المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 639 - بتاريخ: 01 - 10 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٣٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 639

- بتاريخ: 01 - 10 - 1945

ص: -1

‌رسالة إلى (الرسالة)

للأستاذ عباس محمود العقاد

في رحلتي إلى السودان، سمعت حديث (الرسالة) في أول مكان طرقته من السودان، وسمعته في الساعة الأولى بعد الفراغ من مراسيم الجوازات وتسجيلات الوصول

ثم لبثت أسمعه في أندية البلاد كلما دار الكلام على الأدب والأدباء، ولا سيما الأدب العربي وأدبائه المعاصرين

ولم تتغير العادة في فلسطين

فقد سمعت حديث (الرسالة) في كل ناد من أندية الأدب، وحملت إليها رسالة علنية في أحفل جلسة من الجلسات الأدبية شهدتها في مدينة يافا، وهي مركز الحركة الصحفية والكتابية في شواطئ أرض الميعاد

كانت الدعوة باسم اتحاد الأندية في المدينة، وهي تتسع منها لسبعة على ما أعلم، تختلف أغراضها بين الثقافة والرياضة البدنية ومطالب الإصلاح والاجتماع

وكانت الدعوة إلى سهرة في الهواء الطلق بفناء النادي الأرثوذكسي، وهو على ما سمعت أوسع فناء للأندية هناك

واتفقنا على أن تدور السهرة على المساجلة بالأسئلة والأجوبة في الموضوعات التي يعنى بها الأعضاء، وكلهم من الشبان المتعلمين أو الشابات المتعلمات.

ويظهر أن الأديب الموكل بأمانة الاتحاد قد بسط على الأسئلة شيئاً من الرقابة الفكرية التي تخليها من كل شائك أو محرج من موضوعات الجدل والخلاف. فمرت الأسئلة الأولى بين سؤال لي عن أحب كتبي أليّ، أو سؤال عن الفرق بين فلسطين كما رأيتها في زيارتي الأولى، كما أراها في زيارتي الآن، أو أسئلة متعددة من هذا القبيل

ثم انتهت الأسئلة المكتوبة وبدأنا في الأسئلة المرتجلة، فما شككت في أنني سأسمع على الأقل سؤالا عن الحب وسؤالا عن المنافسات الأدبية في الأقطار العربية، لأن الشبان كانوا أصحاب الكثرة الغالبة على الاجتماع

فأما السؤال عن الحب، فقد كان محرجاً بعض الإحراج، لأنه كان يتناول (الحب العذري) ورأيي فيه، وكان في الجمع سيدات وآنسات، وكان فيه شيوخ من رجال الدين، لهم وقارهم

ص: 1

المرعي في كل مكان

قال السائل: يعتقد صديقك المازني أن الحب العذري غير موجود وغير معقول، فما اعتقادك أنت في هذا الموضوع؟

فأردت التخلص وأحلت السائل إلى واجب الصداقة الذي يأبى عليّ أن أعرض لرأي أخينا المازني بتفنيد أو تجريح! وقلت له في عجلة ولهوجة: إن الحب الجنسي ينتهي إلى غاية جنسية، وأما ما عدا ذلك من ضروب الحب فليس لها غاية غير الصداقة والولاء

ثم جاء دور المنافسات الأدبية في البلاد العربية، فكان لها نصيب في أكثر من سؤال واحد، وكان أهم الأسئلة فيها رسالة إلى (الرسالة)، أو عتباً على المجلات المصرية - وفي مقدمتها (الرسالة) - لأنها تضن بالنشر والتنويه على القصائد والفصول التي تأتيها من أدباء فلسطين

وكان صاحب السؤال خطابياً في لهجته، عنترياً في حماسته، مؤمناً بصوابه في عتبه، ولعله كان ينطق بألسنة غيره ممن يعتبون مثل عتبه، ويؤمنون مثل إيمانه

فأردت أن أصحح هذا الوهم الذي يغلو فيه بعض الدعاة إلى التفرقة من أذناب الدول الأجنبية في الأقطار العربية، وقلت ما أعتقد في هذا الصدد، وهو أن الديار المصرية - بقرائها وأدبائها ومجلاتها - أبعد الناس عن الأثرة العنصرية في مسائل الثقافة، أو مسائل المفاضلة بين الأدباء والمؤلفين، وذكرت للسامعين شاهداً من الشواهد التي يلمسونها في فلسطين، وهو تفضيل (مفكرات دجاجة) للأديب الفلسطيني الدكتور إسحاق الحسيني على سائر الأجزاء التي ظهرت من سلسلة (اقرأ) لكثير من الكتاب المصريين، وهي لم تنل هذا التفضيل بأصوات القراء من أهل فلسطين نفسها، ولا بأصوات القراء من أبناء البلدان العربية الأخرى، وهي تربي في عدتها على كل ماعداها من الأصوات

ثم قلت: إن الديار المصرية هي الميدان الذي اشتهرت فيه مؤلفات اليازجي وصروف وزيدان والشدياق والحداد وأديب إسحاق والمعلوف وغيرهم من فضلاء سوريا ولبنان والعراق، وأنها هي الميدان الذي طبعت فيه - أو راجت فيه - مؤلفات الريحاني ونعيمة وجبران، وسائر كتاب العربية في المهاجر الأمريكية. فليس أسرع من المصريين إلى تقدير الأدب العربي الذي يصل إلى أيديهم وأسماعهم، وليس عليهم من عتب إذا قامت

ص: 2

العوائق دون وصول هذا الأدب إليهم، فقد يكون المرجع في ذلك إلى نظام النشر والتوزيع

ثم أردت القضاء على مظنة الأثرة العنصرية فقلت: وبعد هذا ينبغي أن نذكر أن نصيب الأدباء المصريين والأدباء السوريين من تنويه الصحافة العربية في مصر سواء، وإن كثيراً من الصحف العربية في مصر يديرها أناس من السلالة السورية، فلا يتهمون في هذا الصدد بالإجحاف والمحاباة

ولاح لي أن السامعين عارفون بمكان الصدق والصواب من هذا الجواب على ذلك السؤال، ولكن صاحبنا السائل الخطابي لم يقلع عن عتبه، ولم يزل مصراً على حقه هو في نشر كل ما يبعث به إلى (الرسالة) و (الثقافة) من المنظوم والمنثور، فعاد يقول: أننا هنا لا نحفل بصحف الأخبار ولا بآراء الدهماء، ولكننا لننظر من أمثال الأستاذ الزيات والأستاذ أحمد أمين غير ما ننتظره من أصحاب تلك النشرات

وختمت الجواب واعداً بالتبليغ، مزكياً موقف (الرسالة) و (الثقافة) فيما تنشران، معتذراً من توجيه إليهما فيما لم تنشراه، لأنني لم أقراه ولم أعرف مدى حقه من النشر والإهمال. فلعلل اللوم على المرسل لا على المرسل إليه!. . . ولعل الصحيفتين المنصفتين قد أخلصتا للقراء فاستهدفتا لهذا العتب من بعض الكتاب!

وانتهت السهرة بحادثة طريفة لا تخلو من دلالتها الأدبية. فإننا خرجنا من النادي بعد ختام الأسئلة والأجوبة، فإذا بسيارة من السيارات التي وقفت على بابه ضائعة، وإذا بها سيارة الكاتب المعروف الأستاذ عيسى العيسى صاحب جريدة فلسطين وشيخ الصحافة الفلسطينية

قال الأستاذ: سأعود عليك بطلب التعويض، لأنك أنت المسؤول عن ضياع السيارة، فقد ترك السواقون سياراتهم ودخلوا النادي ليسمعوك، وكانت سيارتي مطلقة الدواليب، فوقع عليها اختيار اللصوص دون غيرها من السيارات

قلت: بل أنت المسؤول عن محبة اللصوص إياك، واختصاصك أنت بالسرقة دون سواك، فلعلهم طمعوا في مالك إكراما لأدبك، ولعلهم كافئوك بما استطاعوه على تعصبك للأدب، حتى في اختيار السواق!

ولطف الله بعض اللطف في مشكلة التعويض، كائناً من كان المطالب بالعوض، لأن الشرطة عثرت على السيارة في اليوم التالي مزوية في بعض الطريق. . . ولكن بغير

ص: 3

إطارات

ومما يذكر لفلسطين بالحمد والرجاء أن السياسة لا تشغلها كل الشغل عن مطالب الأدب والثقافة في وقت من الأوقات

فهي اليوم لا تني تتحفز وتتطلع ولا تكف عن التدبر في مصيرها المنظور بعد الحرب العالمية: بين الصهيونية والانتداب والاستقلال والوحدة العربية، وقلما تغشى مجلساً من المجالس لا يدور فيه النقاش على مسألة من هذه المسائل، ولكنهم لا يستغرقون وقتهم في مسألة منها إلا وجدوا بين فجواتها متسعاً لحديث اللغة العربية والأدب العربي والأدباء العرب في مختلف الأقطار، وما أخالهم يبعدون الشقة بين موضوعات اللغة وموضوعات السياسة، فإنما مستقبل فلسطين مستقبل العربية على أية حال

كنا نتحدث عن تقرير المصير وحرية الاختيار في السياسة الوطنية، فقلت: إن الله الذي حباكم بحرية الاختيار في الجو والمناخ كفيل بأن يحبوكم بحرية الاختيار في الحكم وشئون السياسة:

إننا في مصر ننتظر الربيع أشهرا، حتى نصل إليه، ولكنكم هنا لا تنتظرونه غير ساعة واحدة تنقلكم حين تشاءون من قيظ الصيف إلى نفحات الربيع

عندكم (أريحا) التي تذكر الناس بالمظلات في صبارة الشتاء، وعندكم رام الله التي تذكركم في لياليها بالمعاطف، ولو كانوا في أيام المصيف

وكنا في طريق (رام الله) هذه حين استطرد بنا حديث المصير إلى حديث المصيف، فسألنا: أي معنى يا ترى لهذا التركيب الذي لا نعرف معناه بالعربية؟ أهي كلمة عبرية أو آرامية؟

ورجح الأستاذ السكاكيني أنها مخففة من (رام اللات)

وقال الأستاذ عادل جبر: أنهم جمعوا رامة على رام وأضافوها إلى الله، وكأنها بذلك عربية أو آرامية تشبه العربية

والرامة في اللغة العربية معروفة للمكان الذي يجتمع فيه الماء، ولا سيما الروابي والهضاب، وعندهم اليوم في طريق بيت المقدس مواقع على هذه الصفة تعرف بالرامة على ألسنة السواد

بقي أنهم يعرفون الجمع في الآرامية كما يعرف العرب جمع ساحة على ساح وراحة على

ص: 4

راح وساعة على ساع وحانة على حان.

أما الدكتور موسى الحسيني، فيرجح - على ما أذكر - أن أصل الكلمة (رام ايل)، ثم تداولتها الألسنة العربية حتى صارت في اللفظ الشائع (رام الله)

وهو رأي راجح، لأن المواقع التي تنسب إلى (إيل) هناك غير قليلة، ومنها (بيت إيل) الذي ينطقه العرب اليوم بيتين.

وكان القول الفصل أننا نستطيع أن نرجئ البت في هذا الخلاف دون أن يفوتنا شئ ما من متاع الهواء الطلق والأصيل الجميل في رام الله!!

فأرجأنا البت في الخلاف على ثقة من ذاك، وتركناه حتى يفصل فيه أصحاب اللغات السامية، إن راقهم أن يفظوه ولا يعلقوه مع غيره من أوجه الخلاف المعلقة في أرض الميعاد

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌الفيلسوف أمين الريحاني

قولان له في البلاغة

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

أبعث إلى الفيلسوف الأستاذ أمين الريحاني بكتابي (كلمة في اللغة العربية)، وهو الخطبة التي خطبتها في (دار الرابطة الشرقية) في القاهرة في اليوم الأول من ذي القعدة سنة 1343، فتجيبني منه رسالة في يناير سنة 1926 (29 جمادي الآخرة سنة 1344) يقول فيها:

(سيدي الأستاذ إسعاف النشاشيبي (دام فضله)

وصلني كتابك (كلمة في اللغة العربية)، قرأت (الكلمة) كلها متنها وشرحها فخيل إلى وأنا في رياضها وأدغالها، وأغوارها وأنجادها، ودهنائها ومفاليها (اللفظة بدوية وأظنها صحيحة) أني أعيد السياحة في البلاد العربية. وما وجه الشبه؟ إن الجمال اللغوي جمالك لمثل الجمال البدوي، وإن الفخامة في ألفاظك لمثل الفخامة في صوت ابن البادية، وإن الروح في مقاصدك لمثل العظمة في خطواته. وكلها يا سيدي في الكتاب وفي البادية مثل الوجوه (حال يحول). نعم، إن هذا الأسلوب في الأدب مثل ذاك البدوي في الحياة، هو مظهر عجيب يسترعي الأنظار، فيدهش، ويطرب، ويحزن معاً. ولماذا؟ لأنه زائل. أحببت البدوي (والله)، وكنت معجباً به، ولكني لا أستطيع ولا أحب أن أكون مثله. وأحببت (كلمتك)، وكنت وأنا أطالعها معجباً بها. ولكني لا أستطيع، ولو أحببت، أن اكتب مثلها. لو كان لي أن أسوح في البلاد العربية بعد خمسين سنة لما عرفت، على ما أظن، صديقي البدوي وقد تحضر أو تمصر. ولا أظن أن هذا الأسلوب أسلوبك يكون مألوفاً أو معروفاً بعد خمسين سنة. والحكم للمستقبل، فقد يحكم علي وعليك معاً. ولكننا في غير الأسلوب متفقان. أني مكبر أدبك، محترم علمك، محبذ دعوتك للمحافظة على روح اللغة والصيغة العربية فيها. وأظن أني من المحافظين، رغم تجددي المخيف، إذا اتخذت من ابن الأثير، وهو اختيارك، مثالا أنسج عليه. ولكنك غاليت في حب القديم، غاليت يا رجل. . .

إذا كان المثل الأعلى الذي تنشده يقطع الحبل بيننا ف (هنريك ابسن ونيتشه) يصلانه ويوثقان العروة فيه.

ص: 6

والسلام عليك من (القابع) في داره، البعيد عن (شجرة البغي)

المخلص

أمين الريحاني

ثم نتجادل بعد رسالته هذه في شهر رمضان سنة 1344 في جريدة (الميزان)، وهي صحيفة أدبية كان الأديب النابغ الناقد الأستاذ أحمد شاكر الكرمي - رحمة الله عليه - بنشرها في دمشق:

(زين لشباب أبو فراس م لم يمتع بالشباب)

ولقد فقد الأدب بغيبة أحمد شاكر الكرمي خيراً كثيراً كان يرتجيه من ذاك النبوغ

أخبرني مدير مدرسة في مدينة الناصرة أنه سأل الأستاذ الريحاني حين مر بها عن سبب (المناظرة بينه وبين النشاشيبي)؟ فقال: (أردنا أن نعلم الناس كيف يتناظرون). ولهذا الجواب قصة أدع ذكرها اليوم، وفي الطبعة الأخيرة للريحانيات إرشادة إلى شئ منها. وهذه نتف مما قلته في الجدال:

(دع ذا، وجئ الآن إلى قول الأستاذ: إن الإنشاء فن، والإفراط في الكلف بالفن خسران. وإن اللغة ذريعة واتخاذ الذريعة المقصد المنشود - ضلال. وقل له بعد تحية ثانية:

الحق أن اللغة لم تلك إلا ذريعة، وما هي إلا ابنة لغة الذي هو اليوم أدنى من الإنسان (وإن لم يراد سن الإنسان أعلى منه) ولكن المرء قد تفنن في هذه الذريعة (كما تفنن في ذرائع الشر. . .) فجاء منها الفن: جاء الشعر، وجاء النثر، وجاءت تلك الصفحات العبقرية. وراح ذاك الفن يتهادى مع سائر اخوته من الفنون الفتانة. والرقص من هذى الفنون. وإن الرقص لفتنة، إن الرقص لفتنة، وقد أضاف الدين كاتب إفرنجي ملعون إلى تلك الفنون. .

