المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 64 - بتاريخ: 24 - 09 - 1934 - مجلة الرسالة - جـ ٦٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 64

- بتاريخ: 24 - 09 - 1934

ص: -1

‌طغيان النيل

على الشاطئ الغريق. . .

هكذا الطغيان يا نيل يجعل مصدر الحياة مورد هلكة، ومنبع الخيرات مغيض بركه، وأصل العمارة غاية دمار وخسر!!

هذه شواطئك الخضر يا نيل كانت بالأمس تتنفس بالنعيم، وتتدفق بالخير، وتترقرق بالجمال، فأصبحت اليوم تختنق بالأخطار، وتلتطم بالمخاوف، وتهدد الحقول الغنية الخصيبة بالفاقة والجدب، وهذه مدنك البيض وقراك السمر كانت تتفيأ على ضفافك ظلال الخفض، وترمق من خلال النخل أمواجك المرسلة المسلسلة، وهي تقع بين القصب الألف ألحان الثراء والغبطة فتعز بك وتقدس لك، فأصبحت تحشد في وجهك الجنود، وتقيم بينها وبينك السدود، وتضرع إلى الله أن يصرف عنها طغيانك وجورك! وهؤلاء أبناؤك الوادعون كانوا يتعهدون بالعمل الدائب غرسك الزكي وثمرك الغالي، فيدفعون الحشرات عن القطن، ويدرؤون الطفيليات عن الذرة، ويسلسلون في الحقول نضارك الذائب، ويستقبلون بالشوق الأمل موسمك الآئب، فأصبحوا هم من هولك قائمون على رجل، لا يستقر لهم جنان من الروع، ولا يطمئن بهم مجلس من الجزع، ثم أمسوا وهم محشودون بقوة السلطان على جانبيك، من أسوان إلى مصبيك، يدافعونك مدافعة العدو، ويكافحونك مكافحة الوباء، ويكابدون في صد غارتك الجهد والجوع و (السخرة)! ذلك والقرويات ينتظرن بالقلق الجازع الغرق المخشي، ويرصدن الأهبة للهجرة المتوقعة، فهن يجمعن المتاع، ويشددن الغرائر، ويلقين النظر الحزين على القطن المكتهل على اعواده، والذرة الناشئ على سوقه!. وهكذا الطغيان يا نيل السكينة في القلب، ويفزع العدالة في الدولة، ويجعل سلام الأرض وسلامة الناس لمشيئة فرد!! وقفت منذ أيام على شاطئ من شطئانك المنكوبة، أرسل طرفي الساهم في تيارك الجارف، وداراتك المدومة، ولحجك الفائرة، ثم أرده إلى السواحل الغصانة والمزارع الغرقى، وفكري بين هنا وهناك يستقبل الذكريات القديمة، ويستخرج المشابهات الأليمة. فذكرت بهذا المنظر المحزن ترة بيني وبينك موروثة! فقد طغيت في عام 1878 على قريتي الصغيرة، فاحتملتها هي ومئات من أمثالها كما يحتمل السيل الدافع أكوام الهشيم! وكان قومي قد سمعوا بانفجارك على مقربه من

ص: 1

سمنود، وبيننا وبينها عشرات من الأميال، ولكن ماءك الطاغي نحر هذا المفيض حتى انحدر فيه مجراك كله، فلم يكن بين السماع والرؤية إلا ريثما جزموا المتاع وشدوا المطايا، ثم أدركهم فيضانك قبل الرحيل، فتركوا الأرزاق وطلبوا النجاة. فحمل الكبار الصغار، والطوال القصار، والنساء الأطفال، ومضوا يتحسسون الطرق وتحت الماء، ويتلمسون المصاعد فوق الارض، حتى بلغوا - وما كادوا يبلغون - ساحل نهر (شبين)، وهو على بضع دقائق من القرية، وهنالك وقف المهاجرون على الشاطئ العالي بين البحرين، يودعون بالنظر العبران قريتهم الهالكة، والماء يغيب الدور ويبتلع الشجر، حتى لم يبق ظاهرا منها الا شرفات بيت الله، وغرفات بيت العمدة. ثم تمزقوا في البلاد يطلبون المأوى عند ذوي القربى أو عند أولي المودة، حتى أنحسر الماء فعادوا، واستأنفوا عمارة القرية فعادت ثم لا يزالون يؤرخون الحوادث بهذه (الغرفة)، ويهولون في أحداث تلك الهجرة، ويستعدون كل عام لطغيان النهر، قبل أن يئون أوانه بشهر! وهكذا الطغيان يا نيل يفرق الآلاف، ويشتت الوحدة، ويوهن بين الأوداء أسباب المودة! يطغى الحكم كما طغيت يا نيل فيجرف السدود، ويتعدى الحدود، ويتخطى الحواجز. ثم يدور بالتجسس، ويفور بالإرهاب، ويقذف بالتهم، ويسخر قوى الدولة وموارد الأمة ومرافق الناس لسلطان أمره وطماح نفسه ونفاذ حكمه. وأصل الطاغية كان مثلك يا نيل فياض اليد فقدسه الناس، جارف التيار فاتبعه الشعب، ثم ناصرته شهوته الخاصة، وساعدته غفلة العامة، فرد أهواء النفوس إلى هواه، وشورى العقول إلى رأيه، وحدود القوانين إلى أرادته، وسطوة الجماعة إلى يده، ثم تفيض هذه القوى المتجمعة عن طاقة الفرد فيطغى، ويزيد السلطان المفرط على غرور الإنسان فيتأله، ويومئذ لا تسأل عن حدود الله كيف تطمس، ولا عن رسوم العدل كيف تدرس، ولا عن حقوق الناس كيف تسفه، ولا عن نظام الأمر كيف يتبدد، ولا عن جموح الأثرة كيف يبغى ويتحكم.

وهكذا الطغيان يا نيل يعطل منابع الخير، ويبدل طبائع الفطرة، ويقتل مواهب العقل، ويغمر بالظلام آثار العلم ودلائل العقل وشواهد الكفاية.

ويطغى الأدب كما طغيت يا نيل فلا يكترث للقواعد، ولا يعوج بالأصول، ولا يحفل بالمنطق، ولا يأبه للخلق، ثم يرغي بالبذاء، ويزيد بالهراء، ويطفح باللغو. وكان الأدب

ص: 2

الطاغي مثلك يا نيل عذب الشمائل، سهل الشريعة، فروى الناس من نبعه، وبردت أكبادهم على نداه. ثم أنتكس المجتمع، وانقلبت الأوضاع، وفسدت المقاييس، استفاضت الدعوى، وتبجح الغرور، وأستبهم الأمر، فرأى سلاطة اللسان أجدى عليه من براعة الذهن، والتواء الفكر أنفع له من سلامة القياس، ولؤم الوقيعة أشد لسلطانه من كرم النفس، وشهوة الجدل أقرب إلى قلبه من حب الحقيقة. وفي العهود التي تسطو فيها اليد ويستخذى القانون، يسلط فيها اللسان ويستكين المنطق! ثم يمكن لمثل هذا الطغيان تكرم الأدباء عن مقام المسافهة، ضنا بأخلاقهم على الغمز، وبإحساسهم على المضاضة وفي التاريخ السياسي والأدبي يا نيل أمثال وأشباه! ولكنها تنحسر كلها عن جوهر الحق، ومحض الخير، ولباب الجمال، كما تنحسر أنت عن هذه السواحل والجزر والقرى، بحكم الطبيعة ومشيئة الله!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌أستنوق الجمل.

. .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال الشاب: لا قبل لي بهذا التعب المعنى الذي يسمونه (الزواج) فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي، وامرأة همها في موضوعين: في دارها، وفي قلبي، وما هو إلا أطفال يلزموني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أملك إلا يدين أثنتين، وأتحمل فيهم رهقا شديدا كأنما أبنيهم بأيامي، وأجمع هموم رؤوسهم كلها في رأس واحد هو رأسي أنا، يولد كل منهم بمعدة تهضم لتوها وساعتها، ثم لا شئ معها من يد أو رجل أو عقل ألا هو عاجز لا يستقل، متخاذل لا يطيق ولا يقدر.

قال: وإذا كان أول الزواج أي عسله وحلواه أنه امرأة تذهب عزوبتي - فأنا وأمثالي ما نزال في عسل وحلوى، ولكل وقت زواج، ولكل عصر أفكار، وما أسخف الليالي إذا هي ترادفت على ضرب واحد من أحلامها، فهذا يجعل النوم حكماً بالسجن عشر سنوات. . .!

قال: وإذا أردت أن تستكشف القصة فأعلم أننا نحن العزاب قوم كرجال الفن، رذيلهم فنية، وفضيلهم فنية، فتلك وهذه بسبيل، وكل شئ في الفن هو لموضعه منه لا من غيره، فإذا قلت: هذا خال من الفضيلة عار من الأدب، وعبت الفن لذلك - فما هو إلا كعيبك وجه المرأة الجميلة لأنه خال من لحية. .! هات الظلام سواده، فانه لون كالنور وإشراقه، لا بد من كليهما، إذ المعنى الفني في تناسب الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ويد الفني كيد الغني، هذه لا يقع فيها الذهب إلا ليتعدد ثم يتعدد، وتلك لا تقع فيها المرأة إلا لتتعدد ثم تتعدد، وفي كل دينار قوة جديدة، وفي كل امرأة فن جديد.

قال: ومذهبنا في الحياة أن نستمع بها ضروبا وأفانين، من أطلق أنواعاً لم يقتصر على نوعين، ومن قدر على نوعين يرض الواحد، ولو أن زوجة كانت من أشعة الكواكب أو من قطرات الندى لثقل منها على حياتنا ما يثقل من الحديد والصوان، إذ هي لا تلد أشعة الكواكب ولا قطرات ندى، وحسب الجسد برأس واحد حملاً.

قال: ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وتحياتها وأشواقها في مثل رسالة غرام ثم يدع هذا ويسألها غضبها وخصامها ولجاجتها في مثل قضية من قضايا المحاكم، كل ورقة فيها تلد ورقة. .!

ص: 4

ثم قال الشاب: لا تحسبن أن المرأة هي السافرة عندنا، ولكن اللذة هي السافرة، وما أحكم الشرع! أقول لك وأنا محام يقرر الحقيقة: - ما أحكم الشرع الذي لم يرخص في كشف وجه المرأة الا لضرورة، فأن الواقع في الحياة أن هذا الكشف كثيرا ما يكون كنقب اللص على ما وراء النقب، وإذا كسر ما فوق القفل من الخزانة المكتز فيها الذهب والجوهر فالباب الحديد كله سخرية وهزؤ من بعد. .!

هذه عقلية شاب محام طوى عقله على الكتب القانونية وطوى قلبه على مثلها من غير القانونية. وليس يمترى أحد في أنها عقلية السواد من شبابنا المثقف الذي لبس الجلد الأوربي. ومن البلاء على هذا الشرق أنه ما برح يناهض المستعمرين ويواثبهم غافلا عن معانيهم الاستعمارية التي تناهضه وتواثبه، جاهلا أن أوربا تستعمر بالمذاهب العلمية كما تستعمر بالوسائل الحربية، وتسوق الأسطول والجيش، والكتاب والأستاذ، واللذة والاستمتاع، والمرأة والحب. ولو أن عدوا رماك بالنار فاستطارت في ثيابك أو متاعك لما دخلك الشك أن عدوك هو النار حتى تفرغ من أمرها. فكيف لعمري غفل الشرقيون عن أخلاق نارية حمراء يأكلهم بها المستعمرون أكلا كأنما ينضجونهم عليها ليكونوا اسهل مساغاً، وألين أخذاً، وأسرع في الهضم. لم افهم انا من كلام صاحبنا الشاب ومعانيه الا أن أوربا في أغصابه، وأما مصر ونساؤها ورجالها فعلى طرف لسانه لا تكون إلا صيحة، وليس بينه وبينها في الحياة عمل إلا من ناحية لذته بها، لا من ناحية فائدتها منه.

وتلك المعاني كلها مشتق بعضها من بعض، ومرجعها إلى اصل واحد، كالأمراض التي يبتلي الجسم

يمهد شئ منها لشيء، ما دامت طبيعة هذا الجسم زائفة أو مختلة، أو متراجعة إلى الضعف، أو ذاهبة إلى الموت.

وأولئك شبان وقف بهم الشباب موقف بلاده، فلا يخطر إلى الرجوله، ولا يكمل بنموه الاجتماعي كما يكمل الجل الوطني، فمن ثم يكون خواراً لا يستطيع أن يحمل أثقالا مع أثقاله ويستوطئ العجز والخمول فلا يكون إلا قاعد الهمة رخو العزيمة، قد استنام إلى أسباب عجزه وتخاذله، ولا يكون في بعض الاعتبار إلا كالمريض يعيش بمرضه حميلة على ذويه ضجعة لا يمشي، ثومه لا ينتهض، مستريحاً لا يعمل.

ص: 5

وبهذه المكسلة الاجتماعية في الشبان يبدأ الشعب يتحول من داخله فينصرف عن فضائله ويتخذ في مكانها فضائل استعارة يقلد فيها قوما غير قومه، ويجلبها لبيئة غير بيئته، ويقسرها على أن تصلح له وهي فساد، ويكرهها على أن تنفعه وهي ضرر، وتلك حالة يغامر فيها الشعب بكيانه فلا تلبث أن تصدعه وتفرقه،

ولو أن في السحاب مطراً وغيثاً لما كان له في كل ساعة لون مصبوغ، ولو أن في الشباب دينا لما صبغته تلك الاخلاق الفاسدة، وما ذهاب الحارس عن مكان إلا دعوة للصوص اليه، وهل كان الدين إلا واجبات وتبعات وقيوداً يراد من جميعها إعداد الإنسان لأمثالها في الأجتماع، حتى يقر في إنسانيته الصحيحة على النحو الذي يصلح له منفرداً ويصلح له مجتمعاً؟ فليست الزوجة وحدها هي التي خيرت الشاب بل خسره معها الوطن والدين والفضيلة جميعاً، وبهذا أنعكس وضعه من الجماعة، فوجب في رأيه أن تسخر الجماعة له وان يستقل هو بنفسه. وبهذا العكس وهذا السقوط وهذا الاستمتاع الذي يجد سعادته في نفسه اصبح أولئك الشبان كأنما حقهم على المجتمع أن يقدم لهم بغايا لا زوجات. . . . بغايا حتى من الزوجات. . . .!

قبح الله عصراً يجهل الشاب فيه أن الرجل والمرأة في الوطن كلمتان تفسر الإنساني إحداهما بالأخرى تفسيرا إنسانيا دينيا بالواجبات والقيود والأحمال، لا بالأهواء والشهوات والانطلاق، كما تفسر الحيوانية الذكر والأنثى.

والنفس الدنيئة أو المنحطة في أخلاقها ومنازعها من الحياة لا تكون إلا دنيئة أو منحطة في أحلامها وأخيلتها الروحية، دنيئة كذلك في طاعتها إن قضت عليها الحياة بموضع الخضوع، دنيئة في حكمها إن قضت لها الحياة بمنزلة من السلطة. ولو تنبهت الحكومة لطردت من عملها كل موظف غير متأهل، فأنها إنما تستعمل شراً لا رجلاً يمنع الشر، وكل شاب تلك حاله هو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، وما يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه.

ليس للزواج معنى إلا إقرار طبيعة الرجل وطبيعة المرأة في طبيعة ثالثة تقوم بالاثنتين معاً، وهي طبيعة الشعب. فمن سقوط النفس ولؤمها ودناءتها أن يفر الشاب القوي من تبعة الرجولة، فلا يحمل ما حمل أبوه من واجبات الإنسانية، ولا يقيم لوطنه جانبا من بناء

ص: 6

الحياة في نفسه وزوجه وولده، بل يذهب يجعل حظ نفسه فوق نفسه وفوق الإنسانية والفضيلة والوطن جميعا، ولا يعرف أن انفلاته من واجبات الزواج هو إضعاف في طبيعته لمعنى الإخلاص الثابت، والصبر الدائب، والعطف الجميل في أي أسبابها عرضت.

ومن ُفسولة الطبع ولؤمه ودناءته أن يهرب هذا الجندي من ميدانه الذي فرضت عليه الطبيعة الفاضلة أن يجاهد فيه لأداء واجبه الطبيعي متعللا لفراره المخزي بمشقة هذا الواجب وما عسى أن يعاني فيه كما يحتج الجبان بخوف الهلاك وعناء الحرب. ومن سقوط النفس أن يرضي الشبان كساد الفتيات وبوارهن على الوطن، وأن يتواطئوا على نبذ هذه الأحمال وإلقائها في طرق الحياة وتركها لمقاديرها المجهولة كأنهم أصلحهم الله لا يعلمون أن ذلك يضيع بأخواتهم الفتيات، ويضيع بوطنهم في أمهات الجيل المقبل، ويضيع بالفضيلة في تركهم حمايتها وتخليهم عن حمل واجباتها وهمومها السامية. إن الجمل إذا أستنوق تخنث ولان وخضع، ولكنه يحمل، وهؤلاء إذا استنوقوا تخنثوا ولانوا وأبوا أن يحملوا.

ومن سقوط النفس في الرجل النكس العاجز المقصر أن يحتج لعزوبته بعلمه وجهل الفتيات، أو تمدنه وزعمه أنهن لم يبلغن مبلغ الأوربية، ولا يدري هذا المنحط النفس أن الزواج في معناه الإنساني الاجتماعي هو الشكل الآخر للاقتراع العسكري، كلاهما واجب حتم لا يعتذر منه إلا بأعذار معينة، وما عداها فجبن وسقوط وإنخذال ولعنة على الرجولة.

ومن سقوط النفس أن يغنى الشباب عن الزواج لفجوره فيقره ويمكن له، وكأنه لا يعلم أنه بذلك يحطم نفسين، ويحدث جريمتين، ويجعل نفسه إلى الدنيا لعنتين.

ومن سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها وتركها بعد أن يلبسها عارها الأبدي، فما يحمل هذا الشاب إلا نفس لص خبيث فاتك، هو أبداً عند من يسرقهم في باب الخسائر والنكبات، لا في الربح والمكسب، وعند المجتمع في باب الفساد والشر، لا في باب المصلحة والخير، وعند نفسه في باب العمل والشرف.

فسقوط النفس وانحطاطها هو وحده نكبة الزواج في اصلها وفروعها الكثيرة التي منها المغالاة والشطط في المهور، ومنها بحث الشاب عن الزوجة الغنية وإهمال ذات الدين

ص: 7

والأصل الكريم لفقرها، ومنها ابتغاء الزوجة رجلاً ذا جاه أو ثراء عزوفها عن الفاضل ذي الكفاف أو اليسير على عنىً في رجولته وفضائله، كأنما هو زواج الدينار بالسبيكة، والسبيكة بالدينار، وكأن الطبيعة قد ابتلت هي أيضاً بالسقوط، فأصبحت تعتبر الغني والفقير، فتجعل في دم أولاد الأغنياء روح الذهب واللؤلؤ والماس، وتلقى في دم أولاد الفقراء روح النحاس والخشب والحجارة. . . على حين أن الجميع مستيقنون لا يتدافع اثنان منهم في أن الطبيعة لا تبالي إلا بوراثة الآداب والطباع.

وأعظم أسباب هذا السقوط في رأيي هو ضعف التربية الدينية في الجنسين، وخاصة الشبان، ظناً من الناس أن الدين شأن زائد على الحياة، مع أنه هو لا غيره نظام هذه الحياة وقوامها في كل ما يتصل منها بالنفس. وليست المدنية الصحيحة كما يحسب المفتونون هي نوع المعيشة للحياة ومادتها، بل نوع العقيدة بالحياة ومعانيها. وإلى هذا ترى كل مبادئ الإسلام، فأن هذا الدين القوي الإنساني لا يعبأ بزخارف كهذه التي تتلبس بها المدينة الأوربية القائمة على الاستمتاع وفنون اللذات وانطلاق الحرية بين الجنسين، فهذا بعينه هو التحطيم الإنساني الذي ينتهي بهدم تلك المدينة وخرابها، وإنما يعبأ الإسلام بالعقيدة التي تنظم الحياة تنظيماً صحيحاً متساوقاً وافياً بالمنفعة، قائماً بالفضيلة، بعيداً من الخلط والفوضى.

ويقابل ضعف التربية الدينية مظهراً آخر هو سبب من أكبر أسباب السقوط، وهو ضعف التربية الاجتماعية في المدرسة، وإلى الدعة والراحة، وفرارها من حمل التبعة (المسئولية) التي هي دائماً أساس كل شخصية قائمة في موضعها الاجتماعي. وبذلك الضعف وذلك السقوط وضعت المرأة البغي العاهرة في الموضع الطبيعي للأم، ونزل الرجل السافل المنحط في المكان الطبيعي للأب، وتحللت قوى الوطن بانحراف عنصرية المعظيمين عن طبيعتهما، وجعلت فضيلة الفتيات المسكينات تتآكل من طول ما أهملت، وأخذ سوس الدم يتركها فضائل نخرة ولا عاصم ولا دافع إلا قوة القانون وسطوته، ما دامت الفضيلة في حكم الناس وتصريفهم قد تركت مكانها للقوانين. وما دامت قوة النفس قد أخلت موضعها للقوة التنفيذية. لقد قتلت روحية الزواج، وهي على كل حال جريمة قتل، فمن القاتل يا صاحبنا المحامي؟

ص: 8

قال الشاب: هو كل رجل عَزَب

قلت: فما عقابه؟

فسكت ولم يرجع إلي جواباً

قلت كأني بك قد تأهلت وخلاك ذم. فما عقابه؟

قال: إلى أن تبلغ الحكومة أو أن تعاقب هؤلاء العزاب، فليعاقبهم الشعب بتسميتهم أرامل الحكومة. . وأحدهم: رجل أرملة الحكومة. . .

ثم قال: اللهم يسرها ولا تجعلني رجلاً بغلطتين: غلطة في نساء الأمة، وغلطة في ألفاظ اللغة.

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 9

‌انقلاب عظيم في السياسة الدولية

روسيا البلشفية في عصبة الأمم

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تجوز العلائق الدولية في تلك الآونة أعظم انقلاب عرفته منذ الحرب الكبرى، وتستعد عصبة الأمم لإستقبال أعظم حادث عرفته في تاريخها، فمنذ أشهر يجري الحديث بأن روسيا السوفيتية ستدعى إلى الالتحاق بعصبة الأمم. وستغدو عما قريب عضواً فيها، وتتمتع بكرسي دائم في مجلسها. وقد كان ذلك مثار دهشة وريب ممن يعرفون ظروف روسيا السوفيتية، ونزوعها إلى التباعد عن الدول الغربية، وما تقضي به طبيعة ونظمها من مخاصمة الحكومات (الرأسمالية)، ومناوأتها بكل الوسائل الخفية، والعمل على هدمها وهدم النظم التي تحميها، إضرام نار (الثورة العالمية). وقد كان للبلاشفة في عصبة الأمم منذ قيامها رأي يناقض ما يرونه اليوم كل المناقضة، فقد كانت في نظرهم عصابة من الدول الرأسمالية تحركها هذه الدول وتوجهها كيف شاءت، وهيئة إستعمارية منافقة تعمل من وراء ستار لتحقيق غايات الاستعمار الغربي، وأداة لتمكين نير الأمم القوية الغالبة من أعناق الأمم الضعيفة المغلوبة، وكانت الحوادث تؤيد كثيراً من هذه الريب الظنون، فلم تر الأمم الضعيفة ولاسيما الأمم الشرقية شيئاً من الأنصاف على يد عصبة جنيف، بل إبتدعت لها نظام الانتدابات أو الحماية المقنعة لتسبغ على استعبادها صفة مشروعة، ولم تحول مرة أن تحد من مزاعم الدول الاستعمارية أو أطماعها - وهذه الدول هي بعينها التي تسيطر على مجلس العصبة - ولم تجرؤ مرة على أن تصدر في أي المسائل التي طرحت أمامها أي قرار يناقض آراء هذه الدول أو غاياتها، ولازلنا نذكر موقفها من النزاع بين تركيا وإنكلترا على كردستان، والصراع بين الصين واليابان على منشوريا، وخذلانها حينما احتلت إيطاليا كورفو، وتملها فيما اقتضته من العراق شرطاً لالتحاقها بالعصبة، وموقفها من أماني فلسطين وسوريا، ولا زلنا نذكر بالأخص موقفها العقيم من مسألة نزع السلاح وفشلها الذريع في معالجتها، وسواء كانت روسيا السوفيتية مخلصة في رأيها بالنسبة لعصبة الأمم أم كانت تمليه بواعث السياسة فقط، فأن العصبة لم تحقق خلال هذه الأعوام العديدة من حياتها شيئاً مما علق عليها من الآمال في إنصاف الشعوب المظلومة أو تخفيف

ص: 10

الخصومات القوية أو توطيد دعائم السلام.

والآن ماذا حدث؟ لقد تورطت العلائق الدولية خلال الأعوام الأخيرة تطوراً سريعاً مدهشاً، وأخذت روسيا تخصم من خصومتها للدول الغربية شيئاً فشيئاً، وأخذت الدول الغربية في التقرب من حكومة موسكو البلشفية، بعد ما لبثت أعواماً تحاول القضاء عليها، وتحشد لمناوأتها كل ما استطاعت من القوى الخفية والظاهرة، وعاد عهد التوازن الأوربي القديم وعهد المعاهدات السرية والمحالفات السياسية والعسكرية، وغاض ذلك الأفق المصطنع الذي ساد فيه حديث السلام والتضامن الدولي مدى حين. وقد كان من الطبيعي أن يعتبر التحاق روسيا بعصبة الأمم عاملاً في صفاء الأفق الدولي، وتعضيد قضية السلام، لأن تباعدها عن الدول الغربية كان عقبة دائمة في سبيل تقدم التفاهم الدولي واستقرار العلائق الدولية، وعدم اعترافها بالعصبة يعرض جهودها في سبيل السلام للانهيار: هذا على الأقل ما كان يتردد في دوائر جنيف حبط مسعى في سبيل التفاهم أو مجهود في سبيل نزع السلاح. ولكن التحاق روسيا اليوم بعصبة الأمم يدلي بمعان أخرى. وروسيا لم تغير رأيها في العصبة ولا في الدول (الرأسمالية) التي تتكون منها، ولكن روسيا اليوم تعلق على هذا الانضمام آمالاً كبيرة وترى أنه يحقق لها من المصالح ما لم تحققه سياسة القطيعة والعزلة، والسياسة الغربية التي تسعى منذ حين لتحقيق هذا الانضمام تحاول أن تقنعنا بأنه يزيد العصبة قوة ويزيد كلمة أوربا توحيداً، ويقرب أمد التفاهم في مسألة نزع السلاح، ويعاون على استقرار السلم في أوربا، ولكن الحقيقة أن هذه النظرية القديمة قد تطورت اليوم، وما ترشيح روسيا لدخول العصبة إلا نتيجة لسياسة التوازن الأوربي الجديدة التي ظهرت بوادرها قوية منذ قيام الحركة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وظهورها بمظهر المهدد لسلام أوربا، وفشل مفاوضات نزع السلاح وعود فرنسا صراحة إلى السياسة القومية القديمة بحجة الدفاع عن نفسها أمام الخطر الألماني. ومنذ عامين ونحن نشهد نتائج هذا التطور الجديد، في وقوع الجفاء بين ألمانيا وروسيا أولاً، ثم انتهاز فرنسا لهذه الفرصة وتقربها من روسيا، وتفاهم الدولتين على إحياء التحالف الفرنسي الروسي القديم الذي كان قائماً قبل الحرب، ثم مساعي السياسة الفرنسية المتواصلة في جمع كلمة دول أوربا الشرقية حولها في كتلة واحدة تخاصم ألمانيا جميعاً، وحملها حليفاتها دول الاتفاق الصغير على الاعتراف

ص: 11

بروسيا السوفيتية إلى عصبة جنيف.

ولروسيا صلة قديمة بعصبة الأمم وإن لم تكن من أعضائها، فقد اشتركت في لجنة نزع السلاح ومؤتمراته بصفة رسمية منذ سنة 1925، وقدمت أليها عدة مشاريع لنزع السلاح كانت جميعها مثار البحث والمناقشة ولكنها رفضت جميعاً، وكانت السياسة الروسية خلال هذه الأعوام تثار على خصومتها لعصبة الأمم وعلى الطعن فيها وفي نزاهة مقاصدها، وتتخذ من فشل مؤتمر نزع السلاح دليلاً على نفاق الدولة الغربية وتمسكها بسياسة الحرب السوفيتية. أما اليوم فأن روسيا لا تأتي التفاهم مع الدول الغربية والاندماج في عصبة جنيف. ووراء هذا التطور الخطير في سياسة البلاشفة عاملان جوهريان: الأول حوادث الشرق الأقصى، والثاني موقف الدول الغربية من روسيا السوفيتية، فأما من الشرق الأقصى حيث تسيطر روسيا على أراض ومصالح عظيمة، فقد نشط الاستعمار الياباني في الأيام الأخيرة نشاطاً عظيماً وأنتزع إقليم منشوريا من الصين، ولم تحفل اليابان باحتجاج الدول الغربية أو تدخل عصبة الأمم، وآثرت أن تنسحب من العصبة لكي تكون مطلقة اليدين في تنفيذ برنامجها الاستعماري، ولم تحجم عن أن تصرح بأنها تعتبر الصين ميدان نشاطها وتوسعها دون غيرها من دول الغرب، وإنها ستقاوم كل محاولة جديدة تقوم بها الدول الغربية لتوسيع نفوذها أو مصالحها في الصين، ولما كانت روسيا تجاوز اليابان في الشرق الأقصى في أكثر من منطقة، فأن هذه السياسة اليابانية الجديدة التي تؤازرها عسكرية قوية تهدد أملاكها ومصالحها أعظم تهديد، وروسيا تريد من أجل ذلك أن تصفي خصومتها مع الدول الغربية لكي تستطيع أن تتفرغ لمقاومة هذا الخطر. وأما عن موقف الدول الغربية إزاء روسيا السوفيتية، فأن هذه الدول قد نبذت خصومتها المطلقة القديمة لروسيا بعد ما اقتنعت بأنه يستحيل عليها أن تسحق الثورة البلشفية، وبعد ما تطورت البلشفية ذاتها وتركت كثيراً من تطرفها القديم وآثرت جانب الاعتدال، أصبحت روسيا تميل إلى العودة إلى حظيرة أوربا القديمة والتفاهم مع الدول الغربية و! عطاء بعض الضمانات السياسية والاقتصادية، وقد كانت السياسة الفرنسية روح هذه التطور كما بينا لأن فرنسا أشد الدول اهتماماً باكتساب تلك القوة العظيمة في شرق أوروبا، لتعود كما كانت قبل الحرب مصدراً للخطر على ألمانيا يزعجها ويشغلها.

ص: 12

وقد نجحت السياسة الفرنسية في إقناع إنكلترا وإيطاليا بتعضيد التحاق روسيا بالعصبة، وهذه الدول هي التي تسيطر على مجلس العصبة (بعد انسحاب اليابان وألمانيا) وجرت مفاوضات تمهيدية بين فرنسا ومعظم الدول المنضمة إلى العصبة لتوافق على قبول روسيا، واستطاعت أن تحقق الأصوات اللازمة لذلك، ويشترط لقبول الدولة المرشحة أن يؤيد قبولها ثلثا أصوات الجمعية العمومية وإليك ما ورد في ميثاق العصبة بخصوص ذلك.

(كل دولة، أو ملك مستقل (دومنيون) أو مستعمرة تحكم نفسها حرة لم يرد أسمها في الملحق (ملحق الدول المنضمة) تستطيع أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على دخولها ثلثا الجمعية العمومية بشرط أن تقدم الضمانات اللازمة على إخلاص مقاصدها وعلى مراعاة تعهداتها الدولية، وأن تقبل القواعد التي تقررها العصبة بخصوص القوات والتسليحات العسكرية والبحرية والجوية) (المادة الأولى الفقرة الثانية).

(تتآلف الجمعية العمومية من ممثل أعضاء العصبة، وتجتمع في أوقات معينة أو في وقت آخر إذا اقتضت الظروف ذلك في مركز العصبة أو في محل آخر يختار لذلك، وتختص الجمعية بالنظر في كل مسألة تدخل في دائرة نشاط العصبة أو تتعلق بسلام العالم، ولا يجوز لأي عضو في العصبة أن يختار لتمثيله في الجمعية أكثر من ثلاثة مندوبين ولا يحق له اكثر من صوت)(المادة الرابعة)

وأما عن مجلس العصبة فقد ورد الميثاق ما يأتي: (يتكون المجلس من ممثلي الدول الكبرى المتحالفة والمشتركة، وكذلك من ممثلي أربعة أخر من أعضاء العصبة. وهؤلاء الأربعة تختارهم الجمعية حسب رغبتها وفي الوقت الذي تختاره لذلك. . . ويستطيع المجلس بموافقة أغلبية الجمعية أن يعين أعضاء آخرين من أعضاء العصبة يكون لهم كرسي دائم في المجلس، ويستطيع بنفس الطريقة أن يزيد في عدد أعضاء العصبة الذين تختارهم الجمعية للمثول في المجلس)(المادة الرابعة فقرة أولى وثانية)

أوردنا هذه النصوص لنبين الإجراءات اللازمة لالتحاق دولة ما بالعصبة، ثم لنبين أهمية الكرسي الدائم في المجلس، ذلك أن روسيا مرشحة للفوز بكرسي دائم في المجلس إلى جانب باقي الدول العظمى، وقد تمت الإجراءات الخاصة بترشيح روسيا في الجمعية العمومية، وحصلت روسيا على أكثر من ثلثي أصوات الجمعية، ولم يعارض في قبولها

ص: 13

سوى ثلاث دول أو أربع هي سويسرا وهولندا والأرجنتين وبلجيكا، وعقب ذلك دعوة العصبة لروسيا للانضمام إليها وقبول روسيا لهذه الدعوة، وبذا تمت الإجراءات وغدت روسيا عضواً في عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى في الهيئة التي شد ما خاصمتها وحملت عليها، ومما يلفت النظر أن هذه الإجراءات تجري وروسيا بعيدة عنها لا تحرك ساكناً ولا تصرح بشيء ولا تعلق صحفها بكلمة، ولتفينوف المشرف على الشئون الخارجية الروسية يقيم في أحد مصايف فرنسا الجنوبية. ذلك أن هذه الحركة كلها من صنع فرنسا وهي التي تحمل كل أعبائها وتسهر على تنفيذها، وقد جرت جميع المفاوضات بشأنها وراء الستار مما أدى إلى احتجاج بعض أعضاء العصبة، فقد حمل مستر دي فاليرا ممثل أيرلندة على هذه السرية، ونوه بما فيها من الشذوذ. ولكن كل شيء يسير مع ذلك وفقاً للبرنامج المرسوم.

ومن المعروف أن دخول تركيا في العصبة إنما هو نتيجة لدخول روسيا فيها. وقد كانت تركيا تحذو حذو حليفتها الكبيرة في موقفها إزاء العصبة وتنظر إليها بنفس نظرتها، وهي الآن تسير وراءها في سياستها الجديدة.

ولهذا التطور الذي انتهى بإقبال روسيا على عصبة الأمم واندماجها في زمرة الدول الغربية مغزى عظيم فيما يتعلق بمصاير روسيا البلشفية ذاتها، فقد كان شعار موسكو منذ ظفر البلشفية في سنة 1917، خصومة العالم (الرأسمالي) كله، والعمل على إضرام نار الثورة العالمية في سائر جنباته، ولم يقبل البلاشفة في ذلك أي مناقشة أو هوادة، وكانت الشيوعية تتقدم في غزو الدول الصناعية تقدماً حثيثاً، وتؤازرها موسكو بكل ما وسعت. ولكن البلشفية لم تستطع أن تعيش طويلاً بمثلها وغايتها المتطرفة ولم تلبث أن تأثرت بقطيعة العالم ومقاومته، اضطرت أخيراً أن تسلك مسلك الاعتدال سواء في سياستها الداخلية أو الخارجية. ورأى سادة موسكو أن موارد روسيا البلشفية وقواها المادية والمعنوية تتحطم تباعاً أمام ضربات الدول الغربية، وأن روسيا لا تستطيع الحياة إلى الأبد في ظل نظام يؤلب عليها العالم كله، ويحرمها من كل عطف وتعاون، فجنحوا إلى تغيير السياسة القديمة ومدوا يدهم إلى الدول الغربية، ولم تهمل الدول الغربية الانتفاع بهذه الفرصة فمدت يدها إلى روسيا وجذبتها إلى حضيرتها، فالآن نستطيع أن نقول أن البلشفية قد دخلت في دور

ص: 14

انحلالها، وأنها تنزل شيئاً فشيئاً عن مثلها وغاياتها الثورية المتطرفة، وأن روسيا تعود شيئاً فشيئاً إلى حظيرة الماضي، في ظل نوع من اشتراكية الدولة لا يلبث أن يستقر أو يختفي مع الزمن.

وترى الدولة الغربية أن دخول روسيا في العصبة بقوتها كهيئة دولية ويزيد في هيبتها ونفوذها في سير السياسة الأوربية خصوصاً بعد أن غادرتها اليابان ثم ألمانيا. وقد يكون ذلك صحيحاً من الوجهة المحلية، لأن العصبة تتخلص بذلك من خصم قوي كان يشتد في مناوأتها، وتكسب نفوذاً جديداً في مسائل أوروبا الشرقية. ولكن العصبة لا تكسب كثيراً من الوجهة العامة، ذلك لأنها قد خسرت كثيراً من هيبتها ونفوذها خلال الأعوام الأخيرة، ونستطيع أن نقول إنها فقدت نهائياً ثقة العالم كعامل في توطيد السلم العالمي، وأداة من أدوات التفاهم الدولي والعدالة الدولية، وقد اختفت مثل العصبة القديمة بعد تخبط وفشل استمرا منذ قيامها، وبعد أن قدمت الأدلة العملية العديدة على أنها لا تستطيع العمل إلا في الدائرة التي ترسمها الدول المستعمرة المسيطرة على مجلسها وعلى إرادتها. على أنه تترتب على هذا التطور نتيجة هامة هي توطيد دعائم التوازن الأوربي وإقصاء شبح الحرب من أوروبا إلى حين. ذلك أن وقوف روسيا إلى جانب فرنسا ودول الاتفاق الصغير على نحو ما بينا القوى الجبهة الشرقية المعادية لألمانيا، ويحمل ألمانيا على التأمل والتريث، ويزيد من جهة أخرى في طمأنينة فرنسا، وفرنسا وألمانيا هما طرفا الخصومة الأوربية، وعلى موقفها وعلائقهما يتوقف السلام والحرب إلى حد كبير. وهذا التحالف بين فرنسا وروسيا يعود بنا إلى ما قبل الحرب، وهو نتيجة طبيعية للسياسة التقليدية التي سارت عليها روسيا وفرنسا منذ الحرب الفرنسية الألمانية في سنة 1870، وأثناء الحرب الكبرى.

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 15

‌هذه المعركة المزمنة بين أدبين!

للأستاذ كرم ملحم كرم

إنها لمعركة مزمنة حقاً هذه المعركة بين الجديد والقديم. فهي معركة حامية لا تنطفئ لها نار ولا يخبو منها أوار. فالشباب والمشيب يتطاحنان. المتربع في القمة يصارع الواقف في ساحل الحياة، الضاحك للمستقبل، المتقلب في أحضان الربيع، الناعم باخضرار العيش، يقاتل من يحاذر الوقوع في اللجة. الهاتف بملء فيه (الغد لي) يغالب التمسك بأذيال الحياة لئلا يبتلعه الموت! ومعركة القديم والجديد بدأت منذ الأزل وسوف تتصل بالأبد. فأن هذا التطاحن بين الأمس وأبن اليوم حديث كل يوم. هذا التطاحن بين أبن الأمس الخائف على مكانته من التهشيم والتحطيم، وأبن اليوم الراغب في أن يشق لنفسه طريقاً إلى الشمس، القائل للقديم المزمن:(دعني أحتل مقعدك!.)، هذا التنافر أبن عصور ودهور، انبثق يوم انبثاق الكون، وسيرافق الكون في مراحله الطوال لا يزول منه إلا يوم يزول فالشباب يغيظه أن يطأطيء الرأس للمشيب، أن يعترف له أبداً بالسيادة، أن يقف حياله مكتوف اليدين، فيصبح به:(نلت نصيبك من دنياك فلا تحرمني نصيبي!. . .) فيأبى من أدركهم المشيب أن يتزحزحوا من أماكن استقروا فيها بعد جهد ومشقة. ويغضب الشباب وفي أعصابه جمر ونار فيثور وتنشب المعركة. ولا يسلم الفريقان من شظايا القدح والنقد والتعريض. الشيخ العتيق يسخر بثمار عقول الشباب. والرائع في مقتبل العمر يهز بيده المهند الصقيل مهدداً متواعداً، وتتساقط الضحايا في الميادين. ويقول القائلون:(المعركة بين القديم والجديد!. . .) ويخيل إلى بعضهم أن الأدب القديم هو ما جاد به الطاعنون في السن. وأن الأدب الجديد هو ما يتحفهم به كل ناضر العود. على حين أن بين ذوي الأنياب الصفر فئة لا يبلى لها طارف ولا تليد. فالجديد ما تنفث وتكتب وتنظم، كما أن بين الفتيان الأفراخ الزغب الحواصل، فريقاًلا يحسن الابتكار ولا التوليد، فانه لغارق في القديم إلى الأذنين، ويأبى أن يحارب كل من أسن وشاب وشاخ، وبات على قيد خطوة من يومه الأخير!

وهذه المعركة لا يصح القول عنها أنها بين أدب قديم وأدب جديد. إن هي إلا بين المشيب والشباب، بين قوم تمتعوا بأطايب جهرهم وأدركوا الشهرة الواسعة والصيت البعيد، وقوم

ص: 16

يريدون قسمتهم من قرص الحلوى. فهم نهمون شرهون جائعون، يلتمسون الأكلة الشهية يتذوقها، مع، انهم في الخطوات الأولى من عهد الفطام.

ومثل هذا النظام ما خلا منه عهد. أما سمعنا جريراً يقول حين سئل في الأخطل: أدركته وله ناب واحد، ولو أدركته وله نابان لأكلني!

فالأخطل أكبر من جرير سناً. وقد تحكك به جرير ليدرك المنزلة العليا فأدركها، وهناك من شاء الإقتداء بجرير في التحكك بالطاعنتين في السن. نريد بشار بن برد الشاعر الفحل الضرير. فقد راش بسهامه جريراً. على أن جريراً لم يرد عليه. وكان يقول حين يبلغه طعن بشار: مالنا ولهذا الغلام الخامل الغر نرفع قدره!

فقيل لبشار: بم أساء إليك جرير؟ قال: لم تنلني منه إساءة. على أني وددت أن يهجوني. ولو فعل لكنت لأشعر شعراء العرب أجمعين!

وغاظ المعري أن يسمع: (هل غادر الشعراء من متردم؟.) فانشد قصيدة من عالي الشعر جاء فيها:

وإني وإن كنت الأخير زِمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائلُ

فالتطاحن بين القديم والجديد ليس ابن يومه. فكل يريد المقام الأول. والشجيرة يؤلمها أن تخيم عليها الشجرة فتسعى إلى امتصاصها كي تذبل وتجف. هي سنة تنازع البقاء. الشاب يدفع الشيخ إلى الهوة ليقوم مقامه، والقوي ينشب أظفاره في الضعيف لتخلو له الساحة. وقد يكون هذا الشيخ من أنصار التجديد. ولكن الشاب لم يطق ظلمه، فحفر له الحفرة ووقف يشهد مصرعه فيها.

إذاً من هم أنصار الأدب القديم؟

من هم المتمسكون به والداعون إليه؟

لا جدال في أن الأدب القديم ركن الأدب الجديد. فالأدب الجديد لم ينشأ عفواً، بل تسلق قواعد القديم وشيد عليها قواعده الخاصة يستند إليها ويحيا بها. فالأدب القديم أبوه، على أن الابن وأن يكن تغذى من أبيه فقد أظهر فيما شيد لنفسه من بنيان انه مستقل. فأن حجارة هيكله تختلف في حجمها ولونها وشكلها عن حجارة هيكل المتقدمين. بل هو خالفهم في البناء نفسه. فجعلوا هيكلهم مستطيلاً. فأبى إلا إن يشيد هيكله مستديراً، وبنوه عالي القباب

ص: 17

فرفعه ناتئاً يشك في الأجواء. بدا هيكله في منظر خشن فتلألأ هيكله لطيف الشكل، مصقول الجدران ترتاح العين لرؤيته وينعم فيه النظر بلا ملال. والأدب الجديد ليس وليد عصر معروف، فكل عصر يحفل بالقديم والجديد، كل عصر يبرز فيه هيكلان يختلفان شكلا ولونا وذوقا. كل عصر يدين بهذين المذهبين ويقوم فيه من يناصر القديم ويظاهر الجديد. وليس نصير القديم من وقف على الأطلال فبكى واستبكى، فأن بعضهم يقف على الأطلال ويجود بالشائق الرضي. أما انشد داود عمون:

هاج أشواقي إلى الدمن

طائرٌ غنى على فنن

وداود عمون شاعر ثوى منذ سنوات قلائل في مقره الأخير وقد جاء شعره في الدمن من أرق الشعر، فلا هو بالخشن المبتذل ولا الجاف الغليظ، فالعذوبة وافرة فيه، والقوة محكمة في دباجته العالية. وليس كل من تحدث عن الإبل والنوق بنصير القديم. فالمنخل اليشكري لم يكن من أنصار القديم حين قال:

وأحبها وتحبني

ويحب ناقتها بعيري

لا، فأن في هذا الشعر لظرفا، وان فيه لإمعاناً في التوكيد على نحو ما جاء في قول أبي نؤاس:

إلا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

إن فيه لرونقاً، فهو بعيد عن التكلف في سبكه ومعناه. وكل شعر جامع للرونق خال من التكلف والغلو الفحاش يطمئن إليه كل جيل، ويرضى عنه الأدب الجديد. فما هو الأدب القديم إذاً؟. . . الأدب القديم هو الحافل بغريب الكلام ووحشي الألفاظ، المثقل بالتقليد، الراكد في معناه ومبناه، فلا ابتكار ولا روعة ولا سهولة ولا ذوق، هو المنسوج على منوال خشن، الضخم الكلمات، الطنان الأجوف القائم على صناعة الألفاظ، المحشو تكلفاً وتعقيداً، البارد لفرط ما لاكته الألسن ومضغته الأفواه. الأدب القديم هو الأدب المطبوع بطابع عصر معلوم، جاءه من يبعثه حياً في عصر لم يخلق له، فإذاً نحن رأينا في شعر أمريء القيس شيئاً جديداً فهناك ما لا يصح قولاً في عصر غير عصر الشاعر الضليل، فقد قيل في زمن يجب إلا يتخطاه إلى زمن آخر، وقد تبدلت العادات وتبدل الناس، والجديد الجديد في شعر امرئ القيس تشابيهه واستعاراته. وهذه التشابيه والاستعارات ملك الشاعر لا

ص: 18

يجوز لأحد أن يسطو عليها وإلا كان سارقاً. كان أشبه بالضاحك من نفسه ليخدعها وإنما يهين نفسه. فالابتكار في الأدب والاختراع في سائر الفنون. فمن أبتكر في أسلوب الإنشاء مذهباً جديداً بات هذا الأسلوب معروفاً باسمه، ومن جادت قريحته بتشبيه جديد لا يجوز لأي أديب بعده أن يأخذ عنه هذا التشبيه ويتبناه وهو ليس من تواليده، وإلا كان سالخاً ضعيف المخيلة، قاصر اليد. والأديب العربي لا يكون اليوم مبدعاً إذا أتحف الأدب بروايات أشبه بمقامات الهمذاني والحريري، فأن ذلك النسيج من ثمار عصر مضى، وهو مما تستحسن حياكته في أيام الانحطاط لإنهاض اللغة وإذاعة مفرداتها، فتلتقطها الأذهان وتستعين بها الأقلام، أما اليوم فأن أسلوب المقامات لا يحتسيه أبناء العصر ولا يستسيغونه، فقد تبدل أسلوب الإنشاء تبدلاً عظيماً، فمات السجع، ومات التقعر والتحذلق والانصراف إلى الألفاظ دون المعاني، وأضحى الأسلوب الساري كل واضح جلى قريب إلى الذهن والفهم. ولا فرق في هذا الواضح الجلي سواء أنتقل إلينا من الجاهلية أو صدر الإسلام، أو الأعصر العباسية، أو عصر الإنحطاط، أو عصر الانبعاث فأن أتشاء أبن المقفع لا يبلى في أي عهد، ومثله الجاحظ، وأبن الأثير، والأصبهاني، وأبن عبد ربه، وأبن خلدون، مع أن إنشاء أبن خلدون أخذ يتقادم عهده وفيه من التطويل ما فيه. واللغات كلها طافحة بأساليب الإنشاء. وأنها لتحوي من الأساليب الممتعة ما لا تقوى على محوه يد الدهر، ولا تؤثر فيه سنة بقاء الأنسب، فهي صامدة للصروف لا ترث منها القوى ولا ينصل لونها وهي صافية نقية كزرقة السماء. وهذه الأساليب يصح أن نطلق عليها أسم الأدب الجديد، وهي الخالدة، وهي مرجع الطلاب والأدباء، كساها منشئوها المعنى الجميل في المبنى السليم، فأضحت لا تنبو عنها الأذن ولا ينكرها أي جيل، وهو بها قرير ضنين.

وما يقال في النثر يقال في الشعر. فالشعر الناضج بالعصير الشهي لا يفنى، على حين أن الشعر اليابس لا تقوم له قائمة في سوى يومه ولو أنشد المتنبي، فأن شعر عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وكثير عزة، وأبن الدمينة، وعباس أبن الأحنف، وأبن زريق، وأبي نؤاس، والشريف الرضي، والبهاء زهير، وأبن المعتز، وأبي الفراس، وشعراء الأندلس في معظمهم، مما أن يصح أن يقال اليوم وينشد، وتقتبس طريقته، ويهتدي بنوره، اللهم إذا تغاضينا عن بعض مناحي هذا الشعر اقتضاه روح العصر، وكثيراً ما يكون هذا الروح

ص: 19

نائيا عن حضارة العصر الذي يلي.

فأن هؤلاء الشعراء جمع منظومهم الرقة والروعة والوضوح، وكل شعر يرتع في هذه الميزات لا يعرف الأنقاض، خصوصا وهو مستمد من العاطفة، والعاطفة لا تموت، فالقلوب تخفق أبدا بها. وكل شعر أوحت به العاطفة وعته الذاكرة، وردده اللسان، وأبتهج به الخاطر، وتناقلته الكتب والأفواه من عهد إلى عهد، وهو الشعر الذي يفرض مشيئته على الأيام والسنين.

وللشعراء الهجائين منزلة وشأن لدى الحفاظ والرواة. ويمكن القول أن شعرهم يقوم على العاطفة، أفلا تتبدل هذه العاطفة بما يتبدل به القلب؟. . ألا تخضع لسلطان الهوى؟. . . وشعر الهجاء يثيره الهوى. إذا فهو شعر عاطفي. ولهذا الشعر حظه من البقاء والخلود أن يكن جميلا وفريدا، على طراز ما أتحفنا به الحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وبشار ودعبل وأبن الرومي والمتنبي. فأن شعر الهجاء أقرب إلى الحفظ وأبقى أثرا. فالنفس وهي الأمارة بالسوء تميل إلى الهجاء وترتاح له أكثر منها إلى إحراق البخور وتقبيل الأذيال.

ولسنا ندعو بالخلود لكل شعر عاطفي، ولكننا نقول أن شعر العاطفة يملك ميزة الخلود أكثر من أي شعر آخر، ويأتي بعده شعر الوصف، على أن يكون بليغا رشيقا غير مسبوق إليه. ويقبل في الدرجة الثالثة شعر الحكمة إذا أفرط فيه قائله تبرأ منه الشعر.

ولا يكتب الخلود لشعر الحكمة إلا إذا قاله من أرغم الدهر على الإصغاء إلى إنشاده وأسمعت كلماته من به صمم، ومع أن المتنبي يسير في طليعة من صاغ هذا الشعر فلا يستطاع الجزم بأن حكمياته تستساغ في كل عصر، فهي من بنات عصرها. وقد ظهر خاتم ذلك العصر فيها. ومن المحال أن يحاول تقليدها أي عصر جديد. وكل من استهواه تقليدها فهو من طبقة المحافظين.

لا نكير في أن في هذا الشعر قوة ومناعة وحسن صياغة. ولكن صب الحكمة في الشعر ليس مما يشمله الأدب الجديد. فالأدب الجديد في الشعر عاطفة ووصف. وما جاوز العاطفة والوصف بليد. ويجوز أن تطفو الحكمة في بعض المواقف. الا أن الإغراق فيها يذهب برونق الشعر. ويرصف هذا الشعر فوق أكداس القديم.

ومن الواجب على الأدباء والمتأدبين الإكثار من مطالعة أبي تمام والمتنبي وأبي العلاء.

ص: 20

ففي مطالعة هؤلاء الأئمة ما يساعد على اقتباس العصمة والقوة والفخامة. الا أن التشبه بهم يدل على العقم والعجز عن التوليد، يدل على الانغماس في التقليد، على الغرق في بحيرة ملأى منذ ألف عام. فمن خاض عبابها، أن يبلغ شاطئها الآخر وإذا بلغ هذا الشاطئ فأي فضل هو فضله وقد كان تابعا لا متبوعا، وقد وقف حيث وقف سواه؟. .

ولماذا الإقتداء بأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء في شعرهم الضخم الجانح إلى القديم أكثر منه إلى الجديد، وهناك عمر بن أبي ربيعه في قالبه الصحيح العذب الرسيل؟. . . فإن ابن أبي ربيعه أبن كل عصر، على حين أن المتنبي أبن عصر أو عصرين أو ثلاثة. فأن شعر زعيم الغزليين يقال وينشد ويردد اليوم وغدا وبعد غد، ويدغم فيما يقال اليوم وغدا وبعد غد كأنه منه وفيه. فلا يجفوه عصر ولا يعرض عنه أي عهد. بينما المتنبي لا يرحب بأسلوبه كل جيل، وأن يكن ثمة من اعترف به سيد الشعراء. وكيف تسمع عمر بن أبي ربيعة ينشدك أبياته:

تقول وليدتي لما رأتني

طربت وكنت قد أقصرت حينا

أراك اليوم قد أحدثت أمراً

هاج لك الهوى داء دفينا

وكنت زعمت أنك ذو عزاءٍ

إذا ما شئت فارقت القرينا

بعينك هل رأيت لها رسولاً

فساقك أم لقيت لها خدينا

فقلت شكا إلى أخ محب

كبعض زماننا إذا تعلمينا

فقص على ما يلقى بهند

يذكر بعض ما كنا نسينا

وذو القلب المحب وإن تعزى

مشوق حين يلقى العاشقينا

كيف تسمع هذا الشعر ولا تحسبه من مواليد اليوم، بل من مواليد كل يوم، وهو الوضاء الصافي، الأنيق الرقيق؟. .

وهذا أبن الدمينة هلا أضعنا إليه في قوله:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فقد زادني مسراك وجداً على وجد

أَإن هتفت ورقاء في رونق الضحى

على فنن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الحزين صبابة

وذبت من الشوق المبرَح والصد

هلا أصغينا إلى هذا الشعر البهيالقشيب وهو يحدثنا بلغة اليوم وروح اليوم؟. . . .

ص: 21

قيل كان العباس بن الأحنف إذا سمع هذا الشعر تترنح منه الأعطاف، وكاد لفرط إعجابه به ينصح برأسه العمود. فقد تعتقه أبن الدمينة بلا خمر.

وأبو فراس أي عصر لا يفتح له صدره وقصائده من بنات كل عصر:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

وماذا تقول في شعر المنازي يوم فزع إلى الوادي الظليل هرباً من الحر.

نزلنا دوحة فحنا علينا

حنوَ المرضعات على الفطيم

تروع حصاة حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظم

ألا يسير هذا الشعر في ركاب كل عصر؟.

والبهاء زهير؟. . . أتنسى البهاء زهيراً؟. . .

أنا من تسمع عنه وبَرى

لا تكذب في غرامي خبرا

وماذا نطلب في الشعر إلا أن ينهج هذا النهج، إلا أن يصدر عن هذا المورد؟. ماذا نبغي منه إلا أن يبقى أبداً شهي المذاق، إذا رددناه في كل ثانية أطربنا ورجونا أن نستزاد منه، فلا يتنكر له زمن من الأزمان، ولا تشد دونه الأسماع كلما قام للأدب العربي كيان. فالأدب الجديد إذا هو المبتكر، الفريد، السائغ، الرائع الديباجة، الواضح الجلي، الذي يرضى عنه كل عصر، ويهضمه كل جيل، فلا يؤلم السميع بغريب الألفاظ، ولا بالنافر من المعني، ولا بالتكلف والتعقيد. والأدب القديم هو المثقل بالتقليد، المطبوع بطابع عصر خاص لا يعدوه، المنغمس في السجن في نثره، والمتوكئ على الألفاظ والتفلسف في شعره، العويص، الخشن، الوحشي الكلمات والمعاني، هو ما يحتاج إلى القاموس كلما خطر لك أن تجيل الأنظار ومثل هذا الأدب شؤم على اللغة والبيان، إلا أن المحافظين يستمرئونه، بينما أنصار التجديد يشنون عليه الغارة، وينادون إلى استئصاله وهو أدب راكد، والأدب الراكد لا يعيش! وقد طال التطاحن بين الأدبين، وسيطول كلما بقى في الأدب قديم وجديد. وعندنا أن الأدب الجدير بالحياة ما استوفى شروط البيان، وحفل بالمبتكر، وهز النفس، وأرغمك على قراءته والإصغاء إليه، هو ما أطربك كلما رويته ووقفت على بدائعه وآياته. هو ما رمى إلى أبعد مما يرمي إليه مقال في صحيفة سيارة بنشر اليوم ليطوي غداً. . .!

بيروت

ص: 22

كرم ملحم كرم

صاحب جريدة (العاصفة)

ص: 23

‌الشريف الإدريسي يضع اقدم خريطة جغرافية للدنيا

‌القديمة

للأستاذ محمد عبد الله ماضي

عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد عبده بألمانيا

1 -

تمهيد:

إنني إذا تحدثت عن الخريطة الإدريسية فإنما أتحدث عن مجهود علمي خالد من مجهودات أحد أسلافنا الأمجاد، عن مبرة من مبرات رجل من رجالاتنا في التاريخ، ويدمن الأيادي البيضاء التي أسداها أحد علماء الإسلام وأبناء العرب إلى العلم والعالم يوم كانوا قادة المعرفة وحملة لوائها على وجه البسيطة، ويوم كان الشرق يملي كلمته على الغرب ويقوده إلى مسالك الحياة الحق على ضوء العلم، وفي سبيل الهدى والمعرفة. أتحدث عن اقدم خريطة عالمية جغرافية صادقة عرفها التاريخ ووصلت إلى أيدينا، وأقرب صورة عرفت في تلك العصور السالفة مطابقة لما وصل إليه العلم الحديث ولما نعلمه الآن علم اليقين، تلك هي (خريطة الشريف الإدريسي) التي أظهر في وضعها براعة علمية فائقة، وخلد لنفسه بها ذكرا طيبا حسنا بين العلماء الأمجاد سوف لا يزال يضوع شذاه وينتشر عبيره ما دام للعلم أهل يقدرونه، وما دام هناك من يعرف للعلماء حقوقهم.

ولم يكن كتابة (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) إلا شرحا لهذه الخريطة وتعليقا عليها، وهو كتاب ضخم يقع في جزئين كبيري الحجم، وإن كثيرا من علماء البحث في الشرق والغرب وفي مختلف العصور، قد بحثوا بحوثا مستفيضة في هذا الموضوع الشائق، ولقد كان آخر من عنى بذلك من علماء البحث الجديد الأستاذ (كونراد ميللر) أحد العلماء الألمان الإجلاء فانه أخرج الخريطة في ثوب قشيب، وطبعها طبعة ملونة سنة 1928 وكتب عنها الفصول الطوال، وعقد الموازنات بينها وبين الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة، وأشاد بمنزلتها كأساس قوي متين، ومرجع منظور إليه بعين التجلة والاحترام من مراجع هذا العلم وأسسه.

2 -

من هو الشريف الأدريسي؟

ص: 24

الإدريسي هو الشريف أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريسينتسب إلى بيت الأدارسة الذي حكم مدينة (مالقة) في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي بعد سقوط خلافة قرطبة في بلاد الأندلس.

هذا البيت يمت بصلة القرابة إلى الأسرة الأدريسية التي حكمت في مراكش 135 سنة من 791 إلى 926 م.

وهاتان الأسرتان ترجعان معا في نسبهما إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

إدريس هذا افلت من يد العباسيين بعد اشتراكه في ثورة العلويين عليهم في ولاية موسى الهادي، وفر من وجههم إلى بلاد الغرب سنة 784 م وهناك أسس مملكة الأدارسة التي ورثها أبناؤه من بعده. بعد أن بسط يده على تلك الجهة التي نزل بها، بعضها بموالاة سكانها له، والبعض الآخر بواسطة الحرب وبعد تحكيم السيف، وما زال الأدارسة هناك يدبرون ويحكمون حتى غلبهم الفاطميون على أمرهم وانتزعوا الملك من يدهم. صاحبنا الإدريسي ولد سنة 110 ببلاد المغرب في (تطوان) على إحدى الروايات أو في (سبتة) كما في الروايات الأخرى حيث هاجر والده وبعض أقاربه في نهاية القرن الحادي عشر، وأين أتم الإدريسي دراسته وتلقى دروسه؟ لم يذكر المؤرخون ذلك. ولكن الأمر كما قال الأستاذ (ميللر) ليس بعير، فان القارئ لوصفه الدقيق الوافي لمدينة (قرطبة) يستطيع أن يستنبط من ذلك أنها كانت مقر دراسته وموطن تخرجه نشأ هذا الرجل وقد حببت إليه الأسفار من صغره، فبدأ أسفاره وهو في السادسة عشرة، وسافر إلى البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وتغلغل في شمال إفريقية، ودرس خصائص أهل هذه البلاد وعوائدهم. فوق هذا سافر إلى سواحل فرنسا في المحيط الأطلانطي، وإلى سواحل إنكلترا كما حدث في بعض كتاباته، وفي نهاية الأمر دعاه رجار (روجر الثاني النورماني) ملك صقلية إلى الرحلة إليه والنزول عنده في (بالرم) على الرحب والسعة والإقامة ببابه كأحد أفراد الحاشية معززا موفور الكرامة. رجاه ذلك الملك الجليل في هذا بعد أن وصل إلى مسامعه من هو الإدريسي، وبعد أن علم منزلة الأمير العلمية. قبل الإدريسي هذه الدعوة الكريمة وشد رحاله نحو صقلية ليأخذ منزلته في البلاط الملكي، وليحدث هناك الدوي

ص: 25

الهائل في الأفق العلمي الذي مازلنا إلى الآن نسمع صداه، شجعه على القول هذه الدعوة رغبته في الفرار من وجه أعدائه وأعداء أسرته في البلاد العربية الذين بالغوا في اضطهاده وطلبه، وسعوا جهدهم في النكاية به. رحل الأمير إلى صقلية وأقام بها مدة حياته حتى قبض إلى رحمة ربه سنة 1166 م. وهكذا كان حظه حظ جده الأول إدريس. كلاهما أستخلص لنفسه الحياة من مخالب الموت، وفر من حظيرة الاضطهاد الضيقة الأنحاء إلى بحبوحة الملك الواسعة الأرجاء. كلاهما شاد بجده وعزمه دولة أدريسية، غير أن دولة جده انقضت وأخنى عليها الدهر، ودولته هو خالدة لا تنقضي. والأمر ليس بغريب. فهذا شأن دولة العلم نصيبها الخلود والبقاء بينما تقضى دولة الملك وتفنى. رحل هذا العالم الجديد والأمير النبيل إلى صقلية وقضى بقية أيامه هناك، قضاها في الأنتاج والعمل المثمر. لم يحدد المؤرخون الوقت الذي رحل فيه الإدريسي إلى صقلية تلبية لدعوة مليكها رجار (روجر الثاني) ولم يذكروا في أي سنة كان هذا. غير أننا نستطيع أن نأخذ برأي الأستاذ (كونراد ميللر) ونستنبط ذلك من الحوادث التاريخية المرتبطة بالموضوع، وعليه فلنا أن نفرض أن ذلك حدث قبل سنة 1138 م بقليل. فأننا نعلم في تلك السنة عقد (رجار الثاني) العزم على العمل لوضع خريطة جغرافية ووضع كتاب يشتمل على وصف أجزاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت. خذا الأمر الخطير الذي لعب الإدريسي فيه دور البطل.

3 -

صقلية في ذلك العهد وحالة البلاط الملكي في الدم

كانت صقلية في ذلك العهد ملتقى العقول المفكرة، ومحط رحال العلماء يأتون إليها من كل فج عميق، وكانت بالرم العاصمة كعبة رجال العلم يسعون إليها من الشمال والجنوب لما عرف عن مليكها رجال الثاني النورماني من محبته للعلم وتقديره للعلماء واحترامه لهم من أي جنسية كانوا، والى أي ملة انتسبوا. فقد كان بلاطه بحق حرم العلم، من دخله من العلماء كان آمناً. هنا التقت الحضارة الإسلامية بالحضارة المسيحية، وتعرف فن الشرق المسلم إلى فن الغرب المسيحي فتآخيا وأخذا يعملان جنباً إلى جنب إخواناً متحابين لمصلحة العلم وفي سبيل خير العالم. هناك ورث النورمانيون حضارة العرب الذين حكموا الجزيرة 242 سنة من سنة 830 إلى 1072 م والذين ورثوا حضارة الروم من قبل. في ذلك الوقت كانت الحروب الصليبية قائمة على قدم وساق، فكان هذا سبباً لوفود كثير من

ص: 26

رجال دول أوربا ودول العلم المختلفة إلى بالرم. هؤلاء الرجال الذين كانوا للكثير منهم شأن في بلادهم ومعرفة بأحوالهم السياسية والاجتماعية والجغرافية. كان ذلك الوقت هو العصر الذهبي للنورمانيين في صقلية الذي عمت فيه سيادتهم جميع أنحاء الجزيرة، والذي دخلت تحت سلطانهم في خلاله قسم من إيطاليا وشمال أفريقيا. كل هذه العوامل سهلت للإدريسي القيام بمهمته الكبيرة الشأن، ومكنته من أن يجمع إلى معارفه الخاصة وملاحظاته الشخصية التي أكتسبها بأسفاره الطويلة ورحلاته المتعددة، وأن يضم إليها ما جعله يضع خريطته العالمية ويكتب كتابه (نزهة المشتاق) عنها بوجه لم يسبق اليه، حتى كانت هذه الخريطة وذلك الكتاب مرجع المؤلفين الجغرافيين من بعده.

4 -

مؤلفات الإدريسى في المدة التي قضاها في صقلية

لم يقتصر عمل الإدريسي في تلك المدة التي قضاها في بلاط الروم على وضع تلك الخريطة، ولكنه ألف غير ذلك أربعة كتب (1) كتاب نزهة المشتاق أو كتاب رجار الذي سبقت الإشارة إليه، والذي أختصر فيما بعدتحت هذا الاسم عينه، ولقد أطلعت على نسخة من هذا المختصر في مكتبة المعهد الشرقي بهامبورج مطبوعة بروما في سنة 1592 م ومكتوب على هامشها أن هذا الكتاب أول ما طبع باللغة العربية (2) كتاب الممالك والمسالك الذي لم يصلنا منه إلا بعض مقتبسات اقتبسها أبو الفدا عند كلامه على الجغرافية العربية. كذلك حدثنا عنه الشاعر أبن بشرون الأندلسي، وحدث أن الإدريسي ألف هذا الكتاب سنة 1161 لنجل رجار الثاني (فلهلم) الذي حكم من سنة 1154 إلى سنة 1166 م (3) كتاب روض الفرج، وهو كتاب جغرافي صغير اكتشفه أحد الباحثين من نحو ثلاثين سنة بمكتبة خاصة في (إستانبول)(4) كتاب يبحث في وسائل العلاج البسيطة. فوق هذا نقل الأستاذ (ميللر) عن المؤرخين أنه كان شاعرا وأنه لم يصلنا من شعره إلا بعض مقطوعات، ولكنني لم اعثر على شئ من هذه المقطوعات لأعرضه على قراء الرسالة.

5 -

كيف فكر روجر الثاني في وضع هذه الخريطة وكيف

عهد إلى الإدريسي بذلك؟

عنى روجر الثاني عناية خاصة بالمسائل الجغرافية واخذ يشتغل بدراسة الكتب الجغرافية

ص: 27

المختارة الموجودة في ذلك العهد، ولا سيما العربية منها، ولكنه لما لم يجد بعد البحث الطويل ما يطفئ غلته ويقضي به لبانته ويريح ضميره كباحث مجد، لما لم يجد جواباً واضحاً وحلاً موفقاً لما كان يجول بخاطرهم، المشكلات العلمية أخذ يستحضر رجال الخبرة الأجانب الذين وفدوا على مملكته من كل فج ويسألهم بواسطة المترجمين منفردين أو مجتمعين عن مواقع البلدان وحدودها، وعن كل ما يتعلق بها جغرافيا كلا بقدر ما تصل إليه معرفته، وقد كانوا كثيري العدد، فأن توافقت أجوبتهم ولم تتضارب أقوالهم اعتبر إجابتهم صحيحة وأعطاها قيمتها العلمية وقيدها وإلا ردها عليهم ولم يعتبرها، وبعد أكثر من خمس عشرة سنة قضاها بلا إنقطاع مع صاحبة الإدريسي في هذا العمل الخطير والبحث الشائق أستقر الرأي على تقييد ما وصلوا إليه ورسمه في خريطة عالمية كاملة تبين فيها مواقع البلدان والبحار والأنهار والجبال إلى غير ذلك كما وصل إليه البحث وانتهى إليه الاستقرار، فأعطيت القوس باريها، وعهد بهذه المهمة الكبيرة إلى الشريف الإدريسي الذي رسم أصل هذه الخريطة، ثمبعد هذا أراد الملك أن تحفر هذه الخريطة ثانية على لوح من الفضة، فأحضر الصناع المهرة الذين أتموا هذا العمل تحت رعاية الإدريسي ورقابته، وبعد أن جعل الملك مقدار أربعمائة ألف درهم من الفضة كما روى خليل الصفدي تحت تصرف الإدريسي لهذا الغرض اتخذ الإدريسي أقل من ثلث المقدار مائدة مستطيلة يبلغ طولها كما قدر الأستاذ (ميللر) ثلاثة أمتار ونصف متر وارتفاعها مترا ونصف متر تقريبا، ثم حفر عليها بواسطة الصناع المهرة كما قدمنا خريطة بغاية الدقة والإتقان وتمام الموافقة لتلك الخريطة التي رسمها قبل القيام بعملية الحفر، وكان الفراغ من هذا العمل الجليل الشأن في يناير سنة 1154 م. وكشرح لهذه الخريطة وتعليق عليها ألف الإدريسي كتابه نزهة المشتاق في إختراق الآفاق أو كتاب رجار الذي أشرنا أليه، وإنه لجدير بهذه التسمية بعد أن بذل هذا المليك الجليل تلك العناية الكبيرة، وقدم هذا السعي المحمود خدمة للعلم وحبا فيه، وقد كانت العناية بتآليف هذا الكتاب شبيهة بأختها في وضع الخريطة. فقد اختار رجار الثاني والإدريسي عدة من الرجال الذين بصح الاعتماد عليهم في مثل هذه العظائم وبعثوهم إلى جهات العالم المختلفة ليدرسوا احولا البلدان النائية ويدرسوا أهلها وعاداتهم وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدرسوا حاصلات البلاد وحيواناتها

ص: 28

وكل ما تنتجه ويعيش فيها إلى غير هذا مما له أهمية جغرافية وما يتعلق ببعض نواحي علم طبقات الشعوب وعلم الاجتماع. أمرهم بان يدرسوا هذا ثم يضعوا تقريراتهم عنه، ولقد حمل هؤلاء الرسل إذنا من الملكالنورماني رجار الثاني ليحضروا معهم كل ما يعدونه غريبا في بابه ذا أهمية جغرافية خاصة من الأمور الخارقة للعادة في باب الطبيعة، بعد أن تم ذلك وعاد أفراد تلك البعثة الاستكشافية من الجهات التي أرسلوا إليها، وقدموا تقاريرهم أجتمع لدى الإدريسي ما مكنه من وضع كتابه نزهة المشتاق.

6 -

كيف كانت صورة الأرض في نظر الإدريسي عند وضع

خريطة؟

ولا بد لنا قبل أن نتكلم عن شرح الخريطة وبيان بنائها أن نشرح الصورة الأرضية التي كان يعتقدها الإدريسي عند وضع خريطته. كان الرأي الشائع إلى أواخر العصر المتوسط أن الأرض مسطحة عائمة على وجه الماء. نعم لقد شك بعض علماء اليونان في ذلك وثار عليه أفراد آخرون بعدهم، ولكنه لم يزل رأي الأغلبية حتى نهاية ذلك الوقت. أما رأي الإدريسي يشاركه فيه علماء الجغرافيا الأخصائيون من العرب فقد كان غير ذلك، أعتقد الإدريسي أن الأرض مكورة على شكل بيضة يحيط بها الماء ويتعلق بها بواسطة قوة جاذبية طبيعية، فالماء يغمر نصفها وينحسر عن النصف الآخر مع كون هذا النصف الأخير المنحسر عنه الماء آخذاً شكلاً بيضاوياً منقسماً بواسطة خط الاستواء إلى قسمين متساويين: شمالي وجنوبي، المعمور منها الشمالي فقط. أما الجنوبي فهو خراب غير معمور لشدة الحرارة ولعدم وجود الماء، ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن أبن رشد الطبيب والفيلسوف والفقيه المسلم (1126 - 1198) عارض الإدريسي في هذه النقطة، فلقد روى عنه أبن خلدون (732 - 808 هجرية) في مقدمته أنه ارتأى النصف الجنوبي من الكرة موافق للنصف الشمالي منها تمام الموافقة في الجو والطبيعة وأنه مأهول بالسكان مثله، وأن النقطة القريبة من خط الاستواء سواء كان شمالا أو جنوبا شديدة الحرارة، ثم تتدرج درجة الحرارة في الانخفاض بقدر بعد المنطقة عنه. ووافق ابن خلدون أبن رشد في اصل نظريته وأيدها بما ساق من الأدلة، إلا انه رأى أن النصف الجنوبي لا سكان فيه كما في

ص: 29

الشمال، وعلل ذلك بأن معظم القسم الجنوبي الصالح لسكن مغمور بالماء.

يتبع

محمد عبد الله ماضي

ص: 30

‌الصورة والتصور والتصوير

للأستاذ الحوماني

صاحب مجلة العروبة

هنالك في حيز الشعر صورة وتصور وتصوير ، ولكل منها نصيب من الجمال في الحياة، ومناط الجمال في كل منها إنما هو الفن إذا صح إطلاق الفن وحده على الشعر كما سترى. فالصورة إحدى ظواهر الطبيعة وهي إما حقيقة أو خيال - والتصور مرور الفكر بهذه الحقائق يتصفح صورها - والتصوير إبراز هذه الصور إلى الخارج بشكل فني، فالتصور إذن هو العلاقة بين الصورة والتصوير وأداته الفكر فقط، وأما التصوير فأداته الفكر واللسان، والصورة يتعاقب عليها فنان: فن المبدع وفن المصور، ويقال للمصور مبدع إذا كانت الصورة من خلقه، وهو يتصفح الحقائق فينتزع منها صورة مركبة نسميها خيالا. فالخيال لا يخلو من رمز يشير لك إلى المبدع الأول مهما افتن الشاعر في صرفك عن لحظة. فالمرأة ظاهرة من ظواهر الفن الطبيعي، وتصويرها إحدى ظواهر الفن الصناعي. فجمال النفس فيها إنما هو جزء من روح مبدعها الأول، وجمال الشعر في تصويرها إنما هو من روح مبدعها الأخير.

والتصور الذي هو لحاظ الفكر صور الحقائق يختلف شدة وضعفا باختلاف الفكر الذي هو أداته، فتصور الشاعر جمال الفن في إحدى ظواهر الحياة إنما هو الإحاطة بدقائقها واكتناه السر الذي كانت له، والصورة الفنية إنما تتكون من جليل تحف به دقائق يمتاز بالوصول إليها شاعر الفن من غيره، ومناط الجمال في تصوير الشاعر وقوفه على دقائق لا يتبينها في الصورة الفنية سواه، ففي كل صورة فنية طبيعية كانت أم صناعية من معجزات الفن ما هو ظاهر وما هو خفي. فالشاعر يمتاز من غيره بتصور هذا الخفي ثم لا يكون فنانا حتى يصوره. فالرسام إنما يصور لك المرأة الجميلة حتى كأنك ترى شخصها، والشاعر إنما يصفها لك حتى كأنك تلمس روحها، إنما يصور ذلك ويصف هذا، وكلاهما شاغر فنان، بفضل ما يدركان من خفي ما أبدعه الفن في الصورة الجميلة فيصورانها. من ذلك نصل إلى أن الشاعر لا يفهمه كالشاعر وناقد الفن يجب أن يكون فنانا، ولا تنس أن الشاعر إنما يفهم الشاعر الذي هو دونه أو مساو له، وأما من حلق عليه فلا ينبغي له أن

ص: 31

يمد بصره إلى أفقه وهو يحاول نقده حتى يكونه، على أن الشاعر لا يجب في النقد أن يكون فنانا، فرب شاعر غير فنان يستطيع بما أوتيه من فكر أوتى دقة التصوير أن ينقد الشاعر الفنان.

فالدكتور طه حسين يستطيع أن ينقد أمير الشعراء لا من حيث كونه شاعرا فقط، إذ هو في الفن دون أمير الشعراء، ولكنه في تذوق الفن قد يكون فوقه أو مساويا له، فليس الشعر مرادفا للفن ولا الفن مرادفا له. وقد يكون الشعر فنا كما فد يكون الفن شعرا. والشاعر الفنان يستطيع أن ينقد الشاعر فنانا وغير فنان، فكل من أبدع في التصوير كان في حيزه الإبداع في التصور، وقد يكون في حيز الإبداع في التصور الإبداع في التصوير، وإذا صح لنا أن نطلق على الشعر أنه تصوير الجمال في الحياة صح لنا أن نطلق عليه جمال التصوير، فحيث يكون تصوير الجمال يكون جمال التصوير، وقد يخامر السامع ريب في صحة الأول، وأن الشاعر قد يصور قبيحا في الحياة فلا يخرجه عن كونه شاعرا فيما صور، وجوابه سهل فيما إذا لحظنا ثبوت كون الجمال نسبيا في الحياة وانه لا قبح فيها، وإنما هو جميل كما مر بك في القول على الجمال.

وأما إذا اعتمدنا القول في أن الصور الفنية في الحياة ما هو حسن وما هو قبيح لزمنا القول في أن حد الشعر بجمال التصوير أصح، ولزمنا من جهة أخرى نفي الجمال المطلق عن الفن الطبيعي وهو مرآة الفن الصناعي، فلزم الفرق بين فن الطبيعة وفن الإنسان من حيث حده وتعريفه، وهما فن واحد، إلا أن يكون القبح في الصور الفنية عارضا بعد كونها والجمال ذاته فيها فيستقيم إذ ذاك تحديده الثاني. فالطبيعة لم تبدع غير جميل، وما يتراءى لنا قبيحا فلعارض حور مجراه الطبيعي في نفوسنا، أو لسر فيه خفي عنا إدراكه فعز علينا مناط الجمال فيه، وليس الجمال في الصورة أو التصوير مناطا للجمال في التصوير، ولا شئ من جمال التصوير أو قبحه يستلزم جمال الصورة أو قبحها، فأي جمال في صورة الأحدب يستلزمها جمال تصويرها في قول الشاعر:

قصرت أخادعه وغاب قذاله

فكأنه مترقب أن يصفعا

أو انه قد ذاق أول صفعة

وأحس ثانية لها فتجمعا

فاللازم إنما هو جمال التصوير فقط، وجمال التصوير يتحقق في نقل الصورة على أتم

ص: 32

وجه وبأسلوب جميل، والصورة أعم من أن تكون في الخارج كصورة الأحدب التي مرت بكأو في النفس كما في قوله:

أعانقه والنفس بعد مشوقة

أليه وهل بعد العناق تدان؟

وألثم فاه كي تزول حرارتي

فيشتد ما ألقي من الهيمان

وما كان مقدار الذي بي من الجوى

ليطفيه ما ترشف الشفتان

كأن فؤادي ليس يطفي غليله

سوى أن ترى الروحان تمتزجان

فلم يكن الشاعر ليصف لك في هذا المشهد صورة العناق في الخارج، وإنما يريد أن يصور لك حالة نفسية تعتريه كما تعتري كل عاشق، وهي انفعال النفس بما تجده في قرب من تحب. وبلوغها حدا لا تشعر معه حتى تبلغ النهاية في ثورتها وهي امتزاج الروحين، ولم يكن ليطفئ ثورتها تلاصق الجسدين، ووضع الشفاه على الشفاه وهما طريقها إلى الغاية التي تصبو إليها. على أني لا أرضى عن الشاعر في إنكاره أن وراء العناق تدانيا، فالحب أسمى من أن تناله المادة وهو وليد الروح، ولعل دموع الحب عصارة هذه النفس المتألمة من وراء انفعالها به، فإذا كانت الروح مناط هذا الحب فأنى للجسم أن يطفأ ثورته بالتقبيل أو العناق، والصلة بين المتحابين إنما تتحقق في امتزاج روحيهما، فقد يتلاصقان ولما يزول هنالك بعد بين الروحين، وحجاب كثيف يحول دون امتزاجهما. أفلا يكون إذ ذاك تدان وراء العناق؟ على أن في البيت الأخير وجعله امتزاج الروحين مناط شفاء النفس دليلا على أنهإنما يقصد بقوله (وهل بعد العناق تدان) أن العناق أقصى ما يبلغه الحب في الصلة بين شخصي المتحابين لا أن مطلق التداني مرة وراء الحب قاصر على العناق إذ صرح فيما بعد أن هنالك امتزاجا في الأرواح، وهو أشد ارتباطا في الحب من العناق، وأبلغ تدانيا منه. إذا وصف الشاعر قبيحا فأبدع في تصويره، فقد صور لك جمال الفن فكان صادقا عليه إذ ذاك أنه مصور لجمال الحياة إذ الفن من الحياة، فتصويره تصوير لجمالها أو لناحية من نواحي الجمال فيها. فقد لا تجد أثرا للجمال في كوخ بال قذر يمرح فيه الفأر وتعلو جدره العناكب ويسود أفقه البق، وقد جلس في إحدى زواياه شيخ بالي الطمر وبين يديه سراج ضئيل يقاسي إلى جانبه آلام البؤس. وقد يبدو لك ذلك قبيحا وأنت تشرف عليه أو تلج إليه فتصفر الحياة في عينك ماثله بين جدره. ثم إذا صور لك رسام

ص: 33

مفننٌ حرك منظره من نفسك بين روعة الفن وجمال التصوير ما يقف بك خاشع الطرف بين يدي الفن وجلاله، وهكذا تراك وأنت تقرؤه في قول الصافي:

أكافح البرد في سراج

يكاد من ضعفه يموت

في غرفة كلها ثقوب

أو شئت قل كلها بيوت

يسكن فيها بلا كراء

فأرُ وبقَُ وعنكبوت

فمناط الشعر في ذلك إنما هو جمال التصوير، ولعل الخيال أوفى نصيبا من الحقيقة فيه. ففي قوله (يكاد يموت) و (كلها بيوت) و (بلا كراء) من جمال الفن ما لم تكد تعثر عليه فيما لو جردت الأبيات منها، ولم يكن ليستطيع الصافي أن يصور لك الجمال في البؤس لو لم يكن هو بائساً، ولعل أشعر الناس بالبؤس هو ألصقهم به وأقربهم نفسا منه. إذ البؤس إحدى ظواهر الحياة في الحي، والصورة الفنية إما أن تكون حقيقة محضة أو ملفقة من الحقيقة والخيال، فالأولى تتحقق في نقلها لك كما في الواقع حتى كأنك تراها حقيقة مجردة عن الخيال كما مر بك في تصوير الأحدب في قول أبن الرومي، والثانية نقلها لك وليدة خيال يوهمك وجودها في الخارج كقوله:

خلا يدك البيضاء ذمَُ وللندى

على حافتيها مسرح ومقيل

حمت غصن المعروف أن يخطئ الجني

وزهر الندى أن يعتريه ذبول

لم يشأ أن ينقل صورة الغصن أو صورة المعروف ولا صورة الزهر أو صورة الكرم، وإنما شاء أن ينقل لك صورة لفقها الخيال من كلتا الصورتين عن طريق الاستعارة ومن وراءها التشبيه المطوي كما يحققه علماء البيان.

بيروت

الحوماني

ص: 34

‌3 - الشخصية

للأستاذ محمد عطية الأبراشي

المفتش بوزارة المعارف

العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية:

تكلمنا فيما مضى عن الشخصية وماهيتها، وقلنا أنها قد توهب بالفطرة، وقد تكتسب بالتربية الحق، وبينا أن الناس يختلفون في شخصياتهم كما يختلفون في ذكائهم وميولهم الفطرية، وذكرنا من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية ثلاثة عناصر وهي: الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية. واليوم نتكلم عن العنصر الرابع وهو الشجاعة فنقول:

ربما كانت الشجاعة أهم عنصر من عناصر الشخصية القوية في أوقات الرخاء والشدة على السواء، ولكن ما الشجاعة؟ الشجاعة قوة بها يتمكن الإنسان من السيطرة على قواه مع ضبط نفسه وقت الخطر الذي يهدده، سواء أكان ذلك الخطر حقيقيا أو وهميا.

وكما أن الشجاعة فضيلة في الجندي والملاح فكذلك هي فضيلة في غيرهما من بني الإنسان وهي خير مقياس يقاس به الشخص في أوقات الشدة حيث يتطلب الثبات أو الأقدام. وبهذا المقياس يمكن وضع الشخص في مرتبته الخاصة بين الشجعان أو الجبناء وبين العظماء أو العاديين.

وقد قيل، وقيل حقا، أن الشجاعة تتوقف على القوة الجسمية والعصبية والعقلية والخلقية التي لدى الإنسان. وأن المدنية الحاضرة قد قللت من الشجاعة يبن الأفراد، فقد صرح أحد النظار السابقين لمدرسة (أيتون) الإنجليزية المشهورة بأنه رأى غلاما قد دخلت في عينه ذبابه، فحاولت أمه وأخواته الثلاث إخراجها بغير جدوى، ولم يكن الأمر بحاجة إلى أكثر من يتحمل الولد الألم دقيقة واحدة، ولكنه لم يتحمل الألم دقيقة - إن كانت هناك آلام. فأخذ في عربة إلى طبيب في مدينة تبعد خمسة أميال عن القرية. كل هذا من أجل شئ يسير كان في استطاعة أي فرد من الأسرة أن يقوم به بسهولة.

هذه حكاية عن شبان الأمس وأمهات الأمس بإنجلترا. أما اليوم

ص: 35

فتجد الأمهات والآباء يغرسون الشجاعة، وخلق الرجولة في

نفوسأبنائهم من الصغر، ويعودونهم الصبر، وضبط النفس

وكتمان الشعور، وتحمل الألم من الطفولة الأولى. وبهذه

الوسيلة يبثون الشجاعة فيهم. ولا يظهر الخلق المتين ولا تبدو

الشخصية القوية إلا بهذا النوع من الشجاعة، وهو القدرة على

احتمال الآلام. وان من يستطيع أن يحتمل خمس دقائق اكثر

من غيره يمكنه أن يفوز بالنجاح والنصر، سواء أكان جنديا أم

قائدا، متعلماً أم معلماً، غنياً أم فقيراً. وبالشجاعة يظهر الفرق

الكبير بين الشخصية القوية والشخصية الضعيفة. والآن نريد

أن نبين مظاهر الشجاعة وأثرها في النجاح في العمل وفي

الحياة الاجتماعية فنقول: مظاهر الشجاعة:

أولاً: الشجاعة في ضبط النفس، وذلك بأن تقف موقفا طبيعيا بكل شجاعة عند مقابلة الرؤساء أو عند الظهور أمام مجتمع لإلقاء محاضرة أو الاشتراك في مناضرة، أو التعبير عن رأي، أو الدفاع عن مبدأ أو عقيدة، بحيث لا نرتعد أو نضطرب، ونظهر بأحسن مظهرفي حديثنا وإلقائنا ونبرهن بأعمالنا وآرائنا بكل لطف وأدب. وإذا لم يكن لدى الإنسان قدرة على إظهار مقدرته بالعمل وضبط النفس فقد تضيع منه الفرصة الذهبية التي قد لا تصادفه مرة أخرى. وكثيرا ما تضيع الفرصة من الشخص، ثم يندب سؤ حظه، ويشكو الظروف والمقادير، مع انه لم يكن في حاجة إلى أكثر من الشجاعة في انتهاز الفرصة حين سنوحها. ولا سبب يدعو الإنسان إلى الخوف من أبناء جنسه. وقد يكون الخوف مبنيا على وهم لا أساس له. وإذا وثق المتكلم من نفسه، وعرف ما يريد أن يقوله، وعرف كيف يعبر

ص: 36

عن خواطره، وكيف يبرهن على نظريته بالعقل والمنطق، فأنه يستطيع أن يطمئن إلى نفسه، ويمسك بزمامها، ويقابل من يشاء، ويخاطب من يريد، ما دام متحليا بالأدب، واثقا من نفسه، وكان عقله مرتبا وأفكاره منطقية، بحيث لا يتسرع في ذكر شئ يدل على عقل مضطرب، أو روح قلق، ولا يتظاهر بما ليس فيه. وإذا وفقت مما تريد أن تقوله فهذا وحده كاف لأن تؤثر في نفوس سامعيك، وتنظر إليهم وتقابلهم بكل قلبك وجها لوجه، وتجعل قلبك وروحك في إثبات ما تريد أثباته، أو نفي ما تريد نفيه، فتتكلم بقلبك لا بلسانك. ولا شئ يبرهن على الشجاعة ويخضد شوكتهااكثر من الهلع؛ فحيثما وجد وجد الألم، والقلق النفسي، وتعب الضمير، واضطراب العقل، فتضطرب شخصية الإنسان. ولأن كان الخوف ثمنا ندفعه في سبيل المحافظة على الحياة فالإفراط فيه عيب من العيوب الإنسانية التي يجب تهذيبها، والتي تقضي بأن يفكر الإنسان في الشيء وفي نتائجه.

وبجانب المخاوف التي تلحق الشخص في حاضره، وتحيط به من وقت لآخر، مخاوف وهمية يتوهمها، ويتخيل حدوثها في المستقبل، فيقلق باله، ويضطرب فكره، وتضعف شخصيته. وكثيرا ما تكون هذه الأوهام المخيفة المبنية على غير أساس، وندر أن تقع. وكم إغتممنا لتوقع مصائب لم تحدث، ولن تحدث. وتكثر هذه المخاوف عادة لدى الشخصيات الضعيفة. أما ذوو الشخصيات القوية فلا يكثرون من الهموم من غير ما سبب، ولأقل سبب، بل يستقبلون الحياة كما هي، ويواجهونها بما فيها من مسرات وأحزان، وسعادة وشقاء على السواء، يبتسمون بهدؤ حتى في مواطن البكاء، ويصبرون في مواقف البأساء. هؤلاء جديرين بالنجاح في الحياة لشدة ثقتهم بالله.

والحياة مملوءة بالحوادث والمصائب، والعجائب والغرائب. ولا يستطيع الإنسان أن يعرف ما ينتظره في الغد من المقادير، وقد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فيفاجأ الإنسان بأشياء ما كان ينتظرها، كمرض أو فقد مال أو خسارة. فبهذه وبكثير أمثالها من الحوادث تختبر رجولتنا، ويعرف معدن الرجولة فينا، وبالروح التي نقابل فيها هذه الحوادث تظهر شخصيتنا أو تستتر. ولا تظهر الرجال إلا عند الشدائد والمصاعب. وبما أن النجاح في الحياة ليس من السهل فيجب أن يتعلم الإنسان كيف يبتسم في الأيام المظلمة، كما يبتسم عند المسرات في أيام السعادة والهناءة. وينبغي أن يتعود الشجاعة والاحتفاظ بقواه عند الملمات

ص: 37

حتى يكتسب إعجاب رفقائه وأحترامهم، ويثبت ثبات الطود في مهب الرياح. وليس من الشجاعة أن تكثر من شكوى الحياة والظروف والأيام، فشكوى سوء الحال لن تغير ما حدث، بل تذهب بنظرة العقل، وقوة القلب، وأن الفرق من الخذلان والهزيمة يؤدي إلى الهزيمة، وقوة الأمل في النجاح مع التشجيع والمثابرة تحفظ روح الإنسان وهمته، وتبعث فيه كثيراً من الرجاء في الفوز، وبخاصة إذا عمل بعقله وقلبه ويده، وأن الاعتراف بالنقص فضيلة، والعمل على علاجه شجاعة. فنحن في حاجة إلى الشجاعة التي بها نستطيع مواجهة المخاوف ومقابلتها بكل ثبات وصبر وتفكير حتى نتغلب على مصاعب الحياة، ونقلل من الخوف الذي يهدم الرجولة من أساسها، ويقتل الشخصية في مهدها.

وأن أعظم انتصار في الحياة هو الانتصار على النفس

بضبطها وكبح جماحها، والتغلب عليها. وليست الشجاعة في

أن تنتصر على سبع مفترس فحسب، ولكن الشجاعة في أن

تسيطر على نفسك التي بين جنبيك. وأرقى مظاهر الشجاعة

الصبر والتحمل عند القدرة. ثانياً: هناك مظهر آخر للشجاعة

يتبين في التغلب على الصعاب التي تعترض الإنسان في

الحياة، وإصلاح الأخطاء التي تمر بنا سواء أكانت الأخطاء

منسوبة إلينا أو منسوبة إلى غيرنا. وهناك كثير من المصاعب

التي يمكن التخلص منها بقليل من الشجاعة والحزم والثبات؛

وكثيراً ما يكون الجبن سبباً في الفشل وعدم النجاح في العمل.

وكما تكون الشجاعة في الأقدام على الشيء تكون في الأحجام

عند تحقيق التهلكة. ولا تقل الشجاعة في الأحجام والتريث

ص: 38

حينئذ عن الشجاعة في الأقدام.

وممن كانوا مثلاً للشجاعة واقتحام المخاطر بين العرب خالد أبن الوليد: ومن أقواله: لقد لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة أو رمية، ثم هاأنذا أموات على فراشي حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء.

ثالثاً: تظهر الشجاعة في الإجابة وفي إبداء الرأي: ومن

الشجاعة أن يجيب الإنسان بكل أمانة وإخلاص عما يسأل،

وأن يبدي رأيه بكل صراحة، ويدافع عنه من غير تغيير

الحقائق، ومن غير اضطرار إلى الإنكار أو ذكر نصف

الحقيقة خوفاً من أن تظهر بنفسه الحقيقة كما هي، وإذا اعترفنا

بكل إخلاص أننا فعلنا كذا، ولم نسمع رواية كذا، أو لم نقرأ

كتاب كذا، أو أننا لا نحب فلاناً فقد يعجب المستمع العادي،

ولكننا لو ذكرنا السبب بطل العجب. وهذا أفضل من تشويه

الحقائق بالتغيير والزخرفة وتضليل الغير. وهناك أسئلة

شخصية تدل على تطفل السائل، وتدخله في شئون غيره، فمثل

هذه الأسئلة يجب أن تحارب برفضالإجابة عنها بكل أدب،

عقابا لذلك المتطفل؟

محمد عطية الأبراشي

ص: 39

‌فصول مدرسية في الأدب الدرامي

7 -

الرواية المسرحية في الفن والتاريخ

بقلم أحمد حسن الزيات

تحليل موجز لأشهر المآسي

مآسي كورني: سنا موضوعها حلم أغسطس على سنما،

وعفوة عنه وعن يائر المؤتمرين به، ومغزاها أنتصار العفو

على الأنتقام. وقد وقعت حوادثها في قصر أغسطس بروما

عام 23 قبل الميلاد. وأهم أشخاصها: أغسطس أول امبراطور

لروم، وسنا حفيد (بمبيه) وزعيم المؤتمرين بالأمبراطور،

ومكسيم زعيم ىخر من زعماء المؤامرة، أميلي بنت

طورانيوس قتيل أغسطس ظلماً، وأوفورب عتيق مكسيم.

الفصل الأول: تناجى اميل نفسها أولاً، ثم تصارح نجيتها

ثانياضص بعزمها على الأنتقنم من قاتل أبيها، ولا تجد آلة

لأنتقامها إلا سنا حبيبها. فتشترط عليه ألا تقبله زوجاً إلا إذا

أنتزع من الأمبراطور السلطان والحياة. فيجتهد سنا في تدبير

المؤامرة، ويعود اليها فينبئها باستعداد المؤتمرين للعمل في

الغد. ويفجاه المبرطور باستدعائه اليههو وشريكه مكسيم،

فترتعد مفاصلهم مخافة أن يكون أمر المؤامرة قد افتضح.

ص: 40

الفصل الثاني: على أن جزعهم كان سابقاً لأوانهن فأن

الأمبراطور ما زال يجهل امرهم. وانما يريد أن يستشير

الزعيمين في نزوله عن الملك، فقد سئمه وزهد منه. فيشير

عليه مكسيم بترك العرش، ويتوسل اليه سنا بالأحتفاظ به. فان

الشعب لا يصلح امره ولا يهنأ إلا إذا كان له سيد. أما حكومة

الشعب فهي شر الحكومات. فينزل الأمبراطور على رأي سنا.

ما يضمر. فيعلن إليه سنا أن موت الطاغية هو مهر اميلي،

وفي نزوله عن الملك إخفاق هذا الأمل!

الفصل الثالث: يغار مكسيم من سنا لأنه يحب اميلي ايضاً، ويحاول إحباط زواجهما. ويغريه مولاه (أوفورب) لأن يفشي سر المؤامرة الىأغسطس. ويخز سنا ضميره ويشتد ألمه وندمه كلما دنا الوقت العصيب فيتردد. وتدخل عليه اميلي وهو في تلك الحال فتوقد صدره وتجمع أمره فيذهب، ولكن في نيته أن يقتل نفسه بعد أن يقتل المبراطور. الفصل الرابع: يبلغ أوفور خبر المؤامرة إلى أغسطس من قبل مكسيم، ويوهمه أن سيده القى بنفسه في نهر التبر كراهة للحياة بعد اقتراف جريمتين: جريمة التآمر وجريمة الوشاية. فيدهش الأمبراطور ويناجي نفسه بالأمر نجوى جميلة، ويقلب الرأي فيما يحسن أن يفعل، فتنصحه زوجه بالعفو فأنه أجدر بالقادر، ولكنه يخرج على غير رأي، وتخلفه اميلي على المسرح، ويدخل عليها مكسيبم يتضرع اليها أن تفر معه فتأبى إلا الوفاء لسنا. وتعرف من الواشي الخيانة فتحتقره، ويندم مكسيم على غطاعته مولاه فيعزم على قتله قبل أن يقتل هو. الفصل الخامس: يجمع الأمبراطور رأيه علىأن يمن بالعفو فيدعو إليه سنا ويذكره بنعمه عليه، وطول إحسانه إليه، ويعجب أن يكافئه على حسن صنيعه بقتله. فيحاول سنا أن ينكر، ولكن أغسطس يظهره على أنه يعلم سر المؤامرة. وتدخل حينئذ أميلي فتحمل

ص: 41

تبعة المؤامرة وتعلن انها تثأر لأبيها. ويبرئها سنا ويقرر انه هو المسئول عن تدبيرها وحده. ويظهر مكسيم فيعترف بخيانته، وتتحرك في قلبأغسطس عواطف الكرم والأريحية فيعفو عنهم جميعاً، وهو يقول: أنا سيد نفسي كما انا سيد العالم! بوليكت

موضوعها استشهاد القديس بوليكت من اضطهاد الأمبراطور (ديس)، ومغزاها انتصار الأيمان على الحب. وقد وقعت حوادثها في ميليتين عاصمة أرمينية في قصر فيلكس عام 250 للميلاد، واهم أشخاصها فيلكس احد أعضاء مجلس الشيوخ الروماني وحاكم ارمينية، وبليكت أمير ارمني وزوج ابنة فبلكس، فارس روماني وحظى الأمبراطور، ونيارك أمير أرمني وصديق بوليكت، وبولين بنت فيليكس وزوجة بليكت.

الفصل الأول: اعتنق بليكت الدين المسيحي ولكنه لا يجرؤ على الخروج إلى المعمودية، فخافة أن يؤلم زوجته بولين. فقد رأت في النوم رؤيا مروعة اخافتها على حياة زوجها فمنعته من الخروج. ولكن صديقه نيارك يلح عليه فيذهب معه خفية. وفي غيبته تقص بولين على وصيفتها الحلم الذي ازعجها، وتعلن غليها انها أحبت سيفير وهيفي روما، ولكن أباها رفض أن يصادق على زواجه منها، ثم قدمت أرمينية مع أبيها وفي ظنها أن سيفير مات، فتزوجت من بليكت، وفي الليلة البارحة رات فيما يرى النائم أن سيفير منتصر وانه منتقم. ويدخل عليها ابوها فيخبرها بقدوم سيفير وبخطوته عند الأمبراطور، ويخشى أن يعزله من منصبه لترويجه ابنته من غيره، ويطلب إلى غبنته من غيره، ويطلب إلى ابنته أن تحسن أستقباله وتكفكف من غربه. الفصل الثاني: ينزل سيفير في قصر الحاكم، ويعلم بزواج بولين فيملكه الذهول والدهش ويريد أن يراها: فإذا ما لقيها تعترف له بأنها تزوجت من بوليكت نزولاً على حكم ابيها ولكنها احبته منذ تزوجته، وتطلب إلى سيفير الا يراها مرة أخرى وفاء لزوجها فيتركها بعد أن يتمنى لها الخير. ويعود بوليكت من المعمودية فلا يرتاب في حضور سيفير لثقته بزوجه، وتأتيه دعوة إلى حضور القربان الذي يقدمه الحاكم ابتهاجاً بانتصار سيفير، فيذهب إليه مع صديقه نيارك، وفي نيته أن يحطم الأصنام. الفصل الثالث: وبينما يعبث القلق والخوف بقلب بولين إذ تدخل عليها وصيفتها فتخبرها بأن نيارك وبليكت حطما الأوثان على ملأ من الشعب. ويستقل الغضب بفيلكس فيحكم على نيارك بعذاب الموت. ويعلن إلى ابنته أن بليكت إذا لم

ص: 42

يرعو عن زيغه ويتعظ بمصير صاحبه حل به ما حل به، ثم يريدها على أن تعيده إلى حظيرة الوثنية، وإلا خشى أن يسخط الأمبراطور عليه إذا تساهل في امره. الفصل الرابع: تعلن إلى بوليكت زيارة بولين. فيخشى دموعها اكثر مما يخشى تهديد فيلكس، ويبعث في طلب سيفير. وفي غضون ذلك يعبر عن عواطفه الدينية بقطعة من الشعر الخالد وينبو على حنان زوجته. ثم يطلب لها الهداية، ويرجو سيفير أن يتزوج من بولين، فقد صمم على أن يموت في سبيل عقيدته، ولكن بولين تصرح انها لا تتزوج رجلاًكان سبباص في موت زوجها ولو غير عامد. فيقرر سيفير في نفسه أن يسعى في نجاة خصمه ليكون اهلا لحب بولين. الفصل الخامس: ولكن فيلكس يظن أن سيفير لا يطلب العفو عن خصمه إلا تدبيراً لمكيدة، فهو يخشى أن يرميه عند المبراطور بالتساهل والمحاباة. فيدعو إليه بليكت ويحاول أن يفتنه عن دينه، وتساعده بولين بدموعها فما يرجعان بطائل، ويمشي بليكت إلى الموت مشية الظافر، وتتبعه بولين ثم تعود إلى ابيها بعد أن شهدت زوجها يموت، فتوبخه على وحشيته وتعلن إليه أنها مسيحية، ويهدده كذلك سيفير على عدم أعتداده برأيه وقبوله لشفاعته، فيتنصر فيلكس ايضاص ويستعد للموت. ولكن سيفير يؤثر فيه هذا المشهد فيطلب اليه البقاء في منصبه، ويعده أن يمنع الأمبراطور عن اضطهاد المسيحيين.

مآسي حادثة من الحوادث التي أعقبت حرب طروادة وهي سبى أندروماك أرملة هيكطور في أيبريا. وقد وقعت حوادثها في بطرون من مدائن أيبريا في غرفة من قصر بيروس. واهم اشخاصهاأندروماك ارملة هيكطور وسيبية بيروس، وبيروس بن أخيل وملك ايبريا، وأوريست بن أغاممنونن وهرميون بنت هيلين وخطيبة بيروس، وبيلاد صديق أوريستالفصل الأول: بيروس يهوى أندروماك التي سباها بعد سقوط طروادة، وجلبها إلى أيبريا مع ولدها أستياناكس، ويهجر خطيبته هرميون بعد أن شغفها حبا. ويقدم أوريست عاشق هرميون إلى بيروس موفدا من الأغريق يطلب منه تسليم أستياناكس ليقتلوه، فأبى الملك تسليمه، وينبئ أندروماك بالخطر الذي يترصد ولدها، وياخذ على نفسه أن يحميه على شرط أن ترضى به زوجا. ولكن اندروماك ترفض إخلاصا لذكرى زوجها الأول، فيثور الغضب في وجه الملك ويخرج وهو يقول: أن الولد سيكفر عن احتقار الأم. الفصل الثاني: تتلقى هرميون المر من أبيها بالعودة مع الأغريق إذا أبى بيروس أن يسلم

ص: 43

أستياناكس. فيرفض بيروس ولكن هرميون ترفض أن ترحل لأنها تغار من أندروماك. على انها تلين لألحاح أوريست خطيبها الأول، فيزهوه النصر. ولكن بيروس يحنق على أندروماك لإيبائها، فيعلن إلى أوريست انه يسلم أستياناكس ويتزوج من هرميون.

الفصل الثالث: يتحرق أوريست من اليأس، وتطفر هرميون من الفرح، وتتقطع أحشاء اندروماك من الحزن، وتتوسل إلى هرميون أن تنقذ ولدها، فتدفعها هذه بأحتقار، فتذهب إلى بيروس فتجثو بين يديه وتسأله ولدها، فيرضى أن يدفعه إليها إذل قبلت أن تنتظره عند الهيكل، وهناك أما أن تربح التاج، وأما أن تخسر الأبن، فتذهب أندروماك مشردة اللب إلى قبر هكتور تستشير روحه. الفصل الرابع: تستكين اندروماك أبتغاء حياة ولدها وترضى أن تتزوج بمبيد أسرتها على نية أن تنتحر بعد الزفاف، وترغب وصيفتها أن تموت هي أيضا، ولكنها تنصح لها أن تعيش لتنفع أستياناكس، ولتمكن له عند بيروس، ولتحدثه عن أبطال قومه. ويثور ثائر هرميون فتطلب من أوريست أن يقتل بيروس على أن تتزوجه من بعده، فيتردد طويلا ثم يطيع. الفصل الخامس: يذهب أوريست مع الأغريق إلى الهيكل فيقتل الملك ثم يعود، فيقص على هرميون مافعل، فتقابله بالأزدراء وتصفه بالخيانة، ويصيبها الخبال من الحزن واليأس فتطعن نفسها بالخنجر فوق جثة الملك، ويرى أوريست نفسه محاطا بالأشلاء والدماء، فيظل عقله ويفقد صوابه. ويسدل الستار على هذه الفجعة الأليمة.

ص: 44

‌أنالي

موضوعها حادثة من تا بني أسرائيل وهي موت أتالي وتتويج جواس في القرن الرابع قبل المسيح. وذلك أن أتالي أن اتالي بنت آكاب، وأرملة جوارم ملك يهودا، ذبحت أبناء ولدها أوكزياس جميعا بعد موته ليخلو الطريق لها إلى العرش والسلطان، ولم تدر أن واحدا منهم أخطأه القدر، فأنجته (جوزابيت) عمته وزوج الكاهن الأكبر جواد، وربته هي وبعلها سرا في معبد أورشليم باسم الياسمين حتى جاء يومه فرفعاه على عرش أبيه. وأهم اشخاصها جواس ملك يهودا وأبن أوكزياس، وأتالي أرملة جورام وجدة جواس، وجواد كبير الكهنة، وجوزابيت عمة جواس وزوجة جواد، وزكريا بن جواد، وسالوميت اخت زكريا، وابنير ضابط الملك، وقد وقعت حوادثها في معبد أورشليم في دهليز مسكن الكاهن الأكبر. الفصل الأول: يظل أبنير قائد جيش أتالي مخلصا الدين لله. وفي يوم عيد العنصرة يبكر بالذهاب إلى الهيكل فيلقى هناك جواد، فيفضى إليه يمكنون صدره من الأسف على الماضي، والأسى على الحاضر، والأنكار لما اقترفت أتالي من ظلم، وأحدثت من بدع، ويبدى له ما يساوره من الخوف عليه من سطوتها وبغيها. فيهدئ الكاهن روعه ويجدد أمله، وبعده أن يبوح إليه بسر خطير في الساعة الثالثة من النهار. ثم يصرح لزوجته بانه سيعلن نسب جواس في ذلك اليوم نفسه. وتشدو القيان بتمجيد آلاء الله وإعلاء دينه. الفصل الثاني: تجئ أتالي إلى الهيكل فيغلق الكاهن دونها أبوابه، فتظل في الفناء مع أبنير وماتان، وتقص عليهما أنها رأت حلماً أزعجها وراعها: رأت أن أملها أيزابيل جاءتها في المنام منذرة بحلول كارثة فادحة. ثم ظهر لها بعد ذلك غلام طعنها بخنجرة في أحشائها طعنة قاضية. وما كان أشد عجبها ودهشها حين ترى في الهيكل شبيه الغلام الذي طعنها فينصح لها ماتان أن تقتله. ويشير عليها أبنير أن تدعوه وتسأله، فتأمر به وتستفهمه عن أمره. ولكنه لا يقول أكثر من أنه يحب الله ويبغض الأوثان وأهل الشر ثم يذهب. فيشتد قلقها وفرقها من هذا الجواب وتخرج. فيطهر الكاهن الأكبر الهيكل من أثرها النجس. ثم تجدو القيان بسعادة الأبرار وشقوة الفجار. الفصل الثالث: يفد ماتان من قبل أتالي على كبير الكهنة يطلب منه تسليم الغلام رهينة الصلح بين الملكة وبينه، فيطرده الكاهن طرداً قبيحاً فيذهب مهدداً،

ص: 45

ويوقض شكوك أتالي فيه. فيشتد الخطر ويفدح الأمر. ولكن جواد يزداد بالله أيماناً وثقه، فيطمئن أمرأته ويتنبأ بسقوط أورشليم وقبيام الكنيسة المسيحية. ثم يأخذ في أسباب التتويج ويحرض اللاوبين على القتال دفاعاً عن الهيكل، وتنشد القيان أناشيد الخوف والرجاء. الفصل الرابع: يعلن الكاهن إلى جواز حقيقة مولده، ويبصره بحقه وواجبه، ويقدمه إلى اللاوبين ولياً لعهد داود، ويأخذ عليهم الأيمان أن يوازروه وينصروه. وما هي الا لحظة حتى يحمل اليه لاوي خبر محاصرة الهيكل بجنود أتالي. فتضطرب جوزابيت جزعاً على جواس، وينظم الكاهن صفوف المدافعين، وتنشد القيلن نشيد الغوث والمعونة من الله. الفصل الخامس: يدخل أبنير الهيكل المحصور سفيراً إلى الكاهن يحمل شروط أتالي الأخيرة وهي تسليم الياسمين، وتقديم الكنز المدفون في الهيكل، فيجيبه الكاهن: لتدخل الملكة فتأخذ ما تشاء بنفسها. ثم ينصب في أثناء ذلك عرشاً لجواس، وتدخل أتالي المكان المقدس يحف بها ثلة صغيرة من الحرس وهي تقول: أين الغلام وأين الكنز؟ فيريها الكاهن جواس على العرش، ويقول لها: هذا كل ما بقى من كنز داود!!! فتحتدم الملكة من الغيظ وتصيح: يا للخيانة!! يا للجند!! ولكن الجنود يأخذهم الفزع فيتمزقون شر ممزق، ويقبض اللاويون على الملكة ويسحبونها خارج الهيكل، ويذيقونها عذاب الموت بما كسبت، ويقول جواد لجواس في كلام طويل:(لا تنس يا ملك اليهود أن للملوك قاضياً جباراً، وللبرئ منتقماً عزيزاً ولليتيم أباً رحيماً.!!) يتنع الزياتحول 14 سبتمبر للأستاذ محمد محمود جلال دعوت الله الا أراه القاهرة في الرابع عشر من سبتمبر. وكنت مقيماً بين مزارعي وشواغلي إلى الثاني العشر منه، فجد لي عمل هام يقتضيني سفراً اليها قد يستغرق يومين أو ثلاثة. لست أكره الذكرى، بل أعمل لها، وعقيدتي أن ذكريات المحن كذكريات المنح في نتيجها. لانها تشحد العزائم وتبعد تكرار الأخطاء، وليست ذاكرتي بالضعيفة، وأنما تعذبني في الواقع بشدة أحساسها، ولكنهما خيل إلى أن أعصابي لا تحتمل شنهود العاصمة المحبوبة في ذلك اليوم!!! كبر على أن أشهد المدينة القاهرة الزاهرة التي عاش أهلها في طهارة الأستقرار وعزه، يعيشون منذ 14 سبتمبر سنة 1881 غارقين في رجس الأحتلال وذله. . . ما كدت أصل القلهرة مساء الثاني عشر من سبتمبر حتى أستعرضت برنامج عملي على أن أعجل منه ما أستطيع وأرجئ منه ما لا يضيره إرجاء. فلما أصبحت

ص: 46

أسرعت إلى عملي وفرغت منه. في نحو العاشرة صباحاً، وذكرت على التو أن قطاراً يغادر القاهرة إلى بور سعيد في الحادية عشرة، وفي هذا زوال ما أخشى. وازمعت السفر لأعود بأسرتي من المصيف وقد قرب أفتتاح معاهد الدرس، وخيل ألي انيسأتلافى بسفري جواً خانقاً ويوماً من الدهر حانقاً!. . . سيتحقق إذن ما تمنيت على الله، فلا أكون بالقاهرة يوم تشرق شمس جاء أصلها على البلاد بمحنة المحن. فإذا جيش الأحتلال يدخل قلب البلاد، وإذا نائب عن الخديو يلازم الجيش!!. . . وهل شر من احتلال أجنبي يظله اضطراب لا يستقيم معه فكر، ولا يتسق وأياه منطق؟!!. الفكونت ولسلي يرفع لأنجلترا في مصر راية، وسلطان باشا يؤمن تلك الراية باسم الخديوي!. وأين عرابي واين الجيش؟ وفيم كانت الحرب؟ وأي فكرة تنطبع في ذهن البلاد لصورة هي التناقض بذاته فوق ما تحمل من عار؟. والله ما ابتلى شعب بمثل ما أبتلى به شعبنا في ميداني المادة والمعنى، ولولا أن الشعب كان قوياً بدينه وتقاليده، عظيماً بآثار المحن الغابرة في عزائمه، عزيزاص بكرامته، لنالت منه الأحداث أضعاف ما نالت، ولو حلت بغيره لأفنته. جلست في القطار أتسلى بالقراءة، واتفاقاً بدأت بكتاب صغير أشتريته من (كشك) ليفاداس بالمحطة - مؤلفة فرنسي - والكتاب عن حصار (باريس) سنة 1870. اخذتاقرأ وفي نفسي أني واجد في وطنية الفرنسيين الهائمين بعاصمتهم وبمجدهم، وفي كفاءة الألمان وحسن تنظيم جيوشهم خير عبرة وتسلية. ولقد اجاد المؤلف في المقدمة، وفي وصف الحالة العامة، ثم إذا به فجاة يتكلم عن باريس في 19 سبتمبر، فيصف الطوارئ، وحالة الرأي العام وصعوبة التموين، وضعف خطوط الدفاع!. إذن ما زلنا في شهر سبتمبر! ولا زالت هناك سلسلة من هموم في ثناياه إذا خلفتها في القاهرة ذكرتها عن باريس في محنة مماثلة! وفي المثل: يؤتى الحذر من مأمنه. ما عتمت أن تمثلت بالكلمة الخالدة التي أنتزعتها من فم الرجل الحزين سيدنا كعب بن مالك - خطاب عاهل غسان إليه، فقلت معه رضى الله عنه:(وهذا أيضاً من البلاء) يقول المسيو (سارسي) مؤلف (حصار باريس) بعيد اعلان الجمهورية: (وبينما يشتد ضغط الجيش البروسي وتتوالى انتصاراته وتكتمها الحكومة عن الشعب كنت كثيراً ما تسمع واحداً يقول لرفيقه: (إنهم لن يجرؤا على دخول باريس ما دمنا حصلنا عليها) أي ما دمنا أعلنا الجمهورية فلن يجرؤ البروسيون على فتح باريس). وهكذا تلهى الباريسيون

ص: 47

بأعلان جمهوريتهم عن الغرض الأساسي وهو حماية باريس من هجوم الأعداء. أو لم نصب بهذا يوم أطلق سراح المرحوم سعد باشا زغلول وصحبه. ويوم ذهب اللورد ملنر يفاوض الوفد، ثم يومأعلن الدستور سنة 1924 ففترة ثورتنا وتشتت شملنا؟ كان لأحد أدباء باريس في ذلك العهد غرام بجمع المؤلفات الأدبية ذات الغلاف الأنيق. فأقتنى منها ما يعد ثروة ضخمة رتبها في منزل بجوار باريس. ثم صدق ما كانت تردده الصحف من أستحالة باريس على الهاجمين فمضى في تنسيق تراثه. ثم إذا به بين يوم ولياة يتحقق أن الصباح قد لا يشرق الا مغبراً بخيل العدو. أسرع بما أستطاع حمله، وأوى إلى أول فندق ثم أستراح الراحة الأبدية، فقد وجدوه ميتاً في بكور الصباح. وكان بذلك مشدود الحظ سعيداً. فلم يرسنا بك الأعداء في العاصمة الحبيبة. وإذن لست أول الناس في هذا الشعور الذي أقض مضجعي قبيل 14 سبتمبر ولو أني لم أحضى بنصيبه، فلعل الله يريني يوماً ميموناً بالخلاص. اغرق اهلباريس في تحية الحكومة الجديدة بقدر ما أسرفوا في الطعن على الأمبراطورية وما جرت من ويلات، حتى رسخ في ذهن الجمهور أن بروسيا لا تحارب فرنسا، ولكنها تحارب الأمبراطورية. وقد يعجب القارئ إذا علم أن الأمبراطورية التي باتت مثالاً للشقاء في أعين الفرنسيين هي النظام بذاته الذي تأيد بثمانية ملايين من أصوات الناخبين قبل ذلك بشهر. ولقد كان موقف نابليون الثلث شبيهاً بموقف عرابي باشا، ولعل الخير كل الخير كان في أن يموتا في ميدان القتال. ليست العبرة فيما ينفع أنه يرضى الناس بائ الأمر، وأنما العبرة في أن يكون نافعاً وكفى. ولا بد من تعويد النفس أحتمال الكروب في سبيل العقيدة، وثبات العزم على صحيح الرأي. الف الجنرال (تروشي) في عهد الأمبراطورية كتاباً نقد فيه حالة الجيش وخطوط الدفاع من الوجهة الفنية نقداً أغضب الأمبراطور ورجاله ذلك العهد حتى أضروه بسببه. فلما حوصرت باريس وبدا الضعف واضحاً في خطوط التحصين عادت بالشعب ذاكرته إلى الجنرال المؤلف والى كتابه، ووصل الرجل وكتابه إلى الذروة، ولكن الوقت لم يكن يسمح يومئذ بتنفيذ شئ مما أشار به. ولا بد لنا - لأحاطة أخلاقنا بسياج يقيها العثرات - أن نرجع البصر إلى خطوات الماضي، والى عظات من سبقونا من رجالات مصر - فذلك كفيل بحسن التوجيه. شئ من الثبات، وعود إلى أدابنا القومية، وتقاليدنا الشعبية، وشئ من

ص: 48

الشجاعة الأدبية، لنقول للمخطئ أخطأت، وللمصيب أصبت. جعل الله لنا في الماضي عظة، وفي الحوادث عبرة. وجمع على الحق شتاتنا إنه كريم مجيب. محمد محمود جلالالمحامي

من اللزوميات:

من أبي العلاء

الى الشاعر التونسي محمد الحليوي

(أبا العلاء أحقاً أنت في دعة=من الخطوب وفي سلم من الكرب)

(الحيلوي)

أبا فلان! جزاك الله صالحة

فان وصلك حبلي أطيبُ القُربَ

هذا جوابك - لكني أُسِرُّبه

فاشحذ لتسمعنا أذنيك واقترب

(قد عشتُ رهن العمى والحبس) منقبضاً

عن رفقة طبيعهم أعدي من الجرب

لم أعدُ أنى عددت القوم مذ نضحت

حمقاً جلودهمو صنفاً من القرَبِ

وما يضير الورى أن بت مكتفياً

من الطعام بمثل الصَّرْب والصَرَب

أغربت عند أناس من غباوتهم

بأننى مِزْت عود النبع والغرَب

أمَّا الولاة، فقوم أنت تعرفهم!

يُمنى مخالطُهم بالويل والحَرَب

كماسارب منهمو خوفاً وآمننى

في السِّرْب أنى اتخذت الدار كالسَّرّب

فدع (أُلُمْبَكَ) أني لست أعرفه،

من لي بذاك، وصحن الدار مضطرَبي

وما مررت بقصَّاص فأسمعني

ألا وألفيتنى أمعنت في الهرب

فليس يعمر قلب بات يملؤه

بالإفك يصدره عن قلبه الخرب

قد عشت ماعشت رهن الحبسين ومن

يعاشر النس باع التمر بالكَرَب

فجاء يوماً أبو يحيى وفي يديه

كأس مذاقتها أشهى من الضَّرَب

فأسكرتني بلا خمروجدَّبنا

من شربها طرب ناهيك من طرب

واذ بعينىَ عادت وهي مبصرة

واذ بذهنَى ذهن الحاذق الدَّرِب

نظرت حولي فأبصرت الأُلى سبقوا

على غرار وإذ بالعُجم كالعرب

حتى إذا النفس ثابت بعد دهشتها

لاحت مجرّدة من ثوبها التَّرب

ص: 49

فراعنى انها المرآة منعكساً

نور الحقيقة فيها غيرَ مضطرِب

أمانة حملتها النفس قد خفيت

على البصائر لم تدرك من التَّرَب

ماكنت مدركها لو لم أمت أبداً

أو كنت مبصرَها أو بالغاً أربى

ومن يمت مرة في الدهر واحدة

نال الخلود فما يخشى من الكُرَب

من يصقل النفس يكشف عن حقيقتها

ولست تكشفُها بالمنطق الذَّرِب

مصطفى العلوي

من الأدب الأندلسي

التوابع والزوابع

بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

نشأ أبو عامر بن شهيد الاشجعي في الاندلس في قرطبة احدى مدن العلم والادب، وكان هذا الرجل اديبا مغموراً توغل في شعاب البلاغة وطرقها كما يقول ابن خاقان، وله في الادب مجالس معمورة يبث فيها تعاليمه وآراءه، ويالها من تعاليم قيمة، وآراء مبتكرة، ولكنه كان مبتلى بحقد جماعة من معاصريه قصروا عن شأوه فناصبوه الخصومة، فكان وهم كما يقول.

وبلّغت أقواما تجيش صدورهم

علىّ وأنى منهم فارغ الصدر

أصاخوا الى قولي فأسمعت معجزاً

وغاصوا على سرى فأعياهمو أمري

ولكنه لم يلبث أن ضاق صدره بهم، وشغله أمرهم، فاصلاهم ناراً حامية من التهكم المر والتعريض اللاذع، وتفنن في الانتقاص من قدرهم، والحط من شأنهم، وتحداهم بآرائه في النقد والبيان، وازدهى عليهم بقدرته في الشعر والنثر، وساق ذلك كله في قصة خيالية زعم أنها وقعت له في وادي الجن، وان حوادثها جرت بينه وبين شياطين الشعراء والأدباء - هذه القصة هي (التوابع والزوابع) موضوع بحثنا اليوم - وهي رسالة أدبية ممتعة تعد من خير ماخلف في تراثنا الأدبي قوة وجدة وطرافة. ولما كان في التوابع والزوابع شبه من رسالة الغفران، وكان عصر ابن شهيد مندرجاً في عصر المعري، رجح لدى الأدباء ان يكون احد الرجلين ضرب على غرار الآخر، وانساق مع تياره، فاهتموا ببحث الصلة بين الرسالتين، وتلمسوا فضل الأسبقية للسابق من الرجلين، وكان من رأى الدكتور احمد ضيف

ص: 50

ان ابن شهيد هو الذي احتذى شيخ المعرة وحاكاه، واحتج لذلك بان شهرة ابي العلاء كانت ذائعة في الخافقين، وقد كان اهل الاندلس مولعين بتقليدالمشارقة في آدابهم وأفكارهم بل وفي كل شي؛ ولكن الدكتور زكي مبارك أمعن في البحث والتدقيق، ونظر الى المسألة من جانبين: الجانب الأول التاريخ الذيوضعت فيه التوابع والزوابع وقد استخلصه بالتقريب من قول صاحبها يخاطب جنية (من اخواننا من بلغ الامارة، وانتهى الى الوزارة). وقال: وفي هذا اشارة الى انه وضعها وهو كهل، اي بعد سنة اربعمائة واثنتي عشر للهجرة، واما الجانب الآخر. فهو التاريخ الذي كتبت فيه رسالة الغفران، وقد قال في تحقيقه: إن هذه الرسالة كانت جواباً على رسالة ابن القارح، فاذا علمنا بأن هذا الرجل وضع رسالته بعد أن نيّف على السبعين كما وقع في ثنايا كلامه، واذا علمنا بأنه ول سنة احدى وخمسين وثلثمائة، ثبت لدينا أن رسالة الغفران كتبت حوالي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أي بعد التوابع والزوابع بنحو عشر سنين، وعلى هذا صار من المرجح أن يكون أبو العلاء هو الذي قلّد ابن شهيد.!!

فالدكتور زكي مبارك قد أنصف ابن شهيد حقاً، واستطاع أن يثبت له فضل السبق على صاحبه، ولكنه لم يستطع ان يثبت تهمة التقليد التي رجحها على المعري، وهي تهمة كبيرة لو صحت لكان لها شأن كبير في الأدب، خصوصاً اذا طاوعنا الذين يقولون بأن (دانتي) و (ملتن) - أخذا عن المعري في (الكوميديا الآلهية) و (الفردوس المفقود) والواقع أنه ليس في الرسالتين مايدل على تقليد أو محاكاة؛ نعم إن بينهما شبها في بعض الوجوه، فكل منهما عبارة عن سياحة خيالية إلى عالم آخر، كما أن كل منهما عرضاً لكثير من المشاكل الادبية واللغوية، وزيادة على ذلك فقد اهتم كل من الرجلين بالتهكم بمعاصرين في رسالته؛ ولكن هذا كله تشابه في امور عامة تتوارد فيها الخواطر غالباً، وربما تكون من وقع الحافر كما يقولون. ولو أنك نظرت الى وجه الخلاف بين الرسالتين لرأيته اقوى وادل على تباعد الرجلين واستقلالهما في الفكر والغرض؛ فقد قصد المعري في سياحته الى الفردوس والجحيم في العالم الآخر؛ وذهب ابن شهيد الى وادي الجن في عالم الحياة؛ واختار المعري اشخاص قصته من الرواة والشعراء والملائكة، وارتضاهم ابن شهيد من الشياطين - شياطين الشعراء والأدباء، وعنى المعري بالتعرض لكثير من المسائل الفلسفية والدينية،

ص: 51

ولم يتعد ابن شهيد القول في البيان والنقد والشعر، وكتب المعري رسالته باسلوب وحشي غريب فلا يستطيع القارئ ان يأتي عليها الا بشق النفس، وقوة الصبر، وبعد الاستعانة بمعاجم اللغة، وساق ابن شهيد قصته فياسلوب عذب رقيق يخلق اللذة في نفس القارئ، ويدفع به الى استيعابها بلا ملل او سآمة؛ ولقد اظهر المعري كثيراً من التباهي بحفظ الغريب والتمكن في قواعد النحو والتصريف، واطال ابن شهيدالقول في الغض من قيمة هذه الامور وتحقير الذين يجعلونها كل همهم؛ ثم بعد هذا كله لاتجد في احدى الرسالتين فكرة اشتملت عليها الأخرى، او رأياً اتفق لكل من الرجلين؛ فلكل منهما فضله في عمله، ولكل منهما شخصيته في رسالته؛ واظن في ذلك مايكفي لدفع تهمة الاخذ والتقليد، سواء اكانت في جانب ابن شهيد كما يقول الدكتور ضيف؛ ام ناحية المعري كما يريد الدكتور زكي مبارك. وحسبي بعد هذا ان افرغ معك للحديث عن التوابع والزوابع، وان استعرض امامك ما احتوته من الاراء والافكار؛ ويقيني انك ستجد فيها كثيرا من الابداع والامتاع، بل سترى شيئاً جديداً يثمره الفكر العربي، وستشهد لصاحبها بالدقة في الوصف، والقوة في التصوير، خصوصاً وصف احوال الشعراء السابقين، وتوصير ميولهم ونفسياتهم، وستعجبك منه روح خفيفة، ونفس مرحة طروب يلذّ لها أن تضحك فتجيد الضحك، ويهمها النادرة الحلوة فتوفق كثيرا الى الحلاوة النارة وبراعة النكتة

استهل ابن شهيد رسالته بمقدمةقصيرة اراد ان يبين فيها كيف وقعت له حوادثها، وكيف رحل الى وادي الجن فقال: (كنت في ايام الحداثة احن الى الاداب، واصبوا الى تأليف الكلام، فابتعت الدواوين، وجلست الى الاساتيذ، فنبض في عرق الفهم، ودر لي شريان العلم، ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم مني طبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار، اسفاراً؛ وكان لي في اوائل صبوتي هوى اشتد له كلفي، ثم لحقني بعض ملل في اثناء ذلك الليل، فاتفق ان مات من كنت اهواه مدة ذلك الملال، فجزعت، واخذت في رثائه فقلت:

تولى الحمام بظبى الحدود

وفاز الردى بالغزال الغرير

إلى ان انتهت الى الاعتذار من الملل الذي كان فقلت:

وكنت مللتك لاعن قلي

ولا عن فساد ثوى في الضمير

ص: 52

ثم ارتجع على القول، فاذا انا فارس بباب المجلس، على فرس ادهم قد اتكأ على رمحه، فصاح بي اجز يافتى الأنس، فقتل: لا وأبيك، للكلام احيان، وهذا شأن الانسان؛ فقال قل بعده:

كمثل ملال الفتى للنعيم

اذا دام فيه وحال السرور

فأثبت اجازته، وقلت: بابي من انت؟ قال: (زهير بن نمير) من أشجع الجن، تصورت لك رغبة في اصطفائك؛ قلت: اهلاً بك ايها الوجه الوضاح، صادفت قلباً اليك مقلوباً، وهوى نحوك محبوباً، وتحادثنا، وتذاكرت معه اخبار الخطباء والشعراء، ومن كان يألفهممن التوابع والزوابع، وقلت له هل من حيلة في لقاء من اتفق منهم؟ قال حتى أستاذن شيخنا، وطار عني، ثم انصرف وقد اذن له فقالجل على متن الأدهم فسرنا عليه؛ وسار بنا كالطير يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدو، حتى لمحت ارضاً لا كأرضنا؛ وشارفت جواً لا كجونا، متفرع الشجر، عطر الزهر، فقال: حللت ارض الجن ابا عامر، فبمن تريد ان تبدأ؛ قلت: الخطباء اولى بالتقديم، ولكني الى الشعراء اشوق. . .).

وابن شهيد كما ترى يحاول الايجاز في سرد الحوادث، ويود ان ينطلق على طبيعته في ايراد القول، ولكنه لم يوفق كثيراً في هذه المقدمة كما يود، وكما وفق في عرض الرسالة؛ فظهر على أسلوبه مسحة التكلف، ووقعت بعض جملة قلق نابية، كأنه كان يدفع بها إلى غير موضع، ويضعها حيث لا مستقر؛ فمثلاً في قوله:(ويسير المطالعة من الكتب يؤيدني، إذ صادف شن العلم منيطبقة، ولم أكن كالثلج تقتبس منه ناراً، ولا كالحمار يحمل اسفاراً) ثقل يحس به القارئ في اللسان وفي الذوق؛ وزيادة على ذلك فقد اضطرب الرجل في وضع الكلام، واختل به نهج القول. الا تراه يقول في بدء كلامه (كنت في ايام الحداثة احن الى الأداب. . .)، ويسير في الحديث على هذه الكينونة؛ كأنه رحل إلى وادي الجن غض الاهاب، نضر الشباب؛ مع أنه فيما بعد سيشكو الى احدى التوابع مافعلت الايام به!! وسيذكر لها ان من اخوانه من بلغ الامارة. وانتهى الى الوزارة! وفي هذا ما يفيد انه طعن في الكهولة على اقل تقدير ثم تجده يصف صاحبه (زهير بن نمير) بأنهمن اشجع الجن، وكان الاوفق بداهة ان يجعله في الادباء، ما دام القول في الادب والشعر وما دام الحديث عن الادباء والشعراء.

ص: 53

ولكن هذه هنات هينات. على انها ترجع الى العرض، ولا تمس الجوهر في شيء، وقد تكون هي كل ما في الرسالة من المآخذ؛ ولقد سلك الرجل طريقه بعد ذلك على احسن ما يكون، يجد ويهزل، ويتهكم، ويضحك. ويعالج كثيراً من الآراء العميقة، والافكار القويمة، وهو في كل ذلك طريف خفيف؛ ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والايجاز السليم؛ ولقد حدثنا بعد هذه المقدمة أنه لما نزل بوادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء؛ طلب من صاحبه (زهير بن نمير) أن يقدمه الى عيينة بن نوفل شيطان امرئ القيس، فصاح به زهير: يا عيينة بن نوفل، أقسمت عليك بسقط اللوى فحومل ويوم دارة جلجل؛ الا عرضت لنا وسمعت من الانسي، وعرفتنا كيف اجازتك له - يقول ابن شهيد - فظهر لنا فارس على شقراء كأنها تلتهب، فقال حياك الله يا زهير وحيا صاحبك، أهذا هو وحق ابي؟ ثم قال أنشد، قلت: السيد اولى بالانشاد، فتطامح طرفه، واهتز عطفه، وضرب عنان الشقراء، ثم انشد:(سما لك شوق بعد ما كان اقصرا) حتى اكملها. ثم قال انشد، فهممت بالحيصة، ثم اشتدت قوى نفسي وأنشدت:(شجته مغان من سليمى وأدؤر) حتى انتهيت فيها الى قولي:

ومن قنة لا يدرك الطرف رأسها

تزل بها ريح الصبا فتحدر

تكنفتها والليل قد جاش بحره

وقد جعلت امواجه تتكسر

ومن نحت حصنٌ أبيض ذو شقائق

وفي الكفّ من عسّالة الخط أسمر

هما صاحباي من لدن كنت يافعاً

مقيلان من جدّ الفتى حين يعثر

(للكلام صلة)

محمد فهمي عبد اللطيف

مِن طرائف الشّعر

للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي

فجعت الأمة العراقية الكريمة منذ أسبوعين باستشهاد خمسة من طياريها البواسل، سقطت بهم الطيارة على مقربة من مطار الهنيدي، فرثاهم شاعر العراق الكبير بهذه القصيدة

(1)

خمسة طاروا من عيونالشباب

فوق طيّارة كمثل العقُاب

ص: 54

أخذت في الجوّ الرفيع تَعالى

ثم خرّت من أوجها كالشهاب

إن ذاك الصعود في الجوّ منهم

كان للجد والعُلا والغِلاب

صدمٌة في هبوطها أهلكتهم

بعد أن حلّقت بمجرى السحاب

لا ترى بعدها على الأرض منهم

غير أشلاءٍ أو دمِ مُنساب

انما أوقف المحرّكَ فيها

سببٌ قاهرٌ من الأسباب

هلكوا في شرخ الشباب فيا للـ - رزء لّما عرا ويا للمصُاب

(2)

فتيةٌ طارت تبتغى المجدّ ذخراً

ولأوطانها تخلّد ذكرا

فوق طيّارة بهم في الْـ

جوّ هدّارةٍ فتشبه نسرا

كلما استذكرتُ الفجيعةَ أحسـ

تُمن الحزن في فؤادي جمرا

ليس عندى ما أستقى منه شعرى

غيرُ عين من الكآبة عَبْرى

أنا في الحزن أرسل الشعرَ دمعا

ساخناً ثم أرسل الدمعَ شعرا

حسبُ مَن مات عند خدمته أو

طانَه أَنه بها كان بَرّا

عاش مَن بَرَّ بالمواطن محمو

داً فان فهو بالحمد أحرى

(3)

فتيةٌ صرعى فارقتها الحياة

فبكتها الآباء والأمهات

وبكاها العراق حزنا عليها

وبنوه ودجلةٌ والفرات

أينما أَلْتَفِتْ أشاهد شحوباً

في وجوه عيونها خَضِلات

شّيعتها الى مقابر شتى

عبراتٌ وراءها عبرات

إنما المجد لا يموت وان كا

نَ ذووه لحادث قد ماتوا

أيها الشعب لا يثّبطك يأسٌ

انما في الموت المُلِمّ حياة

أيها النسر ما دهاك وقد كنْ

تَ اذا طرتَ لم يخنك الثبات

(4)

هي دنيا كثيرة الإمتاع

وَدَّعوها ولات حين وداع

وهو المجد بالمساعي اقتنوه

حبذا المجدُ يُقتنى بالمساعى

ص: 55

قد أضعناهم خمسةً ليس فيهم

مَن به رِعدةٌ فيها للضياع

مشهدٌ للحياةن والموت يُشجى

ما به من تنازع وصِراع

لهف نفسي على شباب تردّوا

فنعاهم إلىّ فيالصبح ناع

شاع ذاك النعىّ حول الفراتين

فأثِقلْ به على الاسماع

جنحت للغروب شمسُ نهارى

ثم منها لم يبق غيرُ شعاع

(5)

وقف الموت للأنام رصيدا

كلّ يوم يريد منها شهيدا

شطّت الدار بالأحبة عنا

وعسى مَن نأى به ان يُعيدا

فتيةٌ كادتها صروفُ الليالي

والليالي من شأنها ان تكيدا

أنا لولا شيخوختي ثم دائى

كل يوم نظمتُ فيهم قصيدا

حبذا الليل والنهار لو انا

فيهما نستطيع ألاَّ نبيدا

فات مَن قد رأى السلامَ رغيبا

أن يرى في الاخطار موتا حميدا

(6)

حلّ يودي بخمسةٍ أطهار

قدرٌ نازلٌ من الاقدار

بنسور قد حلّقت قبل أن يؤ

ذن ضوءٌ الصباح بالإسفار

خطرٌ كله الظلام ولكن

لا تبالى النسور بالأخطار

ركبوها طيّارةً لم تخنهم

في تمارينهم وفي التكرار

ما دهاها حتى هوتكشهاب

خَرّ من جوّه بلا انذار

ثم دارت بهم على نفسها بالرَّ

غم عن كل حيلة الطيّار

ثم كان الذي به جرت الأقـ

دار من سقطةٍ لهم وبوار

(7)

كلّ يوم تُعطى الحياةُ ضحايا

تبتغى إرضاَء بها للمنايا

إن هذا الجيل الذي نحن منه

هو من هاتيك الضحايا بقايا

نَبتغى تخفيفَ الرزايا بلهوٍ

نرتضيه فلا تخفّ الرزايا

لا أظن الحياةَ تَلقى سلاماً

من بلايا وراءهنَّ بلايا

ص: 56

ان مَن اعطانا العقولَ اذا ما

شاء ان نردى يستردّ العطايا

والذي أنشأ البرايا من البوَ

ر مُعيدٌ الى البوار البرايا

كِبَرٌ شفّنى فلم يبق عندى

غير قلبٍ يئنّ تحت الحنايا

بغداد

جميل صدقي الزهاوي

في النقد الألماني

النقادة الكبير ليسنغ

حياته ومذهبه

(1781 - 1729)

للأستاذ خليل هنداوي

ما عرف الأدب ناقداً كليسنغ جباراً صحيح المقاييس، بليغ التاثير، لا يبني مذهبه على المدرسة القائمة في عصره، وانما يبني مدرسته الجديدة لترتكز عليها مدرسة للأدب جديدة، يوم لم يكن عند الجرمانيين أدب بارز. فحار الناقدون في تفهم هذا الناقد الذي افتتح ادب امة عظيمة بالنقد، وانما عهدهم ان يخلق الادب النقد كما يخلق الاديب الناقد.

نشأ ليسنغ ميالافي بدء عهده الى ادب الاوائل، وما كاد يتمكن من هذا الادب حتى تفت لعينيه افق جديد يريد استكشافه، يحث معاصريه على السعي معه حثيثاً ليكون لهم مثل حظه من هذا الاستكشاف، وما اصدق من قال:(كان الادب الالماني قبل ليسنغ مفازة يفتقر السائر المتخبط فيها إلى هادٍ، وهذا الهادي لم يكن إلا إياه) هذا الذي انار المسالك وهدى الادباء الى سبيل في الادب قويمة، يبدى لهم مكامن الابداع ومواطن الخطأ، واسس الادب الجديد على قواعد النقد، وصاغ الشعر مزيجاً من الفن والادب والفلسفة، فكانت نفسه في جميع حالاتها مصابة بطلب المعرفة، هذه المعرفة التي ظن انه لابدّ ملاقيها، فذهب وراءها في احناء الكتب والصحف، وتحرى عنها في مشاهد الوجود.

دخل في اول نشأته احد الاديرة يتلقى اللغات القديمة التي كانت لب برامج التعليم القديم، فأبدى من الذكاء والانتباه ما ترك اساتذته في دهشة منه، حتى قال عنه احدهم: (نحن لا

ص: 57

نستطيع ان نقوم بواجب الشكر لهذا الطالب، فان الدروس التي كان رفاقه يستثقلونها كان يجدها لسولتها كالالهية، انه لجواد يبتغي علوفة مضاعفة). حتى اذا بلغ السابعة عشرة من عمره انكب على علم اللاهوت، ثم تتلمذ للحياة بعد ان انجز تتلمذه للكتب، تلك الكتب التي قال عنها في احدى رسالاته (إنها صنعت مني عالما عارفا ولم تصنع مني انسانا، سأبدا عاجلا بدرس اطواري) فترك علم اللاهوت وعمل على جميع روايته التمثيلية، وقد حثه قريب له اديب على الاختصاص بهذا الفن، الى هذه الحلبة، حتى ظن ان هذا الفتى لن ينصرف بعد اليوم عن الفن الروائي.

على ان الضعف ليبرز في هذه القطع التي عرضها، ويغلب على اسلوبها اللون الفرنسي الذي كان يصبغ جميع الاثار الالمانية، وكان مذهبه فيها نفس المذهب المدرسي الذي كان (راسين وكورني وموليير) يبتدعونه ويتبعونه. كأنه كان يؤمن بجمال هذا المذهب ويحمل نفسه على الأخذ به. ولكنه في بعض نظراته يشن الغارة على هذا المذهب، ويطلب الى معاصريه الا يكونوا مقلدين لأذواق غيرهم. وانما الأجدر بهم ان يتفهموا مذاهب غيرهم والا يكونوا مقلدين لها. ونهاهم عن التهافت على ادب امة واحدة كالامة الفرنسية، وهنالك اداب مهملة كأدبها جديرة بالدرس والتمحيص، وفي هذا الصدد قال كلمته المأثورة (اذا اراد الالمان ان يتبعوا مذهباً يلائم طبيعتهم وجبلتهم فليتبعوا الادب الانجليزي الذي هو ادنى لهم من الادب الفرنسي).

وقد اشار في اكثر من موضع الى هذه الروح التي شاء ان يغرسها في ادباء عصره. وهو الذي كتب في احدى رسالاته ينتقد المؤلف المسرحي (جوتشيد) ويؤاخذه لاسترساله الى الروح الفرنسية: (يطمع هذا الكتاب في ان يمثل دور المبدع في مسرحنا الجديد، ولكن ما هو هذا المسرح الجديد؟ انه مسرح نصف روحه فرنسية. . . ولعل صاحبنا لا يحفل بهذه الصفات ان لاءمت الروح الالمانية او لا؟ وهو لو انعم النظر في اثارنا القديمة لاوحت اليه ان الادب الانجليزي هو اكثر ملاءمة لروحنا، واننا نتوق الى التامل والتفكر اكثر مما يسمح به الادب الفرنسي لنفسه، وان الادب الذي تتمثل فيه الروعة والعظمة والظلمة هو اكبر سلطانا علينا من ادب الرقة واللوعة والحب، وان البساطة في الادب لتضنينا اكثر من حالاته المركبة المهوشة. . . يجب عليك ايها المؤلف ان تخط لك طريقا يحملك الى

ص: 58

المسرح الانجليزي. . .)

وقد كان انقلابه فجأة الى هذا المذهب وهذا الادب موضع دهشة، اذ تبادر الى اذهان بعض النقاد ان شكسبير وجده هوالذي اثر في ليسنغ، على ان الاسباب الحقيقة التي ساقته الى هذا الادب كانت اعمق من ذلك. فليسنغ بعد ان درس حق الدرس اخلاق الشعب الالماني وجد ان الماساة الحماسية هي التي تبسط تأثيرها في النفوس. وان المأساة المجردة ينبغي لها ان تهبط درجة الى عالم الحقيقة، وان الكوميديا قد تكون ادنى الى الحقيقة، وهي التي تثير ما تثير من ضحك ومن بكاء.

وفي النهاية انغمس ليسنغ في التأليف المسرحي. فكان في اول امره يترسم اقدام من تاثر بهم من الاقدمين، وهو خلال ذلك لا يترك الجهاد الا استعداداً لجهاد آخر يفتقر الى عنف كثير وصبر كثير، والغاية التي يتطلبها من وراء ذلك عظيمة، لا الا لمثل هذا النوع من الجلاد، فهو يريد ان يخلق اسلوبا جديداً وتفكيراً جديداً، وما زال يدأب ويجهد حتى وفق الى سعيه بعض التوفيق، وضرب لعصره مثلا عاليا للرواية التي تمثل احسن تمثيل صفات قومه واخلاق قومه. وهو - وان لم يبلغ برواياته القمة التي لا تلين خياشيمها الا للعباقرة فقد كاد. . .

ثم طفق ليسنغ يكتب في احدى خلواته مقاطيع من الكتاب الذي خلد اسمه على الدهر في عالم النقد، كتاب] اللاوكون [الذي حشر فيه خلاصة نظراته في التأليف المسرحي. وفيه عالج الشعر وعُني بأسلوبه والوسائل التي ترمي الى إحيائه.

وما هو مذهب ليسنغ في الشعر؟

لقد كانت المدرسة الويسرانية تعتقد أن الشعر إن هو إلا تصوير صامت. والشاعر الألماني (فينجيلمن كان يرد أصول الفن مهما تنوعت فروعها إلى مثل عال واحد تنضوي تحته. وهذا المثل هو العظمة المتجلببة بالسكينة. . . وهذا المثل الأعلى مثله كالبحر العميق يبقى هادئاً مهما تقاذفته قواذف الريح. وحاله حال تصاوير اليونان فهي في أحدى ثوراتها وأهوائها الجامحة تظل مالكة لعظمتها ولنفسها، ومثل هذه الروح يمثلها تمثال (اللاوكون) بوجهه وأعضائه المتصلبة في ساهة الألم العنيف. وقد لام هذا الشاعر الألماني شاعر إيطاليا الكبير (فرجيل) لأنه وصف (اللاوكون) بصورة شعرية خالف فيها الصورة التي

ص: 59

نحتها الحفار. إذ تركه في مقطوعته الشعرية يصيح من الألم صيحات منكرة، ولكن ليسنغ يجابه في كتابه نقد الشاعر الألماني، ويعتقد أن للشعر قواعده الخاصة، وللنحت قواعده الخاصة، ويرى أن في استطاعة الفن الشعري أن يمثل لنا الشيء حتى نحدق به من جوانبه. بينا أن الفن الثاني لا يمثل لنا من هذا الشيء إلا لحظة موقوتة هي كل شيء في هذا الشيء. وبينما نرى الرسم يخضع للهيئة الجامدة التي يتلبس بها نرى الشعر حرا طليقا يحيا بحركته واضطرابه واختلافه. وهكذا لبث هذا الكتاب أثراً ناطقاً للرجل، وقد ترك وراءه صدى بعيدا وتأثيرا ترامى في الأقطار. وهو كما قال فيه (جوته) شاعر الألمان يجب أن تكون فتى أيها الكتاب في أرواحنا وكفى بهذه الكلمات التي يرددها جوته شهادة.

وهكذا أراد ليسنغ أن يبني نقده على نظريات ثابتة لا يذهب بها الوهم. فاستمد قانون (أرسطو) يعمل به لتنظيف الأهواء. ومن هذا القانون قد استمد ليسنغ أكثر نظراته التقدية كأنما كان يحاول أن يقتل الحدة والجموح والطيش في الأدب ويترك إلى العقل سبيلاً ينفذ منه ليبقى مالكا على الأهواء في أعنف ثوراتها. وقد شاء ليسنغ أن يغزو حقل الأخلاق دأبه في كل حقل يغزوه، فكتب مقطوعات في الحكمة دلت على سمو نفسه. فهو يعتقد أن قيمة الرجل ليست بالفضيلة التي يحرزها، أو بالفضيلة التي ظن أنه يحوزها، ولكن قيمته تنحصر في الجهود التي يقوم بها في سبيل إحرازها، لأن المجد لا يتوقف على صفة الاحراز، ولكن على العمل للفضيلة التي يكثر به جنودها. ويعتز هو بانتصارها. ويقول أيضاًإذا الله قبض على الفضيلة الكاملة بيده اليمنى ووضع في يده اليسرى التوق الخالد - توق القلب - الى الفضيلة. مازجا معه انخداع الانسان؛ وقال لي: انتخب، فانني إذ ذاك آخذ بيده اليسرى بكل تواضع وأقول. أعطني ياإلهي. . . لأن الفضيلة الكاملة التي وضعتها في يمينك لم تصنع إلا من أجلك وقد ولَّدت عنده هذه الحكمة حكمة دينية أبداها في بعض مقاطيع صغيرة. حيث أبدى أن الوحي الإلهي ليس بواحد ولا بثابت ممتنع عن التغير. ولكنه يتنوع ويتقلب ويتقدم كالإنسانية نفسها. وقد أدرك ليسنغ الذروة العالية في روايته (الحكيم ناتان) اذ أعلن أن الحكيم الحقيقي هو الذي يتروض على الفضيلة ويخضع لأحكام العناية الإلهية الخالدة.

لقد فهم رجال الأدب بعض جوانب هذا الرجل العظيم، ولن تظهر عظمته واضحة إلا بعد

ص: 60

أن يرجعوا الى البذور الفنية التي نثرها في طريقه، وهل كان (جوته) و (هير دار) إلا أول فنن من هذه الشجرة، أورق وأزهر وأثمر، ثم أتى أكله فكان نعم الأكل.

العلوم

بحث في تاريخ الانسان

بقلم نعيم علي راغب

دبلوم عال في الجغرافيا

إذا أردنا الكتابة أو البحث في تطور الإنسان على ممر الدهور والأيام، فانما نعني في الحقيقة تاريخ الانسان، تاريخ حياته وجهاده وكيف. . ومتى. . ومن أين أتى بشكله الطبيعي المألوف الذي نراه به اليوم. وكيف تكونت همده القوى العقلية والقدرة على التكلم والتفاهم.

من الواضح الجلي أننا إذا حاولنا الكتابة في هذه الحادثات التاريخية القديمة، يجب علينا أن نوجه أبحاثنا وننظر بعيداً الى عصر قديم جداً من العصور، يقع قبل التواريخ المدونة في الكتب بمراحل كبيرة جداً. ونجد لزاماً علينا في هذه الحالة أن نقص عليك أطيب القصص عن عصر لميوجد به رأي يفكر أو يد تسطر لنا ثمرات هذا التفكير.

ولقد خيل للعلماء أجمع استحالة تتبعهم وتفهمهم لما حدث في تلك الأحقاب السحيقة، ثم تسطير تلك الحوادث التي حدثت منذ آلاف السنين، لو لم تأت المصادفات ويساعد الحظ الحسن على كشف أستار الماضي الكثيفة. فانه في حوالي سنة 1825 قامت بعثة أيرية دنمركية بالبحث عما قد يكون مندثراً في أراضي بلادها من أيلحة أو حلي أو آنية قديمة، ثم وضعت كل ما وجد في متحف كوبنهاجن.

وفي سنة 1830 حينما ازدادت كمية المحفوظ به فكر مدير قسم الآثار س. ج. تومسون تقسيم المحفوظات الى أقسام ترتب حسب نوع المعدن المصنوعة منه. إلا أنه في ذلك الوقت أتته فكرة طارئة، كانت ذات أثر بين في سير التاريخ الانساني، وذلك أنه ساءل نفسه عما إذا كان من المحتمل أن تكون تلك المحفوظات عنده في المتحف كل منها يمثل عصراً خاصاً من عصور الانسانية، وجاءت الحوادث بعد ذلك لتحقق صدق حدسه الذي خمَّنه، فقد وجدت أشياء أخرى بطريق المصادفة لفريق منعمال البناء عند حفرهم آبار

ص: 61

منازل كلها من مرافق الإنسان الذي عاش في العصور السالفة، وكان أقربها لسطح الأرض الحديدية والبروتزية فالحجرية.

فأخذ علماء الدنمرك حينذاك يعرفون أن الأرض نفسها سجل صامت ثابت يحفظ تاريخاً صحيحاً لأعمال وحياة الإنسان في العصور السالفة، ووجدوا ذلك صحيحاً في كل جهة من جهات بلادهم: في المقابر القديمة، في الآبار وفي شواطيء الأنهار مما يملي عليهم التاريخ الصحيح للانسان القديم.

من كل تلك الأشياء وصل تومسن الى نتيجة نهائية، هي أن تاريخ الإنسان القديم مقسم الى ثلاثة عصور: الحجري والبرنزي فالحديدي، وبذا كانت الدنمرك أحدث الجهات في التكوين جيولوجيا، هي أول مكان بحث التاريخ السحيق للانسان على هذا النمط العلمي الجديد.

حول العلماء الفرنسيون بعد ذلك طريق كتابتهم لتاريخ الإنسان وجاروا الدنمركيين في طريقتهم، ووجدوا مادة بحثهم الجديد في كهوف مقاطعة وبدأ ادوارد لابيت ومعاونوه البحث فيها حزالي عام 1860 فوجد أن معظمها كان مستعملاً قبل ذلك كمساكن أو مقابر في كل عصور التاريخ القديم، وكان من عدم اعتناء السكان الأقدمين بالنظافة وترك كهوفهم مملوءة بالبقايا والأدوات حظ حسن للتاريخ، وكان من تساقط المياه الملحية من سقوف الكهوف خير معوان وخير عامل على حفظ تلك البقايا الانسانية بعيدة عن الضياع أو التلف، وارتفع قاع الكعوف بالعوامل الطبيعية والجيولوجية، فحفظت الأرض بين ثناياها على ارتفاع ينيف على الثلاثين قدماً آثاراً عظيمة الشأن للحياة الانسانية من مدة طريلة من الزمن.

ولم يطل الزمنبعد ذلك حتى عرف الفرنسيون أن كهوف بلادهم تحفظ تاريخ الإنسان لمدة أقدم بكثير مما تحفظه مقابر اسكنديناوه أو قدماء المصريين. ولم تكن العصور الامسانية الثلاثة المعروفة لهم سوى عصور حديثة جداً إذا ما قيست بما تنم عليه آثار كهوف فرنسا، ومن بينها الهياكل العظيمة المتحجرة للحيوانات التي كانت تعيش في تلك العصور، كغزال الرنة، والضبع ودب الكهوف. ولقد قسم اللورد ايفبري العصر الحجري إلى قسمين: أسمي أحدهما العصر الحجري الحديث القريب من العصر البرنزي وهو ما وجدت آثاره

ص: 62

في الدنمرك، وأسمي الآخر العصر الحجري

وكلما ازداد الفرنسيون تعمقاً في حفرياتهم ازدادوا يقيناً بصحة ترتيب تلك العصور المختلفة وبتغيرات عديدة قد حدثت للمناخ وقتذاك، وعرفوا أنه لم يكن هناك عصر حجري قديم واحد كما ظن السير ايفبري بل جملة عصور متتابعة متناهية في القدم يمتاز كل عصر منها بميزات مختلفة، أمكن انتزاعها من الآثار التي وجدوها. وزاد يقينهم في هذه النظرية تكرار وتماثل ترتيب الطبقات في كل الكهوف التي بحثوها. وقد وجد علماء الانجليز والألمان والطليان والاسبان بدورهم نفس الظواهر والترتيب الذي وجد في كهوف فرنسا.

وهكذا نرى أن الكهوف قد أمدتنا بالمعلومات والحقائق الخاصة بتاريخ الإنسان القديم، وأمكننا تسطير تاريخ دقيق لا عن المدة التي كشفت عنها حفائر الدنمرك فقط، بل عن مدة تتناهى في القدم عن تاريخ قدماء المصريين أو تاريخ بابل القديم. وإنك لتدهش حقاً إذ تعرف أن تلك الحفريات قد كشفت لنا عن ظاهرة ليست غريبة عن عصرنا، وهي مسألة الزي، أو المودة فقد ثبت منها أن مجرد وضع زي خاص لملبس أو زينة في بلد في تلك العصور كان كافياً لانتشاره في العالم القديم أجمع، ولذلك ترى أن أجدادك وأجدادنا الأقدمين كانوا مثلنا عبيداً للزي المتفشي في العصر. ولو أن زيهم كان أثبت قدماً وأطول بقاء من زينا الذي يتغير سريعاً بتغير الفصول والمناسبات.

لنر الآن إلى أي حد تعمق البحث في تاريخ الكهوف القديم. من الشكل رقم 1 يرى القاريء قطاعاً رأسياً في كهف مثلى كملت فيه الطبقات والعصور التي وصل العلماء إلى الكشف عنها. ومنه يمكنه أن يلاحظ أن العصور الثلاثة المعروفة (الحديدي والبرونزي والحجري) تقع في أحدث جهات الكهف كشفاً، ومن بعدها عصر سماه العلماء (لأن الحفريات التي دلت على وجوده عملت بالقرب من قرية ، في فرنسا) يجيء بعده عصر سموه (نسبة الى كهف في مقاطعة الدردون) يتبعه عصر سمي (نسبة الى جهة بالقرب من ماسون بفرنسا) فعصر أطلق عليه إسم (نسبة إلى قرية في أعلى الجارون) وآخر هذه العصور عصر أطلق عليه إسم نسبة إلى الكهف في مقاطعة داردوني

وليس هناك أدنى شك في صحة ترتيب العصور السالفة الذكر، لأن الابحاث التي قام بها

ص: 63

العلماء بعد ذلك لم تكشف لنا إلا عن تتابع صورة طبق الأصل لما قد بيناه في هذا المقال. إلا أننا نقف لحظة ونسائل أنفسنا ما هي فترة كل عصر من تلك العصور؟ ومتى بدأ كل عصر منها؟. . ومتى انتهى كل منها؟.

إن السنين المذكورة في شكلنا رقم 1 ما هي إلا عدد تقديري تقريبي غير ثابت تمام الثبوت، وربما كشف لنا العلماء حديثا ما يدفعنا إلى تغيير في هاته الأرقام. لكننا مع ذلك نعلم أن فترة الكهوف قد انتهت بانتهاء عصر الجليد. ولقد استطاع علماء السويد وعلى الأخص البارون دي جير أن يضعوا لنا تقديرا معقولا انتزعوه من آثار عصر الجليد وعرفنا منهم أن عصر الجليد قد بدأ في السويد من مدة 12000 سنة مضت تقريبا. ونحن إذا قدرنا أن حياة الإنسان في الكهوف قد انتهت من مدة 10000 سنة أو 8000 قبل الميلاد لأمكننا أن نقرر لأقدم عصر من عصور الكهوف تقديرا غير مبالغ فيه وهو 42000 سنة.

ولكي تعلم أيها القاريء أن أقدم عصر من عصور الكهوف هو أهم عصر في هذه العصور جميعا، يكفي أن نخبرك أنه بين طبقات الأرض في هذا العصر قد وجدت بقايا عظام متحجرة لعنصر من عناصر المخلوقات يختلف اختلافا عظيما جدا يبعده عن الصورة التي كان عليها أقدم الأجناس البشرية المعروفة. هذا النوع أو الجنس يعرف باسم انسان النيادرانتال ويمتاز هذا النوع بفرطحة الجمجمة وبروز عظام محاجر العين. كان رجاله ونساؤه ذوي قامات محدودبة يعتمدون كما تعتمد القردة على أيديهم في المشي.

وقد بدأ هذا النوع من أنواع الإنسان القديم يظهر واضحا جليا بآثاره ومخلفاته في أواخر أقدم عصر من العصور التي ذكرناها مستر يان.

ومن الآثار والمخلفات التي وجدت في الكهوف القديمة في جميع أنحاء العالم أمكن تتبع حياة الإنسان لمدة تنيف عن 40000 سنة في وقت كانت فيه أوروبا مسكونة بعنصر من العناصر الانسانية يختلف اختلافا بينا عن العنصر الذي نحن منه. عنصر أطلقنا عليه كما سلف وثبت أن أوربا كان سيكنها في العصر القديم الذي أطلقنا عليه اسم عنصر من الإنسان النياندرتال.

وبرغم أن الإنسان الذي وجدت آثاره كان فطريا أقرب في حياته الى الحيوانية فانه كان

ص: 64

رجلا أو إنسانا بكل ما في جسمه من صفات وما في عقله من خواص وتفكير. وما دمنا نرمي الى الوصول لفجر الانسانية ومعرفة تاريخ النشأة البشرية فانه يجب علينا أن نتخذ لنا طريقا آخر يساعدنا على تفهم ما نريد ومعرفة ما نرمي اليه. هذا الطريق هو البحث في الأنهار والمجاري المائية. وإن البحث والتنقيب اللذين قام الناس بهما فيها، دلا على أن هناك آثارا ومخلفات قديمة تحفظها الأنهار والمجاري في قاعها وشواطئها ومدرجاتها، وكأنها تقدر مجهود الإنسان لحفظ كيانه، فعملت على حفظ آثاره وتخليد ذكره تنويهاً منها بعظمته وقوته. ولنا في مدرجات نهر التيمس اكبر دليل على ذلك. ولقد ساعدت عملية الردم والتكوين التي تقوم بها الأنهار بما تحمله من غرين وغيره اثناء طريقها على حفظ اثار الانسانية، حتى جاء بورشيه دي بيرث فوجد في بلده ابفيل صخورا نارية (كان الناس وقتذاك يعقتدون انها من مخلفات الصواعق) اعتقد انها من عمل الإنسان ووجد بها اثرا من فن الانسان، واعتقد ان الإنسان قد استعملها قديما كـ (بلطات) يقطع بها الاشجار وغيرها، او يدافع بها عن نفسه وقت الخطر. كذلك وجد في نفس الجهة عظاما متحجرة لحيوانات قديمة منقرضة، وهنا نظر اليه الناس كنظرتهم الى من بعقله مس من الشيطان، لأن العظام التي كشف عنها ترجع الى عصر وهو عصر اعتقدوا ان الإنسان لم يوجد فيه. فكيف بهذا الرجل يقول ان الصخور التي وجدها من قطع وتشكيل من لم يكن قد وجد بعد؟

يتبع

نعيم علي راغب

من الأدب التركي

المعلمة الصغيرة

ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة العرب)

ركبت عربة الترام ولم يكن فيها غير السائق الذي كان مغمضاً عينيه يستريح قليلاً من عناء أربع عشرة ساعة، أما بائع التذاكر فكان جالساُ في المكان المعد للسيدات يقرأ جريدته على ذلك الضوء الشاحب الهزيل الذي كان ينفذ من زجاج ذلك المصباح الأغبر، وليس يعلم إلا الله كم مرة أخرجها من جيبه وأعادها أليهوكأن دخولي إلى تلك العربة وهي آخر

ص: 65

العربات في ذلك الوقت من تلك الليلة الشاتية نفخ فيها حياة بعد أن كاد يقتلها الإعياء، فقد من نومه وفتح عينيه المغمضتين، وأبعد بائع التذاكر الصحيفة عن وجهه وصعد بصره في كأنه يقول:

وهل بقي من راكب بعد أن مضى الهزيع الأول من هذا الليل الممطر؟. ثم قام الاثنان ونظرا إلى الخارج كأنهما يريدان أن يريا المطر الذي كان يسفع زجاج العربة بشدة، وعاد في الحال كل إلى مكانه لأن وقت الحركة لم يحن بعد، فأغمض السائق عينيه، ورفع بائع التذاكر جريدته إلى وجهه وأخذ يقرأ.

جلست وفي نفسي أن انتظاري سيطول، لقد كان منتظر العربة مؤلماً جداً، كانت أطرافها ملوثة بالطين، وكان زجاجها مستوراً بطبقة من مياه الأمطار التي كانت تسيل عليها، وكان نورها ضئيلاً، وهي واقفة تحت سيل الأمطار الذي لم ينقطع منذ ساعات وقفة حزن وملل تنتظر الوقت لتسير. كم كان مؤلماً منظر الخيل وهي تنتظر بفارغ الصبر العودة في تلك الساعة إلى اصطبلها الدافئ، ومنظر السائق الذي هد ّ التعب جسمه وغلبه النعاس فلا يكاد يرفع رأسه، ومنظر بائع التذاكر الذي كان يود النزوح ولو بخياله عن خط الترام الذي هو كل ما تراه عينه في كل يوم منذ الصباح حتى المساء، فهو يتلهى بالنظر إلى جريدته كلما سنحت له الفرصة. .

كنت وأنا أنظر إلى المياه التي كانت تسح من مظلتي التي ابتلت من المطر الغزير فتؤلف دوائر، أقول في نفسي:(أن هذه العربة التي كادت قطعها تنفصل عن بعضها لكثرة ما حملت من الناس لأراحتهم، وهذين الحيوانين اللذين أكل عليهما الدهر وشرب، وهذين الرجلين البائسين، وهذا الخط الحديدي الذي يفسح لنفسه الطريق بين الأوحال من (الجسر) حتى (جنبرلي طائش). كل هؤلاء مكلفون في هذا الليل المدلهم بحملي وحدي بأجرة لا تزيد على قرش واحد).

دق الجرس فجأة ففتح السائق عينيه ونهض يتمطى، ونظر آلي ما حوله حيران كأنه يعجب من وجود عمل يجب القيام به في ذلك الوقت من الليل لإتمام عمل النهار. ففرك يديه وسار. فتنح الباب فهجمت منه موجة هوائية باردة، ثم خرج وأغلقه خلفه وبقي وحده معرضاً لموجات الهواء التي كانت تلطم عربة الترام.

ص: 66

انتفضت تلك العربة الكبيرة الثقيلة وتمطت واهتزت كأنها هي أيضاً كانت نائمة. وتحركت بحركة مزعجة، وأرسلت أصواتاً كأنها شكوى عميقة يثيرها اضطراب دائم، ثم سارت وهي تحمل مع اضطراب ألواحها الزجاجية جسمين مضطربين وهما بائع التذاكر وزبونها الوحيد.

تقدم بائع التذاكر من الراكب الوحيد وسلمه تذكرته وأستلم نقوده من غير ان ينبسا ببنت شفة، ثم عاد بائع التذاكر إلى جريدته يقرؤها، وعاد الراكب إلى ما أجتمع تحت مظلته من المياه ينظر أليها.

في تلك الأثناء كثر اهتزاز العربة. وأخرجت أصواتاً مزعجة كأن أسنان تلك العربة. ذلك المخلوق البطيء، تعض الخط الحديدي بشدة. مظهرة ألمها واستياءها، وصلنا إلى (سركه جي) فلم ير بائع التذاكر حاجة إلى وقوف العربة، وهي آخر العربات حركة، لوثوقه أنه لا يوجد راكب في مثل هذا الظلام البهيم، فصفر معلناً الحركة، ولكن السائق صاح قائلاً:

- راكب!

وقفت العربة فقلت في نفسي (شيء مؤلم! كم كنت مستريحاً وحدي!) ثم فتح الباب فما كدت أبصر الداخل حتى تغير رأيي، فقد كان الراكب الجديد فتاة شابة قد ابتلت ثيابها من المطر لأنه كان ينزل عليها فلا ترده عنها مظلتا الصغيرة، كانت صفراء الوجه من البرد، وكانت شفتاها متقلصتين وأسنانها مصطكة، وعليها ثوب أبيض فوقه معطف بني اللون لا يشك الناظر أليه في أن ذلك الشتاء لم يكن أول شتاء مر عليه. فجعلت بهذه الهيئة الفقيرة المؤلمة في الجهة المقابلة لي، وفي الحال مدت يدها الجامدة من البرد في قفازها الذي امتدت منه أطراف أصابعها والمحيط بأسلاك بيضاء، إلى جيب معطفها لتخرج منه حقيبة النقود، فأخرجت منديلاً أبيض ثم حقيبة تقادم عهدها وحال لونها لكثرة الاستعمال وتمزقت جوانبها، فأخذت تعالجها لتفتحها فلم تقدر كأن قفلها قد تعطل. فعالجتها المسكينة كثيراً، والحقيبة مصرة على ألا تنفتح، وبائع التذاكر واقف أمامها يهتز ذات اليمين وذات الشمال من حركة التزام وجريدته تحت إبطه، ينتظر النقود منها، لقد ملك النظر إلى الماء المتجمع أمامي من المظلة فرفعت رأسي أخذت أنظر أليها نظري إلى شيء جديد كانت هي على ما يظهر من حالها متألمة من عدم تمكنها من فتح الحقيبة بسرعة لأنها كانت تعالجها كمن يود

ص: 67

كسرها، وأخيراً فتحت الحقيبة فأدخلت إصبعها فيها وأخذت تطوف يهما في جوانبها على ضوء العربة الضئيل.

لقد شعرت وأنا في مكان أن الحقيبة لا تحوى أشياء كثيرة يحتاج المرء معها إلى كثرة البحث والتنقيب. أدخلت يدها وهي في القفاز الممزق حتى غابت في الحقيبة وأخذت تبحث عن شيء صغير مختبئ هناك.

بعد بحث طويل بين أصابعها شيء صغير وهي تخرجه من الحقيبة فناولته إلى بائع التذاكر الذي لم يشأ أن يقطع لها التذكرة قبل أن يستلم النقود. . . . فتنفست الصعداء كأنها خرجت من مهمة صعبة وتمكنت من مقعدها كل التمكن. ثم رفعت عينها اللتين لم أستطع أن اعرف لونها تماماً.

لقد كانت تارة تنظر والعربة سائرة إلى قطع الجلود المتدلية من المسامير التي في سقف العربة، وآونة إلى المطر الذي يسمح من زاوية العربة، ثم إلى ما فوق رأسها لتعلم أين مكانها منه، وطوراً تقارب بين جفنيها وتتأمل في ضوء المصباح الضئيل، إلا أنها ضجرت من كل هذه الأشياء وسئمتها، فمسحت بظهر يدها زجاج العربة المبتل ونظرت إلى الشارع، لترى أقرب مكان نزولها أم لا يزال بعيداً؟ إلا أنها لم تر غير أشعة المصابيح الضئيلة التي تشع من الحوانيت القليلة في هذه الليلة الباردة فترقص أشعتها فوق الطين المتراكم في الشوارع.

وأخيراً نظرت إلى نظرة عجلي كأنني آخر ما يمكن أن يعرض على نظرها من الأشياء التي حولها. ولكنها وجدتني كبقية الأشياء التي استعرضتها أمام ناظريها ولم تجد فيها ما يوجب العناية، فاعترضت عني واستندت على مسند المقعد، ومدت رجليها وفيهما حذاءان عتيقان قد زر أحدهما وتمزقت عروة الثاني ولكنهما كانا جميلين، ووضعت إحدى رجليهما على الأخرى، ثم أصلحت قبعتها أسندت رأسها إلى ما خلفها وأخذت تنتظر.

هل كانت جميلة؟ لا أدري! ولكنها مع ذلك كانت مركبة من أعضاء صغيرة، حتى ليخيل للناظر إليها أن رجلاً من المولعين بالأشياء الدقيقة قد صاغها هذه الصياغة وركبها هذا التركيب، فهي مليحة بعينها الصغيرتين، وفمها الرقيق، وأنفها الدقيق، ووجهها المخروط، ولم يكن في ذلك الجسم المركب من تلك الاعضاء الصغيرة طويل غير قامتها، فقد كان

ص: 68

طولها لا يتفق وصغر أعضائها، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من الملاحة. لقد كنت أشعر بشيء غريب لوجودي في تلك الليلة الشاتية في تلك العربة بجانب تلك الفتاة منفردين، كنت أشعر بلذة غامضة كالتي يتوهمها الإنسان عند قراءة شعر لا يفهم معناه. وفي تلك الأثناء رفعت رأسها بسرعة ومسحت زجاج النافذة ونظرت طويلاً نظرة تدل على ضجرها من التأخر. وكنا في ذلك الوقت نسير في محلة (جيفته حاووضلر) وكنت أقول في نفسي (أين تذهب هذه الفتاة في مثل هذا الوقت في مثل هذه الحالة الجوية؟). ثم ارتدت مسرعة عن النافذة، وانحنت قليلاً كأنها تريد أن تكلم بائع التذاكر الذي كان مغطياً وجهه بجريدته يغالب النوم ويغالبه، ولكنها لم تجرؤ أن تكلمه فنظرت إلى نظرة تدل دلالة واضحة على أنها تريد أن تسألني عن شيء، فنظرت إليها نظرة أسألها فيها عما تريد، إلا أنها بصورة من الصور لم تجد قدرة على الكلام فسكتت، ونهضت على رجليها ونظرت ثانية من النافذة، وفي هذه المرة ارتدت مصفرة فقلت لها:

- قالت بصوت رقيق يشبه جسمها الصغير بلهجة تدل على الحشمة والوقار:

- عفواً يا سيدي، فهل (الجسر) بعيد عنا؟

- فقلت:

- الجسر؟ أنتِ مخطئة أبتها الآنسة، إن هذه العربة تسير بنا إلى (آق سراي)

- فنظرت إلى وجهي نظرة جامدة كأنها لم تفهم شيئاً، وبعد أن وقفت مدة على هذه الصورة لا تجد في نفسها قوة على الاستيضاح قالت:

- إذن نحن الآن لا نسير نحو (الجسر)؟

- لفظت جملتها هذه بصورة تدل على فزع شديد علمت منه أنها ارتكبت خطأ، فداخلتني عليها شفقة وقلت:

- أنا آسف جداً يا آنسة، أنت تريدين الذهاب إلى (الجسر) إلا أنك ركبت عربة تسير عنه لا إليه، وقد أوقعك في هذا الخطأ ظلام الليل ودهشة المطر.

- كانت تسمع كلامي والبكاء يكاد يغلبها على عينها وتقول بصوت مسموع: لقد تاخرت كثيراً. ثم قالت بصوت يخالطه شيء من الأمل:

- إذن سأعود أدراجي من أول موقف.

ص: 69

- لقد وصلنا إلى موقف (صالقم سكود) فقلت لها:

- إنك مضطرة إلى الرجوع راجلة، فهذه آخر عربة ولا أظن أنك تجدين عربة في هذا المطر.

- فلما سمعت ذلك اضطربت اضطراباً عظيماً، وفي ذلك الوقت استيقظ بائع التذاكر واقترب منا يشاركنا في الحديث، ثم قال مبرثاً نفسه من التبعة:

- لماذا لم تذكري لنا المحل الذي تريدين أن تذهبي اليه؟. فلم تجد تلك المسكينة حاجة إلى الجواب، فنظرت إلي نظرة حائرة تطلب بها المد والمعونة، وقالت:

- لطفاً يا إلهي، في مثل هذه الساعة، في مثل هذا المطر، وفي مثل هذه الأزقةالمظلمة الخالية كيف أستطيع السير وحدي؟.

- لم أجد حاجة لا تخاذ قرار بعد ذلك في هذا الشأن، فقلت لها

- أيتها الآنسة، هل لك أن تقبلي مرافقتي حتى الجسر؟.

- فنظرت إليه بدهشة وصاحت:

- كيف ذلك يا سيدي؟ كيف تعود لأجلي في هذا الهواء؟

- وكيف أستطيع أن أقبل هذه النصيحة؟. .

- على أنه لم يكن أحسن من هذا الحل، لأن السائق كان بفارغ الصبر ينتظر الحركة، وبائع التذاكر ينتظر أن نعطى نتيجة حاسمة فقلت لها مصراً:

- أنت لا تقدرين على العودة منفردة في مثل هذا الوقت، ومن هذا المكان، مع أني أتمكن من أن أركب عربة وأعود من الجسر، وذلك يسير علي.

- فنظرت إلي عند ذلك نظرة فاحصة، وبتلك النظرة علمت صفاء نيتي وصدق عزمي فأظهرت الاطمئنان وقبلت مرافقتي قائلة:

- سمعاً وطاعة يا سيدي، لقد أظهرت إنسانية نبيلة وعطفاً كريماً، وأنا أقبلها مع الشكر.

- فتح بائع التذاكر الباب ليشرح للسائق القصة، فنزلنا نحن من الباب الثاني، وتحركت العربة في الظلام كأنها خيال ذو عينين صفراويتين؛ كان المطر إذ ذاك إلا أنه كان متوالياً، ففتحت الفتاة مظلتها، فلما تأملتها وجدتها ممزقة الأطراف، وفتحت أنا أيضاً مظلتي وأخذنا نمشي متكاتفين بقدر ما تسمح لنا المظلتان. كانت في ذلك الظلام الدامس قي تلك الشوارع

ص: 70

الخالية تشعر أنها محتاجة إلى الاقتراب مني بدافع غريب مجهول المصدر يدفعها إلى ذلك، وكنت أنا أشعر بلذة منشؤها حمايتي لفتاة في مثل هذا الوقت. على تلك الحال كنا نمشي صامتين لا نتكلم، وكانت توسع خطاها لئلا تضطرني إلى المشي البطيء.

- كنت وأنا في الترام في شك من جمال هذه الفتاة ذات القامة الهيفاء، ولكنها الانفي الظلام كانت تتراءى لي جميلة.

- إن هذه المصادفة غربية جداً، وأظن أن تلك الفتاة التي رأيتها لأول مرة في حياتي وبسطت عليها ظل حمايتي لو كانت غير جميلة لكانت اللذة التي أشعر بها الان ناقصةكنت أقول وأنا سائر بجانبها يا لجمال عينيها الصغيرتين.

(البقية في العدد القادم) نزيلة بعلبك (فتاة الفرات)

تاريخ العالم القديم

تأليف الأستاذ عبد الفتاح السرنجاوي

للأستاذ المؤلف شغف كبير بالتاريخ القديم، فهو ما ينفك يقلب صفحاته، ويطيل النظر في أدق موضوعاته، حتى صار لهذا العلم المحل الأول من اهتمامه في درسه وفي أوقات فراغه، ولقد قام بتدريسه سنين متوالية في المعاهد الدينية، وعرف ما يوافق طباع الطلاب منه، ووقف على الاسباب التي تحبب إليهم موضوعاته، أو التي تنفرهم منها. وكانت ثمرة هذه الخبرة هذا الكتاب الذي أحداثك عنه، وهو في طبعته الرابعة هذه على خير ما تصدر به الكتب دقة طبع وسلامة ذوق.

أما عن موضوعاته فهو وفق المنهج الاخير لوزارة المعارف والمعاهد الدينية، يشمل تاريخ قدماء المصريين والإغريق والرومان على أن أهم ما في الكتاب هو تلك الطريقة الفريدة التي أتبعها الأستاذ في كتابة التاريخ، فلقد نبذ تلك الطرق التي تقتصر على سرد المعلومات الجافة يقصد بها استيفاء المنهج المقرر، ونفذ بخبرته إلى صميم الموضوع، فأهتم بالحياة الاجتماعية ومظاهرها في تلك العصور القديمة، إلى جانب اهتمامه بتفاصيل المنهج، كل ذلك في عبارة طلية متينة، مما جعل كتابة جم الفائدة، خفيف المحمل، أضف إلى ذلك ما يحتوي عليه ذلك الكتاب الفذ من الصور والخرائط، وكلها موضوع لغرض إيضاحي في تدبير حصيف وترتيب محكم مما لا نجد مثيلَا له في غيره من الكتب، ولاشك هذه خير

ص: 71

طريقة تحبب الى الاطفال دراسة التاريخ والاستزادة منه.

لئن كان أثر المؤلف مرآة نفسه، فإن كتاب الاستاذ السرنجاوي خير شاهد على ذلك، فإنك تلمس فيه هدوء طبعه، وقوة منطقه وعذوبة روحه وسلامة لفظه، واني لأتقدم الى الاستاذ بالثناء على بذل من جهد، وبصادق التهنئة على ما صادف عمله من نجاح.

الخفيف

الرائد

في تاريخ الأدب العربي ونصوصه ومتن اللغة.

هذا كتاب جديد في تاريخ الأدب العربي أخرجه في هذه الايام صديقاي الفاضلان الاستاذ عبده زيادة عبده المدرس بمدرسة الخديوي اسماعيل الثانوية الملكية، والاستاذ محمد السيد عامر المدرس بمدرسة بنبا قادن الثانوية الملكية، وهو يتألف من جزأين أولهما في منهاج تاريخ الأدب الاخير للسنة الثالثة للمدارس الثانوية ومدارس المعلمين والمعلمات، وثانيهما في منهاج تاريخ الأدب الأخير للسنة الرابعة للمدارس الثانوية.

وقد ألف في منهاج الأدب للسنتين الثانويتين كتب غير كتاب الأستاذين، ولكنه جاء آخرها فتداركا به ما فاتها وامتاز عليها بأمور كثيرة، وقد قال الاستاذان في ذلك: (ولسنا ننكر أن للكتاب أنداداً، غير أن بعضها على قيمته جاوز المنهج الجديد فعاد كتاباُ للمتأدبين، لا لطلاب يتقدمون الى الامتحان في موضوع بعينه، وبعضها جاء مقصوراً على فن واحد من فنون كتابنا هذا، وبعضها علا أسلوبه ودقت إشاراته على الناشئين حتى ما يستطيعون في غير عناء أن يدركوا ما يريد.

وقد عنيا في هذا الكتاب أن يعالجا مسائل الأدب بذكر المقدمات في شيء من البسط ليخلصا الى مسائلة واضحة معقولة، وأن يحللا نصوصه الأدبية من جميع نواحيها لغة ومعنى وأعراباً وبلاغة الا أن يتركا لقدر التلاميذ بعض الأبيات والجمل ليحاولوا شرحها على مثال ما فعلاً ولا يهملوا مداركهم فتنشأ لا تبنى الا على مثال.

وقد سار الاستاذان على هذه الخطة القويمة التي خطاها بأنفسهما في كتابهما بما نعهده فيهما من علم واسع وانشاء مهذب وترتيب محكم، فيسرا لطلاب هاتين السنتين منهاجيهما الأدبي تيسيراً، وأصبحت طلبتهم منهما فيه سهلة المنال دانية القطوف، فنحمد للاستاذين ما بذلاه

ص: 72

من جهد نقدره لهما، وتترك من أجله بعض أمور نخالفهما فيها وقد تابعا فيها غيرنا، ولكل وجهة هو موليها.

عبد المتعال الصعيدي

رواية ابنة الشمس

تأليف فرنسيس شفتشي

نالت هذه القصة التمثيلية جائزة وزارة المعارف العمومية في مباراة سنة 1932، ولقد قرأتها دون أن يكون لهذا الاعتبار تأثيراً في نفسي فألفيتها قصة ممتعة طريفة، جديرة بما نالت من حظوة واستحسان فلقد نجح المؤلف نجاحاً عظيماً في تصوير المجتمع المصري في عهد الملك رعمسيس الثاني، كهانة وسحراً وطباً وعرافة وسياسة، كما أنه قد نجح في تصوير بعض العواطف الإنسانية تصويراً بارعاً كالشفقة والحب والشك والطمع والحسد والاخلاص والخيانة وغيرها. كذلك أحسن المؤلف تصوير أشخاصه ففنه في هذه الناحية قوي. ولقد استمر على فطنته ويقظته في ما يتعلق بصفات أشخاصه حتى آخر القصة.

بيدي أني أرى في القصة بعض المآخذ. لابد لي اذا توخيت الإنصاف من مصارحة المؤلف الفاضل بها وأول هذه المآخذ أن عقدة القصة مبهمة. فقد حاولت أن انتخب من بين حوادثها حادثة أعتبرها الرئيسة فلم اوفق الى ذلك. فهنا بنت أنات تحب بنطاؤر. وهناك نيفرت تحب سينا. وهذا بعاكر قائد الطليعة يريد أن يكيد للملك. نعم إن هذه الحوادث لاتعدم رابطاً يربطها، غير أنها روابط سطحية وليست روابط البسط أو حل العقدة التي تتشعب منها القصة مما كاد يخلي القصة من التطور ويفقد القارئ الانتظار. فكل منظر يكاد يكون مستقلاً، هذا إلى أن المؤلف قد جعل خاتمة المأساة متوقفة على نصيب رمسيس في الحرب، وهذا معروف للقارئ، فكأن القارئ يعرف ما سيؤول اليه أمر العصاة ومدبري الثورة، وهذا ما يقضي على استمتاعه قبل نهاية القصة، ولو أن المؤلف علق انتهاء القصة على حادثة غير هذه لاحتفظ بروعتها حتى النهاية.

كذلك نجد في القصة عدة مواقف قوية، ولكن المؤلف أضعفها بفتور العبارة أحياناً وبسذاجة الحوار أحياناً أخرى، أو بارسال الحوادث على غير ما يتفق مع الموقف وما ينتظره القارئ في ذهنه. هذا الى أنه في بعض المواقف أورد حوادث ما كان يتصور وقوعها بمثل

ص: 73

هاتيك السهولة كرجوع بنطاؤر عن فلسفته بتلك السرعة وانقياده الى بنت أنات كأنما كانا يتباحثان في موضوع تافه. وكتصريح بنطاؤر بحبه الى صديقه نبشت دون تردد أو تحفظ. وكسرعة انتقال وردة من الألم الشديد الى الهدوء لدنو لقاء الأميرة. . الخ. ولقد كان المؤلف يحاول تغطية هذه العيوب بحوار على لسان الأشخاص. ولكنه في رأيي كان يكشفها بذلك.

ولم يعجبني من المؤلف الجمع بين التأليف والتمثيل في كتابته فكان يشير كثيراً الى ما ينبغي أن يحدث على المسرح وأظن ذلك من عمل المدير الفني.

ولقد قدم لكتابه بتحليل ضاف إذا قرأته عرفت القصة كلها فلن تعجب بها إلا على المسرح.

ولكن هذه المآخذ على تنوعها لاتذهب ببهاء القصة، ولاتنقصها قدرها، ولاتضيع طرافتها، ورجائي الى المؤلف الفاضل أن يثابر على التأليف للمسرح، فعنده استعداد عظيم وملكة قوية تضمن له التبريز في هذا المضمار.

الخفيف

ص: 74