الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 637
- بتاريخ: 17 - 09 - 1945
درسان من دروس الحياة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغيري، وإني لم أعطها وحدي، ولا أعطيها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متكافئون في الحقوق، وعلينا من أجل ذلك واجبات متماثلة. وما دمنا شركاء إلى حين، وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل، فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة بالعنت، أو أن تؤثر التي هي أخشن على التي هي أحسن في سيرتنا، وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي، وما زالت بي بقية غير هينة من الجماقة، فما انفكت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته، وتشيلني وتحطني، وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأرحت واسترحت
أي نعم، تتسع الدنيا لي ولغيري، وتستغني عنا جميعاً! وليس أضل رأياً من يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس. وما أحكم قول الإنكليز في أمثالهم:(عش، ودع غيرك يعش)! وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يبابا؟ لا شئ! لن يكف الفلك المسير عن الدوران، ولن يعوق الشمس شئ عن الطلوع والأفول، ولن تعدم الحياة على الأرض مظهراً آخر تتبدى فيه كما تبدت فينا نحن بني آدم! وهل نحن إلا صورة من صور الحياة؟ وهل أعظم غروراً أو أقل عقلا ممن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله عن الأرض؟
ولا يتوهم أحد أن هذا كلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية، ونشداناً للعيش الرغيد، وطلباً لأطايب الدنيا، وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي لا يستوجب أن يحرم الناس غيري ما يطلبون، أو أن يخيبوا ويخفقوا. وأي دنيا تكون هذه إذا كان نجاح فرد فيها وتوفيقه في إدراك آرابه لا يتسنى إلا بخيبة الباقين؟ ثم أني لا أحس أن الناس بنافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الأرض رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما رأيتني عجزت قط عن اختراع طريق بكر، أو الاهتداء إلى ميدان جديد، إذا شعرت
بالحاجة إلى ذلك
وصحيح أن الحياة جهاد - جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان - ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا لا ينبغي أن يكون بالأنياب والمخالب، بل بالعقول. ونضال العقول متعة، وليس يعي به أو يستثقله أو يضجر منه إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين المستضعفين الذين يساقون ويسخرون، بل إلى أصحاب العقول. حتى حين تقوم الثورات لا تكون الثورة في حقيقة الأمر من الجمهور الأكبر والسواد الأعظم الذي يسفك الدماء ويعبث بالخراب والدماء، بل ممن يدفعونهم إلى ذلك ويغرونهم به ويحضونهم عليه صراحة وتلميحاً، وعفواً أو عن عمد، أي من أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس أو تعقل ألسنتهم. وخير وأرشد - لك وللناس - أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وتصور دنيا ليس فيها من يفكر بعقله وينظر بعينه غير واحد ليس إلا! أي مزية يستفيدها هذا الفرد؟ وأي متعة أو نعيم له في حياته مع أشباه البهائم؟
إنما المتعة والنعيم في هذا النضال الذي تتصفح فيه عقول منافسيك وتضيفها إلى عقلك، وأنت بذلك تكسب أبداً ولا تخسر، وتضم كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتيت من ذلك، وتمنع عقلك أن يصدأ، لأنك لا تنفك بفضل النضال الذي لا مهرب لك منه، تجلوه وتشحذه وترهفه
ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري. وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم، ولا مدد من المعرفة. وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناءً
وعلمتني الحياة الابتسام! وأنه لعجيب أن يحتاج المرء أن يتعلمه! ألم يقل بعضهم في تعريف الإنسان أنه حيوان يبتسم؟ وأدعى إلى العجب من ذلك أن تكون المحن والشدائد هي التي علمتنيه وعودتنيه! أي والله! فقد كان صدري يضيق ومرارتي تكاد تنشق، من الغيظ، وكنت أجزع إذا حاق بي ما أنكره، وأقنط من قدرتي على اجتياز المحنة، حتى تلفت أعصابي واسودت الدنيا في عيني، بل كاد نور عيني يخبو وينطفئ لفرط ما كنت أعانيه من الاضطراب والألم والكمد، ثم لطف بي الله فتمردت على نفسي، وصرت إذا عراني ما كان يعروني من الجزع أو الخوف أو الاضطراب أقول لنفسي: قد جربت مثل هذا من
قبل، وعرفت بالتجربة أنه كله يمضي ولا يخلف أثراً ولا يورثني إلا الأسف على ما أنهكت من أعصابي في احتماله، وقد لدغت آلاف المرات. فلا يجوز أن الدغ بعد ذلك أبداً، وخليق بي أن أتلقى كل ما يجيء - لا بالصبر والتشدد، فقد كان ذلك ما أفعل ولم يكن يكفي - بل بالسخرية والتهكم - سخرية العارف وتهكم المدرك للقيم الحقيقية للأشياء - وبالابتسام الذي يهون كل صعب ويحيل كل جسيم ضئيلا.
وإذا بالابتسام له فعل السحر بل أقوى. تفتح حنكك ربع قيراط، وتكلف عينك أن تومض قليلا فتتغير الدنيا كلها! تجف الدموع إذا كنت تبكي، وينضب معينها، وينشرح صدرك إذا كان منقبضاً، وتشعر بخفة في بدنك بعد أن كان على كاهلك وقر ترزح تحته، ويزايلك ما كنت تحاذر كأنما كان ضلا ارتمى عليه لورفنسخه، ويتجدد الأمل الذي كان قد استحال إلى يأس، وتنشط للعمل والسعي والجهاد وأنت مفعم بالرجاء، بعد أن كانت رجلاك كأنما شدتا إلى قنطارين من الحديد، ولا تعود تبالي أنك في ضيق، أو أنك عاطل، أو مريض، أو أنك فقدت عزيزاً، أو أن تجارتك بارت وخسرت ألف ألف جنيه! كل ذلك الكرب الممض يصبح غير ذي قيمة لا لشيء سوى أنك استطعت أن تتبسم! ولست أتمنى للقراء إلا الخير محضاً، ولكنه ما من حياة تخلو من دواعي الانقباض أو الألم أو الحزن، فليجربوا الابتسام إذا مر بهم - لا قدر الله - شئ من ذلك، وليتأملوا فعل سحره، فقد وجدته في كل حال وصفة نافعة.
وليس الابتسام سهلا في مثل هذه الحالات، فانه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلب جهداً عظيماً، ولكن التمرة تستحق العناء، والمثوبة على قدر المشقة. وأول ما يكون على المرء أن يتغلب عليه، هو الاستحياء من أن يبتسم في موقف حزن أو كرب شديد مخافة أن يقول الناس أنه يسرف في التكلف. وما من شك في أنه لا يتأتى في أول الأمر إلا بتكلف شديد، ولكنه لا يلبث بعد أن ينجح في تكلفه أن يصبح طبيعياً، لأن مجرد الابتسام يفجر ينابيع البشر في النفس فتفيض
ولان يتكلف المرء الابتسام خير - وأسهل أيضاً - من أن يحتمل ما هو فيه من الآلام، وما يساوره من المخاوف والوساوس والأوهام
ومتى ابتسم المرء في الشدائد والمحن، فإن الميزان يعتدل من تلقاء نفسه، فيفطن المرء إلى
القيمة الحقيقية - لا المتوهمة - لما هو فيه أو لما يخشى أن يكون. فتراه يقول لنفسه إذا كان قد فقد عزيزاً: (لقد مات، وكان لابد أن يموت يوماً ما، وسنموت جميعاً متى وافانا الأجل، فلا حيلة في هذا. وصحيح أنه مات في وقت أنا أحوج ما أكون فيه إليه والى عونه، ولكن إطالة عمره لم تكن في يدي، واستغراق الحزن لي ليس من شأنه أن يجعلني أقدر على النهوض بالعبء الذي انتقل إلى كاهلي)
وكان قبل أن يبتسم يقول: (يا ويلتاه! وا مصيبتاه! ماذا أصنع الآن! لقد فقدت المعين، فأنا ضائع لا محالة! وكيف تطيب الحياة لي بعد؟ الخ الخ). نعم، هو سحر، ولكنه سحر في وسعنا جميعاً أن نعالجه ونوفق فيه. وكل شئ في مبتداه عسير، ثم يهون بالدربة والمرانة ويصبح عادة وأشبه بالطباع، ويكسب المرء مناعة وحصانة، فلا تعود صروف الأيام قادرة على تقويض كيانها ونقض بنيانها. فجربوا هذا كما جربته، واشكروني
المازني
أول صلاة في الإسلام
صلاة الركعتين
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
والتهجد عبادة اختيارية في الأديان الأخرى وكذلك عرف عند اليهود والمسيحيين. كان نساك اليهود يتعبدون ليلا، يقيمون الصلاة تضرعاً إلى الله وخيفة، ويقرءون شيئاً من التوراة وكانت لهذه القراءة منزلة خاصة في قلوب اليهود لما لها من ثواب عظيم. جاء في المزامير:(في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك). وجاء عن النبي داود أنه كان ينام إلى منتصف الليل ثم توقظه جرادة كانت تأتي فراشه بتأثير هبوب الرياح الشمالية فيستيقظ ويفيق ويقضي النصف الثاني في القراءة وترتيل أناشيد الرب وذكر اسم الله العظيم
وعرف عن رهبان النصارى مثل ذلك، كانوا يتهجدون ليلا ويقضون جزءاً من الليل في العبادة، وفي تاريخ الأديان كفاية لمن أراد المزيد.
والآن فما دامت الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء فكيف كان يصلي الرسول؟ وهل كانت للرسول ولأصحابه صلاة خاصة؟ اختلف الفقهاء في الجواب، وذهب أكثرهم إلى أنه كان يصلي وإن (أول ما افترضت الصلاة على النبي ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين).
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد (وفي كلام ابن حجر لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من صلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ كله بالصلوات الخمس، ثم لم تكثر الفرائض ولم تتابع إلا بالمدينة. ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب كان كلما زاد ظهوراً وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت).
وبعد فهذه آراء في الصلاة قبل الإسراء متباينة. أما ما بعد الإسراء فالإجماع حاصل على أنها خمس لا شك في ذلك. ولم يتمكن المفسرون على الرغم من الجهود التي بذلوها من
تعيين آية صريحة في القرآن الكريم تشير بصراحة إلى الصلوات اليومية الخمس وتذكرها عداً دون تفسير ولا تأويل
ويظهر من أقدم الآيات والسور القرآنية أن النبي وأصحابه كانوا يصلون بين البعث والإسراء، ففي سورة العلق وهي من السور المكية ومن أول ما نزل من القرآن:(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) مما يدل على أن المسلمين كانوا يصلون. وفي الأخبار أن الرسول بعد أن صلى الصلاة الأولى أتى خديجة بنت خويلد فتوضأ وتوضأت وصلى وصلت كما صلى الرسول؛ ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل مما يدل على أن الصلاة كانت معروفة قبل الإسراء بزمن؛ فالمعروف أن وفاة خديجة كانت قبل الهجرة بثلاث سنين أي في السنة العاشرة من البعثة وهي أول من آمن به من النساء كما هو معلوم، ومن المعروف في كتب السير أيضاً أن (الرسول كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الدين لذي أراك تدين به؟ قال: أي عم! هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم. وكانت وفاة أبي طالب قبل الإسراء في العام الذي توفيت به خديجة فلو أخذنا بهذا الخبر وجب علينا إذاً أن نعترف بأن الصلاة كانت مفروضة منذ أيام الوحي الأولى.
إذاً كيف بدأت الصلاة وهل كانت على الطراز الذي نقوم به في الوقت الحاضر؟ لا. كانت تختلف بعض الاختلاف عن الصلوات الخمس، كانت ركعتين ركعتين أي أن كل صلاة هي ركعتان فقط كما هو في صلاة الصبح في الوقت الحاضر أو في صلاة المسافر. وقد اختلفوا في أول صلاة صلاها الرسول: يقول أحمد بن واضح اليعقوبي: (وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله) وقد ذهب هذا المذهب نفر من الرواة أيضاً
والذي أراه أن الرواية ضعيفة لما ذهب إليه بعض المفسرين من أن صلاة الظهر هي (الصلاة الوسطى) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم (حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى وقوموا لله قانتين). فإذا كانت صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى فيجب أن تكون وسطا بين صلاتين، وهذا مما يتعارض وكونها أول صلاة صلاها الرسول؛ لأن كونها صلاة وسطى يستوجب وجود صلاة أولى وصلاة أخرى. ثم إن العقل لا يؤيد أن أول صلاة هي صلاة الظهر؛ لأن الصلاة في أكثر الأديان هي في الصباح والمساء نظراً لسهولة معرفة الوقت؛ فلا يعقل أن تكون صلاة الظهر هي الصلاة الأولى) ثم الآيات القرآنية السابقة لا تؤيد الرواية المذكورة أبداً، وكذلك الآيات القرآنية التي نزلت بمكة كما سنرى.
والرواية التي تقول بأن أول صلاة صلاها الرسول هي صلاة الظهر هي رواية نافع، ورواية نافع هذه تحتمل الرفض وتحتمل القبول، ونافع كثير السقطات في الأخبار. على كل فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من الصلاة الوسطى صلاة الفجر وذهب بعضهم إلى أنها صلاة العصر. وحتى إذا ذهبنا هذا المذهب لا نستطيع الجزم بأن صلاة الظهر هي أول صلاة صلاها الرسول.
ولكن الذي يستنتج من مختلف كتب السير والأخبار أن الصلاة قبل الإسراء كانت في وقتين فقط وبركعتين: صلاة بالعشي وصلاة بالغداة وهذا ما يؤيد كون الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر. ويؤيد هذه النظرية ما ورد في القرآن الكريم (يا أيها الذين آمنوا ليستأذننكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: (فرض الله الصلاة في أول الإسلام ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشي أي قبل غروب الشمس).
وهذا هو الرأي المعقول؛ لأن وقت الغروب ووقت الشروق علامتان يمكن إدراكهما بسهولة بدون حاجة إلى تعيين وقت ولا حساب. وأكثر الصلوات في هذين الوقتين، حتى الوثنيين والأقوام البدائية تتخذ هذين الوقتين للاحتفالات الدينية ولإقامة الصلوات والطقوس.
ومما يؤيد هذا الرأي قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) وقوله: (وسبح بالعشي والأبكار) وذهب نفر إلى أن صلاة العشي كانت قبل صلاة الغداة،
ثم حدثت بعد ذلك صلاة الغداة). . وكان الرسول يخرج إلى الكعبة في أول النهار فيصلي صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان هو وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى فيصلون صلاة العشي) ويظهر من هذه الرواية الأخيرة أن صلاة الضحى كانت وقت الضحى لا قبل الشروق).
من الممكن إذاً تعيين صلاتين قبل فرض الصلوات الخمس: صلاة الغداة وإن شئت فسمها (صلاة الصبح وهي صلاة كان يؤديها النبي حين قيامه من الفراش وقبل شروق الشمس، وصلاة العشي وإن شئت فسمها صلاة الغروب وهي قبيل غروب الشمس. وإذا ما وافقنا أكثر المفسرين على رأيهم من أن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى وهي وسط بين صلاتين فتكون بذلك قد عينا ثلاث صلوات هي الصلوات الأولى في الإسلام. ولا شك في أن الصلاة الوسطى وهي صلاة الظهر متأخرة نوعاً ما بالنسبة إلى الصلاتين.
قلنا إن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) ولكن سورة البقرة وهي السورة التي ذكرت فيها هذه الآية مدنية لا آية 281 فإنها نزلت بمنى وهذا مما لا يتفق وما ذهبنا إليه، لأن ذلك يدل على أن فرض (الصلاة الوسطى) كان بالمدينة أي بعد الإسراء؛ فإما أن تكون الآية مكية ولكنها حسبت مدنية وتكون الصلاة الوسطى حينئذ قد فرضت بمكة فلا تحتاج المسألة عندئذ إلى تفكير، وأما أن تكون مدنية فتحمل الآية حينئذ محمل الأمر والتذكير بشيء سابق لا نستطيع تعينه بالضبط.
ذكر المفسرون بأن المقصود من الآية (حافظوا على الصلوات) الصلوات الخمس، وهذا طبعا هو تفسير المفسرين لأن الآية صريحة كل الصراحة لم تعين العدد. وإنما ذكروا العدد ليوفقوا بين حديث الإسراء وبين هذه الآية، ولكن ما الذي يمنع إذا ذهبنا مذهباً آخر جديداً هو أن الصلوات الخمس لم تتم بهذا الشكل المألوف إلا في المدينة وإلا بعد الهجرة، ولان كثيراً من الأحكام لم تأخذ شكلها النهائي إلا في المدينة؛ وبذلك يتيسر لنا شرح الآية بدون حاجة إلى تأويلات بعيدة لا طائل تحتها كما حاول ذلك المفسرون الذين حاروا في تعليل العطف الذي جاء بعد (حافظوا على الصلوات) فبعد أن قالوا أن المقصود من الصلوات، الصلوات الخمس اعترضهم اعتراض هام هو أن الصلاة الوسطى هي صلاة مهما قيل في
المقصود منها فإنها واحدة من الصلوات الخمس، إذاً فما معنى العطف في وقوله تعالى:(والصلاة الوسطى) بعد أن ذكر الصلوات كلها؟ عللوا ذلك بقولهم أنه تعالى: (أفردها بالذكر لفضلها).
ثم ذهبوا مذهباً بعيداً للتفتيش عن ذلك الفصل. ولو ذهبنا نحن إلى أن الصلوات لم تكن كاملة إلى أن هاجر الرسول إلى المدينة ثم كمل ذلك فيما بعد لما احتجنا إلى كل هذه الاحتمالات. وخبر الإسراء خبر وما جاء فيه لم يذكر في القرآن.
ولليهود في القديم صلاتان: صلاة عند الصباح وصلاة عند المساء وتعرف عندهم باسم (شماع) أو (سماع) ' تقرأ في الصلاتين وصية إسرائيل (اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك) وتقرأ عند المساء والصباح من كل يوم (وقصها على أولادك وتكلم بها حين تحبس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم).
وفي الديانة الفارسية القديمة صلاتان: صلاة في الصباح عند النهوض، وصلاة في المساء قبيل الذهاب إلى الفراش وهي تشبه صلاة (الشماع) عند اليهود. والغرض من الصلاتين التوسل إلى (مزدا) لطرد الأرواح الخبيثة والأنفس الشريرة. وفي وسع المؤمن طرد الشيطان بالصلاة عند الصبح، فبعد النهوض من الفراش يتجه الإنسان إلى فيصلى له الصلوات الثلاث ثم يذكر اسم مرتين واسم ثلاث مرات واسم أربع مرات ثم يصلي إلى - فتهرب الأرواح الخبيثة من الإنسان ولا تمسه بعدئذ بسوء وقد نشأت من ذلك تعاويذ خاصة يقرؤها الإنسان لطرد الخبائث والشياطين عنه
وقد انتقلت مثل هذه الأفكار البدائية إلى اليهود أيضاً. فكان يوشع بن لاوي يشفي الأمراض بقراءة بعض الآيات من المزمور الحادي والتسعين، ولكن كان من المحرم قراءة شئ من التوراة على المرضى.
وذكر عن (هونا) عن (يوسف) أن الإنسان يصلي صلاة (الشماع) لطرد الأرواح الخبيثة ولأبعادها عن المصلى). وقد استخدمت المسيحية قراءة الكتاب المقدس لغرض إشفاء المرضى وكذلك الصلاة
أما صلاتا الصبح والعشاء والصلوات الأخرى في الإسلام فإنها لم تتخذ لهذا الغرض بل جعلت واجباً دينياً على المسلم كسائر الواجبات.
جواد علي
القبطان الأرضيان والإسكيمو
للأديب محمد وحيد الدين المعري
الإنسان وفطرة الاكتشاف
خلق الإنسان بفطرته وغريزته محباً للاطلاع والتنقيب، وهذه الفطرة والغريزة تنشآن لديه منذ ولادته، فإذا رأى الطفل شيئاً نراه يسعى لمعرفة كنهه ومحتوياته؛ فإن كان مثلا ألعوبة آلية يسعى ليطلع على أسرارها، وكثيراً ما يكسرها ليرى السبب الذي جعلها تقوم ببعض الحركات أو تحدث بعض الأصوات. . . وهذه الغريزة ضرورية للإنسان إذ لولاها لعاش عمره ينظر إلى الطبيعة نظرة في الحيوانات لا يفكر في أمرها بل ولا فيما يختص بذاته، ولو بقي على هذا الوضع لعاش حياته عيشة بهيمية يندفع للقيام ببعض الحركات أو الأعمال الضرورية كالطعام والشراب والنوم والخوف والدفاع عن النفس وغير ذلك بدافع خارجي لا علاقة لتفكيره فيه كالجوع والعطش والنعاس والألم وغيره، إذاً فالإنسان عاقل، وعقله دفعه للتفكير، وتفكيره دعاه للاطلاع والتنقيب والاكتشاف والاختراع، لذلك فكر بادئ ذي بدء في نفسه ثم فيما جاوره من الأشياء وفيما رآه قريبا منه وكذلك فقد تأمل في هذه الأرض التي يعيش عليها وباقي المخلوقات كالكواكب والنجوم وغيرها.
العرب وكروية الأرض:
فكر الإنسان في هذه الأرض التي يعيش عليها وينتقل فيها ثم طاف بها إلى مسافات بعيدة عله يصل إلى آخرها ولكن عبثاً ما حاول، فأينما سار وجد الطريق أمامه مفتوحة إن كان براً أو كان بحراً فاعتقد بلا نهائيتها وبأنها مسطحة لا أول لها ولا آخر، وبقيت أمامه هذه العقبة الكأداء زمناً طويلا طلسما مجهولاً ولغزاً صعباً لا يستطيع حلهما. وجاء الإسلام بكتابه المجيد فنقض كثيراً من النظريات البالية التي استصعب حلها زمناً طويلا فقال:(وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب). ثم ازدهر مجد العرب وأسسوا مدينتهم الزاهرة وقام فيهم العلماء المتعددون، ودرسوا ما وضع السالفون من النظريات الفلسفية ووافقوا على ما ساير العقل ونقضوا كثيراً من النظريات الأخرى التي تخالفه، وساير دينهم العلم والعقل جنباً إلى جنب، فأسسوا مدينة خاصة بهم تختلف عن باقي
المدنيات وطبعوها بطابعهم الخاص واستطاعوا أن يثبتوا في العصر العباسي فساد الكثير من النظريات كنظرية انبساط الأرض ولا نهائيتها، وقالوا إن الأرض كرة مستديرة تسبح في الهواء شان باقي الكواكب والنجوم المنثورة في الفضاء. وأمر الخليفة المأمون ببناء مرصد فلكي فوق جبل قاسيون في دمشق، وبقيت آثاره حتى دخول الخلفاء إلى سوريا عام 1941، إذ خربته القنابل أثناء ضرب المراكز العسكرية فوق هذا الجبل، كما أمر بعض الرياضيين بحساب طول محيط الأرض، وقاس هذا المسافة الواقعة بين عاصمة الملك ببغداد ومصيف الخلفاء - الرقة - واستنتج منها طول المحيط. وأنكر أقوام وعلماء آخرون صحة هذه النظرية، فقال بعضهم ببطلانها وانبساط الأرض التي تنتهي شمالا بجبال (قاف)، تلكم الجبال التي كثر حديثهم عنها، ولعلهم يقصدون بها جبال (قاقفاسيا)، لأنها وقفت أمامهم كالحصن المنيع تحول دون أطماعهم في الفتوحات الشمالية لارتفاعها أو لكثرة الهوام والحيوانات المتوحشة فيها
وفتح العرب الأندلس وأسسوا فيها مدينتهم الزاهرة التي ضاهت مدينتهم في الشرق، وأخذ عنهم الغرب العلوم والفنون، فاستنارت أفكارهم بعدما كانت في ظلمة دامسة، وقام منهم الفلاسفة الكثيرون بعضهم يدعي كرويتها والآخر ينكره، وقاسوا في سبيل ذلك مر العذاب، لأن ذلك كان ينافي التعاليم الكنسية التي تؤمن ببسطها، وحبطت الفكرة زمناً طويلا، وحكم على الكثيرين بالموت جزاء لمروقهم من الدين، ولكن بعض الشباب آمنوا بما آمن به أساتذتهم العرب بكرويتها وقاموا بالدعاية الواسعة لها، وكان على رأسهم كريستوف كولومبس الذي استطاع أن يقنع الملك فرديناند وزوجته الملكة إيزابيلا بما مناهما من الفتوحات العظيمة التي ترفع شان مملكتهما الفتية وبالسيطرة على طريق الهند التي يسيطر عليها أعداؤهما المسلمون فيما إذا لاقى مشروعه النجاح. فأقدم هذان الملكان على تجهيزه بما يلزمه من السفن وتزويده بالمؤن والرجال من المحكوم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد طمعاً في إعلاء اسمها في الوقت الذي كان فيه الاعتقاد السائد بأن هذه الطريق البحرية الذاهبة إلى الغرب ستؤدي حتما إلى جهنم حيث تنام الشمس في مهدها. وبعد جهد وعناء وصل كريستوف الهند المزعومة وسماها (جزائر الهند الشرقية)، وعاد منها موقراً بالهدايا الغريبة والنفائس النادرة من حلي وذهب وديكه هندية وإنسان أحمر وغيرها مما لاشى
العقائد الفاسدة البالية، ثم وشى الوشاة عند الملكين بكريسوتف، فزج في السجن حيث قضى نحبه. وذهب رحالة إلى هذه الهند يدعى أمريكو حيث قام بالتجول في ربوعها وأثبت أن هذه البلاد ليست سوى عالم جديد لم يكن معروفاً من قبل فسميت بأسمه أمريكا، وقام ماجلان برحلته الاستكشافية الشهيرة فطاف حول العالم ذاهباً من الغرب آيباً من الشرق، عندها تلاشت نظرية انبساط الأرض وذهبت إلى الأبد
قامت الدول تتسابق في الاكتشاف والاستيلاء على البلاد والجزر المجهولة، حتى كادوا يأتون عليها كلها، فعمدوا إلى اكتشاف القطبين الأرضيين الشمالي والجنوبي، ولاقوا في سبيلهما الأهوال لشدة الصقيع وهبوط درجة الحرارة إلى ما لا يحتمله الجسم البشري حتى وفقوا إلى ذلك في أواخر العصر المنصرم.
اكتشاف القطبين الشمالي والجنوبي
لما كان القطب الشمالي قريباً من البلاد المتمدنة كان غاية المستكشفين وهدف الدول الكبرى التي أحبت أن تستأثر بالفخر دون غيرها، فهبت تتسابق إليه ولاقت في سبيله من المشاق والمتاعب ما لا يوصف. ابتدأت الرحلات منذ نهاية القرن السادس عشر، وبعد جهد وعناء كبيرين وعلى يد الأميرال الإنكليزي (روبرجان له ميزوريه (المعروف بـ - ماك - المولود سنة 1007 - 1873) تم اكتشاف الطريق الأول الشمالي الغربي (بين خليج هدسن ، ومضيق بيرنغ بين سنة 1850 و 1854م. وعلى يد الرائد الرحالة الطبيعي السويدي نلس آدولف إريك (المعروف بـ - نورد انشولد ? المولود في هيلسينغفورس 1832 - 1901) تم اكتشاف الطريق الثاني الشمالي الشرقي بين سنة 1878 و 1879م. وفي هذا القرن بدأ العلماء بتشكيل بعثات علمية غايتها اكتشاف القطبين توسيعاً لعلم تقويم البلدان (الجغرافيا) فأرسلت إنكلترا بعثات اكتشفت بعض الجزر القطبية شمال كندا، ثم كثرت الهيئات التي تقصد القطبين إلى أن خرج الدكتور (فريد جوف نانسن الرحالة الطبيعي (المولود في ستورفرون - 1861 - 1930) مع اثني عشر رجلا في سفينة سماها (فرام صنعت خصيصاً لهذه الغاية، فسار أولاً في الطريق الشمالي الشرقي واشترى من سواحل سيبيريا عدداً من كلاب الجليد وسار نحو الشمالي حتى بلغ 84 ، 4ْ حيث اضطر إلى قضاء فصل الشتاء؛ ثم ترك سفينته وواصل السير مع أحد رفاقه مشياً
على الأقدام تصحبها الزحافات والكلاب وبعض الآلات الفنية حتى بلغا عرض 86 ، 13ْ ثم رجعا حتى وصلا أرض (فرانسوا جوزيف) حيث قضيا فصل الشتاء؛ وهناك التقيا بسائح إنكليزي اسمه (جاكسون) فتعرفا إليه وركبا معه في سفينته حتى وصلا بلاد النرويج، أما سفينة فرام فقد عادت بعد أن تخلصت من الجليد الذي كان محيطاً بها. وفي سنة 1899 سافر الدوق (ده زابرزو الإيطالي فدخل أرض فرنسوا جوزيف وسار فيها بالزحافات حتى وصل عرض 86. 33ْ متقدما نانسي بعشرين دقيقة أي ما يعادل 37. 037 كيلو مترا. وفي سنة 1905 سافر الضابط الأمريكي (بياري (المولود في كريسون سبرينغ سنة 1856 - 1920) نحو القطب مارا ببحر بافن إلى أن وصل إلى شمالي غروتلنده فنظم هناك بعثة مؤلفة من أمريكيين وأقزام سار بهم ومعهم الكلاب والزحافات مدة شهر كامل، ثم تقدمهم بخمسة من أشجع رجاله حتى وصل القطب في مايو 1909 ورفع العلم الأمريكي. وفحص تلك الجهات فوجدها بحراً تكسوه الثلوج عمقه 3000 متر. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي جزر فرنسيوا جوزيف، وزامبل الجديدة، وسيبتزيوغ في شمالي أوربا، وجزر سيبريا الجديدة ورانحل في شمالي آسيا، وأراضي غروئنلنده وبافن غرانت والبرنس دوكال والملك غليوم وفيكتوريا وآلبيروبانكس وملفيل وباري في شمال أمريكا.
أما القطب الجنوبي فكان الكابتن (كوك الإنكليزي أول من اجتاز مدار القطب الجنوبي أثناء بحثه عن قارة جنوبية فوصل سنة 1774 إلى عرض 71. 10ْ حيث منعه الجليد عن التقدم. ثم أرسلت روسيا بعثة برئاسة (بلنغهاوزن في أوائل القرن التاسع عشر فاجتازت مدار القطب الجنوبي واكتشفت أرض الاسكندر الأول (باسم القيصر) وفي سنة 1838 اكتشف (دومون دروفيل ' الفرنسي أرض لويس فيليب (باسم ملك فرنسا) وبعد سنتين اكتشف أرض آدي وفي سنة 1840 اكتشف (جمس روس الإنكليزي أرض فيكتوريا ذات البراكين المتعددة ووصل بعد سنتين إلى عرض 78. 10ْ. وفي سنة 1910 سافر من إنكلترا (سكوت وشاكلتون واكتشفا أرض إدوار السنابع وواصلا السير بالزحافات إلى عرض 82. 17ْ حيث مكثا يستكشفان ثلاث سنوات. وفي سنة 1910 سافر (آمولدسن (المولود في بورج - في النرويج سنة 1872 - 1928) في سفينة
اسمها (نانسن) نحو الجنوب مخترقاً بحر روس؛ وقد اضطر إلى أن يقيم في كوخ خشبي فوق أرض جليدية مدة الشتاء؛ ثم أخذ أربع زحافات وكلابا ومؤنا تكفيه أربعة أشهر واتجه نحو القطب إلى أن وصله في ديسمبر سنة 1911. وفحص تلك الجهات فوجدها أراضي جبلية بركانية ارتفاعها 3000 متر وهي اشد برد من المنطقة الشمالية تهب عليها الرياح الغربية القارصة وينزل فيها الثلج أكثر أيام السنة حتى لوحظ أنه نزل فيها أكثر من 200 يوماً في السنة. وأهم الأراضي التي اكتشفت في هذا القطب هي أراضي الاسكندر الأول وغراهام ولويس فيليب وجزر جوانفيل وآنفرس وشتلاند الجنوبية وأوركارد الجنوبية - جنوب أمريكا، وأراضي آندربي جنوب أفريقيا، وأراضي آديلي وفيكتوريا وإدوار السابع جنوب أستراليا
الأقزام الإسكيمو يطلق هذا الاسم على الأقوام التي تقطن منطقتي القطبين الشمالي والجنوبي. ومعنى كلمة (اسكيمو) في اللغات الغربية (آكل اللحم النيء) ويسمون أنفسهم بالرجال وتسميهم بالأقزام لقصر أجسامهم التي لا تتجاوز الستين سنتيمترا، وهم ابدن ذوو عضلات قوية وسواعد مفتولة وأرجل غليظة معوجة، لونهم أسمر ورؤوسهم كبيرة مستديرة مغطاة بشعر أسود غليظ وأنوفهم عريضة وعيونهم سوداء صغيرة وأفواههم واسعة وشفاههم غليظة في داخلها أسنان بيضاء لامعة وجلودهم ناعمة الملمس، ولباس الرجل شبيه بلباس المرأة؛ لذا كان التمييز بينهما صعباً. والفرق بينهما أن النساء يمشطن شعورهن. ثم يعقدهن تيجانا والرجال يدعونها على طبيعتها ولكنهم يقصون الغرة كي لا تحجب العيون.
بيوت الإسكيمو: في بعض البلاد مثل شمالي سيبيريا وجنوب غربي غروئنلدنه تبني قبائل الإسكيمو بيوتا من الحجر والطين، أما في الأصقاع القطبية فلتعذر وجود هاتين المادتين فانهم يسكنون بيوتا من الثلج تتسع لثلاثة أو أربعة أشخاص تقام جدرانها على جانب حفرة من الأرض ذات باب صغير يضطر الداخل إليها أن يحبو على أربعة، وهي معتمة تتصبب بللا من حرارة ذبالات المصابيح التي يشع منها قبس ضئيل من النور توقد بزيت الحيتان وشحوم الدببة، ولذا كانت كريهة الرائحة لا يستطيع الإنسان البقاء فيها لقذارتها ولكثرة الأكوام اللحمية المتجمدة المكدسة فيها، ولكونهم يبولون فيها ويضعون الجلود وما
يصطادونه بها. وبفضل التضافر والتعاون بين عائلات هؤلاء الأقوام فإن أكبر قصر يمكن أن يشاد بسويعات قليلة، فترى قوما ينشرون الجليد وآخرون يجمعون شتات النشارة وقطع الثلوج الصغيرة، والبناء يتناول الحجارة ويضعها في المكان المخصص لها ويثبتها بهذه النشارة بدلا من الطين ولا تلبث بعد أن تتعرض للصقيع قليلا أن تصبح قطعة واحدة. وهذه البيوت عندما تكون جديدة تبقى جميلة ومغرية بلونها الرخامي الفاخر ثم لا تلبث بعد قليل من سكناها حتى تصبح أنتن من أختها.
والأقزام لا يعرفون الزراعة ولا الصناعة اللهم إلا فيما ينحصر فيما يصطادونه من الحيوانات البرية والبحرية، يأكلون لحما طريا من الحيتان المتنوعة وعجول البحر والفوك والمورس وأنواع مختلفة من الأسماك، فتراهم جثاة على ركبهم وجذوعهم مائلة إلى الأمام لا يبدون حراكا إلا من أيديهم النهمة وأمامهم طست هائل ملؤه قطع كبيرة من اللحم يقبض كل منهم بيديه وأسنانه القاطعة قطعاً كبيرة من اللحم يعالجها حتى يقطعها ولا يكاد يلتهمها حتى تسرع يداه إلى قطعة غيرها. ومما يؤثر عن طعامهم هذا أنه لا يعتبر صالحا للأكل إلا بعد أن يكدس بعضه على بعض مدة طويلة من الزمن ريثما يتفسخ وتظهر رائحته المنتنة الشهية وفي هذه الحال ينشر الحرارة الكافية في الجسم أكثر مما لو كان طريا.
والصيد هو عملهم الأول الذي يتوقف عليه مدار معيشتهم واكتساؤهم بالألبسة الفرائية المتنوعة؛ ولهم فيه فنون وحيل لا يضارعهم فيها إنسان آخر. وكيفيته أن يأتي الصياد (وكثيراً ما يكون طفلا صغيراً لم يتجاوز الخامسة أو السادسة من العمر) ويحفر بحريته الطويلة المسنبة المربوطة من أسفلها بحبل طويل الجليد الساتر تحت سطح البحر ولا يجهد نفسه كثيراً حتى يبلغ الماء فيبدأ بتوسيع الحفرة ويقف بجانبها وقفة الهر على أبواب حجر الفأر حتى إذا ما سمع صوت سباحة الطريدة انتصب قائما ورفع بيده إلى الأعلى وسدد السهم نحوها حتى إذا ما مرت قذفها قذفة قوية تخترق أضلاعها، وهناك تقع الواقعة الكبرى فالحيوان يجذب الصياد تارة والصياد يجذبه أخرى، وكثيراً ما يتغلب الحيوان عليه فيجذبه نحو الحفرة، وعندها يأخذ في الصياح الذي يدوي في الآفاق فيتراكض القوم رجالا ونساء لنجدته، ولا يكادون يخرجون الفريسة خارج الحفرة حتى يستل كل منهم مديته ويغرسها في جلد الفريسة وهي حية دلالة على مشاركته إياهم في صيدها. وهذه العملية
تخوله حق المشاركة في لحمها فيقطع قطعة كبيرة منها ويقذفها في فيه وبعد مضغ طويل يبتلعها ثم يربطونها بحبالهم ويسحبونها حتى يصلوا إلى بيوتهم فيقتسموها. وإذا جاء الشتاء وجمد الماء صادفوا عجول البحر وقد أحدثت في الجليد ثغراً وطلعت تستنشق الهواء فيصوبون إليها حرابهم ويرمونها وقد يترقبون ظهورها من هذه الثغرات حتى إذا ما خرجت اقتنصوها. وكذلك يصطادون الطيور المائية المختلفة ويقتلون ذوات الفراء من الثعالب والدببة القطبية البيضاء إلا أن هذه تقطع قلوبهم من الرعب لشراستها.
التجارة عند الأقزام محدودة تقتصر على بيع جلود الحيوانات والفراء والعظام وعاج المورس؛ ويبيعون هذه المحاصيل إلى البلاد المجاورة كسواحل أمريكا الشمالية وروسيا وسيبيريا وهي تدر عليهم أرباحا طائلة يشترون بها ما يلزمهم من المواد الأولية كالحبوب والمقددات والسكر والشاي والقهوة والكاكاو وغير ذلك من المواد التي لا تتأثر بطول العهد، والألبسة الصوفية والقطنية الجاهزة وبعض الآلات الحديثة كالحاكي والألاعيب الصبيانية وغيرها. ويندر تعاطيهم التجارة فيما بينهم لعدم وجود ضرورة للمبادلة. وينقلون هذه المتاجر من والى البلاد المتعددة بواسطة الزاحفات في الأصقاع المتجمدة والزوارق في البحار المائعة. ويعودون أولادهم منذ نعومة أظفارهم على الأسفار والأعمال الشاقة فهم يضعون القوارب الصغيرة من جلد المورس وعظام الحيوانات في أيام الصيف ويسابقون بها الريح في جريها حتى إذا ما وصلوا البر سحبوها معهم وتركوا عندها نفراً منهم يحرسها، وكذلك الزحافات التي تجرها الكلاب فوق الأراضي المتجمدة.
انقطاع الأقزام في بلادهم النائية عن العالم المتمدن، وانزواؤهم في الأصقاع الجامدة وتعذر الانتقال بين بعضها وبعض إلى مسافات بعيدة بالسرعة التي تقتضيها الحياة العصرية، وعدم سلوكهم في الارتزاق مسلك الأمم الباقية بتبادل المحصولات الزراعية والحيوانية والمعدنية وغيرها مما قد يوجد في قسم من البلاد ويندر في غيرها لعدم حاجتهم إلى ذلك ولتساوي أراضيهم في منتجاتها التي تنحصر في صيد الحيوانات البحرية والبرية والاكتساء بجلودها والتقوت بلحومها، جعلهم يقنعون بما رزقهم الله ولا يطمعون في الحصول على ما في أيدي الغير من بلاد ومتاجر أو سلع وغيرها، وجعل منهم الأمة العاملة المجدة التي تسعى للحصول على قوتها الضروري بهمة لا تعرف الكلل دون
الاعتماد على سواعد الآخرين، لذلك لا يعرفون رابطة قومية أو دينية ولا تجمعهم عصبية أو جنسية، هذا التفكك القومي نراه ظاهراً حتى بين أفراد الأسرة الواحدة فإذا بلغ أحد أفرادها سن الكبر أو أصيب بمرض أو عاهة تمنعه من القيام ببعض الأعمال الضرورية بحيث يصبح عالة على غيره حق للأولاد والأفراد الآخرين أن يأخذوا هذا المسكين إلى مكان بعيد مرتفع ثم يجردونه من لباسه ويتركونه عرضة للرياح القارسة إلى أن يموت. وليس هناك قيود عائلية أو زوجية قوية كما بين باقي الأمم، بل هي شكلية من حيث المأوى والاشتراك في الأعمال المنزلية وتربية الصغار وأعمال الصيد وغيرها. والغريزة الجنسية يمكن أن تقضي بين أي فرد من أفراد العائلة أو غيرها، بين الجار وجارته وبين الأخ وزوجة أخيه والأخ وأخته حتى بين الأب وابنته والولد وأمه. ويمكن أن يجري هذا العمل بحضور الزوج الأصيل وعلى مرأى منه دون أن يبدي أي اهتمام (بشرط أن يأذن بذلك) إلا أن هذه الأعمال البهيمية آخذة في الزوال بعد اختلاطهم بالأقوام المتمدنة وخاصة بعدما توافدت عليهم البعثات الدينية التبشيرية. وبعد أن صاروا يسافرون لبيع متاجرهم إلى غروتنلندة وشمال أمريكا وآسيا وهم آخذون في الرقي والتمدن تدريجا.
أما لغتهم فإنها ضيقة محدودة بحدود المناطق التي يتجولون فيها فهي قليلة الكلمات كثيرة المعاني، تفيد الكلمة الواحدة منها معنى عشر كلمات أو أكثر من اللغات الأخرى. لذا وضعت في جملة اللغات الجامدة التي يحق أن تكون مثلها الأعلى في الجمود، وهم أميون ولا كتابة للغتهم
طبائعهم وعاداتهم: إن القزم بعضلاته القوية وساعديه المفتولين وساقيه الأعوجين يستطيع بكل سهولة أن يصعد أشهق الجبال دون أي جهد أو كثير عناء، فيقذف بحبله على صخرة عالية حتى إذا ما علق بها جربه مراراً، فشده بقوة وتعلق به، فإذا تأكد من ثباته لف طرفه على ساقه وصعد عليه بسرعة، فلا تكاد تراه في أسفل الوادي حتى تراه يتراكض فوق قمة الجبل، ثم ينزل ويضرب حبله حتى يسقط فيأخذه وينصرف. وهم ذوو شجاعة وصبر ورأي سديد ونفوس أبية وقلوب رحيمة شفيقة يكرمون الضيف ويؤثرونه على أنفسهم. وهم فطريون يميلون إلى النكتة واللهو الضحك والفكاهة، فيخزون بعضهم ويثرثرون ويسحبون الزحافات إلى الخلف أثناء مسيرها ويقهقهون، أما الكذب والمكر والخداع والبغض
والضغينة، فلا أثر لها لديهم ألبته، وهم يحبون استماع الحاكي التي يعيدونها كلما انتهت مراراً، ويجلسون في بيوتهم الجليدية المعتمة إلى جانب بعضهم وبين أيديهم الجلود والعظام والشحوم، فهنا امرأة تلين نعل زوجها المتقلص من شدة البرد بدهنه بالشحم والشمع وبشده بأسنانها وتساعده بلبسه وشده على ساقه؛ وهنا أخرى تعهدت المصباح تنظفه وتمده بالشحوم، وثالثة تنظف ولدها وتمشطه بمشط مؤلف من عظم الفوك وشعر الدب ثم تبيد القمل الناتج عنه بأسنانها ثم تلحس جسمه وتدهنه بالشحوم، وأخرى تنظف وتلين الفراء وتصنع الحراب العظيمة للصيد والدفاع عن النفس ضد الحيوانات المفترسة. وهناك زوجة تمد زوجها بالطعام كلما نفد من فيه وهو مستلق على ظهره. ومما يؤثر عنهم أنهم يحيون بعضهم بحك أنوفهم ببعضها ويقال أن هذه العادة المضحكة أصبحت لا تشاهد إلا عند الأقوام النائية.
(حلب)
محمد وحيد الدين المعري
رسالة لبنان خلال العصور
للأستاذ توفيق حسن الشرتوني
لا جدال في أن موقع لبنان الجغرافي يجعل منه بلداً متعدد الرسالات. فهو قائم في جبهة الشرق الأدنى على مفرق الطرق بين الشرق والغرب. تمتد سواحله المستطيلة على شاطئ هذا البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات والمدنيات العريقة التي تعاقبت على الجنس البشري منذ فجر التاريخ.
وهذا يعد بالحق من أجمل بقاع الأرض، خلعت عليه الطبيعة أبهى الحلل، وكست ربوعه بمختلف المحاسن والمغريات، فأضفت على جباله الشامخة روعة الجمال والجلال، تكلل نواصيها لآلئ البرد وبريق الثلج، وتجلل آكامها نواتي الصخور وبواسق الشجر، وتتفجر في جنباتها انهار وجداول تتدفق باللجين المصفى وتنساب بين الصخور والمروج في أودية رهيبة أخاذة كثيرة التعاريج فتانة الصور تبهر العين وتسحر اللب، وتأخذ بمجامع القلب.
ولبنان فوق ذلك، بلد معتدل المناخ طيب الهواء والماء، يتسربل بأروع المشاهد في مختلف فصوله: صيفه روح للب وراح للقلب، وخريفه بهجة للنفس وغبطة لها، وشتاؤه شلال زاخر وثلج مندوف باهر، وربيعه رمل مخضوض ورجاء عابق بالشذا، ومدنه وقراه جنان متنوعة الأشكال، بعضها قائم على الشواطئ يهدهدها البحر ويداعبها بكره وفره. وبعضها منتشر بين السفوح والتلال انتشار النجوم في الفضاء تحيطها هالة من الرياض الغناء المثقلة بأزكى الأثمار وأندى الأزهار.
كأن العناية الربانية أبدعته درة يتيمة في جبين المشرق وجعلته قبلة للمصطافين ومحطاً لرحال الرواد والمتزلجين.
أما آثاره القديمة فترجع إلى أقدم العهود، وكلها تدل على الدور العظيم الذي لعبه لبنان في مجرى التاريخ البشري، وتعبر بأجلى بيان عن الرسالة الإنسانية البارزة التي يحملها بين جوانحه وينشرها على توالي الأجيال في أصقاع المعمور.
وقد كانت أولى رسالاته في عصر الظلام المطبق رسالة الدعوة إلى قدح زناد الفكر وتشغيل الذهن لأجل تمييز الإنسان عن الحيوان وتبديل حياته الوحشية بحياة أقل همجية وأكثر ائتلافاً. فأبدع أبناؤه في العصر الحجري في اختراع أداتهم الصوانية وفي صنع
كهوفهم وستر عريهم وجمع شتات شملهم.
وكانوا السباقين أيضاً في عهدهم الفينيقي إلى وضع أول حجر في بنيان الحضارة الراهنة. فهم أول من اخترع حروف الهجاء ونشروا رسالتها بين الأمم، وحملوا مشعلها الساطع في متون البحار ومجاهل البوادي والقفار، فخلقوا بها العلم خلقاً، وأسسوا بها للمدنية أساساً مكيناً.
وهم أيضاً أول من أنشئوا السفن ومخروا عباب اليم، فربطوا العالم القديم برباط تقايض السلع والمتاجر وتبادل الأفكار والآراء، وتقارب الشعوب بعضها إلى بعض بالصلات السياسية والاجتماعية وغيرها.
وكانت مدن لبنان من أمهات مدن العالم في العهد القديم، تصدر أرجوانها وأصباغها ونتاج صناعها الحاذقين كما تصدر آدابها ومعارفها إلى مختلف أنحاء الأرض.
فتاريخ صيدا وصور وجبيل حافل بالعظائم. وقد أنشأ لبنان أيضاً في عهده الفينيقي عدة مستعمرات في أفريقيا وجنوبي أوربا، غير أنه كان يرمي من إنشائها إلى توطيد أسس التجارة وتعزيز تبادل المنافع بين الأمم، لا إلى الفتح والاستئثار بحرية الآخرين كما تفعل أمم اليوم. فلبنان لم يكن في عهد من العهود دولة محتاجة قائمة على السيف والمدفع والقوة الغاشمة بل كان ولم يزل بلداً مسالماً حاملا رسالة العلم والأدب ناشراً لواء الصناعة والتجارة في كل صقع وناد.
وفي العهد الروماني لبث لبنان محافظاً على رسالته الأدبية فكانت بيروت عاصمته اليوم تلقب بمدينة الشرائع والنواقيس يؤمها الطلاب من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الفسيحة الأرجاء. وفي العصر البيزنطي ثار لبنان على الجور والظلم وسجل أبناؤه الأشاوس في تاريخ الحرية الإنسانية صفحة مجيدة حتى أنهم لقبوا بالمردة لشدة تمردهم وقوة شكيمتهم وانتقامهم.
وفي أوائل العهد العربي دخل لبنان أفخاذ من بعض القبائل العربية ومعظمهم يدينون بالنصرانية ونشروا بين ظهرانية لغة الضاد، فاعتنقها أهل لبنان عامة لأنها شقيقة لغتهم الآرامية السريانية تقرب منها حروفاً وصوراً، ولأنهم أيضاً يمتون بأنسابهم السامية إلى تلك القبائل التي أنزلوها بينهم على الرحب والسعة. فاستعرب لبنان سهلا وجبلا مندفعاً لا
مرغماً. وأصبحت العربية لغته الوحيدة. أما السريانية فانكمشت ضمن جدران الكنائس والمعابد، تستعمل في بعض الطقوس الدينية كما تستعمل اللاتينية في الغرب.
وكان لبنان في خلال الحكم العربي ملتقى الشرق والغرب، وصلة وصل بين أممهما في عهد البيزنطيين والصليبيين. فاجتمعت فيه الحضارتان وتعانق الدينان دين الإنجيل ودين القرآن.
ولما انقرضت دولة العرب وخلفهم العثمانيون في الحكم دانت لهم البلاد العربية من أقصاها إلى أقصاها إلا لبنان فظل وحده محتفظاً باستقلاله الداخلي يحكمه أمراؤه ومقدموه. وبقيت اللغة العربية الشريفة زاهية زاهرة ضمن جدران أدياره ومعابده وفي ظلال خلواته ومساجده، لم تتسرب إليها العجمة والرطانة كما تسربت إليها بين اقحاح العرب أنفسهم، حتى الحجاز واليمن وهما منبع العروبة ومعقلها لم تسلم لغتهما من حوشي التركية وغريب ألفاظها.
وقد بلغ لبنان في عهد الأمير الكبير فخر الدين المعنى مكانة رفيعة، فهابه السلطاني القمائي وخطب وده بعض ملوك الفرنجة وأكبروا شأنه وشأن وطنه الصغير فتبادل معهم الرسل والهدايا وحالفهم محالفة الند للند، وزار إيطاليا فقوبل مقابلة أصحاب التيجان. واختلط بسكانها واستوعب حضارتهم. ثم آب إلى وطنه يعمل على تمكن الصلات الروحية والمادية بين الشرق والغرب، فأوغر صدر الترك عليه وأصلوه حرباً ضروساً أقضت مضجعه وأبادت أحلامه وأمانيه. فاستسلم مرغماً إليهم وقضى نحبه شهيداً في عاصمتهم.
وحذا خلفاؤه المعنيون والشهابيون حذوه في العناية بلغة الضاد، لغة الوحي والنبوة. فلم تصب بالتشويه ولم تفقد نقاء أسلوبها وصفاء بيانها، لأن اللغة التركية لم يسعدها الحظ طوال الحكم العثماني في بلاد العرب بأن تخطو خطوة في لبنان أو تعبر قدما. بل ظلت خارج حدوده عاجزة عن اجتياحه. وظل لبنان مضطلعاً أيضاً برسالته الإنسانية المجيدة رسالة تتبادل المنافع بين الشرق والغرب وتمازج حضارتيهما.
وقد شعر العالم اليوم بعد طول المحن والتجارب أن رقي البشر وسلامهم لا يأتيان بدون تزاوج الحضارتين وتواؤم الثقافتين.
وعاد لبنان إلى سابق عزه وازدهاره في عهد الأمير بشير الكبير حليف عاهل مصر الأكبر
محمد علي باشا رأس الأسرة العلوية الملكية سعيداً في وادي النيل.
فوقف الأمير بجانب إبراهيم باشا في حملته المشهورة على ربوع الشام، وأمده بالرجال والمؤن، فازدادت العلاقات الودية بين الكنانة ولبنان وتمكنت الصلات الأدبية والمادية بين شعبيهما تمكناً وثيقاً. والصلات بين القطرين الشقيقين قديمة العهد ترجع بجذورها البعيدة إلى الفراعنة والفينيقيين، غير أنها بعثت بعثاً جديداً في زمن هذين العاهلين الكبيرين.
وقد استقدم محمد علي باشا الكبير بعض الأسر اللبنانية إلى مصر لإنشاء صناعة الحرير وغيرها. ثم شرع أحرار اللبنانيين من ذلك العهد يهبطون مصر زرافات ووحدانا فيلقون من أسرتها المالكة كل عون وتشجيع وفي شعبها المضياف كل عطف وترحاب. فاشتغلوا في حقل الصحافة والأدب ونشر لواء العلم، وكانوا المجلين في هذا المضمار يشهد لهم كبار رجالات هذا القطر الشقيق وصفوة علمائه وأدبائه البارزين. وبلغوا في حقل الزراعة والتجارة والصناعة مبلغاً مرموقاً وفي ميادين المهن الحرة والوظائف الحكومية منزلة سامية. فخدموا مصر خدمة صادقة منزهة عن الهوى.
ولما انطوى حكم الأمراء في لبنان بعد الحوادث المشؤومة عام 1860 صغر حجمه وانكمش في جباله من جراء النظام الجديد الذي أعده له الداهية العثماني فؤاد باشا بالاتفاق مع أقطاب الدول الأوربية الكبرى. فضاق على سكانه في عهد المتصرفين فكثرت هجرتهم إلى مصر لقربها من وطنهم وقديم صلاتهم بها. فأصبحوا فيها جالية وافرة العدد تنعم بالثروتين، ثروة الأدب وثروة النسب.
ثم شرع اللبنانيون يهاجرون إلى العالم الجديد وذلك منذ سبعين عاما على وجه التقريب، فنزلوا في شتى أقطاره مجاهدين في سبيل الحياة، ورأس ما لهم شباب وثاب، وذهن وقاد، وعزم قدَْ من جلاميد جبالهم وشوامخ ارزهم، فلم يلبثوا طويلا حتى كثر عدد جالياتهم في مختلف الجمهوريات الأمريكية، وبلغوا فيها شأواً لا يستهان به في عالمي الصناعة والتجارة، ونبغوا في المهن الحرة وفي حقل السياسة والعلم والاجتماع، وفي إجادة لغات الأمم التي نزلوا بين ظهرانيها. وانشأوا الصحف والمجلات في لغتهم العربية وكانوا وما برحوا في طليعة الحاملين لواء التجديد بين أدبائها والناشرين كنوزها في أقطار المعمور.
وهبطوا أفريقيا وامتدوا في أصقاعها النائية امتداد النيل في أرجاء الكنانة. وجابوا أوروبا
وأرجاء الشرق وسروا في أقاصي الأرض مجاهدين سريان الدم في الشرايين. فأصبحوا خارج بلادهم أوفر عدداً وثروة، وأعز نفوذاً وجاهاً، وأرقى أدباً وعلماً منهم في بلادهم.
فانشطر لبنان شطرين، لبنان المغترب المنتشر تحت كل سماء، ولبنان المقيم الرابض في بطون أوديته ومشارف جباله.
ولا أغالي إذا قلت إن لبنان المغترب فد سجل صفحة مجيدة في التاريخ الحديث، فأظهر أبناؤه المشتتون في بقاع الأرض أنهم أعلام في كل علم، أكفاء في كل فن، أقطاب في كل صناعة، وانهم متى فسح لهم المجال يجارون أرقى الأمم في جليل المآثر وغرر الأعمال.
وقد برهنوا في هذه الحرب أيضاً أنهم شعب مقدام حي جدير بالتقدير والإعجاب لم يتلكئوا عن القيام بواجبهم نحو الحرية التي يقدسونها والديموقراطية التي يتعشقونها. فتجندوا بالألوف في صفوف الحلفاء، وابدوا في ساحات الحرب شجاعة وبأساً وفي مصانع الأسلحة والمختبرات ذكاء وعلماً، فهم في هذه الحرب قد حاربوا في كل الجبهات متطوعين في جحافل الأمم المتحدة بين الإنكليز والفرنسيين والكنديين والأمريكيين والأستراليين والنيوزلنديين والهنود والأفريقيين وغيرهم. لقد صح فيهم المثل العربي القائل: في كل وأد البنات أثر من ثعلبة. أجل في كل جيش من جيوش الحلفاء مغرزة من لبنان تساهم في احقاق الحق وإزهاق الباطل، كما أن في كل قطر من أقطار المعمور تقع العين على جالية لبنانية عزيزة الجانب جليلة المفاخر.
ولم ينس المهاجرون وطنهم لبنان، فهم يساهمون على الدوام في مساعدة أهله وتدبير عمرانه. فلهم في كل بقعة من بقاعه آثار مخلدة ومكرمات لا تحصى. لقد أقالوا عثرته وانتشلوا أبناءه من وعثاء الفاقة والجهل، وشيدوا في مختلف مدنه وقراه اجمل المنازل وأفخم القصور، فأصبح لبنان بفضلهم بلداً ديمقراطياً عامراً، لا أمية في أهله ولا أرستقراطية مستأثرة في ربوعه.
أما لبنان المقيم فهو على الرغم من رقيه الأدبي والعلمي وتقدمه الصناعي والتجاري لا يزال دون لبنان المغترب تقدماً وطموحاً، لضيق نطاقه، وضآلة حجمه، وعدم اتساعه لاستثمار شتى القوى والمؤهلات الكافية في صدور أبنائه، ولارتمائه أيضاً في أحضان الطائفية واشتغاله بالسياسة.
فدستور لبنان المعمول به حتى اليوم ما برح مؤسساً على الطائفية البغيضة. فالمقاعد النيابية والوزارات والوظائف الحكومية كلها موزعة على الطوائف حسب تعدادها كأن لبنان شركة استثمارية يتقاسم ريعها المساهمون لا وطناً موحداً مجموع الكلمة، يعمل بنوه لإعلاء شأنه وإنماء موارده ويحكمه منهم من يستحق الحكم وينوب عنهم من يستأهل النيابة دون نظر إلى المذهب الذي يدين به والطائفة التي ينتمي إليها.
أما السياسة فهي داء العالم أجمع لا علة لبنان وحده، غير أنها أمست اليوم متفشية بين سكانه تفشياً ينذر بأوخم العواقب؛ ولبنان بلد صغير لا يتسع لميدانها ولا يتحمل مشاكلها وآفاتها. والسياسة بؤرة فساد ما دخلت أمة إلا هتكت حجابها، وما ملكت شعباً إلا فرقته شيعاً تتنافر وأحزاباً تتقاذف وتتباغض.
إن رسالة لبنان الموروثة هي غير رسالة السياسة أو رسالة التمسك بأهداف الطائفية. هي رسالة عالمية صرفة، تشمل العلم والعمران، وتستهدف الحضارة المتصلة بالمادة والروح المشعة في جوانح الشرق والغرب، المنبعثة في الوجدان الحي في الإنسان، لا من الشيطان المتحفز في غريزته.
فليس للبنان المقيم أي مستقبل مجيد بدون نبذ السياسة والطائفية معاً وبدون اهتدائه إلى حكومة رشيدة تعمل في حقل العلم والعمران دون سواهما.
فلبنان في الشرق كسويسرا في الغرب بلد اصطياف واستشفاء. ووطن علم وثقافة، يحتاج إلى تحريج جباله، وتجميل مدنه وقراه، وتعبيد طرقه، وتوفير الري في بقاعه، وتصميم الفنادق الحديثة الطراز في مصايفه، ونشر العلم في ربوعه.
وهو بلد عربي الوجه واللسان، غربي الفكر والثقافة يرتبط بالشرق بروحانيته وعروبته ويتصل بالغرب بعلومه وفنونه.
وما أجمل هذا الاتصال والارتباط حيال الوحدة العالمية التي ينشدها الإنسانيون ويحلمون بتحقيقها!
توفيق حسن الشرتوني
3 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية للأستاذ كوركيس عواد
ومن الأعلام التي تصحفت، وقد ينشأ عن ذلك التباس، ما ورد
في 4: 28014 باسم (بابويه) وكان الأحسن أن يقال فيه
(بابوي)(281م) وهو الاسم الذي اشتهر به في كثير من
المظان التاريخية، انظر مثلا: المجدل لماري بن سليمان
(ص41 - 43 طبعة جسمندي في رومية)، والمجدل لعمرو
بن متي (ص26 - 34) والتاريخ السعودي (2: 7 - 10
طبعة آدي شير في باريس ضمن الباترولوجية الشرقية)،
وأعمال الشهداء والقدسيين (بالإرمية 2: 631 - 634 طبعة
بيجان في ليسك) وشهداء المشرق (380: 2 - 384) وتاريخ
كلدو واثور (2: 214 - 146)، ولابور (ص129 - 120،
142 -
143).
وفي 354: 4 ب6 بهرام كور. والمشهور في التصانيف العربية الموثوق بصحتها: بهرام جور. راجع مثلا: الأخبار الطوال للدينوري (ص57 - 61 طبعة جارجاس) وتاريخ اليعقوبي (183: 1 طبعة هوتسما) والمسالك والممالك لابن خرداذبه (ص118) وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للبشاري القدسي (ص338) وتاريخ الطبري (851: 1) ومروج الذهب للمسعودي (2: 57 طبعة باريس) وتاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني (ص22) والكامل لابن الأثير (287: 1 - 292) إلى غيرهما مما لا يمكن
حصره.
وفي 4: 37826 بهنود بن سهوان. والذي يقرأ في مختلف
طبعات كليلة ودمنة: بهنود بن سحوان.
وفي السطر الأخير من 378: 4علي بن الشاة الفارسي.
صوابه: علي بن الشاه الفارسي (راجع طبعات كليلة ودمنة.)
وفي 391: 5 ب13 يوشع الأسطواني وكان الأحسن أن يقال: يشوع العمودي وقد عرف بهذه النسبة أيضاً مار سمعان العمودي
وفي 4: 40023 ظاهر الدين البيهقي، صوابه ظهير الدين
البهقي، وهو الإمام ظهير الدين أبو الحسن علي بن أبي القاسم
زيد البيهقي، المتوفى سنة 565هـ، صاحب التصانيف
المختلفة، كتتمة صوان الحكمة (المطبوع في لاهور)، وتاريخ
بيهق، ووشاح دمية القصر الخ. . .
وفي 4: 149410 (كتاب) الإكليل للحمداني. والصواب
للمهذاني، نسبة إلى همدان من بلدان اليمن.
وفي 4: 50423 ابن العادم. صوابه: ابن العديم. وهو
المؤرخ الحلبي الشهير المتوفى سنة 660هـ مؤلف كتاب
بغية الطلب في تاريخ حلب، وغيره.
وفي 4: 1 56 سيد إعجاز حسين القنتوري. والذي يقرأ على
غلاف كتابه (كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب
والأسفار) المطبوع في كلكته سنة 1330هـ: الكنتوري
(بالكاف)
وقد جاء (13: 5 ب19) اسم بليني العالم الطبيعي الروماني مصحفا إلى
ثانياً: الأمكنة والبقاع
قرأنا في 1: 171 أن ابن جزلة الطبيب (كان يعيش في محلة الكرخ ببغداد). والصواب في محلة الكرخ (بالكاف).
وجاء في 161: 1 ب19 (قتل ابن الدمينة في السوق بمدينة الأبلاء) والصواب (العبلاء)(راجع الأغاني 147: 15 من طبعة الساسي)
وفي 1: 255ب22 وجدنا مكتوباً بالحروف الفرنجية لفظة وكان يجدر ذكر اسم هذا النهر العظيم بالعربية، فهو معروف في كتب البلدان القديمة باسم (إتل)(وزان إبل) أما اليوم فيسمى نهر الفلجا
وفي 255: 1 ب22 باشغرد (بالغين. وبعضهم يقول: باش جرد (بالجيم) أو باش قرد (بالقاف) راجع معجم البلدان (468: 1؛ مادة باشرد).
وفي 271: 2 ب2 جند يشاهبور. والأشهر في المراجع العربية: جند يسابور (راجع هذه المادة في معجم البلدان).
وفي 1: 38216 الفانيكان. صوابه: الفاتيكان. وعندنا أن هذه
من أغلاط الطبع.
وقال في 294: 1 ب25 (دور بني أوقر، وهي محلة على بعد خمسة فراسخ من بغداد). ولو أنه قال (وهي قرية) بدلا من (محلة) لأصاب المرمى. فقد ذكرها ياقوت (معجم البلدان: 615 - 616) بقوله: (وفي عمل الدجيل قرية تعرف بدور بني أوقر، وهي المعروفة بدور الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، وفيها جامع ومنبر. وبنو أوقر كانوا مشايخها وأرباب ثروتها. وبني الوزير بها جامعاً ومنارة، وآثار الوزير حسنة. وبينها وبين بغداد خمسة فراسخ. . .) أهـ
وفي 333: 1 ب15 نيشابور (بالشين المعجمة). والمشهور في التصانيف العربية. نيسابور (بالسين المهملة). راجع هذه المادة في معجم البلدان.
وفي 454: 1 ب12 ورد اسم أشرسنة. والمعروف في المراجع القديمة أشر وسنة. (بواو بعد الراء) راجع مثلا فهارس تاريخ الطبري، وفهارس الكامل لابن الأثير، والأنساب للسمعاني (مادة: الأشروسني) ومعجم البلدان (في هذه المادة).
وفي 1: 53012 ورد اسم (شفاتيه). قلنا: هذا من تصفيحات
العوام، نظير قولهم شفاثة. والصواب في ذلك (شفاثا) وقد ورد
ذكرها في غير مرجع قديم، من ذلك معجم البلدان (759: 3
مادة: عين التمر) والكامل لابن الأثير (423: 9) ومراصد
الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق (294: 2
طبعة جوينبول في ليدن سنة 1853، مادة عين التمر). وقد
وقفنا على بحث للأستاذ كاظم الدجيلي في مجلة لغة العرب (3
(1913)
ص25 - 36) بعنوان (رحلة إلى شفاثا وقصر
الأخيضر واحمد بن هاشم).
وفي 1: 564 ب2 ترجم اسم نهر (نهر أرس) في حين أنه معروف عند كتبة العرب باسم (الرس). راجع: أحسن التقاسيم للبشاري المقدسي (ص379) والأعلاق النفسية لابن رسته (ص89) والبلدان لليعقوبي (ص364 طبعة دي غويه) والتنبيه والإشراف للمسعودي (ص62 طبعة دي غويه) ومعجم البلدان (2: 779) وتقويم البلدان لأبي الفداء (ص59 - 60).
وفي 570: 1 ب1412: 575 ب16؛ 576: 119
ألتن كوبرو. والمعروف عندنا في العراق أنها (ألتون
كوبري) أي جسر الذهب. وفي مجلة لغة الغرب (8
(1930) ص727 - 730) مقالة رائعة بعنوان
(التون كوبري في التاريخ) للأستاذ يعقوب سركيس.
ومن أعلام المواقع التي تصحفت غير مرة (1: 571
10
و11؛ ا 572 ب26؛ 1: 5732) اسم حدياب).
فقد كتب تارة أديابين وطوراً حديب (عند أهل
الشام). وحدياب هي المنطقة الممتدة في شرقي دجلة
بين الزاب الأعلى والزاب الأسفل (أنظر كتابنا: أثر
قديم في العراق. ص70 حاشية 2).
ووردت العبارة التالية في 1: 571 ب22 (الجزء الأسفل من إربل الواقع في سفح الجبل الذي يقوم عليه الحصن) والحقيقة هي أنه ليس هنالك من جبل، إنما هو تل ترابي.
وفي 574: 1 15 - 19 ورد اسم (اينكاوو)
والصواب في اسم هذه القرية العراقية: (عين كاوا)
أو (عينكاوا). وأهلها ليسوا نساطرة على حد ما ورد
في الدائرة، إنما هم كلدان.
أما (امكاباذ) فمصحفة من (عمكاباذ) على ما جاء في التاريخ المدني السرياني لابن العبري (ص557 طبعة بيجان) أو من (عمكاوا) على ما جاء في سيرة يابالاها الثالث (ص173 و176 طبعة بيجان).
وفي 1: 575 ب22 - 23 تصحف اسم كوي سنجق أو كويسنجق تصحيفاً ظاهراً إلى سنجق خوى.
وفي 1: 576 21 شمملك. صوابها: شمامك، على
ما هو مشهور بين العراقيين في تلك الأنحاء.
وفي 680: 1 ب10 خسروه. صوابها: خسراوه. وهي من أعمال سلماس في بلاد إيران.
وفي 2: 79 ب14؛ 80: 2 ب18 حصن كيفي. والمشهور في المراجع العربية الموثوق بها: حصن كيفا.
الزندقة في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
لم تكن حرية الرأي في أوائل الدولة العباسية مكفولة في كل النواحي الفكرية كما كانت الحال في الدولة الأموية؛ فلم يكن الأمويون يعاقبون، إلا فيما ندر، رجلا بالقتل أو غيره لأنه يرى رأيا يخالف آراءهم في الحكومة أو السياسة أو الدين أو الاجتماع ما دام لا يحاول الانتقاض على الحكومة أو يخل إخلالا عمليا بنظام من نظم الدولة. لم يكن الأمويون يفعلون ذلك إلا نادرا، وإلا فإن عصرهم بل عصر الإمام علي لم يخل من مؤاخذة بعض المخالفين في الرأي واضطهادهم وعقابهم بالقتل أحياناً.
لكن موقف الأمويين من المخالفين وإن شابه إلى حد بعيد موقف العباسيين من مخالفيهم، لا يشابهه إلا في الظاهر، ولكنه يختلف عنه في الحقيقة كل الاختلاف من حيث المبدأ والتنفيذ كما سنبين ذلك في مكانه من هذا البحث.
ولقد حاول العباسيون منذ قامت دولتهم وفي أول قيامها خاصة أن يضعوا للفكر حدودا في بعض النواحي التي يتناولها، ومنعوه من أن يتعداها، وإلا عرض صاحبه للعقاب، كما حاولوا بالترغيب والترهيب أن يصبغوا العلوم على اختلاف أنواعها صبغة خاصة، فنجحوا في بعض محاولاتهم وخابوا في بعض، ونصروا بعض المذاهب الفكرية وحاربوا البعض الآخر مما يوقع الباحث في هذا العصر في كثير من الحيرة والاضطراب.
ورأى مؤسسو الدولة العباسية أنفسهم مكرهين على التزام هذا التدخل بين المذاهب، والحجر على الناس في كثير مما يقولون ويعملون مما لم يكن له نظير قبلهم، ومرجع ذلك إلى أن الدولة الأموية التي قامت دولتهم على أنقاضها ظلت قرابة قرن من الزمان (40 - 132هـ) مسيطرة على العالم الإسلامي فتغلغل سلطانها في جوانبه وألف الناس منها قواعد ونظما خاصة في الحكومة والسياسة والاجتماع وغير ذلك فحاولوا أن يستأصلوا من العالم الإسلامي الذي اعتصبوه كل ما بذر فيه الأمويون من قواعد ونظم، ويستبدلوا بها قواعد ونظما خاصة بدولتهم تحفظ عليها هذا الملك المترامي الأطراف الذي استحوذت عليه بالقوة حينا والدهاء حينا، وكان خلفاؤها - والأولون منهم خاصة - يعرفون أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إلا بعد أن خاضوا إليه أنهارا من الدماء، وعبروا له على جسور من
الجماجم والأشلاء، بل كانوا يعرفون حق المعرفة أنه لن يستطيعوا الاحتفاظ بدولتهم إلا بالسير على الطريقة التي ساروا عليها حتى صاروا خلائف في الأرض.
كان الأمويون في ملكهم يعتمدون على العرب ويسيئون الظن بالفرس، ويلقونهم بكثير من ألوان المهانة والاضطهاد ما احفظ الفرس عليهم بل على العرب جميعاً لأن هؤلاء العرب فتحوا بلادهم وثلوا عرشهم واتخذوهم موالي يمتهنونهم ويرون أنفسهم اكرم منهم عنصراً وارفع مقاماً. ولقد ظهر حقد الفرس على العرب منذ فتحوا بلادهم في عهد عمر بن الخطاب فالتاريخ يحدثنا أن الهرمزان حين وقع أسيراً في يد أبي موسى الأشعري عند فتح تستر أرسله إلى الخليفة عمر ليحكم فيه حكمه فكان ما كان من إبقاء عمر عليه وإسلامه وحياته في المدينة كما تحيا العامة، وأنه كان، حين تأتيه في المدينة، أخبار فتوح العرب لفارس وهزائم الفرس، يتميز من الغيظ، وإن حقده قد زاد لما كان يراه من وفود أبناء جنسه أسارى إلى المدينة واتخاذ العرب إياهم موالي وخدماً، فلما كان وفود سبي جلولاء كان الهرمزان يمسح برؤوسهم ويقول:(أكل كبدي عمر) مما يدل على أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب بلاد فارس، وما كان قتل عمر إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب نفذها أبو لؤلؤة وظل الفرس ينقضون على الدولة الأموية كلما أمكنتهم الفرصة حتى كانت ثورتهم الكبرى باسم العباسيين تحت قيادة أبي مسلم الخراساني فدكتها دكا.
وإذا كان الخليفة عمر ومن بعده عثمان وعلي قد أحسنوا السيرة فيهم اتباعاً لأوامر الدين مما خفف عن الفرس ما كان يعتلج في قلوبهم من الحقد والضغينة - فإن الخلفاء الأمويين لم يساووهم بالعرب كما أمر الدين بل كانوا يحتقرونهم وينزلونهم منزلة العبيد بالرغم مما عرفوا لهم في أيام استقلالهم وفي أيام الأمويين أنفسهم من حضارة ورقي في جميع مرافق الحياة والفكر حتى في الدين الإسلامي واللغة العربية.
كان الأمويون برغم كل الاضطرابات التي تكبدوا مشقاتها يثقون بالعرب كل الثقة فبالعرب أقاموا دولتهم، وبهم حافظوا عليها من العرب والفرس جميعاً.
أما العباسيون فلم يظفروا باطمئنان كاطمئنان الأمويين وثقتهم بعنصر يعتمدون عليه إزاء ما يكر بهم من الخطوب في نضالهم عن دولتهم، بل في إقامتها قبل أن تكون.
كان العلويون والعباسيون وهم آل البيت النبوي قد قاسوا ومن الدولة الأموية ألوانا قاسية
من الظلم والاضطهاد، وكان نصيب العلويين من ذلك أوفى نصيب، فكانوا يلعنون على المنابر طيلة العهد الأموي إلا نحو عام في عهد عمر بن عبد العزيز الأموي، وكانوا يراقبون في كل حركاتهم وسكناتهم، ويقابلون كلما رفعوا رؤوسهم بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال، مع اعتقادهم أنهم أولى من الأمويين بخلافة النبي عليه السلام، وكان العرب يشهدون هذه الشنع دون أن ينصروهم على هؤلاء المغتصبين بل كانوا يعينون المغتصبين على ظلمهم وقتلهم والتمثيل بهم، وتشريدهم في الآفاق جزاء ما كان الأمويون يبذولنه لهم من العطايا السخية.
ولقد كان كل أولئك مما أحفظ آل البيت على العرب، وأيأسهم منهم، فلما آلت إلى العباسيين قيادة الدعوة السرية لدك الدولة الأموية كانوا يحملون في قلوبهم للعرب كل حقد وضغينة، وليس أدل على يأس العباسيين من العرب مما أوصى به محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أول من آلت إليه قيادة الدعوة السرية من العباسيين، حين وجه دعاته إلى الأمصار، قال لهم:(أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق نصارى، وأما أهل الشام فليسوا يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتورعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحي وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، وبعد فأني أتفاءل إلى المشرق، والى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق).
وهذا كلام رجل أقل ما يقال فيه أنه يتكلم عن فهم عميق واستقراء شامل، فهو يائس من نصرة كل الأقطار التي سكانها أو معظمهم من العرب، ولا أمل له إلا في خراسان الفارسية.
وليس أدل على بغض العباسيين للعرب وحقدهم عليهم من أن إبراهيم بن محمد بن علي السابق ذكره - لما آلت إليه القيادة بعد وفاة أبيه محمد بن علي - قال لأبي مسلم
الخراساني حين أمره على خراسان: (يا عبد الرحمن، أنك رجل منا أهل البيت فاحفظ وصيتي، وانظر هذا الحي من ربيعة فاتهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر فانهم العدو القريب الدار، فاقتل من شككت فيه، ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شئ؛ وإن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله).
وقامت الدولة العباسية ولكن لا بقوة العرب بل برغم أنوف العرب، فزاد ذلك العباسيين حقداً وضغينة عليهم، وأحسوا بما يحسه كل مظلوم نحو من ظلموه بعد أن انتصر عليهم، أحسوا نحو الأميين خاصة والعرب وهم معاونوهم في ظلمهم عامة أنهم أعداؤهم الذين لا يجوز لهم أن يراقبوا في الثأر منهم إلا ولا ذمة، ولا ينبغي أن يرعوا لهم حرمة فأسرفوا في سوء الظن وأسرفوا في القتل وانتهاك الحرمات وإهدار الحقوق، وأحلوا بينهم وبينهم الجفوة محل المودة، والقطيعة محل التواصل.
ولقد يروق لبعض المؤرخين أن ينسبوا إلى العباسيين أنهم إنما اعتمدوا على الفرس بعد نجاحهم ثقة بهم أو مثوبة لهم على معونتهم، وليس هذا من الصدق في شئ فما كان اعتماد العباسيين على الفرس قبل قيام دولتهم إلا تجنبا للعرب بعد أن يئسوا منهم كما يظهر من كلام محمد بن علي الذي نقلناه آنفا، وإلا خوفا منهم وريبة فيهم كما يظهر من وصية ابنه إبراهيم الإمام لأبي مسلم الخراساني، وما اعتمد العباسيون على الفرس بعد نجاح الدعوة ثقة منهم بهم أو مثوبة لهم بل خوفا من العرب وريبة فيهم أيضاً، وهذا ما أدى إلى ضياع العرب في الدولة الجديدة، وما وثق العباسيون بالفرس ولا أرادوا مثوبتهم حين قربوهم في دولتهم بل كانوا يحذرونهم كما يحذرون العرب ويرقبون الشرور منهم كما يرقبونها من العرب، وإن كانوا لا يطيقون إبعاد الفرس كما أطاقوا تنحية العرب. واعتقد أن هذا لم يكن يخفى بحال على مؤسس الدولة العباسية فما كان أبو مسلم الخراساني - كما يظهر من حوادثه - بالرجل الزاهد في السلطان، وإعادة دولة الفرس متى أتيح له ذلك، وما تكبد للعباسيين ما تكبد حبا فيهم ولا إيمانا بوجوب نصرتهم، ولا ابتغاء وجه الله ورضا محمد عليه السلام، فلم يكن العباسيون كما لم يكن الأمويون عند أبي مسلم بأحق بالخلافة من العلويين ما دام الأمر أمر قرابة من النبي، وإنما نصر العباسيين دون العلويين لأن هدم
أولئك أيسر من هدم هؤلاء. والحجة التي أمكنه أن يتذرع بها لخلب الباب الجيوش حتى هدم الدولة الأموية حجة لا تزال ناهضة تجاه العباسيين ومن اليسير أن يتذرع بها لهدمهم. تلك الحجة هي أن العلويين أمس رحما بالنبي من العباسيين، فالعباسيون والأمويون جميعهم غاصبون.
وأعمال أبي مسلم تدل على انه كان تواقا إلى الملك، فالتاريخ يروي أنه خطب أمينة بنت علي عمة السفاح والمنصور فردعها وأنه كان في رسائله يقدم اسمه على اسم الخليفة على غير ما جرت به العادة في التراسل بين الخلفاء وغيرهم، وأنه لما أراد القدوم من مرو إلى السفاح كتب إليه يستأذنه في الحج أميرا على الناس سنة 136هـ فاعتذر إليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميرا على الناس سنة 136 هـ فأعتذر أليه بأن أبا جعفر سبقه بالاستئذان ليكون أميراً على الحجيج، وأمر السفاح أبا جعفر بأن يطلب ذلك فطلبه فوافقه عليه مما أثار اشمئزاز أبي مسلم حتى رووا أنه قال لبعض خاصته:(أنا وجد أبو جعفر عاما يحج فيه غير هذا؟). ودلت سيرته في ذهابه وإيابه من الحج على كثير من مطامعه من وراء ابتغاء كسب القلوب في إظهار القوة والكرم بالأموال، والتقدم في الطريق على أبي جعفر.
ولقد أدى ذلك وغيره إلى حسد أبي جعفر لأبي مسلم وتوجس من مطامعه حتى طلب من السفاح أخيه أن يغتاله وألح في الطلب حتى كاد السفاح ينفذه لولا أنه خاف من جيوش خراسان التي تأتمر بأمر أبي مسلم وتتعصب له فاضطر مرغما إلى الأناة والمهادنة.
وما إن صار المنصور خليفة وفرغ من عمه عبد الله بن علي حين خرج عليه حتى قتل أبا مسلم، وأرسل إلى قواده جوائز فاخرة، وأعطى الجند حتى أمنهم من أن يثوروا للأخذ بثأره.
قامت الدولة العباسية على القوة والدهاء، وكان ديدن رجالها المؤسسين الحذر المفرط من العرب والفرس جميعاً. وضرب هؤلاء بهؤلاء للتمكن من السيطرة على الفريقين، وهذا ما جعل المنصور حين رأى رجاحة الخراسانيين على العرب يصطنع كثيراً من رجال العرب لقيادة الجيوش وولاية الأقطار، ومن هؤلاء عيسى بن موسى ومعن بن زائدة وعمر بن العلاء والهيثم بم معاوية ويزيد بن حاتم ومحمد بن سليمان بن علي وغيرهم.
وكان شعارهم كلمة إبراهيم الإمام لأبي مسلم (أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله) فكانوا عاملين على توطيد ملكهم بكل الوسائل المحللة والمحرمة.
من أجل ذلك كله حاول العباسيون أن يعظموا الخلافة في قلوب الناس وعيونهم، وقتلوا بالشبهة كل من ظنوا أنه خروجاً على الدولة، أو توهموا أن في وجوده خطراً عليها، فأمر السفاح أبا مسلم بقتل أول وزرائه أبي حفص سلم الخلال الذي كان يلقب وزير آل محمد، وقتل أبو جعفر قائده ومؤسس ملكه أبا مسلم الخراساني، ولما قتل أبو حفص سلمة الخلال استوزر السفاح خالد بن برمك، فكان يكره أن يسمى وزيرا تطيرا من قتل أبي حفص، ثم أعفاه المنصور في خلافته وولى أبا أيوب سليمان ابن مخلد المورياني فكان إذا دعاه المنصور خشيه حتى يشحب لونه وترتعد فرائصه، ثم قتله، وفي رثائه يقول أحد شعراء ذلك العهد:
قد وجدنا الملوك تحسد من اع
…
طته طوعا أزمة التدبير
فإذا ما رأوا له النهي والأم
…
ر أتوه من بأسهم بنكير
شرب الكأس بعد حفص سليما
…
ن ودارت عليه كف المدير
ونجا خالد بن برمكَ منها
…
إذ دعوه من بعدها بالأمير
أسوأ العالمين حالا لديهم
…
من تسمى بكاتب أو وزير
ولما قتله المنصور بعد تعذيبه وأستصفاء أمواله حبس أخاه وبني أخيه سعيداً ومسعوداً ومخلداً ومحمداً، فكانت وزارته نكبة ماحقة عليه وعلى أهله. ولما جاء المهدي استوزر يعقوب بن داود 161هـ، ثم نكبه وحبسه سنة 166هـ، فظل في السجن حتى أخرجه الرشيد.
وقد ادعت الدولة العباسية لنفسها حقاً لم تدعه الدولة الأموية إذ أقامت الخلافة على أصل من الدين - كما زعم كثير من الملوك لملكيتهم ذلك في العصور الوسطى الأوربية، فالخليفة مصدر السلطات وأرادته في الأرض ظل إرادة الله في السماء، فهو حامي حمى الدين وله بذلك أن يقضي فيما يشاء ومن يشاء كما يشاء. فحرموا على الناس أن يتناولوا أعمالهم بالنقد أو التجريح كما حرم المنصور الطعن في الخلافة، وطلب من الناس، إذا رأوه يضيق عليهم في الرزق، أن يدعوا الله أن يوسع المنصور عليهم لأنه هو مفتاح أرزاقهم.
ومن الحق أن المنصور برغم تشدده في سياسة الدولة وتضييقه على أفكار الناس فيما يتعلق بأمور الحكومة ونظمها حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ويعاجل بالقتل كل خارج عليه بل كل من كان وجوده خطراً عليه ولو لم يكن يستحق القتل، وكان فضله على الدولة عظيماً - بالرغم من كل ذلك كان جشعا للمعرفة إلى حد كبير فكان يحتضن الأطباء والمنجمين ويرعى ما ينقلون من الكتب العلمية والحكمية، ومن أجل ذلك كان مؤسس حركة الترجمة عن اللغات السريانية والفارسية واليونانية، كما كان يرعى إلى حد ما بعض العلوم الأخرى. كان توطيد الدولة همه فلم يكن يبلى في هذا السبيل بل في بعض شؤونه الخاصة عهداً قطعه ولا يبال أمور الدين وما جرت عليه العرب قبله في أخلاقها وتقاليدها.
فلما جاء ابنه المهدي سنة 158هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة. لكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة. إذا كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها أن صدقاً وإن كذباً، جاداً في البحث عن اتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستندا للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً حليماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
في الصحراء
للأستاذ سيد قطب
(في ليلة من ليالي الخريف المقمرة، الراكدة الهواء؛ المحتبسة الأنفاس، وفي صحراء جبل المقطم الموحشة، وبين هذا الفقر الصامت الأبيد - كانت تتراءى نخلات ساكنات في وجوم كثيب ومن بينهما نخلتان؛ إحداهما طويلة سامقة، والأخرى قصيرة قميئة.
بين هاتين النخلتين دار حديث. وكانت بينهما همسات ومناجاة!).
الصغيرة:
ما لنا في ذلك القفر هنا
…
ما برحنا منُذ حينٍ شاخصات؟
كل شئ صامت من حولنا
…
وأرانا نحن أيضاً صامتات!؟
تطلع الشمس علينا وتغيبْ
ويظل الليل كالشيخ الكثيبْ
والنجوم الزُّهرُ تغدو وتئوبْ
وهجيرٌ وأصيلْ وطلوع وأفول ثم نبقى في ذهول
ساهمات!
أفلا تدرين يا أختي الكبيرة
…
ما الذي أطلعنا بين اليبابْ
أيّما إثمٍ جنيْنا أو جريرة
…
سلكَتْنا في تجاويف العذاب
قد سئمتُ الِلبث في هذا المكان
لبثة المصلوبِ في صلب الزمان
أفما آن لتبديل. . . . أوان؟
حدثيني كم سنشقى؟ حدثيني كم سنلقى؟ حدثيني كم سنبقى؟
واقفات؟
الكبيرة:
أنا يا أختاه لا أدري الجواب
…
ودفينٌ السرِّ لم يُكشفْ لنا
منذ ما أُطلعتُ في هذا الخراب
…
وأنا أسأل: ما شأني هنا؟
فيجيب الصمتُ حولي بالسكون!
وأنا أخبط في وادي الظنون
لست أدري حكمة الدهر الضنين
غير أنا حائرات والليالي السادرات تتجنى ساخرات
لاهيات!
ربما كنا أسيراتِ القَدَرْ
…
تسخر الأيامُ منا والليالي!
تضرب الأمثال فينا والعِبَرْ
…
وإذا نشكو أذاها لا تبالي!
ربما كنا مساحيرَ الزمنْ!
قد مُسِخنا هكذا بين القُنَن
في ارتقاب الساحر المحيي الفطن!
فإذا كان يعودْ فكَّ هاتيك القيود فرجعْنا للوجود
ظافرات!
أو ترانا نسلَ أربابٍ قدامى
…
قد جفاها وتولَّى العابدونْ!
جفت الكأس لديها، والندامى
…
غادروا لدْوَتها تَنعى القرونْ
أو ترانا مَسخَ شيطان رجيم!
صاغنا في ذلك القَفر الغشوم!
وتولَّى هارباً خوف الرّجوم!
فبقينا في العراءِ يحتوينا كل راءِ وسنبقى في جفاءِ
شاردات!
لست أدري: كل شئ قد يكون
…
فَتَلَقِّى كلَّ شئ في سكون
وإذا ما غالنا غولُ المَنونْ
…
فهنا يغمُرنا فيضُ اليقينْ!
ثم ساد الصمتُ كالطيف الحزين
وتسمَّعْتُ لأقدام السنين
وهي تخطو خُطوة الشيخ الرزين
هامساتٍ في الرمال منشدات في جلال كلُّ شئٍ للزَّوال
والشتات!
(حلوان)
سيد قطب
من الإلياذة الإسلامية
قصة أم المؤمنين السيدة عائشة
للمرحوم الأستاذ أحمد محرم
(سيّد الرسل) و (أمّ المؤمنين)
…
بشر الأبطال بالنصر المبين
خرجت في الجيش ترجو ربّها
…
عصمةَ الراجي، وعونَ المستعين
ينصر الحق، ويقضي أمره
…
إن رماه كل أفَّاكٍ مَهين
اصبري إن جلّ أمر إنها
…
يا (ابنة الصديق) دنيا الصالحين
أرأيت الأرض لمّا رجفت
…
أذ هوى عقدك؟ بل لا تشعرين
اقشعرّت، وتمنّت لو هوى
…
كل عال من رواسيها مكين
أنتِ في شأنكِ إذ تبغينه
…
وهي في همٍّ وغمٍٍّ وأنين
سوف يُبدى الخطب عن روعته
…
بعد حينِ، فاصبري حتى يحين
رفعوا الهودج، والظُّن بها
…
أنها فيهِ، وساروا مُدلجين
وانجلى الليل عن الخطب الذي
…
غادر الأصباح مُسْوَدَّ الجبين
أين غابت؟ أيَّ أرضٍ نزلتِ
…
كيف غم الأمر، هل من مستبين؟
يا (رسول الله) صبراً إنها
…
في ذمامِ اللهِ ربِّ العالمين
يا (أبا بكرٍ) رويداً إننا
…
لنراها في حمى (الروح الأمين)
رجعت والليل في بردته
…
دائم الإطراق كالشيخ الرزين
ذهب الجيش، وأمست وحدها
…
غير أصداء من الوادي الحزين
خطرت في الجوِّ من أنفاسها
…
خطرات للأسى، ما ينقضين
ماج كالبحر طغت أثباجه
…
وارتمت أهواله حول السَّفين
نام عنها الهمُّ لما رقدت
…
فهو في الأحشاء مكتوم دفين
وأتى (صفوان) ما يبدو له
…
غيرُ شئ ماثل للناظرين
يرسل الطرف، ويمشي نحوها
…
مِشيةَ المرتاب في رفق ولين
عرف الخطب، فما أصدقَهُ
…
حين يدعو دعوة المسترجعين
دعوةُ رنّت، فلو قيل: اسمعوا
…
لسمعنا اليوم ترداد الرنين
أيقظت (عائشةً) من نومها
…
مثلما يوقظها صوتُ الأذين
جفلت منه، فغطت وجهها
…
وهيَ في سترين من عقل ودين
يصرف اللحظ كليلاً دونها
…
خاشع القلب، كدأب المتقين
قَرَّبَ الناقة منها، ودعا
…
اركبي أُمّاهُ، مُنِّيتِ البنين
أخذ المقودَ يُمناً، ومضى
…
يتبع الماضينَ من أهل اليمين
ينتمي (يثرب) بالنور الذي
…
يملأ الدنيا، ويعي المطفئين
نشروا الإفك فساداً وأذى
…
وعلى الله جزاءُ المفسدين
لا ينال الحقَّ في سلطانهِ
…
كذب الحقى، وإفِك المرجفين
يا لها من عصبةٍ فاسقةٍ
…
هاجها للشر (شيخ الفاسقين)
وجدت فيهِ زعيماً حاذقاً
…
وإماماً بارعاً للمفترين
هكذا يا (ابنَ أُبيٍّ) هكذا
…
لا يكن شأنك شأن المسلمين
انفثِ السُّمَّ، وخُضّها فتنة
…
تتلظى نارها للخائضين
يا (ابنة الصديق) صبراً، ليته
…
ألمُ المرضَى، وهم المُّوجعين
يا لها من علةٍ لو تعلمين
…
أنها أبرح مما تشتكين
أعقبَ البشرَ عُبوسٌ وبدا
…
من (رسول الله) ما لا ترتضين
كيف تيكم؟ ليس من عاداته
…
كيف تيكم؟ يا لهم من مجرمين
غَيّرُوهُ، فَلَوى من عِطفهِ
…
وطوَى من لطفهِ ما تعهدين
وهو يخفى لكِ ما لا ينقضي
…
من هوى صاف، وشوق وحنين
سجن السرَّ، وكم من روعةٍ
…
لك يا أُمَّاه في السرِّ السجين
أنصتي، فالليل مُصغ، أنصتي
…
وقْع الخطبُ، فما تصنعين
جاشت النفسُ، ولجت رعدة
…
لم تدع في القلب من ركن ركين
(مسطح) لا قَرَّ عيناً (مسطح)
…
شبها نارا تهول المصطلين
فضحته عثرةٌ من أُمّهِ
…
فانظري كيد ذويك الأقربين
لا تلوميها إذا ما غضبت
…
أنها تعلم ما لا تعلمين
أرسلتها دعوةً واحدةً
…
ليتها زادت على حَدِّ المئين
تَعسٍ (الثعلبُ) ما أخبثه
…
فدعى (بدرا) و (آسادَ) العرين
رجعت في غمرةٍ من هَمِّها
…
لم تبت منها بليل الراقدين
لوعةٌ مشوبةٌ في سَقَم
…
في شآبيب من الدمع السخين
يا (رسول الله) هل تأذن لي؟
…
إن بيتي بمصابي لقمين
مُرْ ودع همي لأمي وأبي
…
إنما استأذنتُ خير الآمرين
بأن حسن الصبر، والعزم انطوى
…
وأرى السُّقمَ مقيماً ما يبين
قال: ما شئت. هلمي فافعلي
…
لك يا صاحبتي ما تؤثرين
ذهبت، يحزنها إن لم تكن
…
طوّح الدهر بها في الذاهبين
ثم قالت وهي تبكي: عجباً
…
لك يا أماه، ماذا تكتمين؟
أفلا نبأتني ما زعموا؟
…
ويحهم: ما حيلتي في الزاعمين؟
ظلموني، ما رعوا لي حرمةً
…
رب كن لي ما أقلّ المنصفين
جزع (الصديق) مما نابه
…
إنه خطب يهول الأكرمين
قال: أفٍ لكِ من داهيةِ
…
ما رمينا بك في ماضي السنين
أفلما زاننا دين الهدى
…
ساءنا منكِ حديث لا يزين؟
(كيف تيكم؟) يا لها صاعقة
…
أرسلت من فم (خير المرسلين)
كيف تيكم؟ كيف تيكم؟ كلما
…
جاء، إن الله مولى الصابرين
اصبري يا (ربة العقد) الذي
…
زين من عينيك بالدرِّ الثمين
سلط الضرب على مولاتها
…
أي سر عندها للضاربين؟
أقسمت صادقةً ما علمت
…
غير ما يدفع دعوى الواهمين
التُّقَى والبرُّ في تاجيهما
…
هل رأى التاجين أعلى المالكين؟
مرحباً بالحق، يحمي جُندُه
…
ما استباحت ترهات المبطلين
مرحباً بالوحي، يجلو ما طوت
…
ظلمات الشك من نور اليقين
مرحباً (بالروح) يلقى من عل
…
رحمة الله، تغيث المؤمنين
فتنة جلت، فلما انكشفت
…
أزلفوا الشكر، وراحوا راشدين
وتجلت غمرة (الهادي) فلا
…
ريبة تغشى، ولا ظنٌ يرين
يا (ابنة الصديق) طيبي وانعمي
…
ذاك حكمُ اللهِ خير الحاكمين
ضرب القوم بماضٍ مِخذم
…
من مواضيه، فولوا مدبرين
سقطوا صرعى، عليهم غبرة
…
من قتام البِغي تخزي الظالمين
أمسك (الصديق) من معروفه
…
ينكر الغدر، وينهي الغادرين
وطوى عن (مسطح) نعمته
…
ليرى حق الكرام المنعمين
عاله دهراً، فلما خانه
…
راح يجزيه جِزاَء الخائنين
سُنَّة العدل، قضاها من قضيٍ
…
سنة الرحمة بين الراحمين
نزل (الذكر) بها قدسيّةً
…
فعفا الناقم، وارتاح الضنين
أجعل الخير قريناً إن أبى
…
كلّ غاوٍ، إنه نعم القرين
جلّ ربي وعلا، كل امرئ
…
بالذي يكسب من أمر رهين
أحمد محرم
العلماء يتعلمون من المشعوذين
للأستاذ فوزي الشتوي
القتل بغير تسمم
منذ قرون بعيدة وكهان الطب ومشعوذوه في غابات المناطق الاستوائية في أمريكا الجنوبية يعمدون إلى بعض الأعشاب يطبخونها بطريقة خاصة وفي وسط مراسيم دينية. حتى إذا تمت الطقوس عمدوا إلى عيدان رفيعة غمسوا أطرافها في المادة المطبوخة. واحتفظوا بها حتى إذا خرجوا إلى الصيد أطلقوها بدفع الهواء بأفواههم على الفرائس ولا يكاد العود يخترق الجلد ويسري السم في دم البقرة أو الوعل حتى تتوقف عضلات المعدة والقلب والتنفس عن الحركة فيخر الحيوان ميتا.
وليس من الضروري أن يصاب الحيوان في مقتل، فالمهم أن يصل السم إلى الدم في أي جزء من الجسم ليشل أعضاء الحيوان الداخلية والخارجية عن الحركة. . ولا يفسد لحم الحيوان بل يحتفظ بجودته فيقبل عليه صيادوه يلتهمون لحمه النقي الذي لا يبدو فيه أي أثر للتسمم.
هذا السم الغريب هو مدار البحث والتجربة الآن عند فريق من الأطباء والجراحين الأمريكيين. لأنهم يعالجون به كثيراً من الأمراض المخيفة المستعصية. ويعجلون به شفاء عدد من الأمراض العقلية المحيرة.
من أحاديث الخرافات
أما كيف حدث اكتشاف هذه المادة فأمر يوشك أن يكون من أحاديث الخرافات والقصص الخيالية ولكن الأطباء يوردون آلاف الحوادث والحالات التي شفت هذه المادة أصحابها والتي يطلقون عليها اسم كورا راي. وهو ذات اللقب الذي يسميه به سكان القبائل البدائية في مناطق أمريكا الجنوبية الاستوائية.
وليس عهد العلماء حديثاً بهذه المادة الغريبة، فمنذ أربعة قرون أحضر السروالتراري الرحالة الإنكليزي عينات منها استغلها العلماء في القرن السادس عشر في علاج بعض الحالات. ولكن الكمية كانت محدودة فلم تتح لهم مواصلة تجاربهم وأوشك اسم الكوراراي
أن يزول من رؤوس الباحثين.
وأريد لهذه المادة الحياة مرة أخرى على يدي مستكشف ناشئ مارس حياة الغابات منذ 1930 واسمه ريتشارد جيل. وفي خلال الأعوام التي عاشها في غابات أمريكا الجنوبية تعرف إلى مشعوذيها واكتسب صداقتهم وإعجابهم فأطلعوه على طقوس الكوراراي وطريقة تحضيره والأعشاب التي يستمد منها فأقام في الغاب سنوات طويلة وهو يقتنص صيده بواسطته ويأكل لحمه. ولكنه لم يدرك أهمية المادة للعالم المتمدن.
المرض المحير
وجمح به حصانه مرة فسقط على الأرض وأصيب بالشلل. ونقل إلى مستشفيات أمريكا ففحصه الأطباء من قمة الرأس إلى أخمص القدم فلا يجدون به علة ولا يعثرون في أعضائه على عطب. ولكنه كان لا يقوى على الحركة. بل أن شعوره كان مبهماً غامضاً لا يحس حتى بالألم فأفتى أطباؤه بأنه ربما كان فريسة الشلل التشنجي.
والمصابون بهذا المرض تتولاهم هزات عضلية قاسية تنشأ من تيبس العضلات. وأخطره الطبيب بأن علاج حالته غير معروف. ولم يعرف الطب إلا مادة واحدة لا سبيل إلى الوصول إليها لأنه من مواد الغابات الاستوائية وهي الكوراراي.
وسمع جيل الاسم المألوف لديه فسرى في جسده كتيار كهربائي ساحر. فتلك المادة التي توفرت لديه في الماضي مطلوبة الآن ليجرب بها الطبيب طريقة لعلاج علته، وتناوشته الأفكار والآراء وعصفت به نفسه، وهو يرى بصيص الأمل ويعرف طريقه ولكنه لا يقوى على السعي إليه.
أنه يعرف هنود تلك المناطق ومشعوذيها. ويعرف كيف يستحضر مادة حياته. ولكنه سجين بين جدران أعضائه النائمة. أنه يعرف الطريق لإنقاذ آلاف الناس وإبراء ملايين العلل ولكنه لا يقوى على الحركة.
كفاح اليأس
وكانت الإرادة، وكان الصبر، وكان الكفاح، فأمضى الساعات الطوال وهو يدرب عضلاته على الحركة بمختلف الوسائل وبما أثير في نفسه من دوافع العزم على الحياة. فلم تمض
شهور بارز فيها مع أطبائه ومستشاريه العلة حتى تغلب عليها وغادر مستشفاه.
ومضت أعوام أربعة حتى استطاع زيارة مناطق خط الاستواء على رأس بعثة خشي أن تفشل. إذ توهم أن سحرة الهنود قد ينكرونه أو ينسون أمره. ولكنه ما كاد يقابلهم حتى استقبلوه بترحاب وتقدير.
ومن هناك سارت عشرات القوارب ومئات الحيوانات في الأنهار وفي الأدغال لتنقل إلى الطب تلك المادة الثمينة النادرة. وعاد جيل وقد حرص هذه المرة على التقاط أشرطة سينمائية تبين جميع مراحل تحضير الكوراراي.
ولم يكن الطب مؤمناً كل الإيمان بفعله فسخر منه ولكن أحد أطباء كلية نبراسكا احتضن البحث وأقبل على تجربته واحتضنته إحدى الشركات أيضاً فحضرته مركزاً ونقياً ووزعت عيناته مجاناً على الباحثين ليجروا عليه تجاربهم ولم تمض فترة حتى ظهر في الأسواق التجارية. واقتنع الأطباء بأنهم يستطيعون التعلم ولو من متوحشي الغابات ومشعوذيها.
سلامة الجسم أم العقل:
وواجه الأطباء في تلك الفترة معضلة خطيرة، فقد وفق بعضهم إلى علاج بعض الأمراض العقلية بأحدث صدمات عصبية في المرضى تؤدي في الغالب إلى الشفاء. ولكنها تؤدي أيضاً إلى تشنجات عضلية جادة تضر أعضاء المصابين الداخلية، وتحطم عظامهم في بعض الأحيان. فهل لمثل هذا العلاج أن يستمر؟ وهل يجوز أن يكون شفاء العقل على حساب تحطيم الجسم؟
وحل الكوراراي الأشكال وأجاب على السؤالين حينما عرف العلماء كيف يستخدمونه لأنه أتاح للطبيب إحداث الصدمة الطبية بغير أن يتعرض المريض إلى خطر تحطيم عظام جسمه، وكان الطبيب بنت من جامعة نبراسكا أول من سلك الطريق فأجرى تجاربه على الأطفال المصابين بالشلل التشنجي.
يريح العضلات:
ودلت الأبحاث على الحيوانات أن الكوراراي يريح العضلات إذ يصيب وصلات الأعصاب المحركة لها بالشلل، أو يعزلها فيمتنع تهيجها. كما ثبت أنه من الميسور استخدام
الكوراراي في معالجة الإنسان. وتدل التجارب الأولى على نجاحه لأن المخدر كان يمتص الصدمة العضلية فيستلقي المريض مسترخياً أثناءها بدل أن تتقلص عضلاته ويتحرك في موجات بالغة العنف.
ومع أن الكوراراي لا يفقد المريض شعوره بالألم فقد وجد فيه علماء التخدير مادة ثمينة لأنه خفف مهمة الجراحين إذ جعل المرضى يسترخون في راحة مما يزيل كثيراً من المضاعفات التي تنتج من حركة المريض، مما ينبئ لهذا المخدر الجديد بمستقبل جيد في عالم الطب.
ويرى الأطباء في هذا المخدر أنه خير علاج لمرض خطير يصيب الشبان فيشل أعصابهم وشفاؤه بالراحة التامة والاستجمام وهو ما يفعله الكوراراي في المريض ويسميه الدكتور بنت بأنه (أقوى واكمل مخدر عرف لاراحة العضلات وانبساطها) وكلما زدنا علماً بخواصه زدنا استخداماً له في علاج علل الإنسان.
فوزي الشتوني
القصص
الحذاء
لأنطون تشيكوف
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
قال (مركين) - ضابط البيان - وهو رجل ذو وجه حليق شاهب ساهم، وأنف ملوث بالسعوط، وأذنين محشوتين بالقطن. . . صاح في صوت أصحل وهو يغادر غرفته بالخان، ويطأ أرض البهو:
- (سميون. . . أيها الساقي). ولو أن إنساناً لمح وجهه الممتقع في تلك اللحظة لظن أن نظره وقع على شبح يتراقص في غرفته. وما كاد يبصر الخادم يخف مقبلا عليه حتى قال في هيعة وفزع:
- (سميون. . . بالله ماذا تعني بذلك؟ إني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد جعلتني أسير حافي القدمين. . . أين حذائي؟ ولم لم تأت به؟!)
فولج سميون غرفة مركين، وراح يحملق في المكان الذي اعتاد أن يترك فيه الحذاء بعد تنظيفه. . . ثم جعل أنامله تعبث بشعر رأسه: فقد اختفى الحذاء! وأخذ يردد في صوت خافت:
- (كيف تأتي لتلك الأشياء اللعينة أن تختفي؟! يخيل إلي أني نظفتها في المساء، ووضعتها هنا. . . هه! إني لأصرح أني نهلت بعض الخمر البارحة، فلعلني تركت الحذاء في غرفة أخرى، وربما كان في غرفة (أفاناسي بجورتش). لقد كان أمامي كومة من الأحذية. . . تباً للشيطان الذي يزين للإنسان الشرب، ثم يجعله بعد ذلك يفعل ما ليس يدري. . . سيدي، لابد أن حذاءك في غرفة السيدة التي تليك. . . الممثلة)
(والآن تدفعني (سيادتك) إلى إقلاق سيده من أجلك. . . أأوقظ سيدة فاضلة لغباوتك وحماقتك؟). ودنى مركين من باب الغرفة التالية وهو يتنهد ويسعل. . . ثم طرق الباب في حذر. . . وبعد هنيهة سمع صوت امرأة تقول (من. . . هناك؟) فراح مركين يقول في توسل، وقد أتخذ في وقفته هيئة الفارس الذي يخاطب سيده أرقى منه طبقة (معذرة لإقلاقك
يا سيدتي. . . ولكني رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي. . . هذا إلا أنه علي أن أذهب في الحال لضبط بيان قرينة الجنرال (شفليتسين) ولا يمكنني الذهاب حافي القدمين).
- (ولكن ماذا تبغي؟ أي بيان؟!).
- (ليس بيان يا سيدتي. . . إنما أشير إلى حذائي. فإن سميون - ذلك الخادم الغبي - نظفه وتركه خطأ في غرفتك. فأشفقي على ضعفي وناوليني حذائي) ثم تلا ذلك صوت خفيف، ثم نهوض من الفراش ووطئ نعال، وبعد ذلك انفرج الباب قليلا، وألقت يد نسائية مكتظة زوجاً من الأحذية إلى مركين. فشكرها (ضابط البيان) وانطلق إلى غرفته. ولكنه ما لبث أن دمدم وهو يدخل قدميه في الحذاء:(عجباً. . . يخيل ألي أن هذا ليس بحذائي. . . ومع ذلك فكلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال. . . سميون ما هذا بحذائي. . . فحذائي ذو لسان أحمر. . . وليس به ثقوب. . . أما هذا فخال من الألسنة الحمراء كما أنه ملآن بالثقوب!) فالتقط سميون الحذاء، وأخذ يقلبه في كفيه أمام عينيه. . . ثم لم يلبث أن قطب ما بين حاجبيه وقال في تذمر هذا حذاء (بافل ألكسندرتش)
- (أي بافل الكسندريسن؟!).
- (الممثل. . . إنه يحضر هنا كل ثلاثاء. . . لابد أنه تحذى حذاءك بدلا من حذائه. . . وأحسب أني وضعت حذاء كل منكما في غرفة الآخر).
- (وعلي بعد ذلك أن أغيره!. أليس هذا ما ترمي إليه. . . أيها الأبله؟). فقال سميون في سخط (أصبت. . . أمضي واسترد حذاءك إذاً. . . ترى أين يكون الآن؟ لقد خرج منذ حوالي ساعة. . . ومن العبث أن نبحث عن. . .). فقال مركين (ألا تدري أين يسكن؟!).
- (ومن الذي يمكنه أن يدلك على ذلك؟ أنه يأتي إلى هنا كل ثلاثاء. ولست أدري أين يقطن. . . أنه يمكث هنا ليلة واحدة. . . فما من مندوحة سوى أن تنتظر حتى الثلاثاء القادم). فتحوب مركين قائلا (هنا أتقول هذا أيها الوحش؟!!. ما عساي أصنع الآن وقد أزف الموعد الذي يجب أن أكون فيه بحضرة قرينة الجنرال (شفليتسين)؟. أفقهت أيها الحقير؟. آه تكاد قدماي أن تتجمدا. . .).
- (يمكنك أن تستعيد حذاءك قبل ذلك. . . احتذي هذا الزوج. وامض به حتى المساء، ثم
اذهب إلى المسرح. . . وأسأل عن الممثل (بليستوف) وإذا لم تسارع بالمضي إلى المسرح فعليك باللبث حتى الثلاثاء القادم أنه لا يحضر إلا كل ثلاثاء. . .) فالتقط مركين الحذاء وأخذ يتساءل وهو ينظر إليه باشمئزاز ونفور (ولكن كيف تعلل أن كلا الحذاءين لا يصلح إلا للقدم الشمال). فقال سميون وقد نفذ صبره:
(أي قدر قذف بذلك الممثل؟ أنه لأفقر خلق الله قاطبة. . . وقد قال لي (أين الممثل الذي يمكنه أن يبتاع حذاء) فقلت له (ولكن من العار يا بافل الكسندرتش أن تحتذي ما لغيرك) فراح يصيح (أمسك لسانك ولا تجعلن أبطش بك. . . ألا تدري أني أقوم بتمثيل الأمراء والعظماء). ثم انصرف في حذائك. . . إنها لعمري شرذمة من الطغام. . . أولئك الممثلين. . . آه لو أني الحاكم بأمره أو أي شخص ذو سلطة (لجمعت هؤلاء الممثلين. . . وزججت بهم في أعماق السجون. . .).
وبين الزفير والأنين. . . التقط مركين الحذاءين الشماليين ولبسهما. . . ونهض وهو مقطب الجبين، كاسف البال يعرج في خطوته إلى دار الجنرال (شفليتسين). . . وأمضى يومه جله في المدينة ينتقل في أنحائها لضبط بيان كل من يود. وكان يتوهم أن الجميع يتطلعون إلى حذائه الذي عفا عليه الزمان. بلى كعبه، وذهب لونه. . . وقد أصيبت قدماه بالورم من جراء ما كان يعانيه من آلام شتى قاسية. . .
وما كاد المساء يشعل الكون، حتى أسرع مركين إلى المسرح حيث كانت تمثل رواية (الطائر الأزرق). وكان التمثيل يشرف على النهاية. . . فاتصل مركين بعازف الناي في الجوقة الموسيقية - وكانت بينهما صداقة - ليعينه على التسلل إلى ما خلف المناظر المسرحية. ثم لم يلبث أن دلف إلى (غرفة ثياب الممثلين) حيث وجد بعضهم بغير أرديته، والبعض يدهن وجهه، والباقي ينفث دخان لفائفه. . .
ووقف الطائر (الأزرق) يعرض على (الملك بوبش) غدارة في يده ويقول:
- (يجمل بك أن تشتريها، فقد ابتعتها من (كيرسك) كرهينة بثمانية (روبلات)، ولكني سوف أدعها لك نظير ست فقط. . . إنها رائعة بلا شك).
- (حذار. . . فهي محشوة بالبارود كما تعلم) اقترب مركين في تؤدة وقال:
- (هل لي أن أتشرف بمحادثة السيد بليستنوف؟!) فالتفت إليه (الطائر الأزرق) وقال:
- (أنا ذا! ماذا تبغي؟!)
فأخذ ضابط البيان يقول في صوت شاع فيه التوسل:
- (معذرة لإزعاجك يا سيدي، ولكن صدقني، فأنا رجل منهوك مصاب بالنقرس المزمن، وقد أشار علي الطبيب بتدفئة قدمي)
- (ولكن أين ما تريد!).
فقال مركين يخاطب (الطائر الأزرق):
- (ألست تذكر!. . . أنك أمضيت الليلة البارحة في خان (بهتياف) في الغرفة رقم 64). . . فانفجر (الملك بويش) صائحاً في غضب كالح: (هه! ماذا تقول؟) إن زوجتي في الغرفة 64 فابتسم مركين: (زوجتك يا سيدي، هذا يسرني، إن زوجتك طيبة قد أشفقت على ضعفي، وناولتني حذاء ذلك الرجل الدمث، وبعد أن مضي ذلك الرجل). وأشار مركين إلى بليتنوف: (تفقدت حذائي، ولم أعثر عليه، فاستدعيت الساقي وسألته عن الحذاء، فأجابني أنه تركه في الغرفة المجاورة خطا على أثر ما جرعه من الخمر. تركه في غرفتك 64 يا سيدي). ثم التفت مركين موجهاً حديثه إلى بليستنوف: (وعندما خلفت زوجة هذا ذلك الرجل الطيب لبست حذائي). فصاح بليستنوف وقد اجتاحه الغضب: (عم تتحدث؟ أأتيت هنا لكي تخيل علي وتتهمني بافتراء باطل لا ظل عليه من الحقيقة؟)
- (لا. . . لا. . . يا سيدي! حاش الله، لقد أسأت فهمي، لست أتحدث عن شئ سوى الأحذية. . . ألم تمض ليلتك في الغرفة 64؟ خبرني ألم تفعل ذلك؟)
- (متى؟). فقال مركين: (ليلة أمس)
- (ما الذي جعل ذلك يدور بخلدك؟ أأبصرتني هناك؟) فجلس مركين وأخذ ينزع الحذاء من قدمه، ثم قال في اضطراب وتعلثم:
- (لا يا سيدي. . . لم أرك هناك، ولكن زوجة هذا السيد الفاضل ألقت إلي بحذائك بدلا من حذائي)
- (ما الذي يثبت زعمك هذا وافتراءك؟ لن أقول شيئاً عن نفسي، ولكنك تمس عفاف سيدة شريفة بالقذف والتجريح وفي حضرة زوجها أيضاً)
وارتفع من خلف المناظر المسرحية عجيج وضجيج. . . لقد أهوى (الملك بويش) الزوج
الجريح في شرفه، وقد علا سحنته اللون القرمزي، بقبضته على المنضدة في وقذ بلغ من شدته أن ممثلتين في (غرفة ثياب الممثلات) سقطتا في غيبوبة. . . صاح الطائر الأزرق:
- (أو صدقته؟ أو صدقت ذلك الصعلوك الحقير؟! أتود أن البسط به الأرض؟ أترغب في أن أصرعه أمامك كالكلب؟ آه. . . سأجعل جسده كشرائح اللحم. . . سأهشم رأسه!)
راح كل من كان يسير في منتزه المدينة ذلك المساء بالقرب من (المسرح الصيفي) يذكر كيف أنه قبيل الفصل الرابع شاهد رجلا حافي القدمين، شاحب لون الوجه، تختلج عيناه بالرعب والهلع، وهو يهرول خارجاً من المسرح منطلقاً، يركض في الطريق الرئيسي، وكان في أثره شخص آخر مرتدياً ملابس الطائر الأزرق يحمل في يده غدار. . . ولم ير أحد ما حدث بعد ذلك
ولكن شاع بعد فترة من الزمن أن مركين (ضابط البيان) التزم فراشه لا يغادره مدة أسبوعين بعد أن قابل بلستنوف في المسرح الصيفي. . . وكذلك أضاف إلى عبارته المعهودة: (أنا رجل منهوك، مصاب بالنقرس المزمن). جملة جديدة: (كما أني جريح منخوب الفؤاد). . .
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي