالت وعاد كل شيء إلى ما كان عليه. آخر زيادة على على المدة المصرح بها رسميا؛ ويذكر ماكفرسون إنه كان يعجب أشد العجب ويتساءل
عن الداعي لذلك، وهل هو شدة حب الناس وتعلقهم بأوليائهم، إلى أن جاءه الجواب أخيرا بعد انتهاء مولد السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق. . . يقول ماكفرسون (ولدهشتي البالغة سمعت شيخا يقف إلى جانب ضريحها (ضريح السيدة فاطمة) وهو يقول: إننا نحتفل بأسبوع الطفل بعد سبعة أيام من مولده، فلم لا نحتفل بأسبوع هذه السيدة الجليلة أيضاً؟ فلم أتمالك من أن أغمغم وراءه بصوت خفيض: نعم لم لا يكون ذلك).
(يتبع)
أحمد أبو زيد
الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة الشعر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
كان الشعر الحجازي قد أصابه الركود كما أصاب غيره في الأقطار الأخرى، وقنع شعراؤه بتقليد ضعاف الشعراء في عصور الاضمحلال الأدبي؛ فوقفت المحسنات البديعية في طريق تجويدهم وإبداعهم، وأضاعوا وقتهم واستنفذوا مجهودهم في التشطير والتخميس، وظل الشعر على هذه الحال حتى عزته ثورة التجديد فتخلص من هذه القيود التي كبلته الزمان الطويل، وقد وصف الأستاذ أحمد العربي حال الشعر الحجازي قبل نهضته فقال:(لم يكن الأدب الحجازي سوى بضع منظومات وكتابات سقيمة المعنى واهية السبك ملتوية الأسلوب يدور أكثرها في نطاق ضيق من المديح السخيف والغزل والتشطير والتخميس على نمط ليس له من مبرر سوى ذلك العقم الأدبي الذي منيت به الأفكار في تلك الحقبة المشؤومة، وإلا فأي إنتاج ينتجه أولئك الذين يتناولون بيتين أو أكثر من الشعر بالتشطير والتخميس، فيعمدون إلى تمطيط معناها وتفكيك أواصرها وحشوها بما يناسب وما لا يناسب من الألفاظ المترادفة والتراكيب المرصوفة. . . الخ)
وما كاد الحجازيون يتذوقون المناهج الحديثة في الشعر حتى حملوا على عشاق القديم جملة عنيفة ليردوهم عن التقليد ويوجهوهم إلى الغاية التي يرجونها للشعر، وقد جاء في مقال للأستاذ عواد ينتقد فيه المقلدين: (. . . نعم الشعر جميل، ولكن أين الشعر الذي تنظمونه أو تروونه؟
أأتلمسه في تخميس:
(تتيه علينا مذ رزقت ملاحةً) أم تشطير: (إذا كان لي أهلان أهلٌ ترحلوا) أم في مشجر: (على جيد هذا الظبي فلينظم الدرُّ) أم في تخميس آخر مطلعه:
(أنيري مكان البدر إن فقد البدر) أم في مدحه أنشدت للحسين في يوم عيد مطلعها:
(سلْ ما لسْلمى بسوق النحس تشريني) أواه! كل هذه أيها المتشاعرون صديد فكري وقيوء (باللغة التي تفهمونها) لو أنفق العمر بأجمعه في مثلها لما وصل الناظم إلى الشعر. الشعر جميل أما أمثال هذا فلا. . .)
وبدهي أن ثورة التجديد في الشعر الحجازي لا يمكن أن توجه الشعراء جميعا إلى وجهة واحدة؛ إذ لابد له من زمن طويل يشتط فيه المجددون ويسرفون في التجديد، ويشعر القدامى بتأخرهم فيقتربون منهم شيئاً فشيئًا، ويعود المسرفون فيهدئون من ثورتهم ليلتقوا بإخوانهم القدامى الذين تخلفوا عنهم وحينئذ يجتمع في الشعر محاسن الطريقتين، ويستقر في طريق له معروفة مرسومة لا تكون عرضة لزعازع التغيير والتبديل الفجائيين.
حدث هذا الصراع في الحجاز منذ أن قام الشعراء بنهضتهم الحديثة؛ فقد جمل المجددون على الجمود والخمول وتناولوا عشاق القديم بالنقد اللاذع فأثر فيهم هذا النقد، ولم يعد الآن في الحجاز من يطرب للتشطير والتخميس أو يهتز لألوان البديع، واتجهوا جميعا إلى أغراض الحياة يبسطونها في أشعارهم ويجلونها في بيانهم وإن كانت ظاهرة الاختلاف لا تزال قائمة؛ فشعراء الحجاز الآن طائفتان: طائفة مجددة ولكنها متئدة متمهلة تعنى بالديباجة القوية وتبقي على كثير من الأغراض القديمة. وطائفة متوثبة مسرفة في التجديد قد استطاعت أن تقطع صلتها بالقديم إلا في الألفاظ والتراكيب.
ولعل الحجازيين عندما انفسح أمامهم طريق الرقي الأدبي وجدوا أنفسهم متأخرين؛ وجدوا مصر والشام ثم العراق قد قطعت في ميدان التقدم شوطا بعيد المدى فهالهم الأمر وأرادوا اللحاق بهم؛ فلم يكن هناك بد من أن يسرعوا الخطا ويغذوا السير في حركة الواثب المتحفز الذي لا يبقى ولا يذر. فماذا وجدوا أمامهم؟
رأوا دواوين الشعر القديم قد ملأت الأسواق ورأوا أدباء مصر والشام قد أنتجوا المعجب في الأدب. ورأوا غير هاتين الناحيتين أدبا آخر هو الأدب العربي في أمريكا، وهو أحدث هذه الآداب وأقربها إلى الأدب الأجنبي.
وجدوا كل هذا فمال الكثيرون إلى الآداب الحديثة وبخاصة أدب المهجر وتعشقوها وجاهدوا في تقليدها كأنهم رأوا فيها الخلاص من الجمود والتأخر؛ فاستطاعوا في زمن وجيز أن يباعدوا بين منهاجهم ومنهاج من سبقوهم؛ حتى ليخيل إليك عدم الارتباط والصلة بين الأدبيين.
