الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 638
- بتاريخ: 24 - 09 - 1945
أهدافنا القومية
والقضايا العربية
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
أمة تكافح في سبيل حريتها ومجدها، لا يكفي لكي تحقق هذه الأهداف إيمانها بحقوقها فحسب، بل لابد لها من الإيمان برسالة إنسانية عالمية تؤديها، وبقدرتها على انتزاع حقوقها وأداء رسالتها، ذلك الإيمان الذي تبعثه العزة ويغذيه الطموح.
ذلك شأن شعب مصر المجيد الذي علم التاريخ في جميع العصور أن مجده لا يعرف الحدود، وأن رسالته عالمية لا تحدها الأقطار متى نهض للسيادة واستيقظ للكفاح؛ فكيف يقنع في هذا القرن العشرين بأمل لا يتجاوز القنال، ومجد يقتصر على ما يسمونه (الاستقلال)؟ وقد علمته تجارب العصر أن عهد الأمم الصغيرة قد زال وانقضى عصر الدول، وأصبحنا في عصر (الاتحادات) و (الكتل)، ولم تعد دولة واحدة تستطيع أن تقف على قدميها وحدها، إلا إذا احتمت بمجموعة من الدول تشاركها في المصلحة والغاية إن لم تشترك معها في الوطن أو العنصر.
هذه حقائق لا تمر بخاطر طائفة من القاعدين المثبطين، دأبوا على نقد كل عامل والسخرية بكل داع؛ قالوا: كيف تشغلون هذا الشعب بقضايا العروبة في فلسطين والشام والمغرب، وكيف تطالبونه بالجهاد في سبيل هذه الشعوب، وفي سبيل العروبة والإسلام في كل مكان، وهو لا يكاد يطيق الجهاد في سبيل استقلاله المحدود؟ إنكم بذلك تشغلونه عن (أهدافه القومية) بأحلام بعيدة المنال!
تلك والله آفة العاجزين المتخاذلين - يعجزون عن العمل ويجبنون عن الجهاد، فلا يرضيهم أن يعمل المؤملون أو يتقدم القادرون. ويأبون مواجهة الناس في صورة الجبناء الضعفاء، فيلبسون لهم مسوح الناصحين، ويحدثونهم بلهجة الواعظين، ويرمون سواهم بدائهم، يزعمون أننا خياليون، وهم هم الواهمون المتخيلون إذا كانوا يظنون أنه يتحقق لهم (استقلال) في القاهرة إذا بقي الاحتلال في القدس أو الخرطوم أو بنغازي.
كلا والله، أنها أمة واحدة، جمعها التاريخ المجيد والعنصر الكريم والقومية العربية، وجمعتها رسالتها العالمية الروحية. وأنه لوطن واحد مهما تعددت أقطاره من عراق أو شام أو حجاز
أو مغرب أو سودان أو سواها. وأنها لقضية واحدة، قضية الحرية الإنسانية ومبادئ الأخوة والسلام والعدل التي تمثلها حضارتنا المشتركة. فليسترح دعاة التفريق والتمزيق، وليكفوا عن مواعظهم، فإنما هي رقي الاستعمار ودعوة الاستعباد
ونحن المؤمنين بحقوق هذا الشعب، المؤمنين أيضاً بقوته وحيويته ومجده ورسالته لا نفتأ نذكره بمجده العظيم الذي يعشقه ويصوب إليه، ولذكره بقضايا الوطن العربي الواسع الذي يزيد اتساعه قوة وأملا، وندعوه المرة بعد المرة لإنقاذ إخواننا المجاهدين في كل قطر، واثقين من قدرته على استعادة مجده وأداء رسالته بفضل حيويته وتضامنه مع الشعوب العربية الأخرى، موقنين أننا إنما نعبر عن روحه الوثابة التي أنشأت إمبراطورية عربية عظيمة في بضعة أعوام في عهد عاهله العظيم (محمد علي)، عالمين أن (الاستقلال) هو أول الأهداف لا نهايتها، وبدء الجهاد لا غايته التي تتسع لكل ما يصبو إليه العرب والمسلمون من عزة وسيادة ووحدة، وما ينتظره العالم منهم من رسالة إنسانية سامية خالدة
تلك هي (أهدافنا القومية)، فمن كان يقنع بما دونها فليس من سلالة الفراعنة، ولا من روح العرب، وليس له إلا أن يفسح الطريق لركب المجاهدين الطامحين العاملين لعزة العروبة ورسالتها.
توفيق محمد الشاوي
مدرس كلية الحقوق - بجامعة فؤاد
على هامش (الحادث)
كلمة إلى الجنرال ديجول!
للحقيقة وللتاريخ لا للتشفي والهجاء. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
رأيت في سينما ديانا بالقاهرة منذ شهور جريدة الأخبار الفرنسية تعرض صوراً من انهيار ألمانيا، فترى المهاجرين من النساء والعجائز هائمين مشردين؛ ثم تعرض منظراً مثله كان في فرنسا يوم انهزمت فرنسا، ويعقب المذيع فيقول بصوت خافت رهيب:(إن في الكون عدلا!) وترى المدائن المخربة، والذعر البادي، والدمار الشامل، ثم تعرض مثل ذلك مما كان في فرنسا ويعقب المذيع فيقول:(إن في الكون عدلا)!
نعم، يا جنرال، إن في الكون عدلا! ولكن قومكم ما استوفوا بعد قسطهم من عدل الله، وآية ذلك أنكم أصبتم فبكى لكم أعداؤكم، ورحمكم خصومكم، وكنتم عند الناس ضحية القوة العاتية، وشهداء العدوان المجرم، وكنت تثير الدنيا على الألمان أن حاربوا قومك، وقومك هم أعلنوا الحرب، وهم تقدموا إليها، وهم (زعموا) بنوها، قد غذوا بلبانها، وربوا في ميدانها؛ فلما نبت ريشك، ورد عنك عدوك، وأغضى عنك الدهر إغضاءة، نسيت كل ما كنت فيه، وما كنت تقوله وتخطب به، وأقبلت تجرب سلاحك فينا، فأخذتنا على ساعة غرة بحرب ما آذتنا بها، ولا أعلنتها لنا، فسخرت لقتالنا مدافعك وطياراتك، ويا ليته كان سلاحك يا أيها المحارب الظافر، ولكنه سلاح أغطيته عارية لتحارب به عدو صاحبه وعدوك، فحاربت به قوماً آمنين! حاربت يا أيها البطل النساء في الخدور، والأطفال في المدارس، والمرضى في المستشفيات. . . وما هابك النساء ولا الأطفال ولا المرضى، ولا رفعوا مثل العلم الأبيض، الذي رفعه قومك حين كان لهم سلاح، وكان لهم خط ماجينو، لأن لهم من إيمانهم حصناً لا تهدمه قنابلك، ولا تحرقه نارك!
وهذا الجيش (يا جنرال) الذي عقدت له اللواء، ورفعت فوقه العلم، وائتمنته على شرف فرنسا وتاريخها، قد أهوى باللواء، وطوح بالعلم، وعبث بالأمانة، حين سطا على المخازن، فكسر أقفالها، وفتح أبوابها، وأخذ ما فيها، وذلك فعل اللصوص لا الجنود!
ثم عاد فأوقد فيها النار، فأحالها إلى جهنم الحمراء، ليخفى باللهب سرقته، وذلك صنع المجرمين لا المقاتلين!
ثم وقف يتربص، فكلما أقبل من يطفئ النار وينقذ الأطفال رماه فأصماه، وذلك عمل القتلة السفاكين، لا الأبطال المحاربين!
جيشك هاجم المستشفى الوطني، وسلط ناره من أفواه رشاشاته ومدافعه على الجرحى والمرضى ست ساعات متواصلات متتاليات، ولم يقدر بعد ذلك إلا على أربع ممرضات شواب أخذهن (سبايا)!
جيشك يا رجل الديمقراطية، يا سليل من أعلنوا حقوق الإنسان، هاجم البرلمان وفعل به الأفاعيل، ومثل بشرطته فبقز يطوياً، وسمل عيوناً، وقطع أطرافاً، وهاهو ذا البرلمان تركناه ليشهد عليكم أبداً. فتعال تر الدماء على جدرانه المصدعة، وأبوابه المخلعة ولقد وجدوا صندوق البرلمان وفيه المال. . . وجدوه بعد ذلك في دار القيادة الفرنسية، وهم طبعاً لم يسرقوه، ولكن أخذوه ليحفظوه!
جيشك رمى قنابل الطيارات على السجون، حيث لا يملك من فيها فراراً، فجعل السجن لمن فيه قبراً!
المستشفى العسكري يا جنرال جعله جيشك قلعة فيها مدافع الهاون، ومنه أحرق سوق صاروجا هذا الحريق الذي أكل ثلاثاً وتسعين داراً. . . ومدرسة الفرنسيسكان كان فيها الرشاشات، تطلقها بأيديها الطاهرات، الراهبات المتبتلات، ذوات الرحمة المسالمات!
نسخة التوراة التي سرقت من سنوات، وهي أقدم نسخة في العالم، وجرت لها تلك المحاكمة المشهورة. وقضى على طائفة من الأطناء بأشد العقاب، وجدت في دار المستشار الفرنسي لما كبست بعد الحادث داره، ويقدر ثمنها بنصف مليون فرنك!
القاضي الفرنسي الذي جئتم به إلى المحكمة المختلطة، لأن قضاتنا في دعواكم لا يطمأن إلى علمهم ونزاهتهم، المسيو سيرو، وجد في داره رشاش كان يقتل به الناس في تلك الأيام السود، وهو الذي جيء به ليقضي على القتلة والمجرمين!
إن بطريرك موسكو وكل الروسيا، كان في فندق الشرق (أوريان بالاس) يوم الحادث، يوم عصفت هذه العاصفة في رأس قائدك أوليفاروجه، فنسي كل ما يعتز به البشر من فضائلهم
- فلبث في الملجأ المظلم تحت الأرض ليلة كاملة، قال لما انقضت:(لقد كنت في ستالينغراد يوم ضربها الألمان، فما رأيت أكثر مما رأيت الليلة)!
ولما قدمت دمشق زوجة رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت السيدة دودج، ورأت آثار العدوان، قالت: لقد قتل ابني الوحيد في فرنسا، فكان يصبر النفس عنه أنه مات في سبيل الحق والإنسانية، أما الآن، فواطول حزني وكمدي، لقد أيقنت أن ابن مات في سبيل (لا شيء)!
يا جنرال! لما ذهبت أزور القلعة بعد الحادث بأيام لم أستطع أن أدنو منها من رائحة الموت، إذ تفوح من آلاف الجثث، جثث الأبرياء التي كانت بالأمس رجالا كراماً، كانوا ملء الدنيا حياة ونشاطاً، وكانوا ذخر عائلاتهم وبلادهم، فصاروا. . . أكواماً من اللحم العفن الذي يؤذي العين والأنف!
لم ينج من شر جيشك الأحياء ولا الأموات. ولقد أبصرت في (الدحداح) قبوراً قد نبشتها القنابل، وقذفت رممها، أفإن عجزت عن حرب أعدائك الأقوياء، جثث تحارب موتانا؟
لقد كان ذلك كله، وكان أكثر منه، أفهذا من العدل الذي تهتف به؟ لا يا جنرال؟ إن كلمة (العدل) أكرم من أن تمر على لسان مر منه ذلك الأمر الهمجي بضرب دمشق أقدم مدينة عامرة على ظهر الأرض بلا استثناء، وأكاد أقول أجملها. إن الشفاه التي تعرف كلمة (العدوان)، لا يمكن أن تألفها كلمة (الحق والعدل)!
ولكن (في الكون عدلا)! نحن نقولها الآن! وإن من عدل الله أن جعل صبرنا نعمة علينا، وعدوانكم وبالا عليكم!
لقد انتهت الرواية، وأسدل الستار، فتعال ننظر ماذا ربحنا وماذا ربحتم؟ لقد خسرنا منازل من أحسن منازلنا، ورجالا من أكرم رجالنا، وملايين من حر أموالنا، ولكنا ربحنا الخلاص منكم، والاستقلال عنكم، وسنبني الدور، ونلد الرجال، ونعوض المال، فماذا ربحتم انتم؟ ماذا؟ يا من كشفت للناس عن حقيقتك، وانك ما خلقت لتسوس الأمم، ولا لتحكم الشعوب، ربحت بغضاء لا تمحى. لقد أسأت إلى التاريخ الفرنسي والثورة الفرنسية والأدب الفرنسي، ولطخت بالوحل أسماء كانت فينا لامعة نظيفة، وكان لها في النفوس مكان، وسيتوارث العرب كلهم والمسلمون هذه البغضاء بطناً بعد بطن، وستزيد وتعظم، وتغدو
تراثاً مقدساً، لا يشذ عنه إلا هؤلاء النفر من الأدباء الذين باعوا دينهم وإخوانهم بذكريات غرام لهم هناك. . . وهؤلاء ليسوا منا!
لقد أثمرت هذه البغضاء باكورتها، فلم يبقى في سوريا كلها لوحة عليها حرف فرنسي يقرأ في طريق، ولا كتاب فرنسي يدرس في مدرسة، ولقد كان مهرجاناً قومياً يوم أحرقت فيه الكتب الفرنسية في مدن الشام!
وبعد يا جنرال، إن في الوجود شيئاً أعظم من الدبابات والطيارات والقنابل الذرية، هو حب الموت!
فالذي لا يخاف الموت لا تخفيه آلاته مهما جلت وعظمت، فمن يطلب الموت فهو أكبر من الموت، لأنه أكبر من الحياة، ونحن قوم علمنا نبينا محمد ألا نخاف الموت في سبيل الحق، فلن يخيفنا شيء في الدنيا!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي
قبل الكارثة:
اليابان الغامضة
(صورة لحياة هؤلاء الذين أقاموا أحد شعبين من أعظم شعوب
العالم تعصباً)
للأستاذ ويلارد بريس
لعل أهم ما يميز اليابان عنا معرفتها إيانا وجهلنا بها، فإن من أهم مبادئ الحرب هي (أن تعرف عدوك) كما أنه من ضروريات العالم في زمن السلم هي (أن تعرف جارك). فاليابان هو القطر الذي لا تستطيع أبصارنا أن تنفذ إليه، وكلما مددنا البصر نحوه لم نر غير صورة مصغرة منا، ولعل هذه الحال قد جاءت من خلل في المرآة التي تعكس صورتها لنا، أو لعلها من خداع أبصارنا. فقد تتلمذ اليابانيون علينا واستمدوا منا وسائلنا وأخذوا عنا طرقنا ويخيل إلينا أنهم قد أخذوا عنا كل ما يعرفونه.
إن سر اليابان يحجبه عنا تلك المرآة التي خاتلتنا وعبثت بنا، فقد بذل اليابانيون جهداً حثيثاً في سبيل منعنا من التسلل إلى شعاب حياتهم ومعرفة شيء عن دنياهم الغريبة. فاليابانيون لا يسمحون إطلاقا للأجانب بأن يتسللوا إلى بيوتهم أو يتعرفوا حياتهم الخاصة، وهما تكن العلاقة طيبة فإن الزائر يشعر دائماً بأن هناك حداً لا يستطيع أن يتعداه. وقد تزوج بعض الأجانب بامرأة يابانية وعاش حياة يابانية في منزل ياباني وكتب كتباً شائقة عن اليابان، ولكنه مع ذلك يعترف في النهاية بجهله باليابانيين، فقد جاء في آخر كتبه عن اليابان ما نصه:(منذ زمن بعيد قال لي أطيب وأعز أصدقائي من اليابانيين قبيل وفاته. . . عندما تشعر في خلال السنوات القادمة أنك لم تستطع أن تفهم اليابانيين إطلاقاً، حينئذ تكون قد ابتدأت تفهم شيئاً عنهم).
واللغة اليابانية تجعل التفاهم عسيراً، فقد استطعنا خلال خمس سنوات قضيتها في اليابان مع زوجتي أن نتكلم اللغة اليابانية بقدر ولكن لم نستطع قط أن نقرأها أو نكتبها؛ هذه الحقيقة تتمثل عند معظم الأجانب. وقد طلب بعض الأجانب من عميد أمريكي لإحدى جامعات طوكيو - وقد كان في اليابان منذ ثلاثين عاماً - أن يكتب مذكرة له باللغة
اليابانية، فنظر إليه بدهشة ثم قال: كمن ساءه توجيه مثل هذا السؤال (إني لا أكتب اليابانية. . . نحن نتكلمها ولكننا لا نكتبها) ثم تركه واتجه نحو حجرة الدراسة ليحاضر طلبة يابانيين باللغة اليابانية.
