المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 640 - بتاريخ: 08 - 10 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٤٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 640

- بتاريخ: 08 - 10 - 1945

ص: -1

‌مشقة التحصيل

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

منذ ربع قرن تقريباً، زارني شاب في جريدة الأخبار وشكا إلى المرحوم شوقي الشاعر وقال: إنه ذهب إليه يستشيره فيما يحسن به أن يقرأ من الكتب العربية، فأشار شوقي عليه يدرس كتابين وجدهما الشاب من كتب النحو وفقه اللغة، فاعتقد أنه أضاع ماله، وأن شوقي أخطئه التوفيق. فقلت له: إن شوقي لم يخطئ، فإن النحو والصرف وما يجري هذا المجرى لابد منه، ولا غنى عنه، ولكل لغة قواعدها وأصولها وأحكامها وفقهها، والإحاطة بهذا كله واجبة إذا كنت تريد أن تتخذ هذه اللغة أداة للكتابة، وإلا فكيف تكتبها وأنت لا تعرف قواعدها؟ وصحيح أن الكتب العربية القديمة تحتاج إلى تيسير مطلبها، ولكن التيسير ليس معناه الإلغاء، فاعرف لغتك أولا، وادرس أدبها، ثم عالج بعد ذلك ما شئت من فنون الكتابة، واعلم أنه لا مطمع لأحد في بلوغ مرتبة ملحوظة من مراتب الأدب إلا بالاطلاع الوافي، ولما كانت لغتنا العربية، فهي أداتنا التي لا أداة لنا سواها، ولا سبيل لنا إلى البيان إلا بها، فلا مهرب لنا إذن من تحصيل هذه اللغة والتوفر على درسها

وقد حدثت شوقي رحمه الله بهذا، فقد كنا نلتقي في (الأخبار)، ونتذاكر على الرغم من رأي المعروف في شعره، فقال لي: يا أخي لقد كنت في بداية عهدي بالشعر، بعد أن عدت من أوربة، ألحن وأخطئ فيسلقني الناقدون بألسنة جديدة، فالآن أنصح للشبان المبتدئين أن يعرفوا لغتهم فيشكونني ويعيبونني بذلك!

وقد قلت أيضاً لذلك الشاب المتذمر: إني لا أرى الاقتصار على درس اللغة العربية وآدابها، فإنه لا يكفي طالب الأدب، بل لابد من التوفير على درس الآداب الأخرى، ولا سيما الغربية منها. وحسب طالب الأدب لغة واحدة كالإنجليزية مثلاً، فإن براعات الآداب الأخرى مترجمة إليها، وقد كان العرب حصيفين حين عنوا بنقل الفلسفة الإغريقية فاتسعت آفاقهم. ولسنا نستطيع في عصرنا هذا أن ننقل خارجيات الغرب في الأدب والفلسفة، فإنها شيء لا آخر له، ولكن في وسعنا أن نطلع عليها ونلم بها إلماماً كافياً بإحدى اللغات الغربية، ونحن نلقح الشجر ليثمر، ونطعمه ليؤتينا ما هو أطيب، ويجنينا ما هو أشهى، فلنلقح عقولنا ولنطعمها بما عند الغرب، ليعود أوفر إنتاجاً وأحلى جني. ونحن آدميون،

ص: 1

والشجر نبات، ولكن سنة الحياة واحدة، وقانونها لا يختلف، وهو واحد في كل مظاهر الحياة على السواء، وما يصير به أقوى وأزكى، يصير بمثله الحيوان - ونحن منه - أقدر على معاناة الحياة وأصلح لها وأنجب. وليس مما يصح في الإفهام أن نكون في القرن العشرين، ونقنع بأن نعيش بعقول القرون الخالية. وأخلق بهذا الكسل أن يحيلنا خلقاً - متخلفاً من الأزمنة البائدة، وأن يجعلنا غير صالحين للزمان الذي خرجنا فيه

وأنا أعرف أن هذا مشقة عظيمة، ولكن الثواب على قدرها، والحياة نفسها لا متعة ولا نزهة، بل كد ونضال وكفاح وما يبلغ المرء في دنياه غاية أو يدرك شيئاً إلا بالكفاح وعرق الجبين المتفصد، فلماذا نستثني الأدب ونراه أهون شأناً وأيسر مطلباً من أن يحتاج إلى عناء؟

وليعذرني القراء الأفاضل إذا رأوني ألح على شبابنا أن يعكفوا على التحصيل ويجدوا فيه ويشقوا أيضاً، فقد رأيت شباناً كثرين في مصر أكبر ظني أن لهم أنداداً في غيرها يستثقلون الطلب ويستطيلون مدته ويستكثرون الجهد الذي يقتضيه ويستخفون بالأمر كله ويحاولون أن يرقوا بغير سلم، وأن يبلغوا الغاية بدون أداة أو وسيلة، فلا يأتون إلا بأغث الغثاثة وأسخف السخف، ثم يروحون يتذمرون ويجأرون بالشكوى ويزعمون أنهم مغبونون مغموطو الأقدار، وأن الشيوخ يأخذون عليهم متوجههم ويعترضون سبيلهم حسداً، إلى آخر هذا الهراء. وتقول لهم: إن كل علم وفن مثل الطب والهندسة والتصوير والموسيقى، إلى آخر ذلك يحتاج إلى درس طويل وتحصيل واف، فأن الملكة وحدها لا تكفي، والاستعداد بمجرده لا غناء له، ما تؤازره المعرفة الصحيحة، فلماذا يعدون الأدب بدعاً يرونه مما يمكن الاستغناء فيه عن الآلة والأداة؟ فلا يقتنعون، أو على الأصح، لا يستطيعون أن يرضوا أنفسهم ويوطنوها على احتمال المشقة

وأوثر أن أكون صريحاً فأقول: إن هذا تطر لا يعجبني، وكسل لا أراه بشيراً بخير، فيحسن أن أورد طائفة من الأمثلة تبين أي مشقة احتملنا، وأي عناء صبرنا عليه، وأي جهد تكلفناه في حداثتنا وصدر حياتنا قبل أن نتطلع إلى منازل الأدباء. وقبل ذلك أقول: إن مما نفعني وأغراني برياضة نفسي على التشدد والتجلد كلمة قرأتها ومنظر رأيته، فأما الكلمة، فقول كوييت في كتابة (نصيحة إلى الشبان) إن على الشباب إذا أراد أن يكون

ص: 2

رجلا كاملا لا نصف أن يحلق ذقنه كل صباح بالماء البارد في الشتاء، وجو إنجلترا من أقسى الأجواء. فقلت لنفسي: إن مصر جوها معتدل، فأنا أولى بهذه النصيحة وأقدر على العمل بها. وتوخيت بعد ذلك أن لا أستعمل الماء البارد في كل حال فنفعني هذا وقواني على احتمال المؤثرات الجوية وإن كان بدني خرعاً، وأما المنظر، فكان شاباً من العمال راقداً على الحجارة في وقدة الظهر وشمس الصيف تضربه، وكنت يومئذ في السابعة عشر من عمري، فقلت لنفسي: أنا أتململ لأن وسادتي ليست محشوة بريش النعام، وسجادتي ليست من صنعة العجم، وهذا الغلام ينام على الحجارة ولا يتأفف ولا يشكو ولا تمنعه خشونة المضجع أن ينام ملء جفنيه. . . أما والله لا اتخذت بعد اليوم شيئاً وثيراً! وما زلت إلى اليوم أوثر الخشن على الرقيق، وليس في بيتي كرسي مريح أو فراش لين، لأني أخجل أن أكون مترفاً.

ورضت نفسي على الجلد، فاتفق في أول عهدي بدرس الأدب أن وقعت في يدي نسخة من ديوان (الشريف الرضي) مطبوعة في الهند، ليس فيها بيت واحد يسلم من التحريف، فما استطعت أن أفهم شيئاً، وكدت أيأس، ولكني تشددت وأقبلت عليه أعالج تصحيحه، وقضيت في ذلك قرابة عامين وأنا أوفق قليلا وأخفق كثيراً، حتى هداني الله إلى ديوانه المطبوع في بيروت، وهو أصح وأسلم من الخطأ، وإن كان لا يخلو منه، فتشهدت واسترحت.

وحبب ابن الرومي إلى ما قرأته له مبعثراً في كتب شتى، فطلبت ديوانه، فلم أجد إلا مخطوطاً - أعوذ بالله منه - في دار الكتب المصرية، وكان فيها مخطوطان آخران، ولكني لم أعط إلا أسوأ الثلاثة وشرها، فاستنسخته وعكفت عليه سنوات طويلات المدد أحاول التصحيح والضبط، فلم أبلغ من ذلك ما أريد، ولكني بذلت غاية ما يدخل في الوسع

وكان من أول ما اقتنيت، الأغاني طبع الساسي، وهي نسخة محشوة بالغلط، ففككت الأجزاء (ملازم)، وجعلت أحمل الملازم معي واحدة واحدة إلى دار الكتب في أوقات فراغي، وأراجع النصوص نصاً نصاً، وبيتاً بيتاً، وأدون التصحيح، أو التكملات على ورق أبيض أعددته لذلك، وصرت ألصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، حتى إذا انتهيت من جزء جلدته وانتقلت إلى ما يليه. وهكذا حتى أتممت الكتاب كله، فصار ضعفي حجمه الأصلي. وحدث لسوء حظي في أيام الحرب الماضية أن رقت حالي فجأة، واحتجت

ص: 3

إلى المال، وأنا امرؤ ربتني أمي - رحمها الله - على الاعتماد على النفس والاستغناء عن الناس، وبغضت إلى الاستدانة وكل ضروب الاستعانة بالغير فلم أجد لي حيلة إلا أن أسع ما اقتنيت من كتب، ورأى بعضهم عندي نسخة الأغاني هذه، فألحف في طلبها، فأبيت أن أبيعها، فلم يزل يزيد في الثمن ويرتفع به، حتى أغراني، وما كاد يخرج بها، حتى طار عقلي، وندمت أشد الندم، فإنها ثمرة تعبي سبع سنوات، ولكن أمي فاءت بي إلى السكينة وقالت لي:(الست قد قرأتها؟ انتهينا إذن ولا داعي للأسف)! فجعلت بعد ذلك أعزي نفسي بقولي: إن فائدة القراءة كفائدة الطعام، والمرء يأكل ليصح بدنه، ولو أني نسيت اليوم ما أكلت في أمسي، لما منع ذلك أن الفائدة قد حصلت، وأن جسمي انتفع بما طعمت وكذلك العقل: يقرأ المرء ليستفيد علماً ويقوي مداركه وينمي ملكاته، ولا يمنع حصول الفائدة أنه نسي ما قرأ أو أن الكتاب غير موجود.

وحسبي هذه الأمثلة القلية، والحقيقة أننا أعطينا الحياة لنحياها، لا لننعم بها أو نسعد، ومعنى أن نحيا أن نعمل، ومؤدي العمل أن نكدح ونتعب، والأدب مطلب كسائر المطالب له وسائله، فلا معدي عن العناء في سبيله.

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 4

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 12 -

* ج 16 ص 198:

وإذا بلوتُ طباعه

فالماء يشرب وهو عَذْب

وقصارى وصفي أنه

فيما أحب كما أحبْ

قلت: (فالماء يشرب وهو عذب) ليكون الضرب مرفلاً، لأن الضرب في البيت الثاني لا يجئ بالسكون - إن فرض أن (أحب وأحب) ماضيان - إلا من الصحيح، فيختلف الضربان. والفعلان إنما هما هنا مضارعان:(فيما أحب كم أحب) فالشاعر يصف حال صاحبه كما يراها هو، ولا يقصد ما يشاكل معنى القائل (كأنك قد خلقت كما تشاء).

و (قصارى) في البيت هي (قصار) لأجل الوزن، واللفظتان بمعنى واحد، ومثلهما (قصرك وقصيراك). وقد جاءت (قصار) في كلام مأثور مشهور مظلم النسبة.

قال الزمخشري في شرح مقاماته: ومن توقيعات عبد الله بن ظاهر فيما سمعته من أبي: (غرك عزك، فصار قصار ذلك ذلك، فأخش فاحش فعلك، فلعلك بهذا تهدأ).

وقال ابن خلكان في الوفيات: كتب إلى عضد الدولة أبو منصور أفتكين التركي متولي دمشق كتاباً مضمونه أن الشام قد صفا وصار في يدي، وزال عنه حكم صاحب مصر، وأن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم. فكتب عضد الدولة جوابه هذه الكلمات وهي متشابه في الخط لا تقرأ إلا بعد الشكل والنقط والضبط وهي (غرك الخ) ولقد أبدع فيها كل الإبداع.

وفي (التاج): وروي عن علي رضي الله عنه أنه كتب إلى معاوية: (غرك الخ) وهي رسالة تصحيفية غريبة في بابها.

* ج 1 ص 46: وأطوف على مصنف فيهم يشفي العليل، ويداوي لوعة الغليل.

قلت: عندي أن الأصل: (يشفي العليل، ويروي الغليل) أو يروي غلة الغليل.

والغليل العطشان، والغليل حرارة العطش مثل الغلة. في اللسان: الغل والغلة والغلل والغليل كله شدة العطش قل أو كثر. رجل مغلول وغليل ومغتل بين الغلة.

ص: 5

* ج 1 ص 48:. . . والإخباريين.

قلت: والإخباريين في التاج: والأخباري المؤرخ نسب اللفظ الأخبار كالأنصاري والأنماطي وشبههما.

* ج 12 ص 77:

وذاك آخر عهد من أخيك إذا

ما المرء ضمَّنَهُ اللحدَ الخناشير

(الواحد خنشير والجمع الخناشير، ويقال الخناشرة وهم اللذين يتبعون الجنازة.

قلت: الخناسير بالسين. في التاج في (خسر وخنسر): الحناسير ضعاف الناس وصغارها، قال شيخنا: ووقع في شعر حريث بن جبلة العذري: (وذاك آخر عهد البيت) قال أبو حاتم: الخناسير الذين يشيعون الجنازة، ونقله البغدادي في شرح شواهد المغنى.

وفي اللسان: خناسر الناس صغارهم والخنسر اللئيم. ولم يذكر في (خشر) إلا الخاشرة والخشار: السفلة من الناس.

وبيت (الخناسير) هو في أبيات رواها ياقوت في (الإرشاد) وروى الحريري ستة منها في (الدرة) وذكرا قصة لها:

قال عبيد بن شرية: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول الشاعر:

وبينما المرء في الأحياء مغتبط

إذا صار في الرمسن تعفوه الأعاصير

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذو قرابته في الحي مسرور

فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر؟ قلت: لا.

قال: إن قائله هذا الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، ولست تعرفه. وهذا الذي سار عن قبره هو أمس الناس رحماً به وأسرهم بموته. . .

* ج 1 ص 48: وكنت مع ذلك أقول للنفس مماطلاً وللهمة مناضلاً: رب غيث غب البارقة، ومغيث تحت الخافقة.

وجاء في الشرح: الخافقة واحد الخوافق، وخوافق السماء: مهب الرياح الأربع.

قلت: الخافقة هنا هي الرايات أو الأعلام. في الأساس: وخفق العلم، وأعلامه تخفق وتختفق. وفي اللسان: وتسمى الأعلام الخوافق والخافقات. والمغيث هنا هو المغيث وقت

ص: 6

القتال.

والبارقة السحابة ذات برق، والبارقة السيوف على التشبيه بها لبياضها. وفي حديث عمار رضي الله عنه الجنة تحت البارقة أي تحت السيوف.

* ج 1 ص 192: قال (جرير بن أحمد بن أبي دؤاد):

كان إبراهيم (بن العباس الصولي) أصدق الناس لأبي فعتب عليّ أبنه أبي الوليد في شيء، فقال فيه أحسن قول: ذمه فمدح أباه. وما أحسن هذا من جهة جرير!:

عفت مساو تبدت منك واضحةً

على محاسن نقاها أبوك لكا

لئن تقدمت أبناء الكرام به

فقد تقدم آباء الكرام بكا

قلت (ذمه ومدح آباه) أي جمع بين الأمرين.

و (عفت مساوئ تبدت منك، واضحة) برفع واضحة وإن جاز نصبها. وقد خفف مساوئ وقدر.

و (نقاها) هي (آبقاها) وعجز البيت الثاني هو (لقد تقدم آباء اللئام بكا) وهنا النكتة، وهنا الذم البليغ.

والقاضي أحمد بن آبي دؤاد هو الذي يقول حبيب فيه:

لقد أنست مساوئ كل دهر

محاسن أحمد بن آبي دؤاد

ولما ذكر الصفدي في كتابه (الغيث الذي أنسجم في شرح لامية العجم)(الذين رزقوا السعادة في أشياء لم يأتي بعدهم من نالها) قال في أحمد: (القاضي أحمد بن أبي دؤاد في المروءة وحسن التقاضي).

وقال ابن خلكان في سيرته في كتابه: (كان معروف بالمروءة والعصبية) يعني العصبية العربية.

* ج 14 ص 217:. . . فألب الأولياء على أبن عباد حتى كثر الشغب، وعظم الخطب. . .

قلت: (الشغب) بالتسكين لأجل الخطب. والمجانسة بين القرائن في السجع مطلوبة. والفتح لغة وليس بخطأ كما قال الحريري في (الدرة) وليس هو من كلام العامة كما ذكر أبن الأثير في النهاية.

ص: 7

* ج 3 ص 131:. . . فقال (أبو العلاء) لي (للتبريزي) قم وكلمه، فقلت: حتى أتمم السياق فقال: قم وأنتظر لك.

وجاء في الشرح: السياق في الأصل: السيق:

قلت: في (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي): (حتى أتمم السبق وأنا أنتظرك) وضبط اللفظة - كما جاءت في الصبح - الفضلاء الذين جمعوا وحققوا كتاب (تعريف القدماء بأبي العلاء) وقالوا في الشرح: السبق بالتحريك يراد به الدرس وهذه الكلمة لم ترد في المعاجم بهذا المعنى، وشاعت في الفارسية بمعنى الدرس نقلاً عن العربية

* ج 13 ص 285: كان (علي بن عبد الله بن وصيف الناشئ) شيخاً طويلاً جسماً، عظيم الحلقة، عريض الألواح، موفر القوة، جهوري الصوت، عمر نيفا وتسعين سنة لم تضطرم أسنانه، ولا قلع سناً منها ولا من أضراسه. وكان يعمل الصفر ويخرمه، وله فيه صنعة. ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريش مربع غاية في حسنه.

وجاء في الشرح: (لم تضطرم) في الأصل تضطرب.

قلت: (الاضطرام) الاشتعال، و (الاضطراب) التحريك والاختلال، وهذا أقرب إلى المراد. وربما كان الأصل (لم تنفض أسنانه) ونفضت الثنية أو السن: تحركت واضطرت.

كان الناشئ ذا هزل ومجون في المناظرات وغيرها ومن مجونه - كما روى ياقوت - (حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال (الأشعري) ما هذا يا أبا الحسنين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: ما فعله غيرك، وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة. فقال: ناقضت. إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض. فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرة).

(قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعري ماهراً لقام إليه وصفعه أشد من تلك ثم يقول له: صدقت. تلك من فعل الله بي، وهذه من فعل الله بك فتصير النادرة عليه لا له).

-

ص: 8

‌الطهارة والوضوء

للدكتور جواد على

الطهارة ركن من أركان الصلاة عند جميع الأديان. وتشمل طهارة الجسم، وطهارة الثياب، وطهارة الأرض. فاشترطت الديانة الرومانية على المصلي لبس الملابس النظيفة (فيلبس المستغيث ألبسة نظيفة لما وقر في الأذهان من أن الأرباب يرغبون في النظافة). واشترطت مثل هذه الشروط سائر الأديان القديمة مثل الديانة البابلية والمصرية والهندية. ويلعب الغسل دوراً هاماً في طهارة الجسد وفي بعض الطقوس ولا سيما في الديانات التي نشأت على مقربة من الماء.

وجعل الغسل العام أو الغسل الموضعي كواجب من الواجبات الشرعية حتمت الديانة (البارسية) الفارسية القديمة على الفارسي عند نهوضه من نومه صباحاً وجوب غسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثلاث مرات. ونستعمل لذلك وهي مادة طاهرة مقدسة تستخرج من عصير الأثمار وتستعمل بعد الغسل بالماء. ويجوز استخدام الحشائش الجافة لمسح أجزاء الجسم. أما الحشائش المبتلة فلا يجوز استخدامها لأن الماء طاهر ومقدس لا يجوز تنجيسه

وإذا ما ابتدأ الإنسان بغسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثم أعوزه الماء وجب عليه (التيمم) بالرمل فيمسح بالرمل تلك الأجزاء لأن الرمل مادة طاهرة مطهرة ما لم تدنس. وقد ورد مثل ذلك في الشريعة الإسرائيلية، فعلى اليهودي إذا ما استيقظ في الصباح أن يغسل وجهه وعينيه ويديه، وإذا ما أعوزه الماء جاز له التيمم أيضاً.

ويبتدي المرء بالغسل عند (الفرس) باليد اليمنى وبالنصف الأيمن من الجسم دائما. وإذا أراد لبس حذائه بدأ بالرجل اليمنى ونجد مثل هذه التعليم عند اليهود أيضا.

وتتناول الطهارة طهارة الجسم من الأدران وطهارة الملابس وطهارة الأرض أو الموضع الذي يصلي عليه المؤمن. ويجب أن يتم ذلك قبل الشروع في الصلاة وإلا عدت الصلاة شرعاً باطلة. وتختلف قواعد الطهارة طبعاً باختلاف الأديان وباختلاف وجهات نظر الشعوب. إلا أنها تتفق عموماً في أساس الفكرة وهي فساد أية صلاة إذا كان المصلي على نجاسة. ولذلك وجب على المصلي إزالة كل أثر من آثار النجاسات.

ونجد مثل ذلك في الشريعة الإسلامية، فالطهارة في الإسلام شرط مبدئي من شروط صحة

ص: 9

الصلاة. وعلى المسلم إزالة كل أثر من آثار النجاسة عليه الغسل إن كان ذلك واجباً عليه. وعادة الغسل من الجنابة عادة كانت معروفة في الجاهلية وقد أقرها الإسلام. وعليه فضلا عن ذلك أن يتوضأ قبل البدء بالصلاة - والوضوء ضرب من ضروب الطهارة - وإلا لن تصح له صلاة.

وقد نص القرآن الكريم على كيفية الوضوء والتيمم. وفصلت كتب الفقه ذلك تفصيلا. وبحثت وبحثاً مستفيضاً في الماء والغسل والنجاسات. وقد توسعت الكتب في هذا الباب وتفننت كلما تقدم المسلمون في الحضارة وأمعنوا في المدنية. وتكاد تتقارب أفكار اليهود بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة مع أفكار المسلمين تمام التقارب. على أن اليهود وإن تساهلوا فيما بعد في الشروط التي تجب في المصلى بالنسبة إلى الطهارة، وفي كثير من القيود الثقيلة التي كانت عندهم في عهودهم الأولى. غير أن كتبهم الدينية كانت قد امتلأت بهذه القيود. وفي (المشنا) وهو الكتاب الجامع لأحكام اليهود ومعظم فقههم والمفسر لكثير من قواعد التوراة وتعاليم المعلمين والذي بدأ به (هيليل - اليهودي البابلي فصول طويلة عن شرائط الطهارة في الصلاة أهملت فيما بعد وسقطت عملياً من الاستعمال سقطت هذه قبل ظهور الرسول بزمن طويل. وأغلب الظن أنها تركت بعد سقوط الهيكل بأيدي الرومان إذا تسامح اليهود منذ ذلك الحين في كثير من أحكام دينهم الصعبة. وإن كان المستشرق اليهودي المرحوم (ميتوخ) يؤكد أن يهود جزيرة العرب ويهود الحبشة ظلوا مخلصين لهذه التعاليم مطيعين لها حتى زمن ظهور الرسول وغرضه من ذلك على ما يظهر هو البرهنة على أن النبي كان قد اقتبس من تعاليم هؤلاء اليهود. وقد عرفنا رأي هذا المستشرق في الموضوع.

ويقول هذا المستشرق أيضاً (وأما الشروط التي نصت على أن الصلاة يجب ألا تقام في محل نجس، أو في محل قذر، وأن الملابس يجب أن تكون وفقاً للأحكام التي حددتها والمقاييس التي وضعتها بحيث لا يجوز جزء من الجسم الذي يعتبر في حدود العورة فإن المسلمين في هذا الباب هم كاليهود تماماً)

أمر القرآن بالوضوء وقد ورد ذلك الأمر في سورة المائدة وسورة المائدة من السور المدنية إلا الآية الثالثة فإنها نزلت بعرفات في حجة الوداع. ومعنى هذا أن الأمر بالوضوء إنما

ص: 10

كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة. أي أن الوضوء لم يكن مفروضاً بمكة؛ وهذا ما يتعارض مع الأحاديث المعروفة والأخبار الكثيرة التي تنص على أن الوضوء قد فرض مع الصلاة.

ففي كتب السير (أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ثم أنصرف جبريل. . .) وهو خبر مشهود.

ويفهم من هذا الخبر أن الأمر بالوضوء إنما كان بمكة مع الصلاة. في حين أن النص القرآني وهو نص مدني يأمر بالصلاة في المدينة بعد هجرة الرسول. وهذا يعني أن الأمر بالوضوء لم يكن قد نزل إلا بعد نزول الأمر بالصلاة بزمان. ويترتب على ذلك أن صلاة الرسول من حين أمر بالصلاة إلى حين نزول الآية كانت بغير وضوء.

وجاء في السيرة الحلبية (ومشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وأن ذلك كان يوم نزول جبريل باقرأ، وهو مخالف لقول أبن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة. ومما يرد ما قاله أبن حزم نقل أبن عبد البراتفاق أهل السير على أنه لم يصل قط إلا بوضوء)

والذي يفهم من قول صاحب السيرة أن العالم أبن حزم كان يعتقد بأن فرض الوضوء كان بالمدينة لما يعرف من أن الآية مدنية. وقد انتبه العلماء إلى ذلك. ويخيل إلى أن ذلك كان متأخراً. فحاول أكثرهم التمسك بالخبر والتوفيق بينه وبين الآية وتحايلوا في التأويل والفرضيات ليبرهنوا على أن صلاة الرسول الأولى لم تكن بغير وضوء. فقالوا (إنه لم يشرع وجوباً إلا في المدينة وإنه كان قبل ذلك مندوباً وهو قول بعض المالكية. أي أنه مكي بالفرض مدني بالتلاوة واعتمدوا في تأويلاتهم هذه على بعض الأخبار الغامضة وهي في حد ذاتها أخبار لا قيمة لها بالنظر إلى نص القرآن.

قالوا بأن (مشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك

ص: 11

كان يوم جبريل باقرأ) ثم تراهم يقولون (بأن الغسل كان واجباً عليه لكل صلاة فسخ بالحدث الأصغر تخفيفاً فصار الوضوء ثم نسخ الوضوء لكل صلاة).

وهذا ما يتعارض مع قولهم السابق بالطبع إذ يعني هذا أن النبي كان يغتسل أولا للوضوء ولما شق عليه ذلك خفف عنه بالوضوء بالنسبة للحديث الأصغر. وظل الغسل مشروعاً بالنسبة للحدث الأكبر فقط وعلى المسلمين حتى اليوم.

ومعنى هذا أيضاً أن الوضوء لم يكن مفروضاً مع الصلاة مباشرة، بل كان النبي يغتسل أولا لكل صلاة، ثم خفف ذلك عنه بالوضوء. وقد كان هذا الغسل بمثابة طهارة عامة للجسم قبل الشروع في الصلاة. وكان عرب الجاهلية يفعلون ذلك قبل الطواف بالبيت. ثم نسخ الغسل بالوضوء. والظاهر أن هذا النسخ كان بالمدينة، فأصبح النبي والمسلمون يتوضأون من حين نزول الآية بدل الغسل.

وعندما نزلت الآية كان النبي وأصحابه يتوضأون لكل صلاة وقد شق عليهم ذلك فيما بعد، فلما كان يوم الفتح صلى الرسول الصلوات الخمس بوضوء واحد (فقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال عمداً فعلته يا عمر للإشارة إلى جواز الاقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس). ثم خفف الوضوء بالتيمم عند فقدان الماء. وقد نص على ذلك القرآن الكريم. فنرى من ذلك إذاً أن الأحكام الإسلامية كانت تسير من عسر إلى يسر، ومن صعب إلى سهل، حسب مقتضيات الظروف والأحوال.

وتشبه قضية الوضوء قضية قراءة سورة الفاتحة في الصلاة. إذ الفاتحة في الصلاة ركن من أركان الصلاة على أكثر الأقوال لحديث عبادة بن الصامت (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ولحديث أبي هريرة (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج. . .) وما دامت الفاتحة ركناً من أركان الصلاة فقد وجب أن يكون نزول الفاتحة مع نزول الأمر بالصلاة في يوم واحد. والحال إن نزول السورة كان بعد ذلك بمدة.

فسورة الفاتحة مكية وقيل مدنية وقيل مكية مدنية، وعل كل فهي سورة متأخرة عن الصلاة. ولا يعقل أبداً أن تكون ركنا من أركان الصلاة قبل عهد النزول، إذا فالفاتحة ركن منذ عهد النزول. وكذلك كان الوضوء فأهمل الفقهاء ذلك والمحدثون، وتصور الناس أن ذلك كان منذ أقدم عهود الصلاة. وهنالك إشارة وردت في الإتقان هي (أن جبريل حين حولت القبلة

ص: 12

أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة ركن في الصلاة).

ونجن نعرف أن تحويل القبلة كان بالمدينة بعد الهجرة بستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً. فإذا صح قول صاحب الإتقان وجب أن يكون ذلك في المدينة وبعد الهجرة كما رأيت. ولذلك فلا عبرة لكلام من قال (لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير فاتحة). ترى من ذلك أن كثيراً ممن الأحكام المعروفة لم يفحص حتى الآن فحصاً تاريخياً. والحق (إن الإسلام كان كلما ازداد ظهوراً وتمكن في القلوب ازدادت الفرائض وتتابعت إلى أن تمت بآخر آية من آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فوق كل مرجع آخر في الإسلام.

جواد علي

ص: 13

‌القضاء في الإسلام

قطعة ثالثة من محاضرة ألقيت في دمشق ولم تنشر

للأستاذ علي الطنطاوي

ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولى القضاء سناً معينة لابد من إكمالها وامتحاناً مسلكيا. والشرع لم يشترط إلا البلوغ. ولما قلد المأمون يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنه، فكتب إليه المأمون: كم سن القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سن عتاب بن أسيد لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه

والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. ورده إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جربه النبي صلى الله عليه وسلم واختبره عمليا، معروف معلوم

والقاضي الشرعي اليوم لا يجرب ولا يدرب، كما يدرب (حاكم الصلح) إذ يعين عضواً ملازما ثم يبعث حاكما. بل إنه يستقل بالحكم من أول يوم. وهذا مما ينبغي النظر فيه. وليس يجوز أن ينفرد القاضي بالحكم حتى يتمرس به ويتمرن عليه مدة في محكمة من المحاكم، فإذا استأنس المفتي رشده ولمس مقدرته على القضاء، ورآه أهلا له، قيل له، أعل قوس المحكمة، وتوكل على الله، وكذلك في مصر يصنعون، على أن القضاء الشرعي فيها (إلا الجزئي منه) قضاء جماعة، فكيف وهو عندنا قضاء فرد، وان وظائف القاضي من قضاتنا في أنأى محاكم الجزيرة أو حوران وسلطانه كسلطان قاضي دمشق أو حلب ينظر نظره في كل دعوى، ويحكم حكمه في كل خلاف. والقضاء في مصر على درجتين يؤمن معهما الغلط، وهو عندنا على درجة واحدة، ما فوق القاضي إلا محكمة التمييز (النقض والإبرام) وهي تعني بالشكل لا بالأصل وتنقض حكم القاضي ولكنها لا تحكم في الدعوى.

هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلد أحدا شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روى عن الني صلى الله عليه وسلم أن قال: (من قلد رجلا عملا وفى رعيته من هو أولى

ص: 14

به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين).

وكان الخليفة هو الذي يقلد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولاه الخليفة وصرح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حق الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون مكن بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيي بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له أبن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولي علينا من غيرنا. قال المنصور فسمّ رجلا. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكن به صمم، ولا يصلح الأصم للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فأين لهيعة.

انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيته على بعد العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال أبن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حق المجاملة وإني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت انظروا إلى حب أهل مصر بلدهم وقديم عصبيتهم له!

ونص الحنفية على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر إذا كان يمكنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشر ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلد من أهل البغي كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!

وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا

ص: 15

ينساه، وكان أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولاها الجاهلون. . .

وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.

وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقع ويقنع بالزيت، وكان علىّ تجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمائة درهم في الشهر، وكان مرتب أبن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب أبن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجرى مثل ذلك على القاضي المفضل به فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مائة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: مالي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطي بالرديء!

وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال. فأعطوا إلى خزان بيت المال. فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتبات.

نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعف نفوسهم عن حرامه اكتفاء بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضائنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره.

ولقد كانوا على المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولى تقشف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على

ص: 16

القاضي أبن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبق خوص وكعك وماء. فقال: ابلل وكل، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!

وأي حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم. حقوق المسلمين. ابلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك:

واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً.

هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز!

ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسب أخذ بيد رفيقه فادعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين إضافة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم) فقال لبعض أصدقائه: قدني إلى القاضي فلعله يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقر. فقال: أعطيه حقه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدعي: إن رأيت أن تنظره. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلاه فأخرج دراهم فعد منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل.

قال صاحب القصة: وآليت ألا أعود لمثلها!

وكان بمصر أخوان توأمان تكهلا ولا يفرق بينهما من رآهما من قوة الشبه بينهما فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائرا له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فأحضرهما وقال: أيكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟

على أن القضاة من كان يقضي بالمجان. قال أبن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكار بن قتيبة لما هم

ص: 17

ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكارا، فطلب أن يلعنوا الموفق فأمتنع بكار فألح عليه فأصر على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.

على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته.

وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصديقين، قد بوبت في ذلك الأبواب، وصنفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن علي رضي الله عنه قاضياً فقال له: بم صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حق لك أن تقضي. ونصوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضبان.

وهذه يا أيها السادة مزلة أقدام القضاة، ولا سيما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعدم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخل من أعداء يشون به إلى أولى أمره، ويسودون ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضي عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولا تضح ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركبه الله له. ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه والحامل، والكبير

ص: 18

والصغير.

وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبير من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جربت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام.

وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق - ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويرد رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك: هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.

أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرق وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلف من الناس لذوي الإمارة، وهددوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفل بعزيمته حد سيفه. وبقى على موقفه منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. . يا أيها السادة. إن منا قضاة كانوا يبيعون الملوك!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 19

‌سجون بغداد

زمن العباسيين

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 1 -

تمهيد

ما نحسب أن أحداً من المتقدمين أو المحدثين، نبحث في السجون على التفصيل. فهذا مبحث بكر طريف؛ سنحاول فيه أن نقدم إليك صورة واضحة تبين لك سبب السجن، وتريك أنواع السجون وضروب السجنى، ثم تطوف عليهم، فنرى ما يأكلون وما يلبسون؛ وكيف يفرون ومتى يخرجون. فإذا فرغنا عقدنا فصلاً خاصاً بأدب السجون، فأسمعناك طرفاً من الشعر المشرق الذي قيل في السجن المظلم. ثم استدركنا ما فاتنا من الحوادث والأخبار المتعلق بهذا الموضوع.

أسباب السجن

يتساءل الإنسان عند البحث في هذا الموضوع، عن الأسباب التي كان الناس يساقون بها إلى السجن. أفكانوا ينهجون نهجاً أو يتبعون شريعة إذا خرج عنها واحد، عوقب بالسجن؟ الحق أنه لم يكن شيء من هذا فقد كان يكفي أن يقول الخليفة أو الأمير أو صاحب الشرطة (الحبس) حتى يودعوا من لفظت بسببه المطبق. فقد كان الحبس سلاحا في يد الخلفاء والوزراء، وقوة يكيدون بها للمتمردين والعاصين والأعداء، ويهددون مخالفيهم فيما يشتهون ويحبون.

على أننا إذا استقرينا النصوص والأخبار، نجد أسباب السجن تتلخص فيما يلي:

(ا) الوزارة سبيل السجن

ومن العجب أن نرى أن الوزارة كانت سبيلا يوصل إلى السجن في غالب الأحيان. وندر من نجا من الوزراء، ولم يسجن. وربما قتل ولم يحبس، وربما صابه الأمران معاً. فقد سجن يعقوب بن داوود وزير المهدي، وجعفر بن يحي وزير الرشيد، ويحي بن خالد وابنه

ص: 20

الفضل وسجن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق بعد أن صودرت أمواله، ونهبت دوره، وضمت إلى القواد ضياعه. وسجن أبن الخصيب وزير المستعين ونكب. كما حبس أبو الصقر وزير المعتمد، وقتل. ولم ينج محمد بن عبيد الله من السجن، فقد عزله المقتدر من الوزارة وحبسه مع ابنه.

وسبب ذلك أن الخليفة كان يستمع إلى أقوال المنافسين، ويصغي إلى مقالة الحاسدين، فيأمر بعزل وزيره وسجنه. فإذا لم يسجن، جاء خلفه فسجنه انتقاما منه، وخشية أن يشغب فيبعده عن السلطان.

(ب) مناوئو الخلافة

أما مناوئو الخلافة، والشاغبون عليها، فكان مثواهم السجن. فقد سجن عبد الملك بن صالح وقد سعي به عند الرشيد بطلب الخلافة؛ وسجن العباس بن المأمون عند ما دعا إلى نفسه، فمات في الحبس. وحبس الإفشين لما شق عصا الطاعة على الخلافة، ولم يجدوا بداً من اتهامه بالزندقة ليقتلوه.

(ج) الديون والمصادرات

وكانت الديون والمصادرات تودي بصاحبها إلى السجن. وكثار من صودرت أموالهم وأودعوا السجون، ثم أتى بهم فنوقشوا الحساب، وطلب منهم رد الأموال. حدث سليمان ابن وهب قال: (كنت أنا والعباس بن الخصيب، مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد عبد الملك في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرات فقبض عليّ وأودعت الحبس. فسمعت ليلة صوت الأقفال تفتح فلم أشك في أنه القتل وفتحت الأبواب. . . وحملني الفراشون لثقل حديدي وحملت إلى اسحق بن إبراهيم، وكان صاحب الشرطة، فإذا فيه صاحب ديوان الخوارج، وصاحب ديوان الضياع، وصاحب الزمام، وبعض الكتاب. فطرحت في آخر المجلس. فشتمني اسحق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: (يا فاعل ويا صانع تعرضني الاستبطاء أمير المؤمنين؟ أين الأموال التي جمعتها وحبست بسببها؟ فاحتججت بنكبة أبن الزيات. فقال لي صاحب ديوان الضياع: أخذت من الناس أضعاف ما أديت، وعادت يدك إلى كتبه إيتاخ فأخذت ضياع السلطان وأقطعتها لنفسك وحزتها سرقة إليك،

ص: 21

وأنت تستغلها ألفي ألف درهم، وتتزيا بزي الوزراء).

وقد ذكر التنوخي كثيراً من أحاديث هؤلاء المسجونين الديون ومصادرات فليرجع إليه.

(د) الزندقة، الشعوبية، القرامطة، الملاحدة، الرافضة:

وكان الزنادقة يقتلون طوراً ويسجنون طوراً. وربما اتخذوا الزندقة سبيلا للقتل أو السجن. وكان الزنادقة يودعون سجناً خاصاً في المطبق. ذكر أبو نواس قال: كنت أتوهم جماد عجرد إنما يرمي بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حبست في حبس الزنادقة فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرئون به في صلاتهم.

وقد سجن أبو نواس متهماً بالزندقة؛ وكان قد عرض بالأمين (صاحب التاج) وأعتقد أن تعريضه هو سبب سجنه، وأنهم جعلوا الزندقة سبباً. فقد قال:

وقد زادني تيهاً على الناس أنني

أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر

فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي

فمى عن جميع الناس حسبي من فخر

فلا يطمعن في ذاك مني طامع

ولا صاحب التاج المحجب بالقصر

فقال له الأمين وقد أتى به (أبلغ بك الأمر إلى أن تعرض فيّ في شعرك يا أبن الخنساء. . .؟) ثم اتخذوا عليه حجة أنه زنديق؛ فقد شرب ماء المطر مع الخمر، وقال: هاأنذا أشرب الملائكة، فان مع كل قطرة ملكا. . .).

ومن الطريف أن نتابع القصة: فقد ذكروا أن خال الفضل أبن الربيع كان يتعهد المحبوسين ويسأل عنهم. وكانت فيه غفلة. فدخل على أبي نواس فقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة؟ أزنديق أنت؟ فقال: معاذ الله! قال أتعبد الكبش؟ قال: ولكني آكله بصوفه! قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله، بل آكله. . . ولقد ذبحت ألف ديك لأن ديكا نقرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكا إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. فقال: وأنا أيضاً أفعل ذلك. فخرج خال الفضل إلى الفضل وقال له: ما تحسنون جوار الله! تحبسون من لا ذنب له؟ سألت رجلا في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بما جرى بينهما، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته.

وكان الشعوبيون يسجنون لتهجمهم على العرب، وقد سجن الرشيد أبا نواس لقصيدة وهجا

ص: 22

العرب بها.

وحبس فيما بعد، محمد بن هارون الوراق الملحد، ومات في السجن، وطلب ابن الراوندي الملحد لسجنه ففر.

وسجن المقتدر رجالا كثار من الدعاة إلى القرامطة والذاهبين مذهبهم، وسجن جماعة من الرافضة، كانوا يجتمعون في مسجد لسب الصحابة والخروج عن الطاعة.

(هـ) مخالفة رأي الخليفة، ادعاء النبوة

وكان مخالف رأي الخليفة أو الوزير معرضاً للسجن. وقد سجن ألوف وقتل ألوف في محنة خلق القرآن. وكان أحمد بن حنبل، الذي لم يقل بخلق القرآن، أحد من سجنوا.

وكان المتنبئون يسجنون إن لم يقتلوا. وقد كثر التنبؤ في عصر بني العباس وكان لأصحابه مع الخلفاء نوادر وأحاديث.

(و) المجوق، الفسق، الشراب

وكان المستهترون والفساق يسجنون حتى ينالهم العفو. وذكر أبن المعتز أن اسحق بن إبراهيم لما بلغه ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة أمر بحبسه. فكتب إليه أبو العبر رقعة يذكر أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه رقية العقرب فأحضره وقال: هات علمنا. فقال: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك. . .

فضحك وقال والله إنه لا يفلح أبداً.

وأمر المهدي إبراهيم الموصلي ألا يشرب ولا يتبذل ولا يغني، فغنى إبراهيم عند إخوانه وتبذل وشرب، فضربه ثلاثمائة سوط، وقيده وحبسه.

ووجد العسس أبا دلامة زيد بن جون سكران في بعض الليالي فقبضوا عليه، وأخذوه فحرقوا ثيابه وساجه وحبسوه. فلما أفاق قال أبياتاً وأرسلها إلى المنصور منها:

أمير المؤمنين فدتك نفسي

علام حبستني وخرقت ساجي

أمن صهباء صافية المزاج

كأن شعاعها ضوء السراج

وقد طبخت بنار الله حتى

لقد صارت من النُّطف النضاج

ص: 23

أقاد إلى السجون بغير جرم

كأني بعض عمال الخراج

(يتبع)

صلاح الدين المنجد

ص: 24

‌الفسطاط

كيف اختير مكانها؟ ولم سميت بهذا الاسم؟

للأستاذ جمال الدين الشيال

يستطيع القارئ لأخبار الفتح العربي لمصر أن يلمح في يسر ووضوح أن الحرب لم تكن قائمة إلا بين العرب والروم، وأن القبط قد وقفوا من الجيشين موقف المحايد، وإن كانوا في سرائرهم يتمنون النصر للعرب لما سمعوه عنهم من حسن السياسة وطيب المعاملة، ولهذا استمر الروم يدافعون عن مصر وراء حصن بابليون سبعة أشهر طوالا، والعرب يستمدون من الحماسة الدينية والإيمان قوة لا تأبه للعقبات، وصبراً لا يعرف الملل.

ولما سقط هذا الحصن في أيدي العرب زالت من طريقهم أكبر عقبة من عقبات الفتح، وتراجع الروم إلى الإسكندرية فتبعهم المسلمون وحاربوهم حتى استولوا عليها؛ وبسقوط العاصمة الرومانية في أكتوبر سنة 641م. تم فتح العرب لمصر فانتشروا في ربوعها حتى وصلوا إلى الشلال الأول، وبذلك أصبحت مصر ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية.

عمرو يريد أن يتخذ لمصر عاصمة

روى أبن الحكم عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو ابن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغاً منها، هم أن يسكنها وقال:(مساكن قد كفيناها). فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول:(هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟) قال: (نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل)، فكتب عمر إلى عمرو:(إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزل لا يحول الماء بيني وبينهم فيه شتاء ولا صيفا)

قد تبعث هذه الرواية على التساؤل: لم كان عمر يخشى الماء؟ يقول بعض المؤرخين: إن العرب لم تكن أمة بحرية، وبذلك أبى بعد النظر على عمر أن يلقي بجنود المسلمين في مكان يفصل بينه وبين المدينة ماء، حتى لا يكون هذا الماء إذا حزبهم الأمر حائلا بينهم وبين الوصول إلى مركز قوتهم، وإذا أراد الخليفة أن يبعث إلى جنده بمصر مدداً لم يكن هناك ماء يعترض سبيل هذا المدد ويمنع وصولهم.

وقد ذكر السيوطي في حسن المحاضرة أن ابن عبد الحكم قد أخرج عن يزيد بن حبيب

ص: 25

أيضاً أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد أبي وقاص وهو نازل بمدائن كسرى والى عامله بالبصرة والى عمرو بن العاص وهو نازل بالإسكندرية: (أن لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت). فتحول سعد من مدائن كسرى إلى الكوفة، وتحول صاحب البصرة من المكان الذي كان فيه، فنزل البصرة وتحول عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى الفسطاط)

من هذا نرى أن رغبة عمر في أن لا يحول بين المسلمين وبينه ماء لم تكن قاصرة على مصر، بل كان يريدها أن تتوافر في كل الأمصار التي فتحها العرب؛ ويقول فريق آخر من المؤرخين، ومنهم المستشرق الإنجليزي في كتابه إن عمر لم يكن قد رسم لنفسه بعد خطة ثابتة لتكوين إمبراطورية إسلامية واسعة، ولذلك كان يريد أن يكون على اتصال دائم بجيوشه التي خرجت للفتح، وإذ كان الطريق بين بلاد العرب والإسكندرية قابلا للانقطاع في زمن الفيضان فينقطع بذلك سبيل الاتصال بينها وبين المدينة عاصمة الخلافة فقد كتب عمر إلى عمرو يأمره أن يتخذ له حاضرة أخرى غير الإسكندرية.

ويبدو عند مقارنة هذين الرأيين - أحدهما بالآخر - أنه ليس للرأي الثاني من القوة والصحة قدر ما للرأي الأول، وذلك لأن النشاط الذي أبداه عمر منذ ولي الخلافة وإرسال الجيوش تلو الجيوش إلى الشام وفارس ومصر، كل هذا يثبت بالبرهان القاطع أن المستشرق الإنجليزي لين بول إنما قال ما قال من باب التعليل والاستنتاج العقلي فحسب.

لهذا أعرض عمرو عن الإسكندرية وولي وجهه شطر الفسطاط؛ ولنا أن نتساءل مرة أخرى: لم اختار عمرو هذا المكان دون غيره لبناء مدينة الفسطاط؟ وهنا تتشعب الآراء وتتعدد، ولكنها برغم تشعبها وتعددها لا تصل بنا إلى رأي حاسم معقول، فغالبية المصريين كابن عبد الحكم وابن دقماق والمقريزي وأبي المحاسن والسيوطي وغيرهم يروون حادث اليمامة على أنه السبب الأساسي لاختيار عمرو لهذا المكان ونزوله وجيشه بين ربوعه؛ وغالبية المؤرخين الفرنجة: كبتلر، ولين بول، وكازانوفا وغيرهم؛ لا يهتمون بمناقشة الأسباب التي دعت عمراً لاختيار هذا المكان دون غيره قدر ما يهتمون بمناقشة الآراء المختلفة في سبب تسمية هذه الحاضرة بالفسطاط.

وبرغم أتهم يستطرفون قصة اليمامة فأنهم يرجعون هذا الاسم إلى الكلمة الإغريقية (أي

ص: 26

المدينة) ويقولون بأن العرب نقلوها عن الروم الشرقيين عند اتصالهم بهم في حروب الشام.

غير أننا نحب أن نعني بالأمرين جميعا لما لكل من الأهمية، ولذلك سنحاول:

أولا - مناقشة الأسباب التي دعت لاختيار هذا المكان ليكون حاضرة المصريين بعد إتمام الفتح العربي.

ثانيا - مناقشة الأسباب التي دعت لتسمية هذا المكان بالفسطاط.

1 -

أسباب اختيار المكان:

أما عن الأمر الأول فيقول المقريزي في خططه: (اعلم أن موضع الفسطاط الذي يقال له اليوم مدينة مصر كان فضاء ومزارع فيما بين النيل والجبل الشرقي الذي يعرف بجبل المقطم ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن يعرف اليوم بعضه بقصر الشمع وبالمعلقة ينزل به شحنة المتولي على مصر من قبل القياصرة ملوك الروم عند مسيره من مدينة الإسكندرية يقيم فيه ما يشاء ثم يعود إلى دار الإمارة)

من هذا يبدو أن العرب قد أنشأو مدينتهم (الفسطاط) في الفضاء المجاور لحصن بابليون - مقر الدفاع الروماني -؛ وهنا نجد اختلافا آخر بين المؤرخين بشأن كلمة (بابليون) فالبعض يطلقها على الحصن فحسب والبعض الآخر يقول بوجود مدينة حول الحصن كانت تسمى بهذا الاسم، وزعيم الفريق الثاني هو الدكتور بتلر، وقد لخص رأيه في هذه الفقرات.

1 -

كانت تقوم في زمن الفراعنة مكان مصر القديمة (الفسطاط) مدينة ذات شأن يدل عليها وجود بعض التماثيل المصرية مثل (سرية أبي الهول) وأن بعضاً من هذه التماثيل بقي حتى زمن الخليفة الحاكم الفاطمي.

2 -

وفي القرن السادس قبل الميلاد اتخذ البابليون لهم في هذا المكان معسكراً حربياً وأنشئوا هناك حصنا على المرتفعات الصخرية التي سماها العرب فيما بعد (الرصد).

3 -

ومن هذا المعسكر انتشر اسم (بابليون) حتى شمل الإقليم المجاور وأصبح الاسم المميز لمدينة عظيمة تمتد بعيداً شمال الرصد حتى تتصل بأطراف المدينة القديمة العظيمة المنحلة وقتذاك (هليوبوليس أو عين شمس).

4 -

وعندما أراد تراجان أن يعزز قوته عند رأس الدلتا واعتزم أن يبني حصناً قوياً كقلعة

ص: 27

لبابليون، ترك حصن الفرس القائم على الرصد وأنشأ قلعته علا الشاطئ النيل وذلك ليضمن وجود الماء بالقرب من حاميته وليستطيع تلك الحامية الاتصال - بواسطة النيل - بسائر وجهات القطر المصري وسمي هذا الحصن بحصن بابليون (أي حصن مدينة بابليون) أو قلعة مصر ? وقد حرف العرب هذا الاسم فيما بعد فسموه قصر الشمع.

5 -

وبذلك هجر حصن الرصد الفارسي واستولت عليه عوامل الانحلال والنسيان، حتى إذا كان الفتح العربي بعد ذلك بخمسة قرون ونصف قرن كانت الأخبار عن وجوده عامة لا تكاد تذكر.

6 -

أن اسم بابليون الذي وجده العرب عند قدومهم يطلق على مدينة مصر قد تلاشى بمرور الزمن وحل مكانه الاسم العربي الجديد (الفسطاط) حتى إذا ابتدأ مؤرخو العرب يدونون كتبهم كان اسم (بابليون) قد أصبح يطلق على قصر الشمع فحسب بعد أن انتزع من المدينة التي أصبحت بعد اتساعها ونموها تسمى بالفسطاط.

7 -

ولكن هذا الاستعمال المحدود للاسم ابتدأ كذلك يتلاشى في مصر في الأزمنة الحديثة وغادر الاسم لأنقاض الباقية من قصر الشمع؛ وتضاءل حتى غدا يطلق على دير قبطي صغير يقع عند البوابة الجنوبية من الحصن ويسمى (دير بابليون) وعند ذلك الدير الصغير استقر ذلك الاسم التاريخي القديم بعد أن خلفه في تسمية المدينة (لفظ الفسطاط) وبعد أن خلفه في تسمية الحصن لفظ (قصر الشمع).

ونحن لا يهمنا من هذا التحليل كله لتطور استعمال كلمة بابليون إلا أن نعرف أن المكان الذي أنشئت عليه الفسطاط كانت تشغله منذ أيام الفراعنة مدينة كبيرة ذات شأن؛ اتخذها البابليون مكاناً لاستقرارهم ثم اتخذها الرومان مقراً لدفاعهم يصلون به الوجهين البحري والقبلي ويدفعون منه كل مغير على مصر.

وهذا ما يؤيد الرأي الذي نريد أن نذهب إليه من أنه كان في مصر وقت الفتح مدينتان هامتان: إحداهما الإسكندرية وتعتبر العاصمة الأولى وذلك لقربها من الدولة الرومانية الشرقية صاحبة السيادة وقتذاك، ولإشرافها على البحر الأبيض المتوسط، وبابليون أو (مصر) وتعتبر العاصمة الثانية وذلك لموضعها من رأس الدلتا بحيث تشرف على الوجهين القبلي والبحري، ولوقوعها على الشاطئ النيل بحيث تكون سهلة الاتصال - بواسطة هذا

ص: 28

النهر - بكل أطراف القطر المصري، ولتوسطها بين النيل غربا (وهو مورد من الماء لا ينفذ) وبين جبل المقطم شرقا - وهو حد طبيعي لحمايتها -؛ ولهذا نلاحظ أن المصريين منذ القدم كانوا يختارون هذا المكان مقراً لحكمهم للأسباب المتقدم ذكرها فاتخذوا منف عاصمة لهم مدة ليست بالقليلة، وكانت هليوبوليس (عين الشمس) كذلك حاضرة لمصر مدة طويلة، وبابليون كما ترى تقع بين المدينتين

ويؤيد هذا الرأي القائل بوجود هذه المدينة أيضاً قول المقريزي:

(وكان بجوار هذا الحصن (بابليون) من بحرية وهي الجهة الشمالية أشجار وكروم وصار موضعها الجامع العتيق، وفيما بين الحصن والجبل عدة كنائس وديارات للنصارى في الموضع الذي يعرف اليوم براشدة، وبجانب الحصن فيما بين الكروم التي بجانبه وبين الجرف الذي يعرف اليوم بجبل يشكر حيث جامع أبن طولون والكبش عدة كنائس وديارات للنصارى في الموضع الذي كان يعرف في أوائل الإسلام بالحمراء)؛ وقول ابن سعيد في كتبه المغرب:(وأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني عين شمس، وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن) لأننا نعرف أن المعابد عامة - من هياكل وبيع وكنائس وأديرة ومساجد - منذ أقدم العصور إلى اليوم لا تبنى إلا في المدن أو الأماكن الآهلة بالسكان؛ فوجود هذه الكنائس والديارات في الأماكن التي يذكرها المقريزي يثبت إثباتا قاطعا وجود مساكن آهلة ومبان عامرة في هذه المدينة القديمة وقت الفتح؛ وقول ابن سعيد لا يحتاج إلى هذا الاستنتاج إذ يقول في عبارة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام (وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن).

من هذا كله نرى أن اختيار عمرو لهذا المكان لم يقع اعتباطاً، بل كان اختياراً طبيعياً؛ كان عمرو يريد أن يتخذ له حاضرة يستقر فيها غير أنه ما كان يريد أن يبذل جهداً جديداً في إنشاء هذه الحاضرة بدليل رغبته في اتخاذ الإسكندرية حاضرة، وبدليل تعبيره عن هذه الرغبة بقوله:(مساكن قد كفيناها)؛ ولكن عمر قد أمره أن يتحول عن الإسكندرية، فكان لزاماً على عمرو أن يحول وجهه شطر العاصمة الثانية وقتذاك وهي (بابليون) أو (مصر) فذهب إليها واتخذ الفضاء المجاور لها مقراً له ولجنوده.

هذه هي الأسباب الطبيعية التي دعت عمراً لاختيار هذا المكان غفل عن ذكراها مؤرخو

ص: 29

العرب، ولم يعرها اهتماماً مؤرخو الفرنج.

1 -

لم سميت المدينة بهذا الاسم

أما عن الأمر الثاني وهو الأسباب التي دعت لتسمية هذا المكان بالفسطاط فان الآراء فيها وإن اختلفت وتشعبت فإنها كذلك لا تصل بنا إلى حد حاسم معقول.

آما مؤرخو العرب فيعتمدون جميعاً على قصة اليمامة، وأما مؤرخو الفرنجة فتقول غالبيتهم بأن كلمة الفسطاط قد أخذت عن الكلمة الإغريقية أي المدينة وإن العرب نقولها عن اليونان عند اتصالهم بهم في حروب الشام. غير أنا نرى أن قصة اليمامة مع طرافتها قد تبتعد عن الصحة وذلك لأنهم يقولون أن عمراً قد أوصى أحد المصريين في رواية، أو صاحب القصر في رواية أخرى بالمحافظة على الخيمة (الفسطاط) حتى تفرخ اليمامة وتطير صغارها، وأنه عند رجوعه وجد الفسطاط في مكانه فنزل هو وجنده بجواره؛ ونحن نشك في صحة هذا الخبر لان عمرا ولو أنه كان قد استولى على حصن بابليون فإن مصر لم تكن قد خضعت كلها لأمره، ولذلك لا يعقل أن ذلك الرجل المكلف بالمحافظة على الفسطاط يبقى على عهده ويحافظ على وعده مع رجل فاتح لم يثق بعد انه أصبح الحاكم على مصر حتى يخشاه على حراسة فسطاطه من أجل يمامة طول ذلك الوقت التي أستنفذه عمرو في فتح الإسكندرية وما بين بابليون والإسكندرية من مدن

ويدفعنا أيضاً إلى الشك في صحة هذه القصة ما هو معروف مشهود عن الطيور المختلفة وخاصة الحمام واليمام من أنها تتخير لأعشاشها وبيضها وفراخها الأماكن المنعزلة المهجورة البعيدة على أن يطرقها أو تنالها الأيدي صوناً للأعشاش وحفظاً للبيض وإبقاء على الصغار.

فهل من المعقول إذن أن تترك هذه اليمامة العمرية تلك الأماكن الآمنة لتضع بيضها في معسكر دائم النشاط دائب الحركة وفي خيمة القائد وهي أنشط أماكن المعسكر بالحركة وأعمرها بالوافدين؟

وإذا كانت هذه القصة صحيحة ففي أي مكان من الخيمة تبني اليمامة عشها؟ والخيمة كما نعرفها جميعاً مصنوعة من قماش أملس وهي منحدرة الجوانب إذا نصبت.

كل هذا يؤيد شكنا في صحة هذه القصة وكونها أصلا للتسمية أما الرأي الثاني فيبدو كذلك

ص: 30

بعيداً عن الصحة وذلك لأن ابن قتيبة يروى في كتابه غريب الحديث حديثاً للرسول نصه: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة)؛ ونحن إزاء هذا نجد أنفسنا أمام احتمالين: إما أن يكون الحديث صحيحاً فيبطل الرأي القائل بأن العرب أخذوا كلمة الفسطاط عن الروم عند اتصالهم بهم في حروب الشام لان حروب الشام واتصال العرب بالروم كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي بعد ذكره لهذا الحديث؛ وأما أن يكون الحديث غير صحيح وبذلك يحتمل أن يكون رأي مؤرخي الفرنجة صحيح.

غير أنا نحب أن ندلي برأي يخالف هذين الرأيين وقد يكون أقرب منهما إلى الحقيقة: وذلك إن كلمة الفسطاط كلمة عربية معناها المدينة، فأننا إذا رجعنا إلى قاموس المحيط وجدنا أن (الفسطاط) بالضم (مجتمع أهل الكورة) ووجدنا أن الكورة هي (الصقع أو المدينة) وبذلك تكون الفسطاط هي مجتمع أهل المدينة.

ويقول ابن قتيبة تعقيبا على الحديث السالف الذكر (والفسطاط المدينة). وينقل عنه المقريزي أيضاً في الخطط ما يلي: (قال ابن قتيبة كل مدينة فسطاط)، ويقول المقريزي بعد هذا:(وأخبرني أبو حاتم الأصمعي أنه قال حدثني رجل من بني تميم، قال قرأت في كتاب رجل من قريش: هذا ما أشترى فلان بن فلان من عجلان مولى زياد اشترى من خمسمائة جريب حيال الفسطاط يريد البصرة) ويشبه هذا الرواية الأخيرة ويؤيدها قول ابن الفقيه: (وإنما سميت البصرة فسطاطا على التشبيه بفسطاط مصر)، وقريب من هذا المعنى قول المقدسي: الفسطاط هو مصر في كل قول)

فالراجح عقلا بعد ذكر هذه الآراء جميعاً أن كلمة (فسطاط) كلمة عربية خالصة معناها (المدينة).

وخلاصة القول الذي نريد أن نذهب إليه أن العرب اختاروا هذا المكان اختياراً للأسباب السابق ذكرها وأنهم سموه (الفسطاط) أي (المدينة) أو (مجتمع أهل المدينة) يقصدون بذلك المكان الذي يجتمعون حول جامعهم وحول منزل قائدهم.

جمال الدين الشيال

-

ص: 31

‌عرب السودان

والصحراء الشرقية

للأستاذ حسن أحمد حسين خليفة

كتب جماعة من المستشرقين وبعض الكتاب كتابة خاطئة عن أنساب بعض عربا السودان والصحراء الشرقية، فجاء في محاضرة دخول العرب للسودان التي ألقيت في الجمعية الجغرافية الأسيوية منذ سنوات قليلة ما ملخصه:(إن معظم سكان الجزء الشمالي من السودان على ضفاف النيل يدعون أن نسبهم يتصل ببني العباس، غير أن هذا ملخص ادعاء لم تثبت حقيقته بعد)

وزعم نعوم بك شقير صاحب كتاب (تاريخ السودان): (إن انتساب عرب السودان للأصول التي ينتمون إليها، لا ثبت له عندهم إلا ما حفظوه أو لفقوه من القصص الخرافية).

ونسب المستشرق شوينفرث في كتابه (طرق مصر المهجورة) العبابدة والشكرية وغيرهم من قبائل الصحراء الشرقية للبجة؛ وقال: (إن العبابدة تعربت كثيراً والشكرية تعربت)

ونسب البستاني صاحب دائرة المعارف، والمستشرق بروس العبابدة للبجة، وزاد نعوم بك شقير على ذلك بقوله: إن في تقاليد العبابدة انهم قوم الزبير بن العوام، ولعل قوم الزبير بن اختلطوا بهم فكانوا رؤوسهم. وإلى هنا نكتفي بهذا القدر من مزاعمهم ونرد عليها: بأن من الثابت في التاريخ أن فريقاً من بني العباس هاجروا من الديار المصرية إلى السودان في القرن الثامن الميلادي

وإذا كان من صفات عرب شمال وشرق السودان والصحراء الشرقية تلفيق الانساب، فأن فيهم الجباب من نسل أبي لهب واليزيديين من نسل اليزيد، فكان أحرى بهؤلاء أن يلفقوا لهم نسباً غير نسبهم.

أما تلك القبائل التي نسبوها للبجة، فهي قبائل عربية صميمة فالعبابدة في الأصل فرع من الكواهلة بني محمد الكاهل بن عبد الله المكنى بأبي بكر بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي. ويحدثنا الرحالة ابن بطوطة في كتابه (تحفة النظار وعجائب الأمصار) أنه رأى في نحو سنة 757 هـ حياً من العرب بصحراء عيذاب (عتباي) على بعد يومين من رأس دواير يعرفون بأولاد كاهل مختلطين بالبجاة عارفين بلسانهم اهـ

ص: 32

وإن كاهلا الذي أشار إليه إن بطوطة هو محمد الملقب بكاهل الذي يرجع إليه العبابدة وقبائل أخرى في نسبهم.

وجاء في كتاب (صبح الأعشى) للقلشندي، و (البيان والإعراب) للمقريزي من مؤرخي القرن التاسع الهجري ما ملخصه:(إن السيدة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب التي أمها السيدة أم كلثوم بنت السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب هي أم يحيى وأبي بكر بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام وأم إبراهيم بن طلحة الجود، وإن السيدة زينب ولدت لعبد الله جعفر أولاداً عرفوا بالزبانية هم جعافرة الصعيد، ومن هذه الاخوة كانت بنو طلحة وبنو الزبير والجعافرة يداً واحدة في صعيد مصر). وهاأنت ترى اليوم في القرن الرابع عشر الهجري العبابدة بني عبد الله المكنى بأبي بكر الزبيري يقيم أكثرهم مع الجعافرة في صعيد مصر بمديريتي أسوان وقنا، ومختلطين معهم جميع سبل الحياة كما كانوا في القرن التاسع الهجري

أما ذلك الحي من أولاد كاهل الذي رآه ابن بطوطة في رحلته بالصحراء الشرقية، فيلوح لنا أنه رحل من صعيد مصر إلى تلك الصحراء عند تفرق العرب عقب حوادث سنة 651 هـ التي حصلت بين حصن الدولة الجعفري زعيم العرب بالقطر المصري، والملك المعز ايبك أول ملوك دولة المماليك البحرية كما تراه مفصلا في كتاب السلوك للمقريزي

ورب قائل يقول: إن بعض مؤرخي القرن التاسع الهجري بينوا في مؤلفاتهم أسماء القبائل العربية وأماكنها بالديار المصرية في عصرهم ولم يذكروا العبابدة. فجوابنا على ذلك هو أنهم لم يشتهروا باسمهم الحالي إذ ذاك؛ وقد اشتهروا به في القرون الأخيرة كما اشتهر في القطر المصري والسودان وغيرهما من الأقطار عدة قبائل عربية بأسماء غير التي كانت تعرف بها أصولها في القرن التاسع الهجري وما قبله من القرون، ومن المعلوم أنه كلما مر الزمن كثرت القبائل وتعددت أسماؤها

والشكرية عرب من خيار العرب، وهم من آل شكر بن إدريس، ويتصل نسبهم بالسيد عبد الله الجواد، كما جاء في نسبة خطية منسوبة للإمام السمرقندي

ومن المعلوم أن كثيراً من العرب الذي ينتمون إلى تلك الأصول التي ينتمي إليها عرب السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة أتوا إلى القطر المصري عند الفتح الإسلامي

ص: 33

وفيما بعده من العصور، وإن الكثير من هاجر إلى الصحراء الشرقية وبلاد النوبة والسودان، وخصوصاً في زمن حكم المماليك الذين أذلوا العرب واضطهدوهم في الديار المصرية

وإن عرب السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة يحفظون أنسابهم التي توارثوها عن أسلافهم. وقد جاء في القول المأثور: (إن الناس مصدقون في أنسابهم). وهذا ثبت كاف لهم، وعلاوة على ذلك فإنهم يتكلمون باللغة العربية إلا بعض قبائل في الصحراء الشرقية، وبلاد النوبة تعد على أصابع اليد، اتخذت البجاوية أو النوبية لغة لها بحكم البيئة التي وجدت فيها

ومما نأسف له أن بعض كتاب مصر النابهين ممن ظهروا أخيراً وهم أحق بعرفة السودان وساكنيه من أولئك المستشرقين وغيرهم كتبوا عن أنساب قبائل السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة متأثرين بأقوال المستشرقين والسوريين الخاطئة، لا كتابة من يعرف سكان تلك الجهات معرفة درس وتمحيص أعمق وأصح من الأساطير والمعلومات المتناثرة التي وضعها المستشرقون وكتاب سوريا، وهي أقوال لا تستند إلى أي ثبت وإقامة تلك القبائل في إقليم كان يسكنه في القرون السحيقة أقوام ليسوا من العرب، وإليك نبذاً من أقوال بعض كتاب مصر في هذا الموضوع:

قال علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية: (يظن أن عرب العبابدة من البجة). وقال الأستاذ البتنوني في كتاب (الرحلة الحجازية ما ملخصه: (يقال إن البهجة من عرب البربر ومنهم العشابات، وهم فخذ من العبابدة، ويقيم أناس من العشاباب في اللقيطة بين قفط والقصير). وقال الدكتور مأمون عبد السلام في مقالة نشرتها له جريدة الأهرام في سنة 1939م ما ملخصه: (إن جغرافيي العرب وصفوا الصحراء الشرقية وتكلموا عن سكانها من البجاة، وهم البشاريون وأقرباؤهم العبابدة، فذكرهم المسعودي وابن الأثير والمقريزي) اهـ

وأقوالهم هذه لا صحة لها، فالظن ليس حجة، وإن عبابدة عرب البربر هم فخذ من قبيلة هواره، وقد ذكرهم القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى)، ويقيمون في الوجه البحري بالديار المصرية، ولا تربطهم أي صلة نسب بالعبابدة بني الزبير ممن يقيمون بصعيد مصر

ص: 34

والصحراء الشرقية والسودان. وإن جغرافيي العرب الذين أشار إليهم الدكتور مأمون عبد السلام لم يذكروا البشاريين والعبابدة بين قبائل البجة التي وضحوها في مؤلفاتهم التي اطلعنا عليها

ومما لا شك فيه أن هناك من تعرب من سكان السودان والصحراء الشرقية وبلاد النوبة القدماء، واندمج اندماجاً كلياً في العرب، وأنه تجرى في عرب هذه الجهات حفنة من دم غير عربي، لأنه من عادة العرب أن يتزوجوا من أهل البلاد التي يحلون فيها ويتسرون، وهذا لا يؤثر في عروبتهم، لأنه من عاداتهم أيضاً أن لا يزوجوا بناتهم لغير بني جلدتهم، مع أن سكان الأقطار الأخرى لا يتمسكون بهذه العادة، وليس عرب السودان وحدهم الذين تجري في عروقهم حفنة من دم أجنبي، فإن عرب الأقطار الأخرى هم بالمثل تجرى في عروقهم دماء غير عربية، وقل أن يوجد الآن على وجه الأرض أمة لم تختلط أصولها، إذ لا جدال في أن شعوباً غير عربية وجدت أو مرت بسوريا وفلسطين والعراق واليمن ووادي النيل في القرون الخالية، ولكن بمرور الزمن صهرت بقاياهم في بوتقة العروبة، وذابت في الأمة العربية الحديثة، وهذا لا يضيرهم في عروبتهم، فإن كل من كان لسانه عربياً فهو عربي وقد منح الإسلام الجنسية العربية لكل من تكلم بالعربية، فقد روى الحافظ ابن عساكر قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي فقال: الأوس والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل (يعني أنهم نصروا النبي لأنهم قومه) فما بال هذا وهذا؟. . . فسمع النبي صلى الله عليه وسلم بمقالته، فقام مغضباً يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي الصلاة جامعة (فاجتمع الناس). وقال محمد صلى الله عليه وسلم:(يا أيها الناس، إن الرب واحد، والدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية، فهو عربي)

أما قبائل البجة التي ذكرها جغرافيو العرب كالمسعودي والمقريزي وغيرهم فهي:

البازة والباريه والخاسه والحدارب والزنافج.

وإن منطقتهم كانت تمتد قديماً في شرق أفريقيا من صحراء قوص بالقطر المصري إلى بلاد الحبشة، وعاصمتهم كانت مدينة هجر، وفي وقتنا الحاضر يقيمون في القسم الجنوبي من تلك المنطقة

ص: 35

ومما جمعناه من المعلومات الصحيحة في مدة إقامتنا عدة سنوات بالسودان الشرقي وجبال بني عامر، إنه لما كثر العرب من بني الزبير بن العوام بصحراء مصر الشرقية في القرون المتأخرة وقويت شوكتهم وكثرت أنعامهم، ضايقوا البجة في أماكنهم بتلك الصحراء بسبب شح الأمطار وقلة المراعي التي لا تكفي هناك لسائمتهم جميعاً، فاضطرت البجة تحت ضغطهم للرحيل إلى الجنوب شيئاً فشيئاً، وأقامت في الجبال التي حول سواكن، وبعد ذلك حاربها الهدندوة وقتل رئيسها أحمد باركوين: شكتيل ملك البجة، وهو من قبيلة بلى العربية، إذ كانت رئاسة البجة لبلى وتمسيهم البجة بلويب، ويقال لهم حدارب، وإن وجود بلى في الصحراء الشرقية يرجع إلى زمن بعيد، فإن التاريخ يحدثنا أن قبيلة بلى كانت تقيم في شمال منطقة البجة على عهد ظهور النصرانية بالقطر المصري، حيث يقيم الآن بعض عرب العبابدة، وتدل القرائن التاريخية أن بلى هي أول قبيلة عربية خالطت البجة، لأنك إذا سألت البجاوي: هل تعرف العربية أجابك (بلويه كاكا) أي لا أعرف لغة بلى، وكان الحدارب يتولون التجارة بين السودان الشرقي والحجاز واليمن، فزاحمتهم قبيلة الارتيقة في التجارة ورئاسة القوافل، وانتزعتهما منهم في الخمسة قرون الأخيرة، وأصبح اسم حربي خاصاً بالارتيقة.

ولما قتل شكتيل ملك البجة المار ذكره دفن في شمالي مدينة سنكات بالجبل المسمى باسمه، وعلى أثر ذلك رحلت البجة من الجبال التي حول سواكن، وأقامت مع بقية البجة في المنطقة من عند مدينة طوكر شرقاً، حتى قرية الشيخ الإمام بديار الحبشة غرباً. وجبل هجر ونهر عنصبا (عين سباً) بارتريا جنوباً. وشمالا بخور بركه الذي يروي أراضي طوكر

وإن قبائل البجة التي تقيم الآن في السودان المصري الإنجليزي هي:

اللبت والكربكناب والسنكاتكنات، وفريق من الخاسه ويتبعون في وقتنا الحاضر لنظارة بني عامر. ويوجد من بقايا البجة أقليات في قبائل عرب البشاريين والأمرار والهدندوة والحباب، وهم معروفون لتلك القبائل.

ويتكلم عرب البشاريين والأمرآر والهدندوة والحلنقة بلغة البجة بتأثير البيئة، لأنه لم نزل في إقليم البجة العرب الذين تكونت منهم تلك القبائل، اضطرت بحكم الجوار والإقامة بين

ص: 36

البجة لمخالطتها في جميع سبل الحياة، وزد على ذلك أنهم كانوا يتزوجون من البجة فينشأ أولادهم وبناتهم على لغة أمهاتهم، فتغلبت البجاوية مع مرور الزمن على العربية كما تغلبت اللغة النوبية على العرب والترك الذين أقاموا بجهات دنقلة وشمالها. وتتكلم قبيلتي بني عامر والحباب بلغة يسمونها الخاساوية، وهي خليط من لغة التفري الحبشية واللغة العربية. ولم يبق لهذه القبائل العربية الأصل ما تختلف فيه عن قبائل البجة إلا العادات، ولذلك يحسبهم بعض المستشرقين والكتاب بجاة لتكلمهم بلغة البجة وإقامتهم في إقليمهم. وهذا خطا لا ينتبه إليه إلا من يتصل بهم ويجتمع بمن له معرفة منهم بحوادث قبيلته التاريخية ولا تخلو قبيلة من هؤلاء

ولا يفوتنا أننا لم ندل بمعلوماتنا هذه إلا إظهاراً للحقيقة، فالناس كلهم سواء، وإن التفضيل بينهم بالفضل والتقديم بالفعل:

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

(بربر بالسودان)

حسين أحمد حسين خليفة العبادي

ص: 37

‌هذا العالم المتغير

كثرة الأكل قد تسبب السرطان

للأستاذ فوزي الشتوي

منذ 3000 عام

يفتك مرض السرطان بستين في المائة من ضحاياه في أرقى الأمم التي بعلاجه ودراسته. أما في مصر فلا يعرف عدد المصابين إلا الله. فإن لم يكن الطبيب على شيء من البراعة فربما اعتبره نوعاً من الأورام. تستطيع أن تتعقب المرض إلى 3000 سنة، ومع ذلك فما يقال عنه من الفروض والتخمينات، برغم ما يبذل من المال لدراسته، وبرغم الإخصائيين الذين وقفوا حياتهم وخبرتهم لكشف سره

فإن أردت أن تعرف مدى سبر غور العلم لطلاسمه، فلست أجد أوفق مما كتب الدكتور هارولد رش مدير معهد أبحاث السرطان في إحدى كليات الطب بأمريكا حين قال:(ليس لدينا علاج محقق للسرطان. وليس في جعبتنا واحد يفكر في تنفيذه وإن كنا نتوق إلى ما يضئ لنا الطريق، وكل عملنا يتجه إلى دراسة المظاهر الأساسية والعوامل التي يحتمل أن تغير مجراه)

(ومع هذا فقد ظفر بتقدم واسع شامل، فعرفنا عدة وسائل لإحداث السرطان في المعمل في أي وقت نشاء، وعرفنا أيضاً بعض التحولات التي تطرأ على أنسجة الجسم العادية حين تصاب بالسرطان)

يبدأ كرأس الدبوس

وليس معنى هذا أن الطب يقف أمامه مكتوف اليدين، فأربعين في المائة من مرضاه تعالج بالعمليات الجراحية وبأشعة إكس وبالراديوم وبغير هذه العلاجات يقضي بالموت على كل المصابين به، فهو ذلك المرض الغريب الذي يبدأ بورم صغير كرأس الدبوس، ثم ينمو ويتشعب وينتشر حتى يفسد الجسم كله؛ ويتفق الأطباء والجراحون على أنه كلما بكر المريض بعلاجه كان النجاح أكثر ضماناً

أما سر التبكير فيرجع غالباً إلى طبيعة المرض الذي يتكون من خلايا حية تختلف عن

ص: 38

الخلايا العادية في أنها حرة طليقة لا يحد من نموها أي ضغط. وعندما توجد خلية سرطان في جسم الإنسان أو الحيوان فإنها تنقسم وتتوالد في سرعة فائقة لا تحدها أية عقبة. فإن كثر عدد الخلايا وكبر حجمها انقسمت وسبحت شظاياها في جسم العائل لتكون كل منها مستعمرتها الخاصة، وعندئذ يتعذر على الطبيب إجراء العلاج

فما هي الخلية السرطانية؟

سؤال يعز على العلم الجواب عنه، وكل ما يقول إنها أصغر من أن يراها المجهر. ويواصل العلم جهوده ليعرف هذه النكبة التي لا يراها المجهر، وليدرك كيف تتكون في الجسم

وتنقسم دراسة السرطان في إحدى الهيئات التي وقفت جهودها ومالها على إزاحة الغطاء عنه إلى ثلاث شعب:

أولا: تأثير الغذاء على السرطان في نموه أو عرقلته

وثانيا: تأثير التهيج المزمن على تكوين السرطان

ثالثا: خواص الخلية السرطانية

وفي عام 1940 بدأ العلماء يدرسون الصلة بين التغذية وتكوين الخلايا السرطانية على الفيران، فلاحظوا ظهور أورامها في حالات كثيرة في الفيران التي يحتوي غذاؤها على نسبة كبيرة من الدهن

ولكي يحددوا بالضبط تأثير التغذية على قابلية الفيران للإصابة بالمرض أحضر العلماء بضع مئات من الفيران وقسموها إلى فريقين فيعطي الفريق الأول غذاء يولد نسبة مرتفعة من الوحدات الحرارية (يتحول كل غذاء يتناوله الكائن الحي إلى وحدات حرارية هي في الواقع الوقود الذي يسير أجهزته تختلف القيمة الحرارية باختلاف ألوان الطعام)

حذار التهم:

ويعطي الفريق الثاني وجبات غذائية مماثلة لوجبات النوع الأول، ولكن كميتها الحرارية تبلغ ثلثي وجبات الفريق الأول. وكان الفريقان يعرضان للأشعة فوق البنفسجية للإسراع في تكوين الخلايا السرطانية وتحديد مؤثراتها

ص: 39

وبعد تسعة شهور من التجارب أجري الكشف الطبي على الفيران، فوجدت الأورام السرطانية منتشرة في الفريق الأول بنسبة 86 % ووجدت في الفريق الثاني بنسبة 7 % فقط

ويقول الدكتور روش إن هذه النتيجة تتفق مع أبحاث الهيئات الأخرى، إذ ظهرت الإصابات السرطانية في صدر الفيران التي تتغذى بكميات مطلقة بنسبة 67 %، ولكنها لم تظهر بتاتاً في الفيران المحدودة الوحدات الحرارية في الغذاء.

ويعلل هذه النتيجة بقوله: (عندما يحتفظ الجسم بمستوى مرتفع من الغذاء، فإنه يتيح الفرصة للخلايا السرطانية الكامنة لكي تظهر وتنمو، بخلاف حالات قلة الغذاء التي تعد غير مناسبة لبدء حالة التورم السرطاني ولا تعطيها الفرصة لكي تبدأ عملها، وبمجرد ظهور الخلايا السرطانية وبدئها عملها، فإن قلة الغذاء أو كثرته عديمة القيمة ولا تحد من نشاطها وتكاثرها). ولا يدل نجاح هذه التجارب على الفيران أنها ستؤدي إلى ذات النتيجة في الإنسان، ولكن الدكتور روش يرى ما يؤيد هذه النظرية في ارتفاع نسبة إصابة الإنسان بالسرطان في المناطق الوافرة التغذية وبين الأشخاص الثقيلي الوزن والأكولين

تأثير الفيتامينات

وتجري الآن التجارب لمعرفة تأثير الفيتامينات من حيث القلة والكثرة على الخلايا السرطانية. كما يجرون تجارب التهيج المزمن، ويفحصون تأثيره على ظهور عوارض هذا المرض. والمعروف أنه توجد علاقة بين تكوين الخلايا السرطانية وبين التهيج

ودلت التجارب الأخيرة على أن التهيج لا يؤدي إلى إحداث السرطان إلا إذا حدث في المناطق التي تحتوي على خلايا سرطانية كامنة

ويفهم من التجارب التي أجريت على السرطان أن عدة عوامل متباينة تلعب دورها في نشوئه، فالتهم وحده لا يسببه، ولكن هناك أفراد لديهم استعداد للإصابة به. وهو كامن فيهم سواء بالوراثة أو بعوامل أخرى لا تزال مجهولة، والإكثار من الأكل عند أولئك الناس يعطي المرض فرصة الظهور

تثبيت المرض

ص: 40

والخلاصة التي وصل إليها الباحثون في لكشف عن أسرار هذا المرض الخبيث أنه يحتاج إلى عدة عوامل متباينة متآزرة، تعمل كلها في وقت واحد، فالنهم يجب أن يصحبه الاستعداد للمرض. والتهيج يجب أن يحدث في أجزاء بها خلايا كامنة، وبغير هذا التعقيد فإن هذا المرض كان جديراً بأن يبيد العالم كله منذ زمن بعيد.

ونجح العلماء أيضاً في الوصول إلى علاج لسرطان الجلد، إذ وفق الدكتور موهز إلى ربط العلاج الكيميائي بالجراحة، فأمكنه أن يثبت المرض في بقعته فلا يزوغ من بين الجراح عندما يحاول إزالته بمشرطه كما هي العادة، فالسرطان من الأمراض التي يعز على الأطباء حصرها لكثرة حركته

وخير نصيحة يوجهها الدكتور روش إلى الناس ليتقوا هذا المرض الخبيث المجهول الأصل والنشأة: (أن نكون سليمي البنية، نقتصر على طعامنا الضروري، مبتعدين عن التهيج، على لأن لا ننسى فحص أجسامنا فحصاً تاماً في كل فترة

فوزي الشتوي

ص: 41

‌حلم قديم.

. .

للأستاذ سيد قطب

طاف بي مستطلعاً حلمي القديم

فتطلعت إليه في وجوم

قلت: من أنت؛ فأغضي خجلا

قال لي: حلمك في العهد الوسيم!

قلت: يا حلمُ. متى عهديَ ذاك؟

منذُ كَم يا حلمُ قد طافت رؤاك

قال: لم يبعُدْ بأطيافي المدى

قلت: ما أبعد ما مرَّت خطاك

شَدَّ يا حلميَ ما قد حالَ حسّي؟

شد يا حلميَ ما أنكرت نفسي!

أترَى ذاك الذي تعرفه؟

قال: ما تبصر عيني غير رمس!

ومضى عني في يأسٍ عقيم

سادرَ الخطوة في الأرض يهيم

قلت: يا حلميَ تمضي مفرداً

ليس الرَّمِس سوى قلب رميم!

ص: 42

‌أطياف.

. .!

للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي

(لا تفتأ هذه الأطياف تخادع أوهام الشاعر فترده إلى الماضي

البعيد يحلم؛ ويأمل؟. . ولكن هيهات؟؟)

حالمٌ بالمنى؛ تُراهُ يُفيقُ

وَيحه لَفَّهُ سُباتٌ عميق؟!

غفوةُ الحلم، يقظة الأمس وليَّ

موعداً يُرتجى، وذكرى تشوق

طالَ في ظلمة من الشكِّ نومي

فمتى يمسحُ الظلامَ الشروق

أشرقي تُشرق الحياة، وتصفو

من دُجاها ويستبينُ الطريق

أنا أشتاق ومض عينيك تسرى

في دمي صَيْحةٌ لهُ وخُفُوق

أين همسُ الجفون وهي غوافٍ

طالَمَا هزَّني بهنَّ بَريق؟

أين مِني الحديثُ نجوى شفاهٍ

تَتَلظَّى كما تلظَّي الحريق؟

أين مني التِفَاتةٌ، من معاني العُجْ

ب فيها، معنى كريم عريق!

أين مني أنثناءةٌ تبهر الع

ين؛ وفي الغُصْن سرُّها مرموق

أين أيامُكِ التي قد تولَّتْ

بِمعَانٍ من الحَياةِ تروق؟

لا تظُنِّي الأيامَ تمضي بعهدي

ستطولُ الأيامُ، وهو وثيق

كلما مرَّت اللَّيالي عليه

كانَ كالخمر زانها التعتيق

أشرقي تُشرق الحياةُ، وتصفو

من دُجاها؛ ويستبين الطريق

فَرَغَتْ كأسِي التي ملأتها

فرحة الأمس هل لديك رحيق؟!

بين عيْنيْكِ خمرتي؛ فأطِّلي

أين مني صبوحُها والغُبوق

ذبلتْ جنتي، وأضحَتْ صحاري

غاضَ نَبْعِي بها وجفَّ الوريق

فاخْطُري بينها ترفُّ زُهوراً

في رُباهُنَّ جَدولٌ مدفوقُ

صمتَ الطائرُ المغرِّد بالأمس (م)

فأين الغناءُ والتَّحليق

أطلقيه في الروض بين الأقاحي

هو بالرَّوض والزُّهور خليق

لا تنحِّيه عن زهورك هذى

مَسهُ للزُّهور مَسٌّ رفيق

ص: 43

وإذا شِئتِ فاسمعيهِ يُغَنِّي

إنه ذلك المغني المشوق

ص: 44

‌البريد الأدبي

جواب (الرسالة) عن الرسالة

في عددنا الماضي نشرنا (الرسالة) التي تفضل بتبليغها صديقنا الأستاذ العقاد عن بعض إخواننا الأدباء في فلسطين؛ وهم - كما علمت - يعتبون على (الرسالة) أنها تضن على قصائدهم وفصولهم بالنشر والتنويه. ومثل هذا العتب طالما تردد على بعض الأفواه في سائر البلاد العربية، وفي مصر نفسها؛ فالرسالة هناك متهمة بإيثار مصر، وهي هنا متهمة بالإيثار على مصر. وفي التهمتين - علم الله - مباينة لوجه الحق، ومماراة في حقيقة الواقع.

ولعل الذين يتولون كبرهما من الأدباء هم الذين لم تسعد (الرسالة) بتسجيل آثارهم لأسباب ليس منها الصلة الشخصية ولا الأثرة الإقليمية على أي حال

ٍولقد كان بحسب (الرسالة) في الاحتجاج لنفسها أن ترجو المتهمين أن يفتحوا عيونهم على مجلداتها العشرين ليروا أسماء كتاب العرب في جميع بلاد العرب مسجلة بالحق فهارسها الحافلة؛ ولكن عاتب فلسطين الفاضل لا يريد أن يرى إلا اسمه؛ فإذا رأى أسماء: النشاشيبي وطوقان وحمدان ورشدان ومخلص، حسبها من أسماء الدلتا أو الصعيد، وأكرم بها لو كانت!

إن (الرسالة) بشهادة الواقع مجلة الأدب العربي في جميع أقطاره. لا تؤثر قائلا على قائل إلا لإجادته، ولا تنشر مقالا دون مقال إلا لجودته. لها مستوى لا تنزل عنه، ومقياس لا تتسامح فيه. هي لذلك لا تؤمن بتشجيع الضعيف، ولا تقول بمجاملة القوي. في سبيل هذا المبدأ السليم القويم تعرضت لمكاره الحق، من جفاء الكريم وسفه اللئيم وصلف المغتر. و (الرسالة) بعد ذلك تشهد الله وتقسم به أنها في مدى حياتها الصحفية لم تغفل أدباً يستأهل النشر، ولا أديباً يستحق التنويه.

من قصص جحا للأطفال

2 -

نشيد النوم

للأستاذ كامل كيلاني

ص: 45

(صفحة محتارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه:

(. . . اعتذر (دجين بن ثابت) لضيفه (أبي شعشع) عن حقارة البيت الذي ضيفه فيه، ولكن (أبا شعشع) قال له:(إن القليل الذي يبذله الفقير خير من الكثير الذي يبذله الغني. لأن الأول يجود بما يحتاج إليه ولا يستغني عنه، على حين يجود الآخر بما لا يحس فقدانه، ولا يبالي ضياعه).

وما زال (دجين) وصاحبه يسمران حتى قضيا من الليل أكثره، ثم بسط النوم على المدينة جناحيه الكبيرين، فاستسلما للرقاد هانئين، وقد أنستهما لذة الكرى ما مر بهما من أحداث الزمن ومصائبه، ومدهشات الدهر وعجائبه.

وأعدت (ربابة) حزماً من قش الذرة لينام عليها صاحب الدار وضيفه الذي أشتعل رأسه شيباً فأكسبه ذلك مهابة وجلالا. ثم أقامت لولديها (جحوان) و (جحية) أرجوحة جيء بها من بلاد الهند، كانا يستعملانها في أسفارهما ورحلاتهما، فأسرع الطفلان إليهما ليناما فيها.

ولو رأيتهما لخيل إليك لوفرة نشاطهما وصغر جسميهما، أنك ترى قردين صغيرين وقد اشتبكت أذرعهما ليندمجا في الأرجوحة الصغيرة حتى تتسع لنومهما.

واستأذنت (زبيدة) جارتها في الذهاب إلى بيتها. ثم جلست (ربابة) على خشبة صغيرة أمام الأرجوحة وظلت تهزها في رفق وانتظام، وتغني طفليها بصوت يفيض حناناً وحباً:

ناما - حبيبيَّ - ناما

واستقبلا الأحلاما

نورا وحُسنْا ورَوْضا

مُعَطَّراً بساماً

تخايَلَ الوردُ عُجْباً

وفتَّح الأكماما

والطير أنشد لحناً

فأبدع الأنْغاما

ناما هنيئاً، وقوما

معي إذا الطير قاما

عيشا بأسعد عيش

رَغادَةً وسلاما

سنين عشراً، وزيدا

عاما، وتسعين عاماً

ونصف عام، وشهراً

ونصف شهر تماما

وبعده أُسبوع

نزيده أياماً

ص: 46

وساعة من نهار

تَسرُّ قوماً كراماً

تَتْلُو دقائق عشرا

هناءةً وابتساما

زادت ثوانِيَ خمساً

فاغتنماها اغتناما

وأَتْبِعاها ثلاثا

ثوالثاً، ثم ناما

وعلى هذه الأغنية الجميلة نام الطفلان، ثم نامت (ربابة) على أثرهما، ونام كل من في الدار.

عبد الله جحا

(وفق الأصل)

كامل كيلاني

رابطة الأدباء:

اجتمع أعضاء رابطة الأدباء وتم انتخاب الدكتور إبراهيم ناجي رئيساً، والأساتذة: وديع فلسطين وكيلا، وخليل جرجس خليل سكرتيراً عاماً، ومصطفى محمد مصطفى أميناً للصندوق، والدكتور محمد يسري أحمد، وسليمان ندا عضوين في مجلس الإدارة.

أما حضرات الأدباء الذين اتصلوا بالرئيس من قبل فينبغي أن يتوجهوا بطلبات الانضمام من جديد إلى سكرتير الرابطة، ص: ب 463 القاهرة.

مجلة الكاتب المصري

صدر العدد الشهري الأول من مجلة (الكاتب المصري) التي تصدر عن (دار الكاتب المصري بالقاهرة)، ويرأس تحريرها الدكتور طه حسين بك. والعدد متقن التحرير، مونق الطبع، متوسط الحجم، يقع في مائة وثمان وعشرين صفحة اشتملت على أربع عشر مقالة لصفوة من أعيان الأدب نذكر منها:(الأدب العربي بين أمسه وغده) لصاحب العزة رئيس التحرير، و (تكافؤ الفرصة) لصاحب السعادة نجيب الهلالي باشا، و (الخلق في الفن) للأستاذ توفيق الحكيم، و (القنبلة الذرية وانعدام الذرة) للدكتور محمد محمود غالي. . . فنرحب بالزميلة الكريمة، ونرجو لها حسن التوفيق واطراد التقدم

ص: 47

مجلد السوادي:

رخصت وزارة الداخلية لزميلنا الكاتب المعروف الأستاذ محمد السوادي مدير شركة الصحافة المستقلة وناقد البلاغ البرلماني بإصدار مجلة سياسية أسبوعية مصورة باسم (مجلة السوادي)

وقد قررت الشركة أن تبدأ بإصدار أول عدد من هذه المجلة في صباح الاثنين 15 أكتوبر إن شاء الله وإصدار أختها (مجلة الخبر) بعد صدور الأولى بوقت قصير.

في قصة (لؤلؤة الحب)

قرأت في (الرسالة) قصة (لؤلؤة الحب) للكاتب الإنكليزي هـ. ج ويلز ترجمة الأستاذ عيسى حليم؛ فلفت نظري أن في ترجمة الجملة الأخيرة خطأ غير سياق القصة. فقد جاء فيها:

(وأخيراً. . تكلم مشيراً إلى (لؤلؤة الحب) وقال: اهدموها!. . .)

ويفهم من ذلك أن الأمير الهندي عجز عن بناء شيء يليق بعظمة التابوت المحتوي على رفاة زوجته. بينما الأصل وترجمته كما يلي:

(وأخيراً. . . قال مشيراً إلى التابوت: أزيلوا هذا الشيء!) ومعنى ذلك أن الأمير بعد أن مارس فن البناء وألم بجميع فروعه من هندسة وزخرف طوال السنوات العديدة التي تم فيها بناء (لؤلؤة الحب). . . طغى حبه للؤلؤة الحب على حبه لزوجته ورفاتها البالية، ورأى أن بقاء التابوت وسط هذا البناء الفخم نشوز لا يقبله الذوق السليم. . . وشتان ما بين النهايتين.

(الموصل)

الدكتور عبد الهادي القاعاتي

تصويب

وقع في الفقرة الأخيرة من مقال العلامة النشاشيبي المنشور في العدد الماضي خطآن مطبعيان نصححهما فيما يأتي:

ص: 48

الخطأالصواب

ولو بعثت (فلويير) ولو بعث

وحذق العربية لأضافولو حذق العربية لأضاف

ص: 49

‌القصص

من الأدب القصصي الروسي

في الظلام. . .

للكاتب الروسي أنطون تشيكوف

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

الكون غارق في السكون. . . والفضاء العريض يموج في رهبة، وقد هجع كل حي إلى مضجعه يتقلب في جنوبه. . . والطير قابعة في أوكارها تحتضن صغارها. . . حتى من وكل إليه الأمن قد سرت سنة من النوم إلى جفونه فراح يغط في خفقة وسبات.

ولف ظلام السحر كل شيء سوى غلس الصبح الوليد في الشرق وهو يتجلبب بصفرة شاحبة. . . وعلى حين فجأة ولجت ذبابة أنف (جاجن) مساعد المحصل. . . لعل حب الاستطلاع أو لزق الطيش هو الذي دفعها إلى ذلك العمل، أو لعلها الصدفة المحضة. . .

بيد أن خياشيم الأنف ساءها ذلك الدخيل فانفكت تعطس وتعطس. . . فأفاق (جاجن) إبان هذه الموجة الحادة من العطس وقد بلغ من حدتها أنه كانت ترج الفراش رجاً عنيفاً. . .

أما زوجة (جاجن) وتدعى (ماريا ميلوفا) - وهي امرأة مفاضة فارغة حسناء الوجه - فهبت في هيعة وفزع، وقلبت طرفها يضرب في حلكة الظلام الدامسة، وحملقت فينة ثم انطرحت على جانبها الآخر. ولم تلبث بعد فترة وجيزة أن عادت إلى ما كانت عليه، وأرخت أهدابها عسى النوم يدب في عينيها ثانية. . . ولكن هيهات فقد سرى السهاد إليهما فلم يغمض لها جفن. . .

نهضت من فراشها، واحتذت نعليها وقامت إلى النافذة حيث تجول بصرها في أكناف ذلك الليل البهيم. . . وقد بدت فيه سامقات الشجر كأنها عمالقة من الشياطين. . . وندت عن (ماريا) صيحة فيها عجب وفيها فزع قطعت الصمت الذي شاع في ثنايا الظلام. كانت تحملق أمامها وقد ثبت بصرها على شبح يتسلل في رفق وحذر إلى صحن الدار. . . فدار بخلدها أنه ربما كان جواداً نافراً، ولكن مقلتيها ما لبث أن وضح لهما ذاك الشبح فإذا به رجل يتشح بالظلام. وأومض بعقلها أنه لص في سبيل السرقة. فاكتسى وجهها شحوباً

ص: 50

أضفاه عليه الذعر وصفرة الغلس. . .

وفي لحظات نشط ذهنها يصور بيراع الخيال أوهاماً وأوهاماً. قوامها سيدة تعيش في الريف، ثم سارق يتلصص خفية إلى حجرة المطبخ. . . ومن المطبخ إلى حجرة الطعام. . . وثمت الأشياء الفضية من ملاعق وقواطع. . . وبعدئذ إلى مخدع النوم وفي يده فأس حيث يعثر على الحلي والنقود. . . ولم تلبث أن هوت ركبتاها، وسرت رعدة من أم رأسها إلى أخمص قدميها. . .

راحت تهز زوجها وتهتف في هلع (فاسيا. . . باسيل. . . انهض. . . آه يا إلهي لكأنه فارق الحياة. . . استيقظ أيها الرجل باسيل أتوسل إليك. . . انهض. . .) فقبع مساعد المحصل في فراشه، وقال في صوت شابه اضطراب في قرارة نفسه (حسناً!).

- (بالله أفق. . . هناك سارق تسلل إلى المطبخ، لقد كنت قائمة عند النافذة، عند ما لمحته يختفي في نافذة المطبخ. . . إنه بلا ريب سيجتازه إلى غرفة الطعام حيث الملاعق والصوان. . باسيل! لا تدري أنهم هاجموا (مافرا يجروفنا) في العام الماضي؟!)

- (هه. . . ما الذي حدث؟!).

- (آه!. . يا للسماء. إنه لم يدرك بعد ما أنطق به. . . أنصت أيها الأبله، هناك لص ولج نافذة المطبخ، وسوف ينخلع فؤاد (بلاجا) فزعاً وفرقاً. . . هذا مع أن الأشياء الفضية في الصوان بغرفة الطعام. . .).

- (هذا حديث لغب؟. .).

- (باسيل. . . لا أطيق ذلك. . . أخبرك بالخطر الجاثم، وأنت تفحفح في نومك غير ذي بال؟! ما الذي ترجو من وراء ذلك؟! أتشاء أن نجرد من أموالنا وحاجياتنا؟).

فثاب مساعد المحصل إلى نفسه وقام من فراشه يملأ صدره بنسيم السحر المنعش. ثم تثاءب في تؤدة ومهل. . . وراح يتمتم:

- (ليس ثمت من يقف على سريرة تلك المخلوقات الضعيفة العجيبة. . . النساء.

سوى الله!. أما بمقدورك أن تتركي الإنسان يغمض جفنيه جنحاً من الليل لا تزالين تهزينه حتى يستيقظ، فتطرقي سمعه بهذا اللغو!).

- (ولكن أقسم يا باسيل أني لمحته وهو يداف إلى حجرة المطبخ!).

ص: 51

- (وما الذي يثير عجبك من ذلك؟! إنه بلا شك الجندي الذي يعشق (بلاجا) وتعشقه. . . ويسرى إليها على الدوام في هزيع الليل. . .).

- (هه!. . ما الذي تفوه به؟!.).

- (. . . إنه الجندي الذي يعشق (بلاجا). . .) فصاحت (ماريا ميلوفنا) في زحير.

(علة أقبح من العذر. . . إن التلصص أخف وطأة منها. . . لست أرضى عن هذا الفاسق بداري. . .).

- (عجباً. . . إننا طهيرا الثوب عفيناه. . . فما الذي يضيرنا من وجود هذين الفاسقين؟! وما نفيد من تدويم هذه الكلمات الجوفاء؟ يا فتاتي إنها الحياة. . . وهكذا جبل الخلق منذ فطر العالم وما هذا الجندي بملاك يعف عما درج عليه غيره. . .).

- (كلا يا باسيل. . . فهذا ما لا يتفق وهواي. . . إني لا أكاد أتصور أن مثل هذا!. هذا!. يحدث في عقر داري. . . ينبغي عليك أن تهم إلى المطبخ، وتطرد هذا الفاسق شر طردة وفي الغداة سأنهي إلى (بلاجا) أنها ستفقد عملها إن هي عادت فسلكت هذا السبيل الشائن، وحين أغادرك إلى ظلمة القبر وأودع الحياة. . . فافعل ما يحلو لك. . . ولكن إياك أن تأتي ذلك، وأنا على قيد الحياة. . . باسيل! أتوسل إليك أن تقوم إليهما. . .)

فقال (جاجن) في نهيم وتذمر:

(عليك لعنة الله. . . بالله تدبري بمنظارك النسائي الضعيف: ما الذي أفعله لهما؟!).

- (باسيل!. إني لأحس أن الإغماء يغشيني. . .). فعجل (جاجن) بوضع قدميه في نعليه. . . وراح يهمر لعناته في سبيله إلى المطبخ. . .

وكان الظلام يطوي كل شيء تحت مطارفه السود. . . فراح مساعد المحصل يتلمس طريقه في حذر. . . واتخذ وجهته نحو غرفة الأطفال، وأيقظ الحاضنة قائلا في نحيط:

(لقد أخذت معطفي لتنظيفه مما علق به!. فأين هو؟! يا (فاسيليا)!).

(لقد ناولته (لبلاجا) لتنظفه. . . يا سيدي!).

- (يا للعبث. . . أنت تأخذينه ثم تردينه!. . ماذا اطرح على جسدي الآن؟!).

وما كاد يصل إلى المطبخ حتى اتخذ سبيله إلى ركن قام فيه صندوق من الخشب رقدت عليه الطباخة (بلاجا). . . فقال وهو يتحسس كتفيها، ويهزهما في عنف (. . . بلاجا!. .

ص: 52

بلاجا!. . لا تدعي النوم أيها الخبيثة الماكرة. . . من الذي ولج غرفتك منذ برهة وجيزة؟!).

- (سي!. سي!. سيدي! عم صباحاً: من الذي يجرؤ على ولوج غرفتي؟!).

- (آه. . . دعينا من هذا النفاق والإنكار فليس هناك مجال لتصديقهما. أنهضي. . . لقد أسرى ذلك الشرير إلى غرفتك، وأنت راضية عن ذلك!. ألا تسمعين؟ وليس هناك ما يدعوه إلى الحضور سوى أنت!).

- (هه!. سيدي. . . أمستك لوثة من الشيطان، فتقذفني بهذا الهذيان؟!

رحماك يا رب. . . أظننتني بلهاء ساذجة؟. أشقي هنا سحابة يومي ولا أركن للراحة ولو لحظة. . . وتأتي في هزيع الليل فتحدثني هكذا!. ولا أتقاضى عن كدي وإخلاصي في خدمتك سوى أربع روبلات في الشهر. . . إني لأرغب العيش عند تاجر من التجار على أن أقابل بمثل هذا الجحود والإهانة!).

- (انهضي!. . انهضي. . لا سبيل إلى التنصل بالشكوى والتذمر. . . آه. . . لابد أن يغادر عشيقك هذه الغرفة فوراً. .! أوعيت ما أقول؟!.).

فقالت (بلاجا) وقد هدجت من صوتها بوادر الدمع: (لابد أن هذا يخجلك يا سيدي!. أهكذا تفعلون معشر المتعلمين؟ أتسمح لكم أنفسكم أن تتهمونا وتقسوا علينا بدلا من أن ترفهوا عنا، وتفرجوا عن أنفسنا؟! نعم من السهل عليكم أن تهينونا. . فليس هناك من ينبري لنصرتنا ويقف إلى جانبنا). وانفجرت الدموع من عينيها فراحت تنوح وتنهنه. . .

- (هيا. . انهضي. . . فما يجوز على هذا الخداع. . . لقد أرسلتني سيدتك لأخبرك أنها رأت شريراً يدلف إلى غرفتك!) ولكن (بلاجا) راحت تديم نواحها ونشيجها. . . فلم يجد (جاجن) بدا من أن يعترف من قرارة نفسه أنها مظلومة طاهرة وقد ألصق بها هذه التهمة الشنعاء إفكا وبهتاناً. . .

وهم بالعودة إلى زوجته وهو يقول: (بلاجا. . . لقد أخبرتني (فاسيليا) أنها ناولتك معطفي لتنظيفه مما علق به فأين وضعتيه؟!)

- (آه. . . معذرة يا سيدي. . . لقد غفلت عن وضعه على مقعدك. . . إنه معلق على المشجب القريب من الموقد!).

ص: 53

فطرحه (جاجن) على منكبيه، ومضى في هدوء إلى غرفة زوجه. . .

أما (ماريا ميلوفنا)، فلبثت تنظر بعلها في قلق وهي تهس وتهجس:

- لقد مضى منذ حين ولم يؤب! لعل ذلك الجندي الشرير لبط به الأرض. . . لعل. . . لعل. . .

وعادت تصور بيراع الخيال صورة لزوجها، وهو يمضي في ظلام المطبخ. . . ضربة أم رأسه من فأس. . . موت بلا نبس، ودم يتدفق من جروح مثخنة. . . وانقضت إثر ذلك خمس دقائق في إثرها خمس. . . ثم نصف ساعة. . . وأخيراً هاهي ذي الساعة قد بلغت السادسة ودقاتها ترن في جوف الليل البهيم فتزيده رهبة وجلالا. . . فتبلبل جبينها بعرق بارد وهي غارقة في فراشها، وصاحت على غرة:(باسيل. . . باسيل. . .) فأجابها صوت زوجها على مقربة: (ماذا دهاك؟! لم تصرخين هكذا؟ هاأنذا. . .)

- أأصابك سوء؟!

- سوء؟ كلا. . .

ومضى إلى حافة الفراش وهو يقول:

- (ليس هناك أحد على الإطلاق! إنها أوهامك وقسوتك على هاته المخلوقات. . إن بلاجا لا تقل عنك عفافاً وصوباً. . . كم أنت حمقاء! كم أنت. . .)

وراح ذلك السيل من السباب واللعن يتدفق من فم (جاجن) لقد داعب الأرق جفونه فعبثاً يحاول النوم ثانية. . . فقال وهو يضحك:

إنك لواهمة، مجهدة الأعصاب. . . ويعوز نفسك المضطربة فترة من الراحة. . . يجمل بك أن تذهبي في الغداة إلى الطبيب فتخبريه بهذه الأوهام والخيالات. . . فيتبصر في حالتك ويصف لك ما يريح أعصابك المكدودة). . .

فقاطعته زوجه قائلة:

- (ما هذا!! رائحة. . . قطران!! أو شيء آخر كالثوم أو البصل إن يتخلل أنفي في حدة. . .).

- (نعم! ثمة رائحة غريبة. . . لست بنائم. . . سأشعل الشمعة، أين أعود الكبريت. . . آه تذكرت، سأعرض عليك صورة لمحصل قصر (جستيل) العظيم. . . فقد أعطى كل من

ص: 54

كان في المكتب نسخة من صورته عندما ودعنا البارحة. . .).

أشعل (جاجن) الشمعة وقبل أن يخطو خطوة لإحضار الصورة رنت في أذنه صرخة ندت عن زوجته. . . فلما التفت إليها رآها تحملق فيه وقد اتسعت مقلتها واستقرت عليه. . . يطل منها الفزع والهلع والعجب والسخط في آن واحد. . .

صاحت زوجته وقد علا وجهها الشحوب: (أتناولت معطفك من المطبخ؟!).

- (لم؟!).

- (انظر إلى نفسك!).

وما كاد يبصر (جاجن) ما على جسده حتى راح يحدق في عجب وذهول. . . لم يكن مطروحاً على كتفه معطفه بل معطف الجندي الشرير. . . ماذا أتى به إلى هنا!! وبينما كان يوجه إلى نفسه هذا السؤال. . . قالت زوجته في غمغمة نمت عن سخرية وسخط (أتقول؟ إن (بلاجا لا تقل عني عفافاً وصوناً). . . أيها الخنزير الأبله)

ثم غرقت في شعاب الفكر وعاد يراع الخيال يرسم صورة مخفية:

ظلام. . . هدوء. . . همس!. . و!. .

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي

استدراك:

حدث خطأ مطبعي في عنوان قصتنا التي نشرت في العدد (638) وهو (حينما كان طبيباً) والأصل (حينما كان صبياً) فبذلك يستقيم معنى العنوان مع سياق القصة.

ص: 55