وأما الآخرون - وهم أقلية - فقد آثروا الاعتدال والتمهل والتفتوا إلى الأدب القوي القديم يقرءونه ويحاكونه في بلاغته ورصانته، ومالوا إلى الأدبيين المصري والشامي يتهجون
منهجيهما ويلائمون بينهما وبين حياتهم، ولم يتركوا من أدب المهجر ما راقهم من موضوعاته ومعانيه. وإنك لتلمس في الأبيات الآتية وهي (للغزاوي) تأثراً بالأدب العربي القديم في أساليبه ومعانيه وتجديدا في قليل من الأخيلة والمعاني:
حمائم إليك أبكاكِ ذو شجن
…
أصفيتهِ الحبَّ إسراراً وإعلانا
وبتِّ فيه على ذكرى وموجدة
…
تذرين دمعكِ أسجاعاً وألحانا
وظل دأبك في الأسحار أغنيةً
…
يخالها السمع بالتوقيع عيدانا
فما بنفسي مما تشتكي حُرَقٌ
…
ولا تعشقت آراماً وغزلانا
لكن سكبت دمي دمعاً على وطني
…
قد كان في المجد والتاريخ ما كانا
على أن تأثر هذه الطائفة بالشعر القديم يبدو في طريقة الشعر نفسه فالغزاوي في قصيدة له عنوانها (منازه الطائف) يملؤها بذكر الأمكنة على طريقة الأقدمين في ذكر الديار والأطلال فهو يقول فيها:
وتهفو بنا النسمات حين هبوبها
…
إلى فرصِ اللذاتِ تحت الكواكب
(بوجٍ) وفي وادي (العقيق) ودونه
…
وفي (ليةٍ) أو بين (قرن) النجائب
وفي (الوَهطِ) المخضر أو في (وهيطه)
…
وفوق (الشفا) أو في أديم السحائب
ويقول:
ولا أنس (بالمثنات) ليلات أنستنا
…
وبين (الهدى) أو في جوار (الكباكب)
وهكذا يسير الشاعر في قصيدته معددا الأماكن التي ألفها وأقام بها. ولكن هذا التقليد للأقدمين لا يعدو الطريقة؛ فإن الشاعر متأثر بهذه الأماكن وله فيها ذكريات، ولا يعاب عليه أن يذكرها في شعره؛ لأنه ذكر العالم بها المتأثر بما فيها.
أما المدرسة المسرفة في التجديد فقد تعلقت بالثقافة المنقولة عن الغرب ومالت إلى أدب أدباء المهجر من أمثال جبران والريحاني وأبي ماضي وفرحات وغيرهم؛ وذلك لأن شعراء هذه المدرسة لمسوا في أدب المهجر ثورة على القديم وجرأة في التجديد وصراحة في الحق، فعكفوا على هذا الأدب لأنهم وجدوا فيه غذاء حركتهم الناشطة ومشعلا يضيء لهم جوانب الحياة التي يرجونها وهي التجديد السريع.
وجد شعراء هذه المدرسة جبران ينعى على التقليد ويحط من شأنه حين يقول: (. . . ليكن
لكم من مقاصدكم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين؛ فخير لكم وللغة العربية أن تبنوا كوخا حقيرا من ذاتكم الوضيعة من أن تقيموا صرحا شاهقا من ذاتكم المقتبسة. ليكن لكم من عزة نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة، فخير لكم وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم بخورا أمام الأصنام والأنصاب. ليكن لكم من حماستكم القومية دافع إلى تصوير الحياة الشرقية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعربوا أجل وأجمل ما كتبه الغربيون).
(البقية في العدد القادم)
احمد أبو بكر إبراهيم
إلى شقيقي إبراهيم
أهكذا تمضي. . .؟
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوفان
تساءل البلبل عن صنوه
…
في الروض، فاستبكى عيون الزهور
وغصَّ مما هاج في شجوه
…
بزفرة بين التراقي تمور
من صَرَف الشاعر عن شدوه
…
ولفه بالصمت صمت القبور
وما الذي كدر من صفوه
…
حتى جفا الوكر وعاف الطيور
ألم يكن والروض خصب مريع
…
منعما بالعيشة الراضية
بين سني يطفو وعطر يشيع
…
وبهجة غامرة ضافية
يصبي الفراشات بشدو بديع
…
تظل من أنغامه الشاجية
ترف كالزهر حياة الربيع
…
أجنحة موشية حالية
وطاف بالروض حزيناً لهيف
…
يبحث عن شاعره في الشجر
لعله في ظل دوح وريف
…
يرتشف الطل ويرعى الزهر
يلف عطفيه وشاح شفيف
…
تنسجه في الليل أيدي القمر
ويبعث اللحن رفيفاً رهيف
…
محبب الوقع، مُرِن الوتر
وحين لم يلق أخاه الحبيب
…
ولم تع الأذن أغاريده
حط على غصن أراكٍ رطيب
…
ومد من عليائه جيده
وأرسل الشدو حنيناً مذيب
…
يهز في الأيك أماليده
وودّع الروض بقلب كئيب
…
إذ لم يجد في الروض غِرِّيده
أهكذا تمضي مضَّي الحلم
…
طافت سراعاً وتلاشت رؤاه؟
أهكذا تطويك أيدي العدم
…
في عمر الزهر وفجر الحياة
ألم تكن نجما سما واضطرم
…
يشع في الأفق فيهدي سناه؟
ألم تكن شعراً على كل فم
…
منسجم اللحن، حبيباً صداه
أي لحون رعن سمع الزمن
…
بعثتها من خفقات الفؤاد
أودعتها الروح تناجي الوطن
…
فيها فتهتز الربى والوهاد
ثم تراميت صريع الوهن
…
مخضب الجرح، سليب الضماد
وامتنع الشدو كأن لم يكن
…
وجذوة القلب استحالت رماد
إذا سجا الليل فقرت عيون
…
وأسعد الساريَ نجم بدا
تلفت القلب وفيه شجون
…
مسائلا عنك، ولكن سدى
لأذرفن الدمع شعراً حزين
…
مرجع الأنات، شاجي الصدى
من نور عينيَّ، وخفي الوتين
…
حتى توافيني عوادي الردى!
قرد وحمار
للأستاذ محمود عزت عرفة
كنت أشهد في بعض قرى الصعيد فتى ريفيا يقتاد حمارا أسود قميئاً قد علمه بعض الأضاحيك ولقبه (ظريفا). وكان يومئ إليه فيلتبط بالأرض في سكون، ثم يبدأ يعرض عليه العروض فيقول: تتزوج من جرجا؟ تتزوج من البلينا؟ تتزوج من سوهاج؟ تتزوج من النخيلة؟ تتزوج من أبو تيج؟ تتزوج من أسيوط؟. . . كل هذا والحمار يرفض في إباء، ويؤكد رفضه بهزات من رأسه حاسمة. فإذا عرض عليه الأمنية النفيسة وقال: تتزوج من مصر؟ - وثب من رقدته مرحا خفيفا وهو يهز رأسه علواً وسفلاً علامة القبول!
كنت أعجب بحركات هذا الحمار، لكن لا أعجب بفكرته - وهو صعيدي - من إيثاره بنات مصر على بنات موطنه الصعيد. . . ثم أقول: لا جرم إنه حمار. . .
وأخيرا تحقق لديّ صدق حكمي على عقلية هذا الحمار، إذ قرأت على قرد حاذق حديثه القاضي التنوخي في كتابه (نشوار المحاضرة) رواية عن ابن عباس الذي يحكى إنه (رأى في شارع الخلد قردا معلما يجتمع الناس عليه فيقول له القراد: تشتهي أن تكون بزازاً؟ فيقول: نعم، ويومئ برأسه، فيقول: تشتهي أن تكون عطاراً؟ فيقول: نعم - برأسه - فيعدد الصنائع عليه فيومئ برأسه، فيقول له في آخرها: تشتهي أن تكون وزيراً؟ فيومئ برأسه (لا)، ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس
كلا الرجلين يمزح في فعله، ويحاول أن يتفكه ويفكه معه الناس - استدرارا لعطاياهم - باتخاذ أمثال هذه الألاعيب. ولكن للفكاهة المستحبة مظهر من الجد، ومرمى غامض من العبرة والموعظة بدونهما تكون عبثا لا طائل تحته
ونظرية هذا القرد صائبة - أعني نظرية صاحبه - إذا نحن تأملنا منصب الوزير على عهدهما، وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء، فما وجه نظرية حمارنا - أو حمّارنا - في الزواج؟!
الحق أن هذا الفتى الريفي وحماره يعبثان بقدر ما كان الشاطر البغدادي وقرده يجدان؛ وفرق ما بين الأولين والأخيرين هو فرق ما بين المسلمين اليوم وأسلافهم في القرون الخوالي. . . هو فرق ما بيني أنا - عربي القرن الرابع عشر - والتنوحي ناقل القصة
وعربي القرن الرابع. . هو فرق ما بين دولة نفضت يدها من المجد أو كادت، ودولة كانت تأخذ من المجد بأوثق أسبابه. فليذهب القراد والحمار جميعا إلى الجحيم، فما كان لهذه المقارنة العابرة بينهما أن ترينني في مستقبل الإسلام والعرب، ولكني مع ذلك رجل مؤمل ومشفق معا، أخاف مثلما أرجو، وأتشاءم لقاء ما أتفاءل. وأحب أن نكون - حتى في مزاحنا - جادين فلا تشغلنا القشور عن تعرف اللباب، أو يصرفنا الغلاف عن تصفح الكتاب. . .
ومن يدري بعد، فلعل قروينا معذور في فعله؟ بل لعله حكيم ثاقب الفكرة، أليس يقدم لنا مزحته الجوفاء، وما تنطوي عليه من فكرة حمقاء، على يدي حمار أسود قميء؟!
البريد الأدبي
حول الترتيب التاريخي للزوميات المعري
قلنا في عدد مضى من الرسالة إن الدكتور عمر فروخ أرسل إلينا كتابا مطولا حول هذا الموضوع يتهم فيه الدكتور عبد الوهاب عزام بكيت وكيت، ثم لخصناه وعلقنا عليه بما رأينا إنه الحق. وفي يقيني أن الدكتور فروخا لو عرف الدكتور عزاما أكثر مما عرف لاستبعد عليه أن يسرق بحثا من بيروت ليقرأه في مهرجان المعري بدمشق. ولكن الدكتور لم يرضه تلخيصنا لكتابه ولا تعليقنا عليه، فبعث إلينا بكتاب آخر يرمينا في مقدمته بالتعصب للدكتور عزام والتستر على (جريمته) والخوف من (نفوذه)، ويوعد بأنه سيطلب حقه من الدكتور عزام ومني بما طلب به المتنبي حقه في بيته المعروف، فرأينا تكذيبا لظنه وتبديدا لوهمه أن ننشر كتابه بنصه. قال عافاه الله بعد (الديباجة):
(طالعت المقالات التي كتبها الدكتور عبد الوهاب عزام عن لزوميات المعري وعن ترتيبها التاريخي في الأجزاء 624 - 625 - 636 من الرسالة الغراء، ولقد لفت نظري أمران:
أولهما: أن الدكتور عزام قال في آخر المقال الثالث: (هذا ما بدا لي في تاريخ اللزوميات وترتيبها، فمن بدا له ما يؤيد رأيي أو ينقضه، فليتفضل مشكورا بالإدلاء برأيه والإبانة عن حجته) ومعنى ذلك إنه أول من فعل ذلك
وثاني الأمرين: أنني وجدت شبهاً عظيماً، بل تطابقا بين الأسس التي أتخذها الدكتور عبد الوهاب عزام لترتيب اللزوميات وبين الأسس التي كنت قد استخرجتها ثم جعلتها أساسا لكتابي (حكيم المعرة) الذي صدر في بيروت في شباط (فبراير) من عام 1944
في هذا الكتاب عنيت بوضع أسس لترتيب اللزوميات، إذ أنني كنت أحاول حل قضية معقدة، هي ما ينسبه بعض المتأدبين، من التناقض إلى حكيم المعرة. وبعد تدبر هذه القضية بدا لي أن ذلك راجع إلى أن ترتيب اللزوميات على حروف الروي ليس الترتيب التاريخي لها مما بسطته في موضعه
واستطعت بعد الدراسة والمقارنة أن أضع أسس ترتيب اللزوميات على خمس قرائن (حكيم المعرة ص24 - 34):
أولا: إشارة المعري نفسه إشارة عامة إلى نظم اللزوميات وترتيبها (ص24 - 25 من
حكيم المعرة)
ثانيا: الإشارات التاريخية وأشهرها قصة صالح بن مرداس (26 - 38)
ثالثا: إشارة المعري إلى سني عمره في أثناء نظم اللزوميات (ص28 - 29)
رابعا: الإشارة إلى تقدم سنه من غير أن يذكر السنوات صراحة كأن يتكلم على شبابه وشيبه وملله من الحياة وحبه لمفارقة الدنيا. . . الخ (29 - 30)
خامسا: تطور أسلوبه في نظم اللزوميات من حيث النضج والقوة (ص30 - 31)
وجاء الدكتور عبد الوهاب عزام فسلخ القرائن الأربع وذكرها على التوالي الذي اخترته، بما يعد أن حذف القرينة الخامسة، لأن البحث في الأساليب أصعب من البحث في غيرها. ويدهشك فوق ذلك كله أنني اعتبرت القرينة الأولى (أعني إشارة المعري نفسه إلى نظم اللزوميات وترتيبها) مقدمة لا غير، لأنه لا يجوز أن أنسب إلى نفسي استخراج أساس أشار صاحبه إليه إشارة واضحة. ولقد فعل الدكتور عزام ذلك مثلي تماما، ثم بدأ بالإشارات التاريخية الخ على الترتيب نفسه لم يغير منه شيئا
على أن هذا لا يمكن أن يكون توارد خواطر، لأن الخواطر قد تتوارد في بيت من الشعر أو في رأي أدبي عارض، أما في بحث علمي طويل ذي فصول وفروع وتقسيم واستنتاج وشواهد وأمثلة فأمر مستحيل وخصوصا إذا اتبع المتأخر المتقدم
ولقد كان توارد الخواطر ممكنا في زمن تقطع بين أرجائه الصحاري والمدى البعيد، أما اليوم في عصر السيارات والطيارات والبريد السريع، فأي عذر ينهض بالمتأخر إذ ادعى أن خاطره وخاطر المتقدم قد تواردا؟
بقي على الدكتور عزام أن يدعي إنه لم يطلع على كتابي، وهذا مردود من وجهين:
أول ذينك الوجهين أن كتابي صدر قبل عام ونصف عام من صدور بحثه، وأن الناشر في بيروت قد أرسل نسخ كتابي إلى العالم العربي، وأرسلت أنا إلى ناشر في لندن عددا كبيرا. ولقد نقدت كتابي المجلات، وبعضها أشار إلى هذا الترتيب التاريخي.