ومن بين الصعاب التي تواجهنا أن نجد رجالا من بني جنسنا قد تملكوا ناصية اللسان الياباني حقاً ولا يتسرب الشك في إخلاصهم، وقد زار أحد الأخصائيين في كاليفورنيا اليابان في فترة مضت فسألته عن عدد الأمريكيين الذين صادفهم ممن استطاع أن يستوعب اللغة اليابانية. . . وبعد أن أعمل فكره قال أنه يعرف ثلاثة منهم. ومن الطبيعي أن يكون هناك في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أفراد يتقنون اللغة اليابانية، ولكن يبدو أن هذا العدد لا حساب له إذا ما قورن بعدد اليابانيين الذين يتقنون اللغة الإنجليزية.
وقد تساءل أحد الطلبة اليابانيين في عجب إذا لم تكن اللغة اليابانية تدرس في المدارس الأمريكية، وقد بدت هذه الفكرة مضحكة للوهلة الأولى، فكرة تدريس اللغة اليابانية في المدارس الأمريكية، ولكن بعد تدقيق النظر يبدو أنها لم تكن كذلك.
ويظهر أن للمعلومات الإنجليزية شأناً كبيراً في الحياة اليابانية، فهم يعتصرون من حضارتنا كل ما من شأنه أن يفيدهم. وقد رأينا كثيراً من الكتب الإنجليزية مكدسة في نواحي غرف الدراسة في إحدى جامعات الإمبراطورية أمثال (الذوق الأدبي لأرنولد بنيت) و (بيجماليون لبرناردشو) و (دكتورجيكل والمستر هايد لستيفنسون) وقد يستطيع أصغر التلاميذ سناً في المدارس الابتدائية اليابانية أن يكتب عن حياة وشنجتون أو أديسون أو فورد، وإنك لترى الكثير من حيطان غرف الدراسة خالية إلا من صورة للرئيس لنكولن.
لم تعد اليابان بعد في عزلة عن العلم فهي الآن تنظر إلى العالم كله وتحتاج اليه، ولم يكن لمحاكاة اليابانيين لنا في البداية أي ضرر، فقد مدحنا وكان لنا فيما وقع لبعض صغار اليابانيين من سهو تفكهة وتسرية لنا، فعندما سارت القطر الحديدية فيها للمرة الأولى وأخذوا يدفعون إلى ركوبها كانوا يتركون أحذيتهم على رصيف القطار لأنهم تعودوا ألا يدخلوا بيتاً قط وأحذيتهم في أقدامهم. وقد حطموا زجاج النوافذ عندما أخذوا يطلون برؤوسهم منها غير منتبهين إلى طبيعة الزجاج الشفافة، فكان لزاماً إذن أن يخط عمود ابيض على لوح الزجاج حتى يشعروا بوجود شيء صلب، كما علقت لوحات كبيرة على
وجهات المحلات كتب عليها (هذا زجاج). وكانوا يراقبون أسلاك التلغراف محاولين رؤية الرسالة وهي تسير خلال السلك، وقد قال بعضهم أن السلك لابد أن يكون مجوفا، وقال البعض الآخر أنه لابد أن يكون متحركا، أما أهل القرى فقد قالوا أنه من عمل الشيطان. وعندما أدخلت المسرات لأول مرة قيل عنها أنها السبب في انتشار مرض الكوليرا الذي ينتقل من المتكلم إلى السامع. وقد ارتكب اليابانيون أخطاء كثيرة عندما حاولوا أن يقلدوا آلاتنا. وقد ساد الشعور بأن اليابانيين قد أصبحوا صورة لنا ولكنها صورة شاحبة جداً، ومع ذلك فقليل من يدرك أن هذه الصورة الفطرية الأولى قد تغيرن إذا نظرنا إلى ما طرأ على الحياة اليابانية الصناعية من تطور.
وقد علم صناع القطن في منشستر اليابانيين كيف يغزلون القطن ثم يبيعونه، وسرعان ما استطاع اليابانيون أن يصنعوا منه أقمشة قطنية ويرسلوها حول نصف العالم ثم يبيعوها ثمن أقل مما تباع به تلك التي صنعت في منشستر ذاتها. . . ولكن ليس هذا أسوا ما في الأمر، فقد اخترع اليابانيون نولا أوفر إنتاجا بمجهود أقل، فبينا نرى في مصانع لانكشير فتاة واحدة تباشر ثماني آلات نجد في مصانع اليابان أن فتاة واحدة تباشر ستين آلة. وقد أبت لانكشير أن تصدق ذلك إلا بعد أن غمرت المنسوجات القطنية اليابانية أسواق العالم جميعه بأثمان تتراوح بين الثلث والعشر من أثمان المنسوجات القطنية المصنوعة في لانكشير. . . ومن ثم تحول قطب الصناعة القطنية في العالم إلى اليابان حتى أن رجال الصناعة في لانكشير قد انتقلوا إليها ليدرسوا الصناعة القطنية فيها. وفي هذه المرة دفعوا مليون ين في سبيل الحصول على حق استخدام الأنوال اليابانية في مصانع لانكشير.
وفي نفس الوقت الذي بدا فيه الإنجليز يستخدمون الأنوال الجديدة أخذ المهندسون اليابانيون يبذلون جهدهم في سبيل تحسين أنوالهم وتصميمها بحيث يجعلونها أعظم كفاية، ويتمثل مبلغ نجاحهم في الحقيقة العجيبة الآتية، فقبل أن توقف الحرب الحالية حركة التجارة كانت تشتري اليابان قطنها الخام من الهند ثم تدفع مصروفات شحنه إلى اليابان ثم تصنعه وترسله مصنوعاً إلى الهند وتدفع تكاليف شحنه إليها كما تدفع ضريبة الجمرك، ومع ذلك كله فقد كانت تبيع إنتاجها منه في الهند بأقل من أثمان تلك المنسوجات القطنية التي كانت تصنع في الهند ذاتها. وفي منافسة اليابان للانكشير حيث مستوى أجور العمال ومعيشتهم
عالٍ شيء، ومنافستها للهند حيث مستوى المعيشة والأجور منخفض حتى عنه في اليابان شيء اخر، فإن هذا يهدد الصناعة القطنية في جميع أنحاء العالم.
وقد احتلت اليابان منذ زمن بعيد الصدر في صناعة الحرير إذ كانت تنتج أكثر من 70 % من إنتاج العالم في الحرير، وليس هذا لملاءمة جو اليابان لصناعته فحسب، بل لأن اليابانيين أحدثوا من الوسائل وأدخلوا من الآلات الحديثة ما مهد لهم سبيل السبق في هذا المضمار. وقد بحث الغربيون عن وسيلة يستطيعون بها أن ينالوا من اليابان شيئاً في هذا السبيل فأنشئوا صناعة (الحرير الصناعي)، ومن ثم رأت اليابان أن صناعتها الحريرية قد أصبحت مهددة، ولكن سرعان ما استطاعت أن تنافسهم وإن تصدر من الحرير الصناعي أكثر مما يصدره أي قطر في العالم، أما تطور صناعة الجوت في اليابان فهو يصور ناحية مدهشة لمدى البحث العلمي فيها.
وأنه لتبدو لك فكرة واضحة عن صناعات اليابان إذا ما حلقت بين طوكيو وكوبى فوق العمود الفقري للصناعات اليابانية، وقد أطلقوا عليها (حلم قاذفي القنابل)، فليست هناك صناعات حربية لأمة من الأمم أوضح هدفاً وأسهل منالا للغارات الجوية مما هي في اليابان، ففي خلال ثلاث ساعات قد تستطيع قاذفة قنابل سريعة أن تصيب أهم أهدافها، ولكن من الخطأ أن تعتقد أن سقوط بعض القذائف فوق طوكيو قد تلحق بها أضراراً بعيدة المدى، فانك إذا نظرت إليها من عل وأنت في طائرتك علمت لماذا كان الأمر غير ذلك، فسترى شيئاً أشبه برقعة الشطرنج فيما عدا أن كل مربع يفصله عن المربعات التي تجاوره طرق فسيحة أو قنوات، فإذا سقطت القذيفة فوق إحدى هذه المربعات امتد فيها اللهب جميعاً ولكن تظل المربعات الأخرى المجاورة في مأمن منها. وقد لجأت اليابان إلى هذه الخطة على أثر زلزال عظيم لكي تحد من ضرر الحرائق وتحصرها في نطاق ضيق. وعلى كلٍ فإن طوكيو ليست أفضل أهداف قاذف القنابل، ففيها حقاً مصانع كثيرة ولكنها متفرقة، ولكن هذه الحال تختلف في ناجويا وأوزاكا وكوبى حيث تتجمع وتتكتل الذخائر والمؤن الغذائية والطواحين ومصانع الحديد وأحواض السفن مما لا يترك مجالا للشك في أن تصيب القذيفة هدفاً حيوياً، وحيث يبدو للملاحظ الجوي أن كل هذه المنشآت الصناعية اليابانية الحديثة هي بنات أفكار الغرب قد انتقلت إلى اليابان واستحالت إلى صورتها الراهنة في أقل من
ثمانين عاماً.
ويشتهر عن اليابانيين أنهم يقلدون كل شيء ولكنهم لا يبتكرون شيئاً، هذه الصفة الشائعة هي نصف الحقيقة فقط، فهم يخترعون بالقدر الذي يقلدون به، ففي المكتب الإمبراطوري لمنح رخص الامتياز يشتغل نحو من 800 خبير يتسلمون كل عام نحوا من مائة ألف طلب لمنح رخص الامتياز، وفي كل عام يمنح نحوا من عشرين ألف رخصة امتياز، وإن مصانع أوربا وأمريكا لترقب باهتمام الاختراعات اليابانية وتقتبس كثيراً منها.
وأنه ليخيل إلينا أن آلاتنا الكاتبة تلك التي تحول ستة وعشرين حرفاً إلى كلمات معجزة من معجزاتنا، فما ظنك إذن بالآلة الكاتبة اليابانية التي تتجمع فيها مجموعة من الرموز لآلاف الحروف؟
وكان من بين ما عرض في أحد معارض الاختراع هذه المخترعات: آلة للصور المتحركة للاستعمال المنزلي، لجهاز التلفزيون يستخدم في البيت، سيارة تستطيع أن تنحرف بسرعة في شتى الاتجاهات، آلة تختبر بها البيضة إذا ما كانت طازجة دون أن تفتحها، مادة للبناء مصنوعة من قشر الأرز المهمل، آلة متحركة للتصوير تستطيع أن تلتقط 60. 000 صورة في الثانية وهي سريعة بحيث تصور حركة الموجات الصوتية.
وهناك جامعة غريبة ليس غرضها تعليم الفنون وإنما غرضها الرئيسي الابتكار والاختراع. وقد أخذتني الدهشة عندما دخلت بعض الدور حيث كانت تجرب وتختبر بعض الاختراعات الحديثة؛ فهنا أحد الباحثين الذين يبحثون في تركيب المطاط، وباحث آخر يجرب دهاناً للتلوين لا تكون له قشرة، وثالث يختبر مادة من الأسمنت لا تتشقق، ورابع يجرب عضواً آلياً يتحرك بنفسه دون أن يمسه أحد، فقط إذا ما مرره أحد يده خلال الهواء. وقد دخلنا مخزناً يشبه الثلاجة كانت درجة حرارته 40ْ فرنهيت تحت الصفر فتساءلت عن الفكرة في ذلك فعرفت أن الغرض من ذلك هو إيجاد جو يشبه شتاء منشوريا تجرب فيه مدى تحمل بعض المواد في مثل هذا الجو، وقد دخلنا غرفة أخرى كانت حرارتها عالية تبلغ 110ْ ودرجة رطوبتها 85 % وهي تمثل المناخ المداري داخل أربعة جدران، وانك ترى أن اليابان قد امتدت إلى المنطقة المدارية. ومن يدري لعلها تمتد في أحد الأيام إلى المنطقة الحارة. وعلى كلٍ فيجب علينا أن نستعد علميا لذلك اليوم إذا ما جاء، ولذلك فقد
أنتجنا مواد للبناء وأطعمة وملابس وأدوية تلائم مثل هذه الجواء، ثم ذهبنا إلى أحد أقسام الهندسة حيث كانت تمارس بعض التجارب لبناء منازل من الحجر والصلب تتحمل هزات الزلازل وضربات القنابل، فإننا نعلم أن اليابان معرضة للغزو من الجو ولكن سيذهل العدو حينما يحس بالمقاومة العجيبة لمنازلنا الحديثة وهو فوق كبرى مدننا.
ويبدو لنا أن كل ياباني ينظر بإحدى عينيه الآلة التي في يده وبعينه الأخرى إلى السياسة الدولية، فقد قال الدكتور (كيفوشيتا) نحن نحب اليابان أولاً ثم العلم ثانياً. هذه هي أعظم نواحي اليابان العلمية خطراً ذلك أن يقتصر العلم على نفع اليابان دون العالم، فالعالم الحقيقي هو الذي يصادف انتشار المعرفة الإنسانية هوى في نفسه ولذة دون أن يحسب حسابا للحدود السياسية، ولكن لشد ما يدهشك من العالم الياباني أنك تراه يعتقد بهذه الأسطورة الخيالية التي تشير بأن الإمبراطور هو من سلالة آلهة الشمس، ولذلك فهو يستمد حقه الإلهي في حكم الأرض.
وقد أرهقت الحرب قوة الاختراع في اليابان، فقد تفادوا النقص في الحديد بصنع الراديو والمفصلات وقبضات أيدي الأبواب بالورق لمضغوط، واستعاضوا عن اللبد بمادة مصنوعة من عشب البحر والأصداف، وأنتجوا من قشرة السمك جلوداً يستعيضون بها عن النقص في الجلود، ولنقص الصوف صنعوا شيئاً يماثله من مادة السوباتين، ولحاجتهم لإبر الفونوغراف استعاضوا عن الصلب في صنعها بمادة البامبو، وصنعوا الدراجات من الورق المقوى بدلا من الحديد؛ وقد أنشئوا سيارات تسير بفحم الحطب بدلا من الجازولين.
والبحث عن اللآلئ هو أعظم أعمال اليابانيين مهارة، وفي العادة قد توجد في كل بضعة مئات من ألوف الصدف صدفة واحدة تحوى لؤلؤة، وأنه لأيسر أن نبحث عن إبرة في كومة من القش عنه في بحثنا عن لؤلؤة في داخل صدفة. وأنها لحيرة مسلية أن تزور إحدى مناطق اللآلئ، حيث ترى الفتيات يغصن لمسافات عشرين قدما في قاع البحر ليجلبن الأصداف التي توضع في قصعة ثم تؤخذ إلى المعمل لفحصها.
وقد كان منزلنا المصنوع من الورق على شاطئ البحر في هياما منزلا جميلا ولكنه لم يكن مريحاً، وكان علينا أن نعيش فيه عاما على أقل تقدير تلك الحياة التي يعيشها اليابانيون لنستطيع أن نفهمهم حق الفهم، ولكننا أحضرنا في نهاية ذلك العام بعض وسائل الراحة
كالأسرة والمناضد والكراسي والمدافئ. ولتتخيل معي ليلة من ليالي الشتاء الرطبة في بيت بابه من الورق خال من المواقد اللهم إلا من موقد مملوء بالرماد الذي يعلوه بعض حطم الفحم الملتهب. ولا يمكننا أن نشعر بالدفء إلا إذا اقتربنا من اللهب؛ فصفير الهواء لا ينقطع من خلال شقوق المنافذ، وفي هذه الحال يمكنك أن تغلق النافذة الخشبية الخارجية، ولكن سرعان ما يسود الغرفة بذلك ظلام حالك. ومع ذلك يظل الهواء البارد نافذاً إلى الغرفة من خلال أرضيتها. ولكي تدفأ فعليك أما أن تنام أو تظل في حركة مستمرة؛ ولكن الإنسان لا يستطيع أن يظل في فراشه طويلا، وعلى ذلك يصبح الرد الطبيعي هو العمل. وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي يعزى إليها نشاط اليابانيين الدائم، فخير للياباني أن يحرث ويزرع في الحقول الملائ بالطين من أن يستكن في منزله، ولكن لسوء الحظ ليس لديهم حقول يزرعونها. وإن النتيجة الطبيعية لهذه الحياة الصعبة أن العسكري الياباني أصبح لا يحس في الميدان ذلك الإرهاق والضيق اللذين يحسهما الجنود الذين تعودوا حياة أرقى في مستواها.