فإن قلنا: إن من اللغة فناً وجب أن نحتفظ بذاك الفن، وأن نعنى به عنايتنا بغيره من الفنون، وأنه لأحق بالترحيب والاهتمام به من غيره. وإن كان فن الموسيقى أو المصور مما يهذب نشء الأمة فالنثر القرآني أعنى النثر العبقري والشعر العلوي أثرهما في تهذيبهم أكبر

وإن عددنا الفن (كما عده كاتب إفرنجي يوم هاجت سرقة تلك الصورة قومه) سخافة أو

ص: 7

هذراً، ورحنا نقول مع الزمخشري:(الفنون جنون والجنون فنون). جازلنا أن نعد كل شئ في الوجود سخيفاً، وألا نجد لهذا الكون معنى، ولزمنا أن نبادر إلى الانتحار، وندع الدار تنعى من بناها. . . لا، لا. . . إن هذا الحسبان خسران، والرأي الحكيم الرصين أن نرى الجيد جيداً والجميل جميلا وأن نبتهج بمشاهد الكائنات مع المبتهجين معرضين عن مقالات شوبنهور وسائر المتشائمين منشدين في كل حين:

(تمتع من الدنيا فاك فانِ)

(تمتع من شمم عرار نجد)

و (الدنيا - كما قال جار الله - عمري ولا خلود إلا في الأخرى).

فن اللغة فن، في الإنشاء فن، فلا تسألن الفصيح البليغ في المقال أن يذر فصاحته وبلاغته وذا الفن أن يهجر فنه، وينزل من عليائه إلى فنائه، ويزايل عزلته، ويماشي جماعته، ويتبذل أسلوبه وهو يستطيع صيانته، ودعه يفتن الإنشاء كيف شاء.

إن المتفنن في الناس قليل، وقد مات بالأمس (أنا طول فرنس) ولا خليفة في قومه له. وهذه حالة لا يصل إليها كل ساع فلا تخف من أن يكثر المتفننون. . . وهؤلاء الرهط في الأمم هم سلوى المكروبين، ومهذبو الطالبين، هداة المتأدبين، وموقظو الهاجدين، وقائدو الثائرين، وبكلامهم تصقل الكتاب قرائحها).

(كانت اللغة فجاء منها فن، وهو لا يكون في كل ضرب مما تخطه الأقلام ولن يكون. وأهله اثنان: الشاعر والأديب ولا ثالث لهما، فدعهما يحدوان مع الحاد، ويهيمان في كل واد. وفضيلة كلام (الشاعر والأديب) أو هذين المتفننين أو الفنانين هو هذا الجمال الذي تلاقيه فيه، ومع الجمال الوضوح كل الوضوح، بل ليس الحسن إلا الوضوح. فمرغبي ومرغب كل من يتراءى برأيي أن نصون هذا الرونق أو هذه الديباجة كما يصون الكريم ديباجتيه فلا يبذلهما. . . وقد أعلن الأستاذ الريحاني في مقاله أنه يهوى الديباجة، ولا ريب في ميله هذا، فكل شئ تنوقت الطبيعة في تجويده يستهوي العاقل. ولن ننشد إن شاء الله في يوم بيت المتنبي الذي أومأ الأستاذ إليه في كتابه:

زودينا من حسن وجهك ما دام (م) فحسن الوجوه حال تحول فلن يحول جمال العربية، ولن تزول ديباجتها، وإذا استطاع القوم في الغرب أن يجملوا بالكهربا الشنيعات، فلن نعجز في

ص: 8

الشرق عن الاحتفاظ ببهجة المليحات. . .)

(يجعل مقتبس علم غربي يترجم مبحثاً أو يلفق قولا وهو لم يتخرج على أستاذ قادر، ولم يقرأ كتاباً واحداً، ولم يعرف أسلوب علمه اللغوي، ولم يقف على ألفاظه ولا على بعض ألفاظه، وتلقيه يزجر وهو يكتب زحيراً، ويلعن العربية التي جهلها لعناً كبيراً، ثم يطرح بجهيض يعمى الناظرين، فإذا عيبت جهيضه لا حاك، وتهدم على اللغة بالتنقيص)

(الأستاذ الريحاني فاضل نابغة تنكب عن طريق التقليد، وأنكرت نفسه الرقي العقلي فكدحت في تحريرها، فلما حررها لم يستبد بخيره، وأراد أن يشركه في الخير غيره، فدعا قومه إلى حريته، وانتحال عقيدته. ثم أبصر الأستاذ الغرب يطير ارتقاء وقومه العرب قد ألفوا الحضيض (آلف للحضيض فهو حضيض) كما قال أبو تمام، فشق عليه أن يشهد ذل جهلهم وقد اعتز بالعلم خصمهم وآكلتهم، وتحقق أن الذي أقعد في العلياء الغرب هو علم الغرب فنادى إلى إيثار ذلك العلم، وأشفق أن يعوقهم الاهتمام بالمهم أو غير مهم عن طلب الأهم فقال لهم: اجتزئوا من المونة اللغوية بزاد سافر، فلن يعذل وهذا قصده. والحق الذي يدريه الأستاذ الريحاني، ولكن حرصه على الذي رآه أحق بالتقديم قد حمله على أن يتناساه هو أن الانتباه الأدبي في الأمم يسبق الانتباه العلمي، فهذا بناء وذاك أساس، وإن الأمم العربية اليوم هي في وقت الترجمة. وعند الغرب علوم كثيرة ومباحث فيها دقيقة. وفرض عين أن تنقلها العربية وأن يفقهها نشؤها، ولن تفهم ولن تفيد حتى تصح ترجمتها، ولن يستطيع احتواء تلك العلوم ومعانيها إلا اللغة القرآنية العلمية، إلا اللغة الصحيح تركيبها الكثير لفظها التي ظل العلم القديم يلينها ويوسعها ويصقلها أحقاباً. وإذا لم توصل لغة علم اليوم بلغة علم الأمس ويستظهر بهذه فلا علم في هذا الزمان عند العرب. ومن ظن أن اللغة العامية وهذه التي هي فوق العامية تقدران أن تعيا علوم الغرب وتضم عباراتهما تلك المعاني الحديثة أو الجديدة فظنه (والله) عجيب!)

ثم أبعث إلى الفيلسوف بكتابي (البطل الخالد صلاح الدين والشاعر الخالد أحمد شوقي) وقد طبع سنة 1351، فتجيبني منه رسالة في 26 شباط سنة 1933، وقد ظهرت في (الرسالة الغراء) 269 في 3 رجب سنة 1357في الصفحة 1411 من السنة السادسة

ومن قرأ رسالة الأستاذ الريحاني الثانية رأى أنه (قد استطاع أن يكتب عربياً عبقرياً

ص: 9

ويجاري البلغاء)، وأنه قد آمن بـ (الكلمة) وصدق بالبلاغة وفضيلتها وجمال القول وجودته وبكلام الإمام الرازي:(رب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها)، فنسخ المذهب الجديد لفيلسوف مذهباً قديماً ولو لم تفجع به العربية - وأعظم بفجيعتها بـ (بالأمين) - وعاش حتى اطلع على (دفاع عن البلاغة) لازداد إيمانه ويقينه، وأيد (صاحب الرسالة) تأييد أنصاره.

(الزيات) إذا نثر، مثل (شوقي) إذا شعر. ولقد أعطى الله مصر في هذا العصر إمارة الشعر وإمارة النثر. ولو بعثت (فلوبير) القائل:(أهون على المرء أن يقنطر، وأن يسكن في قصر بندقي (فنيسيي) منجد من أن ينشئ صفحة واحدة عبقرية) وحذق العربية، لأضاف إلى قوله هذا هذه الكلمات:(مثل الصفحات، التي ينشئها الزيات).

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 10

‌من أحاديث المحبين

الموسيقي العاشق

للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي أمس صديقي حسني: أني لأعلم شغفك بالموسيقى، وحبك الفن القديم، فهل لك في سماع رجل هو أحد أعمدة هذا الفن في دمشق ومن أساطينه، وهو هامة اليوم أو غد، فإذا انهار أو شك ألا يقوم مثله أبداً؟

قلت: ما أحوجني إلى ذلك، فمن هو هذا الموسيقي الذي لا أعرفه إلى اليوم على ما ذكرت من إمامته وتقدمته، وعلى معرفتي بأرباب هذا الفن؟

قال: هو (ش) بك رجل تركي، كان من موسيقي القسطنطينية أيام السلطان عبد الحميد، وانتهت إليه رياسة (العود) فيها، وله اسطوانات هي عند الموسيقيين، كرسائل الجاحظ عند جماعة الأدباء، واسمع فعندي واحدة منها

وقام إلى (الحاكي) فأداره، ووضع اسطوانة عتيقة، فسمعت شيئاً ما حسبت مثله يكون، وبدا لي كل ما سمعت إلى اليوم من ضرب الموسيقيين كأنه إلى جانبه لعب أطفال. وخربشة مبتدئين

قلت: ويحك قم بنا إليه الآن

فقمنا وأخذنا منها شيخ الموشحات في دمشق الشيخ صبحي واثنين من محودي المغنين، وذهبنا إليه

ضربنا في الجبل حتى جاوزنا الدور الفخمة والقصور العامرة، ووصلنا إلى طائفة من المساكن هي أشبه بأكواخ، وقد بنيت من الطين وقامت دوين الصخر، فوقفنا عند واحد منها، وقرع الباب دليلنا حسني كنعان، ففتح لنا رجل طوال، عريض الألواح، حليق الوجه محمره، ولكن الكبر ظاهر عليه، قد جعد وجهه وإن لم يحن ظهره، ولم يهصر عوه، ورحب بنا على الطريقة التركية، يخفض يده، ويلوح بها على أسلوب معروف ثم يمس بها طرف ذقنه ويرفعها إلى جبهته، كأنه يقول: أني آخذ ذيل أحدكم فأقبله وأضعه على رأسي، وبالغ في الترحيب بنا ودعانا إلى الدخول فدخلنا، فإذا رحبته نظيفة ولكنها خالية من الأثاث، ما فيها إلا أشباه كراسي، وسدة من الخشب مفروشة ببساط هي السرير وهي

ص: 11

المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقاً ونظافة. . . فقعدنا، وحلفنا عليه ألا يصنع لنا شيئاً، فما نريد إكرامنا منه إلا بأسماعنا ضربه. . .

أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شئ من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة. . .

فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فأبى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه. . .

قال حسني: كيف وأنت سيد من جس عود، وأنت إمام الضاربين!

قال: إنني لا أستطيع!

فلما ألحفنا وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئاً، ولن أجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب. . .!

وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:

قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطاً مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا، أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حياً في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قط إلا بذكراه. لقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن. . . أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة. . . لحظة. . . إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. . . إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقة. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطى على الحقائق، هذه هي ذكرياتي. . .

كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعلم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوربا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في

ص: 12

الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني:(إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة). . . وأحسب أني كنت كذلك، ولكني - ولست أكذبكم - ما عرفت طريق الحرام، ولا الحلال استطعت سلوك طريقه!

قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يشمق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وأنه لأشد بياضاً وليناً من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه في النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، أنه ليس كذلك، هو شئ ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكباراً لا ميلا، وتقديساً لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفراً، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها. . .

وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها، ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها. . . عينين زرقاوين واسعتين، فيهما شئ لا يوصف أبداً، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا. . . أنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شئ بعدهما. . . العفو يا سادة! أنا لست أدبياً، ولا أحسن وصف الكلم، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ أنه لعلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك. . . أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ أعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئاً، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شئ لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة!

ولما تكلمت سمعت صوتها كأنما هو. . . مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس؛ وصوتاً خليعاً وآخر

ص: 13

صيناً. إن الصوت لينطق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء! وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهي عنه! وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.

لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت اشد منها حياءً وخجلا. ولم يكن أبناء زماننا أولى وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال - وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شئ قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهداً، ورأيت ضوء الشمس أشد نوراً، وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت انظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصبحتهم شيئاً ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي فلم أطق فيها قراراً، ولا اشتهيت طعاماً ولا شراباً، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فأهيم حولها أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها. صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها أو يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شئ قلبي فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى إذا أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت أليّ نظرة شكت (وحرمة الحب) كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحاً، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت!

وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة

ص: 14

البكاء صوته:

أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وإني لا أزال شاباً ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم - فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني إن هذه الذكرى قد خالطت شعاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات!

قلت: فاخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟

قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ أنها تحرقني، تنتزع روحي. . .

كان يا سادة: أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شئ لي، إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي.

لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعها من لحمي ودمي، فدعوها لي، أنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويتلهى بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم. . .

وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم!

وسكتنا - فقال بعد هنية:

وقد ذهبت أودعها - فأخذت يدها بيدي، وكانت تلك أول مرة وآخرها، كأني أنازع الموت

ص: 15

إياها - وأسحبها منه:

- أنك غداً، تحب غيري وتضرب لها على عودك.

قلت. لك علي عهد الحب، لا نظرت بعدك إلى امرأة، ولا أجريت يدي على عود.

ومسكت، ونظر إلى العود كأنه يريد أن يعتنقه لينطقه بالمعجزات، ونترجم به عن لواعجه، ثم غلبه البكاء مرة ثانية فقام، وانسللنا نحن واحداً بعد واحد، وأغلقنا الباب ونحن نسمع نشجيه!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 16

‌من وحي جويو

الحياة. . .!

للأستاذ زكريا إبراهيم

هؤلاء الفلاسفة الذين طالما عنينا أنفسنا بدراسة آثارهم وتتبع أفكارهم، ما بالهم قد حدثونا عن كل شئ إلا الحياة؟ لقد ملأوا أسماعنا بأحاديثهم عن الفكر والوجود والعلة والقوة واللذة والغريزة ولكن أحداً منهم لم يحدثنا عن الحياة حديثاً شاملا مفصلا. أتراهم قد توهموا أن الحياة ليست شيئاً أكثر من الغريزة أو من حساب اللذات (على طريقة بنتام)، أو من الأنانية وتقديس الذات (على طريقة نيتشه)؟. . . ولكن، لا؛ إن الحياة شئ أكثر من هذا كله، لأنها في جوهرها فيض وتوسع وامتداد. فإذا كان أبيقور يقول:(إن الكائن يمضي حيث تدعوه لذته) فإن في استطاعتنا أن نرد عليه بأن نقول: (كلا، بل أن الكائن ليمضي مدفوعا من تلقاء نفسه، ثم يجد اللذة في الطريق. فاللذة ليست هي الشيء الأول، وإنما الشيء الأول والأخير هو الحياة). والحياة تسير دون حاجة إلى قوة أعلى منها، لأنها بذاتها حركة وقوة واندفاع. فليست الحياة حساباً للذات، كما زعم بتنام، بل هي فعل ونشاط وفيض مستمر.

أجل، إن الحياة لتنطوي في صميمها على مبدأ الامتداد والتوسع والخصب والانتشار. فالوجود الحقيقي إنما هو ذلك الذي يتمثل في تلك الحياة الخصبة الممتلئة، التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، وتبذل من نفسها للآخرين، وتشرك نفسها مع الآخرين. والكائن الحي، إذا بلغ درجة كبيرة من الرقي، فانه يكون أشد نزوعا إلى حياة الجماعة، لأن في هذه الحياة فيضاً وتوسعاً وامتداداً

والحياة لا يمكن أن تكون أنانية خالصة، حتى إذا أراد المرء ذلك؛ فإن ثمة ضرباً من السخاء يلازم الوجود دائماً، وبدونه يموت الكائن الحي أو تذبل نفسه. فإذا أردنا أن نستبقي حياتنا كان علينا دائماً أن نزهر؛ وما زهرة الحياة الإنسانية إلا الإيثار والتضحية وبذل الذات

إن الذات التي يزعمون أنها مغلقة، هي في الحقيقة مفتوحة، وهي على اتفاق بالفطرة مع الذوات الأخرى؛ بل أنها لتنفتح شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر. وإذن فالامتداد نحو الآخرين ليس

ص: 17

معارضاً لطبيعة الحياة - كما توهم بعض الفلاسفة - وإنما هو على العكس من ذلك موافق للطبيعة، بل شرط ضروري للحياة المليئة الخصبة - والواقع أن محبة الآخرين لا تفترق أبداً عن الحياة الحافلة الفائضة، لأن مثل هذه الحياة مثل الأمومة الواسعة التي لا تستطيع أن تقف عند حدود الأسرة. (إن ثدي الأم (كما يقول جويو) في حاجة إلى الشفاه النهمة التي تلتهمه وترتشف رحيقه الثر؛ كذلك قلب الكائن الإنساني حقاً، هو في حاجة أيضاً إلى أن يرتمي الآخرون في أحضانه، لكي يجدوا فيه الغوث والنجدة. بل إن في قلب المحسن نزوعا باطناً، وميلا دفيناً، نحو أولئك الذين يتجرعون مرارة الألم).

أليست الحياة إذن إيثاراً وتضحية وبذلا للذات؟ أليس جويو على حق حين يقول: (لي يدان: واحدة أصافح بها من أسير معه في طريق الحياة، والأخرى انهض بها من يعثر. وفي استطاعتي أيضاً أن أمد كلتا يدي لهؤلاء.)؟ أليست الحياة العليا إنما هي تلك التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، كما سبق لنا القول؟

إن اللذات الدنيا هي وحدها التي تتسم بطابع الأنانية. فحينما لا تكون هناك غير قطعة واحدة من الحلوى، نجد أن الطفل يريد أن يستأثر بها. أما اللذات العليا فإنها بطبيعتها لذات ليس فيها من الأنانية شيء.

قد يشهر الإنسان بلذة فنية، فهنا نراه لا يريد أن يستمتع بها بمفرده، بل تريد أن يشعر الآخرين أنه يستمتع ويتذوق فعند اللذة الفنية يريد المرء دائماً أن يعرف الآخرون أنه حي، وأنه يشعر، أو أنه يقاسي أو أنه يحب. أنه يريد أن يمزق نقاب الفردية.

والفنان الحقيقي لا يريد أن يكون بمفرده عند مشاهدته لشيء جميل أو عند اكتشافه لشيء عليه مسحة الصدق، أو عند شعوره بعاطفة نبيلة.

أليس الفن للحياة وبالحياة فكيف لا يظهر فيه طابع الحياة مع أنه هو المعني الباطن للحياة؟ ألم يقل جويو أنني حينما أبصر الجمال، فهناك أود أن أكون اثنين (لا واحداً)؟ إذن فكيف لا يكون الفن في جوهرة مشاركة وتوافقاً؟

إن الحياة الخصبة الحافلة هي أولا وبالذات حياة اجتماعية؛ فأينما فتشت عن الحياة، وجدت الإيثار والتضحية وبذل الذات والأنانية هي سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب وامتلاء؛ لذلك كانت الحياة الفائضة الطافحة، هي تلك التي تمثل الوجود الحقيقي.

ص: 18

وبعد هذا كله ليس في وسعنا إلا أن يقول كل منا مع جويو: (أنا لست مالكا لنفسي، فإن كل موجود بدون الكل لا شيء!) والإنسان لا يمكن أن يحيا أو يفكر أو يعمل، إلا إذا كان ذلك للآخرين وبالآخرين، ومع الآخرين!

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

ص: 19

‌من الأدب القومي:

يوم. . . ويوم. . .!

للأستاذ شكري فيصل

(إلى الذين يتساءلون: أين أنا؟. . . إلى الذين عشت معهم، في

غفلة الدنيا، على مقاعد الجامعة ورحابها. . .)

- 1 -

شهدتك، أيها الخفاق، تتعالى فوق الثكنات الكبرى التي تحتاط دمشق. . . واكتحلت عيناني بالأمل المزدهر على نسمات الريح وخفقات القلوب. . . واستمعت إلى حفيفك الناعم يقص حديث السنين الخوالي. . . ولم تتمالك عيناي، أيها الخفاق، أن تفترا عن الدمعات المندية التي لمحت من وراء غشائها الرقيق مراحل قصتك الدامية. . . لقد ذكرت فيصلا والملك، والفرنسيين والهلك، والصفحات الحلك السوداء التي جللت ثرى الوطن فاستعبرت. . . والعبرات، يا علمي، العبرات التي كانت تنفر كالعزم الحديد في عيون الآلاف المتحلقة من حواليك كل ما ملك الناس في أصيل الرابع والعشرين من تموز

- 2 -

وأين يوم من يوم، أيها الخفاق، منذ خمسة وعشرين عاماً آب الناس إلى بيوتهم تقطعهم الحسرات: الشهادات على أفواههم، والجراحات في أجسادهم، والدماء من خلفهم ومن بين أيديهم، وملك فيصل النضير يجتاحه الغزاة العتاة كما تجتاح الزوبعة الروض الممرع. . . واليوم، بعد هذه السنين الطوال العجاف، لا تظل البيوتات رجلا أو امرأة، شاباً أو فتاة. . . لقد خرج الناس تهزج لهم المنى، وتغني لهم الأحلام: الزغردات على أفواههم، والعزمات ملء برودهم، ومجد أمية من وراء العصور يتلألأ في أذهانهم. . . ومضوا يملئون الطرقات إلى الثكنة العسكرية الكبرى، إلى ثكنة (الحميدية)، وانتشروا يتدفقون على عرض الدروب، ويتدافعون على حفافي الشوارع، ويتزاحمون على أطراف الأرصفة!

إنه يومك، يا علمي، كانت انتزعتك اليد الغاصبة لتحيل ألوانك، وتخفت لمعانك، وتمزق

ص: 20

عروتك الوثقى. . . ولكن من دمائنا بعض ألوانك، يا علمي، ففديناك. . . ومن بريق أعيننا لمعانك فحفظناك. . . وعلى عراك هذه الوثقى تآلفت قلوبنا والتقت أفئدتنا. . . فكنت خفقتها التي لا تني، ونهضتها التي لا تفتر، وعزمتها التي لا تكل!

- 3 -

وحين وقفت هذه الجموع المؤلفة، يا علمي، كنا نحن. . . هؤلاء الشباب المتفتحين على عبوس الأيام، والمتقلبين في كالحات الليالي. . . نرمق ساريتك القائمة كالساعد المفتول. . . أنها وحدها هي التي كانت قيد نواظرنا فلم نتحول عنها. . . لم تأسرنا روعة المكان، ولم تأخذنا ضخامة البنيان، ولم تلهنا الآلاف المتدفقة، فلقد استحال كل شيء في نفوسنا بسمة تحييك، وخفقة تناجيك، وذكريات تواكبك. . . وركزت أبصارنا في شرفتك العريضة في نظرات من الرجاء العريض، والرغبات المستوفزة، والأمل الوثاب. . . ولم نعد نحن. . . نحن الذين تعاورتهم السنون بالجدب، وتعاهدتهم الحياة بالمصاعب، وإنما رحبت بنا مطارح الأحلام، وسمت بنا واسعات الأماني، وبدلنا دنيانا بدنيا أخرى. . . فشهدنا في نشوة لذة الأطلال الخرائب جنة ممرعة، والأسى الغالب فرحة محققة، والأحزان المقيمة بهجة مونقة. . . لقد تفتح لنا المستقبل عن وطن مهاب، تملك، أنت وحدك يا علمي، أرفع ذراه، وتتوسد أعلى رباه، وتقف في شم صخوره وشوامخه، وتمر بك نسماته تضمخها بالمجد وتعطرها بالإباء، وتبعث بها إلى هؤلاء الذين يفتدونك طاهرة لم تلوثها خفقات غاصب ولا نفثات دخيل!

- 4 -

وحين دخلنا، يا علمي، باب الثكنة الكبرى، كانت محاجرنا تفيض بالدموع، ومن خلال ألقها الصافي كانت تنسحب الذكريات الحلوة المريرة: أولئك الذين استشهدوا على حفافي الوادي في ميسلون، وفي ثرى الغوطة في دمشق، وأرباض الجبل في أرض بني معروف، ومعاقل الشمال في حلب. . . وهؤلاء الذين ذهب بهم الغدر في الطرقات، واستبد بهم اللؤم في الشوارع، وانتزعهم السلاح المعربد من فرشهم. . . وجماعات وأفراد كانت السجون قبورهم، والكهوف لحودهم، والمنافي آخر عهدهم بالحياة. . . وأمهات سبق إليهن الثكل،

ص: 21

وأطفال عدا عليهم اليتم، وأسر باكرها الخراب، وبيوت سطا عليها العذاب. . . أولئك جميعاً كانوا كأنما تتمثل لنا مصارعهم في سبيلك، يا علمي، فلا يبكينا الأسى، ولا تنال منا الأحزان، وأنا يبكينا أن تلفهم الأكفان الحمر قبل أن يشهدوا سناك الزاهي، وجبهتك الناصعة، ورفرفتك التي تحدث حديث المجد، وتقص سيرة الكرامة، وتروي نبأ الأبطال والبطولات!

- 5 -

وفي الساحة الكبرى، وقفنا نشهد - أيها الخفاق - ظفر الحق، وانتصار العقيدة. . . لطالما وقف في هذه الساحة طغاة يرطنون ويعجمون، ويصيحون ويصرخون. . . لطالما جلدوا الأبرياء، وأهانوا الأحرار، وثكلوا بالمستضعفين. . . لا النبل يهزهم، فقد ذاب في صدأ نفوسهم جوهر النبل. . . ولا الشرف يردعهم، فقد ذهبت يد الظلم بحلية الشرف. . . ولا المشاعر الإنسانية تختلج في أفئدتهم، فلم يبق فيهم أفئدة تختلج فيها مشاعر، وإنما هي مغاور تنفث السم، وتتلظى بالكيد، وتتوسل بالانتقام. . .

واليوم، اليوم يا علمي، تشهد الساحة الكبرى خلقاً آخر وحفلا جديداً. . . أنها لا تحس وطء الأقدام، ولا ثقل النفوس، ولا حلكة الظلم. . . أنها لا تجد زمجرة الانتقام ولا استطالة البغي، وليس عليها الساعة أوداج تنتفخ بالغيظ، وعروق تتغزر بالحقد. . . أنها تذكر ماضيها، وتدركانها تعود للشعب الخير، والجماعة النبيلة. . . أن رمالها تتراقص، وأنها لتتناغى فرحة طروباً كأنما تغني معها الريح أروع الأناشيد: أنشودة الأرض حين تظفر بأبنائها الطيبين. . .!

- 6 -

. . . لن أنسى، يا علمي، هذه اللحظات الخاطفة، حين امتد الزمان، فغطى دمشق: ربيبته التي علمته الخلود، بالصمت الملذ الناعم، ونشر عليها رداء من السكون الهادئ العميق. . . ثم بعث فيها صوتاً واحداً، فيه الحياة عريضة كريمة، وفيه الأمل ريان مخضلا، وفيه الفرحة قوية عميقة. . . وأثار ذراها خفقة عنيفة نشيطة، خفقت معها قلوب، وعاشت معها نفوس، وازدهرت بها أماني، ما كان أقربها إلى الذبول. . . فإما الصوت فصوت البوق

ص: 22

البشير، وأما الخفقة فتجاوبك مع الريح، يا علمي الحبيب!

والآن. . . حين أمضي أيها الخفاق، في هذا الشارع النضر المتسع الرحاب، في طريق (كيوان) و (الربوة) تنسق بي الخطى مع طائفة من رجالنا المخضرمين. . . أنهم شهدوا في مثل هذا اليوم وهذه الساعة وهذا الطريق، الجيوش المعتدية الظافرة تدخل دمشق دخول الجبارين، فأغمضوا أعينهم على القذى، وشدوا قلوبهم على الألم، وانطووا في نفوسهم على حرقة لاذعة!

واليوم. . . اليوم تكتحل أعينهم بالموقف الخالد، فيشهدون الفرق الوطنية الظافرة تحفظ على دمشق جبروتها وكرامتها وعزتها. أنهم ليستعبرون عبرة الفرح، وتتفتح قلوبهم على شذى (الغبطة) وتعود إليهم نفوسهم راضية جذلة. . .

يا ما أمتع حديثهم، يا علمي، أنه حديث الصبر المظفر، والعقيدة المنتصرة!

لعينيك، يا علمي، لألوانك الزاهية، ونجومك الزاهرة، وبريقك الحلو. . . هذه العزمات المتدفقة كهذا النهر، النقية كهذه السماء، الرائعة كهذا المساء!

أنك بضعة قلوبنا، يا علمي، فاخفق في ذرى الوطن حارساً وأميناً. . . ولتتحدث نسائمك إلى شهداء ميسلون تحمل لهم الحياة والفرحة. . .!

(دمشق)

شكري فيصل

ص: 23

‌العلاقة اللغوية

إن السؤال الذي غالباً ما يعنى الباحث الجنسي هو: هل لهذه اللغة علاقة بتلك أم لا؟ ونقصد بالعلاقة هنا وحدة الأصل مثلما يجيء شقيقان من أب واحد، فإذا ما اتضح أن هناك لغات واحدة المصدر كانت الشعوب التي تتخاطب بها - في وقت ما - تكون شعباً واحداً. ومن ناحية أخرى إذا ما كانت لغات شعبين جد مختلفة يتحدان من الناحيتين: الجنسية والثقافية، كما هي الحال في المجر وجيرانهم، فإنه يبدو أن عنصر من هجرة متقطعة له علاقة بذلك، فقد يضطر جزء من مجموعة جنسية أصلية إلى إدخال بعض التعديلات في لغته تحت تأثير المعرفة أو الحاجة أو الهجرة أو أي حادث تاريخ آخر مما يدعو إلى استبدال هذه اللغة بأخرى. وربما يكون العكس صحيحاً أيضاً، إذ تكون المجموعتان متميزتين في الأصل كل التميز ولكن تختلط ثقافتهما وتمتزج على أثر تجاورهما وتزاوجهما حتى يصبح الجنسان الطبيعيان جنساً واحداً بينما تظل اللغات منفصلة متباينة. والإصلاح الذي يدل على أن لغتين أو أو أكثر لهما أصل واحد وليس لهما علاقة ما بلغة أخرى من اللغات هو (العائلة اللغوية كما أن كلمة (الكتلة اللغوية تستخدم مرادفة لها.

هذا هو الأساس الجوهري في تقسيم اللغات، واللغات التي قد يكون فيها تشابه ما في الأسلوب أو في البناء كالتصريف مثلا يجب أن توضع في عائلة واحدة. والذي يعنينا هنا هو أن يستعمل اصطلاح (العائلة اللغوية) أو مرادفة (الكتلة اللغوية) للدلالة على أن مجموعة من اللغات موحدة الأصل، أما المجموعات الأخرى فيشار إليها بعبارات أخرى.

لكي نتعرف العلاقة بين اللغات نلجأ إلى طريقة المقارنة، فإذا تشابهت أساليب أو قواعد أو كلمات لغتين إلى الحد الذي لا يظن فيه أنه حدث لمجرد المصادفة، فليس من شك في أن هذه الكلمات المتشابهة ترجع إلى أصل واحد. وإذا لم يظهر بالمقارنة علاقة فيجب أن تصنف اللغات في عائلات متميزة. وليس من الضروري أن يدل عدم وجود العلاقة والتشابه بين لغتين على أنهما ليستا من أصل واحد، لأن توالي الأزمنة كفيل بتغييرهما تغييراً بمحو أي تشابه بينهما؛ وللخبير وحده أن يتبين العلاقة بينهما. وقد يبدو لنا أن بعض اللغات لا تتشابه مع أننا لو عدنا بالماضي القهقري اتضح لنا وحدة أصلها، وقد يرجع هذا إلى عدم معرفتنا تاريخ هذه اللغات أو كيف نحللها ونكتشف العلاقة بينها. وكثيرا ما يظهر

ص: 24

- بعد الدراسة الدقيقة - أن مجموعة من اللغات ليس بينها تشابه ترجع إلى أصل واحد، ففي مثل هذه الحال ما كان يعتبر عائلات لغوية متعددة هو في الواقع عائلة لغوية واحدة.

ولكي نقدر التشابه بين اللغات فإن الكلمات التي تتخذها برهاناً يجب أن يتوافر فيها شرطان: أولاً التشابه في اللفظ، وثانياً التشابه في المعنى، فالكلمة الإنكليزية والكلمة الفرنسية يتشابهان في اللفظ ولكنهما يختلفان في المعنى، بحيث لا يمكن أن نرجعهما إلى أصل واحد، فكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية بينما كلمة تمت بصلة إلى الكلمة الألمانية وهاتان الكلمتان وتختلفان في اللفظ والمعنى فلا يمكن إرجاعهما إلى أصل واحد. وإذا فرض أن ضاع الأصل اللاتيني والألماني ولم يكن يعرف شئ عن تاريخ اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ولم يكن معنى جزيرة بل سمك أو ثعبان الماء. . . حينئذ يمكن أن نقول بوجود علاقة بينهما.

وهذه الحالات المشكوك فيها ناتجة عن أن تلك اللغات لم تدون عند بعض الشعوب، ففي لغة أهل كاليفورنيا القدماء الذين يطلق عليهم اسم (يوكي) نجد كلمة بمعنى وبمعنى ولكن البحث اثبت أنه لا توجد علاقة البتة بين اللغة الإنجليزية ولغة كاليفورنيا، فلا يدل وجود التشابه بين بعض الكلمات قطعاً على وجود علاقة بين اللغتين، فكثيرا ما يصادف أن تشابه بعض الكلمات كلمات لغة أخرى في اللفظ والمعنى، وقد يرجع هذا إلى أن بعض اللغات تستعير كلمات لغة أخرى كما هي الحال في اللغة الإنجليزية إذ نجد بها بعض كلمات فرنسية ولاتينية.

إن عدد العائلات اللغوية - من الناحية النظرية - ليس أمراً مهماً فإن هذا العدد لا يمكن أن يحدد، وكلما تقدمت بنا المعرفة والعلم بدت لنا قوانين جديدة تعمل على توحيد تلك الكتل التي تبدو لنا الآن منفصلة. وفي كل من آسيا وأوربا اللتين تعتبران - من هذه الناحية - وحدة واحدة، لا يتعدى فيهما عدد العائلات اللغوية أربعا وعشرين، وأهم تلك اللغات باعتبار عدد الذين يتكلمونها هي (الإندو الأوربية) أو الإندو الألمانية أو الآرية وهذه تنتشر في جنب غربي آسيا، ومعظم - إن لم يكن - كل أوربا. وأعم فروع اللهجات الآرية هي لهندية والسلافية والألمانية واللاتينية. واللغات الأخرى هي: الإيرانية والأرمنية واليونانية والإغريقية، والألبانية، والبلطية والكلتية.

ص: 25

وقد انتشرت في هذه العصور الحديثة من أوربا العائلة الآرية كاللغة الإنكليزية والأسبانية والفرنسية والروسية إلى أقاليم أخرى مثل استراليا وأمريكا حيث يقطن معظم أراضيها شعوب تتكلم هذه اللغات. ويمتد توزيع اللغات الآرية على شكل حزام من غرب أوربا إلى شمال شرق الهند، ولا يعترضها في الطريق سوى آسيا الصغرى التي حلت اللغة التركية فيها محل اللغات الآرية. كذلك احتلت اللغات التركية المنطقة التي في شمال بحر بلطق. ومما يضاهي اللغة الآرية من حيث عدد الذين يتكلمونها اللغات الصينية التي تنتشر في الصين الأصلية، واللغات الألتية التي تتمثل في اللغات التركية والمغولية والمنشورية وهذه تنتشر في شمال ووسط آسيا وبعض جهات أوربا.

أما شرق أوربا وشمال غرب آسيا فهو موطن اللغات الأورالية ولغات الفينو والهنغارية المجرية ويوحد معظم العلماء هذه الفروع الأورالية الثلاثة مع الفينو والسامويد ويضعونها في عائلة أورالية ألتية واسعة.

ومن العائلة السامية اللغة العربية، وهي من أعظم اللغات السامية حياة وتمثيلا، وتشبهها - كصنف شقيقة لها - اللغة الأمهربة في الحبشة. وكثير من الشعوب القديمة كانت تتكلم اللغات السامية مثل البابليين والأشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين والعبرانيين.

ومن اللغات الهامة لغة الدرافيدا في جنوب الهند ويبلغ عدد الذين يتخاطبون بها نحو من خمسين مليوناً، وكذلك من اللغات الهامة لغة اليابان ولغة كوريا، وقد تكون لغة أنام مستمدة من اللغة الصينية ولكنها تعتبر إلى حد ما مستقلة عنها.

(مترجم متصرف)

عمر رشدي

ليسانس في العلوم الجغرافية

من جامعة فؤاد الأول

ص: 26

‌على هامش الشعر السياسي

للأستاذ عبد القادر القط

لهذا الكتاب الذي أخرجه الأستاذ أحمد الشايب قيمة خاصة، فمؤلفه أستاذ بكلية الآداب - ومؤلفات الأساتذة في جامعاتنا تأخذ في أذهان الطلبة صفة المقررات، يحتذون منهجها فيما يكتبون من أبحاث، وينظرون إلى حقائقها نظرة فيها كثير من الإيمان بصدقها وسلامتها. وهذا ما حفزني للكتابة عنه قبل أن يبدأ العام الجامعي الجديد.

والشعر السياسي كغيره من ضروب الشعر فن من فنون القول، له طابعه الخاص ومقوماته البيانية التي تميزه وتكسبه صفات ليست لسواه من فنون الشعر الأخرى. فإذا ألف مؤرخ أدب كتابا عن الشعر السياسي فإن من الطبيعي أن يتحدث عن هذا الفن وكيف أثرت السياسة فيه وقادته إلى صور من التعبير ينفرد بها، وجعلت أصحابه ذوي طابع فني واضح يعرفون به دون سائر الشعراء أو يعرف به شعرهم السياسي دون بقية شرهم. ولكن الأستاذ عكس الآية - كما يقولون - فتحدث عن السياسة والخلفاء والولاة والأيام والأحداث وأفض في ذلك كله حتى خرج كتابه تاريخاً لا يمت إلى الأدب بسبب سوى أن رجال هذا التاريخ كانوا يقولون الشعر.

وقد تفاءلت خيراً حين قرأت له في المقدمة (أما المنهج العام لهذه الفصول فقد قام على أصلين أحدهما سياسي والثاني فني) ثم عدت فتوجست شراً حين رأيته يسهب في هذه المقدمة عن الأصل الأول ويقتضب الكلام اقتضابا عن الأصل الثاني، وما لبث هذا الشر أن طالعني في كل صفحة من صفحات الكتب

وحسب القارئ أن يعلم أن المؤلف قد كتب فصلا طويلا عن الشعر السياسي في الجاهلية شغل به خمساً وستين صفحة ثم لم يكتب عن جانبه الفني إلا هذه العبارة (والوصف العام لهذا الشعر أنه شعر العاطفة الصادقة والمعاني القريبة والخيال البسيط الجميل والعبارة السهلة الخالية من التعقيد، مع حسن اختيار البحور العروضية). أما كيف كانت هذه العاطفة الصادقة والمعاني القريبة، وأما مظهر هذا الخيال البسيط الجميل وهذا الاختيار الحسن للبحور العروضية فشيء لا يعني المؤلف في كثير ولا قليل!

وحسب القارئ أن يعلم مرة أخرى أن فصلا ملأ سبعين صفحة من الكتاب قد ختمه المؤلف

ص: 27

في حديثه عن الصفات الفنية للشعر السياسي في صدر الإسلام بقوله: (أما عبارات الشعر وصياغته الفنية فقد اضطربت بين القوة والضعف لأن الشعراء الذين شغلوا هذه الفترة مخضرمون أو مغمورون - والأولون تغير عليهم الجو فلم يستطيعوا مجاراته دائماً، ومنهم من انصرف عن الشعر إلى القرآن، والآخرون قالوه قطعاً في مناسبات شتى، على أن تأثير القرآن تأخر إلى الجيل الجديد). أما كيف كان ذلك فلا يجيب الأستاذ عنه بزعم ولا يقين.

وأستميح القارئ أن يعلم الثالثة والأخيرة ختام فصل طويل عن شعر الخوارج: (. . . وكان جديداً في أساليبه الرقيقة السلسة الجزلة التي تعتمد على القرآن الحكيم كما رأينا قبلا لعمران ابن حطان حين قال:

فنحن بنو الإسلام والله ربنا

وأولى عباد الله بالله من شكر

مضمناً قوله تعلى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وقول عيسى ابن فاتك الحبطي:

هم الفئة القليلة غير شك

على الفئة الكثيرة ينصرونا

فهذا معنى قوله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)

وإذا كان هذان البيتان - في ذوق المؤلف - جديدين في أسلوبهما (الرقيق السلس الجزل)، فقد فهمنا لماذا يتنكب الحديث عن الجانب الفني ويقتضبه في عبارات مرقمة؟! وما أيسر أن يقول المرء: هذا جديد، وهذا قديم؟ وما أيسر أن يأخذ من هذه الأحكام الشائعة فيقرر أن الأدب الجاهلي أدب الفطرة السليمة وأن أدب الشيعة أدب حزين، وأدب الخوارج أدب رصين. ذلك كله شئ ميسور، ولكن مناقشة هذه الآراء وبسط هذه الأحكام ومعالجتها بالذوق المرهف والإحساس اليقظ فشيء لا يتيسر لكثير من المؤلفين. واقرأ له قوله في (تلخيص) مذهب ابن قيس الرقيات تجد مصداق ما نقوله:(2) وبجانب ذلك تسود شعره السياسي عاطفة حزينة تشبه عاطفة الشيعة ولكنها لا تماثلها، إذ كان حزنه على قومه وعصبته العامة، وكان حزنهم على أنفسهم وعصبتهم الخاصة). فقد حكم المنطق حين كان يجب أن يحكم الذوق، فأسلمته مقدماته الخاطئة إلى نتيجة خاطئة؛ ولو قد قارن بين شعر ابن قيس وشعر الشيعة مقارنة فنية صحيحة لأدرك أن فن ابن قيس يفيض بالحزن الصادق واللوعة المريرة في رثائه صرعى وقعة الحرة، وفي بكائه أمر قريش وقد تفرق، ولأدرك أنه في

ص: 28

ذلك يفوق بكثير شعراء الشيعة. ولكنه المنطق، والمنطق الجاف!

فليس الشعر إحساساً نفسياً فحسب، ولكنه تعبير فني عن هذا الإحساس، وقد لا يكون الشاعر أرهف الناس شعوراً ولا أعمقهم حساً، ولكنه بموهبته يستطيع أن يحمل الألفاظ من الإيحاء ما لا يمكن أن يحملها إياه من هم دونه في الملكة والبراعة وإن كانت قلوبهم تتفتت من الحزن! فلبيك الشيعة أنفسهم، وليبك ابن قيس قومه، فذلك لا ينقص ولا يرجح في ميزان الفن، وإنما يكون الترجيح بمقدار ما وفق الشاعر إليه من الإبانة عن فكره وعاطفته، وما بثه في فنه من صور بيانية وعبارات موحية. وليس السبيل إلى هذا الميزان الصادق أن يقول المؤلف في الحكم على فن ابن قيس:(يمتاز أسلوبه بالجزالة فلم يكن رذلا ولا سفسافاً على الرغم من إقامته بتكريت ومن طعن اللغويين على شعره ورفضهم الاحتجاج به). فذلك أشبه بهذه العبارات التي سئمنا سماعها من قولهم: (كثير الماء، مشرق الديباجة، حسن السبك).

لقد رفض اللغويون الاحتجاج بشعر الشاعر، فقد كان في شعره إذن خروج على ما ألفه اللغويون من الأساليب، ورفضت أنت حكم هؤلاء اللغويين؛ أفما كان لنا أن نسمع في إسهاب رأيك ورأى هؤلاء؟! وما الذي أخذوه عليه، وما الذي أعجبك منه؟ ولكن الأستاذ يكتب عن الفن في عبارات مرقمة!

ولما كان المؤلف أستاذاً في الجامعة كما بدأنا القول، فذلك يمضي بنا إلى الحديث عن دراسة الأدب العربي في كلية الآداب، فالكتاب تنقيح لما ألقى المؤلف من محاضرات في هذا الموضوع

والأدب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب يدرس على أنه وثائق تاريخية تصور ما كان في المجتمع العربي من أحداث. لذلك يختار الأساتذة أحفل الموضوعات بهذه النواحي التاريخية من أمثال الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق، ويغفلون موضوعات لا تقل عنها شأناً وخطراً، ولعلها تفوقها بياناً وفناً، وتفتح للحديث عن مشاكل الشعر الفنية آفاقاً أرحب وأوسع. غاية الجهد أن يقسم الأستاذ النقيضة إلى أغراض: نسيب وفخر وهجاء. ثم يتحدث عما في هذه الأغراض من معان ويقارن بينها وبين ما ورد في القصيدة المناقضة، كل ذلك في منطق جاف، ونظرة عقلية محضة، وعبارات مرقمة، لا يعرض لصور بيانية

ص: 29

ولا لفظ جميل أو قبيح، ولا يصف إحساساً صادقاً أو زائفاً، ولا يوضح تقليداً ولا تجديداً

والطلبة يستمعون إلى هذه الدروس الجامدة في ضيق وملل، وينظرون فإذا إخوانهم في الأقسام الآخر يتلقون دراسة حية للأدب تعني أكبر العناية بالفن ومظاهره، وتقارن مقارنة دقيقة بين الشعراء، وتطلع على ما تصدره المطبعة كل يوم من كتب جديدة. ينظر الطلبة إلى هذه الدراسة الحية في الأقسام الأخرى، ثم ينظرون فإذا الأدب في قسمهم وثائق تاريخية، وإذا دراسة النقد الأدبي تقصر على طلبة الامتياز ابتداء من السنة الثالثة ليتلقوا نظرات جزئية في تاريخ النقد عند العرب تبدأ أولاها بأن النقد مشتق من نقد الدينار، أي اختبره ليتبين أزائف هو أم صحيح؟

ويشتد ضيق الطلبة بهذا الجمود، فيؤلفون من بينهم جماعات تدرس الأدب المصري الحديث وتراقب المطبعة العربية فيما تخرج من كتب، يلقى أحدهم بحثاً ويناقشه إخوانه فيه، ثم لا يجدون من أساتذتهم عناية ولا رعاية، ولا يكلف الأساتذة أنفسهم مشقة الاستماع إلى مثل هذه المحاضرات من تلاميذهم، بل أنهم ليوجسون خفية من هذه المحاضرات، ويعتقدون أنها تصرف الطلبة عما ينبغي لهم من جد وما يجب عليهم من إخلاص نحو دراسة الشعر السياسي ونقائض جرير والفرزدق! راجت بينهم خرافة أن كلية الآداب تخرج علماء لا أدباء، وفاتهم أن عالم الأدب لابد أن يكون في قرارة نفسه أديبا، ولابد أن يتابع الآداب في نموها وتطورها، ويربط قديمها بحديثها، حتى يستطيع الحكم ببصيرة نافذة وإحساس صادق على ما يقرأ. راجت بينهم هذه الخرافة، فهم لا يطمئنون كل الاطمئنان إلى الطلبة الذين يبدون ميلا إلى دراسة الأدب الحديث أو المشاركة فيه بالإنشاء؛ تمام كما كان ينظر علماء الأزهر القدماء إلى الشيخ المرصفي وتلاميذه على بعد بين ما كان يدرسه تلاميذ المرصفي وما يدرسه الآن طلبة كلية الآداب. ولن يطمع طالب أن يستطلع رأي أستاذ في قصيدة نظمها أو قصة كتبها أو نقد لكتاب مما يقرأه الناس. لن يطمع طالب في ذلك ولئن فعل فلن يجد اهتماما، ولئن وجد اهتماما فلن يجد غناء!

إن أمثال هذه الدراسات الجافة المربكة التي يمثلها كتاب (تاريخ الشعر السياسي) لتصرف الناس عن قراءة الأدب العربي القديم وتزهدهم فيه، وخير لأساتذة الجامعة أن يروضوا أنفسهم على إرضاء النزعات الحديثة في نفوس طلابهم، فذلك ينفض عن الأدب العربي

ص: 30

القديم ما أورثته هذه الدراسات من جمود

عبد القادر القط

ص: 31

‌5 - نظرات

في دائرة المعارف الإسلامية

للأستاذ كوركيس عواد

(تتمة)

ونذكر تعليقاً على ما ورد في 1: 412 ا 19 - 23 أن كتاب (حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصفهاني، طبع في عشرة مجلدات (القاهرة 1932 - 1938). وكذلك كتاب (صفة الصفوة) لابن الجوزي طبع في أربعة مجلدات (حيدر آباد 1355 - 1357هـ).

وفي 1: 572 ا 17 كان مفيداً أن يشار إلى كتاب (الحوادث الجامعة) لابن الفوطي. ففيه تفصيل واف عن مجيء المغول إلى إربل.

وفي 2: 80 ا 19 يضاف في الحاشية أن الدكتور فيليب حتى نشر كتاب (الاعتبار) لأسامة بن منقذ (برنستن 1930) وهي طبعة تفوق طبعة درنبرج التي تقدمتها.

وتعليقاً على ما ورد في الأسطر الأربعة الأخيرة من 2: 80ب نقول أن الأستاذ أحمد محمد شاكر نشر كتاب (الباب الآداب) لأسامة بن منقذ (القاهرة 1935).

وفي 2: 98 ب 13 يضاف في الحاشية أن كتاب (العبارة)(باري أرمينياس لأرسطو طاليس ترجمة إسحق بن حنين) نشره بولاك في ليبسك سنة 1913.

ونقول تعليقاً على ما ورد في 2: 264 ا 2 أن النصف الأول من (كتاب الزهرة) لأبي بكر محمد بن داود الأصفهاني، نشره نيكل وإبراهيم عبد الفتاح طوقان في بيروت سنة 1932 بنفقة جامعة شيكاغو.

أما رحلة أبي الثناء الآلوسي (المتوفي سنة 1270هـ) المذكورة في 2: 602 ا 13 - 19، المسماة (نشوة المدام في العودة إلى مدينة السلام) فقد طبعت في مجلد واحد مع رحلته الأولى المسماة (نشوة الشمول في الذهاب إلى اسلامبول)(مطبعة الولاية ببغداد سنة 1291 و 1293هـ).

ونعلق على ما ورد في السطرين الأخيرين من 2: 602 ب أن الكتاب الذي نال فيه السيد محمود شكري الآلوسي جائزة ملك السويد هو (بلوغ الأدب في معرفة أحوال العرب). وقد

ص: 32

طبع مرتين، الأولى في بغداد (1314هـ)، والثانية في (القاهرة 1924 - 1925) كل منهما في 3 مجلدات.

وفي 2: 619 ا 19 كان مفيداً أن يقال إن كتاب (المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء) للآمدي، نشره كرنكو مع كتاب (معجم الشعراء) للمرزباني (القاهرة 1354هـ).

وفي 2: 659 ب 6 - 8 ورد قوله: (ومما صنفه (أمين ابن حسن حلواني المدني، المتوفي سنة 1316هـ) مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود، وهو كتاب في تاريخ داود باشا). قلنا: إنه لم يصنفه بل اختصره. فالأصل لعثمان بن سند البصري المتوفي سنة 1246 وهو لما يطبع، إنما طبع مختصره لأمين حلواني المدني في يومي سنة 1304هـ.

وفي 3: 5 ا 19 قرأنا قوله: (ورسالة (من تآليف أبي البركات الأنباري) تسمى الزهور، ذكرها عبد القادر البغدادي في كتابه خزانة الأدب، بلاق 1299ج 2 ص352 س14) انتهى.

قلنا: ولما راجعنا خزانة الأدب في الموطن المشار إليه، وجدناه يسميها (الزاهر) وهو ما يشاهد أيضاً في كشف الظنون (3: 519 لندن، أو 2: 3 استانبول).

ونزيد على الأسطر الثلاثة الأخيرة من 3: 41 اما يأتي: وتلاه ليفي بروفنسال - فوضع قائمة أخرى بهذا العنوان أيضاً، وصف فيها طائفة من مخطوطات الاسكوريال).

ومما قاله في 3: 324 ب 19 - 20 ولم يؤخذ صور فوتوغرافية لهذه النقوش (يقصد نقوش بافيان في شمالي العراق، وقد مر بنا ذكرها في بعض ملاحظاتنا) بعد). قلنا: كان يمكن أن نذكر في الحاشية ما يلي: بل أنها صورت بإتقان. وللاطلاع على تلك التصاوير راجع:

، ، 1927 ، 1 - 22 ; ، 1 - 17).

' 1935 ، 44 - 49 ; ، 13 ، 31 - 35).

وفي 3: 430 ا 1 نقول أن قصة إشتر هي - على ما في التوراة - قصة أو سفر استير.

وفي 3: 498 ا 8 كتاب التنبه (للمسعودي) صوابه: التنبيه.

وفي 4: 399 ا 2 كتاب الجواهر في معرفة الجواهر. والصواب كتاب الجماهر في معرفة الجواهر (وقد طبع في حيدر آباد سنة 1355هـ).

ص: 33

وفي 4: 492 ا 17 كتاب مغارة الكنز. صوابه: مغارة الكنوز.

وذكر في 4: 504 ب 7 أنه (قد حال كبر حجم مؤلف الصفدي (كتاب الوافي بالوفيات) دون طبعه إلى الآن). قلنا: نشر المستشرق ريتر الجزء الأول منه في استانبول سنة 1931.

وفي 4: 588 ب 10 كان يحسن أن يقال في الحاشية إن كتاب (الإشارة إلى محاسن التجارة) لجعفر بن علي الدمشقي قد طبع في القاهرة سنة 1318هـ.

وفي 5: 13 ب 20 ورد ذكر كتاب وصوابه ، وهو كتاب التاريخ الطبيعي الشهير تأليف بليني.

رابعا: الأعداد

ورد في 1: 106 ب 8 (وتوفي (سبط ابن الجوزي) عام 644هـ). والصواب 654هـ راجع: البداية والنهاية لابن كثير (13: 194) والسلوك للمقريزي (1: 401) والنجوم الزاهرة (7: 39) وشذرات الذهب (5: 266).

وفي 1: 150 ا 14 قال: جـ1 وصوابه: جـ6.

وفي السطر الأخير من 1: 324 اذكر عام 1854 والصواب: أنه عام 1891.

وفي 1: 389 ا 19 قال: جـ 1 وصوابه: جـ 50 وقد نشأ هذا الوهم من أن الرقم كتب في الأصل رومانياً هكذا فظن المترجمون أنه

ومما لفت نظرنا بوجه خاص قوله في 1: 570 ا 19 - 20 (وهي (يقصد مدينة في العراق) قرية صغيرة يبلغ عدد سكانها 3757 نسمة). قلنا: هذا الرقم بعيد عن الحقيقة، ولعل كاتب المقال نقل ذلك عن كتاب كوينه المطبوع سنة 1892 بعنوان ' ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن نفوس إربل يبلغون 19000 نسمة (راجع جغرافية العراق الثانوية لطه باشا الهاشمي. الطبعة الثانوية، بيروت 1939، ص121). أما دائرة المعارف البريطانية (الطبعة الرابعة عشرة، سنة 1937، مادة اربل) فتقول أن نفوس هذه البلدة 25000 نسمة.

وفي 2: 79 ب 18 ذكر سنة 454هـ. وصوابها: 584هـ.

ومثله قوله في 3: 629 ا 3 سنة 1896م وصوابها 1876م.

ص: 34

ومما دونه في 3: 671 ب 25 - 27 هذه العبارة: (ويتراوح عدد سكان هذه المدينة (مدينة البصرة) وفقاً للتقديرات المختلفة بين 18 ألف و6 ألف نسمة، والراجح أن التقدير الأقل هو الأصح). قلنا: كان ينبغي التعليق على هذا القول الذي لا يحصل منه حقيقة يركن إليها. وعندنا أن سكان هذه المدينة يبلغون الآن زهاء 85000 نسمة وهم في تزايد مستمر.

وفي 4: 3 ا 23 قرأنا باستغراب قول القائل (أما العراق، فقطر مساحته 143000 كيلو متر). وهذا وهم. والصواب: أن مساحته 43250 ميلا مربعاً، أي نحو 375000 كيلو متراً مربعاً (راجع: مفصل جغرافية العراق لطه باشا الهاشمي. بغداد 1930، ص552).

وفي 4: 57 ب 21 ذكر ص 296. وصوابها: ص206

وفي 4: 493 ا 5 قوله: الطبري المتوفي سنة 210هـ. والصواب: سنة 310هـ.

وكذلك ذكر في 4: 499 ب 18 أن وفاة الشابشتي سنة 338هـ. والصواب: أنها سنة 388هـ إذا أخذنا برواية ابن خلكان (وفيات الأعيان 1: 481 بولاق الأولى)

خامسا: الملاحظات المتفرقة

قال في 1: 147 ا 15 - 17 (فرغب الخليفة المقتدر في العالم التالي في إقصائه وإحلال ابن أبي البغل حاكم الفارسية مكانه). ويلاحظ أن لفظة (الفارسية) في هذه العبارة تقابل لفظة في الأصل الفرنجي. قلنا: الذي في تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لهلال بن المحسن الصابئ (ص340) أن محمد بن أحمد بن أبي البغل. . . كان يتقلد فارس).

وكثيراً ما استعملت اللجنة (انظر مثلا 1: 227 ا 5 و 9؛ 1: 227 ب 23؛ 1؛ 281 ب 4؛ 1: 282 ا 6 و 7 و 8) لفظة (البطريك) في محل (البطريرك) أو إحدى اللغات الواردة فيها كالبطريق أو البطرك أو البترك أو الفطرك أو الفطريك أو الفطريرك. فلو اتخذت أحد الألفاظ لأصابت كبد الحقيقة في تعريبها لفظة الدالة على الرئيس الديني الأعلى عند النصارى. بخلاف البطريق التي تدل على رتبة شرف عسكرية عند الرومان.

وقد وقفنا في هذه اللحظة على نبذة ثمينة كتبها العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي في مجلة الثقافة (العدد 193 ص 991 - 992) أوضح فيها الفرق بين البطريرك والبطريق.

وفي 1: 377 ب 25 ورد قوله: (وقد حاول أبو العتاهية أن يجد حلاً لمعضلة الأثنينية). وهذه الكلمة الأخيرة تعريب اللفظة الواردة في الأصل. قلنا: عرف الأقدمون من كتبة

ص: 35

العرب هذه اللفظة، فقالوا فيها (الثنوية). راجع: الآثار الباقية للبيروني (ص 207) والملل والنحل للشهرستاني (1: 188 طبعة كيورتن في لندن سنة 1842) واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (طبعة علي سامي النشار ص 88 - 89).

وقال في 2: 264 ب 14 (وجعله (هارون الرشيد جعل الأصمعي) مؤدباً للأمير). قلنا: الذي في الأصل الإفرنجي (وجعله مؤدباً لابنه الأمين).

وقد وجدنا المعلومات الواردة في 1: 574 ب 14 - 16 قديمة لا يمكن أن يؤخذ بها، وكان يحسن التعليق عليها بما يقربها من الحقائق المعرفة في وقتنا.

وفي 3: 112 ا 5 الحفيض. صوابها: الحضيض وهو من أوهام الطبع.

وقد لاحظنا في 3: 200 - 201 نقصاً ظاهراً بين هاتين الصفحتين في سياقة المتن الوارد، فلعله سقط شيء من العبارات.

وفي 3: 307 ا 11 الثقاة. صوابها: الثقات. ولعل هذا من غلط الطبع.

وفي 3: 310 اقرأنا موضوعاً بعنوان (بالية). والذي في الملل والنحل للشهرستاني (2: 440 كيورتن): (البلية).

وفي 3: 450 ا 3 وردت لفظة بدري. والمشهور أنها بادري.

وفي 3: 688 ا 23 المنديان. والصواب: أن يقال فيها المندائية.

وفي 3: 688 ا 24 ورد اسم (الصُباء). وكان يليق القول إن هذه التسمية من تصحيفات العوام في العراق؛ أما في المراجع القديمة فقد عرفوا باسم (الصابئة).

وفي 4: 390 ب 20 ضبطت لفظة كلك بتشديد اللام. والصواب بالتخفيف وزان حلب.

وقال في مادة (التجارة) 4: 581 ا 5: (انظر اللفظتين السريانيتين تكرار و) وقدسها عن ذكر اللفظة الثانية، وهي على ما في الأصل: تاكراً.

الختام

هذا أهم ما تراءى لنا مصحفاً أو مفتقراً إلى تعليق وإيضاح. وهنالك عدد لا يحصى من أغلاط الطبع، تسربت إلى الألفاظ العربية والفرنجية، ضربنا عن ذكرها صفحاً لضيق المقام ولعدم خفائها على أكثر القراء.

وإظهاراً للحق نقول أن ما أوردناه ليس إلا هنات هينات بالقياس إلى الأتعاب الكثيرة التي

ص: 36

بذلها المترجمون الأفاضل والعناية الفائقة التي صرفوها في إبراز هذه الترجمة بثوبها القشيب، ذلك على كثرة ما يعترضهم في هذا السبيل من العقبات وثقل التكاليف. ونحن نسأل الله أن توفق اللجنة لمواصلة هذا العمل الجليل فنراه يوماً ما - وهو ليس ببعيد - قد أوفى على التمام والكمال، وأضحى مرجعاً ثميناً ومنهلا عذباً لطلاب البحوث الشرقية.

(بغداد)

كوركيس عواد

ص: 37

‌نظرية كونفوشيوس الدينية

للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وكان يعيب على من قدم القرابين إلى أرواح غير آبائه. يقول في الفصل الثاني من كتاب الحوار:

(من قدم القرابين إلى الأرواح التي لا تستحقها فهو متملق، ومن رأى الصالحات ولم يعملها فهو جبان). وكان يقدم الآلهة والأرواح على نفسه ويفاخر بمن عمل بهذا المبدأ. يقول في الفصل الثامن من الكتاب:

(ما عرفت في الملك يو مثلبة فإنه كان يتناول من لمطعم والمشرب الشيء البسيط ويقدم إلى الأرواح والآلهة ما هو في غاية اللذة، وكانت بذلته ثياباً أخلاقاً وكانت ملابسه الخاصة بالشعائر والطقوس في غاية الجمال، وكان يسكن في بيت حقير ويبذل قصارى جهده في حفر الترع والخنادق. ما عرفت فيه مثلبة.

لكن كونفوشيوس لا يحب أن يتملق الإنسان أرواح الأموات والآلهة بكثرة القرابين وشدة التقرب إليها بل يجب الابتعاد عنها:

(سأل فان جيه أحد تلاميذه عن الحكمة فقال له الأستاذ: الحكمة هي القيام بالواجبات للمجتمع الإنساني والاحترام لأرواح الموتى والآلهة مع الابتعاد عنها). السادس من الكتاب.

وكان يرى تقديس الآلهة بالإخلاص والامتثال لأوامرها بالتحلي بالفضائل والاجتناب عن نواهيها بالتخلي عن الرذائل:

(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو (أحد تلاميذه) أن يسترحم له الآلهة فقال الأستاذ هل في ذلك أصل؟ فأجابه: نعم، لقد ذكر في كتاب التكهن القديم:(أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد) أي بالفضائل والآداب التي يتخلق بها (السابع من الكتاب).

وكان يرى احترام الموتى كاحترام الأحياء بل احترام الأحياء أوجب وألزم من احترام الأموات:

(سأل جي لو (أحد تلاميذه) عن خدمة أرواح الموتى فقال له الأستاذ: لم نقدر على خدمة

ص: 38

الأحياء فكيف نقدر على خدمة الأموال؟ وقال جي لو: أسال حضرتك مجترئاً عن الممات. قال الأستاذ: لم نعلم الحياة فكيف نعلم الممات؟) الحادي عشر من الكتاب.

5 -

نظرية كونفوشيوس في الآله الأعلى: السماء:

يحكي كونفوشيوس عن نفسه أنه يعرف قضاء الله وقدره وهو ابن خمسين (الفصل الثاني من كتاب الحوار) فكانت أعماله حينئذ لا تخرج عن أوامر الله وحدوده أبداً، وكان يقدسه أعظم تقديس ويتقيه أشد تقوى، وكان يتخلق بأخلاقه ويمثل صفاته في حركاته وسكناته، وكان الله مثلا أعلى في أعماله في حياته، وكان كل تعاليمه مبنية على معرفته في السماء معرفة تامة واعتقاده فيها اعتقاداً جازماً ما كان يتصدى لتعليم الناس ونشر الحق في العالم، فالله مصدر علمه وغايته الأسمى:

(قال الأستاذ: أريد ألا أتكلم، قال تس كونغ. إن لم تكلم حضرتك فإذا نروى عنك نحن معشر التلاميذ؟ قال: هل تتكلم السماء، إنما تعاقب الفصول الأربعة وتنشأ الأشياء متوالية ماذا تقول السماء؟) السابع عشر من الكتاب.

(قال الأستاذ: والهفاه! لا يعرفني أحد. فقال تس كونغ: ماذا تعني حضرتك بعدم معرفة أحد لك؟ قال الأستاذ: لا أتذمر من السماء ولا أتفجر بالناس وإنما أدرس الأمور السلفية لأصل بها إلى الأمور العلوية لعل الذي يعرفني هو السماء!) الرابع عشر منه.

يسعى الفيلسوف كونفوشيوس لتعليم الناس وهو يعلم أنه لا يعرفه إلا الله فلا يجزع ولا يغضب إذا قامت العراقيل في نشر الحق ولا يتأخر في ذلك ما دام الله معه.

تأسف كونفوشيوس كثيرا جداً حينما توفى بين يون نابغة تلاميذه يقول: وا أسفاه لقد توفتني السماء! لقد توفتني السماء! وإنما قال ذلك لأن الحق قد فقد أحد ناصريه وأشد دعاته وأقوى ناشريه وأصدق عامليه لكنه يستسلم لقضاء الله وقدره لا يجزع ولا يفزع يقول في الفصل العشرين من كتاب الحوار:

(من لم يعلم القضاء والقدر يمكن أن يصبح رجلا كامل الخلق).

(يقول تسي هسيا: إنني قد سمعت أن الحياة والممات كلها بالقضاء والقدر، والمال والجاه كلها في يد السماء). الثاني عشر من الكتاب.

يعتقد كونفوشيوس بوجود الله القادر المريد الذي قدر الأشياء في الدنيا لا بغيرها إلا هو:

ص: 39

(قال الأستاذ: إن انتشرت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر وإن ضاعت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر، فماذا يستطيع كونغ بي ليو أن يعمله مع القضاء والقدر؟) الرابع عشر منه.

ويعتقد الأستاذ أن الإنسان الصالح يجب أن يتقي قضاء الله وقدره، ومعنى ذلك أنه لا يعصى أوامره ولأجل أن أقوال الأنبياء، والكبار مبينة لأوامر الله كانت الأقوال يجب أن يعمل بها أيضاً:

(قال كونفوشيوس: للرجل الكامل الخلق مخافات ثلاث: مخافة القضاء والقدر، ومخافة كبار الدولة، ومخافة أقوال الأنبياء. وأما الرجل الناقص الخلق فلا يعرف القضاء والقدر ولا يخافه ويزدري بكبار الدولة ويستهزئ بأقوال الأنبياء) السادس عشر منه.

6 -

صفات الله في نظر كونفوشيوس

إذا دققنا البحث فيما اعتقده كونفوشيوس في الإله الأعلى - السماء - فيما يحتويه كتاب الحوار وجدناه يصف الله بالصفات الآتية:

(1)

يعتقد أن الله قادر مدبر جبار عزيز لا يغير إرادته أحد ولا يقدر أحد على مخالفة القدر والقضاء:

(قال الأستاذ: قد خلقت السماء في نفسي هذه الفضائل فأي شر يمكن أن يريده بي هوان طي؟) السابع من الكتاب.

(لما وقع الأستاذ في الخوف من أهل كوانغ قال:

ألم تكن الثقافات والآداب عندي هنا بعد أن توفي الملك وين؟ إن كانت السماء تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب ما كان لي نصيب منها وإن لم تكن تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب فماذا يمكن أهل كوانغ أن يعملوا بي؟).

تبين مما سقناه أن كونفوشيوس كان مضطهداً لأعدائه أعداء الحق لكنه يعرف أن الله معه وأن الحق لابد أن يظهر وإن كره الكافرون المنكرون، وإن ما أراده الله وقدره لا يمكن أن يتغير ويتبدل، وإن قوة الإنسان وإن بلغت أشدها لا يمكن أن تحول إرادة الله وقدره أبداً، وهذه العقائد راسخة في نفس كونفوشيوس دافعة إلى العمل من دون جزع ولا خوف وهي عقائد دينية متينة.

ص: 40

(2)

يعتقد أن الله علم بكل شئ لا ينخدع ولا يغتر:

(لما اشتد مرض الأستاذ جعل تس لو يمثل تلاميذه خدماً له رسميين. ولما تناقص مرضه قال: طالما يخدع تس لو. ليس لي خادم رسمي فإن تظاهرت بأن لي خدماً رسميين فمن ذا الذي أخدعه؟ هل أخدع السماء؟) التاسع من الكتاب.

(3)

يعتقد أن الله يجزي الأعمال أن خيراً فخير وإن شراً فشر. وإن كانت الأعمال موافقة لأوامر الله وإرادته كانت خيرا وإلا كانت شراً فيجزي الأولى بالسعادة والنعيم في الدنيا والثانية بالعذاب والشقاوة فيها:

(لما زار الأستاذ الأميرة نان تس (المشهورة بفسادها) مخط تس لو فحلف الأستاذ قائلا: لو ارتكبت ما لا يليق غضبت علي السماء! غضبت علي السماء!) السادس من الكتاب.

هذا كلام إنما يدل على أن الأمور المنكرة يجزيها الله بالعذاب والشقاوة وبقطع دابر فاعلها.

(سأل وانغ سون قائلا: ما معنى هذا المثل: التملق لإله التنور أفضل من التملق لإله الزوية الغربية الجنوبية من البيت؟ قال الأستاذ: كلا! من أجزم نحو السماء فلا محل له بالدعاء). الثالث من الكتاب.

يدل هذا القول على أن السماء لها الحق في الجزاء بالخير والشر، وأنها تجزي الأعمال السيئة التي تخالف أوامر السماء وإرادتها بالشر والعذاب وأنه لا يستخيرها من يخالف أوامرها لا يستغفرها ولا يطلب منها رحمة ولا نعمة.

(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو أن يسترحم له الآلهة. فقال الأستاذ: هل في ذلك أصل فأجابه نعم! لقد ذكر في كتاب التكهن القديم: أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد). السابع من الكتاب.

يدل هذا الكلام على أن الأمراض عذاب الله الذي يجزي به الأعمال الفاسدة، كما انتشرت هذه الفكرة عند قدماء الصينيين، وكذلك استرحام آلهة السماء والأرض عند المصائب عادة من عاداتهم لقديمة لكن كونفوشيوس يعرف أنه على حق في كل أعماله لم يخرج عن حدود الله ولم يخالف أوامره أبداً فلذلك أجاب تلميذه بقوله: لقد استرحمت منذ زمن بعيد. لأنه ينكر فائدة الاسترحام للعاصي والشرير الذي لا يمتثل بأوامر الله ولا يجتنب عن نواهيه وهو معتقد اعتقاداً جازماً أن الاسترحام إنما بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة لا بالعبادة

ص: 41

ولا بالقرابين. يقول جوان تس أحد العلماء المعاصرين لكونفوشيوس: (مرض كونفوشيوس فأراد تس كونغ أن يتكهن له فقال له كونفوشيوس: على رسلك! أنني لا أجترئ ولا أتقدم في مجلس وكان اعتكافي وحياتي كما إذا كانت في أيام الصوم وكان طعامي وشرابي كما إذا كانا للقربان فقد تكهنت منذ زمن بعيد). هذا الكلام قريب مما في كتاب الحوار أتينا به ليوضح المعنى الذي نحن بصدده.

7 -

الخاتمة

هذه هي خلاصة مذهب الكونفوشيوسية في الآلهة والملائكة والأرواح والإله الأعلى وهو السماء، وهذا المذهب ليس بجديد بالنسبة إلى عقائد القدماء الصينيين بل هو عينها ولم يكن كونفوشيوس بمجدد للدين القديم لأهل تلك الأزمان الغابرة بل هو قاص لما يحتويه وحاكيه على ضوء من العلم الذي يعرفه في ذلك الوقت وقد قال بنفسه:

(إني راوية غير منشئ ومصدق للسلف ولذا أشبه نفسي مجترئاً بصالحنا القديم بانغ). السابع منه.

فهو في هذه الناحية من المحافظين على التقاليد القديمة والمقلدين لما عليه الآباء.

والمذهب الكونفوشيوسي منتشر في أنحاء الصين كلها معمول به إلى الآن؛ وهو الذي يسمى بالديانة الكونفوشيوسية وهو في الحقيقة الدين الصيني القديم كما بينا.

والآن قبل أن نختم هذه المقالة يجب أن يدرك القارئ العزيز ثلاثة أمور متصلة بالموضوع وهي:

(1)

أن مل لخصنا من المذهب الكونفوشيوسي في الإله والآلهة كله من كتاب الحوار الذي دونه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه. وأما الكتب القديمة التي لخصها الأستاذ الفيلسوف كونفوشيوس فقد ذكرت فيها هذه النظريات وزيادات كثيرة تبين صفات السماء وغيرها من الآلهة أكثر وأوضح، فإذا سنحت لي الفرص فقد اكتب عنها مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

(2)

نظرية ألوهية السماء موجودة في الأمم القديمة، وكذلك نظرية وجود إله أعلى خالق الكون ومدبره موجودة في الأديان المنتشرة، ليست الصين هي التي تتكلم عنها وحدها ولا كونفوشيوس ينشرها وحده. لقد وجدت أيام كونفوشيوس فلاسفة كبار في الصين وغيرها يبحثون عن هذه المسألة فإذا أتيحت لي الفرصة فسأكتب عن فلسفة لوز في نظرية الإله

ص: 42

الظاهر بنفسه المتبين بأفعاله وهو الطبيعة نفسها ونظرية ميز في الإله الكامل الصفات الفاعل الأفعال العليم القدير الذي يشبه ما جاء في الإسلام كثيراً جداً وآراء الفلاسفة الصينيين الآخرين إن شاء الله تعالى.

(3)

النقطة الأخيرة التي أريد أن أبينها هي أن عبادة الكونفوشيوسيين وصيامهم ليستا كما جاء في الدين الإسلامي فهم يعبدون الآلهة والأرواح بثلاث سجدات مع ركعة واحدة أو تسع سجدات مع ركعات ثلاث وهم يصومون عن أكل اللحوم والأفعال الفاحشة والأقوال الكاذبة لا بسين لباساً وقراً بعد غسل جديد معتكفين في المنزل وقتاً من الزمن ثم يعبدون في المنزل أو المعبد بعد صيام ساعات أو أيام ويقدمون القرابين وهم في ذلك كله كالبوذيين الذين يعبدون الأصنام مع فرق أن الأولين ليست لهم التماثيل وقد ينصبون النصب الخشبية التي كتبت عليها أسماء الذين يعبدونهم أو نقشت عليها كلمة (عرش السماء والأرض والملك والآباء والأساتذة) ويعبدونهم كأنهم حاضرون.

أبو بكر هوغانجين الصيني

ص: 43

‌لا تحزنن.

. .!

(مهداة إلى صديق متشائم. . .)

للدكتور عبد الوهاب عزام

هذه أبيات لحافظ الشيرازي الشاعر الفارسي ترجمتها نظما. وحافظت فيها على وزن الأصل وقافيته لأجعلهما مثلا لما في الشعر الفارسي من أوزان وقواف:

فأما الوزن فهو الرمل المثمن أي ذو التفصيلات الثمان. والمعروف في العربية أن الرمل لا يزيد على ست تفعيلات. وأما القافية فهي المردوفة: والرديف في العروض الفارسي كلمة، وكلمات تكرر في أواخر الأبيات فيلتزم قبلها روي يعتمد عليه النظم:

يوسف المغفور في أوطانه، لا تحزنن

عائد يوماً إلى كنعانه، لا تحزنن

بيتُ الأحزان تراه عن قريب روضة

يضحك الورد على بيانه، لا تحزنن

رأسك الأشعث يوماً سوف يلقى ذنبه

ويُفِيق القلب من أحزانه، لا تحزنن

هذه الأفلاك إن دامت على غير المُنَى

لا يدوم الدهر في حدثانه، لا تحزنن

أيها البلبل يأتيك ربيع ناضر

تستظل الورد في أغصانه، لا تحزنن

لست تدري الغيب في أسراره لا تيأسَن

كم وراء السِر من ألوانه، لا تحزنن

وإذا جُزت إلى الكعبة يوماً مهمها

فدهاك الشوك من سَعدانه، لا تحزنن

ومُحيل الحال يدري حالنا بين العدى

والهوى والحبّ في هجرانه، لا تحزنن

يا فؤادي إن يسِل بالكون طوفان الفنا

فُلك نوح لك في طوفانه، لا تحزنن

منزلٌ جِدّ مخوف ومراد شاحط

لم يدُم فجّ على ركبانه، لا تحزنن

حافظٌ! ما دمت في الفقر وليل حالك

في دعا الله أو قرآنه، لا تحزنن

ص: 44

‌السراب الأخير.

. .

للدكتور إبراهيم ناجي

يا سجين الحياة أين الفرار

أوصدَ الليل بابه والنهار

فَلِمَن لفتةٌ وفيم ارتقاب

ليس بعد الذي انتظرت انتظار

والتَّعِلاتُ من هوى وشباب

قصةٌ مُسدلٌ عليها الستار

وَهَب السجن بابه صار حراً

لك، لا حائلٌ ولا أسوار

وعفا القيد عنك كفاً وساقاً

فإذا الأرض كلها لك دار. . .

أينَ أين الرحيل والتسيار

بَعُدتْ شقةٌ وشط المزار

والخُطى المثْقَلات باليأس أغلا

لٌ لساقيك والمشيب عثار

دون ما تبتغي دماءٌ وشوكٌ

والسراب الذي ترى والقفار

ما الذي يصنع العليل المسجَّى

قد تولى العوّاد والسَّمار

طال ليل الغريب، وامتنع الغم

ضّ وفي المضجع الغضَي والنار

ما انتفاع الفتى إذا عَفَت الجنَ

ة واجتاح دوحَها الإعصار!

عشت حتى أرى خمائل حبي

تتهاوى كشامخٍ ينهار

تحت عيني! ويذبل الحسن فيها

ويموت الربيع والأنوار. . .

ما انتفاعُ الفتى بموحش عيش

بقيت كأسه وطاح العقار

وبقاءُ البساط بعد الندامى

كأس سُمْ بها يطوف البوار

كل ما سرّ مرَّ مختصراً

كالظل أوقاته قلال قصار

واستمرَّ المرير دون اختصار

كيف يرجى لما يسوء اختصار

ما انتفاعي وتلك قافلةُ العـ

يش وفي ركبها الظما والدمار

الدمار الرهيب والعَدَم الشا

مل واللفح واللظى والأُوار

يا ديار الحبيب هل كان حُلماً

ملتقى دون موعدٍ يا ديار!

يا عزيز الجنى عليك سلام

كيف جادت بمثلك الأقدار

بوركَ الكَرْم والقطوف وأوقا

تٌ كأن العناق فيها اعتصار

كلما أَطْلَقَتْك كفِّى استَردتْك

كما يحفزُ الغريمَ الثارُ

ص: 45

‌في العربة.

. .

للأستاذ أحمد أحمد العجمي

ركبتها فقمت أسعى إليها

وتهادت ونحن في جانبيها

ومضت تنهب الطريق وتختا

ل عليه مثل اختيالي عليها

لم لا أزدهي وعن جانبي شمـ

س كأن الشموس ملك يديها

أشرقت بالجمال في وجنتيها

وبسحر الدلال في مقلتيها

وتجلت كربية الحسن ما أحْـ

لَى فتوناً يطل من ناظريها!

ومضينا وللعيون حواليْ

نا نطاق كأننا ما مضينا!

في طريق تسابق الدوح صفَّيْـ

ين إلينا بالظل يحنو علينا

ونسيم يسيل كالعطر حيَّا

نابه النهر وهو يجري الهويني

وأصيل كوجهها خجل يفْـ

ترُّ بالحسن عسجداً أو لُجَيْنا

فتذكرت ما مضى من غرامي

أين يا قلب ما مضى أين أينا؟

قلت مرحى يا أجمل الغادات

ألف بشرى بأجمل الساعات!

ما تزالين يا ملاكي خيالا

نابضا في دمي بغير أناة

أشتهى أن أراك يوماً بعيني

وفؤادي يراك ملَء الحياة

والتقينا وتلك أعجب لُقْيَا

جمعتْنا في أعجب العَرَبات

خطرت كالنسيم حيناً وكالإعْـ

صار طوراً وكالرُّؤى الباسمات

والجواد الهزيل ذاك الذي شا

رَفَ عمرا قاسى بع ألف عمْرِ

خفَّ يجري كالسهم تلمحه العيْـ

نُ سريعا ولم يكن قط يجري!

استخفّتْه نشوة فتصابى

مثلما راعني الجمال المغري

فتمنَّيْتُ لو أعانقها شوْ

قا إليها وإن تكن ملء صدري

أَمَرتنِي بحسنها، ونهتني

بعفاف، فضاع نهيي وأمري!!

يا فتاتي! أتذكرين صبيًّا

أنت عَلَّمْتِه غرام الغواني؟

كان يلقاك في حياءٍ غرير

حالم بالجمال هشِّ الأماني

يعشق الورد في الغصون ويغضى

خجلا منه في خدود الحسان

ص: 47

ثم أصبحت من شبابي وأشجا

ني كأني أعيش في بركان!

الصيا كالندى - سلام عليه!

والشبابُ العنيفُ كالطُّوفان

سألتني: ألسْتَ أنتَ فتانا

بعدما كان من هواك وكانا؟!

أو لست الذي تغنى بنجوا

نا وصاغَ البيان فينا جمانا؟

قلت: لولاك ما نظمت أغاريـ

دي وزقزقت هذه الألحانا

أين أيامنا وأين لياليـ

نا وأين المنى وأين هوانا؟

وصِبانا والدَّهر وقفٌ علينا

ونعيم الحياة خلف خطانا؟

وغدا الدهر شارداً معجل الأو

قات يجري مثل الجواد الجموح

وقفةً يا جوادُ إن لهيب الشـ

وق يغلي به دمي وجروحي

وقفة وقفةً أُهَدْهِدُ أَحشا

ئي بريَّا هذا الجمال الصَّبوح

لم لا ترتوي به كَبِدٌ حَرَّ

ي وقلب كالطائر المجروح؟

ثم عانقتها وقبَّلْتها عشْـ

راً كأني قد انتقمت لروحي!!

وانتشينا وقلت للنفس غنِّي

وافترقنا فقلت للنفس نوحي

ص: 48

‌البريد الأدبي

حنين الزوج - من قصص جحا

(للأستاذ كامل كيلاني)

صفحة مختارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه

قال: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب (بجحا):

(لم يلبث الظلام أن خيم على المدينة وساكنيها، وأطفأت الأنوار، وسكنت الجلبة والضوضاء، وساد الصمت، وتلألأت النجوم في السماء، ورددت الكلاب نباحها كلما طرق آذانها صوت، أو أحست نأمة أو شعرت بقادم

أما بيت (أبي الغصن جحا)، فقد أوحش (أي: خلا من ساكنه)، فجلست (ربابة) زوجه، أمام مغزلها - بعد أن نام ولداها وجارتها - تفكر في ذلك الغائب الذي كان يملأ بيتها بهجة وسعادة. وظلت تغزل وهي تسلي نفسها بالأنشودة القديمة التالية:

يا طير، يا أشجار، يا روضة

فيها من الفردوس أزهارُ

يا خيط، يا إبرة، يا مِغزَلي،

يا نجم، يا كوكب، يا دار

يا نحل: طني واملئي مِسمعي،

وحدثي قلبي (متى ساروا؟)

سافر ربُّ الدار عن داره،

وقد خلت من أُنسه الدار

عناية الله، وتوفيقه

ولطفه، صحب وسمار

والشمس والبدر ونجم السما

تحوطه منهن أنوار

يا نحل طني واملئي مسمعي

وحدثي قلبي: متى ساروا؟

سافَر رب الدار عن داره

وأوحشت من بعده الدار

يا ورد، يا ريحان، يا نرجساً

يحفه نور وأنوار

يا ملء داري وفؤادي معاً

قد فرقتنا عنك أقدار

يا نحل طني واملئي مسمعي

وحدثي قلبي متى ساروا؟

سافر رب الدار عن داره

وأظلمت من بعده الدار

عاد فراغا كل شئ هنأ

منذ ترامت بك أسفار

ص: 49

متى يرى الدار وسكانها؟

متى تراه هذه الدار؟

يا نحل طني واملئي مسمعي

وحدثي قلبي متى ساروا؟

سافر رب الدار عن داره

فهل تسلى عنه ديَّار؟

كامل كيلاني

خطأ شائع:

جاء في (الرسالة 637) في مقالة (القطبان الأرضيان والإسكيمو) ما نصه:

(وأمر الخليفة المأمون ببناء مرصد فلكي فوق جبل قاسيون في دمشق، وبقيت آثاره حتى دخول الحلفاء إلى سوريا سنة 941)

وهذا خطأ شائع تلقيناه قديماً عن معلمينا، واشتهر على ألسنة عامة أهل الشام وخاصتهم، وقد فتشت عن سند له من رواية ثابتة أو نقل يعتمد عليه فلم أجد؛ والصواب ما ذكره ابن طولون مؤرخ الشام في كتابه (تاريخ الصالحية)، وهو من أجل مخطوطات المكتبة الظاهرية في دمشق قال عند الكلام على هذه القبة:

(وهي من بناء نائب الشام برقوق الذي دخل دمشق في 7 جمادي الأولى سنة 875 دخولا عظيما، ثم خرج لقتال سواربك فأخذه غدراً وعاد إلى دمشق 13 صفر 877 وبنى هذه القبة وسماها (قبة النصر). (أقول: وبقي ذلك اسمها إلى أن هدمت من ثلاث سنين). وكان برقوق هذا سفاكا فتاكا مات في 12 شوال سنة 877هـ وصبر وحمل إلى مصر فدفن في القاهرة قرب الرميلة كما وصى) أهـ

وهذه القبة كانت على ظهر جبل قاسيون سحط البحر بنحو ألف ومئتي متر، وكانت علم دمشق يراها القادم على البلد من مشارف حوران

وفي العدد (380 من الرسالة) سؤال عن هذه القبة، والقبة الأخرى القائمة على الجبل المطل على وادي الربوة في دمشق، ولم يجب عليه أحد، وهذا الجواب

أما القبة الثانية المسماة (قبة السيار)، فهي من بناء الأمير سيار الشجاعي

(دمشق)

ناجي الطنطاوي

ص: 50

ابن عباش لا ابن عباس:

الاستدراك الذي أخذه علينا الأديب الفاضل علي جلال الدين شاهين صحيح ومقبول؛ ولكن منشأ اللبس يعود إلى تصحيف وقع في كلمتنا ولم نتكلف تصحيحه. والقصة التي سجلها صاحب نشوار المحاضرة، عن قراد شارع الخلد ببغداد، إنما تنسب إلى (ابن عياش) لا ابن عباس. وإلا فأين يقع زمن هذا الأخير أو مكانه، من بغداد وشارع الخلد على عهد العباسيين؟

وأين عياش كان من رجال الدولتين: ولد في أيام سليمان بن عبد الملك (عام 97 هجرية) وتوفي قبل وفاة الرشيد بشهر (عام 193هـ). وهو المحدث الثقة أبو بكر بن عياش الكوفي. اختلف في اسمه، وأشهر ما قيل في ذلك (شعبة) ثم (مطرف) وكان من أصحاب عاصم والكلبي، ومن رواة شعر الفرزدق وذي الرمة، روي عنهما شعرهما سماعاً

وامتداد الحياة بابن عياش إلى آخر عهد الرشيد لا يوجد شكا في أنه شهد بعينيه ما كان يجري على الوزراء في ذلك العهد من نكبات الزمان، مع الإقرار بأن هذه الحوادث كانت لا تزال آخذة بسبيل التزيد والانتشار، حتى لم تبلغ ذروتها، وتستكمل صورتها البشعة إلا فيما تلا ذلك من عصور

فقصة القراد البغدادي غير مستعبدة على هذا الوجه، ولا سيما إذا ذكرنا أن ابن عياش كان من ثقاة المحدثين، الذين لا يفترون ولا يفترون عليهم، وقد وثقه أحمد بن حنبل. كما كان من أهل الوقار والهيبة حتى لقالوا: إن الاختلاف في اسمه يرجع إلى كف الناس عن سؤاله تهيباً له.

هذا، ودقة العبرة ولطف المغزى في القصة يجعلنا لا نستبعد نسبتها إلى ابن عياش، إذ كان الرجل من أهم الفكرة العميقة، الذين يتلمسون من صغائر الحوادث جلائل العبر. وكان لا يستنكف أن يستقصي أنه الأمور، ويتبع أضيق المسالك في سبيل الوصول إلى حقيقة صغيرة يضيفها إلى ما تستوعبه نفسه من مباهج العلم ومفاتن المعرفة. حدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر بن عياش مهموماً، فقلت له: مالي أراك مهموماً؟ قال: سيف كسرى لا أدري إلى من صار!!

ص: 51

محمود عزت عرفة

المدرس بقوص الأميرية

من الشعر الضائع لحافظ إبراهيم

عثرت في بعض أوراقي القديمة على هذه الأبيات نقلا عن بعض الصحف القديمة لتشابه الفكرة بينها وبين ما قاله برناردشو عن الهرم وأبي الهول. وقد راجعت الديوان فلم أجدها، لذلك أثبتها هنا في مجلة (الرسالة) التي تحفظ الأوابد:

سخر العلم ليبنى آية

فوق شط النيل تبدو كالعلم

هي ذكر خالد لكنه

عابس الوجه إذا الذكر ابتسم

كل ما فيها على إعجازها

أنها قبرٌ لجبار حُطَمْ

ليته سخر ما في عهده

من قوًى في غير تقديس الرمم

من فنون أعجزت أطواقنا

وعلوم عندها الفهم وجم

وبنان مبدعات صورت

أوجه العذر لعباد الصنم

أبدعت ما أبدعت ثم انطوت

وعلى أسرارها الدهر ختم

عبد القادر محمود

ص: 52

‌القصص

دوامة الحياة

للكاتب الأمريكي الكبير ا. هنري

بقلم الأستاذ وديع فلسطين

عند باب مكتبه جلس (بناجا ويدب)، القاضي، يدخن غليونه الضخم ويرسل نظراته إلى جبال كمبرلند التي كساها ظلام الأصيل لونا أغبر يميل إلى الزرقة، ومن الطريق العام المنحدر بالمقاطعة، جاءت دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحا أحمق.

وانبعث من أعلى الطريق صوت صريف عجلات، وامتلأ الجو بغبار حجب ما وراءه من مشاهد الطبيعة ومجاليها، ثم بدت مركبة يجرها بغل تحمل (رانسي بلبرو) وزوجته. وقفت المركبة بدار القاضي، فترجل عنها الرجل وزوجه. وكان رانسي أهيف القد، شاحب البشرة داكنها، ذهبي الشعر، يبلغ طول قامته ستة أقدام، تجلله مهابة سكان الجبال فتضفي عليه كساء شبيهاً بحلة من حلل الحرب المدرعة. وكانت المرأة ساذجة ضجرة، تخامرها رغبات غامضة لا تنفك تضايقها ولا تفتأ تقض مضجها. وبدا من خلال تصرفاتها نوع من الاحتجاج الطفيف على الشباب الزائف الذي تفطن إلى فقدانه وبسرعة دس القاضي قدميه في نعليه ليزداد وقاراً؛ ثم تحرك ليفسح لهما الطريق. وقالت المرأة بصوت كصوت الريح حينما تداعب فروع الأشجار:(نريد الطلاق). ثم رمقت رانسي بنظرة فاحصة لتتبين هل لاحظ في تصريحها هذا عيباً أو غموضاً أو مراوغة أو تحيزاً أو مشايعة لنفسها فأومأ رانسي برأسه مؤكداً وردد: (طلاق. . . لم نعد نستطيع أن نعيش معاً، الحياة في الجبال مقفرة وتقتضي أن يعني كل من الرجال والمرأة بشؤونهما. ولكن متى شرعت المرأة تموء كالقط الوحشي، وتنعق كالبومة النمس في كوخ زوجها، فلن يجد الرجل سبباً يحمله على معاشرتها).

وقالت المرأة دون اكتراث: (حين لا يعبأ الرجل بنفسه ويقضي وقته في شرب الخمور واحتساء الويسكي ومعاشرة مقطريها، ويعني فضلا عن ذلك بعدد من كلاب الصيد. . .). فقال رانسي: (حين أن تدأب المرأة على أن تبعثر أغطية الطعام، وعلى صب الماء على

ص: 53

أحسن كلب في كمبرلند، وعلى إعادة طهي مأكولات زوجها، وحمله على السهر ليلا متهمة إياه بتهم شتى. . . . .!). (حين يدأب على تبديد دخله والتمتع بسمعة رديئة في الجبال والسهر ليلا. . .)، فانصرف القاضي إلى مهامه. وقدم مقعده الوحيد وكرسي مطبخ إلى زائريه. ثم فتح كتاب الأحوال الشخصية على المنضدة وألقى نظرة على محتوياته ومسح منظاره وأزاح المحبرة. ثم قال:(القوانين والأحوال الشخصية لا تقول شيئاً في شأن موضوع الطلاق. هذا فيما يتعلق باختصاصات هذه المحكمة. ولكن العدالة والدستور والقانون الذهبي تنطوي جميعها على مساومة من ناحية واحدة فقط. فبدهي أن القاضي الذي يستطيع أن يزوج رجلا وامرأة يستطيع أن يطلقهما، وهذا المكتب هنا سيصدر شهادة الطلاق تقرها المحكمة العليا). وأخرج رانسي بلبرو من جيب سرواله علبة طباق صغيرة ونثر منها ورقة من فئة الخمسين دولارات على المنضدة وقال: (لقد بعت جلد حيوان وفراء ثعلبين بهذا الثمن، وهو كل ما أملك).

فقال القاضي: (إن الرسوم العادية للطلاق في هذه المحكمة هي خمسة دولارات). وتناول الورقة المالية ودسها في جيب الصديري المنسوج في المنزل، وتصنع عدم المبالاة. وكتب شهادة الطلاق على نصف ورقة فولسكاب ثم أعاد كتابتها على النصف الآخر، وبلغ في هذا جهد جسمياً كبيراً وتفكيراً ذهنياً مبرحاً. وأنصت كل من رانسي بلبرو وزوجته إلى تلاوته للوثيقة التي سوف تمنحها الحرية: قال: (ليعلم الناس جميعاً بمقتضى هذه الشهادة أن رانسي بلبرو وزوجته أريلا بلبرو حضرا اليوم أليّ شخصياً وتعهدا ابتداء من اليوم بأنهما لن يحيا أو يحترما أو يطيع أحدهما الآخر سواء أكان ذلك للخير أم للشر. وأقر بأنهما يتمتعان بجسم وعقل سليمين وانهما قبلا شروط الطلاق حسب نظام الولاية ووقارها. فلا تعثرا وليعينكما الرب. . . الإمضاء. . . بناجا ويدب القاضي لمقاطعة بيد مونت بولاية تنيسي ومن أهلها)

وهم القاضي بتسليم إحدى الوثيقتين إلى رانسي حينما ارتفع صوت أريلا. فنظر كل من الرجلين إليها وفوجئا بما لم يكونا يتوقعان منها. فقد قالت: (مهلا يا سيدي القاضي، لا تسلمه هذه الورقة. لم نسو كل شئ بعد. ينبغي أن أنال حقوقي أولا. يجب أن أحصل على نفقتي أولا، ليس هذه هي طريقة طلاق رجل من امرأته دون أن يترك لها ما لا تعيش به.

ص: 54

إنني سأذهب إلى أخي (إند) في جبل هوجباك، وأريد أن أشتري زوج حذاء وبعض الأشياء الأخرى، وإذا كان رانسي يقدر على طلاقي، فدعه يقضي لي نفقتي). فصعق رانسي بلبرو وتملكته الحيرة ولم يتكلم. فلم يشر من قبل إلى موضوع النفقة. ومن عادة النساء أن يثرن مسائل عجيبة غير مدروسة. وأحس القاضي بناجا ويدب أن المسألة تحتاج إلى قرار قضائي. والتزم الطرفان الصمت في موضوع لنفقة، غير أن قدمي المرأة كانتا حافيتين والطريق في جبل هوجباك صخر وعر. فسأل القاضي في أسلوب رسمي:(يا أريلا بلرو - كم يعوزك من النفقة في القضية المنظورة أمام المحكمة؟).

فأجابت: (أريد أن أبتاع حذاء، فيلزمني نحو خمسة دولارات ليست هذه نفقة كبيرة، ولكني أعتقد أنها تكفي لأتوجه إلى منزل أخي (إيد). . .). فقال القاضي: (المبلغ معقول يا رانسي بليرو، المحكمة تأمرك أن تؤدي إلى المدعية خمسة دولارات قبل أن يصدر قرار الطلاق). فتنفس رانسي بصعوبة وقال: (ليس لدي مال. . . وقد أديت إليك ما كان معي). فحدق القاضي من وراء منظاره، وقال بعنف:(وإلا فأنت تزدري بالمحكمة).

واستأنف الزوج قائلا: (أعتقد أنه يمكنك أن تقرضني المبلغ وسأرده إليك غداً بأي كيفية. . . فإني لم أتوقع قط أني سأطالب بنفقة). فقال القاضي بناجا ويدب: (أجلت القضية إلى الغد حينما تأتيان أليّ معاً وتمتثلان لأوامر المحكمة. وعقب ذلك سنصدر الطلاق). ثم جلس إلى جانب الباب وأخذ يحل رباط حذائه. . .

فقال رانسي: (يمكننا أن نذهب إلى منزل (العم ريا) لنقضي الليل فيه) ثم ركب المركبة من ناحية وركبتها أريلا من الناحية الأخرى. وشد اللجام فتحرك البغل البني اللون ببطء ثم أخذت العربة تنهب الأرض حتى اختفت وسط الغبار المتصاعد.

وأشعل القاضي بناجا ويدب غليونه العتيق. واشترى جريدته الأسبوعية، فقد أوشك النهار أن ينقضي، وشرع يقرؤها حتى طمس الظلام سطورها. ثم أشعل قنديله على المنضدة، واخذ يقرأ حتى طلع القمر مؤذناً بحلول موعد العشاء. وكان يسكن كوخه الخشبي في المنحدر على مقربة من الغابة. وفي طريقه إلى منزله اجتاز منطقة تظللها أشجار الغار المتشابكة. وإذ ذاك برز من بين الأشجار شبح ملثم وسدد إلى صدره غداره، وهو يقول، (أريد أموالك، لا أريد كلاماً. أني عصبي وإصبعي على زناد الغدارة. . .).

ص: 55

فقال القاضي متلعثما: (ليس معي سوى خمسة دولارات). ثم أخرجهما من جيب الصديري. وصدر الأمر إليه: (إطوها وضعها في فوهة الغدارة). وكانت الورقة المالية جديدة رقيقة. غير أن الأصابع المرتخية المرتعشة وجدت بعض العناء في طيها ووضعها في فوهة الغدارة). فلما تم هذا مال اللص: (الآن تستطيع أن تمضي). فسار القاضي مهرولا، لا يلوي على شيء.

وفي اليوم التالي جاء البغل البني الصغير يجر المركبة ووقف بباب المكتب وكان القاضي بناجا ويدب منتعلا حذاءه، إذ كان يتوقع زيارة. وترحل رانسي بلبرو وزوجه، وقدم إليها في حضرة القاضي ورقة مالية من فئة الخمسة دولارات. فحدقت عينا القاضي في الورقة، وكانت مطوية كما لو كانت منتزعة من فوهة غدارة. غير أن القاضي التزم الصمت لأنه ليس ثمة ما يمنع من أن تطوى أي ورقة مالية. وسلم كلا منهما نسخة من شهادة الطلاق. ووقف كل منهما صامتاً يطوي قسيمة الحرية على مهل. وحدجت المرأة رانسي بنظرة خجولة مفعمة بالعواطف، وقالت له:(أعتقد أنك ستعود إلى الكوخ بالمركبة. ستجد الخبر في العلبة الصفيح الموضوعة على الرف. ووضعت الدهن في إناء الغلي حتى لا تصل إليه الكلاب. لا تنس أن تملأ ساعة الحائط الليلة).

وأستفهمها رانسي في شئ من الإهمال: (وأنت، هل تذهبين! إلى منزل أخيك (إيد)؟).

- كنت أنوي أن اذهب إليه قبل حلول المساء. لن أقول، لأني سأزعج أهل أخي، وأحملهم على الترحيب بمقدمي، ولست أعرف مكاناً آخر أقصده. على كل حال من واجبه أن يرحب بي أني ماضية. هل أقرئك السلام يا رانسي هذا إذا لم تمانع؟).

فأجاب رانسي بلهجة الرجل الذي ذهب ضحية: (ولم لا أقرئك السلام، إلا إذا كنت تواقة إلى الفرار مني دون انتظار تحية ما). فالتزمت أريلا الصمت. وطوت الورقة المالية من فئة الخمسة دولارات وقسيمة الطلاق ووضعتها في صدر ردائها. وراقب بناجا ويدب الورقة المالية وهي تختفي بعينين حزينتين تطلان من وراء زجاج منظاره. وهنا قالت أريلا: (ستكون وحيداً الليلة في الكوخ يا رانسي). وحدق رانسي بلبرو بعينيه في الأفق إلى جبال كمبرلند، فرآها وقد كساها ضوء الشمس لوناً أزرق فاتحاً؛ ولم ينظر إلى أريلا وقال: (لا ريب في أني سأكون وحيداً، ولكن ما العمل وقد ركب الجنون عقل البعير وطلب

ص: 56

الطلاق؟ لا سبيل إلى حمل البعير على البقاء). فقالت أريلا وعيناها إلى كرسي المطبخ: (إنما طلب الطلاق غيري. وليس هناك من لا يرغب في البقاء) - (لم يقل ذلك أحد قط).

- (أعتقد أنه يحسن أن أتأهب لزيارة أخي إيد).

- (ولكن أحداً لا يستطيع أن يملأ ساعة الحائط؟).

- (هل تريدني أن أعود معك في المركبة لأملأ الساعة يا رانسي؟). وكانت ملامح رجل الجبال برهاناً ضد عاطفته. غير أنه مد يداً ضخمة إلى أريلا وقبض بها على يدها الرقيقة الداكنة. فانفرجت أسارير وجهها العبوس مرة ثانية.

وقال رانسي: (لن تعود الكلاب إلى إزعاجك. فقد أدركت أني كنت سافلا دنيئاً. ستملئين تلك الساعة يا أريلا).

فهمست له: (إن قلبي يدق في هذا الكوخ يا رانسي. هيا معك. لن أعود إلى جنوني ثانية. دعنا نرحل يا رانسي حتى نبلغ البيت قبل مغيب الشمس). وتدخل بناجا ويدب القاضي لما رآهما يتأهبان للرحيل وقد نسيا وجوده فقال: (باسم ولاية تنيسي أمنعكما جميعاً من العبث بقوانينها ونظمها. إن هذه المحكمة على استعداد كبير، بل ويسرها أن ترى سحابات الخصام وسوء التفاهم وقد انقشعت من قلبين شابين يتبادلان الحب، ولكن من واجب المحكمة أن تحرص على الأخلاق وعلى الاستقامة في الولاية. وتذكركما المحكمة أنكما لم تعودا رجلا وزوجته، وإنما أنتما مطلقين بقسيمة رسمية، فلستما إذن أهلا للتمتع بمزايا الشركة الزوجية). ومضى القاضي فقال: (غير أن المحكمة على استعداد لأن تلغي القيود التي فرضتها قسيمة الطلاق. فالمحكمة على استعداد أن تعترف بمراسيم الزواج الشريفة السامية التي يبغيانها. ورسوم مراسيم الزواج قدرها في هذه الحالة خمسة دولارات.

وتبينت أريلا في حديثه وميضاً من الأمل. فأسرعت بوضع يدها في صدر ثوبها وألقت بالورقة المالية على منضدة القاضي. وتلون خداها الشاحبان وقد وضعت يدها في يد رانسي بنصتان لحديث اللقيا. ثم ساعدها رانسي على ارتقاء المركبة، وركب جوارها، ودار البغل البني الصغير مرة أخرى، واتخذ وجهته شطر الجبال وقد التقت كفاهما وتعانقتا. وعاد القاضي بناجا ويدب إلى الجلوس عند باب مكتبه، وخلع نعليه. ثم تناول الورقة المالية مرة أخرى ودسها في جيب الصديري. ودخن غليونه العتيد مرة أخرى.

ص: 57

وللمرة الثانية جاءت من الطريق العام المنحدر (بالمقاطعة) دجاجة رقطاء تختال وتصيح صياحاً أحمق.

وديع فلسطين

ص: 58