وثاني الوجهين أن العالم الحقيقي لا يهجم على عمل مثل هذا إلا بعد أن يتقصى المكاتب ويفتلي الكتب والمجلات، وخصوصا إذا خطر له موضوع ذو خطر وهناك أدلة أخرى على أن الدكتور عبد الوهاب عزام أخذ البحث عني ولم يبدأه بنفسه، منها أن نماذجه التي
يدعي إنه استخرجها من اللزوميات لا تسند نظريته المدعاة، فليس كل بيت في ذكر للسن راجعا إلى سن المعري. وكذلك ذكر الدكتور عزام في الإشارات التاريخية أسماء (محمود ومسعود)، وقد ذكرت أنا ذلك ولكن في باب آخر (راجع ص94 من حكيم المعرة) للدلالة على أن عمر الخيام كان شديد التأثر بلزوميات المعري، فيما ذكرت من أدلة ذلك
عمر فروخ
وقد اطلع الدكتور عزام على ما نشرته مجلة (الأديب) وكتبته مجلة (الرسالة)، فأرسل إلينا الكتاب الآتي:
الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
السلام عليكم. وبعد، فقد اطلعت في العدد الأخير من مجلة الأديب التي تصدر في بيروت على كلمة عنوانها (إلى الدكتور عبد الوهاب عزام) وتوقيعها (قارئ). وخلاصتها أن هذا القارئ أدرك تشابها بين مقالاتي التي نشرتها في (الرسالة) عن لزوميات المعري وبين بحث في كتاب للدكتور عمر فروخ اسمه (حكيم المعرة). وظن القارئ، وبعض الظن إثم، أني أخذت (الفكرة والترتيب والأدلة والنماذج) من هذا الكتاب
وقد أرسلت إلى مجلة الأديب مبينا أني لم اطلع قط على بحث في هذا الموضوع للدكتور عمر فروخ ولا لغيره قبل كتابة مقالاتي ولا بعدها. ولم استطع أن أتكلم في هذا التشابه بين البحثين حتى أطلع على الكتاب
ثم اطلعت اليوم في الإسكندرية على العدد 631 من الرسالة - وقد فاتني قراءته حين صدوره - على كلمتكم التي نقلتم فيها نبذا من رسالة الدكتور عمر فروخ إليكم، وأبديتم رأيكم في الموضوع
وقد أخذت من هذه الكلمة أن بحث الدكتور عمر الذي وقع التشابه بينه وبين بحثي يرجع إلى ترتيب اللزوميات فحسب.
ومن قرأ بحثي في (الرسالة) يعلم أن موضوعه: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ فهو قسمان: الأول: تحديد الوقت الذي نظم فيه المعري لزومياته؛ والثاني: بيان أن ترتيب اللزوميات على الروي يوافق الترتيب الزماني أولاً. والبحث الأول هو الذي كلفني قراءة اللزوميات كلها واستخراج الحوادث التي ذكرت فيها، والرجال الذين ذكرهم الشاعر
وتاريخ هذه الحوادث وهؤلاء الرجال واستقصاء الأبيات التي ذكر فيها المعري سنّه، والتي ذكر فيها سواد شعره ومشيبه. . . الخ، وقد انتهيت إلى أن الكتاب نظم بين سنتي 400 و420 من الهجرة
وأما البحث الثاني المتضمن أن ترتيب اللزوميات غير مساير للتاريخ، فالأمر فيه أمم، والفصل فيه يسبر بعد الفراغ من البحث الأول
فهل يدعي الدكتور عمر التشابه بين كلامي وكلامه في البحث الأول أو في البحث الثاني؟ الذي يؤخذ من الكلمة التي نشرتها الرسالة إنه يجادل فيما يتصل بالترتيب التاريخي وحده، وكل من قرأ بحثي يعلم يقينا أن كلامي في هذا لا يمكن أن يؤخذ إلا من بحثي في القسم الأول، فهو نتيجة محتومة لي، وهو ليس بذي بال بعد البحث الأول، ولا يقتضي الباحث عناء ولا تعمقا، فليس معقولا أن أنقله عن غيري بعد أن فرغت من البحث الأعمق والأشق الذي بينت فيه متى نظمت اللزوميات
ومهما يكن، فإني أعيد ما أرسلته إلى مجلة الأديب، أني إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة لم أطلع على بحث لأحد في هذا الموضوع، ولا رأيت كتاب الدكتور فروخ
ولو كان الفصل في ترتيب اللزوميات وتبين أنها ليست مرتبة على التاريخ يعد فتحا في الأدب ما أجزت لنفسي أن أنتحل فيه كلام غيري، وأن أسوم نفسي ما لم تعوده من الاتكال على أبحاث الناس، بله النقل أو السرقة
إن هذا البحث وما هو أعظم منه وأشق وأجدى، ليس عظيما من رجل مثلي يقرأ اللزوميات كلها قراءة فاهم ناقد
وكان خيراً للدكتور عمر ولمن كتب في مجلة الأديب أن يرسل إلي الكتاب ويسألني رأيي، فإن المسارعة إلى اتهام مثلي بنقل كلام الناس لا يليق بالأدباء، ولا يلائم تثبت العلماء
وأرجو أن تنشروا هذه الكلمة مشكورين. والسلام
(الإسكندرية 7 رمضان)
عبد الوهاب عزام
ملاحظة وتصحيح:
اطلعت في البريد الأدبي بالرسالة تحت هذا العنوان على نقد للأبيات التي وردت في كتاب (في بيتي) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، وقد أشار فيه الكاتب إلى أن صدري البيتين الثاني والثالث خارجان عن البحر، وأنهما لا يصحان على وجه من الوجوه. قال: ثم بحثت الأمر لأتأكده فظهر لي ما أدركته أولاً، كذا!