وفضلا عن ذلك فإن اليابان يعوزها تقدير الحياة البشرية؛ فنحن نؤمن بأن نعيش لوطننا ولكن اليابانيين يؤمنون بالموت في سبيل وطنهم، فهم يتعلمون منذ نعومة أظفارهم بأن الفرد لا قيمة له. ولا يؤمنون بمذهب الفردية بل بمذهب الجماعة، فاليابانيون يميلون إلى العمل الجمعي وقد برعوا فيه. ولا يحكم اليابان دكتاتور بل يحكمها جماعة من الأفراد، وإمبراطورها يمثل رمزاً مقدساً. وإذا ما علا صيت أحد أفراد الحكومة أو علت منزلته فانه كثيراً ما يغتال. ويستذكر الطلبة دروسهم جماعة. وهناك مثل ياباني يقول:(إن يابانياً واحداً غبي واثنين غبيان)، وتتكتل جيوش اليابانيين جماعات، وهذه أحد الأسباب التي يعزى إليها بطولتهم في الحروب. وتبدو مهارة الطيار الياباني عندما يعمل مع سربه ولكنه حينما ينفرد يفقد ميزته كطيار ولكنه قلما ينفرد في حرب الجو أو في البحر والبر لأنها جميعاً تتطلب العمل الجمعي.
والانتحار شائع بينهم بكثرة، لأن الفرد يعتقد أنه لا يستحق وجوده أو يستأهل حياته إذا لم يحتفظ بنفسه كريمة بين أقرانه. وإن من المبالغة أن نذكر أن الجندي الياباني يرغب في الموت، بل أنه يفضل أن يعيش، ولكنه قد أشرب دمه فلسفة الموت تماماً. ولم يعلم حكمة
البقاء التي تتيح له أن يحارب مرة أخرى في يوم آخر، فالجيوش اليابانية لم تدرب على خطط الانسحاب، لأنه لا يدور بخلدهم أن ينسحبوا. وقد صدرت التعليمات إلى الجنود بأن خيراً لهم أن يموتوا من أن يقعوا أسرى حتى لا تلحق برعاياهم الحطة والمذلة إذا ما أسروا، ولكن أي فخر قد يصيبهم عندما تعود أشلاءهم إلى الوطن، حيث تأله في معبد (باسوكوني) المقدس الذي يتوجه إليه الإمبراطور بنفسه، لينحني أمامه على روح هؤلاء الجنود الشهداء الذين ضحوا في سبيله.
عمر رشدي
نظرية كونفوشيوس الدينية
للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني
1 -
هل كونفوشيوس نبي؟
أعتقد الشعب الصيني في ذات كونفوشيوس منذ قدم الزمن اعتقاداً جازماً ما اعتقده اليهود في موسى والمسلمون في نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وعظموه تعظيما لا يقل عن تعظيم النصارى لذات المسيح والبوذيين لذات بوذا، فأقاموا له الهياكل والمعابد يتقربون إليه في أعياد ميلاده ووفاته، ونصبوا له التماثيل والنصب والأخشاب التي كتب عليها اسمه يقدسونه ويعبدونه، وخصوصاً في الأيام الملوكية. قبل ثلاثين سنة كان الأطفال والتلاميذ الشباب يذهبون إلى المدرسة القديمة الطراز ويركعون له ركعات ويطلبون منه التوفيق والإلهام، كما فعله المتدينون لإلههم المقدس بديع السموات والأرض وما بينهما. ولكن الواقع لم يكن كونفوشيوس نبياً مرسلا بمعنى أنه يوحي إليه بالحق ليبلغه الناس، ولم يدع ذلك بل أنكر أن يكون نبياً وذا مروءة. قال في الفصل السابع من كتاب الحوار:
(أما الأنبياء الحكماء وذوو المروءة، فكيف أجترئ على إدعاء رتبتهم؟ وغاية ما يجوز أن يقال في هي أنني رجل يعمل جهده من غير ملل، ويعلم غيره من غير تعب. فقال كونغ اسى هوا (أحد تلاميذه): وهذا هو الذي لا يمكن أن نتعلمه)
غير أن المسلمين ما داموا اعتقدوا أن هناك أنبياء لم يقصص الله علينا اخبارهم، كما نص القرآن الحكيم، وما داموا اعتقدوا أن لكل أمة نبياً أو أنبياء يرشدونها إلى سواء السبيل، وما داموا اعتقدوا أن الأنبياء يزيدون على مائتين وعشرين ألفاً، فإن كونفوشيوس قد يكون منهم، لأنه يعرف الإله مدبر الكون، وإن لم يتصد لتعليمه الناس، ولأنه يقيم نفسه للحق ينشره بين الناس ليرجعوا إليه في كل معاملاتهم، ولأنه يبين لهم الآداب الفاضلة ليتخلقوا بها، والأعمال الفاسدة الرذيلة ليتجنبوها، فهو مصلح للأمة متدرج من الأفراد والأسر إلى المجتمعات، وليس كالسياسي، يعالج أمراض الأمة الظاهرة من الخارج لا من الأساس، فهو ني من الأنبياء، قد عمل أعمالهم وأدى واجبه كما أدوا، بقطع النظر عن تعظيم الشعب الصيني له وإجلالهم إياه فوق ما يجب
2 -
هل الكونفوشيوسية دين؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال فريق: إن التعاليم الكونفوشيوسية هي دين كسائر الأديان في العالم، لأنها لا تخلو عن الإرشادات القيمة التي تحض الإنسان على عمل الخير، وترك الشر، والتي تدعوه إلى الحياة السعيدة الهنيئة بالتحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وهي تأمر الناس بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وهي النصيحة عينها. وهذه الأشياء من خصائص الدين وغايته، فهي دين بلا شك، وهذا الفريق هو الذي يريد أن يجعل الكونفوشيوسية ديناً رسمياً للحكومة الصينية والشعب الصيني
يقول الفريق الآخر: إن التعاليم الكونفوشيوسية إنما هي فلسفة عالية وحكم غالية كسائر الفلسفات في الأخلاق والسياسة وليست ديناً، لأنها لم تبحث عن الإلهيات كوجود الإله وصفاته وأفعاله، ولا المغيبات كالجنة والنار والثواب والعقاب، ولا الصلة بين الله والإنسان ولا بينه وبين الموجودات. يقول تس كونغ أحد تلاميذه النوابغ:
(يمكن أن تسمع أحاديث الأستاذ في الفضائل والآداب، ولا يمكن أن تسمع أحاديثه في النفس الإنسانية والسنة السماوية). الفصل الخامس من كتاب الحوار: (كان الأستاذ قلما يتحدث عن المنفعة والقضاء والقدر والمروءة). التاسع من الكتاب.
(كان الأستاذ لا يتحدث عن العجائب والقوى والاضطرابات والآلهة). السابع منه
فما دام كونفوشيوس لم يتحدث عن هذه الأشياء التي هي من مهمات الدين وميزاته، أو قلما يتحدث عنها، فكانت تعاليمه ليست بدين، بل هي فلسفة بلا شك، وهو فيلسوف كأفلاطون وكانت وغيرهما.
وعلى كل حال، فإن التعاليم الكونفوشيوسية مزيج من الاثنين لا هي بالمبادئ الدينية المحضة، ولا الآراء الفلسفية البحتة، وشأنها شأن الفلسفات القديمة التي تبتدئ بالخرافات والأساطير، ثم تمتزج بالحكم الدينية
3 -
دين الصين القديم
إذا كانت التعاليم الكونفوشيوسية مزيجاً من الدين والفلسفة فلابد أن نعرف حقيقة الدين الصيني القديم الذي قبل كونفوشيوس حتى نتبين هل نظريته الدينية كلها نظريات قديمة أو عقائد قديمة أم للفيلسوف كونفوشيوس رأي خاص أو نظرية خاصة غير العقائد التي
اعتنقها السواد الأعظم من الشعب الصيني في تلك الأزمان الغابرة؟
يعتقد قدماء الصينيين أن السماء جوهر حي عليم قادر مدبر الكون نافذ الإرادة في النفوس وسائر الكائنات، واعتقدوا القضاء والقدر وقالوا إن العاصفة والطوفان والقحط والزلزال والمجاعة كلها آيات السماء تنذر بها الملوك إذا جاروا على الرعية أو قصروا في حقوقهم وعبادة السماء خاصة للملوك ولا تتعدى غيرهم.
يعتقد قدماء الصينيين أن للكائنات السماوية والأرضية آلهة أو ملائكة أو أرواحا تدبرها وتصرفها كيفما تشاء، فالشمس والقمر والسحاب والمطر والجبال والأنهار وما شاكلها من الكائنات يكون لكل واحد منها إله أو ملك أو روح يعبده الناس، ولكن عبادة آلهة الأرض والجبال والأنهار مخصوصة للأمراء وحدهم.
وكذلك يعتقدون أن في المنزل آلهة للغرف وأرواحاً للأموات، ويزعمون أن روح الإنسان تبقى في الدنيا بعد موته، وتشتاق إلى العودة إلى أسرته والعيش مع أفرادها في الغيب، فهم يعبدونها ويقدسونها ويقدمون إليها القرابين، وهي عبارة عن أنواع الأكل والشرب المشتهيين على مائدة منسقة، وهذه العبادة يشترك فيها الشعب والملك والأمراء لا فرق بينهم إلا بالكثرة والقلة.
والصينيون القدماء لا يعتقدون الجنة والنار، وإنما يعتقدون الجزاء في الدنيا إن خيراً فخيرا وإن شراً فشر. وقد يتعدى جزاء شخص إلى أبنائه أو أحفاده والكل يرجع إلى السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا
4 -
نظرية كونفوشيوس في الآلهة والأرواح:
قبل أن نتكلم عن نظريته في الآلهة والأرواح يجب أن نبين للقارئ أن المصدر والمرجع فيما يقول منحصر في كتاب الحوار الذي ألفه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه، لأن الكتب التي صححها الفيلسوف كونفوشيوس، ولخصها ورتبها بنفسه، وإن كانت في نظريات فلسفية قيمة في مبدأ الكون ومصيره والإله وأفعاله، كتب قديمة لا يعتمد عليها فيما إذا بحث عن آرائه الخاصة وأفكاره الشخصية، وأما كتاب الحوار، فانه مشتمل على أقواله وأفعاله واعتقاداته، فإذا بحث عن نظرياته الخاصة يجب الاعتماد عليه
يعترف كونفوشيوس ببقاء الأرواح بعد خروجها من الأجساد ووجوب تقديم القرابين إليها،
فلذلك كان (إذا دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء) الفصل لعاشر من كتاب الحوار
(كلما دخل الأستاذ الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. قيل: من ذا الذي يزعم أن ولد الرجل المنسوب إلى بلدة تساو يعلم الآداب؟ كلما دخل الهيكل العظيم سأل عن كل شيء. فلما سمع الأستاذ هذا التهكم قال: هذا من الآداب أيضاً). الثالث من الكتاب.
(كان الأستاذ يقدم القرابين إلى أرواح آبائه وأجداده كأنهم حاضرون، ويقدم القرابين إلى الآلهة كذلك كأنهم حاضرون. قال الأستاذ: إذا قدم القربان أحد غيري نائباً عني فكأنه لم يقدم قط). الثالث من الكتاب
وكان يصوم قبل تقديم القربان
(وكان إذا صام لبس ثياباً من الكتان نظيفة بهية وغير طعامه ومجلسه في الغرفة). العاشر منه
(وكان مما يحتاط فيه الأستاذ الصيام والحرب والمرض). السابع منه.
(البقية في العدد القادم)
أبو بكر هوغانجين الصيني
الشعلة المنقذة
لمكسيم جوركي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(إلى الأبطال الذين يضحون بأنفسهم في الوقت المناسب
ليصونوا قومهم من الانهيار: أهدي هذه القصة آية تقدير
وإعجاب)
(م. خ. ا)
منذ عهد سحيق كانت إحدى القبائل الرحالة تضرب خيامها في بقعة مجهولة تحدق بها غابات ألفاف، لكنها تنحسر عن هذه البقعة في جهة من جهاتها، فتمتد أمامها في تلك الثغرة سهول فسيحة.
كان أفراد تلك القبيلة يمتازون بالقوة والبسالة، كما يمتازون إلى جانب ذلك بالقناعة، فأقاموا ما أقاموا في تلك البقعة وهم ينعمون ببسطة العيش ورغده. وذات يوم هاجمتهم قبائل آخر أقوى منهم بطشاً وأشد عتياً، فأجلتهم عن منازلهم إلى غابة هي أكثف الغابات، وآسها ماء، وأحلكها ظلاماً. فقد كانت فروع الأشجار في تلك الغابة التي نزحوا إليها قد مرت عليها العصور تلو العصور وهي تمتد وتتشابك حتى حجبت ما بين الأرض والسماء، حتى أن الشمس كانت إذا طلعت عليها لم تنفذ منها إليها إلا أشعة ضئيلة، وكانت هذه الأشعة إذا هبطت على المستنقعات نفثت أبخرة قاتمة كأنها السموم.
تتابعت النكبات على القبيلة، فكان أفرادها يتساقطون تحت أثقالها هالكا إثر هالك، ودب الملل إلى نفوس النساء والولدان، وران الألم على قلوبهم فضجوا بالشكوى والبكاء مما هم فيه، وتنادوا إلى الآباء والأزواج أن يخرجوهم من هذه الغابة المنكودة التي تورطوا فيها مؤثرين الموت خارج الغابة على الموت انتظاراً فيها
كانت عزائم الرجال منحلة، وقلوبهم قد أشربت اليأس بما تتابع عليها من الأرزاء، ففقدوا كل أمل في النجاة من مصيرهم المشؤوم. ولقد فكروا ثم لم يقعوا على وسيلة للنجاة، وكانت
نهاية الإغراق في التفكير أن وجدوا أمامهم منفذين عقباهما الفناء المحتوم، فإما أن يعودوا إلى منازلهم الأولى التي أجلاهم عنها أعداؤهم فيكروا عليهم ويقاتلوهم ليخرجوهم منها كما أخرجوهم، ولكنهم رأوا أنهم لا قبل لهم بأعدائهم، فلا جدوى من العودة، وأما أن يخرجوا من الغابة إلى مكان آخر، ولكنهم رأوها متشابكة حصينة لا سبيل إلى النفاذ منها، فلا جدوى من محاولة الخروج
لم يجدوا بدأ من البقاء حيث هم، فأقاموا في شر حال، وكانوا يتهاوون تحت الآلام كما تتهاوى الأصنام في جمود أخرس كئيب، وكانوا إذا جن الليل أوقدوا النيران لتدخل إلى قلوبهم شيئاً من الأنس والسكينة، فلا تزيدهم إلا وحشة واكتئاباً، فتنقل عليهم الذكريات القديمة يوم كانوا ينعمون بالطلاقة والعيش الرغيد في جنبات السهول الفسيحة المترامية الآفاق، وفي ظلمات الليل كانت الأعاصير تعصف بأصواتها الرهيبة المنكرة، فتملأ جوانحهم هولا ورعباً.
أنهم لم يفروا أمام أعدائهم لنقص في شجاعتهم ولا لجهل منهم بأساليب القتال، بل أنهم آثروا الانسحاب حتى لا يستأصلهم الأعداء استئصالا، فيفنى بفنائهم تراث أسلافهم لو أنهم استمروا على الحرب. لقد سحقتهم النكبات سحقاً، غير أنهم لم يستطيعوا أن يسلوا ما نعموا به من رغد وحرية، فأرقتهم الهموم الثقال، وكانوا يقطعون الليالي بطيئة وهم ساهرون يفكرون فيما آل إليه حالهم من تعاسة وعذاب، وكانت الغابات من حولهم تتجاوب بالعزيف والعويل، وأشباحهم تتراقص حول النيران، وتتصاعد مع الأدخنة الملتفة كأنها أرواح شريرة، فتنخب في عزائمهم وتوهن من شجاعتهم، فتنطلق ألسنتهم بالسب والتجديف دون حساب. وفي نوبة من النوبات التي يطيق فيها اليأس على القلوب فيأخذ بمجامعها تشاور أفراد القبيلة، ثم قرروا أن يرجعوا إلى أعدائهم الذين أجلوهم عن منازلهم، ليستسلموا إليهم متنازلين عن حظهم من الحرية والكرامة، مفضلين الموت بأيدي أولئك الأعداء القساة عن حياة الأسر في الغابة.
وإذ ذاك برز من بين الصفوف شاب باسل وسيم كان القدر قد هيأه لهذه الساعة الحرجة كي ينقذ القبيلة من مصيرها التعس! كان اسم ذلك الشاب (دنكان)، وكانت تلوح على وجهه علائم البسالة والعزة والصرامة! نهد ذلك الشاب واقفاً أمامهم وخطب فيهم قائلا.
(أيها الرفاق! إن مشكلتنا لعسيرة، ولن يحلها التفكير العقيم، ولن تفتح لنا الثرثرة سبيل النجاة، ولن تجدي الشكوى والدموع شيئاً لرفع ما نحن فيه من البلاء. حذار أن تسرفوا في التفكير الأجوف، والثرثرة الفارغة، فتذهب قوتكم، ويضيع وقتكم سدى. لنستجمع شجاعتنا وقوتنا، ولنتهيأ للضرب في غياهب هذه الغابة حتى نجتازها إلى نهايتها. أنها لابد منتهية، لأن لكل شيء في الكون نهاية. أيها الرفاق الأمجاد! عليكم بالصبر والإخلاص والشجاعة، ولا سيما في المراحل الأولى! ولتكن عزائمكم راسخة، وخطاكم ثابتة جبارة!
كان أفراد الغابة مقبلين بفتور عندما وقف (دنكان) ليلقي فيهم خطابه القوي. ثم رأوا في وجهه وفي نبرات صوته آيات الثبات والإخلاص والبسالة، فسرى فيهم الإخلاص والحماسة، فآمنوا أنه أفضلهم وأقدرهم على قيادة القبيلة في طريق الخلاص، حتى أنها لم يكد يفرغ من خطابه حتى صاحوا: امض بنا راشداً فنحن على آثارك مقتدون!
حينئذ سار (دنكان) مؤمناً بالفلاح والظفر والخلاص، واتخذ أفراد القبيلة طريقهم من خلفه وفي قلوبهم من الإيمان مثل ما في قلبه. لم تكن الطريق بالممهدة ولا المأمونة، بل كانت عقباتها كثيرة، وأوحالها عميقة، يمكن أن تبتلع في كل خطوة بضعة أشخاص، وكانت تعترضها الأشجار الكثيفة التي تسبح فوقها الحيات صاعدة هابطة، وهي ترسل عليهم من فوق رؤوسهم فحيحها الرهيب.
وكانت جلودهم تنضح بالعرق، وجروحهم تسيل بالدماء، وأعصابهم وعضلاتهم تفيض بالكلل والإعياء، ومع ذلك استطاعوا أن يقطعوا مسافة طويلة دون ضجر ولا استياء
ولكن الأيام تتابعت فازداد بتتابعها وقع المتاعب على النفوس والأجسام، وأحس أفراد القبيلة بخور في عزائمهم وتهافت في قواهم، فتناسوا ما عاهدوا (دنكان) عليه، وأقبلوا إليه يزفون وقد ملئت صدورهم ضغينة وحقداً، وصاحوا في وجهه:(أيها الشاب الطائش! لقد انتهى بنا حمقك إلى الخراب، فليتنا ما سمعناك وما أطعناك!)
لكن (دنكان) رغم سخطهم عليه ولومهم إياه وضيقهم به لم يهن ولم يفتر، بل بقي كما كان، عامر القلب بالأمل والإيمان، وسار يقود الصفوف الثائرة بعزيمة وطيدة وخطاً راسخة.
ثم أقبلت أمسية! كانت الغابة في تلك الأمسية رهيبة قاسية، فقد تعالى في جنباتها هزيم الرعد، وأطبقت عليها الظلمات الحالكة، وقد تراكم بعضها فوق بعض كأنما احتشدت فيها
الليالي جميعاً بظلامها منذ كان العالم. كان القوم التعساء في تلك الأمسية يسيرون في سكون كئيب، فيتعثرون حيناً، ويتصادمون حيناً، وقلما كانوا يستقيمون، وكان الخوف قد أزاغ قلوبهم، وجمد الدماء في عروقهم، وخيل إليهم أن فروع الأشجار المعترضة في طريقهم إنما هي أيد عارية تمتد إليهم في الظلام لتختطفهم عن أيمانهم وعن شمائلهم.
وضاقوا أخيراً بما حاق بهم من كلال ولغوب، فأقبلوا على (دنكان) يوسعونه سباً وشتما حتى لا يعترفوا بالضعف على أنفسهم وقالوا له:(أيها الشاب الأحمق! لقد خدعت نفسك وخدعتنا، وأنا لنراك فينا ضعيفاً، وما أنت بالزعيم الذي يصلح لقيادتنا والإمرة علينا).
ثم وقفوا حيث انتهوا وقد طفحت قلوبهم بالحقد والموجدة على (دنكان)، وكانت الظلال تتراقص في الغابة حول القوم، والأشجار تردد أناشيد الفوز والشماتة، بينما انصرف القوم لمحاكمة (دنكان) على ما غرر بهم، وكبدهم من مشقات، ثم أفضوا إليه بحكمهم قائلين:(أنك لغادر أثيم! وقد ثبت لنا أنك امرأ سوء بما أوردتنا من موار التهلكة، فجزاؤك أن تموت!)
وأمنت أصداء الغابة وقصف الرعد وحفيف الأشجار على حكم القوم قائلة: (جزاؤك أن تموت!) في تلك الآونة الرهيبة الحرجة وقف (دنكان) أمام القوم في شجاعة واطمئنان، وكشف عن صدره، وصاح فيهم قائلا:(يا رفقائي: لقد طلبتم إلي أن أكون دليلكم فكنته، وإن لدي من القوة والجرأة ما يهيئني لقيادتكم، ولقد أردتم مني أن أسير أمامكم فسرت، وكنت لكم مرشداً وعليكم حفيظاً، ثم سرتم ورائي كما تسير قطعان الغنم وراء دليلها دون أن تكون لديكم مسكة من صبر وجلد. . .)
ولم يتركوه ليكمل حديثه إليهم، بل صاحوا في وجهه حانقين:(لابد أن تموت! لابد أن تموت!)
كان (دنكان) ينتظر من قبيلته أن يوفوا بعهدهم الذي عاهدوه، وأن يعرفوا له فضله ونبل مقصده، وما كان له أن ينتظر منهم هذا الجزاء السيئ الذي يدل على منتهى الكفر والكنود. لقد محضهم حبه ونصيحته، ومن أجلهم غامر بحياته، وضحى براحته وقوته، ثم هاهو ذا يرى نفسه فيهم وحيداً مخذولا مذموماً وهم به محدقون يطالبون بدمه دون أن أمل في عدل، ولا طمع في رحمة. وهاج (دنكان) ولكنه سرعان ما سكن وأناب، إذ كان ما يزال حفيظاً
على حبهم حريصاً على سعادتهم، رغم أنهم يهمون بقتله، فتحرك حبه وإيمانه، وبرقت عيناه بالجرأة والثبات حتى لقد ظنوا بريق عينيه آية جنونه، فأقبلوا عليه في قسوة وضراوة ليشدوا وثاقه، ولاح واضحاً (لدنكان) ما يكنون له من ضغينة وبغض رغم ما يذخر به قلبه من الحب والإخلاص لهم فتهيأت له فكرة أزمع على إنفاذها
في تلك الآونة طففت جنبات الغابة المترامية الحالكة تردد أناشيد الموت، وأخذت العواصف تزأر والرعود تجلجل والأمطار تنهمر في أصوات هائلة منكرة، غير أن (دنكان) صاح صيحة مروعة غطت على جميع الأصوات في الغابة قائلا لقومه:(لقد عرفت الآن واجبي نحوكم، وسأعمل حالا على إنفاذ رغباتكم، فكونوا راضين)!
وأقبل بكلتا يديه على صدره فمزقه تمزيقاً، ثم انتزع قلبه، وحمله بيده فوق رأسه، ودهش قومه حين رأوا الدماء المتفجرة من قلبه قد حالت أنواراً متوجهة كأنها الشمس، فبهرت كل ما تضم الغابة، حتى لقد أصيب كل ما فيها بالصمت والسكينة. وخر الرجال جثياً كما تخر الصخور، فصاح (دنكان) فيهم صيحة أخرى قائلا:(أيها الرفاق! سأمضي أمامكم، فانطلقوا من خلفي صابرين، وأشفقوا علي كما كنت عليكم شفيقاً!)
وانطلق (دنكان) أمام القوم، فساروا وراءه في صمت وذهول، وكان ما يزال قابضاً على قلبه الذي اندلعت منه الأنوار فهتكت حجب الظلام وأنارت الطريق للسارين من خلفه. كانت الغابة ما تزال يتردد فيها زئير العواصف وهزيم الرعود وخرير الأمطار، لكن وقه أقدام السارين كان يغطي على كل أصوات الغابة. لقد كان القوم منطلقين إلى الأمام، وقد سحرتهم الأنوار الساطعة من ذلك القلب المشتعل. وكانوا يتساقطون موتى كما تتساقط الأوراق الجافة دون تذمر ولا عويل.
وما زال (دنكان) منطلقاً أمام القوم والأنوار تتفجر من قلبه الذي صار شعلة حتى بلغوا نهاية الغابة!
وهناك. . . هناك انفتح أمامهم منفذ فسيح، فنفذ إليهم النور الباهر والهواء الطلق، بعد أن لبثوا ما لبثوا غرقى في المطر المنهمر والظلام الكثيف. وأداروا عيونهم عندئذ إلى الوراء، فرأوا الغابة يطبق عليها الظلام، ويجلجل فيها الرعد ويلمع البرق، ثم التفتوا أمامهم حيث انتهوا، فرأوا أمامهم الشمس تسكب أشعتها على سهول فسيحة معبدة قد وطئت لهم، تتخللها
الأنهار التي تترقرق فيها أمواهها الفضية الصافية.
كانت الشمس عندئذ توشك أن تغيب، وعندما انحدرت أرسلت أشعتها الصفر على المياه المترقرقة، فلاحت كأنها الدماء الدافقة من الجرح المنفتح في صدر (دنكان) الجسور. وعندئذ رفع (دنكان) رأسه في إباء، وأجال نظره في السهول الممتدة أمامه، وقد تملكته نشوة غبطة ورضا وخيلاء. وخر في تلك اللحظة صريعاً على الأرض، وقبل أن يطلق نفسه الأخير هتف قائلا:(ما أشهى الموت فيك يا أرض الحرية والكرامة!)
وكأنما روحه القوية حلت في الغابة، فارتجفت حينئذ أشجارها وسمع لها أنين وعويل
وانتشى القوم غبطة بالخلاص في نهاية الرحلة، حتى لقد نسوا (دنكان) وفضله عليهم، فلم يسؤهم موته، ولم يأبهوا حتى بقلبه الذي كان في تلك اللحظة يشرق عليهم ويباركهم وهو مطروح بجانب جثته الساكنة الخرساء، لولا أن واحداً منهم دلف إليه في خوف وحذر، وأرسل يمينه نحو ذلك القلب المشتعل، وما قارب يمسه بإصبعه حتى انفجرت تلك الشعلة، ثم تلاشت أنوارها في الفضاء. . .
لقد أدت الشعلة واجبها، ثم صعدت لتستريح في السماء!
محمد خليفة التونسي
4 - نظرات
في دائرة المعارف الإسلامية
الترجمة العربية
للأستاذ كوركيس عواد
وجاء في 528: 3 اقوله: (الخترانية نسبة إلى الطسوج الذي كان موجوداً بين برس وبابل وحلة). قلنا: لا يعرف طسوج بهذا الاسم. وإنما ذكرت (الخطرنية) وقد قال فيها ياقوت (معجم البلدان: 453) أنها ناحية من نواحي بابل العراق.
وفي 3: 555 ا 15 كرنيكا. وكان يحسن أن يقال فيها: (القيروان) فهو الاسم العربي لتلك البقعة.
وفي 3: 683 ا 8 ورد قوله: (وقد وجد في قيونلك نقش بارز). قلنا: الصواب (قوينجق) وهو تل عظيم مرتفع في شرقي مدينة الموصل، في بقعة نينوى. بدأ علماء الآثار ينقبون فيه منذ عهد بعيد، أي منذ مائة سنة (1842م) وظلوا يعملون فيه سنين عديدة كانت خاتمتها سنة 1931.
ومما قرأناه في 3: 683ب 17 قوله: (ومن الواضح أن هذا الخور هو عين أغما ربتا. وهي كلمة آرامية معناها البطيحة الكبرى). ولو قال: (الأجمة الكبرى) لطابقت الترجمة اللفظة الإرمية التي ذكرها.
وورد في 3: 86 ا2 - 3 قوله: (واسط وموقعها الآن كوت الحي؟) هكذا بوضع إشارة الاستفهام. وكان يحسن التعليق على هذه العبارة البعيدة عن الصحة.
وفي 3: 686ا 25 غفج. صوابها: عفج (بالعين المهملة).
وفي 3: 686ا 26؛ 3: 686 ب 1و2؛ 3: 89 ا 5و12و22 ورد اسم (ناحية لملون) و (بطائح لملون). والصواب في كليهما، على ما أفادني الأستاذ المحقق يعقوب سركيس (لملوم) بميم في الآخر. وهذا التصحيف من كاتب المقال الأصلي لا من المترجم.
وفي 3: 688ب 11و23 عمارة. والأحسن أن تكتب العمارة (بزيادة أل التعريف). وهي مدينة عرقية مشهورة في وقتنا.
وكذلك جاء في 3: 691 ا 10 كوت العمرة، وصوابها: كوت العمارة.
ونعلق على ما ورد في الحاشية 2 من 4: 3 اأنه لم يتحقق أن لفظة بغداد إرمية الأصل، فالمسألة ما زالت موضوع بحث بين العلماء.
وفي 4: 4ب 6 الحر. صوابها: الخر (بالخاء المعجمة).
وفي 4: 6ا 18 محلة المخرم. قلنا: ضبطتها ياقوت الحموي (معجم البلدان 4: 441) بكسر الراء وتشديدها، أي المخرم.
ووردت العبارة التالية في 4: 20ب1 (ويخترقها (يخترق بغداد) دجلة، كما كانت في السابق، فيشطرها شطرين، يسمى الأيمن منها بالرصافة ويدعى الثاني بالكرخ). قلنا: الصواب بعكس ذلك، فإن الأيمن (الجانب الغربي) هو الكرخ والأيسر (الشرقي) هو الرصافة.
وفي 4: 21 ا 10 قوله: (وبعض غرف من قصر المأمون (ببغداد) في القلعة المدفعية). قلنا: كان يحسن القول أن نسبة الغرف إلى قصر المأمون من أوهام العامة، وإلا فانه لم يثبت حتى الآن في التاريخ، صحة نسبة تلك البناية إلى مشيد معلوم.
وفي 4: 250 ا 25 وادي الزرم. صوابه: وادي الرزم (بتقديم الراء على الزاي).
وفي 4: 253 ا 1. . . 2 جرذاقيل وزوزانه. صوابهما: جرذقيل والزوزان.
وفي 4: 280 ا 5 و276 يبث وأزيك. صوابها: يبث وازيق (بالقاف) وهو ما يطابق النسبة الإرمية لهذا الموقع.
وفي 4: 280 ا 11 طهران. صوابها: الطيرهان. وشتان ما بين الموطنين. فأولهما مدينة في إيران، والثاني بلدة كانت على دجلة بالعراق قرب تكريت، وهي اليوم مندرسة.
ثالثاً: الكتب والمراجع
كان ابتداء المستشرقين بتأليف دائرة المعارف الإسلامية سنة 1913، وابتداء اللجنة بترجمتها إلى العربية سنة 1933، أي بعد ذلك بعشرين سنة، ومعنى هذا أن طائفة حسنة من المصنفات القديمة قد تم نشرها أو أعيد طبعها خلال تلك المدة. فكان حرياً باللجنة أن تشير في تعليقاتها إلى ما طبع منها عند التعرض لها في المتن، ليكون القارئ على علم وثيق بما ظهر منها، وليكون عمل المترجم جزءا متمما لعمل المؤلف، وهو غاية ما يبتغي
في هذا الميدان.
وسنذكر فيما يلي بعض ما وفقنا عليه عرضاً، مما قد يكون في إضافته أو تعليقه فائدة، فنقول:
في 1: 17 ا 10 يضاف إلى المراجع المذكورة بعد ترجمة أبان بن عبد الحميد: كتاب الأوراق للصولي 1: 1 - 52
كما أن بعض مؤلفات ابن أبي الدينا، المذكورة في 1: 72 - 73 قد نشرت، نذكرها منها: كتاب مكان عاش بعد الموت (القاهرة 1352هـ) وكتاب الشكر (القاهرة 1349هـ)
وفي ترجمة ابن طيفور 1: 81 ب، تضاف المراجع التالية:
1 -
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1: 211 - 212).
2 -
معجم الأدباء لياقوت الحموي (1: 152 - 157 مرجليوث).
وفي 1: 195 ا 6 كتاب روضة الجنات، صوابه: روضات.
وفي 1: 119 ا 21 - 26 ليت المترجم قال أن كتاب النشر في القراءات العشر لابن الجزري طبع في دمشق سنة 1345هـ.
وفي 1: 119ب14 كتاب منجد المقربين ومرشد الطالبين وصوابه. منجد المقرئين الخ. وكان مفيداً أن يذكر بأنه طبع في القاهرة سنة 1350هـ.
ومما كان يجدر ذكره في 1: 120 ا 10 أن كتاب ابن جزلة الطبيب، الموسوم بـ (تقويم الأبدان في تدبير الإنسان) قد طبع في دمشق سنة 1333هـ، بعد أن أضحت طبعته القديمة في ستراسبورج سنة 1532م وأعز من بيض الأنوق.
وفي 1: 121 ا 12 ذكر لابن جزلة كتاب (منهج البيان فيما يستعمله الإنسان). والمعروف أنه (منهاج البيان الخ) وهو لم يطبع. ونسخه الخطية كثيرة في خزائن الشرق والغرب، وكلها مجمعة على العنوان الذي ذكرناه.
وفي 1: 113 ا 1 - 2 كان من المفيد أن يذكر ما طبع من مؤلفات ابن جني: كالخصائص (القاهرة 1914) والتصريف الملوكي (بون 1885 والقاهرة 1331هـ) والبهيج في تفسير أسماء شعراء ديوان الحماسة (دمشق 1348هـ) والمقتضب (ليبسك 1904).
وورد في 1: 132ب 3 - 4 اسم كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر
العسقلاني. وكان ضرورياً للغاية أن يقال في الحاشية أنه طبع في أربعة مجلدات (حيدر آباد 1348 - 1350هـ).
ومثل ذلك ورود اسم كتاب (اللمحة البدرية في الدولة المصرية) اللسان الدين ابن الخطيب، في السطرين الأخيرين من 1: 151ب، فقد كان مفيداً أن يقال أنه طبع في القاهرة سنة 1347هـ.
وفي 1: 159ب16 كان من الواجب النص على أن كتاب (الجمهرة) لابن دريد قد طبع في أربعة مجلدات كبيرة (حيدر آباد 1344 - 1351هـ).
وفي 1: 164ب6 يضاف إلى المراجع عن (ابن ديصان):
1 -
تاريخ كلدو وآثور لأدي شير (2: 20 - 22).
2 -
برديصان والبرديصانية ليوسف غنيمة (المشرق 18 (1920) ص677 - 697).
وفي 1: 228 ا 20 وردت العبارة التالية: (ولهذا الكتاب (كتاب القصص المضحكة) ترجمة عربية لم تصل إلينا عنوانها كتاب دفع الهم). قلنا: هذه القصص وصلت إلينا، وقد نشرها الأب لويس شيخو اليسوعي بعنوان (الأحاديث المطربة لابن العبري) في مجلة المشرق (20 (1922) ص 709 - 717، 676 - 779)، ثم على حدة ضمن مجموعة أربع رسائل لقدماء فلاسفة اليونان ولابن العبري) (بيروت 1920 - 1923؛ ص39 - 60).
ومما ورد في 1: 261ب3 - 4 قوله: (وهو (كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة) في عشرة أجزاء، نشر الأجزاء الأربعة الأولى منه بروكلمان). وكان جديراً باللجنة أن تعلق في الحاشية أن هذا الكتاب الجليل قد عنيت دار الكتب المصرية بنشره كاملا سنة 1935 - 1930 في أربعة مجلدات.
وفي 1: 211ب8 - 1 ذكر (كتاب الشراب) لابن قتيبة والأصح أن يكتب عنوانه (كتاب الأشربة) على ما هو مشهور معروف (راجع: العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 330 طبعة الأزهرية، وكشف الظنون 5: 43 لندن أو 2: 262 استانبول) وكان يحسن القول في الحاشية، إن هذا الكتاب لم يظهر جميعه في المجلد الثاني من المقتبس، لأننا قابلنا ما نشر منه على نسخة خطية عندنا، فوجدناه يبلغ نحواً من ثلثي الكتاب. وقد لاحظنا أن المنشور
في المقتبس ظهر في أربعة أقسام ذكرت الدائرة الأول والثاني والرابع منها وأغفلت ثالثها المنشور في ص430 - 436 من المجلد المذكور.
وفي السطرين الأخيرين من 1: 260ب يضاف في الحاشية أن كتاب (المسائل والأجوبة) لابن قتيبة نشرته مكتبة القيسي بالقاهرة سنة 1349هـ.
وفي 1: 271ب يبدو لنا أنه سقط سطر بين السطرين 17 و18 قوامه ما يلي: (سميون الأنباء 1: 175 - 183 (3) القفطي).
وفي 1: 277ب19 - 22 وجدنا العبارة التالية: (وألف (مسكويه) كتاباً في التاريخ عنوانه تجارب الأمم، نشرة كيتاني بتمامه في مجموعة جب التذكارية. ج7). قلنا: لنا على هذه العبارة ملاحظتان. الأولى: أنه كان يحسن القول في الحاشية، إن ما نشره كتاني لم يكن سوى قسم من هذا التاريخ، أي أنه نشر (بالفتغراف). الجزء الأول والخامس والسادس أما سائر الأجزاء فلم يتعرض لها. والملاحظة الثانية، هي أنه كان مفيداً جداً أن ينوه بأن المستشرق آمدروز قد نشر منه في القاهرة الجزءين الخامس والسادس مع (الذيل) على تجارب الأمم للوزير أبي شجاع. وأن مرجليوث نقل هذه الأقسام إلى الإنجليزية، فصار قوام المتن والترجمة والفهارس سبعة مجلدات (القاهرة - اكسفورد سنة 1914 - 1921).
وفي 1: 280 ا 11 نقول إن كتاب (فصول التماثيل في تباشير السرور) لابن المعتز طبع في القاهرة سنة 1925.
وفي 1: 298 ا 2 من المهم ذكره في الحاشية أن كتاب (التيجان في ملوك حمير) لابن هشام، طبع في حيدر آياد سنة 1347هـ.
وفي 1: 311ب1 ورد ذكر كتاب جلستان. والصواب كلستان (راجع كشف الظنون 5: 230 طبعة لندن أو 2: 327 استانبول).
وفي 1: 324 ب 22 ذكر المترجمون (سفر إسحاق) من أسفار التوراة. وقد استغربنا صدور هذا القول من اللجنة، فليس في التوراة كلها سفر بهذا العنوان. والصحيح أنه (سفر اشعيا) وسبب وقوع هذا الغلط، أن الأصل الفرنجي من دائرة المعارف الإسلامية يتخذ رموزاً مختصرة عند ذكر أسفار التوراة، وذاك أمر شائع بين المستشرقين والباحثين، متعارف بينهم منذ عهد بعيد. فهم يرمزون لسفر اشعيا بهذا الاختصار فظن المترجمون أنه
اختصار بينما هي اختصار وليت شعري ألم تكن نظرة سريعة في فهرست أسفار التوراة كافية للتخلص من مثل هذا الغلط؟
وفي 1: 323 ب من المفيد أن يقال في الحاشية، أن كتاب (الأضداد) للسجستاني نشره هفنر في بيروت سنة 1912 ضمن (ثلاثة كتب في الأضداد)(ص71 - 162).
ونظير ذلك ما كان يستحسن تعليقه على 1: 334ب13 من كتاب (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي، قد نشره حسن السندوبي (القاهرة 1929).
وفي 1: 386 ا 9 تضاف المراجع التالية بعد ترجمة أبي العيناء
1 -
طبقات الشعراء لابن المعتز (ص196 - 197).
2 -
معجم الشعراء للمرزباني (ص384).
3 -
مروج الذهب للمسعودي (8: 20 - 125 طبعة باريس).
4 -
كتاب الديارات للشابشتي (مخطوط. وقد حققناه وأعددناه للنشر).
5 -
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (3: 170 - 179).
6 -
المنتظم لابن الجوزي (5: 156 - 160).
7 -
معجم الأدباء لياقوت (7: 61 - 73 مرجليوث).
8 -
نكت الهميان في نكت العميان للصفدي (ص265 - 270).
(البقية في العدد القادم)
كوركيس عواد
رسالة الفن
من الحياة والفن
قصة صورة
للأستاذ نصري عطا الله سوس
يشارك العمل الفني الخالد الحياة في خلودها وعمقها وتجددها، وتعدد الآراء فيها واختلاف وجهات النظر إليها، غير أن العمل الفني يمتاز على الحياة باشتماله على عناصر لا تستمد من الطبيعة الخالقة الموجبة، بل من شخصية الفنان وعبقريته. فالعاطفة الزاخرة التي تحتضن الأكوان، والخيال المتوفز المتقد الذي يبدع من صور الجمال ما لا وجود له في الطبيعة، والعقل النفاذ الذي يعاون العاطفة والخيال. . . كل هذه عناصر إنسانية يشتمل عليها العمل الفني الممتاز ولا وجود لها في الطبيعة - وسر خلوده هو أنه خلاصة فترة من حياة رجل عظيم استطاع أن يسبر من أغوار الحياة ما لم يستطعه الناس، رجل يتيح لهم - بفنه - مشاركته عواطفه وخيالاته وأحلامه. ونحن حين نتأمل عملا فنياً كبيراً نحس أننا في صحبة إنسان كبير يقود خطانا نحو أقاليم شاسعة لم نرها، ويفتح عيوننا على صور من الحق والخير والجمال لم نعرفها من قبل. فالعمل الفني الكبير يفضل الحياة لأنه منبع السرور الإنساني النبيل في كل حين، والحياة تسر حيناً وتحزن أحياناً.
. . . ذلك هو الخاطر الذي جال بنفسي عندما أردت أن اكتب عن (الجيوكانده) أو (موناليزا) أقيم أعمال الفنان الخالد (ليوناردو دافنشي) وأكثرها دلالة على شخصيته ونهجه في الإنتاج.
ولقد كان ليوناردو (1452 - 1519) نجماً لامعاً من نجوم النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر، ونستطيع أن ننحي التاريخ جانباً ونقول أنه أحد الأفذاذ القلائل والعبقريات الضخمة في تاريخ البشرية كله، لم يجد معاصره (فاسارس) وصفاً يصفه به إلا قوله أنه قدس وأنه فوق مستوى البشر، وقال عنه نيتشه (إن فيه شيئاً صامتاً أعلى من مستوى الروح الأوربية، وهذه خاصية رجل تكشفت له الحياة عن محيط واسع جداً من الخير والشر) وقال هافلوك إليس: (عندما يلعب خيالنا بفكرة السوبرمان يرد لوناردو على خاطرنا
كمثل من أمثلته المتقدمة)
عبر لوناردو مراحل المعرفة البشرية وقد وسعها عقله الكبير المتقد شغفاً بالحياة وكلفا بأسرارها، ووقف عند تخوم المجهول يحدق في ظلامه وخوافيه ويرسل عليه من نور عقله والهام قلبه محاولا ارتياد بعض أراضيه البكر التي لم يحلق فوقها فكر أو يشرئب نحوها فؤاد. . . وكان تلميذ الحياة، الحياة كلها: خافيها وظاهرها، نظر إلى المعرفة البشرية في شتى فروعها وصورها نظرته إلى بعض من كل، لا يجوز الوقوف عنده والاكتفاء به، فكار مصوراً وموسيقياً وعالماً ومهندساً وشاعراً وفيلسوفاً وفي كل حالة كان رائداً مستكشفاً. ودأب الفنان أو المفكر العبقري أن يجعل من عقله وقلبه (حقلا للتجارب). إن الكون العظيم أمامه فلم يعمد إلى معرفته عن طريق أفكار الناس وعواطفهم مهما عظم شأنهم؛ إن به حاجة للحياة فلم لا يعيش ويجرب ويتأمل ويدرك الحقائق عن طريق احساساته ومشاعره وفكره؟ وهكذا كان لوناردو. . .
ولقد كان يؤمن كما آمن سيبنوزا بعده أن الحقيقة والكمال شيء واحد. وقال مرة (إن العبقرية الإنسانية لن تستطيع أن تستنبط شيئاً أكثر بساطة وأكثر وفاء بالغرض من الطبيعة)
وأحرى بمن ينظر إلى الحياة هذه النظرة، أن ينظر إلى الإنسان نفسه نظرة عميقة فاحصة، وجدير بمن يتأمل ذاته ويدرك ما تنطوي عليه النفس من أسرار وما يحتويه القلب من آماد لا يرتادها إلا العباقرة الأفذاذ، إلا يقنع عندما يعمد إلى رسم صورة إنسان بتسجيل الملامح والسمات وما قد يرتسم على صفحة الوجه من انفعالات سطحية عابرة. . . إن الإنسان يولد في الكون الرحب الفسيح وفي فؤاده كون آخر قد يكون أرحب آمادا وأبعد أغواراً من الكون المنظور، ولكنه يعيش في الظلام صادفا عن الكون الذي حوله والكون الذي في نفسه، سادرا في التفاهات معنياً بنوافل الأمور، ولكن هو الذي يستطيع أن يسبر الأغوار لم لا ينتشل من الأعماق بعض المعاني والأسرار التي تحفل بها النفس وتبقى دائماً كالنبع المطمور الذي تمر به الأجيال غير عابئة ولا ترسل له من ينقب عنه ويرفع الأستار. ولقد قال (إن فن التصوير نوع من الإبداع أتخذه وسيلة لتطبيق الأفكار والتأملات الفلسفية على خاصيات الأشكال طبيعية أو بشرية، فرسم صورة لم يكن لديه إلا رحلة استكشاف في
مجاهل وخبايا الطبيعة الإنسانية، وفي مثل صوره نطالع القوى والقيم الإنسانية التي قلما نحسها أو نحفل بها لأن حياتنا السطحية الرخيصة لا تستجيشها أو تهزها من رقادها.
ولقد وهب لوناردو حياته كلها لشيئين: الحق يلتمسه من كل طريق ويضني نفسه باحثاً عنه، والجمال ينشده ويرجوه ويتبعه، وهام أشد الهيام بشيئيين هما حركة الحياة الجارية، وبسمات الغيد. وكأنه رأى فيهما معاني تفكيره وتأملاته وأحلامه، أو استبان فيهما رمزا للحياة وما تجيش به من معلوم ومجهول. والمياه الجارية، كالأنهار والبحار، حين ترفرف عليها روح الفنان وتناجيها تقول كثيراً وتفضي بأحاديث طويلة قد يفهمها القلب ولا يفهمها العقل، ذلك لأنها لا تتكلم إلا بلغة الأبد، أنها تلغز وترمز ولا تفصح أبداً.
. . . أنها ساكنة مرة وفي سكونها وداعة، ساهمة مرة، وفي سهومها وجوم وإطراق مثقل بالمعاني، مترنمة في بشاشة وحبور أحياناً، مرغية مزبدة في ثورة وعنف أحياناً أخر - وهي سافرة في الفجر، يتكئ النور الوليد على صدرها مغمغما في شوق وحنان، متلألئة في الضحى تتقبل قبلات الشمس في حبور، باكية في المساء مع الشفق، وقد تتدثر في الليل قناعاً كثيفاً من الظلام، وتتلو صلواتها في رهبة ووجل مما يخبئه الظلام، وقد ترتدي غلالة شفافة من ضوء القمر وتغني جزلة طروبة - وفي كل حال لها حديث، وفي كل مرة لها مناجاة. . . وما أحلى حديثها الحافل بالأحاجي والأسرار!
وبسمات الغيد. . .؟
بسمات العذارى والفتيات فيها خلاصة الحياة كلها عندما تصفو الحياة من الأكدار وتترفع عن التفاهة والدنايا والصغار، لأنه رمز للمرأة في حالة الإقبال والصفاء، وإذا أقبلت المرأة، أقبلت الحياة، وسخت بكل غال نفيس!
ففي الشفاء والوجنات بهجة الربيع ونضرته، وتفتح وروده وأزاهيره، وحرارته الحلوة التي تبعث الحياة من جديد وتشعل الحيوية الراكدة
في العيون تحتشد الأسرار العميقة المتلاطمة التي لا يسبر لها غور. . .
وفيها السحر الذي يستبيننا، ونرى فيه لمحة مما وراء الوجود من خفايا وأسرار، وفيها الحلاوة العذبة التي ترقينا، وفيها القوة الآسرة التي تستبد بنا
ومن معاني الابتسامة الحنان. . .
والحنان آصرة تآلف وامتزاج
وأسمى لحظات العمر عند الفنان - وعند الإنسان عامة - هي تلك التي يخرج فيها عن حدود ذاته ليمتزج بقوة أخرى ويصبح بعضا منها، ويمتلئ خاطره ووجدانه بالمعاني المستمدة من معانيها.
ومن معاني الابتسامة الفرح، والفرح معدن الحياة الأصيل، وهو الإحساس الذي يتوج أعمالنا وأفكارنا عندما يسيران وفق قانون الحياة، وهي دليل السعادة، والسعادة قبلة الحياة!
وفي الابتسامة شعاع من نور من لدن العلي القدير فاطر الحسن وبارئ آياته يشعر الإنسان أنه على مقربة من السماء مصدر الصفاء والضياء إن ابتسامة المرأة - أحياناً - أكبر من المرأة ومن الحياة!
وكان لوناردو لا يرسم صور الأشخاص إلا في الضوء الباهت الخافت عندما تكون السماء غائمة، أو قبيل الغروب حين يمتلئ الجو بالإيحاءات المبهمة والغمغمات الصامتة التي تغلف عواطفنا بسحابة رقيقة من الصوفية الغامضة المشوقة إلى المجهول وتكتسي الوجوه بذلك السر الذي يكسبها سحراً وحلاوة. وكان لا يتعجل ولا يعمد إلى الرسم في كل حين، بل كان ينتظر صابرا تلك اللحظات التي تتفتح فيها بصائرنا ونعيش في عالم أكبر وأحفل بالاحساسات من العالم الذي نعيش فيه عادة، كان ينتظر تلك اللحظات، لحظات الـ وعندئذ لا يبخل بالمجهود ولا يضن بالمشقة حتى إذا كان بعيداً عن مكان عمله. وكثيراً ما كان يقطع المسافات الطويلة ليصل إلى ذلك المكان وليعمل دقائق قليلة فقط! وفي هذه الدقائق كان الفنان يضيف إلى عمله جديدا يعتد به.
ترى لم اختار لوناردو (موناليزا) ليجعل من صورتها رمزاً لذلك اللغز الخالد الذي نسميه المرأة؟
هذا ما لا ندريه.
كانت (ليزا جيرالدين) إحدى بنات الطبقة الممتازة في فلورنسا وقد تزوجها (فرنسسكو دل جيوكندو) عام 1495، ولم تكن على درجة رائعة من الجمال أو على شيء من الامتياز في بيئتها.
وعندما شرع لوناردو في رسم صورتها كانت في ربيعها الرابع والعشرين ولم ينته منها إلا
عندما قاربت الثلاثين!
ولعله لم يعتن بعمل من أعماله الفنية مثلما اعتنى بهذه الصور.
وواظبت ليزا على الحضور إلى مرسم الفنان كل هذه السنوات لتجلس أمامه جلستها الخالدة؛ وكان هو يجلب إلى مرسمه الموسيقيين والشعراء ليسمعوها أطرف ألوان الموسيقى وأبدع قصائد الشعراء حتى ينضج وجهها بذلك التعبير العبقري الذي حفظته لنا هذه الصورة الفريدة.
والصورة تمثل ليزا جالسة أمام شرفة رخامية وقد تجردت من كل الحلي والزينة، مرتدي ثوباً بسيطا وعلى رأسها غطاء خفيف شفاف. وقد وضعت يدها اليمنى - وهي أجمل يد رسمت في تاريخ فن التصوير كله - فوق يدها اليسرى ومما يلاحظ خلو عينيها من الأهداب والجفون.
ونرى خلفها منظراً من مناظر الطبيعة في جبال الألب قوامه الصخور والينابيع الجارية - وهذا المنظر في حد ذاته لا يقل حيوية وحرارة عن الصورة نفسها وكأن لوناردو قد أراد أن يجمع كل شيء هامت به روحه في صورة واحدة. وقد وفق، فالصورة فيها تلك البسمة الخالدة. وما توحيه من معان، وفيها المياه الجارية وما تثيره في النفس من احساسات.
وكان لوناردو مشغولا بأعمال أخرى كثيرة إلى جانب صورة (ليزا) ولكن هذه الصورة وحدها كانت تستبد باهتمامه وكان يعود إليها كما يعود التعب المجهد إلى ملاذه الذي يجد فيه الراحة بعد العناء، والسعادة بعد الشقاء، والعزاء بعد الخيبة واليأس.
ولم يفرغ منها إلا بعد خمس سنوات. وقد اعترف أنه لم يفرغ منها تماماً.
ومنذ ذلك الحين (الجيوكانده) نبع وحي وإلهام لا يغيض، فكم تحدث عنها واستوحاها الشعراء والفنانون والكتاب، وكم سجل عنها الأدب والشعر من روائع باقية، وما زالت (ليزا) توحي المعاني والأخيلة إلى عشاقها وعشاق الفن والجمال. . . ولعلها - إذا أبقي عليها الزمن - ستظل مصدراً من أخصب مصادر الوحي والخيال.
ذلك لأن صورة (ليزا) خلاصة عناصر كثيرة: كان لوناردو عندما يجلسها أمامه يستنهض كل احساساتها ويستجيش أنبل عواطفها ومشاعرها وأفكارها عن طريق ما كان يسمعها من موسيقى وشعر.
وأغلب الظن أنه لم يتقيد بالطبيعة تقيداً مطلقاً بل أضاف إلى ملامحها وتقاطيعها شيئاً من عنده ضنت به الطبيعة على (ليزا). والآلهة تحنو دائماً على كل عمل فني كبير فتنفح الفنان بعضا من روحها وتهبه من سرها.
وصورة (ليزا) جمعت هذه العناصر على خير مثال.
أنها ليست صورة امرأة تعيش بعقلها وعواطفها وغرائزها في دنيا الناس الحافلة بالصغائر - أنها امرأة ولكنها ليست كالنساء يستغرق العيش في صورة المادية الخامدة الخاملة كل قوى الحياة في نفسها. أنها صورة امرأة تحررت وخرجت من الوجود الضيق لتعيش في الكون الكبير فاستيقظ كل ما في نفسها من عناصر وملكات، وغدت نفسها مرآة للكون الكبير.
أترى لوناردو أراد أن يجعل منها رمزا لخلاصة ما يعتمل في نفسه من معان، وبدلا من أن يكتب كتابا يضمنه فلسفته رأى أن يرسم صورة ولم يجد خيرا من ملامح (ليزا) وتقاطيعها لإبراز ما تجيش به نفسه الكبيرة من معان وأحاسيس؟ قد يكون. .! فقد كان لوناردو كما قلنا ملاحاً متقحما يجوب بحار الحياة التي لم ترها من قبله عين، وكان يعيش دائماً في المنطقة الدقيقة التي تفصل بين المعلوم والمجهول يفعم قلبه الشوق وحب الاستطلاع ويبهر عقله وعينه ما يتكشف له من عظمة وجلال وجمال.
ولقد أفلح لوناردو في أن يحيط (ليزا) بمثل هذا الجو ويثير في نفسها كل عوامله عن طريق ما كان يسمعها من شعر وموسيقى والنتيجة هي أن ارتسم على وجهها كل معانيه: فالتعبير الذي ينطق به وجهها فيه كثير من اليقظة والحيوية ولكن فيه أيضاً شيء من الدهشة كأنها تحيا حياة غريبة لا تستطيع فهمها ولكنها حياة فاتنة فيها نوع من السحر الخفي. وفي عينيها شيء من الفتور كأنها متعبة، ولكن فيها أيضاً شيء من العزم والمضاء كأنها - رغم التعب - لم تمل، وكم تحتوي هاتان العينان من أفكار غريبة وأحلام آبدة واحساسات رقيقة غامضة.
وكم فيهما من سخرية وترفع، وكم فيهما من الانطواء على النفس ورباطة الجأش كأن صاحبتهما تعيش (فوق المعركة). . .
ذلك بعض ما توحيه الجيوكانده، وهو نفسه ما توحيه حياة لوناردو. ولكم سخر (تيوفيل
جوتييه) من المرأة وشخصيتها وجمالها في قصته (مدموازيل دي مويان) ولكنه وقف أمام الجيوكانده وقفة العابد المتأمل وقال: (من أي كوكب وفد ذلك الكائن الغريب ذو النظرة التي تعد باللذات المجهولة وذو التعبير القدسي السخرية؟ إن لوناردو يضفي على أشخاصه طابع سمو يجعلنا نحس بالارتباك في حضرتهم. إن الضوء الخافت في عينيها العميقتين يخفي أسراراً محرمة على الغافلين ولغة شفتيها الساخرتين تلائم الآلهة الذين يعرفون كل شيء ويحتقرون في رفق غلظة البشر.
(أي إصرار مقلق وأية سخرية مترفعة في هاتين العينين الداكنتين وهاتين الشفتين المتموجتين كقوس الحب بعد إطلاق سهمه).
(إن جبينها يشع ذلك الصفو الذي تحسه امرأة موقنة أنها أبدية الجمال، وأنها أبعد شأوا من كل مثل الشعراء والفنانين).
وقال عنها الناقد الإنجليزي ولتر باتر ما معناه (إن في وجهها خلاصة أفكار وتجارب الدنيا: فيه حيوانية اليونان، وشهوانية الرومان، وصوفية العصور الوسطى وما فيها من طموح روحي وعشق خيالي، وفيه ردة الوثنية وخطايا آل بورجيا. أنها أوغل في القدم من الصخور التي تجلس بينها. وكأنها قد ماتت وبعثت عدة مرات وعرفت أسرار القبر وغاصت في البحار العميقة، واحتفظت لنفسها بسرها، وساحت مع تجار الشرق سعياٍ وراء المنسوجات الغريبة. ولقد كانت - مثل ليدا - أما لهيلين الطروادية، ومثل القديسة آن أما لمريم. ولم يكن كل هذا لديها إلا نغمات القيثار والناي وما فعلته بقسماتها وأجفانها ويديها)
تلك هي قصة الجيوكاندة. فيالها من درس احفل بالمعاني من أضخم الكتب! أنها تجعلنا نؤمن بعظمة الإنسان ومجده إذا خلص من الدنايا وشغل نفسه بالمعاني السامية التي تحفل بها الدنيا. . . أنها تعلمنا إلى أي آماد تستطيع أن ترقى المرأة. . . من منا يعيش مع (موناليزا) أياماً أو ساعات ولا يتبدل مثله الأعلى في المرأة والجمال: أنها تسمو بأفكارنا وعواطفنا وتدخل على قلوبنا الفرح وتهز من قوى الحياة في نفوسنا ما يجعلنا نستمر في طعم العيش ونمجد قوى الحياة، وما يلبث أن يهتف في نفوسنا هاتف يقول: لم لا نلتمس في الحياة نفسها ما عثرنا عليه في الفن؟ وهكذا يوجه الفن أبصارنا إلى أعلى ويعلمنا الإحساس بالجمال والتماسه فلا نقنع بما تقنع به النفوس الخاملة المستغلقة.
ولقد آلت هذه الصورة إلى الملك فرنسوا الأول واحتفظ بها في فنتنبلو. ثم نقلت إلى قاعة لويس الرابع عشر في قصر فرساي ثم استقر بها المطاف في متحف اللوفر. وهناك سرقت مرة ثم أعيدت.
وآخر أخبار (الجيوكاندة) أن الهر هتلر قد نقلها إلى قصره الريفي في برختسجادن وأنه - برغم متاعب الحرب والسياسة - يجلس أمامها كل يوم ساعات متأملا مستوحياً ولعلها تلهمه بعض العزاء.
نصري عطا الله سوس
أشواق إلى الحرية.
. .
للشاعر عبد الرحمن الخميس
هَتفتُ: يا حُريتي ضُمِّيني!
هُمْ في ظلامِ العيشِ قَيَّدوني
لكنهم لن يُطفِئوا يقيني
…
فَرقرِقي سَناكِ في عُيوني!
إني وراء هذه القضبانِ
أرنو إلى رحابةِ الأكوانِ
أَسألها عنكِ وعن هواني!
…
والقيدُ يا حرَّيتي يُدمِيني
أنا لكِ العصفورُ يا سمائي
أعْتَصِر الأشواقَ من دمائي
أغرودةً وَقعَها شقائي
…
على رَبابي الثاكلِ الحزين
قد طالَ يا حُريةُ اشتياقي
إلى عُبوري مسبح الآفاق
يَملأني الحبورُ في انطلاقي
…
حتى إلى مجاهلِ المنونِ!
أضأتِ يا حريتي تفكيري
فأيقظي بما أرى شعوري
هاتي جناحي! أفسحي مطيري!
…
لَبيك يا عَقيدَتي وديني!
هذا أنا أُحطمُ الأغلال
مُعتنِقاً حريتي، مختالا
مبتهجاً أقتحم الأهوالا
…
مُغرِّداً للحق واليقينِ
أبتِ التي أوسَعتِ لي حياتي
أشْعرتِني بأنني لِذَاتي!
أقْسمتُ ليسَ تنحني قناتي
…
لِغير خالقي الذي يُغْنيني
أَيتُها الحريةُ الحسناءُ
ترخصُ في سبيلكِ الدماءُ
وتلتقي الحياةُ والفناءُ
…
عندكِ يا أنشودةَ السنينِ
يا قوةَ التحريكِ والتحريرِ
لو كنتِ قد نبضتِ في الصخورِ
انْتَفضتْ كالحيِّ بالشعورِ
…
حتى. . . لِوقعِ النورِ والدجونِ!
لولاكِ لم ينطلقِ الهواء
ولم يَطفْ حول الدنى ضياءُ
ولم يَكُ الوجودُ والأحياءُ
…
سوى طلول عالم سجين
يا فَرحةً موصولةَ الخلودِ!
بروحكِ المقدَّسِ السعيدِ،
يهُبُّ طيرٌ مُلهمُ النشيدِ
…
إلى سماءٍ طَلقةِ الجبينِ
يا ثورةً تطاردُ الهوانا
وتهلكُ الطغاةَ والطغيانا
وتمنحُ استقلالهُ الإنسانا
…
وتبسطُ العدلَ مدى القرون
أيَّانَ قامَ شرعُك الحبيبُ
تساوتُ الأفراد والشعوبُ
تخفقَ في صدورها القلوبُ
…
بريئةً من سُحبِ الشجونِ
يا هِبة الإلهِ للمخلوقِ
بِسِركٍ المهَيمنٍ الطليق
تقطعُ بي هناءتي طريقي
…
إلى خفايا السحر والفتونِ
حريتي أمستْ أعزَّ مالي
بها أُحسُّ فتنةَ الجمالِ
ولا أَرَى بدونها كمالي
…
نشأها الرحمن في تكويني!
البريد الأدبي
إلى الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)
كتبت الكلمة التي نشرت في العدد الأخير من الرسالة حين اطلعت على تلخيصكم كتاب الدكتور عمر فروخ. ثم اطلعت في هذا العدد على كتابه بنصه فعرفت أن الكاتب يدعي، والله يشهد أنها دعوى غير صادقة، أني سلخت من كتابه أربع قرائن: إشارة المعري إلى نظم اللزوميات، والإشارات التاريخية وأشهرها قصة صالح بن مرداس، وإشارة المعري إلى سنه، وإشارته إلى شيخوخته دون ذكر السن.
فأما الأولى فهي في كلام المعري نفسه في مقدمة كتابه ولا يحتاج قارئ اللزوميات أن ينقلها عن أحد. وأما قصة صالح فيعرفها كل من قرأ تاريخ المعري. وقد ذكرها الدكتور طه حسين في كتابه ذكرى أبي العلاء قبل ثلاثين عاماً، وفصل القول فيها عبد العزيز اليمني في كتابه عن أبي العلاء، وذكرت في كتب أخرى. وأما ذكر المعري سنه وشيخوخته فكل من قرأ اللزوميات وفهمها يستطيع أن يتتبع الأبيات التي تحدث فيها المعري عن عمره؛ فإن كان الكاتب يجادل في أني قرأت اللزوميات فمن شاء الجدال جادل، وإن كان يصدق أني قرأت اللزوميات فهل يصدق أني أمر بهذه الأشياء فلا أدركها وإنما أقرأ اللزوميات قاصداً تاريخها؟ ليعلم الدكتور عمر أني كتبت عن أبي العلاء رسالة قبل خمس وعشرين سنة وأني أكاد احفظ اللزوميات حفظا.
ثم قد فطنت في بحثي إلى ما هو أدق وأخفى من هذه القرائن التي يدعي الدكتور عمر أني سلختها من كتابه؛ فطنت إلى ما خفي عليه ودق على فهمه، فعرفت إشارة المعري إلى وفاة الحاكم الخليفة الفاطمي، وإشارته إلى وفاة الوزير المغربي، وبينت من محمود ومسعود اللذان ذكرهما ومن آلك المذكور في قوله:
(سيموت محمود ويفني آلك). وفطنت إلى ترتيب الأوزان في اللزوميات، وهذه هي الدقائق التي تحتاج إلى علم بالتاريخ والأدب واستنباط.
فهل يدعي أني أخذتها عنه كذلك؟ أو هل يظن أن الذي استخرج هذه الخفايا دون سلخ من كتابه يعجز عن إدراك القرائن الواضحة التي ذكرها؟
وقد تكلم عن توارد الخواطر. وليس الأمر من باب توارد الخواطر؛ بل هي معان ماثلة
وعبارات واضحة في شعر المعري يدركها كل أديب. وليس فيها خواطر أو هواجس.
وقد قلت أني لم اطلع على كتاب فروخ قط، وقال هو إن كتابه أرسل إلى العالم العربي والى لندن، وأن (العالم الحقيقي لا يهجم على عمل مثل هذا إلا بعد أن يتقصى الكاتب ويفتلي الكتب والمجلات).
فإما إرسال كتابه إلى لندن أو إلى الصين فلا ينفي ما قلته صادقاً، أني لم اطلع حتى هذه الساعة على كتابه. وأما أن العالم ينبغي أن يتقصى المكاتب فقد أردت أن أستخرج من اللزوميات أبي العلاء تاريخها فلم يكن لي مصدر سواها. وإن كان جهلي كتاب عمر فروخ عيباً فأنا لا أخفي عيبي وأقول خجلا: إني والله أجهل عمر فروخ أيضاً. وأقر بهذا الذنب، فليغفر لي ولا غضاضة عليه في هذا فقد جهلني هو فلم يعرف أخلاقي وسيرتي.
وبعد فقد كان حسب الدكتور عمر أن يقول رجل مثلي أنه لم يطلع على كتابه. كان هذا حسبه لو كانت أخلاقنا تستعظم أن يكذب باحث ديدنه طلب الحق مخلصاً. لو كان لنا نصيب من أخلاق العلماء لكان قولي فيصلا في القضية.
وأختم كلامي في هذا الموضوع بأن أقول: إني أرى من هواني على نفسي وضياع وقتي، أن أشغل نفسي بجدل ابتدأه صاحبه بهذا العدوان وهذا الافتراء وهذا التسرع. فلن أكتب من بعد في هذا الموضوع حرفاً. فمن شاء أن يجادل بالباطل ليعرف بنفسه فلا حيلة لي فيه.
عبد الوهاب عزام
المعري وعين سلوان:
أبو العلاء المعري (نابغة الأدب العربي) أعجوبة من أعاجيب الزمان، فقد كان وهو منقمع قابع في حجرته يطل على الدنيا فيعلم مجهولا، ويرى خفياً.
هذه عين سلوان، قل من يعرف من أهل القدس خاصتهم وعامتهم - وسلوان قرية تجاورهم - أن ماء تلك العين يقارب في ملوحته ماء زمزم.
إن أبا العلاء قد عرف ذلك، وذكر الماء وعينها في شعره فقال في لزومية:
وبعين سلوان التي في قدسها
…
طعم يوهم أنه من زمزم
وقال في لزومية أخرى:
سيحان للروم عذب، ليس مورده
…
ملحا كزمزم أو عين بسلوان
هذا المعري الضرير، في قلبه ألف عين.
(الوحدة)
(السهمي)
رسالة إلى (الرسالة):
عاد من رحلته إلى فلسطين صديقنا الكاتب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد؛ وقد كان في هذه الرحلة القصيرة موضع التعظيم والتكريم والأستاذية: يدعى فيجيب، ويستفاد فيفيد، ويستفهم فيفهم. وفي العدد القادم سننشر أولى مقالاته بعد عودته وعنوانها:(رسالة إلى (الرسالة)).
عتاب
قرأت بحثاً قيماً للأستاذ فؤاد عوض واصف في العددين 633و634 من مجلة الرسالة تحت عنوان (التاريخ ما هو) استعرض فيه علم التاريخ وما دار حوله من نظريات منذ العصور الأولى حتى العصر الحاضر وحاولت عبثاً أن أجد ولو كلمة عابرة عن جهود العرب وخدماتهم في كتابة التاريخ وتطوره فلم أظفر بطائل، ولعل ذلك راجع إلى أن الأستاذ اعتمد في كتابة بحثه على مؤلفات أجنبية تغفل في أكثر الأحيان فضل العرب والمسلمين. وإذا أجمع علماء العرب مع الأسف على أمر خطأ لا يعني ذلك أنه صار صواباً، وإذا كانت أوربا العصور الوسطى مظلمة تمزقها منازعات الملوك والأمراء وتفتك بها حروب دينية شعواء لا يعني ذلك أن أوربا هي العالم وإن تاريخها تاريخ العالم، لأن العالم الإسلامي في ذلك الوقت كان يغمره النور ويسوده الأمن والسلام، وإذا تعامى الغرب عن هذا النور فما أجدرنا أن ننبه أنفسنا وأولادنا والدنيا إليه.
جاء في المقال الأول (وحتى القرن الثالث عشر الميلادي كان التاريخ في معظمه وقائع وأخباراً دينية) وهو قول ينطبق على مؤرخي أوربا المسيحية ولا ينطبق على مؤرخي العرب أمثال ابن جرير والمسعودي وابن الأثير وغيرهم كثير لأن مؤلفاتهم ليست في معظمها أخباراً دينية، إنما كانت تسرد أخبار الدولة وأسباب قيامها وسقوطها ووصف البلاد
مع ضجة الأخبار ودقة الوصف ولا سيما ما اختص بالدول التي نشأت بعد الإسلام. كما أنه لم يشر إلى ابن خلدون شيخ مؤرخي العرب الذي قال عنه بحق الأستاذ (فلنت) الإنجليزي أنه (واضع علم التاريخ) مع أنه ذكر مكيافلي (واضع علم الغدر السياسي) الذي ذاق منه العالم ولا يزال الشيء الكثير. أشكر الأستاذ على بحثه القيم الشامل وآمل إلا ينسى أجداده العرب حينما يمرون به في أبحاثه المقبلة لأنهم أهله وعشيرته وموضع فخره وعزته.
(غزة - فلسطين)
حلمي أمان
تحية الشعر:
(مهداة إلى الطبيب الأديب الكبير مصطفى الديواني مؤلف
(صديق العائلة))
سألتك يا مصطفى فلتجبني
…
كتابك من أي سحر وفنّ؟
كتابك علمٌ وشدو معاً
…
فهل كنت تكتبه أم تُغني؟
كتابك في الضاد حلم الزمان
…
تحقق للناس بعد التمنّي
بلغت به منزلاً في الخلود
…
يزيد على كلّ وهم وظنّ
وأُقسم من يهتدي بهداه
…
فقد لاذ من كل سقم بحصن
ومن عجب أن يصوغ الطبيب
…
كتاباً أراه عن الطبّ يُغني!
(المنصورة)
علي متولي صلاح
وطرابلس الغرب أيضاً:
قرأت ما سجلته مجلتكم الغراء في عددها 135 للأستاذ حسن أحمد الخطيب بعنوان (مراكش العربية تستصرخ) فله خالص الشكر على هذه الروح العربية التي نتمنى أن
نلمسها في كل كاتب.
وأحب أن أقول: إن بلادنا طرابلس الغرب التي تتاخم مصر من الغرب لها نفس هذه الاستغاثة وهي تطلب من جميع رجالات العروبة ومن جميع من يهمهم شأن البلاد العربية المقسمة بين الدول العظمى أن يلتفتوا إلى هذا الجزء من البلاد العربية التي تعتبر وحدة لا تنفصم، وأن يعيروه بالغ اهتمامهم وأن يرقبوا بعين ساهرة متيقظة ما يجري في هذه الأيام حول بلدنا المسكين من مساومة وجذب إلى اليمين والى اليسار، وأن يعلموا أنه قطر مستقل استقلالا تاماً بمقتضى المعاهدة التركية الإيطالية سنة 1912، غير أن إيطاليا أضاعت ذلك الاستقلال وأبعدت ذلك القطر من المحيط العربي، ويطلبوا - والحق يؤيدهم - إرجاع ذلك القطر العربي إلى ما كان عليه من الاستقلال.
وإن جميع الطرابلسيين لينظرون بتلهف إلى مجهود هؤلاء الرجال الذين نستطيع بمساعدتهم وحسن مسعاهم أن نشق طريقنا ظافرين منتصرين وهذا هو وقت العمل فإلى الأمام جميعاً.
(رواق المغاربة - الأزهر)
علي محمد المسلاني
أول وزير
كتب الأستاذ محمود عزت عرفة في عدد (الرسالة 635) كلمة تحت عنوان (قرد وحمار)، ونقل فيها حكاية تروي عن ابن عباس من كتاب (نشوار المحاضرة) للقاضي التنوخي، وفيها كلام عن الوزارة والوزير (وما كان يتهدد الوزراء يوم ذاك من خلع وقتل وحبس واستصفاء)
وقد تكون هذه القصة صحيحة، ولكن روايتها عن ابن عباس بعيدة كل البعد، ذلك أن ابن عباس رضي الله عنه توفي في النصف الثاني من القرن الأول، وأذكر الآن أنه توفي في حدود الثمانين، وقد حضر مقتل عبد الله بن الزبير في سنة 73 من الهجرة وكان قد كف بصره في ذلك الحين، وإن أول من لقب بالوزارة أبو سلمة الحلال وزير عبد الله السفاح في سنة 132 من الهجرة، على أن ما كان ينال الوزراء من حبس وقتل واستصفاء لم يشع
إلا في القرن الثالث والرابع، وإن كانت قد وقعت حوادث قبل ذلك لم تبلغ حد تبغيض الوزارة إلى الناس، كما حدث مع أبي سلمة هذا، ومع أبي مسلم الخراساني ومع البرامكة.
ومثل هذه الحكايات، والأضاحيك التي تروج بين العامة إنما تتناول أمراً مشهوراً واضحاً بارزاً.
فلعل الأستاذ اخطأ فنسب الرواية إلى ابن عباس، أو لعله غفل عن خطأ صاحب (نشوار المحاضرة)
(بنباقادن)
علي جلال الدين شاهين
من هو ابن الحنفية؟
قرأت كتاب (على ضفاف دجلة والفرات) للأستاذ طاهر الطناحي، غير أنه لفت نظري قول الأستاذ في صفحتي 15و101 أن محمد بن علي بن الحسين هو المعروف بابن الحنفية، ولم أفهم حتى الآن أن محمد بن علي بن الحسين عرف بهذا اللقب، غير أنني أعرف أن ابن الحنفية هو (محمد بن علي بن أبي طالب)
(الكويت)
فاضل خلف
الشيخ ثابت فرج الجرجاوي
في ضحوة يوم الأحد الثاني من سبتمبر الجاري، توفي المغفور له الشيخ (ثابت فرج الجرجاوي) وقد جاء في نعيه الموجز أنه. . . عالم جليل وخطيب مفوه ووطني صادق. . . ولكن قليلا من القراء من حملت إليهم هذه النعوت معنى خاصاً عن حياة الفقيد، أو سجلت في خواطرهم صورة واضحة من حاضره وماضيه.
عكف الفقيد منذ فجر حياته على الدراسة بالأزهر الشريف، حتى أحرز فيه العالمية الأهلية؛ ولكن حماسته الفطرية، وتحفزه ونشاطه اللذين لازماه إلى آخر أيام حياته، ثم موهبته الخطابية الممتازة، ونعرته الوطنية الصادقة، الجارفة. . . كل هذه الخلال دفعت به
إلى الانغمار في تيار السياسة، انغمارا نبه من ذكره ورفع من شأنه، وكشف للناس عن ينبوع ثر من عبقريته ومواهبه. وقد اعتقل الفقيد بين من اعتقلوا في حوادث عام 1916. ثم نفى إلى مالطة في ركاب الزعيم الخالد سعد زغلول، وكان هذا الحادث أنصع نقطة في صفحة حياته، كما كان يقول - غير مرة - عن صدق ويقين، ولما استقرت الأمور في نصابها وعاد إلى وطنه، كان أحد أولئك الذين لم يلتمسوا من وراء جهادهم الثروة أو الجاه، وإنما اندمج في سلك التعليم يؤدي رسالته ساكناً متواضعاً، حتى انتهى به المطاف بعد سنين إلى نظارة مدرسة أولية في بلدته جرجا.
وهنا تبدأ صفحة أخرى من حياته كان فيها رجلا (اجتماعياً) من الطراز الأول؛ فما تأسس ببلده مشروع، ولا دعي إلى مصلحة عامة، إلا كان أول ملب وأسبق مؤيد ومؤازر. خطب في مئات الحفلات، ورثى وكرم، وودع ووعظ، وصنع على يده وعينه جيلا من الشباب كلهم يسلك نهجه ويأتم بهداه.
وكان شعر الشيخ ثابت متوسطاً في الجودة، ولكنه كان يضفي عليه الجمال كله يحسن إلقائه وتدفق بيانه. وكان إذا اعتلى المنبر شاعراً أو ناثراً، يهدر هدير الفنيق، ويزأر زئير الأسد، فترجف حوله القلوب، وتشد إليه المسامع والأبصار. كان رجلا فحلا في قوله وعمله وأخلاقه. . . بل وفي منظره، فهو ابن الثورة ورييبها ومذكي ضرامها حقاً. وكان - على هذا - رقيق العاطفة حلو الدعابة بارع النكتة، سمحاً نقي السريرة لا يكن لمخلوق عداوة؛ ولقد شهدته غير مرة ينشج بالبكاء في مواقف الرثاء، بل وفي بعض مواقف التوديع!
ومن شعره الذي يدور على الألسنة منذ عهد الثورة قصيدته التي يقول في مطلعها:
وطني عزيز لا أروم سواه
…
مهما تسوَّرت العدى مبناه
ولا تتسع هذه العجالة لإيراد شيء من كلامه، وإنما نختمها بالإشارة إلى مبلغ نشاطه حتى في آخر لحظات حياته؛ فقد كان رحمه الله على أصابته بالفالج الجزئي منذ سنوات - يشغل منصب النظارة في مدرسة أولية كما ذكرنا، وكان وكيلا ومدرساً بالمعهد الديني المنشأ حديثاً في جرجا، ومدرساً بجمعية المحافظة على القرآن الكريم، ورئيساً لرابطة التعليم الأولى والإلزامي، ورئيساً لجمعيتي نهضة القرى ومنع المسكرات بجرجا، والريب أن جميع هذه المنشآت يكاد يرجع إليه وحده فضل إنشائها!
تلك نبذة موجزة عن حياة الشيخ ثابت فرج تؤدي بها حق الوطن والتاريخ. والله يرحمه ويحسن جزاءه. . .
(جرجا)
محمود عزت عرفة
القصص
من الفن القصصي الحديث
حينما كان طيباً!. . .
للكاتب الفرنسي هنري لفران
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
قالت مدام (دي برسي) وهي تحاور زوجها: (إذا كنت تبغي أن تلم بهذا الشأن، فألزم أذنك الإصغاء. . . فسرده يعوزه الهدوء ريثما آتي عليه. . .)
فنبس زوجها في لهجة فيها شيء من الجفاء: (كمشيئتك. . . أني إذن صاغ إلى حديثك!)
فعاد صوتها يرن، وقد شابه الارتجاف كأنما ينم عن نفس مضطربة، قالت: (حسن!. . . إن الحياة معك لا يمكن أن تدوم، وسأتجلد حتى الصباح. . . إنك رجل شريف، لا شك في ذلك، ولا يمكنني أن ألصق بك عيباً، فأنت لم تعمل يوماً على المخاتلة والخداع. . . أما أنا فلا أقل عنك إخلاصاً ووفاء مذ ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام النفس يعقد لنا. . . ولكنا أحسسنا بعد ذلك أن مشاربنا متباينة، وإني لأعلم أن ثمة أناس لا يقلون عنا تبايناً واختلافاً. . . بيد أن حالتنا لا تطاق، فكل إيماءة مني تكدر صفاءك، وإني لموقنة أن هذا الشعور متبادل بيننا: عندما أتحدث يزعجك ذلك، وإذا ما ضحكت أنت تثير حنقي، وكذلك صمتنا يموج بالحقد والبغض. . .
هذا أمر لا يحق إغفاله، فأنت تورد ما لا أستطيعه، وإني لا أجد فيك بغيتي ومرامي، لأنك بهلق، لا تثبت لحديثي ولا تستلمح إشارتي، بل تعتقد أنني أنغص عليك عيشك في كل عمل آتيه، حتى وقع أقدامي وارتداء ثيابي! أليس هذا هو عين الحق؟ أني لألمح فيك - وأنا أتحدث الآن - نزعة إلى أن تهم بإلقائي من النافذة).
فقال زوجها في غمغمة: (حسن! ماذا أيضاً؟!)
- لقد انتهى بي الفكر إلى أنه يجب علينا أن يعيش كل منا على حدة. . . ليس هذا بخطئي ولا بخطئك. . . أنه خطؤنا معاً. . . وعلى كل حال فهذه هي الحقيقة العارية عن كل لبس وريب، فكلانا لم يخلق لصاحبه، وربما كانت السعادة إذا ما انفصلنا. . . ليس هناك ما
يمنع من انفصالنا كأصدقاء. . . فما رزقنا الله طفلا نتنازع عليه، وكل منا له دخل يغنيه عن صاحبه
- لن أنحى باللائمة عليك، فهذا هو السبيل الذي سلكه كل فرد من أفراد أهلك (آل برسي) من الأب إلى الابن، وكان والداك - كما أنبأتني - على غير وفاق، لم يفلحا في العيش معاً أكثر من أسبوعين، وهذه هي العلة في أنك الابن الوحيد لهما. . . وأخيراً يجب علينا أن نقلب أوجه الرأي في الطريق اللائق إلى الانفصال!
وكان (مسيو دي برسي) يتلقى ذلك السيل الجارف بهدوء وسكينة، ويهز كتفيه من حين إلى حين، أو يقلب شفتيه في زفرات تنم عن نفس مضطربة أو قلب مكلوم. . . راح يقطع الغرفة في خطوات واسعة، ويداه معقودتان خلفه، كما كان يفعل (نابليون بونابرت) عندما تسير الأمور بما لا يشتهي. . . وإذا ما كفت زوجته عن الحديث واجهها، وأخذ يصعد فيها طرفه في اضطراب من جرحت كبرياؤه ومست كرامته قائلا: أأفرغت جعبتك؟)
- بلى، لقد أتيت على كل ما كان يجيش في نفسي
- إذاً، كما تودين يا عزيزتي. . . أنت ترغبين في الانفصال. وسأجيبك إلى طلبتك، وسيعيش كل منا في عزلة عن الآخر - أنت حري بأن تفعل ما تراه!
- شكراً. . . ولكني أمنعك من الاتصال بغيري
- إن هذا لا يدور بخلدي. . . إذا ما انفصلنا فسأعيش لنفسي، ولن أجد في طلبة غيرك. . . لقد كنت مخلصة لك في زواجي، وسأظل على إخلاصي في عزلتي. . . أليس هذا ما ترمي إليه؟!
- لا، ليس هذا كل ما أود، فينبغي أن يعرف كلانا مصير صاحبه!
- مصير صاحبه! أننا نعلمه جيداً، راحة وهدوء، ثم طعن في العمر، وأخيراً المقبرة حيث المثوى الأخير.
- ليس هذا! دعيني أتحدث! كل منا حر في اختياره مصيره، ولكن هناك أمر يجب ألا نغفله، فيحسن بنا أن نجعل هذا الانفصال بيننا فقط، ويخيل إلي أنك تحبذين ذلك!
- حسن، ولكن هذا السر لا يلبث أن يذاع في النهاية!
- ليس طفرة واحدة، فيخف وقعه ووطأته، ولهذا يجمل بي أن أقول: أنه ينبغي أن ندر
الرماد في أعين الأصدقاء، لكي لا ندع لهم مجالا للظنة والريب، فقالت الزوجة وقد اعتصمت رأسها بين يديها:(وكيف السبيل إلى ذلك؟!)
- ما دمت قد صممت على الرحيل في الغد، فلا يحسن بك أن تذهبي إلى أصحابك وأقرانك في الريف أو في الخارج، ارحلي إلى بريطانيا، هه. . ارحلي إلى (مينو) فامكثي هناك فترة لا يحد الضجر بها إلى نفسك سبيلا. . . إلبثني شهرين إذا أمكنك ذلك. . . و (مدام بنارد) - مدبرة قصرنا الريفي الذي نشأت فيه أن خلفني والداي - ستقوم على خدمتك والعناية بأمرك ما وسعها ذلك. . . أرجو أن تخبريها بحضوري على الدوام
- هذا لا تفكر في أن تأتيه؟. . .
- بلى، ولكن يجب أن تخبريها، وهذا المكان يشيع فيه الجمال والإبداع في التنسيق على مبعدة فرسخين من (جوراند) وعاصمة (باتر). . . وأعتقد أن قدميك لم تطأ هذه البقاع. . . مراتها مدرج طفولتي ومهد صباي. . . أنها تفوق بريطانيا حسناً وروعة. . . فلا تجعلي هذه الفرصة تمضي دون انتهازها!
- لقد حدثتني في لباقة وهدوء، وإني لا أود أن أغادر بيتك هذا على سوء. . . أبرق إلى (مدام بنارد)، فسأرحل إلى (مينو) وسأمكث شهرين!
- شكراً. . . سعدت مساء!
- لا، بل قل وداعاً. . . أنه فراق بيني وبينك!
ولم يرتعد صوتهما في هذا الوداع الأخير. . . ولكن قلبيهما. . . قلبيهما المعذبين. . . كانا يخفقان ويرددان: (أهذا حق؟! هل قطعت كل رابطة بيننا؟ أيفارق كل منا صاحبه؟ سنرى أيتها الفتاة. . . سنرى أيها الفتى!
أقبل شهر مايو، وهبت نسمات الربيع على الكون رخاء سجسجاً واتخذت (مدام دي برسي) أهبتها للرحيل إلى (مينو) في عدوة يوم أضحيان. . . والشمس تدلف في خمول، ولم نبلغ حرارتها أوجها بعد. . . بدا الساحل في فتنة وروعة لا تدانيها روعة. . . كأنه يبسم للشعاع والصبح الوليد. . . والأمواج تداعب بيانه في رقة وهي تتسابق إليه كالطفل يهرع متعثراً إلى ذراعي أمه. . . وتناثرت الحضرة في كل مكان. . . والرمال تبرق صفحتها كالدر المنثور. أنه لجو صحو يحلو لمن يبغي الهدوء والجمال. . .
قضت (مدام دي برسي) أيامها الأول في تعرف محيطها الجديد. كانت سكناها في حجرة ذات جدر مكسوة بستائر صفراء مزركشة. . . وتطل هذه الحجرة على مناظر رائعة. . . فإلى اليمين السهل الفسيح وقد تناثرت فيه الصخور والنواتئ. . . والشجيرات ذات العطر والبهاء، والى اليسار يبصر المرء دغلا من الأشجار (الصنوبرية) السامقة تصفر بين جذوعها الريح فكأنها عزيف الجن والأرض العراء. . .
أرسلت (مدام دي برسي) طرفاً شارداً إلى أمتعتها المبعثرة والى تلك الحجرة المنسقة. . . فراحت تفكر جاهدة في تدبير غرفتها على نسق يلذ لها أن تراه. . .
إن الطبيعة لتقدم إلى أولئك اللائى يجتزن - مثل (مدام دي برسي) الأزمات الزوجية أجل المنافع. . . فالهدوء والسكينة والطمأنينة تعيد إلى نفوسهن شيئاً من المحبة والشوق إلى أزواجهن بعد انفصالهن، وتسكن في قلوبهن ذلك الخاطر الحزين الذي طالما يطوف بهن. . .
جلست (مدام دي برسي) تطوف الخواطر بخيالها. . . وتعد الذكريات إلى نفسها. . . فراحت تذكر أيام الطفولة البريئة الطاهرة ولعبها العديدة، ثم عندما بدأت عيناها تنظر إلى الحياة. . . وأول ثوب طويل لها. . . وأول رقصة رقصتها. . . ثم عندما كانت عذراء قبل زواجها؛ وأخيراً تلك الحياة الزوجية. . . كانت حياتها تنساب في غير تعثر، فما كانت تحفل بالقصص والفجاءات، ولا الحزن والمرح. . . وإنما كانت تسير سيراً عادياً تحدده عناية الله.
ومذ تسع سنوات كانت تأوي إلى مضجعها والأمل يداعب نفسها للغد القريب. . . وغابت التسع سنوات سراعاً، وهاهي ذي تعاني المرارة والألم. . . كانت تبغض زوجها وكذلك هو. وكثيراً ما كانت تبدي هذا البغض في أعمالها. . . أما هو فكان يبدي استياءه عند سيرها. . . أو ينفر من حديثها. . . بل يتبرم به. . . كانت أخلاقهما متباينة متنافرة. . .
ما كان زوجها بالرجل المرح الذي تصبو إليه النساء. . . بل كان جامداً عزوفاً عن المجتمع. . . ولكن فيه فطنة وحدة ذكاء مع سمو في الخلق وجلال في الخلال. . . ذو قلب مخلص حنون هادئ. . . بيد أنها تأبى أن تعاشره لاعتزاله المجتمع ونفوره منه، بينما كان في ريعان الحياة. . . وكانت تحس أن السعادة ستواتيها رويداً في عزلتها هذه. . .
رضيت (مدام دي برسي) بصحبة (مدام بنارد) المدبرة الكهلة التي أقامت في القصر منذ بنائه. . . وكانت موضع تبجيل الجميع. . . فلم تكن بالخادمة. . . لقد ربت (مسيو دي برسي) وعنيت بنشأته. . . وما لبثت أن توثقت عروة المودة بين (مدام دي برسي) وبينها. . . لأن هذه العجوز كانت مع شعرها الأبيض وثوبها البسيط الأسود ذات روح طيبة مرحة ونفس مجربة مدبرة. . .
نهضت (مدام دي برسي) مع السيدة العجوز لتتجول في أنحاء القصر فقادتها إلى غرفة بالطابق الثالث. . . وقالت وهي تدفع بابها: (إني أرجو أن أطلعك على كل ما كان يمت إلى زوجك العزيز (مسيو دي برسي) في صباه؛ فهذه هي غرفة لعبه ونومه) وجذبت باباً لصوان عتيق مكتظ باللعب المختلفة وقالت: (هذه كانت لعبه عندما كان لا يزال دارجاً صغيراً).
ثم راحت تستعيد أغوار الماضي السحيق وتقول في صوت خفيض: (انظري، يا سيدتي. . . لقد كانت له عروس صغيرة يعبث بها ويقبلها ويقول: سيأتي اليوم الذي أتزوجك فيه يا عروستي. لقد كان على خطأ بلا شك، فعنده اليوم زوجة ما كان يخطر له أن يقترن بها) فلم تنبس (مدام دي برسي) ببنت شفة!. . وعادت (مدام بنارد) تقول (إن هذا يثير كوامن نفسك بلا شك!) - (نعم. . . يا مدام بنارد!) فتمادت السيدة العجوز في عرض كل ما كان يخص (مسيو دي برسي) في غرفة نومه. . . وكانت كثيراً ما يتشعب بها الفكر فتذكر اسمه القديم (لويس) فتعجبت (مدام دي برسي) من جهلها بهذا الاسم مع زواجها بصاحبه. . ثم شاهدت غرفة دراسته وكتبه وكراساته، وتناولت (مدام دي برسي) إحداها من المرأة العجوز التي كانت تقول في شوق وشغف (انظري!. . كم كان خطه جميلا عندما كان صبياً. . .) وقرأت (مدام دي برسي) في إحدى الصفحات عبارة بخط كبير (أين هو الحب؟!) ثم قالت (أود أن أخرج لأتنسم الهواء، فإني اشعر بدوار. . .)
مضتا في صمت إلى الحديقة. . . وكان نسيم البحر يلطف من جوها ويصفر في أنحاء الغابة الصنوبرية. وراحت السحب تمضي على مهل في صفحة السماء. . .
بلغت المرأتان شفير بحيرة تسبح في مائها الأزرق السابي بجعتان ناصعتا البياض تسميان: (جوبتر) و (جالو). . . فغمغمت مدام بنارد قائلة: (هذه هي البحيرة التي كان يقطعها سابحاً
بزورقه. . . عندما كان صبياً. . . وقد كادت أن تطويه يوماً في مائها. . . أني لأذكر هذا اليوم طيلة حياتي). . .
وأدركتا نهاية المزرعة حيث كان ثمة مقعد قديم دارس نمت عليه الحشائش وكسته الأزهار. . . قالت مدام بنارد: (هذا مقعده حيث كان يجلس للقراءة. . .)
وفي جولتهما مرتا بفسيح من الأرض الخضراء، فارتفع صوت (مدام بنارد) قائلة: هذه هي الحديقة التي كان يفضلها ويقوم فيها برياضته. . .).
وعندما مرتا باصطبل للخيل. . . علقت فيه السروج والمواتر والسموط قالت مادم بنارد: (كان يقطن هنا بونيفاك!)
- (ومن بنويفاك هذا!؟.)
- (فرسه الصغير. . .)
وتنقلا من مكان إلى آخر حتى أتمتا سياحتهما وشاهدتا صحن الدار والحدائق والأدغال والريف المحيط بالقصر والطريق وفروعه وكل ما كان يخص (لويس) من أماكن كان يرتع فيها لاعباً أو لاهياً، ويجلس فيها قارئاً أو كاتباً. . .
كانت آثاره في كل مكان، فما تقدمت (مدام دي برسي) خطوة حتى بصرت بأثر جديد ينم عن زوجها إبان صباه. . . وقد لوحته الشمس ودرسه صرف الدهر. . .
فلما انقضت الجولة وآواتهما الدار من جديد. . . قصدا البهو حيث جلستا في فرجة شرفة تطل على البحر بأمواجه الراقصة. . .
وراحت مدام بنارد تسرد قصة (مسيو دي برسي) في طفولته وصباه في لهجة صادقة مخلصة: (لعلك تدرين أن والديه كانا على قسط وافر من الغرابة. . . ولكنني أدرى منك بذلك. . . قلما اتفقا على شيء. . . ولم يكن أحدهما غريباً عن الآخر، ولكن أخلاقهما كانت غريبة حتى أنهما عاشا منفردين طيلة زواجهما الذي لم يجتمعا فيه إلا أياماً معدودة. . . فإذا حضر الوالد إلى هنا، كان على المرأة أن تغادر القصر على الفور. . كان كل منهما مشغوفاً بسيدي (مسيو لويس) فهو ابنهما الوحيد. . . فضلا أن يدعاه هنا في كنف. . . فقمت أرعاه وأحدب عليه ما وسعني. . . فكان لي كل شيء في هذه الدنيا. . . وقضى والداه نحبهما وما زال في المهد صبياً. . . فحزن عليهما هذا التعس الشقي وكأنه يعرفهما
حق المعرفة، ولو أني قضيت لما بكي على بكاءه عليهما مع أني ربيته ورعيته
أني أحيطك علماً بذلك يا سيدتي لكي تكوني على بينة من الأمر إذا لم يكن قد أفضى إليك به. . . وينبغي عليك أن تشفقي عليه فهو شقي تعس، وأحياناً تضطرب أعصابه فيثور ويهيج ويخرج عن طوره وهدوئه؛ وما هذا بذنبه. . . ولكن يرجع إلى والديه، وإسراع المنية إليهما وهو لا يزال المهد. . . فلو أنه عاش في طفولة غير هذه الطفولة. . . لكان رجلا آخر. . .).
طفقت هذه الذكريات تنساب من ثغر مدام بنارد في إسهاب وإطناب. . . حتى أقبل المساء إلى الكون، واخذ الشفق ينشر في الأفق رداءه الأرجواني الرائع. . . وحينئذ سألت (مدام دي برسي) عن مصباح يمزق تلك العتمة التي بدأت تثقل وتقتم. . . أما (مدام بنارد) فلم تلمح تلك الدمعات التي تألقت على وجنتي مدام دي برسي فجففتهما في سكون. . .
وأخيرا وجهت (مدام دي برسي) الحديث إلى المرأة العجوز وهي تنهض قائلة (يسرني ويبهجني ما تحدثت به عن زوجي العزيز يا مدام بنارد. . .) وضغطت على يدها في تأثر. . . فعجبت مدام بنارد لهذا التأثر، ولم يكن هذا آخر عجبا إذ أن (مدام دي برسي) بعثت معها ببرقية لترسلها من مكتب (جوراند) إلى باريس. . .
ولم تكن تدري ما احتوته هذه البرقية. . . ولكن علمت أنها وصلت باريس هذا المساء وحضر (مسيو دي برسي) في اليوم التالي
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي