المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 636 - بتاريخ: 10 - 09 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 636

- بتاريخ: 10 - 09 - 1945

ص: -1

‌تنافس المستعمرين

في الشرقين الأدنى والأوسط

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

من توخى أن يعرف الحقيقة كلها في حوادث هذين الشرقين السياسية استدعى هذا الغرض النبيل أن يرجع صاحبه ولو قليلا إلى التاريخ: لأن الزمن سلسلة متصلة الحلقات يرتبط فيها الحاضر بالماضي ارتباط المسبب بالسبب، ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويرتبط بالمستقبل ارتباط السبب بالمسبب؛ ويستدعي هذا الغرض أيضاً كل الالتفات إلى عوامل المصالح الاستعمارية والسياسة الدولية في الشرق

ومهما يكن شأن التطورات الاجتماعية والانقلابات السياسية المختلفة، وشأن التوازن الجديد بين الدول العظمى التي تتوزع بأعيننا وأسماعنا أقطار هذه الكرة الأرضية وشعوبها؛ ومهما يكن لتقدم العلم والفن ولتطبيقاتهما العملية من أثر في النفوس والعقول، يبقى التاريخ بأنواعه الشتى مرآة الحياة البشرية، ونبراساً ينير البصائر لبقاء السنن الأساسية العاملة في البشر ما بقيت جبلتهم على ما هي منذ نشأة الإنسان الأول. وليس يوجد سبب غير وهمي، وإن صدق أفراد فضلاء في تمجيد المثل العليا، وفي اعتقادهم سمو الإنسانية نحوها، يثبت أن القوى سوف لا يستغل الضعيف ولا يحاول أن يبقيه مقيما على الضعف بالنسبة إليه ليحفظ قدرته ومصلحته بالقوة أو بالتمويه والرياء

فمن التاريخ أن الإسكندر الذي مزق إمبراطورية الفرس لم تدم فتوحاته، ولكن كان من نتائجها أن عرف العالم الغربي طرقاً إلى الغزو، وقد التفت إليها نابليون وهو يضع مشروعاته المختلفة لمحاربة الإنجليز في الهند. أما الرومان فقد أظهرت معاركهم في الشرق الأدنى قيمة دجلة والفرات من حيث هما طريق إلى غزو فارس والخليج الفارسي والهند. وأدركوا أن الثروات الأسيوية لم تكن في جزيرة العرب ولا في أثيوبيا، بل كانت تنقل من الهند فاتجهت جهودهم إلى التسلط على شواطئ هذه الجزيرة

قام اليونان والرومان وحدهم في أيامهم بالتوسع الأوربي في الشرق الأدنى. على أن أمم أوربة الغربية كانوا متصلين بآسية منذ عهد قديم بوساطة المسيحيين الكثيرين الذين ظلموا يحجون الأماكن المقدسة. ولما جاءت الحروب الصليبية نشأت إمارات مسيحية في سورية

ص: 1

ومملكة في القدس. وكان لفرنسا شأن كبير في هذه الحروب، وهي تعد هذا الشأن أصل ما تدعيه سياستها من ذكرى وآثار تتعلق بآسية الصغرى وسورية وفلسطين ومصر، ودخلت تلك الدويلات المسيحية في معاملات تجارية، فأخذ تجار جنوة والبندقية وبيز ومرسيلية يتاجرون في الثغور السورية

ثم جاء استيلاء العثمانيين على قسطنطينية ضربة شديدة في تجارة جنوة. ولم تكن فرنسا ولا إنجلترا ولا هلانده ولا البرتغال قادرات يومئذ على منافسة البندقية في الشرق، فاحتكرت هذه الجمهورية التجارة في جميع البحر المتوسط احتكاراً عملياً. وقد أيد ثراء البندقية العظيم عجائب أذاعها رجال الدين والتجار الذين حملوا أنفسهم على أخطار التوغل في آسية من مفتتح الحروب الصليبية، ووصفوا الوفر من الثروات في بعض جهات القارة الأسيوية، فحاول شعوب أخر أن يستدركوا ما أصبح عليه البنادقة من احتكار التجارة الشرقية؛ ولذا عالجوا افتتاح طريق جديد إلى الهند من الشرق أو من الغرب. وأحدثت سياحة فسكوده جامه انقلاباً تاماً في علاقات أوربة بآسية، فقرر البرتغاليون أن يحتكروا كل تجارة فارس والهند وأرخبيل الملايو احتكاراً عملياً بتحويلها إلى لشبونة من طريق رأس الرجاء الصالح الجديد، ولما ضمت أسبانيا البرتغال انتقلت تجارة المحيط الهندي شيئاً فشيئاً إلى الهلانديين، ولم يلبث الإنجليز والفرنسيون أن نافسوهم في الخليج الفارسي، ثم تنافس الفرنسيون والإنجليز من ذلك العهد على طرق الشرق الأدنى التجارية

إن آسية وأفريقية أوسع ميادين الاستعمار، وهما أسواق ومستغلات، والهند أعزها لدى إنجلترا، وقد وضعت مشروعات فرنسية لغزوها على عهد بونابرت وقبله. فأصبحت الهند في القرن التاسع عشر العامل الموجه للسياسة البريطانية في الشرق الأدنى. كانت بريطانيا تخشى على الهند غزوات المستعمرين من طرق سورية وقزوين ونهر أكسوس، فلم تنتفع قبل الحرب الكبيرة الماضية إلا بالطريق البحري؛ وظلت مدة ضعف الدولة العثمانية وطيلة القرن التاسع عشر تحول دون الانتفاع بالطرق الأرضية: إذ اجتهدت في إبعاد فرنسا عن مصر وسورية وبلاد العرب، وفي منع روسيا من تثبيت قدمها على الخليج الفارسي، ومن الاستيلاء على إيران والأفغانستان وبلوخستان، ونحت بعزم كل دولة منافسة عن هذا الخليج. وكانت في آخر القرن الماضي قد أتمت احتلالها المواقع الحربية فيه:

ص: 2

فجعلت خمسة عمال سياسيين من إنجليز الهند ساهرين منذ تلك الأيام على المصالح البريطانية في مسقط والكويت والبحرين وبندر عباس وبندر بوشير، وسلطة هؤلاء العمال تعتمد على أسطول صغير قوي وفرقة من الجنود الهندية معسكرة في جسق بمدخل الخليج الذي ردته بذلك بحيرة إنجليزية، فصار ميسوراً على الدوام أن تجتازها حملة إنجليزية تسرع من الهند صوب شط العرب لتنقض من خلف وجنب معاً على كل جيش يقصد الهند من طريق الفرات. وقد حصلت إنجلترا من تركيا بالمعاهدة السرية المعقودة في 4 يونيه عام 1878 على حق الحلول بقبرص، وهذه الجزيرة موقع حربي من الطراز الأول يسمح لها بمراقبة الفرات والإشراف على خليج الإسكندرونة وصد الروس عن طريق فلسطين، إذ كان الممثلون الروسيون يطلبون حماية الأرثوذكس فيها برغم معاهدة عام 1856 التي ختمت حرب القرم

طال عهد التنافس بين إنجلترا وفرنسا في الشرق الأدنى، ولم ينته في مصر إلا بالاتفاق الودي عام 1904، لكن هذا الاتفاق لم يحدد مصالح الدولتين في سورية. لذا ظل رجال الاستعمار البريطاني والموظفون الإنجليز في مصر يعدون أن سورية سوف تصير حلقة بمصر. وقد كانت سياحة السير ألدن غورست عام 1909 في سورية المطموع فيها سبب إشاعة اضطرت فرنسا إلى طلب بيان عنها من إنجلترا. واتفق الدولتان في ديسمبر عام 1912 على مصالحهما في ذلك القطر، وحصلت فرنسا بعد من تركيا على امتيازات أزعجت بعض الإنجليز، فقام السير مارك سايس في مجلس العموم يشكو من تأمين فرنسا باتفاق عام 1912، ومن الطريقة التي أولت بها هذا التأمين. فأجاب وزير الخارجية البريطانية بأن الحكومة باقية على سياسة حفظ كيان الإمبراطورية العثمانية، وإن ذلك التأمين إنما كان تهدئة لفرنسا، ولم يقصد به غير مصالحها الاقتصادية فيما يتعلق بالسكك الحديد، ولم يكن في الأمر تعيين مناطق نفوذ؛ وإن الحكومة لم تفعل ذلك إلا تكذيباً لشائعة أراد بها ناشروها أن يثبتوا أن سعي بعض الموظفين البريطانيين مآله ضم سورية إلى مصر

ويوم نهضت ألمانيا نهضتها لم تلبث أن نظرت بعين الاستعمار إلى الشرق، خصوصاً بعد مؤتمر برلين لعام 1878، حيث أيدتها إنجلترا، إذ كانت مشغولة بإبعاد روسيا عن استنبول

ص: 3

قبل كل شيء. وسرعان ما وضعت ألمانيا برنامجها لتحقيق أطماعها على مبدأ (الزحف إلى الشرق) وهو برنامج بدأ يتضح منذ حصلت على امتياز السكة الجديد البغدادية. . لم تدرك ألمانيا اقتسام أفريقية، فاتجهت إلى آسية حيث أرادت أن تتخذ مناطق إمبراطورية، أو شبه هند ألمانية تجعل الأناضول وقيلقية وما بين النهرين جميعاً أرضاً جرمانية ومستعمرة عظيمة للإسكان يمكن أن تنتشر فيها الثقافة الألمانية. وأن تصير أيضاً أسواقاً كبيرة الشأن لمصنوعات ألمانيا. وقد كانت مصانعها راغبة في إنتاج أطنان من القضبان والمواد المختلفة لإنشاء سكة حديد عظيمة تخترق آسية الصغرى إلى الخليج الفارسي، وترسل فروعها إلى البحر المتوسط والقوقاز وإيران

رأت ألمانيا، في سبيل تنفيذ برنامجها، أن توحي إلى السلطان عبد الحميد أنها صديقته الوحيدة، وأن مستقبل دولته في البلاد العربية وفي ظل الخلافة، إذ كان يومئذ يشعر بانهيار نفوذه في أوربة، ويجد أن كل دولة غربية اقتطعت حصة من إمبراطوريته فسعت ألمانيا في أن تجعل نفسها الحامية المتعينة للإمبراطورية العثمانية، وأن تجتهد في توطيدها بتشجيع الجامعة الإسلامية، وإعادة تنظيم الجيش التركي وإسداء المشورة للسلطان في سياسة سكك حديد الغرض منها تسهيل التعبئة واحتشاد الجنود في مكان الحاجة

أما الأماني الروسية ومصالح إنجلترا وفرنسا المستديمة منذ أجيال في الشرق الأدنى، فلم تكن نية الألمان أن يصدموها رأساً، ولذا لم يذكروا الاستعمار ولم يكن في كلامهم الرسمي سوى إحياء الموات في أملاك عثمانية وتحويل ذلك القواء الفسيح، بعد خصب واكتظاظ بالسكان إلى أراض اقتصادية، فتستفيد حينئذ مصالح الجميع من عمل ألمانيا. ومتى يمتد الاستعمار الألماني من بعد إلى سهول ما بين النهرين الكلئة، وتصل السكة الحديد إلى الخليج الفارسي ينادي القيصر يومئذ بأنه سيد الحقيقي للإمبراطورية العثمانية ويعلن حقوقه في آسية الوسطى

غير أن إنجلترا لم يكن في استطاعتها أن تقبل مد السكة الحديد من بغداد إلى الخليج الفارسي، وهي تجتهد منذ قرن في أن تجعله بحيرة إنجليزية، ولم تكن في غناء من جهة أخرى عن الأشراف على مصب شط العرب لضرورة أن تمر به السكة الحديد التي كانت تحلم بمدها إلى الهند. من أجل ذلك حالفت الشيخ مبارك، شيخ الكويت، فنزل لها سراً عن

ص: 4

خور عبد الله. ولما كانت ألمانيا تريد أن تبلغ البحر بأي ثمن، فقد أوعزت إلى تركيا أن توطد سيادتها الفعلية على الكويت بمساعدة ابن الرشيد. وبالغ السلطان عبد الحميد في تقدير التأييد الألماني له، فحاول عام 1900 أن يثبت سيادته عملا بتلك المشورة. لكن إنجلترا كانت ساهرة، فاضطرت الطوابير التركية إلى الانسحاب بأمر من قائد أسطول الخليج الفارسي، وبقيت الحال على ما كانت عليه، وعادت تركيا عام 1902، فاحتلت جانبا من الشاطئ شمالي الكويت، فقابلت إنجلترا ذلك عام 1903 بإعلان حمايتها لهذا الثغر. وعينت وجهة نظرها بالدقة تلقاء المطامع الألمانية، إذ قال اللورد لانسداون في 5 مايو عام 1903 بمجلس اللوردات:(إني أقول غير متردد إننا نعد قيام دولة أخرى بإنشاء قاعدة بحرية أو ثغر محصن في الخليج الفارسي تهديداً خطيراً للمصالح البريطانية، ونحول دونه حقاً بكل ما لدينا من وسائل)

ثم عقدت إنجلترا اتفاقاً مع تركيا في الربيع من عام 1914 عين البصرة مكاناً تنتهي فيه السكة الحديد البغدادية؛ وشرط الاتفاق أن يكون لإنجلترا في مجلس الإدارة بشركة هذا الخط عضوان يشرفان على كل ما يتعلق بإدارة مرحلته بين بغداد والبصرة؛ واعترفت إنجلترا في الاتفاق بسيادة تركيا على ثغر الكويت بشرط أن يحترم السلطان ما يتمتع به شيخه من الاستقلال الذاتي، ويحترم أيضاً ما بين الشيخ وحكومة لندن من الاتفاقات؛ ونزلت تركيا عن حقوقها على جزر البحرين وشبه جزيرة قطر، وأراضي عمان حتى مسقط؛ وشرط الاتفاق أيضاً لإنجلترا حرية الملاحة على دجلة إلى بغداد، وحق الإنارة ووضع علامات المخاطر، وحق القيام بأعمال البوليس أي حفظ النظام والأمن، وذلك كله في النهر وفي الخليج جميعه

ولما أوضحت الاتفاقات الدولية الموقف إيضاحاً كافياً رأت الحكومة الإنجليزية أنها أصبحت بعد ذلك على استعداد لمباحثة الحكومة الألمانية رأساً، ورغبت في عقد اتفاق مع ألمانيا، فكلفت هذه البرنس لخنوفسكي سفيرها في لندن أن يفاوض السيرجراي، وتقارب وجهتا النظر قبيل الحرب الكبيرة الماضية تقارباً يفتح باباً للأمل في عقد اتفاق شرقي ومعاهدة استعمارية بين ألمانيا وإنجلترا، وقد عقدت هذه المعاهدة في 15 يونية عام 1914 وأشار إليها السيرجراي في مجلس العموم في 29 من الشهر عينه، وسميت معاهدة بغداد.

ص: 5

وقد اعترفت فيها إنجلترا لألمانيا بامتيازات عظيمة، إذ أصبح لها حرية التصرف في السكة الحديد الأناضولية وسكة بغداد، مع احتفاظ إنجلترا بجميع حقوقها السابقة في هاتين المنطقتين. لكنها نجحت في إبعاد منافستها إبعاداً مؤقتاً على الأقل عن شواطئ الخليج الفارسي. فكان من الممكن إذن أن تنجح يوماً في تحقيق مشروعاتها المتعلق بإنشاء سكة حديد إمبراطورية إنجليزية تصل بور سعيد بالكويت، ثم تمتد على الشواطئ الإيرانية إلى الهند. ويقول البرنس لخنوفسكي في مذكراته:(كان الغرض من هذه المعاهدة في الواقع تقسيم آسية الصغرى (مناطق نفوذ)، غير أنه كان واجباً أن نتفادى من استعمال هذه العبارة بأعظم عناية مراعاة لحقوق السلطان)

ولاشيء أدل من اعتراف البرنس لخنوفسكي هذا على ما يجب أن يعرف الشرقيون من معنى صداقة الدول المستعمرة ومعنى التصريحات السياسية المتعلقة بحفظ كيان الإمبراطورية العثمانية كتصريح وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم بشأن تأمين فرنسا في اتفاق عام 1912 المتعلق بسورية؛ وليس أوضح من ذلك الاعتراف في بيان ما يجب أن يفهم الشرق من معاني الاستقلال وما شاكل هذه الكلمة على ألسنة السياسات الاستعمارية

ولاشك في أن الاتفاق الثلاثي بين فرنسا وروسيا وإنجلترا جعل غليون الثاني على يقين من أنه لا يستطيع تحقيق أطماعه في الشرق بغير التجاء إلى القوة، لكنه مع عزمه على الحرب كان راغباً في تأجيل موعدها إلى اليوم الذي تصبح فيه قوة الأسطول الألماني مساوية قوة الأسطول الإنجليزي. أما الاتفاقات الشرقية التي قبل أن يعقدها، فكان غرضه منها تأخير أجل الحرب على أمل أن يفك عرى ذلك الاتفاق الثلاثي بسياسته. بيد أن الحرب البلقانية الثانية انتهت بمعاهدة بخارست المعقودة في 10 من أغسطس عام 1913، وقد وزعت معظم الأراضي العثمانية في أوربة على أكبر دول البلقان شأناً، خصوصاً سربيا واليونان، فسببت بذلك اندفاع ألمانيا في سبيل الحرب وانجرار إمبراطورية النمسا والمجر معها: فقد كان الإمبراطوران يتوقعان أن يسحق الترك سربيا واليونان، فإذا بهاتين الدولتين تصبحان سداً أمام ألمانيا في طريق الشرق وأمام إمبراطورية النمسا والمجر في طريق سلانيك وازدياد قدرة سربيا بمنع تنفيذ برنامج التوسع الجرماني بالحيلولة دون كل

ص: 6

وصلة تجتاز البلقان بين أوربة الوسطى والإمبراطورية العثمانية. من أجل ذلك لم يكن في وسع الإمبراطوريتين الجرمانيتين أن تعدا معاهدة بخارست نهائية، فلم يبق بد من الحرب في أجل قريب. ولذا اتخذتا حادث سرجيفو حجة لإشعالها، لأنهما كانتا متأهبتين لها. ويقول السفير مرجنتو في مذكراته عام 1919:(الآن يعرف العالم إن لم يعرف عام 1914 أن ألمانيا تعجلت الحرب لتهدم سربيا وتتولى الإشراف على الأمم البلقانية وتحول تركيا إلى دولة تابعة لها، وبذا تتبنى إمبراطورية شرقية واسعة، لو بنيت لكانت أس سيادة عالمية لا حد لها)

محمد توحيد السلحدار

ص: 7

‌أول صلاة في الإسلام

صلاة الركعتين

للدكتور جواد على

جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يخلو وحده بغار حراء شهراً في السنة وكانت هذه الخلوة أحب شيء إلى نفسه. (يتعبد فيها الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق). ونزل عليه الوحي. وهى عادة على ما يظهر كانت معروفة عند المتدينين من عرب الجاهلية.

ولم تعين كتب السير والأخبار نوع تلك العبادة ولا كيفيتها ولم ترسم صورة واضحة لتلك العبادة التي كان يقوم بها الرسول في ذلك الغار. (ولم يجيء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام والظاهر أنها خلوة ينقطع فيها النبي عن الناس ويقل اختلاطه في أثنائها بأهله وكانت هذه أحب شيء إلى نفسه لينصرف بدون إزعاج مزعج إلى التفكير في خلق السموات والأرض وحل لغز هذا الوجود).

ونزل عليه الوحي وهو بهذا الغار وفرضت عليه الصلاة مع نزول الوحي عليه مباشرة على رواية أو بعد ذلك بأيام أو بمدة على رواية أخرى. قال ابن أسحق (إن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه السلام ثم صلى بها رسول الله عليه السلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته).

وهذه الرواية هي رواية ابن أسحق - ولا يفهم منها بأن الصلاة فرضت بنزول الوحي على الرسول مباشرة أي في اليوم الأول من نزول الوحي كما يفهم ذلك من رواية أخرى، وقد أجملت ذكر الصلاة فلم تفصل كما فصل ذلك نافع بن جبير. وقد ذكرت الوضوء وهذا يخالف ما ذهب إليه العلماء من أن الوضوء لم يفرض مع الصلاة مباشرة كما إنه لا يتفق

ص: 8

مع وقت نزول الآية التي شرعت الوضوء وهي آية (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنباً فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) وهذه الآية مدنية، ومعنى ذلك أن الأمر بالوضوء إنما وقع ذلك في المدينة أي بعد الهجرة. وهذا ما لا يتفق ورواية ابن أسحق كما سترى ذلك في بحث الوضوء والطهور.

وترى الرواية الثانية أن الصلاة إنما فرضت بنزول الوحي مباشرة أي في اليوم الأول من أيام الوحي. (جاء في سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل عليه الصلاة والسلام له (باقرأ باسم ربك) حيث قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى فيه وصلت خديجة آخر يوم الاثنين. ويوافقه ظاهر ما جاء: أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي فعلمني الوضوء والصلاة. فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها. . . . . . الخ).

وليس هنالك أي دليل قوي يقوي رواية من يقول بأن فرض الصلاة كان في اليوم الأول من نزول الوحي والحديث المشهور عن كيفية نزول الوحي على الرسول ثم ذهابه إلى خديجة وانطلاق خديجة به إلى ورقة بن نوفل لا يؤيد هذه الرواية ولو كان فرض الصلاة في هذا اليوم لوجب نزول الوحي بذلك؛ وكل الآيات القرآنية التي تشير إلى الصلاة هي متأخرة بالنسبة إلى نزول الوحي. وفي سورة اقرأ (العلق) وهي أقدم سورة من سور القرآن ولاشك ذكر للصلاة حيث ورد (أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى) ولكن الذي نزل في غار حراء من هذه السورة هو إلى (علم الإنسان ما لم يعلم) أي إلى الآية الخامسة، وأما ما بعد ذلك فلقد نزل متأخراً فتكون الآية السابقة متأخرة إذاً، ومعنى هذا أن الأمر بالصلاة لم ينزل في غار حراء أي يوم نزول الوحي على الرسول

إذاً فنحن لا نعرف أول يوم نزل فيه الوحي بالصلاة على وجه التأكيد. ثم إننا لا نعرف كيف بدأت الصلاة. نعم هنالك روايات ولكنها متناقضة وتحتاج إلى بحث عميق. ويجب الرجوع قبل كل شيء ولاشك إلى القرآن الكريم. وإلى ما كتب حوله من تفاسير ومعرفة

ص: 9

أسباب النزول وترتيب النزول والناسخ والمنسوخ وتمييز الآيات المكية من الآيات المدنية، ووضع تواريخ ثابتة لأوقات نزول السور والآيات.

أما القرآن الكريم فكتاب سماوي مثل سائر الكتب السماوية جاء بأحكام أساسية عامة وشرعاً للناس. أحكامه أساسية عامة شرحها النبي لأصحابه وسأل الصحابة الرسول عن الآيات ومفردات الكلمات. وقد رتبه وجمعه نفر من الصحابة. لذلك كان على المسلمين معرفة ترتيب النزول. ولم يتعرض القرآن في أي مكان منه إلى تفصيل كيفية الصلاة وعددها في اليوم، وقد أجهد المفسرون أنفسهم لشرح ذلك وتفسيره تفسيراً يظهر منه عدد الصلاة في اليوم وكيفيتها، ولكننا لا نستطيع في هذا اليوم أن نقول بأنهم نجحوا في ذلك، لأن القرآن الكريم يترك أمر الشرح والتفسير إلى الرسول. وعقول الصحابة مختلفة في الوعي والفهم والقرب من الرسول لذلك كانت شروحهم مختلفة وتفاسيرهم متباينة في بعض المواقف وهذا مما يزيد في موقف المؤرخ في هذا اليوم صعوبة وحرجا.

جاء عن نافع بن جبير بن مطعم وكان نافع كثير الرواية عن ابن عباس أنه قال: (لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصباح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله، ثم صلى العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ثم صلى به الصبح مسفراً غير مشرق)

والذي يفهم من رواية نافع هذه أن الصلاة حينما فرضت فرضت خمس مرات في اليوم رأساً وأن جبريل عين للرسول أوقاتها، أولها ومنتهاها، كما عين ذلك الفقهاء فيما بعد ولم تعين الرواية الوقت الذي فرضت فيه هذه الصلوات الخمس وهي رواية تخالف رواية حديث الإسراء. تلك الرواية التي تكاد الأخبار الإسلامية تجمع عليها؛ فلو حملنا رواية نافع هذه على محمل خبر الإسراء وافقت هذه تلك الرواية وإن كانت تخالفها أيضاً في المعنى، ففي رواية الإسراء أن الرسول حين انتهى إلى السماء السابعة فرض الله عليه خمسين صلاة كل يوم، ثم إن الرسول سأل ربه أن يخفف عن أمته فخفف عنه وعن أمته حتى

ص: 10

أصبحت خمس صلوات في اليوم.

فليس لجبريل في حديث الإسراء بالنسبة إلى الصلاة مقام وليس في هذه الرواية تحديد وقت ولا ذكر للوضوء الذي جاء متأخراً بالنسبة إلى الصلاة. وتظهر رواية نافع ضعيفة تجاه الشروح والتفاسير والأخبار التي تناولت هذه القضية.

إن أول إشارة إلى الصلوات الخمس هي تلك الإشارة التي وردت في حديث الإسراء. جاء في هذا الحديث أن الرسول لما انتهى إلى السماء السابعة (فرض الله عليه خمسين صلاة كل يوم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت راجعاً فلما مررت بموسى بن عمران ونعم الصاحب كان لكم سألني كم فرض عليك من الصلاة فقلت خمسين صلاة كل يوم، فقال إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك، فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألت ربي أن يخفف عني وعن أمتي فوضع عني عشراً، ثم رجعت فمررت على موسى فقال لي مثل ذلك فرجعت فسألته فوضع عني عشراً، فمررت على موسى ثم لم يزل يقول لي مثل ذلك كلما رجعت إليه قال فارجع فاسأل حتى انتهيت إلى وضع ذلك عني إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ثم رجعت إلى موسى فقال لي مثل ذلك فقلت قد راجعت ربي وسألته حتى استحييت منه فما أنا بفاعل؛ فمن أداهن منكم إيماناً بهن واحتساباً لهن كان له أجر خمسين صلاة). وهذه الرواية هي رواية عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس وأبو حبة الأنصاري.

وتختلف هذه الرواية في تعيين منازل الأنبياء وأماكنهم وأماكنهم في السموات السبع حين مر النبي عليهم عن الترتيب المألوف في سلسلة الأنبياء. يلاحظ أن الترتيب في هذه الرواية على اختلاف الروايات لم يراع فيه ترتيب النبوة وسلسلة أوقات الأنبياء، إذ جعلت مكان آدم في السماء الأولى ثم انتقلت رأساً إلى عيسى مع أنه آخر الأنبياء قبل محمد فجعلته في السماء الثانية وكان الأولى أن يكون في السماء السابعة أو السماء الأولى إن روعي في ذلك آخر السلسلة، وجعلت مكان يوسف بن يعقوب في السماء الثالثة وإدريس في السماء الرابعة ثم هرون بن عمران في السماء الخامسة مع إنه لم يكن نبياً من الأنبياء، وجعلت في السماء السادسة موسى بن عمران وفي السماء السابعة إبراهيم.

ص: 11

ويلاحظ أيضاً أن الرسول حينما هبط من السماء السابعة بعد أن كلف بخمسين صلاة في اليوم لم يتكلم مع إبراهيم وهو أول نبي يمر عليه الرسول بضرورة الترتيب بل كان كلامه مع موسى وهو في السماء السادسة كما رأيت وهو الذي أشار على الرسول بالرجوع ليسأل الرب عن التخفيف. والظاهر أن سبب جعل إبراهيم في السماء السابعة هو لكونه صاحب الديانة الحنيفية التي كان يدين بها من رفض عبادة الأصنام من العرب.

وقد كان الرسول يدين بدين إبراهيم (ملة أبيكم إبراهيم) وإبراهيم أبو المستعربة جاء في هذه الرواية حينما سأل النبي جبرائيل عن الشخص الذي رآه لأول مرة في السماء السابعة (هذا أبوك إبراهيم).

وأما تخصيص موسى بالكلام فالظاهر أن ذلك كان لما عرف عن بني إسرائيل من عقوق. ولما خالفوا به أوامر أنبيائهم كما هو معروف في التوراة ولكثرة الصلوات عند اليهود.

وأما رواية أنس بن مالك فتختلف عن رواية ابن مسعود بعض الاختلاف في قضية ترتيب الأنبياء ولكنها تتفق بعد ذلك في قضية إشارة موسى على الرسول بطلب التخفيف.

وفي هذا الحديث أول إشارة إلى الصلوات الخمس في الإسلام، وقد حدث الإسراء بثلاث سنين أو سنتين أو بسنة قبل الهجرة أو بست أو بضعف، إذاً فتكون الصلوات الخمس قد فرضت في هذا الوقت في الإسلام ويستند قولنا هذا على حديث الإسراء طبعاً أما في القرآن الكريم فلم يرد في الإسراء طبعاً شيء عن الصلاة. وأما الآية الكريمة التي ذكرت الإسراء فقد تناولت الإسراء بصورة عامة ولم تتعرض إلى كل ما ذكر في حديث الإسراء مما حدثه المحدثون، والحديث يحتمل التصديق ويحتمل التكذيب وليس بشيء تجاه القرآن.

يقول المستشرق ميتوخ (أما متى بدأ الرسول بأول صلاة من صلواته ثم متى أصبحت الصلاة واجبة في الإسلام فإن الإجابة على ذلك إجابة تاريخية صحيحة إن لم تكن مستحيلة فإنها صعبة حتى الآن. غير أن الرأي الإسلامي هو أن الصلوات الخمس إنما فرضت في ليلة الإسراء أي قبل سنة ونصف من الهجرة).

وقد بذل المفسرون جهوداً عظيمة لتفسير الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر للصلاة وللتوفيق بين هذه الأبيات وبين الحديث بدون أن يتوصلوا إلى نتائج مقبولة ليس للحمل ولا التأويل فيها مقام. وذلك لأن الصلوات اليومية الخمس لم تذكر في أي مكان ما من

ص: 12

القرآن ذكراً صريحاً فصار المفسرون يجهدون أنفسهم لتأويل الآيات تأويلا يفهم منه بأن المقصود من الآيات التي نوه فيها بذكر أوقات الصلاة الصلوات اليومية الخمس.

على أننا إذا ما قرأنا الآيات القرآنية ودققنا في الحديث كحديث عائشة وهو: (فرض الله تعالى حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر). نتوصل إلى شيء آخر، نتوصل إلى أن الرسول كان يصلي قبل الإسراء حتما وأن صلاته كانت ركعتين فقط في كل صلاة. وأنه كان يصلي مرتين في اليوم، مرة في الغداة ومرة في العشى. كما يفهم ذلك من الآية:(يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم).

فجاء في هذه الآية اسم صلاتين هما صلاة الفجر وصلاة العشاء. وتؤيد هذه الآية الروايات التي وردت في الحديث والسير من أن الرسول كان يصلي مرتين في اليوم مرة عند بدء النهار ومرة في آخر النهار.

والظاهر أن الرسول كان يتعبد طويلا في الليل في أيام بعثه الأولى وأنه كان (يتهجد) في الليالي يدعو الله ويصلي إليه وكان يقرن ذلك بقراءة القرآن. وقد كانت قراءة القرآن وقت الفجر من القراءات المحببة إلى الرسول (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل. وقرآن الفجر أن قرآن الفجر كان مشهوداً).

أخذت عبادة الليل وقتا طويلا من أوقات النبي حتى أجهدته. جاء في الأخبار (لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد بقوله تعالى (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى، وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم). وهو الناسخ لما قبل ذلك من التحديد في أول السورة

ص: 13

الحاصل بقوله (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا). وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء.

وجاء (أول ما فرض عليه الإنذار فالدعاء إلى التوحيد ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بالصلوات الخمس). وبعد افتراض الصلوات الخمس اقتصر العباد والزهاد من الصحابة على التهجد وقيام الليل تقربا إلى الله وتطوعا منهم وقربة.

كان (التهجد) إذاً عبادة ليلية يقوم بها الرسول (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً). مقرونة بتلاوة ما تيسر من القرآن. وهو عبادة اختيارية طبعاً يقوم بها الإنسان تقربا إلى ربه لا يحاسب الإنسان فيما إذا أهملها لأنها غير مفروضة كما رأيت.

(البقية في العدد القادم)

جواد علي

ص: 14

‌حديث المائدة

للأستاذ زكي نجيب محمود

رحم الله يوماً كانت فيه النفس ساذجة يافعة، تسير مطمئنة في طريق لا تلتوي وسبيل لا تجور، وتثب إلى الإيمان بما يروى أو يذاع وهي آمنة في حصن منيع من الرضى، لا تنفذ خلاله خلجة من الشك أو نزعة من الجحود والإنكار

ولعن الله يوما أزيل فيه ما ران فوق البصيرة من غشاء، فقد ودعت النفس عندئذ تلك الطمأنينة الراضية. واستقبلت شكا ملحاً مضنياً يمقت راحة التصديق، ويأبى هدوء الإيمان، ولا يطمئن إلى ما تواضع الناس عليه، لا يفرق في ذلك بين معقول ومنقول، فقد غدا كل شيء موضعاً للتفكير وخاضعاً للشك والرفض والإنكار

قال ذلك صاحبي وهو يتحدى أن يكون في العالم حقيقة واحدة تبلغ حداً من التعيين يستعصي على الشك ولا يلين للنقد والرفض، ويهزأ بتلك البدائه التي نزلت عند الناس منازل الإيمان. وكان يسائلني في شيء من السخرية: هل يمكن أن تكون للعقل كرامة موفورة في الاستسلام والرضى؟! فهو يستمرئ مرارة الشك، ولا يعدل بعبئه المضني جنات عرضها الأرض والسماء، ولو أنه كان يود أن لم يكن ذلك الشك، وأن تزل تلك السذاجة البريئة المطمئنة الراضية

قال محدثي: قد تظن أنك تعلم طائفة من المعارف لا يحدها حصر ولا عدد، تبلغ ألوف الألوف، بل ألوف الملايين، كلها ثابت لا تزعزع يقينه عواصف الشك مهما بلغت من قوة وبأس. انظر! هذا مقعد، وتلك مائدة تنتثر عليها طائفة من الكتب، وهذه نافذة تستطيع أن تشهد خلال زجاجها شمساً ساطعة وسماء زرقاء، وسحباً وكفاء تسير الهوينا مع الريح. . . نعم، وهاأنت ذا تصيح فتسمع صوتاً ينبعث هنا وجلبة تضطرب هنالك، هذه أبواق سيارات تصبح فيتبينها سمعي وسمعك على السواء، وذاك صراخ أطفال يلعبون ويمرحون. . . هذه أصابعك تنزلق فوق المائدة فتصادف جسما صقيلا ناعماً، ثم تمر على شعرات الفرجون فلا تشك في خشونتها. . . نعم! لقد يخيل إليك أنك تعلم هذا كله، وتعلم آلافاً من أشباهه علم اليقين، بل وتعلم فوق هذا كله طائفة من الحقائق المركبة المعقدة، أفلا تعلم أن الشمس تكبر الأرض، وأنها تشرق كل صباح وتغرب كل مساء لدورة الأرض

ص: 15

حول محورها مرة في كل يوم، وأنها ستمضي في الشروق والغروب ما بقيت الأرض أرضاً والسماء سماء؟ إنك لا تشك في صحة هذه الحقائق، ولعله لا يرضيك أن تراها يوماً موضعاً للشك، ولكنك يا صاح لا تكاد تصوب نحو أي منها أشعة التفكير، حتى يتبدد ذلك اليقين هباء، ويندك من أساسه حيث يسلم بناءه لمعول الشك يعمل فيه، فلا يرتفع عنه إلا وهو أنقاض لا تغني ولا تفيد.

وضرب صاحبي بقبضة يده فوق المائدة وقال: خذ هذه المائدة مثلاً! أفتشك في أنها مصنوعة من خشب قد طلبت باللون الأصفر، وأنها مستطيلة الشكل ناعمة الملمس؟ فناظراك ينقلان إليك لونها وشكلها، وأناملك تحس نعومة صقلها، وأذناك لا يخطئان رنين الخشب إذا ما نقرت ظهرها بإصبعك، ومن تلك الحقائق الجزئية التي سلكت إلى ذهنك هذه الطريق أو تلك تكونت في نفسك صورة للمائدة قوية واضحة، تستطيع أن تستعيدها على صفحة الذاكرة كاملة، إذا ما حال بينك وبينها حائل

ولكن من أدراك يا صاح أن هذه المائدة موجودة فعلا؟ أفلا يجوز أن تكون الحواس خادعة تبدع لك وجوداً من عدم؟ هل يبعد أن يكون اللون من خلق البصر، بل وأظنه كذلك عند العلم والعلماء الذين يستمع إلى قولهم إذا قالوا، فهم لا يعترفون بأكثر من موجات، تطول حيناً وتقصر حيناً، فتتلقاها العين ثم تأخذ في ردها إلى هذا اللون أو ذاك، وإذن فالعلم - وهو جهينة هذا الجيل - ينكر أن يكون للون وجود في الواقع. . . وقل مثل ذلك في صوت هذه النقرة التي بلغت أذنيك فأنبأتك بأنها للوح من الخشب، فهي الأخرى موجات صامتة في الواقع، صائتة في أذنك أنت!. . . وهكذا تستطيع أن ترد ما تنقله إليك الحواس جميعاً عن حقيقة المائدة، وإذن فهي وهم تآمرت على نسجه الحواس، ليس له وجود حقيقي في العالم الخارجي

وهبها حقيقة موجودة لاشك في وجودها، فهل تراك تعلم من أمرها شيئاً؟ أنعم النظر في لونها الذي خيل إليك للنظرة الأولى إنه أصفر، ألا ترى أشعة من الضوء تنعكس على سطحها الصقيل، فانقلب في بعض المواضع أبيض أو قريباً من الأبيض؟ در حول المائدة ينتقل موضع الضوء، وإذن فلون المائدة يختلف باختلاف موقفك، فلو جلس حول المائدة عشرون شخصاً، وأمسك كل واحد لوحة ينقل فوقها المائدة بلونها كما يراها، لاجتمع لديك

ص: 16

عشرون رسماً لا يشبه بعضها بعضاً، فأين الحقيقة بين هذه العشرين؟ إني لأرى شفتيك تفتران عن ابتسامة ساخرة من هذا الهراء، أو ما تحسبه أنت هراء، ولكنه حق لاشك فيه، فلو رضت عينك على النظر إلى الأشياء بحيث ترى ما يقع عليها من مختلف الألوان، إذن لرأيت لكل شيء عشرات وعشرات من الألوان المتباينة، لا يأبه لها النظر السريع، ويدركها الرسام في جلاء ووضوح. . . لقد شاهدت مرة في معرض أقامه مصور فنان، لوحة تصور منظراً للنيل عند أنس الوجود، فوجدته قد خلع على الماء مجموعة من ألوان لا تراها العين، أو على الأصح يخيل إلى العين أنها لا تراها - فسألته: أين رأيت هذه الألوان التي صبغت بها لوحتك، فأجاب: رأيتها على صفحة الماء، وهو صادق فيما يقول

فليس لون المائدة أصفر وإن لك أنه كذلك، لأنه يختلف مع الضوء وحدة البصر، كما ينعدم في حلكة الليل، وإذن فليس هو صفة لازمة للمائدة في كل وقت وعند كل عين، إنما يتوقف على موقف الرائي والضوء الساقط، كما يتوقف على المائدة نفسها

دع اللون وابحث في نعومة السطح، فعينك المجردة العارية قد تراه صقيلا لامعاً، لا غضون فيه ولا التواء، فإذا ما نظرت إليه خلال المجهر، رأيت سهولا وحزوناً وهضاباً ونجاداً، وكلما ازداد المجهر حدة ازداد السطح تغضناً وخشونة، فأين حقيقة السطح إذن؟ أهو وعر كثير المسالك كما يبدو خلال المنظار؟ أم مستو صقيل كما تراه العين المجردة؟ لا أحسبك تستطيع أن تقطع في هذا بقول صحيح!

ثم انتقل إلى شكل المائدة وحدثني ما هو. . . وإن زعمت إنه مستطيل فمن ذا أنبأك بهذا؟ انك لا ترى استطالة السطح إلا في موقف واحد، وهو أن تنظر إليه من أعلى نظراً عموديا لا يميل، وقل أن يحدث هذا. . . خذ قلما وقرطاساً وحاول أن ترسم سطح المائدة وسترى عجباً، فلن يبدو لك السطح مستطيلا كما تظن بل ستراه يضيق من ناحية أخرى، وكلما نزل مستوى بصرك أو صعد تغير الشكل المنظور، وكلما تحركت قيد شبر واحد تغير شكل المائدة. . . فلو وقف في الحجرة ألف شخص ورسم كل واحد منهم المائدة كما يراها، كان لديك ألف شكل لا يشبه واحد منها الآخر، فهل لشكل المائدة حقيقة واحدة أم ألف من الحقائق؟!

ثم تعال معي نخبرها من حيث الصلابة والليونة. . . اضغطها بين إصبعيك فماذا أنت

ص: 17

واجد؟ لا أحسبك شاكا في صلابتها، فهذا ما تحسه يدك، كما يحسه كل إنسان آخر، ولكن هب أن الله قد أمدك بقوة تساوي ألف مثل من قوتك، فهل ترى صلابة المائدة تطل بين إصبعيك كما هي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل؟ كلا! فكلما ازدادت قوة الضغط، قلت نسبة الإحساس بالصلابة، فهي أصلب في ملمس الطفل منها في ملمس الرجل، وهي أصلب في ملمس الرجل منها في مخلب الأسد! فهل ترى من حق الإنسان أن يكون حكما يقضي لهذه بالصلابة ولتلك بالرخاوة، وهو لا يعبر إلا عن شعوره الخاص؟. . . اقرع المائدة بإصبعك تسمع لها صوتا تعهده للخشب، فتظن أن للخشب صوتا يلازمه في كل ظروفه، وأنه لازمة من لوازمه، ولكنك ترفض هذا حين تعلم أن له رنينا آخر إذا نقرته بمفتاح مثلا، وثالثاً إذا ضربته بممحاة وهلم جرا. . .

إذن ليس لون المائدة أصفر على وجه اليقين، وليس السطح مصقولا على وجه اليقين، وليس الشكل مستطيلا على وجه اليقين وليس الخشب صلباً على وجه اليقين، وليس له صوت بعينه. . . وإذن فما نقلته إليك عيناك مشكوك في أمره، وما نقلته إليك أذناك مطعون في صحته، وما نقلته إليك أصابعك موضع للأخذ والرد، فماذا بقي لك من مائدتك التي عهدتها وما شككت يوما في يقينها؟ أفلا ترى الآن أن صورة المائدة في ذهنك قد تنقص عن الواقع، وقد تزيد على الواقع، وقد لا يكون لها واقع على الإطلاق؟!

أخشى أن ينتقل بنا الحديث من المائدة إلى مشكلات فلسفية عميقة، فهي توشك أن تفتح أمامنا أبواب بحث جديد، جدير بالتفكير. هل هناك مادة في الوجود كما يبدو أم هي بدعة أنشأها الفكر البشري إنشاء وخلقها من العدم خلقا؟!. . . هل تعدل مظاهر الأشياء على حقائقها وتنطبق عليها انطباق المثال على المثال أم تختلف عنها اختلافا بعيداً أو قريباً؟!. . .

ثم وضع صاحبي كفه القوية فوق كتفي، وقال في عطف ونصح: فكر في كل شيء، وستشك في كل شيء!!

زكي نجيب محمود

ص: 18

‌الحياة الأدبية في الحجاز

نهضة الشعر

للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

سمع هؤلاء الشعراء هذه الصيحة التي صاح بها أدباء المهجر في وجه التقليد فاستجابوا لها لأنهم وجدوا دعوة إلى الصراحة والتعبير عن النفس في وضوح وجلاء؛ والعربي أقرب الناس إلى هذه الصراحة، كما وجدوا فيها خروجاً على التقليد الذي قعد بهم عن الرقي الزمن الطويل، ولهذا صاح كثير منهم في الحجاز في وجه التقليد ودعوا إلى مثل هذه الدعوة التي دعا إليها جبران فقال أحدهم:(بعض من شبابنا الأدباء وبعض من قراء (الكتب القديمة الجامدة) يقرض القطع الشعرية البديعة الناصعة، ناصعة والحق يقال. ولكن ماذا يضمنها من الأفكار؟

ينظمها في الخمريات وفي الغزل وفي المديح وفي الحماسة وفي الحكمة، وكل هذه من الأفكار الميتة التي دفنت مع عصور. . . فلا تصلح لنا. . .

وقال: (أمامنا الوطن، أمامنا العادات والأخلاق، أمامنا الحرية بأنواعها، أمامنا الشرق الكسول، أمامنا التغني بأمجاد الشرق، أمامنا العرب بحالتهم السياسية، أمامنا الغرب باختراعاته)

هذا هو الروح الجديد المتوثب الذي سرى في شباب المدرسة الحديثة في الحجاز، ولعل القارئ يدرك التشابه بين هذا الروح واتجاه أوباء المهجر، بل لعله مدرك التشابه في الأسلوبين وطريقتهما.

ولما كان أدباء المهجر أحراراً في كل شيء، متمردين على القيود القديمة والأغلال المتوارثة، فقد بدأ هذا التحرر في القافية وطريقة الوزن الشعري والموضوعات والمعاني والأخيلة، ومن ثم تابعهم شعراء الحجاز المجددون في كل هذا: فالكثرة الغامرة من قصائدهم لا تتبع قافية واحدة، والمربعات والمخمسات والدويبت والموشحات تفوق عندهم القصائد وتربى عليها. ونحن نسوق هنا مثلا من الطرق التي يتبعونها في قافيتهم. فمما جاء

ص: 19

من ذلك مناجاة (لحسن فقي) يناجي فيها القمر ومنها:

حسبي من الدنيا الحقيرة أن أراك لدى المساء

تلقى بنورك في القلوب كبلسم يزجي الشفاء

فأعود بالذكرى إلى عهد اللذاذة والهناء

وأبث ما يجد الجنان

حسبي من الدنيا بقاؤك ساطعاً فوق الهضاب

مترنحاً من نشوة الحسن المسيطر والشهاب

متطلعاً من عرشك العالي إلى أسرى العذاب

ترنو إليهم في حنان

بل إن الشاعر هنا لا يريد أن يعترف بشطري البيت فساقه جملة كما يفعل شعراء المهجر أيضاً.

ومن الطرائق التي يتبعونها في القافية أن يغير الشاعر القافية في كل بيت، ولكنه يذيله بكلمة متحدة القافية مع الكلمات الأخرى وفي هذا النوع يقول الشاعر (عمر عرب) في قطعة عنوانها (عصر الشباب).

حدثيني عن الصبا والشباب

عن زمان الهناء بين الصحاب

حدثيني

حدثيني عن الهوى يا مهاتي

إن هذا الحديث يحيي رفاتي

حدثيني

ويقول:

لست أسلو هواك يا هند يوما

لا ولم أخش في عذابك لوما

صدقيني

ذكريني بذلك العهد هند

كيف نلنا الآمال والعيش رغد

ذكريني

وهكذا يحاول شعراء المدرسة الحديثة أن يتخلصوا من قيود القافية؛ حتى ليسوق إليك بعضهم كلاما يخيل إليك بادئ الأمر أنه نثر، فإذا أطلت النظر فيه وجدته شعرا ونثرا؛ وقد

ص: 20

التزم في بعضه الوزن وأطلق الآخر حراً دون قيد، ومن ذلك كلمة للأديب (عزيز ضياء) عنوانها (عيد) يقول فيها بعد كلام طويل وصف فيه مغيب الشمس قبلة ليلة العيد. . .

ثم لما ابتلعها لحدها وغيبها دهرها

صاح في الروض طير

لقد ماتت ذكاء

فكان يوم قديم قد مر وكان شهر قديم قد انقضى

وجن جنون السحاب الحزين

فناح نواحا يثير الحنين

وراح يناجي الربى والحزون

يمزق فوق الربى وجهه

ويهرق فوق الثرى دمعه

ولم يرث قلب لتلك الدموع

ففاض المحب بأنفاسه

وراء الجبال وراء الحبيب. . . الخ

فلعلك مدرك بعد هذا أن الأديب هنا قد جمع بين الشعر المنظوم والشعر المنثور وأن الفقرة التي أولها (وجن جنون السحاب الحزين) شعر موزون من بحر المتقارب ولكن الأديب لم يلتزم فيه قافية متكررة. على أنك واجد في بقية القطعة تحرراً من الوزن والقافية معاً.

ويجب أن يستقر في أذهاننا أن تقليد الحجازيين المتئدين منهم والمتوثبين تقليد قوي لا تغني فيه شخصياتهم وإنما يقلدون غيرهم في الطرائق والمناهج ويصورون بعد ذلك عواطفهم وبيئتهم، فهم متأثرون بهذه البيئة أشد التأثر: متأثرون بطبيعة أرضها وعادات أهلها وآمالها وعقائدها.

والشاعر إذا شعر تجد في ثنايا شعره كل هذه الاتجاهات واضحة جلية:

يقول معالي الدكتور هيكل باشا: (ثم إن الأديب يتأثر دائما بالبيئة التي تحيط به كما يتأثر بأحداث الزمان، وإذا كانت هذه الأحداث قد بعثته في الحجاز، حتى جعلت أهله يتطلعون إلى غيرهم من الأمم المجاورة لهم، فإن البيئة العربية الصحيحة التي لم تتغير، قد بقي لها

ص: 21

أثرها في هذا الأدب، شأن كل بيئة في أية أمة من الأمم، ولعل أثر البيئة الطبيعية أكثر وضوحا في شعر أدباء الحجاز منه في نثرهم. .)

ونحن إذا أردنا أن نلتمس الدليل على ذلك وجدناه واضحاً جلياً، فهم مع اطلاعهم على الآداب الأخرى لم ينسوا أن يصفوا جبالهم وهضابهم وما ينبت في أرضهم من أثل وأراك، فعبد الوهاب آشي يقول:

بلاد حبتها الطبيعة ما

يحبب للقلب أدوارها

جبال تناطح جون السحاب

وتوحي إلى النفس أفكارها

تنائف تمرح فيها الوحوش

تساجل في الدوح أطيارها

ومشتبك الأثل في غابها

كما جارة عانقت جارها

إذا الليل أرخى ستائره

أرتك الكواكب أنوارها

وفي الأبيات الآتية ما يصور للقارئ ناحية من نواحي الحياة بالجزيرة حيث يقدم استعراض عام للجيوش، فتبدو الخيل صاهلة والإبل ترغو والأعلام خافقة، وقد قيلت في الاستعراض الذي أقيم احتفالا بنجاة جلالة الملك ابن السعود من حادث المطاف 1353 هجرية:

في موكب (العرضة الكبرى) وقد لعبت

فيها الرماح وقامت ترقص القضب

والخيل تصهل والأعلام خافقة

والأسد تزأر والآفاق تصطخب

والإبل ترغى وأصوات البنادق

كالرعد المدمدم تروي رجعها السحب

ولما كان اتصالهم بالثقافة الحديثة اتصال الدائب المجد، اتصال الذي لا يترك كتابا ظهر في عالم التأليف حتى يأتي عليه، لما كان هذا فقد رأيناهم يعالجون الموضوعات النفسية ويأتون ببعض من المعاني الفلسفية التي تتصل بالروح والحياة والغرائز البشرية، فأحمد قنديل يناجي الحياة في قصيدة طويلة جاء فيها:

أنا بين ماضي المنير وحاضري الد

اجي وتحت غمامة المستقبل

متفائل متشائم في فكري الد

امي عراك هائل لا ينجلي

أبداً أظل برحلتي كالهائم الد

اعي إليك بحيرة وتأمل

لا تصطفين سوى محب حام حو

لك هائم متعزز لا يستكين

ص: 22

ولثمت فاك فكان خمري اللمى حلو الرحيق

لكن نشدت الطهر فيك فما وجدت له عبوق

إلى أن يقول:

من أنت؟ بل قولي بحقك: من أنا؟ فأنا الصديق

المكره الصادي الفؤاد، أنا الأسير أو الرفيق

أنا من ولدت مزوداً بهواك يجري في العروق

سأظل حولك ساخراً دهشا بذياك البريق

متصابياً أسقي الرضا حيناً وأشوي بالحريق

حتى إذا انكشفت ستارتك الصفيقة في الضيق

سأكون ويلك مع ضحاياك الرقود بذي الشقوق

وأعود في كنف الخلود أو السما روحا طليق

وقد اتفقت كلمة شعراء الحجاز من المدرستين على أن يطرقوا من موضوعات الشعر ما يلامس الحياة الواقعة، ويتصل بآمالهم ومآربهم، فهم يتناولون الموضوعات القومية والاجتماعية التي يحتاجون إليها في مجتمعهم؛ فالشيخ محمد سرور الصبان يقول في الوطن:

أنا لا أزال شقي حب

ك هائماً في كل واد

زعم العواذل أنني

أسلو واجنح للرقاد

كذبوا وحقك لست أ

قدر أن أعيش بلا فؤاد

ولسوف أصبر للمصا

ئب والكوارث والبعاد

حتى أراك ممتعاً

بالعز ما بين البلاد

ويقول الأستاذ أحمد العربي في قصيدة له عنوانها (أيها العيد)

أيها الموسرون رفقا وعطفاً

وحناناً بالبائس المحزون

ربما بات جاركم طاويا جو

عا بتم تشكون بشم البطون

ربما ظل طيلة العيد يستخفي - من الصحب قابعاً كالسجين

يتوارى من سوء منظره الم

زري ومن حاله الكريه المهين

ص: 23

أي فضل للعيد يستأثر الم

ثرون فيه بالطالع الميمون؟!

والفقير الكئيب يرجع منه

بنصيب المرزأ المغبون؟!

وشعراء الحجاز منذ أن تفتحت أمامهم نواحي النهضة الحديثة يعالجون بشعرهم الموضوعات السياسية ويرون أن النهضة لن تكون إلا إذا تعاون العرب جميعاً في أقطار الأرض. وفيما يلي أبيات للأستاذ الغزاوي يخاطب فيها مصر:

يا مصر أنت وقد دأبت منارة

للمهتدين وسعيك المترسم

يا مصر ما أولى بنيك بقومهم

فعلام يوغرك الخلاف المبهم

يا مصر قد أغضبت عمن ليلهم

فيك السهاد وفي جمالك تيموا

يا مصر يا أم الحضارة والنهى

مهلا فحبك في الجوانح مدعم

يا مطمح الأمل العتيد وعزة الماضي

ضنى المجيد وما أظل ويقدم

يا ربة الأهرام والمجد الذي

ما زال في أمم البسيطة يكرم

إلى أن يقول:

ردي على تحيتي فلا متى

قلب عليك مع العتاب مقسم

ويقول الأستاذ عواد من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ميادين القتال:

يستشير المجد في عمل

هائل المغزى يعظمه

حيث موسيقا الخلود إذا

طوحت بالجبن تحطمه

والصدى كالصوت صاعقة

والصفوف السود تزحمه

يسأل الأقدار هل يده

تغسل العدوان أو دمه؟

فإذا بالكون ليل أسى

تتهاوى فيه أنجمه

وإذ الأصداء قائلة:

قول صدق لا تجمجمه

أيها التاريخ ذا بطل

فعله للخلد مسلمه

ومن الأغراض التي نالت حظا من الرقي (الغزل) فقد اتجه الشعراء فيه إلى ذكر الهوى والشوق وتوجع الصبابة وفي الأبيات الآتية وهي (لمحمد حسن فقي) ما يدل على صدق العاطفة وتدفق الشعور:

لا أنت يا قلب بالسالي فتهجره

ولا الوصال بميسور ولا داني

ص: 24

عش هكذا خافقا يا قلب مكتئبا

فليس حزنك بعد اليوم بالفاني

أواه! إن جحيم الحب يصهرني

فما الذي بجحيم الحب أصلاني؟!

لا آخذ الله من أصمي بمقلته

قلبي وغادرني نهبا لأشجاني

إليه ابعث أتاني مؤججة

ومنه أقبس أشعاري وألحاني

وفيه ألتذ بالبلوى وأحمدها

إن كان يرضيه تعذبني وهجراني

وليس عجيبا أن يجيد العربي ذكر الهوى والغرام؛ فهو عفيف لم تلوثه المدنية بآثامها، ولم يسلس قياد المرأة له حتى تنطفئ جذوة غرامة وتحبو حدة حبه. فلا تكاد فتاة المدن في الحجاز تتجاوز عهد الطفولة حتى تحتجب عن الأنظار ويضرب الحجاب بينها وبين الشمال، ويصبح من المحال أن يلتقي شاب بفتاة أو أن يختلس منها نظرة عابرة.

وفي الشباب الحجازي عاطفة متقدة، أملتها عليه طبيعة هذه البلاد المتقشفة. فهو إذا تحدث عن الهوى كان حديثه حديث من حدث شهواته، فخرجت أبياته زفرات وآهات ملتهبة. قال الأستاذ حمزة شحاته:

بعد صفو الهوى وطيب الوفاق

عز حتى السلام عند التلاقي

يا معافى من داء قلبي وحزني

وسليما من حرقتي واشتياقي

هل تمثلت ثورة اليأس في وجهي

وهول الشقاء في إطراقي

أي سهم به اخترقت فؤادي

حين سددتها إلى أعماقي

إذ تهاديت مبدلا نظرة العطف

بأخرى قليلة الإشراق

مسرعا في المسير تنتهب الخطو

فهل كنت مشفقا من لحاقي

وتهيأت للسلام ولم تفع

ل فأغريت بي فضول الرفاق الخ

أما سوق المدح في الشعر الحجازي فهي نافقة رائجة، ولهذا الغرض شعراء من المدرسة المتئدة قد أجادوا فيه وأكثروا، ولعل الذي جعلهم يجيدون ويطيلون ما وجدوه في جلالة ابن السعود من معان تستأهل المدح وتستحق الإطراء والثناء؛ فهو الذي أمن البلاد بعد خوفها، وهو الذي بعث الحياة في نواحيها فشاد دور العلم واستحث الهمم للنهوض، وهو الكريم الذي يولي الهبات وهو الشجاع الذي أسس الملك على أساس من القوة.

ولا يقتصر المادحون على مدح الملك وإنما يمدحون أبناءه الأمجاد فيجدون عندهم من

ص: 25

الحفاوة والتكريم ما يرضي نفوسهم ويحملهم على المزيد. قال الغزاوي يمدح جلالة الملك بعد الحلف الذي أبرم بين الحجاز واليمن:

وأنت الذي أعلى بك الله صرحها

وأرشدها للعرف بعد التناكر

فأما بنوك الصيد فالدهر شاهدي

لديك بما قد قلدوا من مفاخر

أصاب ولي العهد أبعد غاية

تسامت فأعيت بالثناكل شاكر

وقال أيضاً في قصيدة طويلة يهنئ بها سمو الأمير فيصل بعودته من رحلة له في أوربة سنة 1351 هجرية:

بدر تم يتجلى أم فلق

أم شعور فاض فاستهوى الحدق

أم هو الفيصل ألقى ضوءه

يغمر الشعب ويستبقي الرمق

أيها القادم من أقصى الورى

قد ملأت اليوم بالبشر الفلق

قد شهدت الشيخ في حبوته

والفتى الناشئ بالحب فهق

إلى أن يقول:

فإذا ما قلت شعبي مخلص

لمليكي قالت الدنيا صدق

أي أمن نرتجيه ومنى

ونعيم فوق ما فينا بسق

ولا ضير علينا بعد الذي فصلناه في باب الشعر أن نقرر أن الشعر الحجازي قد تقدم في هذه الفترة القصيرة: في أغراضه ومعانيه واستطاع أن ينأى عن التلاعب بالألفاظ وألوان الزينة. ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول، إن الحجاز مهد الأدب شعره ونثره لا زال يتطلب من شعرائه المزيد وبخاصة فيما يتصل بقوة الأساليب ورصانتها؛ فإن الكثير منهم مع إجادته لا يهتم أحيانا بجزالة الأسلوب ورصفه شأنه في ذلك شأن شعراء المهجر أولئك الذين يقول في أدبهم الأستاذ العقاد:(وبين محتويات هذه المجموعة (مجموعة من أدبهم) ما يسمو معناه إلى درجة رفيعة في البلاغة والذكاء وفيها من الابتداع ما يقل مثله بين آيات أدباء الغرب العصريين ولا يؤخذ عليها إلا ما يؤخذ عادة على كتاب العربية في أمريكا: تساهل في قواعد اللغة، وضعف في أساليب التعبير بها، وما عدا ذلك فطرفة تستحق الثناء)

أحمد أبو بكر إبراهيم

ص: 26

‌البلاغة العربية

للأستاذ نقولا الحداد

البلاغة في اللغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. والفصاحة هي سلامة الكلام من التنافر والتعقيد ومن الألفاظ المهجورة والوحشية. واللغة العربية لا تختص بهذا التعريف وحدها، بل هو تعريف البلاغة في كل لغة، لأن البلاغة عمل عقلي أكثر مما هي أداة كلامية. وهي منطق أكثر مما هي فن تعبير. بل هي فلسفة أكثر مما هي قاعدة بيان

إذن فأركانها صحة العقل وصفاء الفكرة وجمال الذوق واتساع المعرفة وطاعة الكلم للسان والقلم. فإذا اجتمعت هذه في القائل أو الكاتب في أية لغة كان كلامه بليغاً

أما صحة العقل فأساس المنطق لتطبيق القول على المعنى المراد بغية إقناع السامع أو القارئ بصواب القول وارتياح النفس إليه

وأما صفاء الفكرة فأساس البيان لأنه لا يمكن أن تقيم بناء بيان على فكرة مضطربة مقلقلة، ولا يمكن أن يفهم السامع أو القارئ ماذا يعني القائل بكلامه المضعضع. ولا يمكن أن يتم الاتصال بينهما على وثيقة

وجمال الذوق لابد منه لتبليغ الكلام البليغ إلى ذهن القارئ أو السامع أو إغرائه بمعناه وتغذية العقل بمعرفته. فإذا خلا البيان من الذوق الجميل كان منفراً. وإذا غنى به كان جذاباً ساحراً. وإن من البيان لسحراً

والمعرفة مادة الكلام. هي الجواهر التي يصاغ منها الكلام البليغ. فالكاتب الذي يكتب في موضوع بضاعته فيه قليلة أو ضئيلة أو سقيمة لا يصوغ إلا فقاقيع زبد لا تلبث أن تذهب أمام استكناه معناها ذهاب الرغاوة مع الريح. يجب أن يلم الكاتب إلماما كبيراً بما يكتب لكي يستطيب القارئ بلاغته وإلا مله لأول فقرة ونبذه

بقي أنه لابد للكاتب أو المتكلم أن يكون قائماً على كتب اللغة وان تكون الكلم الفصاح في متناول يده يختار منها أليقها لمكانها في الكلام وأوقعها في المسامع وأدمثها للأذهان، ويجب أن يعلم الكاتب أن لكل مقام مقالا وأن لكل قوم كلاما موموقا وأن لكل زمان ألفاظا مأنوسة. فما أقبح أن يخاطب المتكلم أو الكاتب أناساً بألفاظ غريبة عنهم أو ناشزة في مسامعهم أو بعبارات معقدة تستكد أذهانهم

ص: 27

هذه بعض أوليات البلاغة. وقد تبسط فيها الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة في كتابه (دفاع عن البلاغة)، ومباحثه في هذا الكتاب طريفة؛ فهو يعطي للبلاغة صفة الفلسفة ويكتب فيها كفيلسوف مركبا في فصل آلة البلاغة، ومحللا في فصل الذوق، ومركباً ومحللا معاً في فصل الأسلوب. وهو الفصل الذي أفاض فيه بتبيان صناعة القلم من جميع وجوهها. ولا بدع أن تكون البلاغة ضرباً من الفلسفة، لأن المعنى واللفظ متلازمان ملتحمان، الثاني صورة للأول، والأول نتاج العقل، فبراعة الكاتب تظهر في استطاعته أن يلائم المادة بالعقل وأن يلبس المعنى الثوب اللفظي الأنيق اللائق على قدره لا أضيق ولا أوسع

ولأن البلاغة ضرب من الفلسفة فهي في رأي الأستاذ الزيات كسائر الفنون طبيعية موهوبة لا صناعة مكسوبة. ولعله تطرف في هذه العقيدة أو غالى في قصرها على الفن؛ لأن هناك ضرباً من الكلام مكان الفن فيه قليل أو عديم. إذا كتبنا عن سر القنبلة الذرية لا نجد موضعاً للفن إلا إذا كتبنا عن تأثيرها في الحرب أو الاجتماع. يكفي أن نحسن كشف السر وبسطه من الناحية العلمية لكي نجلوه للقارئ جيداً. فالبلاغة في هذا المجال صناعة مكسوبة أكثر مما هي فن موهوب. وفي كلتا الحالتين لا غنى عن القواعد للإيضاح والاجترار من اللبس

إن تطبيق اللفظ على المعنى هو غاية البلاغة القصوى سواء كانت فنا أو صناعة. والأستاذ الزيات قد أجاد كل الإجادة في فلسفة البلاغة وضرب بكل سهم في مذاهبها. فهو إذن نبراس الهدى لأهل البراعة.

في حين أن ظهر كتاب (دفاع عن البلاغة) ظهر كتاب (البلاغة العصرية واللغة العربية) للأستاذ سلامة موسى. وهو كتاب طريف المباحث أيضاً. لا أظن أحداً خاض فيهما قبله أو سبقه إليها. هو فلسفة الكلام أو الكلمات. أو لك أن تقول هو فلسفة تطبيق اللفظ على المعنى بمقتضى حاجة العصر. العصر يتغير والمعاني تستجد. فبالأحرى أن تتغير الألفاظ وان تستجد. وبالأحرى أن تلاحق الأقلام هذا التجدد والتجدد ضربة لازب للتطور. ولا يحدث تطور إلا إذا لم يعزل القديم إلى (الانتكخانة) المتحف ويؤتي بالجديد. فقطار العمران اليوم غير قطار البادية منذ قرون. وطائرة هذا القرن غير الأطيار التي كنا نحسدها على ملكية

ص: 28

الجو. فلكل زمن تفكيره وتعبيره. ولا مناص من تغيير التعبير إذا تطور التفكير.

نحن اليوم في جيش لجب من الأدوات والآلات. ولا غنى لنا عن أسماء لها انظر كم أداة في الأوتومبيل وفي المطبعة ولا سيما مطبعة الروتاتيف وفي الباخرة والبارجة والقاطرة الخ. لكل هذه الأدوات أسماء وضعها لها مخترعو الأدوات. ولم يكن عند أسلافنا لا أوتوموبيل ولا مطبعة ولا بارجة ولا قاطرة. إذاً فليس في لغتنا أسماء لهذه الأدوات. فإذا بحثنا في لغتنا عن لفظة تليق للاوتوموبيل كسيارة مثلا فنكون قد غيرنا معنى السيارة القديمة كما أننا غيرنا معنى القطار القديم. فالتغيير لا بد منه للتطور ولذلك بعد الجديد عن القديم وصار لكن زمار لغته.

إذا كنا كلما استجد معنى استعرنا له لفظاً في القديم التبس جديدنا بقديمنا ولاسيما إذا كان المعنى القديم نفسه قد وضع على الرف.

اللولب في السدم اللولبية أو الحلزونية الشكل يستعمل بدل البرغي، هذا جديد وذاك قديم ولكن هذا درج على الألسن وذاك أهمل. وللبرغي حامولة. فإذا سألنا اللغوي أن يأتينا بلفظ عربي للحامولة فماذا يختار.

أجل لغتنا غنية بالكلم. غنية جداً. ولكنها كانت لغة العرب منذ عرشين أو أربعين قرناً فلم تعد تسعنا الآن. لغتنا غنية بالكلمات الصالحة للأدب والشعر ولكنها فقيرة جداً بالكلمات الصالحة للعلوم الحديثة كالكيمياء والبيولوجيا وما تفرغ منها والصالحة للفنون الآلية. فإذا أصررنا على اختيار لفظ لكل ما جد في هذه وهو لا يحصى بالألوف بل بمئات كنا نفصل أثواب المعاني القديمة القليلة ألوفا من الملابس للمعاني الجديدة. وهو مستحيل لأننا نرى حينئذ القديم والجديد كليهما عاريين.

إذاً فلابد من أن نقتبس الكلمات الأجنبية الجديدة للأشياء التي اقتبسناها. ويكفي أن نطوعها للصياغة العربية ما أمكن. فنقتبس كلمة الأسبيرين كما أخذنا الأسبيرين من الغرب. ونقبل كلمة ياقة التي درجت على ألسنتنا لأن كلمة طوق لا تقوم مقامها لأنها تلتبس بالقلادة.

أعني لابد من توسيع صدر اللغة لقبول بعض الكلمات الأجنبية التي جدت لأشياء جديدة لكي تجاري روح العصر. وإذا أخذنا البحث في لغتنا عن كل كلمة قديمة لكل معنى أو شيء جديد كنا لا نزال نلتفت إلى الوراء ونتمسك بأهداب القديم ونصر على البقاء حيث

ص: 29

كان السلفاء. إذاً فلا نلوم الغربيين إذا استغلوا تأخرنا هذا.

هذا شيء من وحي كتاب الأستاذ سلامة موسى ولا يمكن استيفاء جميع مباحثه إلا إذا نقلنا الكتاب برمته إلى هذه العجالة فخير للقارئ الذي تطيب له هذه الأبحاث أن يطالع الكتاب نفسه

أوافق الأستاذ سلامة على مشروع تبسيط قواعد اللغة العربية لكي نقتصد بالوقت والجهد في دراستها ونأمن الخطأ في استعمالها لأنها كثيرة متشعبة ويستغرق وقتاً طويلا في حفظها. ولا يمكن أن يدرس معها الكثير من علوم العصر وفنونه. يمكن تبسيطها واختصارها جداً من غير أن يتلثم التعبير بها. وإلا نفر العدد الأكبر من طلابها منها كما هو حادث اليوم.

ولكني لا أوافق الأستاذ على تنقيح الحروف العربية ولا إبدال الحروف اللاتينية بها. فحروفنا أفضل من كل حرف أجنبي يبدل به لها. لأنها في القرون التي مرت انصقلت وصارت كأنها الخط المختزل. نعم إن لكل حرف صورتين أو ثلاثة. ولكن هذه الصور لا تجعل الحروف أزيد من 150 حرفاً. ومن يتعلم 28 حرفاً يستطيع أن يتعلم 150 كما تعلمناها وما عانينا وتعلمها الأجانب وما تذمروا.

بقيت مسألة الحركات التي يتخذها دعاة الحرف اللاتيني سبباً لا بدال الحروف. فهذه يمكن الاستغناء عنها في كثير من مواقفها. ففي الأفعال الثلاثية لا لزوم لها إلا على عين الفعل ماضياً ومضارعاً. ويستغني عنها في جميع مشتقات الأفعال الرباعية والخماسية والسداسية ومصادرها، ولا حاجة لها إلا في اسم المفعول منها لأنها كلها معلومة النطق عند من تعلمها. وهناك كثير من الصيغ القياسية يستغني فيها عن الحركات.

وأما أن نستعمل الأحرف الصوتية اللاتينية بدلها في استعمال الحرف اللاتيني فنزيد الكتابة تطويلا وتعقيداً لأننا نحتاج إلى ثلاثة أحرف صوتية بدل الحركات علاوة على أحرفها. فلأجل فعل ضرب نضطر أن نستعمل ستة أحرف. ولا محل هنا للتوسع في هذا الموضوع وإنما لدى البحث الدقيق نجد أن استعمال الحرف اللاتيني لا يحل لنا مشكلة بل يزيد المشكلة تعقيداً.

نقولا الحداد

ص: 30

‌2 - نظرات

في دائرة المعارف الإسلامية

الترجمة العربية

للأستاذ كوركيس عواد

ونضيف إلى ما تقدم بيانه، أن (تاريخ إربل) هذا، نقل أغلبه إلى العربية، ونشر هذا المنقول في مجلة (النجم) الموصلية في أعداد سنواتها الثلاث الأوليات (1929 - 1931).

كما أن المستشرق زورل اليسوعي، نقله إلى اللاتينية بعنوان ، 1927).

وفي 1: 574 أ6 قرأنا اسماً شرقياً بأحرف غربية هكذا قلنا: الجاثليق النسطوري (بابالاها الثالث) المتوفى سنة 717 هـ (1318 م) واسمه إرمي بمعنى (هبة الله) أو (عطاء الله). وترجمته واردة في كتاب (أخبار فطاركة كرسي المشرق) من كتاب المجدل لعمرو بن متى (ص 122 - 125 طبعة جسمندي في رومية)، وذخيرة الأذهان في تواريخ المشارقة والمغاربة السريان لنصري (2: 12 - 22)، وسيرة مار يابالاها (النص الإرمي، نشره بيجان في باريس سنة 1888 ثم سنة 1895). وقد ترجمها المستشرق شابو إلى الفرنسية بعنوان:

' 1 ، 1893 50 - 01 ، 11 ، 1804 73 - 443 ، 235 - 01

ثم نقلها منتوكومري إلى الإنكليزية بعنوان ، ، 1027 ،)

وفي 1: 680 ب 3 تصحف اسم شرقي مشهور، فقيل فيه (أسماني) وصوابه (السمعاني) وهو يوسف سمعان السمعاني الماروني، رئيس أساقفة صور، المتوفى سنة 768م، صاحب التآليف الشهيرة، وبالأخص تأليفه العظيم الذائع الصيت الموسوم بـ (المكتبة الشرقية)(4 ، ، 1719 - 1728)

وفي 1: 680 ب 9 ورد ذكر البطريق سيمون الكلداني وصوابه: البطريرك شمعون الكلداني.

وفي 1: 680 ب 23 و 28 الرهبان اللازاريون وكان الأحسن أن يقال الرهبان العازريون، نسبة إلى (العازر) المذكور في إنجيل يوحنا (11 و 62: 1 - 11).

ص: 32

وفي 2: 98 ب 6 و 8 ثابت بن قره. والصواب: ثابت ابن قره (بضم القاف وتشديد الراء وفتحها وفي الآخر هاء منقوطة).

وفي 2: 223 ا 7 شور بن العطاف. قلنا: الذي في تاريخ الطبري (1: 441 طبعة دي غويه): شمر بن العطاف.

وفي 2: 223 ا 15 و 18 ورد ذكر دنهه. وصحة هذا الاسم (دنحا) وهو الجاثليق النسطوري المتوفى سنة 1281م. وترجمته في كتاب المجدول لعمرو بن متى (ص121 - 122). وقد فسر أبو الريحان البيروني لفظة (دنحا) بقوله إنه (عبد الدنح نفسه ويوم المعمودية بنهر الأردن عند بلوغ ثلثين سنة من عمره)(انظر: الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص293 س 3 - 4 طبعة سخو). وتفسير البيروني لهذا الاسم يتفق وما ورد عنه في المعاجم الإرمية المختلفة.

وفي 3: 11 ا 12 و 23؛ 3: 14 ب 18 ورد اسم (سيمون) مصحفاً من (شمعون) وقد مر بنا مثل ذلك آنفاً.

وفي 3: 14 ا 18 جاءت هذه العبارة: (وكذلك تفسير الإنجيل لداذيشوع (ورد هذا الاسم انظر. .) انتهى

قلنا: لا معنى للرقم 13 المحصور بين قوسين، وفي الأصل الفرنجي وضع بين القويسين إشارة الاستفهام هكذا (؟).

ثم إن (يشوعداد) و (داديشوع) هما بالحقيقة اسم إرمي واحد، بتقديم أحد شطريه على الآخر. فمعنى يشوع: يسوع، أي يسوع المسيح، ومعنى داد: حبيب أو صديق. كما أن صوابه وهو المستشرق الفرنسي الشهير روبنس دوفال، المتوغل في الآداب السريانية.

وفي 3: 248 ا 4 ستحاريب. صوابه: سنحاريب.

وكذلك في 3: 249 ب 25 ابن الفداء، والصواب: أبو الفداء. ولعل هذا الوهم والذي قبله الشيء عن الطبع.

وفي 3: 264 ب 8 خسرو أنو شروان. والمشهور في المراجع العربية القديمة: كسرى أنو شروان.

ومن الأوهام التي تسترعي الأنظار، ما ورد في 3: 344 ا 1 حيث ذكر هناك اسم

ص: 33

يوسفوس وكتب بأزائه بالفرنجية قلنا: الصواب في إنه (أوسابيوس) وهو رجل نصراني كان أسقفا على قيسارية من بلاد الروم، صنف تاريخاً كنسياً نفيساً عرف بـ (تاريخ أوسابيوس القيرسي) أو القيسراني. وقد عاش سنة 267 - 340م.

أما يوسفوس الذي يكتب اسمه بالفرنجية أو فمؤرخ يهودي، دون تاريخ اليهود، عاش سنة 37 - 95م. فأين هذا من ذاك؟

ومن التصحيفات الظاهرة للعيان، ما ورد في 3: 359 ب 9 و 11 فقد كتب هناك (مردويج بن زياد). والصواب إنه (مرداويج بن زيار)(الديلمي) على ما هو مسطور في كثير من المراجع التاريخية. انظر مثلا: صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي (ص 154 طبعة دي غوية)، وتجارب الأمم لمسكويه (5: 161، 162، 163، 228، 310 - 315 طبعة امدروز) وغيرهما.

وفي 3: 429 ا 11 نبوشادنزر. والمشهور أن أسمه نبوخذ نصر. فقد ورد ذكر هذا الملك البابلي في مواطن عديدة من التوراة (راجع مثلا: سفر الملوك والأيام، وعزرا، ونحميا، واستير وإرميا ولاسيما في دانيال. كما أن العرف عرفوه باسم بختنصر. قال الطبري (1: 671): فأقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل، وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب).

وفي 3: 473 ا 24 الهمزاني. وصوابه الهمداني (بالدال المهملة)

ومن الأعلام التي استوقفتنا أثناء المطالعة ما جاء في 3: 683 ا 21 - 12 حيث قال: (ووصفها نيرش. .) والذي يبدو لنا أن اللفظة الفرنجية مختصرة من نرخس أحد قادة جيش الإسكندر المقدوني في حملته على بلاد الهند، فانه قاد الأسطول اليوناني سنة 325 ق م من نهر السند إلى البحر الهندي ميمماً شطر السواحل الفارسية حتى بلغ مصب دجلة في الخليج الفارسي. ثم إنه طاف حول البلدان العربية حتى بلغ برزخ السويس. وقد أودع حديث بعثته البحرية هذه في كتاب وقفنا على ترجمته الإنكليزية التي نقلها من المصادر الإغريقية، بعنوان: ، 1797).

وقرأنا في 3: 690 ا 1 هذه الكلمة (وفهارس وكأن هذه التسمية خفيت على اللجنة، فأبقت على أصلها الفرنجي. والحال إنه يقصد به (حبيب شيحا) وهو رجل سوري الأصل، أقام

ص: 34

ببغداد مدة، ووضع لها تاريخاً بالفرنسية وأخبار أسرة شيحا في مجلة الآثار الشرقية (4 (1929) ص 418 و470).

وفي 3: 692 ا 7 وصوابه

وفي 4: 15 ا 24 بكر صبيحي. والصواب: بكر سوباشي راجع تفسير لفظة (سوباشي) في مقال للأستاذ المحقق يعقوب سركيس (مجلة غرفة تجارة بغداد 5 (1942) ص 169 - 170).

وفي السطر الأخير من 4: 16 اوكذا في بعض حواشي هذا البحث، تصحف اسم عبد الرازق الحسني إلى الحسيني.

وفي 4: 40 ا 21 زين الدين علي كوجوك بن بكتكين. والذي في الكامل لابن الأثير (راجع الفهارس): زين الدين علي كوجك بن بكتكين.

ومن الأوهام التي جاءت من الأصل الفرنجي اسم سلمنصر الثاني (4: 57 ا 4 و21) وصوابه: شلمنصر الثالث. راجع بهذا الشأن.

60 -

825 1915 ، ،

(يتبع)

كوركيس عواد

ص: 35

‌جزر الهند الشرقية

للأستاذ سوكارنو الصغير

نحاول في هذه الأسطر أن نصور الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية ليطلع القارئ على حياة أمة شرقية يبلغ عددها سبعين مليونا، تجمع شملهم وحدة الآمال والمقاصد نحو حياة حرة!. . .

يطلق التاريخ الحديث على مجموع الجزر المنتشرة بين آسيا واستراليا - إندونيسيا - وهي كلمتان ركبتا تركيباً مزجياً. الكلمة الأولى وهي بمعنى الهند، والكلمة الثانية بمعنى الجزائر. وفي الاصطلاح السياسي، تطلق على المستعمرات الهولندية سابقاً. وأشهر الجزائر الأنودنيسية: جاوا وسومطرة، وبوزنيو، وسليبيس، وبالي، وسمباوا، وغينيا الجديدة، وجزائر الملوك. وهناك جزر تعد بعشرات المئات، ويبلغ سكان إندونيسيا سبعين مليونا.

سكن الشعب الإندونيسي هذه الجزر قبل ميلاد المسيح بخمسة آلاف سنة. شيدوا فيها حكومات ذات حضارة ومدنية؛ وكانت البوذية التي جاءته من جنوب الهند. ويرجح المؤرخون أن سكان إندونيسيا أتوا من الهند. إذ أن الجزر الجزر الإندونيسية الدانية من البر الأسيوي كانت متصلة به. وبقوة الأمواج المتلاطمة على السواحل الأسيوية انفصلت قطع منها وتكونت عدة جزر. واللغة الجامعة للتفاهم هي اللغة السنسكريتية. وتوجد للآن في جزيرة جاوا آثار قديمة من العهد الهندوكي، أشهرها (بوروبودور) وهياكل المعابد البوذية، وتماثيل بوذا. وقد نقبت البعثات الغربية في جزيرة جاوا فوجدت فيها آثار أقدم إنسان نشرتها الصحف بوقتها. ومن أعظم الحكومات التي أسسها الشعب الإندونيسي، إمبراطورية مجافائيد وإمبراطورية سريويجابا وتعدان بالنسبة للظرف الحاضر من كبريات الدول ذوات الاستعمار! ولما بدأ الانحلال الشرقي وأفل نجمه الساطع بعد قرون زاهرة بالعلوم والآداب والحضارة والمدنية أصيبت إندونيسيا بالانحلال والضعف أيضاً. وبدأ دور الغرب في إحياء العلوم وإنشاء حضارة مؤسسة على المادة! فرحل إليها الأوربيون للتجارة عن طريق رأس الرجاء.

وينقسم التاريخ الأوربي في إندونيسيا إلى قسمين:

ص: 36

1 -

العصر البرتغالي والأسباني من 1500 - 1600م.

2 -

العصر الهولندي - من عهد الشركة الشرقية الهندي 1600 - 1800 ثم عصر الاستعمار من 1800 - 1941 م.

ثم توحدت الشركات الهولندية في شركة واحدة بأمر من السلطات العليا في هولندا لأسباب أهمها: -

1 -

إفساح المجال للشركة في إنماء تجارتها والقضاء على التنافس الفردي.

2 -

التضييق على الشركات البرتغالية والإنكليزية.

3 -

مقدمة لاستعمار إندونيسيا.

4 -

القضاء على الشركات الوطنية.

تكونت الشركة كما ذكرنا باسم (شركة الهند الشرقية) وهي الدعامة الأولى في هيكل الاستعمار الهولندي، والعامل الأساسي في اتساع نفوذه في الشرق الأقصى!. . .

وفي القرن التاسع عشر فرضت السلطة الهولندية نفوذها السياسي باستعمار البلاد سياسياً، وأصبحت مستعمرة هولندية. وسارت إندونيسيا في طريق محدودة رسمتها السياسة الهولندية وسنت نظما وقوانين تحد من سلطة الشعب، وتضيق ميدان حياته فأمسى الشعب عاجزا عن الدفاع عن سلامة وطنه، وبرغم التضييق الشديد حدثت عدة ثورات لتحرير البلاد من النفوذ الهولندي؛ ففي عام 1821 قام الزعيم المسلم أمام بونجول في جزيرة سومطرة بثورة رهيبة لإزالة الحكم الأجنبي عن إندونيسيا. وذهب ضحيتها عشرات الألوف من الإندونيسيين، كما خسرت السلطة الحاكمة ما يضاهي خسارة الوطنيين. ودامت الثورة حتى عام 1837 لوقوع مشعل نار الثورة في يد الحكومة، ثم نفته إلى جزيرة تيمور وتوفى بها. أما نتائج الثورة فهي أشعار الهيئة الحاكمة أن الشعب الإندونيسي المغلول الأبدي، يستطيع أن يتحرك ليجاهد دفاعاً عن كرامته وشرفه ووطنه.

وفي عام 1825 اشتعلت نار ثورة أخرى بقيادة زعيم آخر، هو الأمير ديفاينغورو، وكان الشعب الإندونيسي يعتقد إنه منقذ إندونيسيا من السيطرة الأجنبية، وقد عصفت هذه الثورة بهيكل النفوذ الهولندي وكادت تقلعه من جذوره لولا سرعة تموين الحكومة الهولندية لجيوشها المنتشرة بالذخائر، واستولى الإدارة الوطنية للثوار. وفي نهاية عام 1830 قذفت

ص: 37

السلطة الهولندية بجيوشها إلى ميادين القتال وزودتها بذخائرها الكافية، فدارت معارك حامية كان الثوار يحاربون بالسلاح الأبيض أو بما غنموه. . . ونجحت الحكومة في إخماد الثورة وبلغت خسائرها خمسة عشر ألف جندي وعشرين مليون ربية. وأما ضحايا الثوار فبلغت ضعفي خسائر الحكومة.

وفي عام 1873 حدثت ثورة رهيبة في جزيرة سومطرة بمقاطعة آجيه. وهذه المقاطعة معقل الإسلام في إندونيسيا، وسكانها قوم عاشوا على الحروب والقتال كالأمة العربية. ولما حدثت الثورة امتشق الحسام كل فرد منهم ذوداً عن كرامة الدين الإسلامي وحفظاً لشرف البلاد. والزعيم الذي قاد هذه الثورة هو (تونكو عمر). ولم تستطع السلطة الهولندية منذ استعمرت إندونيسيا أن تخضع هذه المقاطعة لشدة شوكتها؛ وكان يحكمها أمير وطني له السيادة التامة عليها. وفي عام 1904 استطاع الهولنديون التغلب عليها بالقضاء على الثورة وإخمادها بعد أن ضحوا تضحيات هائلة. كما ضحى الوطنيون أضعاف ما ضحاه الهولنديون. ثم أديرت المقاطعة من قبل أمرائها تحت مراقبة السلطة الهولندية في الأمور التي لها مساس بمصالحها.

الحركة الحديثة

في 20 مايو 1908 تأسس أول حزب سياسي هود بودي أوتومو أي النزعة الفاضلة برئاسة الدكتور وحيدين. ويعاونه في إدارته ونشر مبادئه وتحقيق غايته طلبة الطب بمدينة بتافيا. وانضمت إلى عضوية الحزب الطبقة المثقفة والأسر الراقية. وقام بالدعاية له في غرب جزيرة جاوا الدكتور رادين ستومو، وفي شرقها الحاج شكرو أمينوتو وكلاهما من رجالات إندونيسيا البارزين.

ولتحقيق غاية الحزب أنشأ هيئات أولية للإشراف على تنفيذ برامجه الإصلاحية وأهم برامجه:

1 -

إصلاح حالة الأمة الثقافية؛ فنشر المدارس والمكاتب وبعث لجانا صغيرة تجوب المدن والقرى لمساعدة المعلمين الصغار، وإرشادهم إلى الطرق التي يلزم أن يسلكوها في أداء رسالتهم الثقافية.

2 -

إصلاح الحالة الاقتصادية، فأنشأ بنوكا ومحلات تجارية لمساعدة التجار والزراع

ص: 38

الوطنيين وإرشادهم إلى أقوم السبل إلى استثمار أموالهم وزراعة أراضيهم

3 -

إصلاح الحالة السياسية، فأنشأ النوادي والصحف. وأقام المحاضرات في المحلات العامة لإرشاد الشعب إلى سير الحالة الخارجية وتطور السياسة العالمية وعلاقة البلاد بالحكومة الهولندية

ولما كانت الأداة الحكومية في يد الموظفين الهولنديين سعى الحزب إلى اشتراك الأمة في إدارة شئونها، فتعين كثير من الرجال المثقفين والشبان في عضوية المجالس البلدية والمحلية وفي المحاكم وفي إدارة الشؤون المالية والثقافية والصحية والمواصلات والتعدين. وطالب الحزب بإنشاء مجلس نيابي، ولكن السلطة الهولندية رفضت طلبه بدعوى أن الجو مكفهر في ابتداء الحرب العالمية الأولى، ومضطرب لاشتداد الأزمة السياسية العالمية. وبعد مضي الحزب في عمله أصبح الشعب كالبركان الثائر يطالب بحريته التامة!

نمت الروح القومية وانتشرت انتشارا رائعاً، وكان أقوى عامل لنموها هو شعور الإندونيسي بالحب العميق لإندونيسيا الحديثة؛ إندونيسيا الكلمة الساحرة التي جذبت سبعين مليونا من النفوس نحو حبها! فسعوا بجد نحو إعادة ماضيها على أساس الحياة الحديثة. وتفرق الشعب في طرق متعددة للوصول إلى الهدف القومي. وهناك في ميادين الثقافة والاقتصاد والتجارة والملاحة والزراعة فرق ترشد الجماهير إلى أحسن الطرق لإصلاح حالتها العامة، وقد أنشأتها الحكومة الهولندية مدارس عالية ومتوسطة وابتدائية، ولكنها لا تكفي لارواء ظمأ شعب يلح في طلب الحرية المؤسسة على العلم والعرفان. وفي إندونيسيا كليات أسستها الحكومة الهولندية، وهي كلية الطب، وكلية الحقوق، وكلية الهندسة، وكلية التجارة، وأكاديمية حربية، وإزاءها مدارس عالية أهلية أسستها الجمعيات والأحزاب. وأشهر المؤسسات القومية التي قامت بالإصلاح الديني والاجتماعي والثقافي مؤسسة المحمدية والعائشية وأساسها ديني قومي، ثم مؤسسة (تامن سيسوا) وأساسها قومي، ومؤسسها البروفيسوركي هاجر ديوانتارا، ونال لقب الأستاذية من أكبر معهد للتربية في الولايات المتحدة في عام 1938 ويبلغ عدد المدارس التابعة للمحمدية والعائشية ثلاثة آلاف مدرسة ما بين عالية وثانوية وابتدائية ورياض للأطفال. ولها أيضاً مكاتب عامة ومساجد ومستشفيات وفرق كشافة تدعى باسم (حزب الوطن) ثم أبدل في السنوات الأخيرة باسم

ص: 39

(شباب المحمدية). وللجمعية المحمدية والعائشية فروع كثيرة منتشرة في كل مدينة وقرية في إندونيسيا. وفي عام 1938 طلبت المحمدية من السلطات الهولندية السماح لها بشراء باخرتين لنقل الحجاج الإندونيسيين إلى الحجاز، ولكن السلطات المحلية رفضت طلبها! وتأسست هذه الجمعية في عام 1912 بمجهود الحاج أحمد دحلان. وللجمعية أيضاً جريدة ومجلة لسان حالها. وهما (عادل) و (صوت المحمدية) وتعقد الجمعية مؤتمراً سنوياً في كل مدينة في إندونيسيا، يحضره مندوبون من جميع فروعها. ويستمر في الانعقاد أسبوعا كاملا تستعرض الجمعية خلاله أعمالها الماضية ثم درس الاقتراحات والقوانين المقدمة من فروعها. وعقد المؤتمرات السنوية سنة تبعتها الأحزاب السياسية والجمعيات المختلفة المقاصد. وأما مدارس تامن سيسوا فيبلغ عددها الألف. وكانت أكبر خطر على السياسة الاستعمارية كما صرح بذلك البروفيسور جب الهولندي في كتابه (وجهة الإسلام) إذ أن هذه المدارس مؤسسة على القومية. والتعليم فيها على أحدث المناهج الغربية. وتبعث تامن سيسوا بعض متخرجيها إلى الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا والفلبيين والهند لإتمام دراساتهم العمالية في جامعتها. وتصدر مجلة شهرية تعبر عن آرائها باسم (العائلة)

وأشهر الأحزاب السياسية التي ظهرت بعد حزب (بودي أوتومو) حزب الشركة الإسلامية في عام 1912 بزعامة الحاج سكرو أمبوتو. وانتشرت فروعه في المدن والقرى. وفي أثناء سير الحزب رفضت السلطة المحلية الاعتراف بفروعه، لتستطيع إيجاد الخلاف بين الحزب وفروعه. ومنعت السلطة أيضاً قبوله أعضاء جددا، وتجاه هذه السياسية المحلية أضافت إدارة الحزب كلمة واحدة إلى اسم الحزب وهي (سنترال) وأصبح الحزب يدعى باسم (سنترال الشركة الإسلامية) وبذلك اعترفت السلطة بفروع الحزب

وأما برامج الحزب فهي:

1 -

الدفاع عن كرامة الدين الإسلامي واشتراك الشعب الإندونيسي في تخفيف الآلام والمحن النازلة بالأمم الإسلامية.

2 -

نشر الثقافة الإسلامية والعمل بأحكام القرآن مع الاقتباس من القانون الدولي لمسايرة التطور العالمي.

3 -

إيجاد حياة اقتصادية ليستطيع الشعب أن يعيش بها في مركز متوسط يستغل موارد

ص: 40

البلاد.

4 -

تربية الشعب تربية سياسية حتى يستطيع أن يدير أموره بنفسه. وكون هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية من أعضاء الحزب البارزين. وتعتبر هذا الحزب أكبر حزب سياسي إسلامي في جزر الهند الشرقية، وبلغ عدد أعضائه بعد الحرب العالمية الأولى مليوني عضو.

ولما سمحت السلطة الهولندية بعقد الاجتماعات والاشتغال بالسياسة تحت شروطها المعينة، ظهرت على المسرح السياسي الهولندي الإندونيسي أحزاب كثيرة كلها ترمي إلى تحرير البلاد. وفيما يلي نضع للقارئ أهم الأحزاب التي ظهرت وتواريخ ظهورها بصورة مختصرة:

1 -

الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الدكتور دوبزديكر في عام 1912.

2 -

حزب فاسوندان في عام 1914.

3 -

الحزب الشيوعي الإندونيسي بزعامة الدكتور سمعون في عام 1920.

4 -

هيئة ائتلاف الأحزاب السياسية الوطنية برئاسة المستر تمرين في عام 1927.

5 -

الحزب الوطني الإندونيسي برئاسة المهندس سوكارنو في عام 1927.

6 -

حزب الشعب الإندونيسي بزعامة المستر محمد طبراني في عام 1930.

7 -

اتحاد الشعب الإندونيسي بزعامة الدكتور رادين ستومو في عام 1930.

8 -

الحزب الإندونيسي برئاسة المستر سرتونو في عام 1931.

9 -

حزب التربية الإندونيسي بزعامة الدكتور محمد حتى في عام 1931.

10 -

حزب إندونيسيا الكبرى بزعامة الدكتور رادين ستومو، وهو مكون من حزب بودي أوتومو وحزب اتحاد الشعب الإندونيسي في عام 1905.

11 -

حزب النهضة الإندونيسية برئاسة المستر أمير شرف الدين في عام 1936.

12 -

الحزب الإسلامي الإندونيسي برئاسة المستر ويووهو النائب بمجلس النواب في عام 1936.

13 -

رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية في عام 1939.

والأحزاب التي استطاعت أن تصمد أمام التيار، وتقف كالصخرة الصماء لا تزحزحها

ص: 41

العواصف ولا الرياح هي:

1 -

حزب الشركة الإسلامية الإندونيسية.

2 -

حزب إندونيسيا الكبرى.

3 -

حزب النهضة الإندونيسية.

4 -

الحزب الإسلامي الإندونيسي.

5 -

رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية.

الحكومة الذاتية والبرلمان

منذ ابتدأت النهضة الإندونيسية بنمو الروح القومية في عام 1908 طالبت الأحزاب السياسية الحكومة الهولندية بإنشاء حكومة ذاتية ومجلس نيابي. وكانت أهداف الحركات القومية الوصول إلى تحرير البلاد مبدئياً عن سبيل إنشاء حكومة ذاتية بمجلس نيابي، ففي أوائل الحرب العالمية الأولى طالبت الأحزاب السلطة المحلية بإنشاء مجلس نيابي إندونيسي، ثم أجل الطلب إلى ما بعد الحرب. ولما وضعت الحرب أوزارها أنشأت الحكومة الهولندية مجلساً نيابياً مختلطاً من الوطنيين والهولنديين والأجانب واستاء الشعب من هذه السياسة. وأعلنت الأحزاب الوطنية السياسية اللاتعاونية، وكان تأسيس المجلس النيابي المختلط في عام 1918.

وفي عام 1937 قدم النائب المستر سو ترجو العضو بالمجلس النيابي مذكرة إليه بإعطاء إندونيسيا استقلالا كاستقلال الحكومات الدومنيوتية في الإمبراطورية البريطانية، وقام بصدده مباحثات طويلة بين رجال الأمة والحكومة الهولندية، وأخيراً رفض الطلب بدعوى أن الشعب لم ينضج سياسياً!

وفي شهر مايو 1939 تكونت رابطة الأحزاب السياسية، وكان أول ما قامت به هو الدعاية بين طبقات الأمة وفي دوائر السلطات الهولندية بإنشاء برلمان وطني بمعناه الصحيح، كما قامت واللجنة الإندونيسية الوطنية، بالمجلس النيابي الدعاية للبرلمان بين أعضاء المجلس. . . وفي 27 سبتمبر سنة 1939 أذاعت (رابطة الأحزاب السياسية) بياناً إلى الأمة تدعوها إلى بذل جهودها وإعطاء ثقتها للرابطة لإنشاء برلمان وطني، وفيما يلي خلاصة البيان:

ص: 42

(منذ تطورت الأزمة العالمية، والرابطة الوطنية تخطو خطوات موفقة نحو رفع مستوى البلاد السياسي وإشعار العالم الخارجي أن الشعب الإندونيسي يرنو إلى حياة حرة تحت ظل حكومة وطنية متمتعة باستقلالها التام. وإن الرابطة تسعى سعياً قوياً لتحقيق مطالب الشعب الرئيسية. وهي تنظر إلى الحركات الأوربية بعين اليقظة والحذر. وأن الظرف الحاضر الدقيق حيث يضطرب حبل السياسة العالمية يدعو الرابطة أن تضحي بمجهودات عظيمة في سبيل تحقيق البرلمان وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمامه

إن الرابطة تدعو كافة الجمعيات والأحزاب والمؤسسات القومية وطبقات الشعب إلى تعضيدها في مطالبها في إنشاء برلمان للشعب الإندونيسي المجيد، للوطن الإندونيسي الواحد!)

وفي 23 ديسمبر 1939 أقامت الرابطة مؤتمراً شعبياً باسم المؤتمر القومي الإندونيسي بمدينة بتافيا عاصمة إندونيسيا، للبحث عن الأسس الأولية لإنشاء البرلمان ورفع مذكرة إلى الحكومة الهولندية بتأسيس البرلمان حسب رغبات الشعب. وقد حضر المؤتمر مندوبون من كافة الأحزاب والجمعيات الوطنية. ورجال السياسة والصحافة والأدب والأعمال. ودام المؤتمر لنهاية يوم 25 ديسمبر سنة 1939. ثم رفعت الرابطة مذكرتها إلى السلطات الهولندية بإندونيسيا ومنها أرسلت إلى الهيئات العليا بهولندا لدراستها. وبعد دراسات دقيقة أشعرت الحكومة الهولندية رابطة الأحزاب بتأجيل الطلب لأن الشعب لم ينضج سياسياً أيضاً. فضلا عن أن الحرب العالمية الثانية دائرة رحاها.

ولعلنا في هذه الكلمات الموجزة استطعنا أن نعطي القارئ صورة مصغرة مختصرة عن الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية أو إندونيسيا، وهي حياة أمة شرقية تعدادها سبعون مليوناً. لا نستطيع أن نغضي الطرف عنها وهي همزة وصل بين استراليا وأمريكا وبين آسيا وأفريقا وأوربا، ووجودها ضروري لتحفظ توازن القوى في الشرق الأقصى!

سوكارتو الصغير

ص: 43

‌الشرق كما يراه الغرب

3 -

الموالد المصرية

للأستاذ أحمد أبو زيد

تضم الموالد - علاوة على الناحية الدينية - بعض عناصر اللهو وضروب التسلية التي اشتهر بها المصريون. بل إن جميع الاحتفالات الدينية في مصر وفي غير مصر، وفي الأزمان الحديثة والقديمة على السواء - لم تكن احتفالات دينية بحتة، بل كان يداخلها دائما شيء من اللهو والعبث. فهوميروس مثلا يذكر لنا الشيء الكثير عن الألعاب الشعبية، وأنها كانت تؤلف قسما هاماً من أعياد اليونان الدينية. والمصريون معروفون بروحهم المرحة التي تحب الانطلاق، فهم لا يتركون فرصة تمر أمامهم حتى يغتنموها ويطلقوا أنفسهم العابثة على سجيتها، ويملئوا الدنيا لهواً وعبثاً، ويثيروا حولهم أكبر ضجة مستطاعة، كما هي عادتهم في المناسبات وفي غير المناسبات

وجو الموالد جو صاخب، كله ضجيج وترتفع فيه الأصوات المتنافرة من كل جانب، ولكنها على تنافرها يقوم بينها نوع من الائتلاف والانسجام يجعل لها وقعاً غريباً في النفس، ففي ناحية نجد مشارب (البوظة) تنبعث منها أصوات الغناء السوداني: أيوه أيوه من السودان:

سرجوا الصندوق يا محمد

لكن مفتاحه معايا. . . الخ

يصحبه توقيع جميل منتظم على الصناجات، ولكنه يضيع ويتلاشى أمام دوي موسيقى غريبة صاخبة منبعثة عن (شخشاخة) كبيرة، ويصحب ذلك الرقصة السودانية المعروفة باسم الرانجا أو الرانجو؛ ومن ناحية أخرى ترتفع أصوات باعة الليمونادة والتمر هندي والعرقسوس والشربات وباعة السجاير ومن ورائهم (جامعو الأعقاب)؛ ومن هنا وهناك ترتفع أصوات باعة (عرائس المولد) يتغنون بمزايا عرائسهم ويعددون صفاتها وجمالها، وقد زينوها بأجمل زينة، ووضعوا إلى جانبها خليطاً كبيراً من الأرانب والكلاب والدجاج والبط (وكل ذلك مصنوع من الحلوى بلا ريب). . ويتفنن باعة العرائس في عرض عرائسهم، وهم في الغالب لا يكتفون بعرض العرائس وحدها، بل يأتون لكل عروسة منها (بعريس) ويسكنان الاثنين معا في حجرة صغيرة بها مخدع ومرايا وما إلى ذلك. . . وكثيراً ما يستوحي باعة العرائس القصص الشعبية مثل عزيزة ويونس أو قصة أبي زيد

ص: 44

الهلالي أو قصة (أبو علي سرق المعزة) في عمل بعض النماذج الطريفة. . . وفي هذا الجو الصاخب الرائع تنتشر روائح قوية نفاذة مستطابة وخاصة عند الأجانب. . . تلك هي روائح الطعمية والفول المدمس والكفتة والشواء والأرز وغيرها من الأطعمة الوطنية الطيبة النكهة.

وتنتشر المسارح و (التيارات) بكثرة في الموالد؛ وبعض هذه المسارح تطلق عليها اسم (مسرح) من باب التجوز فقط لصغر حجمها، كتلك (المسارح) الخاصة بالأراجوز وخيال الظل التي لا يزيد أجر الدخول فيها على ملليمين، ويجلس المتفرجون في (الصالة) على مقاعد خشبية ليشاهدوا (العرض) ويستمعوا إلى الموسيقى. بيد أن هناك مسارح أكبر من هذه يعرض فيها شيء لا بأس به من التمثيل والرقص. وفي خارج هذه المسارح توجد منصتان على جانبي باب الدخول، تحتل إحداهما فرقة موسيقى نحاسية (تشنف) آذان الجمهور والمارة بنغماتها المدوية؛ أما المنصة الأخرى فيخرج إليها من أن لآخر - خلال فترة الاستراحة - بعض الممثلين والراقصات ليعرضوا على الجمهور في الخارج شيئا من بضاعتهم الفنية عسى أن يثيروا فيهم الرغبة والشوق للدخول. ويعمل في هذه المسارح - علاوة على الممثلين والراقصات - نفر من الرجال قد تخصصوا في (تحريك العضلات)، كما نجد فيها أيضاً بعض الراقصين من الرجال يأبون أن يرقصوا إلا في ملابس النساء وفي زينتهن. ومن أشهر هؤلاء الراقصين راقص اسمه حسين فؤاد، يوزع على المتفرجين - بعد العرض - بطاقة عليها صورته في زي امرأة وقد كتب تحتها: - الراقص المصري الشهير حسين فؤاد.

وللمصريين ولع شديد بمشاهدة ألعاب القوى، ولذا لا يخلو أي مولد من وجود بعض خيام صغيرة تعرض فيها هذه الألعاب من مصارعة ربع، ومن أشهر الذين يعرضون هذه الألعاب عملاق ضخم الجثة يسمي نفسه (الأستاذ شوال) ولهذا الأستاذ شوال (جوقة) تضم بين أفرادها قزما صغير الجسم كريه المنظر ولكنه مع ذلك يتمتع بقوة جسدية هائلة بحيث إنه يستطيع أن يرفع بسهولة رجلا يكبره بثلاثة أضعاف حجمه.

ومن الألعاب الطريفة المستحبة عند المصريين في الموالد لعبة (أبو فيران). والأدوات المستخدمة في هذه اللعبة منضدة صغيرة مستديرة مثبت على حافتها منازل صغيرة لكل

ص: 45

منها فتحة (أو باب) تكفي لمرور الفأر، ولكل بيت رقم خاص. ويتراهن المتراهنون على أي البيوت سوف يدخلها الفأر، ويضع كل منهم نقوده على البيت الذي يختاره. ثم يخرج (أبو فيران) فأره الأبيض الصغير من جيبه ويطلقه يرتع ويجري على المنضدة كيف شاء؛ فالبيت الذي يدخله الفأر يربح صاحبه الرهان، وقد شاهد ماكفرسون صبيا صغيراً بارعا بكسب الرهان دائماً دون أن يفقد نقوده قط، فراقبه خلسة حتى عرف السر في ذلك؛ إذ كان الصبي الصغير يغافل من حوله ويضع قطعة من الجبن في البيت الذي يختاره وكانت رائحة الجبن كفيلة بجذب الفأر إليها.

ولكن، مهما كثرت الألعاب الشعبية في مصر، ومهما تعددت مظاهر اللهو والمرح - فإنها واحدة لا تتغير في جميع الموالد؛ فما نراه في موالد الوجه البحري نجده في موالد الوجه القبلي دون أدنى تغيير. والأعجب من ذلك أن نفس الوجوه تظهر في كل الموالد وخاصة وجوه الممثلين والراجوزات والحلاقين الذين يختنون الفقراء مجاناً. والواقع أن هناك فريقاً كبيراً من هؤلاء يقفون حياتهم على التنقل بين البلدان للتكسب من الموالد.

ونحب في النهاية أن نكرر ما سبق أن قلناه من أن كتاب ماكفرسون سد فراغا كبيراً وأسدى خدمة جليلة لدراسة الحياة الشعبية في مصر الحديثة، فالواقع أن هذه الناحية لم تحظ بكثير ولا قليل من الدراسة والعناية الجديرة بهما، وعسى أن يقوم بعض علمائنا ممن يعتنون بدراسة (الفولكلور) بمتابعة الخطوات التي خطاها ماكفرسون وغيره من أمثال إيفانز بريتشارد والأستاذ هوكارت وبذلك يقدمون أجل الخدمات للعلم ويؤدون بعض ما يجب عليهم نحو وطنهم.

(انتهى)

أحمد أبو زيد

ص: 46

‌هذا العالم المتغير

للأستاذ فوزي الشتوي

ملابسك من الفول السوداني

ولا تعجب. فيستطيع علم الكيمياء الآن أن يحول كل ما يقع تحت حسك من مواد إلى مواد جديدة لا تتصور نشوءها منها. وقد لا يطول الزمن أيضاً حينما يتحقق حجر الفلاسفة فيحول الكيمياويون الرصاص أو القصدير وربما التراب إلى ذهب. فلم يعد علم الكيمياء الآن ينظر إلى مظاهر المواد بل إلى خواصها وجواهرها.

والحرير والصوف اللذان تشاهدهما كل يوم ليسا إلا أنسجة زلالية أي أن أساسها مثل زلال البيض الذي لا ترى بينه وبين الصوف أية صلة. وقد ظهرت في السواق التجارية منسوجات صناعية. ولا تمر شهور حتى تكون بعض ملابسك من هذه المواد وأحدها النسيج الحديث المعروف باسم (الأرديل) الذي يصنع من زلاليات الفول السوداني.

وأول نسيج صناعي ظهر في المجال التجاري من أصل زلالي هو القماش المعروف باسم (لانيتال) وهو يشبه الصوف في كثير من خواصه وساعد على رواجه وصقل صناعته حرب إيطاليا والحبشة وتوقيع العقوبات الاقتصادية على الأولى وحرمانها من الخامات والمواد الأولية وقد استخرج هذا النسيج من اللبن بعد عدة عمليات كيماوية تعرف باسم عملية فيرتيتي.

واشتدت الحاجة بإيطاليا إلى المنسوجات لتزويد جنودها بالملابس فسعى علماؤها إلى صنعها من (شرش) اللبن، ولاسيما أن حرمانها من تصدير الجبن وفر لديها مواد اللبن مما شجع على صقل صناعة اللانيتال.

ولفتت هذه المغامرة الإيطالية أنظار علماء العالم فرض كورتولد في عام 1938 في أحد معارض مانشستر أنسجة صناعية. وظهرت في أمريكا أنسجة عرفت باسم (أرلاك).

أما نسيج الأرديل فيرجع أول عهد التفكير العلمي فيه إلى عام 1930 حين قال الدكتور أوستبوري من جامعة ليدز بأنه من الميسور تحويل زلاليات الفول السوداني إلى أنسجة؛ وقد أيده في قوله البروفسور سيبتال من جامعة كمبردج وكان مشهوراً بسعة معارفه عن خواص زلاليات النباتات.

ص: 47

وبدأت سلسلة من التجارب لإذابة زلاليات البذور واستخلاص الألياف منها حتى تكللت التجارب بالنجاح وحصلوا على ألياف تشبه الصوف في كثير من خواصها.

وانتقلت عدوى البحث إلى معهد الصناعات الكيماوية الإمبراطوري وبدأ تجاربه بطرق مثالية يختبر صلاحية البذور المختلفة ليدرس كمية الزلاليات التي تصلح في كل منها لإنتاج الألياف المرموقة.

واستمرت التجارب فترة تيسر فيها فصل مواد الفول السوداني وأتيح منها الحصول على الألياف المطلوبة وعلى استخراج نوع من زيت الأراشيس الذي يصلح في عمل المسلي الصناعي. ووجد أنه يحتوي على 28 % من وزنه من الزلال ومن 48 إلى 50 % من زيت الأراشيس وعلى 11 % من مواد نشوية وسكرية.

ومعنى هذا إنه يمكن استغلال كل مادة الفول السوداني لأن المواد النشوية والسكرية غذاء جيد لكافة الحيوانات كما أن الطن من الفول يصلح لإنتاج 500 رطل من ألياف الأرديل في لون (كريم).

واختيرت خواص الألياف الناتجة فوجد أنها تمتص الرطوبة مثل الصوف ولها قدرته على التدفئة وغيرها من الخواص التي تميز الصوف عن غيره من الألياف.

وانتقلت التجارب إلى مرحلة صنع القماش من الألياف الجديدة فأثبتت أن أفضل طريقة لاستخدامها هي خلطها بمقدار مساو لها من الصوف وعلى هذا الأساس يتعذر على أي إنسان أن يفرق القماش الجديد من قماش الصوف الصافي وإن كان في الواقع يفضله لأنه أرخص منه في أسعار الإنتاج.

واتجهت تجارب الأمريكيين إلى ناحية أخرى فأقبلوا على دراسة زلاليات الذرة التي تعد قليلة القيمة من الناحية الغذائية، ومن ثم تفرعت الأبحاث في كل اتجاه وهدفها استغلال المواد القليلة الاستغلال وخاصة المواد التي تعتبر عديمة المنفعة مثل التالف من الصوف والحرير والجلود وجلود الحيوانات وريش الطيور وكل ما يحتوي على مواد زلالية.

والمعروف أن العلماء توجهوا من زمن بعيد إلى البحث عن ألياف تصلح للنسج من المعادن وهو ما يعرف (بالنيلون) وهو يختلف عن البحث الذي نحن قبله بأن بحثنا نباتي محض.

ص: 48

واتجه البحث في ألمانيا قبل نشوب الحرب إلى ناحية أخرى إذ جرب العلماء استخراج ألياف مشابهة للصوف من السمك. وكانت خلاصة أبحاثهم الحصول على خليط من الزلال والسيلولوز.

ومن الطبيعي أن جميع المواد الغذائية التي نتناولها تصلح مادة جيدة لهذه التجارب وخاصة اللحوم؛ كما حاول بعض العلماء في النمسا. ولكن بعيدي النظر يفضلون الاقتصار في تجاربهم على المواد القليلة الغذائية أو البقايا التي يتخلص منها الإنسان.

على أنه من الثابت أن المنسوجات الصناعية التي تستخرج من هذه المواد التالفة ستكون بالغة الأثر في الميدانين الاقتصادي والتجاري نظراً لرخص أسعارها، وفي كثير من الأحوال لجمال مظهرها وقابليتها لإظهار مودات جديدة.

زرع بدون تربة

لم تعد رمال الصحراء عديمة الفائدة من الناحية الزراعية. فبفضل الأبحاث الكيمائية الزراعية الأخيرة التي أجرتها بعض المعاهد الأمريكية تيسر الاستغناء عن التربة وزرع المنتجات الزراعية في الصخر على أن تغذي البذور بالمواد الكيماوية الضرورية لحياتها.

وظهرت هذه الحاصلات بكثرة ساعدت كثيراً على توفير المواد الغذائية للقوات المحاربة. وطريقة الزراعة الكيميائية هي نثر البذور في طبقة من الحصى والرمال والأحجار سمكها عشرة سنتيمترات تمهد مائلة وتنتهي مساحات أرضها بمجموعة من الحفر تزود بالطلمبات التي تمتص محلولها المحمل بالمواد الكيماوية اللازمة ثم ترسلها في أنابيب تفرغها في أعلى المنحدر الزراعي فتأخذ منه البذور كفايتها ثم يعود الباقي إلى الحفر ليعاد امتصاصه وتفريغه على البذور عدة مرات كل يوم.

لا حرث ولا عزق

ومن فوائد هذه الطريقة الاستغناء عن حرث الأرض وعزقها كما أنها تعرض جذور النبات للهواء فيحصل على مقدار وافر منه وتقل في حقول النباتات الكيميائية الحشرات الضارة.

وأنتج الفدان الواحد من الأرض بهذه الطريقة 250 طناً من الطماطم و500 بوشل من البطاطس ووفرت عشرة في المائة من النفقات الزراعية التي تتكفلها الأرض العادية.

ص: 49

وأجريت التجارب التحليلية لمعرفة المحتويات الغذائية للحاصلات المزروعة بالطريقة الكيميائية فظهر أن كمية الفيتامينات الموجودة في السبانخ والطماطم توازي ثلاثة أضعاف الكمية الموجودة في مثيلاتها من مزروعات التربة.

وبتحليل مائة رطل من التين وجد أنها تحتوي على 12 رطلا من البروتينات و40 من الكربونات و20 من السيلولوز و10 من الفورفورال و 8 من اللجنين و10 من الهومس وثمن هذه المواد يوازي أربعة أضعاف ثمن التين كله.

ويسرت هذه الطريقة على رجال الصناعة في أمريكا سبيل الحصول على كثير من المواد الصناعية كالبترول والمطاط وغيرهما من المواد الضرورية التي ما زال أمر الحديث فيها من الأمور العسكرية. على أن طريقة الزراعات الكيميائية ستحدث انقلابا كبيراً في عالم الزراعة والصناعة بعد الحرب كما ستخفض ثمن المواد الغذائية تخفيضاً كبيراً.

فوزي الشتوي

ص: 50

‌القصص

لؤلؤة الحب

للكاتب الإنكليزي هـ. جـ. ويلز

بقلم الأستاذ عيسى حليم

من رأي الباحثين في علم الأخلاق أن اللؤلؤة هي أقرب الحجارة الكريمة المتبلورة إلى النفس، لأنها أثر من آثار الألم لكائن حي، وليس في طاقتي التعليق على هذا القول، لأن سحر الجواهر لا يحرك أي وتر من أوتار روحي، وبريقها الرجراج لا يؤثر في على الإطلاق، كما إنه ليس بوسعي أن أقطع برأي حول ذلك الجمال المتطاول: هل لؤلؤة الحب أشجى القصص، أم هي خرافة شائقة عن خلود الجمال؟

إن دارسي النثر الفارسي في العصور الوسطى قد ألفوا هذه القصة والجدال الدائر حولها. والقصة قصيرة، إلا أن تفسيرها يشغل حيزاً كبيراً في أدب تلك الحقبة. فلقد عدت قطعة شعرية كما يجوز اعتبارها كناية تشير إلى هذا أو إلى ذاك. وساهم رجال الدين نصيب وافر في تأويلها، وعنوا بها بوجه خاص كقصة تلقى ضوءاً على بعث الأجسام بعد الموت، ويضرب بها المثل أولئك المشتغلون بالفن والجمال، وكثيرون يعتبرونها مجرد تعبير جريء عن حقيقة بسيطة

جرت حوادث القصة في شمال الهند، وهي أصلح تربة للحب السامي في جميع بقاع العالم، فهي بلاد الشمس الوهاجة والبحيرات والأدغال الكثيفة والتلال والأودية الخصبة، وهناك توشك الجبال الشاهقة أن تنطح قبة السماء، أجل هناك القمم والأخاديد حيث الثلج الدائم الصعب المنال، في هاتيك الربوع كان يعيش أمي في مقتبل العمر يطيعه الجميع. وفي يوم ما التقى بفتاة طلقة المحيا، جمالها قيد النواظر بحيث يعجز عنه الوصف، فجعلها ملكته واضعاً قلبه عند قدميها. كان الحب الموثق متبادلا بينهما، مليئاً بالمسرات وبالسعادة لدرجة لم يحلم بها أحد من قبل. ومكثا يتفيآن ظل الهناءة، موفوري السعادة لمدة سنة وبضعة شهور، ثم. . . فجأة ماتت بلدغة سامة، بينما كانت تطوف في أرجاء إحدى الخمائل. . .!

أجل، ماتت. . . ولبث الأمير حيناً مسجى في حالة هامدة صامتة من جراء الحزن البالغ

ص: 51

واللوعة الحرى، حتى أن البعض خشي عليه أن ينتحر، مع العلم بأنه معدوم النسل والأخوة ليخلفوه. واستمر يومين منقطعاً عن الأكل مكباً على وجهه عند أرجل السرير الذي أضطجع عليه جسدها الفاتن، ثم نهض وأصاب شيئاً من الطعام، وانطلق في سكون انطلاق من آلي على نفسه أن يعمل عملا عظيما، وأمر أن يوضع جسدها في نعش من الرصاص الممزوج بالفضة، وأن يوضع هذا بدوره في نعش آخر من أغلى الأخشاب التي تعبق بالعبير، وأن يكسى بالذهب، وأن يكون حول ذلك كله نعش من الرخام المعرق المرصع بالزبرجد. وبينما كان العمل جارياً، دأب على قضاء معظم أوقاته بجوار الغدران، وفي المنازل ذات الرياض، وفي الخيم والغابات، وفي غرف القصر تلك التي شاهدت مراتع فتونهما، متأملا في حسن تلك التي فقدها، ثم إنه لم يمزق ثيابه ولم يحث الرماد على نفسه، ولم يتشح بالحداد كما كانت العادة، لأن حبه كان أسمى من أن يتسع لهذا الشطط، وأخيراً عاد إلى مستشاريه والى شعبه، وأدلى إليهم بما كان مزمعاً أن يفعله

قال إنه لم يعد بمقدوره أن يقرب امرأة، بل إنه لا يحتمل حتى التفكير في النساء، ولذلك سيحاول إيجاد فتى لائق ليتبناه وليدربه كي يكون خلفاً له، وإنه سيواصل القيام بأعباء الإمارة كما يليق به، على إنه سيركز قواه بقدر استطاعته، وسيخصص جميع ثروته وكل ما يمكنه حشده، ليشيد ضريحاً لمالكة فؤاده الغالية التي لا مثيل لها، وستكون بناية ذات حسن مكتمل وجمال بالغ، بحيث تفوق أية بناية أخرى شيدت في الماضي أو ستشاد في المستقبل، ولتكون أعجوبة إلى الأبد، وليحتفظ بها البشر كنزاً ثميناً، حتى تتناولها الألسن بالإطراء، وتشتد الرغبة في مشاهدتها، ولتكون نجمة الرواد من جميع أطراف الأرض، فيظل اسم معبودته وذكراها حيين ماثلين للعيان، وأضاف أن هذه البناية سيطلق عليها اسم (لؤلؤة الحب)

وقد رضى مستشاروه وشعبه بأن يفعل هذا وقد فعله!

وتتابعت السنون وهو قاصر نفسه على تشييد (لؤلؤة الحب) فحفر لها أساس شق بين صخور في مكان تلوح للناظر منه الثلوج المخيفة التي تكلل الجبال. . . وعلى مقربة كانت تظهر بعض القرى والتلال ونهر كثير التعاريج، وبعيداً قامت ثلاث مدن عظيمة. وضع النعش الرخامي المعرق في بناية شيدت بمهارة وأحيطت بعمد من حجارة جميلة غريبة

ص: 52

المنظر، وبجدران تجلى فيها النقش، لكنها لم تلق قبولا لدى خيال الأمير الآخذ بالاتساع، فأمر بهدمها

فالأمير لم يعد باليافع الرشيق الحركة الذي أحب ملكته الصبية، فقد أضحى الآن رجلا عبوسا لا يستوطئ راحة، منكبا على بناء (لؤلؤة الحب). وأخذت السنوات المليئة بالعناء تكسبه خبرة في فن البناء. . . ورهف ذوقه للألوان، وغدا قليل الاهتمام للتزويق والتزيين وكنت تسمعه يردد:(هذه أشياء كانت بديعة). وشاهد الناس (لؤلؤة الحب) تعلو من طور الإنشاء إلى علو شاهق في عظمة وأبهة وجلال، فهم لم يكونوا يعرفون ماذا يتوقعون، لكنهم على كل حال لم يتوقعوا أن يشاهدوا مثل هذا السمو، وكانوا يقولون هامسين:(غريبة تلك العجائب التي يبدعها الحب)! وأحبت جميع نساء العالم الأمير لولائه العميق ولوجده الدفين

ولم يأل الأمير جهداً في التبديل والتجميل، وإنما كان هناك شيء من النشوز في التابوت، إنه لم يكبر منذ الأيام الأولى للكارثة، فبان أشبه بمستطيل صغير يجثم دون تناسب وسط (لؤلؤة الحب). وفي ذلك التابوت كانت علبة الرصاص والفضة الكبيرة الحاوية لجسد من أوحت بهذا الفن

وقف الأمير طويلا يتأمل وينعم النظر، ولكن أحداً ما كان ليدرك ماذا يجول بفكره، وماذا يستقر في خياله؟!

وأخيراً. . . تكلم مشيراً إلى (لؤلؤة الحب) وقال: اهدموها!

(بيت لحم - فلسطين)

عيسى سليم

ص: 53