ولما كان الروي هو التاء المكسورة، وكان الوقف لا يصح عليها، لأن (القصر) لا يدخل البحر المجتث، ظهر لي أن في البيت الثالث إقواء، فكلمة (أداه) في البيت لا يصح جرها بحال
وأحب أن أعفي الأستاذ العقاد من الرد على هذا النقد، فقد كان في استطاعة الكاتب أن يرجع إلى هذه الأبيات في ديوان (وحي الأربعين)، ليرى أن الشاعر قد وضع علامة السكون على القافية. . . وكان في حل من وضع هذه الإشارة، لأن القوافي ليست من حركة واحدة. . ويحسن بي أن أطلع القارئ على هذه الأبيات كاملة كما قرأتها في (وحي الأربعين) ليصدر حكمه عليها:
النور سر الحياة
…
النور سر النجاة
النور شوق النهى
…
النور وحي الصلاة
النور شوق الفتى
…
النور شوق الفتاة
المحهْ بالروح لا
…
لمح العيون الخواة
ما تبصر العين من
…
معناه إلا أداة
هذا سبيل الهدى
…
لا ما افتراه الهداة
ويتبين من هذه الأبيات أن وزنها:
مستفعلن فاعلن
…
مستفعلن فاعلان
بسكون التاء في القافية، وإذ كانت الموسيقى هي رائد الشاعر في كل ما ينظم، فمن واجب الناقد أن يحلها المحل الأول حين يعرض لهذه الناحية من الكلام، فقد يعن للشاعر أن ينظم على وزن جديد، أو أن يأتي بنظام لم يسبق إليه، وهو بعد صحيح سليم تتقبله الأذن وتستطيبه النفس
فمن الحجر على الشعر والشعراء أن نقول لهم: قفوا عند حدكم، فإن الأقدمين قد وقفوا عند
هذا الحد. هذا لغو وجمود لا أحب أن يبتلى به الشعراء في القرن العشرين
والمطلع على أبيات الأستاذ العقاد يجدها سليمة من ناحية الوزن قوية من ناحية الموسيقى فضلا عما بها من المعاني السامية، ولا يطالب الشاعر بأكثر من ذلك
محمد طاهر الجيلاوي
القصص
تُوَان أو عندما تسيطر المرأة
(إلى الحزب النسائي مع تحياتي)
للكاتب الفرنسي جي دي موبسان
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
جرى على لسان كل من كان يعيش على مبعدة سبعة فراسخ من حانة (التورنفان) اسم صاحب الحانة (انتوان ماشبل). . . وقد تعددت الأسماء التي يدعوه بها رفقاؤه وخلانه، فتارة يطلقون عليه (باتوان) وطورا (فيف ستار توان) وحينا ينادونه (جود أولد يلسن). . .
وكان لتوان الفضل في الشهرة التي نالتها حانة (تورنفان). . . فقد ذاع صيتها مع إنها لا تزال مزرعة فقيرة تقع في كنف متطرف من الوادي الذي يشرف على البحر؛ وقد أحيطت ببعض الجواسق التي يتخذها نفر من أهالي (نورمنديا) مقطناً لهم. . . فغرسوا ثمث الشجار السامقة، وأقاموا السدود، وقد جثمت تلك القرية على جدول تخالط ماءه الرقراق خضرة النبات الذي ترعرع على شفا الجدول. . . وهو ينحدر من الأكمة والتلال التي أوحت باسم (التورنفان).
ويخيل إلى الإنسان الذي ينظر إلى تلك الجواسق في كنف الوادي، أنها بعض الطيور وقد أوت إلى ثلم، عندما تعصف الرياح والأعاصير البارقة التي تكتسح ما على شاطئ (نورمنديا) من الدور الصغيرة. وقد زادت عنها السدود والأشجار، وهذه العواصف تأتي على كل شيء فتجعله قاعا صفصفاً. . أما المزرعة الفقيرة فكان يمتلكها (انتوان ماشبل) وأحيانا (جود أولد يلسن) وأحيانا أخرى (نيف ستار توان) أما اللقب الأخير فلعله صدى لتلك العبارة التي كان يفوه بها نادرا (إن خمر (فيف ستار) لهو أجود ما يجده المرء في فرنسا. . .) لقد ظل قرابة العشرين عاما ينقع غلة القرويين بسلافه العذب المعتق. . . وما من قادم يسأله:(ما الذي يستحسنه اليوم، يا توان؟) فيجيب في غير تلعثم أو تردد (قدح من راووقي المعتق يا بني. . . يبعث الدفء في جوفك، والسكينة إلى نفسك، وهو خير ما يرجى لصحتك) وينادي توان كل إنسان (يا بني) مع إنه لم يرزق ولدا لا في الحلال ولا
في الحرام
عرف توان بأخلاقه الطيبة، وخلاله الفضلى. . . ولو إنه كان حذرا زهما، حتى إنه كان أكثر الريفيين شحما، هذا إن لم يكن قد فاق أهل لورمنديا قاطبة.
وكان كوخه - على النقيض من ذلك - صغيرا ضيقا. . . فمن بره وهو قائم على باب داره حيث يقضي طيلة يومه. . . يتوله العجب عندما يفكر كيف يتخطى ذلك الباب الضيق المنخفض إلى صحن الدار. . . يقف توان على قارعة الطريق يدعو كل من يتوسم فيه الأناقة والثراء إلى حالته حيث يقدم إليه بعض الخمر على سبيل التجربة والقياس. وقد علق على واجهة حانوته لوحة سطر عليها (حانة الصداقة). وكان هشاً بشاً لكل من جاوره وأمه. . .
وقد يفد عليه خلق كثير من إقليمي (فيكامب) و (مونت فليبر) وغايتهم أن يروا توان، ويتندروا بفكاهاته المستملحة ومزاحه العذب الذي يضحك الحجر الصلد. . . لقد أوتي القدرة على أن يشيع المرح حوله دون أن يضجر من يجالسه؛ والقدرة على أن يخبط ساقه في حركة تنتزع الضحك من فيك - شئت أو لم تشأ -، والقدرة على أن يجعل حاجبيه يعبران بما لا يستطيعه لسانه. . . إن منظره وهو ينهل الراح ليبعث وحده الضحك والسرور إلى العيون الساهمة الحزينة. . .
وقد يجرع توان كل ما يقدم إليه من أنواع الشراب كلها، فيلمع في عينيه بريق الخبث. . . وتتألق مقلتاه بالابتهاج الذي يجعلك تقدم إليه المزيد من الشراب. وطالما كان يسأله مواطنوه:(لم لا تلعق من ماء البحر ما يشبع شراهتك هذه؟) فلا يسعه إلا أن يجيب في هناف: (ثمت سببان. فأولا: ماء البحر أجاج تعافه النفس؛ وثانيا: ينقصني تلك المعدة التي يمكنها أن تسع ذلك الماء الطيسل).
عندما ينقلب توان إلى زوجته، تدور رحى الشجار بينهما فيبدأ فصل روائي لا يقل عن الفصول المسرحية روعة وبراعة. . . لقد انصرمت على زواجهما ثلاثون عاما، لم ينقض يوم واحد منها إلا والشجار حليفه. . . والذي باعد شقة الخلاف بينهما هو الفرق البين بين روحه المرحة الطروب، ونفسها الصاخبة الصلفة.
كانت امرأة ريفية فارعة الطول تسير في خطوات طوال كأنها البجعة، وقد منحها الله
سحنة مقطبة عبوسة كالبومة، راحت تمضي وقتها بين دجاجها تعنى به وترعاه في قفصه خلف الحانة. . . وقد ذاعت مهارتها في تربية الدجاج بين جيرتها. وكانت تتطفل على الولائم دون دعوة أو خشية لائم. . . ولا تجدها إلا حانقة صاخبة ساخطة على العالم بأجمعه. . . أما في الفينة الأخيرة فكل سخطها تركز على بعلها. كانت تحقد عليه لبشاشته ومرحه، لشهرته وصيته، لصحته ورهله. . . وطالما نعتته (بالماجن المحظوظ) لأن المال يأتيه طواعية دون كد أو جد في طلبه. . . أو (لأنه يأكل قدر ما يتناوله اثنا عشر رجلا. . . وقلما ينقضي يوم دون إثارة انفعالها وحنقها. . .
ابتدرته يوما صائحة: (انظر أيها النهم الشره. . . انظر إلى نفسك وأنت تسير كالكتلة البشرية. . . سوف تلتهم الطعام التهاما حتى يحل ذلك اليوم الذي تنفجر فيه بطنك كالحزمة من القمح، وقد انقطع رباطها. . .) فانطلق توان بقهقهة وهو يربت على بطنه في رفق وهوادة، وما لبث أن قال وهو يلوح بذراعه:(آه. . . أيتها (العصا الرفيعة) لست أدري ما الذي يمنعك من أن تسمني نفسك كما تفعلين مع دجاجك. . . أني لأتوق وأنت تقومين بذلك أيتها المرأة) ورددت الجدران بعد ذلك صدى الضحك الذي انبعث من أفواه الحاضرين. . . وقد جلسوا إلى الموائد الخشبية، فيوفر ذلك صدر المرأة بالغيظ والحنق فتندفع قائلة:(تبا لكم أيها الكسالى. . . فما يرجى منكم نفع ولا ضر) ثم تغادر الحجرة شامخة بأنفها، مصعرة خدها، مشيعة بضحكات السخرية والاستهزاء. . .
يبدو أن كل من كان على شاكلة توان، وقد حباه الله جسداً حادراً وكان ضيق الصدر لا يلبث أن يداعبه الموت مداعبة القط للفأر، ولا يلبث بعد هذه الضخامة أن يبذل عوده، ويسري الهلاك رويدا في بدنه، ويتسرب الموت إلى نفسه كما يسير اللص في هدأة الدجى. . . فيطوح أولاً بذلك الشعر المجعد، وينثني إلى الأعضاء الزائدة. . . ثم لا يلبث أن يذهب بما بقي. . . هذا ما يجعلنا نفغر أفواهنا دهشا لنقول:(يا إلهي! أيطوح الموت مثل هذا الحجم!)
ولكن المنية غفلت عن توان. . . غفلت عن منظره الضخم المثير للضحك. . . بل حبته صحة وقوة. . . حبته طلعة مبهجة مؤنسة، فكان ذلك يثير حنق زوجته فتصيح:(رويدك أيها الرجل، فسوف يأتيك منجله من حيث لا تدري. . .)
ألمت بتوان صدمة خلفته قعيد الفراش، مصابا بالفالج، ولزم المارد العجوز فراشه في غرفة صغيرة خلف الحانة. . . حيث كان في مقدوره أن يحس ويسمع ما يدور حوله، وأن يتبادل الحديث مع خلانه وراء الحائط. . . وعلى الرغم من أن جسده كان مقضيا عليه بعدم الحركة، فقد ظلت روحه الطروب على مرحها وسرورها. وكانوا جميعا يأملون في أن تسترد أعضاؤه القدرة على الحركة والتنقل ولكن آمالهم ذهبت أدراج الرياح. . . فحكم القدر على توان أن يمضي وقته في فراشه لا يغادره. . . ولم يحاول أن ينتقل من مضجعه إلا مرة واحدة، حيث استطاع بمساعدة اثنين من جيرته النهوض مستندا إليهم. . . لتبدل زوجته فراشه بآخر.
لم يكن يفارق مرحه وبشاشته إلا في حضور زوجته، فأنه كان يبدو وديعا رزينا كالطفل. . . كانت تقول له على الدوام (انظر إلى نفسك. . . انظر إلى تلك الكتلة العديمة النفع. آه! أنت تجلس في الفراش مستريحاً، وعلي أن آتيك بما تود. . .) فلا يسعه غير الصمت، وإغضاء طرفه، ويتحامل على نفسه لكي يجلس في فراشه. وكانت الحركة الفريدة التي يأتيها هو أن يتقلب ذات اليمين وذات اليسار. . . راح يستمتع بالإنصات إلى لغط القوم في غرفة الشراب، وإذا ما تعرف على صوت صاحب له صاح يناديه:(ألست (سلستن)؟! إني هنا يا بني) فيجيبه سلستن (أنا ذا يا توان. أما تستطيع أن تنهض وتأتي إلينا؟!) فيقول توان ثانية: (ليس في طوقي أن أنهض. . . ولكني في صحة جيدة. ولم أفقد عقلي بعد) وبعد هنيهة يدعو أصدقاءه المقرنين إلى غرفته. ويتمتع برفقتهم حينا، ولو أن منظرهم وهم يجرعون الخمر دونه يثير كوامن نفسه. . . وينغصه بعض الشيء. فيقول في تذمر:(أف لهذا الداء، فهو الذي يمنعني أن أتناول قطرة من راحي المعتق. يا لتعاستي).
وتظهر زوجته بغتة من النافذة فتصيح: (انظروا إليه. . . انظروا إلى (الماجن المحظوظ) لقد أخذت على عاتقي أن أطعمه وأصنع ثيابه. . . وأنظفه وهو جالس كالخنزير) وعندما يغيب وجه زوجته من النافذة، يقفز إلى حافتها بعض الدجاج حيث يعدوه في الصياح والتقاط فتات الخبز. ويغادره أصدقاؤه بعد أن يعدوه بالحضور في عصر كل يوم للتندر معه، ويستمعون إلى قعيد الفراش وهو يلقي عليهم فكاهاته التي تجعل الشيطان عينه ينطلق ضاحكا. . .
وظل ثلاثة من أصدقائه يختلفون إليه على الدوام وهم: (سلستن مالويسل) وهو رجل معروق كساق شجرة التفاح. و (بروسبر هورسلافيل) وهو رجل دعوب ذو أنف محدب، خصه الله بخبث الثعلب ولسان لاذع متهكم، و (سيزار بومال) الذي لا ينبس ببنت شفة، ولكن يلذ له أن ينصت إلى توان. وكانوا يحضرون معهم لوحة خشبية يطرحونها على السرير ليمضوا الوقت في لعبة النرد. . . ابتداء من العصر حتى الساعة السادسة مساء. . . لم تكن زوجة توان تطيق أن ترى بعلها مبتهجا مستغرقا في اللعب. . . فكانت كثيرا ما تهبط عليهم فجأة فتقلب اللوحة، وتصيح إنها لا تطيق رؤية ذلك النفر من الخنازير لا يجدون شاغلا سوى الحضور إلى دارها للترفيه عن زوجها (خنزيرهم الأكبر) وكأنه الأمير لا يعفر قدميه في العمل الشاق الذي تقوم بإنجازه سحابة يومها. . . فيحني كل من:(سلستن مالويسل) و (سيزار بومان) هامته أمام العاصفة، أما (بروسبر هورسلافيل) فيأخذ في إثارتها، فكانت تصب عليه جام غضبها وحنقها. . .
قال لها (بروسبر) يوما وكانت في سورة سخطها: (رويدك يا سيدتي أتدرين ما الذي أصنعه لو كنت مكانك؟) فتوقفت برهة عن السب واللعن، وصوبت إليه نظرة حادة - كنظرة البومة - فواصل حديثه قائلا:(إن حرارة هذا الطفل العجوز كأنها الأتون المستعر. هذا ما أراه يا سيدتي؟ انتفعي من هذه الحرارة بجعله (يفرخ البيض)!) ففغرت المرأة فاها من العجب وراحت تفكر، ثم عاودت النظر إلى بروسبر - ذلك الثعلب الماكر - فعاد يقول:(نضع تحت ذراعه خمس بيضات. . . وخمسا تحت ذراعه الأخرى - كما تضعين البيض تحت الدجاج - وعندما يفرخ، نأخذ الفراريج وندعها لدجاجة ترعاها كما لو كانت فراريجها. ومن ثم يمكنك أن تحشدي قفصك بالدجاج. أما هذا بصحيح؟!) فقالت المرأة وقد عراها الذهول: (أو تظن أنها ستفلح يا بروسبر؟!) فأجابها على الفور: (دون شك، فكما يفرخ الدجاج في قفصه يستطيع زوجك أن يفرخ في سريره. . .)
كان لإيحاء بروسبر أثره الفعال. . . فبعد أسبوع حملت زوجة توان عشر بيضات في فضل ردائها إلى زوجها القعيد. . . وقالت: (لقد أرقدت الدجاجة الصفراء على عشر بيضات، وها هي عشر بيضات أخرى لك، فحاذر أن تحطمها. . .) فقال توان بعد أن أفاق من وقع هذه الصدمة: (يا لله! ما هذا؟! أأصاب عقلك لوثة من الشيطان؟!) فأجابته زوجته:
(عليك بتفريخ هذه العشرة كما تفعل الدجاجة أيها البله) فراح يضحك، ولكن عندما أحس لهجة الإصرار في صوتها لم يلبث أن ثار غضبه لامتهان عزته وأخذ يلعنها، ويعارضها في أن تتخذ من ذراعه مصنعا للتفريخ. فجن جنون المرأة وصاحت في عزم وحزم:(إذن لن تعرف للطعام سبيلا ما دمت لن تفرخ البيض. . . ضعها ثم دعنا ننظر يا زوجي العزيز) فراح يهددها بتحطيم البيض إن هي أدنته منه، فنأت عنه. . . حتى دقت الساعة معلنة الثانية عشرة فصاح:(ويحك! عليّ بالغداء أيتها المرأة!).
- (ليس هناك غداء لك! أيها الخنزير العجوز) وخيل إليه أولاً إنها تمزح فمكث غير طويل. . . ثم ما لبث أن راح يصب لعناته عليها وعلى النساء اللائى يشطرن على أزواجهن فيجعلن منهن لعبة في أيديهن. . . وأخيرا راح يتوصل إليها وهو يتلوى ذات اليمين، وذات اليسار. بيد أنه لم يجد في النهاية بدا من أن تضع خمس بيضات في الفراش لصق ضلوعه اليسرى. وحينئذ أمكنه أن يتناول غداءه. . . وفي المساء حضر إليه الأصدقاء؛ فكان مسلكه غريبا حيالهم وكأن المرض يعتريه، ولم يجدوا منه إقبالا وبهجة للعب، فقد كان يضع يده في حذر إلى جانبه عندما تعن له الحركة. فسأله هورسلافيل:(ماذا دهاك؟! أذراعك يؤلمك يا توان!؟) فأجاب توان: (يخيل إلى ذلك كأنما أصاب أكتافي النقرس) وفجأة سمعوا لغط حاكم المدينة ووكيله يلجون الحانة، ويطلبون قدحين من الخمر، ثم راحا يتحدثان في شؤون البلدة.
وبينما هما يتحاوران في لهجة قانونية، مد توان أذنيه إلى الحائط ليتمكن من الإصغاء، وقد سها عن البيض. وتحرك إلى اليسار قليلا حركة جعلت البيض يصير (كالعجة). فتنهد توان في كآبة وكدر وهو يشم المنازلة. واندفعت زوجته إلى الغرفة ورفعت أغطية السرير. ووقفت تحدق هنيهة في ذهول نحو الخليط الصفر الذي أخذ يسيل من ضلوع زوجها، ثم انهالت في ثورة الجنون على الرقيد المفلوج لكما وضربا في حرارة ونشاط. . . أخذت يدها ترتفع وتنخفض، وتيسر وتيمن في ضربات قاسيات تهبط على بطن زوجها المنتفخ كأنها الأرنب يعمل يديه حفرا في الأرض. . . وعلا هذه الضجة جرس القهقهة التي أخذ يطلقها رفقاؤه، في رنة فرح وابتهاج، وحاول الزوج المنكود أن يتقي ذلك السيل من الخبط، وقد انهمر عليه في قسوة فحطم الخمس بيضات الأخرى مما زاد الطين بلة. . .
عاش توان بعد ذلك يعمل للتفريخ فقط. . . فحرمت عليه زوجته اللعب مع رفقائه، لكي لا يأتي أي حركة طفيفة تحطم البيض فيتعرض لقسوتها فقد كانت تحرمه من وجبة الطعام إذا ما شرخ بيضة واحدة. فاضطجع في فراشه عاجزا عن الحركة، تحدق عيناه في سماء الحجرة. وقد ضم يديه إلى ضلوعه مرخماً ليجعل الدفء والحرارة تسري إلى البيض ذي الكر فيء الأبيض الهش، لا يرتفع صوته إلا بالهمس. . . قد كان يخشى الضجيج خشيته من الحركة. . .
وبعد فترة من الزمن أخذ يركز اهتمامه على الدجاجة الصفراء في محضنتها وطالما سأل زوجته في قلق (اتناولت طعامها اليوم)
وزعت المرأة العجوز وقتها بين زوجها وفرختها وأملها الذي يراودها أن ترى أفراخا تتنسم الحياة سواء أفرخ زوجها في الفراش أو دجاجتها في القفص. . وذاع الخبر في طول الريف وعرضه، وأخذ الناس يفدون على (حانة الصداقة) من كل فج عميق، وهم تواقون إلى رؤية توان (راقدا على البيض). كان يتجهون إلى غرفته بأطراف ساهمة - شاع فيها الجد - وكأنهم يدلفون إلى غرفة مريض:
- (كيف أصبحت اليوم يا سيد توان؟!) فيجيب: (على ما يرام لولا أنني أخشى الحركة فأحطم البيض الذي يلتصق بضلوعي).
هرولت الزوجة ذات يوم إلى توان وهي تصيح: (لقد أفرخت الدجاجة الصفراء سبعة فراريخ، وذرت الثلاثة الباقية) فتسارع الدق في قلب توان وهو يتبصر في العدد الذي سيفرخه هو! وقال في صوت شاع فيه قلق المرأة حين ولادتها (أحسب أن نوبتي قد حانت!) فرددت المرأة في اضطراب (أحسب ذلك)
وما كاد يذاع أن ساعة توان قد أزفت حتى توافد عليه الزوار من كل صوب وحدب ليشاركوه سعادة الفوز، وطفق الريفيون يتحدثون عن توان ويطرقون البواب ليعلنوا أحدث الأنباء. . . وعند الساعة الثالثة مساء غفى توان قليلا كعادته. . . وفجأة استيقظ على أصوات غريبة، وأخذ يحس نقرا تحت ذراعه الأيمن، فمد يده اليسرى، وأخرج مخلوقا دقيقا، كسي زغبا أصفر، وراح يتلوى بين أنامله، وكم كانت بهجة توان عندما صاح بأعلى صوته وأطلق الفروج على صدره، وسرعان ما اكتظت الغرفة بالقوم أحاطوا به إحاطة
النظارة ببطل من البطال، وما كادت زوجته تقف إلى جانبه حتى أمسكت بالفروج الذي أوى إلى لحية توان العجوز. . . وتقاطر العرق على جنبيه من الحيرة والعجب، وهو يرتعد تحت تأثير شعور عميق، وفاجأهم ثانية وهو يدمدم:(هه! ها هو فروج آخر تحت ذراعي اليسرى!) فخفت يد المرأة تلتقطه من تحت الغطاء. . . وفي حذر ومهارة القابلة أخرجت يدها بالفروج الثاني. . . فتجمهرت الجيران حولها، وأخذوا ينقلونه من كف إلى كف، وهم يتطلعون إليه كأنه إحدى عجائب الطبيعة!
مضت عشرون دقيقة دون أن يحدث شيء، ثم أخذت أربعة فراريج تنقر كرفئ بيضها، وراحت صيحات العجب تتوالى من حين إلى آخر، وتوان يزهو بقدرته الفائقة بين نظرات الإعجاب، وراح يقول مداعبا:(لقد أفرخت ستة فراريج، فلي إذن كلمة (التعميد). . .). فانطلقت عاصفة الضحك من أفواه الحضور، وامتلأت الغرفة على آخرها بالرفيين، فظل معظمهم قائما عند الباب، وكل من يحضر يسأل في لهفة:
- كم أفرخ إلى الآن؟
- ستة فقط!
حملت زوجة توان (الأسرة الجديدة) إلى قفص الدجاجة الصفراء، حيث جعلت هذه تحبوها - مع أفراخها - بعطفها وتكلؤها بعنايتها، وتنظف ريشها، وتضمها تحت جناحها لتذود عنها غائلة المعتدي!
ثم لم يلبث توان أن صاح: (هه! هذا فروج آخر). ولم يكن هذا فروجا واحدا، بل ثلاثة فراريج مما جعل الحاضرين يسبغون على توان عبارات الإطراء والثناء، أما الفروج العاشر والأخير، فقد نقر بيضته في الساعة السابعة تماما، وبذلك قدر لتوان أن يجوز ذلك الامتحان القاسي بنجاح باهر فاق فيه الدجاج نفسه، فلم يسعه إلا أن يقبّل الفروج الأخير في رفق وحنان. . .
وبينا هو في نشوته يعجب من قدرته على إظهار هذه المخلوقات إلى حيز الكون، لم تمهله زوجته العجوز، بل قوضت عليه صرح هناءته (بمولوده السعيد). . . والتقطت منه الفروج لتضمه إلى (باقي الأسرة)
انحل عقد المتفرجين، وأخذوا يتفرقون إلى دورهم مبتهجين معجبين بتوان وقدرته. وكان
آخر من غادر الغرفة (بروسبر هورسلافيل) فسال توان في خبث شاع شيء من التهكم: (هه! استدعوني عندما يسلق أول فروج ويقدم طعاما على المائدة!) فأجابه توان ضاحكا: (بلى. . . وعلى الرحب والسعة يا بني)
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي