الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 641
- بتاريخ: 15 - 10 - 1945
بول فاليري
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان كاتب الخاصة، لأنه لم يكن كاتب العامة وأشباه العامة وهو لم يكن كاتب العامة وأشباههم، لأن هؤلاء يطلبون السهولة في التعبير والتفكير، وليس هو بسهل في تعبيره وتفكيره، بل كان لا يخلو من الغموض والتعقيد، ولا يهبط في أسلوبه عن مرتبة الجزالة والإتقان.
والعامة وأشباههم ينساقون لشيء من الرعونة والهوج في بدعة من البدع أو دعوه من الدعوات، وليس هو بصاحب رعونة أو هوج ولا بصاحب بدعة تصدع الأسماع أو دعوة تخلب العقول وتهيج الخواطر، بل كان أكثر ما يكون موفور الجد والرصانة، مكبوح العنان.
والعامة وأشباههم ينقسمون بين المعتركات والميادين، وليس هو من رواد المعتركات والميادين، بل كان كريماً على نفسه وعلى صحبه مؤثراً لعزلة الفكر وعزلة المقام.
ولا أحسب أن نصيراً من غلاة أنصاره يدعى له مزية الخصب والإشراق في نتاجه، ولكني كذلك لا أحسب أن مخالفاً من مخالفيه ينكر عليه مزية المتانة والسداد في جملة آثاره من الشعر ونثر ومن قصة ومقال. فهو متين شديد رصين، وإن لم يكن باللامع ولا بالمخصب أو المرتفع في الآفاق.
ذلك بول فاليري فقيد الأدب الفرنسي في أواخر هذا العام، بعد أن فقد في أوائله رصيفه رومان رولان.
والخاصة التي أعنيها هنا هي الخاصة الاجتماعية، وليست بالخاصة الفكرية أو الفنية.
وشأن هذه الخاصة الاجتماعية في فرنسا ليس بالقليل، فهي حتى اليوم صاحبة الكلمة التي لا تجهل في نصيب القادة العسكريين والقادة الفكريين، وفي الترشيح لرئاسة الجمهورية وللمجامع العلمية والأدبية، وهي بقية من بقايا النبلاء على عهد الإمبراطورية قد تنزوي عن الأنظار، وقد تغض الصوت حيناً بين جلبة السواد وصيحة المفرقين في التجديد، ولكنها رابضة أبداً في مكمنها للوثوب إذا حانت لها فرصة الوثوب، ولعل وثبة بيتان باسم المحافظة على القديم لم تكن إلا رجعة من رجعات هؤلاء الخاصة الاجتماعيين في عاصمة
الفرنسيين.
هؤلاء الخاصة الاجتماعيون (سلبيون) في أكثر الأذواق والآراء، ولم تبقى لهم قدرة قوية على الإيجاب والإنجاب.
فهم مثلا لا يعجبهم ما يعجب الدهماء والأوساط من الخفة والاندفاع، وهم لا يشاركون الجماهير في أذواق البدع وبهارج الحداثة، وهم لا ينطلقون في الضحك ولا في الحزن ولا في الغضب ولا في الهياج إلا بمقدار ما يسمح لهم أدب الصالون وشعائر النبل والوقار.
أما إنهم يرتفعون إلى الأفق الأعلى في التفكير والتقدير فليس ذلك عندهم بمضمون، وقد يضحون بالجمال الحي الرفيع أحياناً في سبيل الجمال الذي توحي به التقاليد.
وهذه كلها خصال ترشح (بول فاليري) عند هذه الطبقة للقبول والظهور، ويزيده قبولاً عندها أن تعلو في سماء الأدب الفرنسي نجوم باهرة لا تلتزم ذلك السمت الصحيح أو السمت المصنوع.
لم يقصد بول فاليري أن يكون على شرط هذه الطبقة في الأساليب، ولا أن يكتب وفاقاً لمزاجها الذي تروضه على السمت أو تصطنع فيه الوقار. ولكنه لو قصد هذا لما كان أقرب إلى مزاج تلك الطبقة مما كان، لأنه طبع على الرصانة وجاءه التعليم برفد منها يتمم ما جادت به الطبيعة عليه. فقد تعلم الرياضة ونشأ على نظام رجال البحر وقرأ الحكمة وشغف بأسلوب الأقدمين، فجنحت به السليقة والنشأة إلى ذلك أو أباه، واستفاد عند غير هذه الطبقة كرامة ومحبة لا كلفة فيها، لأنه لم يكن يخاصم أحداً على سمعة أو شهرة، ولم يكن يبالي الخصومة إذا عرضت له معتدية عليه!
إلا أنه كان يشعر بصفاته هذه ولا ينساها حين يقيم الموازين للشعر المأثور والأدب النفيس، فلم يكن يغفل عن شرط (الكبح) والاحتجاز في تعريفاته الفنية، ولم يكن يأبى الغض من مزية التدفق والإفاضة، لأنها تلتبس أحياناً بالتفيهق والثرثرة في غير جدوى فإذا عرف الشعر قال:(إنه ينبغي أن يكون عيداً للذهن، ولا ينبغي أن يكون شيئاً غير ذلك).
ولكنه يعود فيقول: (عيد أي فرح. ولكنه رصين، ولكنه مرتب، ولكنة ذو مغزى. أو هو صورة لغير هذه المطروقات الشائعة، أو صورة للحالات والمساعي التي تقبل الانتظام والاتزان. . .).
ولا يستثنى من ذلك الشعر الغنائي الذي هو أدنى أبواب الشعر إلى الطلاقة والجموح، فهو عنده (هتفة)، ولكنها متطور أو (مشغولة) بصناعة الفنان
ويقول في التفرقة بين الملكات الكامنة والملكات المكشوفة: (في طبع كل منا حماقة الخطأ بين المفارقة والاكتشاف، وبين الصورة المجازية والبرهان، وبين سيل دافق من العبارات وينبوع يفيض بالحقائق الكبرى، وبين ما نحسه نحن وما ينطق به لسان الغيب. . .).
وقد كان مزاجه من طبيعة العزلة والانطواء فيه، فكان لانطوائه على نفسه ينتزع من أحوالها القواعد والأحكام، ويعطيك الشواهد على سرائره الشخصية من معظم ما كتب بعد الروية والتفكير؛ فلا أعرف في المحدثين كاتباً تظهر أسبابه الشخصية في أسبابه الفكرية كما تظهر في هذا الكاتب على التفكير.
رجعت إلى بعض آثاره التي عندي بعد السماع بنعيه فقرأت منها مقالة القيم عن الإنسان الأوربي وهو من تحفة المعدودة التي يقل فيها التعقيد والغموض، وقد بدأه بكلمة عن (الإنسان) عامة قال فيها: إنه هو المخلوق الذي ينفرد بين سائر المخلوقات، ويعلو على سائر المخلوقات بالأحلام، وإنه أبداً مصروف عما هو كائن بما لم يكن بعد، أو بما يرجو أن يكون، وإن الخلائق الأخرى تطيع التغيير الذي يطرأ عليها من خارجها، وهو وحده يطوع تلك العوامل المتغيرة بما توحيه إليه بواطنه وخفاياه.
ثم استطرد من هذه المقدمة إلى حصر الإنسان الذي ينشئ الأحلام في الزمن الحديث بين سكان قارة واحدة هي القارة الاوربية، والى حصر المشخصات التي خلقت قوام ذلك الإنسان في ثلاثة مراجع، وهي أو نظم الدولة الرومانية، والمسيحية التي ورثت كل شيء من رومة لا من بيت المقدس، ونموذج العلم النظري الذي يتمثل في الهندسة الإغريقية. . .).
ولا يعنينا هنا نناقش هذه الفلسفة من جانب النقد أو جانب الوقائع التاريخية، وإنما يعنينا أن نعقد الصلة بينها وبين مزاج الانطواء والعزلة (والتفكير الذاتي) الذي انطبع عليه بول فاليري.
فهناك بول فاليري الذي يتغنى بالأوربية كما تتغنى بها جميع أقوام القارة التي ضاعت عليها فرصة التغني بمجدها القومي منذ زمن بعيد أو قريب. فهم يذكرون دائماً انهم
أوربيون حين يذكر الأمان انهم آريون، أو يذكر الإنكليز انهم من سلالة الانجلوسكسون، أو انهم بريطان (غير قاريين).
وهناك بول فاليري الذي يرجع بكل شيء في أوربا وفي المسيحية إلى رومة لأنة جاء من أب فرنسي وأم إيطالية، وكلاهما من عنصر اللاتين.
وهناك بول فاليري الذي يجعل الهندسة الإغريقية نموذج العلم الإنساني لأنه هو درس الهندسة واستوعب الكثير من آثار حكماء اليونان.
وهذه هي بعض دلائل المزاج التي تنطوي بين السطور، فضلا عن دلائله التي تبدهك منه بغير تنقيب طويل.
لست أنسى خيبة الأمل التي فجاني بها بول فاليري في أول عهدي بالمطالعة الفرنسية؛ فإنني تعلمت الفرنسية في السجن فاستطعت بعد أربعة أشهر أن أقرأ أناتول فرانس وبير لوتي واندريه موروا بغير مشقة أو رجوع كثير إلى المعجمات الميسورة؛ فحيل إلى أنني قد استغنيت عن المترجمات في قراءة الأدباء الفرنسيين من محدثين وأقدمين. ثم جربت هذه المعرفة بعد خروجي من السجن في اندريه جيد ويول فاليري فإذا بي أرجع إلى المترجمات الإنكليزية ولا أزال أرجع إليها حتى اليوم.
وأحب أن أقول إنني أرى في أدب (بول فاليري) رأيا لا يمتزج بمرارة تلك الخيبة لأنه لم يذهلني عن محاسنه ولم يحملني على المبالغة في عيوبه.
فالرجل لا شك مثل معدود من أمثلة الثقافة الفرنسية في القرن العشرين، وله ولا شك رأي رجيح وقول رصين وتفكير قويم، ولكنني لا أذكر أنني أطلعت في كلامه الذي قرأته - وهو غير كثير - على فكرة رائعة أو غوصة عميقة أو نفخة تتجاوز طاقة الأوساط من الكتاب، فهو متين راسخ على وجه الغبراء، ولكنه لا يحسب بين أصحاب الأوج ولا بين أصحاب الأعماق.
وله نظرات في نقد الأدب والأدباء يقرأها القارئ فيقول صحيح صحيح! أو جميل جميل!. . . ولكنه لا يراع بها ولا يفاجأ بها ولا يخرج بها عن الجادة المطروقة إلى معرج غير مطروق.
ومن الأمثلة الصادقة لأسلوبه في النقد وصفه لاناتول فرانس - وقد خلفه في المجمع
الفرنسي - فقال عن كسله الحالم (إنه كسل نجم من القراءة الواسعة التي يصعب التفريق بينها وبين الدرس والاستقصاء. أو هو كسل كراحة السائل الموقر بخيراته وبركاته يليح لك في سكوته ببلورات على أحكم ما تكون من كمال التركيب. . .).
وأنت تقرأ هذا وتقرأ أمثاله في كلامه على الأدب والأدباء فتقول صحيح صحيح! جميل جميل!. . . ولكنك لا تقف في طريقك مرة لتقول مرة. . آه. ويح الكاتب الساحر. . من أين له هذا الكلام؟
عباس محمود العقاد
ليذكر الأسبان
للأستاذ توفيق محمد الشاوي
لعل الشعب الأسباني هو آخر شعب يحتاج إلى من يثبت له عظمة العنصر العربي وسمو الحضارة الإسلامية، لان وجوده ونهضته التي سبق بها جميع الشعوب الأوربية، وكانت رائد النهضة الأوربية الحالية هي ربيبة تلك الحضارة الإسلامية العربية التي نعمت بها الأندلس زمناً طويل، وعاشت في ظلها عصراً ذهبياً سجل التاريخ مفاخره برغم تداول الأيام وانتقال السلطان.
لكن أسبانيا قد انساقت في هذا العصر في تيار الاستعمار الأوربي، وسيطرت على قادتها المادية الاستغلالية، وآثرت أن تنسى التاريخ، وأن تدفن الماضي، وأن تشترك في الغارة الأوربية على أجزاء الوطن العربي، فسلم لها شركاؤها الاستعماريون جزءاً هاماً من وطننا الأفريقي في المغرب، سارت فيه على خطة جارتها فرنسا، فحاولت أن تحطم القومية العربية بكل الوسائل الاستعمارية الوحشية، غير عابئة بمبادئ الإنسانية والمدنية. علمت أن العربي لا يقيم على الذل ولا يصبر على الضيم، فسول لها شياطين الاستعمار. أن أسهل الطرق هو إفناء هذا الشعب الأبي العنيد، وليقل التاريخ ما شاء بعد ذلك.
ثم جاءت النتيجة المحتومة للتكالب النفعي الاوربي، أن انقلب الماديون على أنفسهم، وأغرى الجشع بعضاً ببعض، فتفرقت الطبقات، وتقابلت العصابات، واشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية، فاستعان الجنرال فرانكو بعرب المغرب، وبذل لهم وعوداً خلابة، ومناهم بالاستقلال الذي جاهدوا له. ولم يقصر دعايته على المغرب، فأرسل إلى رئيس المؤتمر الإسلامي الذي عقد بالقاهرة في ذلك الحين، الدكتور عبد الحميد سعيد، خطاباً تاريخياً مؤيداً لوعوده وتصريحاته
(بأنه عندما تثمر شجرة السلام فسيقدم للمغرب العربي منها أطيب الثمار). . . وظن العرب أن الواعد عربي يعرف معنى الشرف، ويحترم قدسية العهود، ونسوا أنه رجل أوربي ينسى كل شيء في سبيل مطامعه وأهوائه. جاءه النصر بفضل مساعدة العرب وانتظر العرب والمسلمون طويلاً تحقيق الوعود والعهود، فإذا سياسة الاضطهاد تستأنف وتزيد، وخطة الإفناء الوحشية تبدأ من جديد، وإذا الشرف يتواري وتحل محله (المصلحة)،
تتذبذب السياسة بين الشدة واللين بحسب ما توحيه ظروف السياسة ومصلحة الاستعمار. وآخر ما سمعناه أن أسبانيا لم تعد تطيق كلمة (العروبة) فهي تحاربها في كل ناحية تتوهم أنها تذكيها، حتى أن أعضاء البعثة المغربية في جامعات مصر قد عادوا إلى بلادهم هناك، فوجدوا أبواب السجون مفتحة لهم، وسبل العمل موصدة في وجوههم، وكل ذنبهم أنهم عرب تعلموا في مصر، وأن مصر تحمل لواء العروبة وأن العروبة شجي في حلق الاستعمار.
أيها الأسبان! تستطيعون أن تتناسوا عهودكم ومواثيقكم التي بذلها زعيمكم وارتبطتم بها، وتستطيعون أن تنسوا مبادئ المدنية التي تحمي حقوق الأمم وحريات الشعوب، وأن تنسوا التاريخ وما سيكتبه عن استعماركم الوحشي الغاشم، وأن تنسوا أيضاً ما للعرب عليكم وعلى أوربا من فضل بما علموكم وبما هذبوا من نظمكم وآدابكم. . . تستطيعون أن تنسوا كل هذا، ونستطيع نحن أن نصدق أنكم نسيتموه ما دمتم تتوهمون مصلحتكم في هذا النسيان، ولكن شيئاً واحداً لا نظنكم تستطيعون أن تنسوه، هو قوة هذا الشعب العربي الأبي وبطولته، واستبساله في الدفاع عن كرامته وحريته. تذكروا أن ضربات ابن عبد الكريم لازالت جراحها في كل بيت من بيوتكم وكل أسرة في بلادكم، وتذكروا أن ابن عبد الكريم لا يزال حياً، وإذا مات فان الشعب الذي أنجبه لا يزال حياً قوياً قادراً على استئناف جهاده وتضحياته.
أيها الأسبان! تذكروا مرارة قتال العرب وما يكلفكم من ثمن، وأن فرنسا التي أنقذتكم من ابن عبد الكريم قد تعجز عن إنقاذكم مرة أخرى، وأن للعالم اليوم أذنا تسمع وعيناً تبصر، فلن تسكت على وحشية الاستعمار التي تسلحتم بها لستر ضعفكم وجبنكم. تذكروا كل ذلك لا لوجه الإنسانية والمدينة، ولا خشية التاريخ وحكمه، ولا حرصاً على العهد وتمسكاً بالشرف، فهذه لغة قد لا تفهمونها ألان. . . ولكن اذكروه لمصلحتكم أنتم، فإن نسيانه سيكلفكم من الضحايا عدداً لا تستطيعون تقديره، وسيكون النصر أخيراً للحق والمدافعين عن حقوقهم وحرياتهم.
أيها الأسبان! تذكروا أن الجشع الاستعماري الذي يسيطر عليكم ليس إلا عرضاً من أعراض الكلب المادي الذي أصيبت به أوربا، وأنكم إن لم تقضوا عليه فسيقضي عليكم،
وقد بدرت بوادر الشقاق والجنون النفعي الذي سيحطم أركان حضارتكم إن لم تنقذوا أنفسكم منه. تذكروا أن القدر قد يلقي عليكم درساً عاجلاً في احترام الحقوق والحريات، وأن هذا الدرس قد يكون على أيدي العرب، أساتذتكم وأساتذة أوربا منذ عرفتم النور.
توفيق محمد الشاوي
مدرس بكلية الحقوق - جامعة فؤاد
على هامش (الحادث):
دفاع عن الأدب
للأستاذ علي الطنطاوي
لقد كانت معركة (عين جالوت) مثلا، أجل خطراً، وأعظم أثراً، وأبرك على الحضارة، وأجدى على الإنسانية، من موقعة (الحدث)، ولكنها لم تجد الشاعر المارد الجبار الذي ينهض بها، ويرفعها بيمينه يلوح بها في طريق التاريخ، ليراها الناس أبداً، أمة بعد أمة، وجيل عقب جيل، كما صنع المتنبي بموقعة (الحدث) حين فتح لها في الشعر فتحاً ولا فتح سيف الدولة في بلاد الروم، وبنى لها في البلاغة صرحاً ولا ما بناه الحمداني (فأعلى والقنا يقرع القنا، وموج المنايا حوله متلاطم)، بنى هذا البيت وإنه لقلعة باقية، على حين قد خرب الدهر تلك القلعة، فكان من معجزات الشعر (وإن في الشعر لإعجازا) أن خلدت هذه الموقعة، وحلت وملأت الأسماع والأفواه والقلوب، ونسيت مواقع أعظم منها، ولولا قصيدة ابن الحسين ما عرفت طريق الخلود.
ولقد كان فتح عمورية عظيماً في الفتوح، ولكن فتح حبيب في بائيته أعظم منه. ومن قبل خلدت بلاغة هوميروس بطولة القوم في طروادة، ولولاه لضاعت في ظلام ما قبل التاريخ. وإني لأكرم القراء أن أسيء بهم ظني فأرى بهم حاجة إلى سرد الأمثلة، وإقامة البينات، على أمر ما بهم جهله ولا نكرانه، فلولا الأدب ما خلدت المكرمات، ولا ذكرت البطولات. ورب قصيدة تجيش بها نفس شاعر منكر مجهول، قد شغل الناس عنه سناء الأمير ورواه، أبقى على الدهر من هذا السناء وهذا الرواء. وربما جاء زمان نسى الناس فيه الأمير نفسه، فغاص في هذا النهر البشري الذي يجري أبداً من المهد إلى اللحد، يولد أهله ويعيشون ويموتون ولا يدري بهم أحد ولا يذكرهم إنسان - ولم يمسسه من الخلود إلا النفحة التي ينفحه بها الشاعر.
هذا حق لا يجهله أحد إلا ذوي السلطان منا، وكانوا هم أولى بمعرفته والاستفادة منه، والأحداث تدعوهم إلى ذلك ولكنهم لا يجيبون. وهاهو ذا حادث الشام القريب، أحبوا أن يدونوا تاريخه، ويعرفوا صوره، ويعرفوا به البعيد النائي، ويذكروا به القريب الرائي، فأجمعوا أمرهم على إخراج (الكتاب الأسود) في وصف هذا الحادث، وسموا له رجالا،
طيبين ممتازين، غير أنهم ليسوا من ذوي الاقلام، ولا من الأدباء، وإن في دمشق (لو كانوا يعلمون) أقلاما حداداً، إذا أنتضتها الحكومة قطت بها وقدت وفرت، فإلام تدخر هذه الأقلام، إن لم تستل في هذا اليوم الأسود؟ ومن يعرض على الدنيا كلها حديث (الحادث) إذا أهملت هذه الأقلام، ونسيت وتركت تصدأ في أغمادها؟ أيعرضه صحفي بمقالة تعيش ما عاش (العدد) الذي تنشر فيه، أم موظف بتقرير أسلوبه لعنة للبلاغة في عليائها؟
ثم استلمنا الجيش وعرضه رئيسنا فكان يوماً أغر محجلاً في عمر الشام، فمن يمسك هذا اليوم إلا يهوى في وادي النسيان؟ من يحفظ له جلاله وجماله وعظمته غير الأدباء؟ فما لأولي الأمر دعوا له كل قاص ودان إلا أهل الأدب الحق؟ أهل البلاغة، ما دعوهم ولا سألوا عن مكانهم ولا ذكروهم، ولو دعوا أديباً لصنع لهم بمقالة واحدة شيئاً يبقى إذا ذهب كل هذا الذي أعدوه.
وفي كل يوم تنبت أقلام غضه فلا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية فتجف وتموت. وتحطم عواصف الأيام وأرزاؤها أقلاما متينة كأشجار السنديان طالما أظلت وبسقت فلا يبكي عليها أحد. وتزهر أقلام ثم تؤتي أكلها ثمراً ناضجاً حلواً نافعاً فلا يستبشر بها أحد، ويقولون بعد ذلك لماذا لا ينتج الأدباء؟ لماذا لأي خلدون أيام الوطن. يا ويحكم! إننا والله لا نعرف أيام الوطن إلا على السماع، والفضل لنا إذا استطعنا أن نكتب عنها سطراً واحداً.
قال لي أديب أعرفه بليغاً مبيناً له قلم ماضي السنان:
(لقد أردت أن أدخل القلعة غداة يوم الحادث، وأن أجول خلال الحرائق، وألج البرلمان، فمنعني جنود لا يعرفونني ولا يفهمون عني بلساني، ولو تركت ألج ورأيت بعيني ما أصفه الآن على السماع لكتبت لكم شيئاً يبكي المحب ليلة الوصال، والعروس ليلة الزفاف، ويرقق قلب الموتور ساعة الانتقام. ولو أشهدت هذا العرض لكتبت لكم قصيدة مجد تكون للأعصاب ناراً تشعلها حماسة، وللقلوب خمراً تميلها طرباً، ولهذا الجيش جيشاً آخر. ولو أحضرت حفلة رفع العلم على الثكنة الحميدية لكتبت غير ما كان نشر في الرسالة، لان الذي يتخيل ويكتب بارد الدم هادئ الأعصاب، غير الذي تمشي الكهرباء في أعصابه فتهزها هزاً، فيمسك قلمه ويدع روحه تملي عليه.
ولست - علم الله - أريد مالا من أولي الأمر أو عطاء، ولا أبتغي من بمجالستهم شرفاً،
فعندي من المال ما يسد حاجتي، ومن الشرف ما يكفيني، وإنما آسف على قوة في، وفي أمثالي من حملة الأقلام، تذهب هدراً، وتضمحل، والوطن يحتاج إليها، وهي تستطيع أن تكسبه مجداً لا ينال بغيرها). . . انتهى كلامه.
فيا أيها الحاكمون! اذكروا أنكم تحتاجون إلى الأدباء ليكسبوكم الخلود، وليفيضوا على أمجادكم الحياة، أما هم فلا يحتاجون إليكم، لأنهم يستطيعون أن يخلقوا بأدبهم ملوكا وأبطالا، وينشئوا عالماً، ويقيموا لأنفسهم وللناس دنيا، إن تكن من الوهم، فرب وهم فعل في نفس صاحبه من الحقيقة، وأثبت من الواقع. ورب شخص (روائي) خرج من خيال أديب، أحيا حياة، وأظهر وجوداً من أشخاص اللحم والدم، أسمعتم بعطيل ودون جوان وآرباجون؟
وبعد فهذا دفاع عن الأدب، لا عن الأدباء، فاقبلوه أو لا تقبلوه، إنما علينا أن نقول، وقد قلنا.
علي الطنطاوي
اللغة العربية
للأستاذ وليم مارسيه
رئيس المعهد العالي للدراسات التونسية
كان لجزيرة العرب في شعرها الجاهلي أدب من هذا النوع الذي نسميه كلاسيكياً، وذلك منذ القرن السادس المسيحي، في عصر لم تكن كبريات لغاتنا العصرية قد تجلت فيه بعد خصائصها. وإنما أعني بالأدب الكلاسيكي مجموعة من الآثار الأدبية تبدو لك معبرة عن قصد سام بعينه، وعن موقف خاص من مشكلة الحياة ومصير الإنسان، وعن ضرب من الشعور والفهم في لغة أحاطت بها كل العناية لوضع صناعة دقيقة راقية تامة الشروط. وكان أصحاب تلك القصائد القديمة ينطقون أحياناً بالحكم؛ لكنهم قليلاً ما كانوا يفكرون التفكير المنطقي أو يستنتجون. بل تميل نفوسهم إلى الفوران مع شرارات متتابعة من الصور الخيالية والأمثال، ومن صيحات الحب أو الغضب التي أمتزج فيها اللطف بالقساوة وأقترن العطف بالعنف، وإنما يجري تنسيق الألفاظ فيها طبق نظرية خاصة للجمال الفني يعتبر الإيجاز من أهم قواعدها. وأسمى غايات الشاعر أن يكون لكل بيت من أبياته من التفوق في أيجاز العبارة ومتانتها ما يجعل قوله تسير به الركبان فيصبح كالمثل عند قومه والناطقين بلغته، ومع ذلك فلم تكن تلك القصائد الشبيهة في قوة طابعها بضرب النقود خالية من بعض الغموض؛ إذ لكل لغة سرها الخاص بها. بفضله لا يخلو شعرها من هذه الميزة والطابع الخاص. . .
أما في العربية، فللعبارة من المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع إليها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها. ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه.
فالعبارة العربية إذن كالمزهر، إذا نقرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلتحق بها، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وإذا نحن نظرنا إلى العربية من حيث الصناعة أدركنا في غير عناء أن سبك اللغة العربية
فيه للشعر ومادته كنوز زاخرة لا تحصى وموارد، فلقد كان نشوء هذه اللغة وتطورها مبنياً في أعظم قسط من مفرداتها على التداول بين المقاطيع المقصورة والمقاطيع الممدودة.
وإذن يجوز لنا القول بأن اللغة العربية ذات تقاطيع شعرية في ذاتها، فلا غرابة إذن أن يكون واضع علم النحو هو الذي ضبط تلك المقاطيع. أما الأوزان والتفاعيل الشعرية، فإنها مؤلفة من مجموعة متأثرة بالصيغ الصرفية. وإن لهذا الاستعداد الشعري العظيم آثاره القوية في توجيه الآداب العربية، فالرأي الغالب عند جميع الناطقين بالضاد في سائر العصور أن الأدب شعر قبل كل شيء. لذلك كان مؤرخو الآداب العربية ونقادها يقتصرون من آثارها على فن الشعر أو يكادون، فلئن كان قدامه قد أطلق على أحد كتبه أسم (نقد النثر)، فهو على ذلك لم يعالج في ثلاثة أرباعه غير الشعر. وهل الجاحظ قد روى معظم كلامه الذي أستشهد به في كتاب (البيان والتبيين) إلا عن الشعراء أو عن إخوانهم الخطباء؟ وإذا كان بديع الزمان قد تردد في الإذعان لما للجاحظ من فضل في الميدان الأدبي، فما ذلك كما قال، إلا لان الجاحظ وإن كان ناثراً بارعاً لم يكن إلا شويعراً، وإذن فمن الواضح أن الذي لم تكن له الأسبقية في صناعة الشعر ليس على حسب نظرية بديع الزمان لرجل الأدب حقاً. وعلى ذلك فقد أحرز النثر في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام مكانه اللائق به، ووافق ظهوره - مثل ما هو الشأن عند سائر الأمم - ما حصل من تقدم في التفكير وطرائق البحث في المواضيع العلمية.
وفي الواقع كان أهل صناعة التفكير المنطقي الإستنتاجي والفقهاء والمشرعون على اختلاف مذاهبهم، هم الذين سبقوا غيرهم من الكتاب بتطور النثر على أيديهم. ويحكى أن (بلزاك) كان يحمل نفسه على مطالعة كتاب (القانون المدني)، فيراه على أسلوب لا يجاري في الوضوح والاقتصاد والدقة. ولا أضنني مخطئاً إن قلت: إن عدداً لا يستهان به من رجال الشرع الإسلامي وأئمة الدين كانوا في عدد كبار الكتاب. ألا نجد مثالا من ذلك عند الجاحظ، وهو أكبر كتاب القرن الثالث الهجري بلا منازع؟
فليس من شك أن الجاحظ كان قبل كل شيء من رجالات الفقه الإسلامي، فلقد أنصرف فيما لا يقل عن نصف تآليفه إلى البحوث الدينية. وهل ينكر أحد أن كتاب (الحيوان)، وهو أكبر تصانيف الجاحظ، خاضع في جملته لشئون توحيدية، إذ كان مصنفه يريد أن
يستخلص من درس الطبيعة وبالخصوص من النظر في شؤون الحيوان ما يقوم حجة ناهضة لتأييد مذهب الاعتزال.
ومهما يكن من الأمر، فلا مندوحة من الاعتراف بأنه قد تكون في الثالث للهجرة نثر عربي يتصف بغزارة المادة وتنوع الأسلوب، صالح للرواية وللجدال النظري معاً، قادر على تتبع الفكرة والالتصاق بها في كل منعرجاتها، وعلى أداء جميع دقائق المعنى. ولم تمض مائة سنة حتى زال هذا اللون من النثر العربي المتصف بانتقاء اللفظ واختياره وبانسجام عدد النغمات، وقام مقامه النثر السجع.
وفي الحقيقة لم يكن هذا النوع من النثر المسجوع زائراً جديداً في اللغة العربية، بل كان عندها أسلوباً قديماً مألوفاً يرجع عهدها به إلى العصر الذي كان النثر فيه خطابياً أو شفاهياً على أقل تقدير إذ كان موجهاً في الحقيقة إلى السمع لا إلى النظر.
ويظهر أن هذا اللون من النثر المسجع قد قطع ثلاثة القرون الأولى من الإسلام يحيا حياة فاترة محدودة النطاق، فلم يكن يستعمله ألا نفر قليل من الدعاة، ولا تجد له من وراء ذلك أثراً الا السجعة أو السجعتين يضيفها مشاهير الكتاب إلى جملهم المرسلة.
فإذا ما حل القرن الرابع للهجرة أصبح هذا اللون من النثر هو الغالب وطغى على غيره وعم. وإذا به مستعمل في مواضيع من الأدب وأبواب لم يكن قد طرقها من قبل، بل هو يمتد إلى ما وراء المواضيع ويقتحم إلى ما أبعد من الأبواب فيصبح متصرفاً في كامل الآداب النثرية أياً كان لونها ومهما كان غرضها سواء أكانت من آداب الخيال والقريحة، أم من آداب التراسل، أو من كتب الأخلاق، أو من آداب الدواوين، أو في المواضيع التاريخية. . .
ولعل السبب في هذا التغلب القاهر راجع إلى ما كان مشهوراً في سائر الأوساط الأدبية من تفوق الشعر على النثر. وكان نثر ابن قتيبة، وقد ظهر منبسطاً منسجم المفردات مرسلا ينظر إليه عند المولعين بفن الشعر كما ينظر إلى فتاة الأسطورة الفرنسية (سالدريون)، فقد كانت تفوق أخواتها وأترابها جمالا وذكاء نفس؛ إلا أن بساطة أخلاقها وتواضعها كانا يظهرانها في مظهر الفقر والخصاصة فكانت لذلك منبوذة. وقد بدا للمغرمين بالشعر أن هذا النثر المنبسط المرسل في حاجة إلى زينة وحلي، وهكذا جعلوه نثراً مسجعاً
ومع ذلك، فأنه يجمل بنا ألا نشدد الحكم على النثر المسجوع فهو الذي أمد العربية بعدد من جواهرها الأدبية، وهو الذي أكسبها آثاراً فيها من جودة الصناعة ودقة النقش ما يجعلها مثالا تطبيقياً لقاعدة الفن المطلق الخالص، أو ما يعرف عندهم بالفن للفن. . . ولا يمكن مع ذلك نكران العراقيل الخطيرة التي انجرت من هذا النثر للعبارة الصحيحة الكاملة الموفية بحق المعنى بالقياس للنثر وجوهره. ولا يمكن أن نغفل عما كان لهذا النثر من سيئ الأثر على الأسلوب، فقد جر له الفقر وحمل الكتاب على الاقتصار من أساليب الكتابة على الجمل القصيرة من شتات السجع، فأفضى بعدد منهم إلى التضحية بالمعاني واللب في سبيل العناية بالشكل والأسلوب.
ولكن هذا النوع من النثر قد انقضى اليوم عصره وزال سلطانه. فلقد عادت الحرية المطلقة إلى النثر بفضل نهضة الآداب العربية التي بدأت منذ ثلاثة أرباع قرن تقريباً
وفي هذا الباب ذكر بعضهم مراراً عديدة ما للتأثيرات الأجنبية من فضل على هذه النهضة سواء من حيث الأسلوب وفن التعبير، أو من حيث تجديد اللون الأدبي في ذاته، واختيار المواضيع، وهي عوامل لا يمكن نكرانها، ولكنها لم تكن لتؤثر لو لم تصادف رغبة دفينة في الانبعاث، وشوقاً إلى إحياء تراث عظيم قد وقف سيره: تراث القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ذلك أن البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل في باب العبقرية إلا ما كان ملائماً للخلاصة الخالصة من عقليتهم مسايراً لما لها من حركة وتوثب. وباختصار لا يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها إلا ما كان حياً في قرارة أنفسهم متوثباً للوجود.
وهاهو ذا اليوم النثر العربي قد تهذبت حواشيه واتضحت آياته وتم تجديده على أيدي الجبلين الأخيرين من الكتب، وبفضل ما بذله هؤلاء من جهود متواصلة، وما صبروا عليه من جد وعمل، فأصبح هذا النثر أهلا لأن يكون أداة تعبير لحضارة عصرية. وبلغ هذا المستوى من الرقي الذي به يتم تأليف الآثار الفنية الخالدة. وإنما نعني بالآثار الفنية الخالدة آثاراً لها من قوة السبك ومن الامتلاء بالحقائق البشرية ما لا تنال منه الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو تذهب به؛ (فدون كيشوت) لمؤلفه (سرفانتاس) وكتاب (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) وكتاب (كيم) لـ (رويارد كبلنغ) كلها كتب قد حافظت في نصوصها الفرنسية
على أوفر قسط من جمالها وروعتها
وإني أؤمل بكل قوة أن يأتي اليوم الذي يوجد فيه تصنيف لمؤلف عربي من المعاصرين ينقل إلى اللغات الأوربية فيقيم لأبناء الغرب الدليل على أن أبناء عدنان وقحطان قادرون مرة أخرى على تنمية كنز الفكر البشري
(عن نشرة الدراسات العربية بالجزائر ترجمة الثريا)
وليم مارسيه
2 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
(أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهم فاقتله)
(من وصية إبراهيم الإمام العباسي لأبي مسلم الخراساني)
للأستاذ محمد خليفه التونسي
عرضنا في المقال الماضي (الرسالة: العدد 637) عرضا موجزاً يسيراً ما كان من موقف الأمويين إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وعارضناه بموقف مؤسسي الدولة العباسية إزاء مخالفيهم في الرأي والسياسة، وبينا وجوه الخلاف بين الموقفين، كما أوضحنا موقف هؤلاء وأولئك من العرب والفرس وما كان من اطمئنان الأمويين إلى العرب وحذر الآخرين من العرب والفرس معا وضرب كلا العنصريين بالآخر لسوء ظنهم بهما معا، وأوضحنا أن النعرة الفارسية ظهرت منذ فتح العرب فارس في عهد عمر الذي لم يكن قتله إلا مؤامرة فارسية لكيد العرب، وما كان من خوف تسلط الفرس على مؤسسي الدولة العباسية فدفعهم إلى الإفراط في الاتهام والقتل لمجرد الشبهة، وما كان من طموح الفرس إلى الاستقلال وتطلع أبي مسلم إلى السلطان حتى قتله المنصور، وسوء ظن العباسيين حتى بوزرائهم وقتل كثير منهم مما أدى بخالد بن برمك إلى كراهة أن يسمى وزيرا تطيرا من القتل كما قتل قبله أبو سلمة الخلال، وما كان من إسراف العباسيين في الحجر على الحرية الفكرية خوفاً على دولتهم من الانهيار، وأن المنصور كان يحجر على حرية الرأي في كل ما يمس الحكومة ونظمها ليس غير حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم ويعاجل بالقتل كل خارج عليه، بل كان من كان وجوده خطرا عليهم ولو لم يكن يستحق القتل وما كان من عدم مراعاته في ذلك حدود الدين ولا قواعد العرف العربي ولا العهود التي قطعها على نفسه. وقلنا في ختام المقال: (فلما جاء أبنه المهدي سنة 158 هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة ولكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة؛ إذ كانت الزندقة
طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها إن صدقا وإن كذبا، جادا في البحث عن أتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه، ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستنداً للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً كريماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله).
ولتفصيل ذلك لابد من بيان الحوادث التي حملت المهدي على تشدده في عقاب الزنادقة، وبيان صفاته النفسية والفكرية التي جعلته يتخذ أسلوباً خاصاً في النظر إلى هذه الزندقة وهؤلاء الزنادقة. ولابد من عرض بعض المحاكمات التي جرت بينه وبين كبار الزنادقة والتهم التي وجهت إليهم أثناءها حتى قضى فيها بالقتل أو بغيره. ولابد لنا مع هذا كله من أن ننظر نظرة ربط إلى أمرين مترابطين بوجودهما هما الزندقة والشعوبية أو الوطنية الفارسية إذ لا حيلة لنا في فهم الزندقة فهما صحيحا ما لم ننظر إليها مرتبطة بهذه الشعوبية الفارسية التي كانت السبب الأهم فيما قام في فارس من ثورات على الخلفاء من العرب أو حروب استقلالية، فلم تكن تلك الفورات المتتابعة إلا لطلب استقلال الفرس الذي انتزعه العرب منهم، ومحاولة التخلص من السيطرة العربية ولا سيما بعد أن زاد الاضطهاد ورأى الفرس بأعينهم أنهم قادرون على هزيمة العرب بما جرى بين الفريقين من وقائع انتصر فيها الفرس على العرب ومنها المعارك التي كانت الجيوش الخراسانية وجيوش الأمويين وانتصار الأولين وهم فرس على الآخرين وهم عرب، ولقد كان ما كان من ضياع أمل الفرس في العباسيين بعد أن مكنوا لهم دولتهم، وجحودهم الذي ظهر في قتل المنصور أبا مسلم، وإخماده ثورة تلميذه سنباذ الذي ثار للمطالبة بثأره حين ثار عليه في سنة 137 هـ وهي سنة مقتله، وما كان من قمع المنصور الراوندية حين خرجوا عليه لقتله في الهاشمية سنة 141 هـ وقد كانوا على رأي أبي مسلم في زعمه تناسخ الأرواح، وادعوا أن ربهم الذي يطعمه ويسقيهم هو المنصور، وأن الهيثم بن معاوية أحد ولاته هو جبريل. ولابد لنا من النظر بعد ذلك في عقائد فارس المانوية والمزدكية لفهم الآراء التي كانت تتوج هذه الفتن ولا سيما فتنتي الزنادقة المحمرة والمبيضة في عهد المهدي، وتحديد معنى الزندقة كما تآراها المهدي والمعاني الآخر التي ذائعة في ذلك العصر لكلمة الزندقة وكانت تطلق على
كثير ومع ذلك ظلوا بعيدين عن العقاب بل ظلوا في كنف الدولة ينالون خيراتها ويحتمون بها بل يلون ولاياتها من الخلفاء ويقودون جيوشها مع الثقة والتقدير، ولابد من الإشارة إلى دسائس البلاط ومكايد السياسة والتنافس بين رجال البلاط وما كان لكل ذلك من الخطر في إشاعة التهمة بالزندقة والعقاب عليها على ما ستفصله إن شاء الله.
ونكتفي في القول في توارث الزنادقة بعرض موجز لأخطر ثورتين ظهرتا في عهد المهدي: إحداهما ثورة الزنادقة المبيضة في خراسان وقد ظلت نحو عامين وثانيتهما ثورة الزنادقة المحمرة بعدها وقد تم إخمادها بسرعة ويسر، فقد كانت هاتان الثورتان هما اللتين وجهتا نظر المهدي إلى الزندقة وجهة خاصة وصبغتا عهده بها صبغة خاصة مما لم يكن له قبله مثيل. وهانحن أولا نلخص أخبارهما مما كتب كل من الطبري وابن الأثير في تاريخه: ظل المنصور يدبر ملكه قرابة اثنتين وعشرين سنة (136 - 158هـ) وقد توفى في يوم السبت سادس ذي الحجة سنة 158هـ ببئر ميمون محرما وهو يقوم بشعائر الحج وقد تولى الخلافة بعده ابنه المهدي ولم تمض بضعة أشهر من سنة 159هـ أو من خلافة المهدي حتى فوجئ بثورة عوان في خراسان هي ثورة الزنادقة المبيضة فاضطرب لها ملكه وزلزل زلزالاً شديداً. ذلك أنه خرج في خراسان في هذه السنة (159هـ) رجل من الفرس يسمى هاشم بن حكيم وهو المعروف في التاريخ بالمقنع الخراساني لأنه كان يضع على وجهه قناعا من الذهب ليخفي به دمامة وجهه ولو لم تكن ثورته كثورة غيره انتفاضا على الدولة لاستبدال خلافة بخلافة أو الثأر لقبيلة من قبيلة أو نصر جيل على جيل بالقوة جيل بالقوة فحسب، بل كانت إلى جانب محاولة التخلص من الحكم العربي لفارس ثورة ذات آراء خاصة في الدين والكون: كانت نزعة عنصرية فارسية بدليل أنها قامت في خراسان، والقائمين بها من الفرس، وكانت ترمي لأخذ الثأر من الخليفة والعرب جميعاً: فقد كان المقنع يقول بتناسخ الأرواح وأن روح الله ظهرت في آدم ثم انتقلت إلى نوح وهكذا إلى أبي مسلم ثم المقنع نفسه، فهو إذن يدعى الربوبية لنفسه، وهذا ما لم يزعمه ثائر قبله لنفسه، ومن أجل ذلك كانت ثورته ذات طابع خاص يميزها من الثورات التي تقدمتها وإن اتفقت معها في كثير من الغايات. ومن أجل ذلك أيضاً كان من الحزم والفطنة أن ينظر إليها الخليفة المهدي نظرة خاصة تمتاز عن نظراته إلى الخارجين عليه من الطلاب الملك
والمغانم وغيرهم.
نهض المقنع يدعو من حوله إلى الإيمان بربوبيته والأخذ بتعاليمه في خراسان وما وراء النهر فاستوفى بشراً كثيرا من الصغد وبخاري وسمرقند وأتراك بحر قزوين، وامتد نفوذه في تلك البقاع النائية ونبه أمره، وكان أتباعه يسجدون له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولون في الحرب:(ياهاشم أعنا) وتحصنوا في قلعة بسيام وسنجرده وهي من رساتيق كش فيما وراء النهر، وأعانه كفار الأتراك فأغاروا على المسلمين، ومان يعتقد أن أبا مسلم لأفضل من النبي عليه السلام، ويدعى أنه يقتل قاتليه؛ واجتمع مع من والوه بكش وغلبوه على بعض قصورها وعلى قلعة نواكث وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر من ولاة المهدي في إقليم خراسان وما وراء النهر مرة بعد مرة فلم ينالوا منهم شيئاً، وقتلوا حسان بن تميم ومحمد بن نصر وغيرهما من الولاة. وعندئذ لاح الخطر على الدولة للمهدي فعبأ جيوشه ووجه بها إلى المقنع يقودها أبرع قواده فعجزوا عن إخضاعه: ومن هؤلاء معاذ بن مسلم واليه على خراسان ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وأخوه يزيد وليث بن نصر بن سيار مولى المهدي. ولقد أشتغل هؤلاء بقتال المقنع وزنادقته المبيضة الذين كانوا ببخارى فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكت ونقبوها عليهم وقتلوا منهم سبعمائة، ولكن منهزميهم لحقوا بالمقنع فكانوا له قوة، ولقد تبعهم جبرئيل بن يحيى بعد أربعة أشهر في القتال بلا جدوى. وكان ممن سيرهم المهدي إلى المقنع قائده أبو عون فلم يبالغ في قتاله. واستمرت الحرب بين جيوش المهدي وجيوش المقنع نحو سنتين حتى عيل صبر المهدي ولقي المسلمون منه بلاء عظيما، وكان المهدي أثنائهما يبعث بقواده على جيوشه مجتمعين، وفي نهاية الأمر أرسل معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم وجاعة من القواد والعساكر وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم من فاجتمع به بالطواويس وأوقعوا بأصحاب المقنع، وأتى معاذ بن سعيد فحاربهم، ولكن كل أولئك لم ينزل الهزيمة الساحقة بالمقنع وجيوشه. وجرت في نهاية الأمر جفوة بين القائدين سعيد الحرشي وعاذ بن مسلم فكتب سعيد إلى المهدي يقع في معاذ ويضمن له أن يكفيه المقنع أن افرده بالقيادة فأجابه المهدي إلى ما طلب، فبدأ يطارد المقنع ويضيق عليه ويحاصره وإذ ذاك شعر المقنع بالخطر فبدأ يجمع الأقوات
والأسلحة عدة للحصار، ولكن سعيداً ضيق عليه الحصار حتى أيأسه من النصر والحياة والمقنع محصور في قلعة كش، فلما أحس بالهلكة شرب سما وسقاه نساءه وأهله فمات وماتوا جميعاً، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي وهو بحلب.
ولقد عرف المقنع الخراساني هاشم بن حكم وأتباعه بالزنادقة المبيضة لأنهم اتخذوا اللباس الأبيض شعاراً لهم
هذه هي الصدمة الأولى من صدمات الزنادقة التي أصابت الدولة العباسية في عهد المهدي فاضطربت له دولته جميعاً وتتابعت لها الزحوف إثر الزحوف نحو سنتين حتى أخمدتها بعد لأي شديد وإسراف كثير في الأرواح والأموال، ولم يكن المهدي قبل ذلك إلا عالماً أقوى العلم خطر إقليم المشرق فمنه انبعثت الجيوش الخراسانية التي دكت المملكة الأموية دكا، وأسلمت الخلافة للعباسيين، وما كان المهدي ليجهل خطر الفرس وما أنزل بهم العرب من بلاء طوال مدة بقائهم في الأقاليم الفارسية، ولا حقد الفرس على العرب وتربصهم بهم الدوائر، وما كان من قتل أبي مسلم ومطامعه وثورة تلميذه وتابعه سنباذ ثم ثورة الراوندية، وما كان ليجهل الدوافع القريبة والبعيدة التي أثارت هذه الفتن؛ ولم يكن ينقصه سوء الظن والدهاء وكان الأمران من أهم الأركان في سيساة الدولة العباسية من عهد السفاح بل قبله إلى عهده هو (المهدي)
أما الثورة الثانية فقد جاءت إثر الثورة الأولى بعام واحد تقريباً وإن لم تبلغ من القوة ما بلغت الأولى ولم تكلف المهدي من الأموال والأرواح والمتاعب ما كلفته تلك: قامت هذه الثورة في المشرق أيضاً (وهكذا المشرق دائماً) في ولاية جرجان شرقي بحر قزوين، وكان القائمون بها يعرفون بالزنادقة المحمرة لأنهم اللباس الأحمر شعارهم، ولا خلاف بين الطبري وابن الأثير في أن هذه الثورة كانت سنة 162 هـ، بل تكاد كلماتهما تتحد في الرواية. قال ابن الأثير في أخبار سنة 621 (وفيها خرجت المحمرة بجرجان عليهم رجل اسمه عبد القهار فغلب عليها وقتل بشراً كثيرا فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان فقتله عمر وأصحابه)
وقد انتشرت تعاليم طوائف الزنادقة بين الناس فيمار وراء النهر وخراسان والولايات الفارسية الغربية والشمالية، وتسربت أيضاً إلى العراق، وكانت تعاليمها مزيجاً من فلسفة
ماني واشتراكية مزدك كما سنفصله إن شاء الله، فهب علماء المسلمين ممن اشتغلوا بعلم الكلام يردون على هذه التعاليم. ولقد كان لتعاليم الزندقة بعدئذ وقبلئذ أثر عظيم في نظريات علم الكلام واتجاهاته بل اتجاه الفكر الإسلامي كله حينذاك وفي أقوال الشعراء الفرس، حتى لا نستطيع أن نفهم بعض مذاهب المتكلمين وأقوال بعض الشعراء وبعض اتجاهات الفكر الإسلامي بل كله في ذلك العصر إلا إذا درسنا حركة الزندقة. ولا حيلة لنا كما قدمنا في فهم معنى الزندقة بل معانيها المختلفة ما لم ندرس حركة الشعوبية التي ظهرت كما قدمنا منذ وطئت أقدام العرب أرض فارس في عهد عمر بن الخطاب ولم تظهر في غيرها من البلاد التي فتحها المسلمون كمصر واليمن والشام وبلاد المغرب وموعدنا بذلك المقال التالي إن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
تصويب
في مقالنا الأول (الزندقة في عهد المهدي العباسي) المنشور بعدد الرسالة 637 وقع خطأ في أسم أبي سلمة حفص الخلال فكتب في صفحة 1013 أبو حفص سلمة الخلال، وفي صفحة 1014 أبو سلمة وصوابه - كما قلنا - أبو سلمة حفص الخلال كما يفهم من الأبيات التي نقلناها هناك، ومنها:
شرب الكأس بعد حفص سليما
…
ن ودارت عليه كف المدير
الشباب الخالد
توطئة دراسات في الأدب والنثر
للأستاذ جورج سلستي
ليس الشباب العمر ما أعني، وعمر الشباب كعمر الورود سرعان ما تبلوه الحياة بالأعاصير فيذوي!
ولا الربيع - شباب الطبيعة - وهو ما إن يرود برونقه النضر حتى تصّوحه لافجات السمائم!
ولا شباب الدول ذوات الحول والطول وهو مهما يطل لا بد له أن يدول! فالخريف كامن في أعقاب هذه جميعاً وإنما ثمة شباب لا يدركه الخريف: شباب لا يعروه الهرم ولا يدب إليه وهن الكبير.
شباب غيساني، أبدي السني والرواء، دائم الوضاءة والحسن، يعدو الزمن العصيب فما يطاوله بحدثانه، ويدور الدهر الحريب فما يديل من ريعانه!
شباب يزدري بسطوة العفاء، ويهزأ بعاديات الفناء، لأنه ينبض أبداً بمضاء القوة وعزة الحياة وزهو الخلود!
شباب شاخت الدول وباد منها ما باد ولم تدل دولته. واندرست جلائل المعالم كما عفت روائع الآثار وهو أبداً ريق الصبا يطاول بعزته السماء ويتحدى بخلوده الأزل!
ذلكم الشباب المؤبد هو شباب الفن الرفيع، شباب الأدب: يهرم الكون وهو غض وتبلى جدة الدهر، وهو زاه نضير، وليس كالأدب ما يتخطى هامات الأجيال بأبهةٍ وجلال، محتفظاً بسحره الأخاذ وروعته القدسية. وإن العلم ليتبدل من حال إلى حال، بل إن من نظرياته ما أنقلب رأسا على عقب بتقدم العصر وارتقاء الفكر، وإن ما كان يحسب فيه حقيقة ثابتة لا مراء فيها في جيل، نقضه الجيل الذي تلاه. وقد ينقض العلم غدا ما يبرمه العلماء اليوم، في حين أن نفثات هوراس وهوميروس وفرجيل ودانتي وملتون والمعري وشكسبير وأترابهم من الشعراء والأدباء الأفذاذ لتجد فيها النفوس في اليوم الحاضر ما وجدته من قبل نفوس الأمس البعيد الغار من متعة ولذة وأنس، ولسوف تتناقلها الأفواه في مؤتنف الأيام كما كانت تتناقلها الألسن في سالفات الأعوام، ولسوف يظل يتلوا الناس آيات الشعر
والأدب ما دام فيهم من تستهويه لفتات الخاطر المشبوب، وومضات الذهن المتوقد، وعذوبة المنطق المعسول، وستنشد أهازيج الهوى التي تغنى بها سليمان الحكيم كما تتلى غزليات ابن المعتز ووجدانيات ابن زيدون؛ وإن العالم ليستمتع بها - على قدم العهد - كما يستمتع بروائع دي موسه، وبدائع لامرتين، وطوائف الأخطل الصغير، وستبقى أبدا نزهة الأرواح ومتعة النفوس ما دام للناس قلوب تخفق، وأكباد تحن، ومهج تتشوق.
وتقدير الأدب ليس بالبدعة المستحدثة في التاريخ، فقد عرف الأقدمون له جلال القدر ورفعة المنزلة فبوءوه حرمات التقديس. ومن البدائه المأثورة أن العرب في الجاهلية كتبت على القباطي بماء الذهب مختاراتها من روائع الشعر الحي وعلقتها بالكعبة تقديرا لها وتعظيما.
وإن الإغريق قد كتبوا بالذهب على جدران معبد أثينا في لمنوس القصيدة العصماء التي قالها بندار زعيم الشعر الغنائي في مدح دياجوراس
وهل كان الملوك والأمراء يبذلون المال والهبات على الشعراء الأفذاذ بمثل ذيالك السخاء العظيم لولا طمعهم في خلود الذكر في القصائد الرنانة التي كانت على ألسنة الناس كالمثل الشرود؟!
وإنها والله لصفقة خاسرة للشعر أن تشتري روائعه الخالدات بمتاع منفوق.
يروي التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال لبعض أولاد سنان ممدوح زهير بن أبي سلمى:
(أنشدني بعض مدائح زهير في أبيك) فأنشده. فقال عمر: (إنه كان ليحسن فيكم القول) فقال ابن سنان: (ونحن كنا نجزل له العطاء). فقال عمر قوله المأثور الخالد: (قد ذهب ما أعطيتموه وبقى ما أعطاكم!).
ألا طيب الله ثراك يا أمير المؤمنين وكرم مثواك. فقد زكيت الفن الرفيع بشهادتك الخالصة التي أديتها لوجه الحق مختارا فشتان بين ما يذهب كالزبد جفاء وما يمكث في الأرض ويبقى ماكرَّ الجديدان.
وبعد. فسر خلود الأدب قائم في كونه رسائل الأرواح في جلاء الحق والحب والخير والجمال، ومرآة تتجلى فيها سرائر النفوس ونزعات الأهواء، فهو لذلك من خصائص كل
أمة في كل جيل رهفت في بنيها الأحاسيس وذكت الخواطر، وسمت الأرواح. وإن نفس كل امرئ لتظل تهفو إلى الأدب المائع والفن الرائع ما دامت طليقة من إسار المادة وجشع الأثرة وعبودية الروح. وما ركود الأدب في عهد من عهود التاريخ إلا دليل على فقدان القيم الروحية لدى أبناء ذلك العهد المشؤوم. وما ازدهار الأدب في حقبة من الحقب إلا دليل الشعور بالكرامة، وصقل النفس، ورهف الحس، وسمو الروح والتقرب من بلوغ الكمال. فإن أعوز المصلح أن يعترف إلى مقدار التهذيب عند شعب من الشعوب، وأين هو من كرم الخلق فليسبر مدى تذوق بنيه للأدب الرفيع، فقد كان الأدب الرفيع وسيبقى أبد الدهر مقياس الرقي عند الأفراد والأمم على السواء.
ولئن كانت النفوس تنزع بطبيعتها للشرور وتميل للغرور فإن الفنون - على أنواعها - كفيلة بالتلطيف من حدة النزوات وقمينة بتنمية الفضائل، وإن الأدب من الفنون بنوع خاص يصقل النفوس، ويرهف منها الأحاسيس ويحبب إليها الشهامة والإباء والعزة والنبل.
ولقد كان الخلفاء في الإسلام كما كان الملوك والأمراء في الجاهلية يوصون الآباء بتثقيف البنين الشعر والأدب لتسمو أخلاقهم وتدمث طباعهم. وقد بلغ من إعجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (بلامية العرب) للشنفري الشاعر العداء المشهور أن قال:
(علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلم مكارم الأخلاق)
وقال أيضاً رضي الله عنه:
(تعلموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى).
ولله در من قال:
وما هو إلا القول يسرى فتغتدي
…
له غُرَرٌ في أوجه ومواسمُ
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
…
بناةُ المعالي كيف تُبنى المكارمُ
وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(الأدب حلى في الغنى، كنز عند الحاجة، عون على المروءة، مؤنس في الوحدة، تعمر به القلوب الواهية وتنفذ به الأبصار الكليلة ويدرك به الطالبون ما يحاولون)
وقال معاوية بن أبي سفيان:
(اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر دأبكم فما حملتني على الإقامة ليلة الهدير بصفين وأنا أريد
الهرب لشدة البلوى إلا أبيات عمرو بن الأطنابة التي يقول فيها:
أبت لي همتي وأبى بلائي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي
…
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
…
وأحمي بعد عرض صحيح
وهل الأمجاد لولا الأدب الحي إلا أطلال؟
فقد مرت بتاريخ البشرية عصور يذكر فيها الفاتح واللعنة في أثر اسمه على الأفواه، والحاكم الداهية وبسمة الامتعاض والاشمئزاز تعلو الثغور، والسياسي الأريب وإمارات النفور تبدو على الأسارير، وذلك لأن أمجاد هؤلاء جميعاً لم تقم إلا على الدم المطلول أو الوعد الممطول أو العرض المبذول، ولقد دالت هاتيك الأمجاد ولم يبق إلا مجد الأدب. ألا رحم الله ابن الرومي القائل:
(أرى الشعر يحيي الناس والمجد بالذي=تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد
…
وما الناس إلا أعظم نخرات)
تلكم هي منزلة الأدب في النفوس ومكانته في القلوب، وذلكم أثره البعيد في الناس.
فلا غرو إذن أن يخلد على الدهر ولا بدع أن يسلم على الزمن! وكيف لا يظل غض الإهاب بيان يستروح فيه الناس أعراف الجنة وأنسام الخلد، ويرون فيه ربيعاً سرمدياً منضر الجنبات، منور الحواشي؛ بيان سمح ينفس عن القلب المكروب، ويروح عن الفكر المجهود، ويمتع النفس اللاغبة، ويسمو بالروح من حضيض الغبراء إلى ذرى الجوزاء ويحلق بها في دنيا غير الدنيا وعالم غير هذا العالم. دنيا زاخرة بأطياف الأماني الغرر والأحلام الوضاء. وعالم رحب الأجواء، نير الرؤى، رخي النفحات، عباق النسمات بالأرج المحيى والشذى المعطار.
وهل الدنيا إلا صحراء لاهبة واحتها المخضلة هبات الفن السامي ونتاج العبقرية الخلاقة؟!
وهل العيش لولا تلكم النفثات العذارى التي يطرف العالم بها أرباب الفن وعباقرة الأدب إلا الشقاء الحرور، والغناء الفادح والوصب الممض؟!
كان الحسن البصري يقول ما مؤداه:
الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس الأدباء ومساجلات العلماء ومطارحات الشعراء.
ألا قدَّس الله سرك يا حسن، يا مجتلي النور في البيان السمح والمنطق المعسول.
(اسمعوا أيها الناس وعوا) على حد تعبير خطيب العرب وحكيمها وحكمها قس بن ساعدة الأيادي.
إنما الأدب عصارة القرائح وفيه تتجلى خلاصة الثقافات، وإنه لمستودع الحكمة والحكمة يا كرام الناس كرسالات الأنبياء من وحي السماء وما توحيه السماء لا يموت. وهل تعوزكم الأدلة والبينات وبين أيديكم الكتب المنزلة تهتفون بآياتها الساحرة آناء الليل وأطراف النهار؟
تلك الآيات التي تخشع عند تلاوتها النفوس خشعة الإكبار والإجلال والتقدير لهيمنتها على المشاعر واستحواذها على العقول والألباب حتى لكأنها السحر، بل أنها لكذلك وإن من البيان لسحراً.
سبحان رب العرش وتعالت كلمتك. ما كان قولك الحق ليحتاج إلى الأيمان البالغة تؤيده لولا أن في الناس أدعياء مارقين كالوليد بن المغيرة ينكرون نعمتك ويكذبون آياتك ويقولون عنها ضلة وزيفاً (إنها أساطير الأولين) فأقسمت - ويا لرهبة القسم العظيم (ن، والقلم وما يسطرون). تثبيتاً لبيانك الخالد وتنويهاً بالقلم وبأربابه رافعي علم حكمتك السامية بين الناس. وحكمتك هي الحق اليقين التي بها يهتدون.
أشهد اللهم أنك أنت الشاعر الأعظم، وأن أنبيائك المرسلين الأطهار أئمة الشعراء والأدباء أجمعين.
وأشهد أن للفن شباباً غضيراً يتحير في قسماته النورانية ماء الخلود.
(بيروت)
جورج سلستي
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين منجد
- 2 -
(ز) العيارون، اللصوص، المجرمون
وكان العيارون واللصوص وقطاع الطريق يودعون السجن وقد سجن المأمون نفراً منهم كبيراً. وقتل آخرين، وذكر ابن المعتز أن اسحق بن خلف، وكان أحد الشطار الذين يحملون السكاكين قتل غلاماً فحبس بذلك؛ فما فارق الحبس حتى مات.
وذكر ابن الجوزي أن المعتمد حبس ثلاثة من الجند لأنهم سرقوا. وأنه وجدت في خلافة المطيع امرأة قد سرقت صبياً، فشوته في تنور وهو حي، وأكلت بعضه، وأقرت بذلك، وذكرت أن شدة الجوع حملتها على ذلك. فحبست مدة، ثم ضربت عنقها.
وكان الأطباء الذين يغلطون فيودون بحياة الناس. فقد حبس الطبيب النصراني خصيب لأنه سقى محمد بن أبي العباس السفاح شربة دواء فمرض منها ومات وبقى في حبسه حتى مات.
(ط) الشعر، الضحك، الغناء
وقد يسجن الإنسان لأسباب حقيرة لا شأن لها، فتحدثنا كتب الأدب أن أبا العتاهية سجن مرة لأنه قال:
ألا إن ظبياً للخليفة صادني
…
ومالي عن ظبي الخليفة من عذر
وسجن مرة ثانية لأن الرشيد أمره أن يتغزل وهو معه في الرقة، فأبى وكان معه إبراهيم الموصلي؛ وكان قد أمره أن يغني، وقد مات الهادي فأبى أيضاً، فحبسه وقال: لا يخرجان حتى يغنني هذا ويشعر ذاك.
ويذكر الشابشتي صاحب كتاب الديارات خبراً يدعو إلى العجب والإعجاب في آن معاً، قال: خرج إسحاق بن إبراهيم من عند المأمون، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني وقف، ووقف القواد والناس لوقوفه. ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟ وكان على ذلك الوقت
صاحب أمر الدار والمرسوم بالحجبة. فأتى خليفته فضربه مائة مقرعة. ثم قال: الحبس، ثم قال: هاتوا خليفته صاحب البريد، فأتى به، فضرب مائة مقرعة. ثم قال الحبس، ثم دعا بعلي بن صالح، وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلدان خلافتكما في دار الخلافة من يضيع الأمور ويهملها. . . كنتما بهذا الأدب أحق من هذين! فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته أيها الأمير؟ قال: صاحب بريد، يقعد في دار الخلافة فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر. . .!)
وفي جميع هذه الأسباب ذكرت كتب الأدب أخباراً أخرى أخذنا منها ما يقوم به الدليل على ما ذهبنا اليه، ولم نعمد إلى التطويل.
أنواع السجون
نستدل مما أطلعنا عليه من النصوص أنه كان في بغداد أنواع منوعة من السجون. فهناك المطبق وهو حبس مظلم كبير، كان المنصور قد بناه بين طريق البصرة وطريق باب الكوفة. وباسمه سمى الشارع الذي يقع هذا السجن فيه. وكان متين البناء قوي الأساس. وبقى أهم سجون بغداد حتى عهد المتوكل). وكان فيها سجن آخر عند باب الشام، إذا ذكروه قالوا: السجن عند باب الشام وكان يهاجم دائماً. وكان عليه عثمان بن نهيك، وقتل في فتنة الراوندية فلما كان زمن المعتصم أمر أن يبني حبس في بستان موسى، كان القيم به مسروراً مولى الرشيد. يقول التنوخي (وكان هذا البناء يرى من دجلة إذا ركبها المرء وكان كالبئر العظيمة، قد حفرت إلى الماء أو قريب منه، وفيها بناء على هيئة المنارة مجوف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت، يجلس فيه رجل واحد، كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه، وليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله).
ثم بنوا سجناً آخر سموه السجن الجديد. وكان موضعه إقطاعاً لعبد الله بن مالك وبقى حتى جاء معز الدولة فهدم سوره سنة 350، ونقل آجره إلى داره وبنى به، وفي سنة 355 كتب إلى طاهر بن موسى أن يبني موضع الحبس المعروف بالجديد مارستاناً.
ولا نستطيع وصف ما فيها على التفصيل؛ وإنما نعلم أنها كانت ذات أقسام، فحبس للزنادقة، وحبس للعوام، وحبس للنساء، و. . .
وكان في المطبق الغرف الواسعات والضيقة. وكان فيه الآبار يسجن فيها. حدث يعقوب بن داود وزير المهدي قال حبسني المهدي، وذلك في المطبق. فدليت بحبل في بئر مظلمة لا أرى فيها الضوء قد بنيت عليها قبة، فكنت فيها خمس عشرة سنة.
وربما سجنوا في أماكن ومحال أخرى. فقد سجن سليمان ابن وهب في كنيف قال: فأخذني اسحق (بن إبراهيم، صاحب الشرطة) وحبسني في كنيف، وأغلق علي خمسة أبواب. فكنت لا أعرف الليل من النهار، وسجن المحسن بن أبي الحسن بن الفرات في كنيف داخل الحجرة، ودلوا في بئره رأسه بعد أن قيد وألبس جبة صوف غمست بالنفط. وربما سجنوا في الحجر الضيقة المظلمة، حدث أبو الحسن بن أبي الطاهر قال: قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب في وزارته للقاهر بالله، على أبي وعليّ معاً فحبسنا في حجرة ضيقة، وأجلسنا على التراب.
وكان الحبس الذي سجن فيه المهدي إبراهيم الموصلي مكاناً شبيهاً بالقبر مملوءاً بالأفاعي والبق. ولما سير المنصور جماعة من أبناء علي إلى الكوفة وحبسوا في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار أو سواد الليل.
وربما سجنوا في دار منفردة، كما فعلوا بأبي العتاهية لما طلب إليه الرشيد أن يتغزل فأبى ومنعوا دخول من يريد إليه.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر بنى المطامير ليحبس الجند فيها
وأناس آخرون كانوا لا يسجنون في هذه المحال. فقد كانوا يحبسون من يخافون عليه عند الوزراء. كما سجن عبد الملك بن صالح عند الفضل بن الربيع لما غضب الرشيد عليه، وكما سجن إبراهيم بن المهدي بعد القبض عليه وقبل العفو عنه، عند أحمد ابن أبي خالد. وربما أودعوا عند من يثق الخليفة به، كما فعل الرشيد عندما سجن موسى بن جعفر بدار السندي بن شاهك.
وكانوا يتخذون قصور الخلفاء سجوناً في بعض الأحايين. فقد حبس المستعين بن المعتصم، المعتز والمؤيد ابني المتوكل في حجرة من حجرات الجوسق الكبير. ويقول لسترانج إن الخلفاء (اتخذوا دار الشجرة التي شيدها المقتدر، حبساً رسمياً، وضعوا فيه أقرب أقربائهم احتياطاً من أعمالهم. وجعلوا في خدمتهم عدداً من الغلمان والخدم، وجهزوه تجهيزاً تاماً
بوسائل الرفاهية والنعيم، ومنعوهم من تخطي أسواره.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر حبس في دار السلطان مدة إحدى عشرة سنة، من (321 - 333)، ثم أخرج إلى دار ابن طاهر، فكان يحبس تارة ويخلى تارة.
ومنذ القرن الرابع أخذوا يسجنون عند القهرمانات. فقد سجن ابن الفرات عند زيدان القهرمانة، وسلم إليها أيضاً الأمير الحسين بن حمدان، والوزير علي بن عيسى.
في السجن
لا نعلم الكثير من أحوال السجناء في بدء العصر العباسي؛ على أننا نورد لك ما كتبه أبو يوسف للرشيد عن المساجين لنصور لك ما كانوا عليه. فقد طلب أبو يوسف للرشيد عن المساجين لنصور لك ما كانوا عليه. فقد طلب أبو يوسف أن يؤمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم؛ وأن يُصير ذلك دراهم تجرى عليهم، وتدفع في كل شهر إليهم (فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة. وول ذلك رجلا من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء من في السجن ممن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر. يقعد ويدعو باسم رجل رجل، ويكون الإجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد، وليس كل من في السجن يحتاج أن يجري عليه). ثم طلب أن تكون كسوتهم في الشتاء قميصاً وكساء، وفي الصيف قميصاً وإزاراً، وأن يجري على النساء مثل ذلك، وهذا يدلنا على سجن النساء، وكسوتهن في الشتاء قميص ومقنعة وكساء، وفي الصيف قميص وإزار ومقنعة.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
العالم الجديد
للأستاذ زكريا إبراهيم
عصرنا الحاضر عصر مضطرب ثائر، لا نكاد نجد له مثيلاً في التاريخ الغابر، فنحن نواجه اليوم حالة لم تعرفها الأجيال الماضية لأننا نحيا ففي عالم جديد يعج بالمشاكل المعقدة والمسائل الصعبة. وهذه الحالة التي تفرضها علينا مقتضيات هذا العصر، هي وليدة التطور الذي لحق الحضارة الإنسانية الحديثة. فليس من شك في أن علينا أن نكيف أنفسنا مع العالم المتغير الذي نحيا فيه، على ضوء المعارف التي نحصلها من الحركة العلمية المستمرة. والمعرفة هي - وحدها - التي استطاعت أن تغير معالم الكون، فلا بد لنا إذن أن نعتمد على المعرفة، حتى نستطيع أن نحقق التوافق بيننا وبين البيئة الجديدة التي نعيش فيها.
غير أن الخوف قد يقف حائلاً دون مواجهة الموقف الحاضر في صراحة وقوة؛ فإننا نخشى أن تقتادنا النظرة الجديدة للكون إلى الخروج عن معتقداتنا المألوفة وأفكارنا السابقة، ولكن هذا الخوف نفسه دليل قوي على أننا نشك في صحة تلك الأفكار والمعتقدات، ومن ثم فإننا نخشى أن نفحصها على ضوء الحقائق الجديدة والمعارف الحديثة. وإذن فالخوف ليس إلا مظهراً للشك والجهالة، وبالتالي فإن من واجبنا أن نطرحه جانباً إذا أردنا أن نكون مخلصين لروح العصر.
لقد أصبحت الشجاعة أول ضرورة من ضرورات هذا العصر فإن قيام العالم الجديد رهن بما أوتينا من شجاعة وقوة وإقدام. وليس من واجب الفكر أن يرتد فزعاً أمام تلك التيارات الرجعية التي قد تثور في وجهه، بل أن عليه يجهز بكلتا يديه على تلك الجيف الحية، لكي يقذف بها في زوايا التاريخ!
وإنها لمسئولية خطيرة تلك التي تقع على عاتقنا اليوم؛ فقد مضى على ذلك العصر الذي كنا فيه نعتمد على القوى المجهولة والمصادر الخفية في استقاء معارفنا ومعلوماتنا. وليس علينا الآن إلا أن نعتمد على نفوسنا ونفكر لذواتنا، في كل المسائل التي تواجهنا؛ وما أكثر هذه المسائل!
إن أسلافنا كانوا يتوهمون أنهم قد عرفوا كل شيء منذ الولادة حتى ما بعد الموت؛ أما نحن
فقد أصبحنا لا ندري ماذا يحدث بعد الغد! ومما لا ريب فيه أن للحرية الفكرية تكاليفها؛ فإنها ترفع تلك اليد التي تقود زمامنا، لكي تسلمنا إلى أنفسنا، وهنا يكون علينا أن نبحث كل شيء من جديد؛ ولكن لا كما يبحث الأعمى الذي يمسك بيده آخر، بل كما يبحث المبصر الذي يتحقق من كل شيء بنفسه.
ولن يكون في وسعنا أن نحل المسائل كما كان يحلها أسلافنا لأننا لن نطمئن إلى تلك الحلول السريعة التي تئب إلى المطلوب دون بحث واستقصاء. بل أن حلاً ما، مهما كان من صحته ودقته لن يكون حلا نهائياً حاسماً، مادامت معارفنا في تزايد مستمر وتقدم دائم. . .
أما النزعة اليقينية التوكيدية، فإنها لن تجد موضعاً في العالم الجديد. . . وكيف يمكن أن توجد مثل هذه النزعة في عالم يرى أناسه الحقائق كما هي، لا كما يقول بها مذهب معين أو رأي خاص؟
إن العالم الجديد هو عالم الفكر الحر، والبحث النزيه، والخير العام. فلن يشهد فجر الغد حجراً على التفكير، أو ميلاً إلى الطعن والتشهير، أو سعياً إلى الخراب والتدمير - وما دامت تلك الأصنام التي طالما تنابذ الناس من أجلها، لابد أن تندك يوماً، كما اندكت عروش أصحابها، فلابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يشرق فيه فجر الحضارة الإنسانية الصحيحة
ومن واجبنا الآن أن نعمل على هدم تلك الأصنام التي تعوق مجيء ذلك اليوم. حقاً إن الإنسانية طالما حرقت البخور لها، وعفرت الجباه أمامها، ولكنها قد أخذت تدرك اليوم أن من واجبها أن تهوى بمعولها على تلك الأصنام جميعاً، فتأتي عليها عن آخرها - وما هذه الأصنام إلا الجهل، والتعصب الذميم، والنعرات القومية الفاسدة!
ولن يقوم في العالم سلام، إلا إذا كان ذلك في أرجاء الأرض قاطبة، ولن يكون ثمة رخاء، إن لم يكن ذلك رخاء عاماً، ولن يشرق فجر العالم الجديد، إذا لم يعم نوره الشرق والغرب والشمال والجنوب!
فليعلم إذن أولئك الذين يرجون قيام عالم جديد تسود فيه الحرية والطمأنينة والرخاء، أن عليهم أولا أن يقوضوا تلك الأصنام القديمة، حتى يقيموا على أنقاضها بنيان العالم الجديد المنشود!
زكريا إبراهيم
من قصص جحا
3 -
الغريق الناجي
للأستاذ كامل الكيلاني
(صفحة مختارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين ابن ثلبت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه).
(. . . منذ مائتين وألف من السنين كان (عبد الله دجين ابن ثابت) يسير خارج المدينة وقد ساد الظلام الكون، فكاد يحجب الطريق عن العيون، لولا بصيص ضئيل من ضياء النجوم، كانت ترسله السماء إلى الأرض، كما يرسل الرجاء نوره إلى ظلمات النفس، فيكشف من يأسها الحالك، ويفتح لها طريقاً نيراً تسله في ظلمات الحياة.
وساد الصمت وخيم السكون لولا نقيق الضفادع المرحة، منبعثاً من ضفة النهر، وجلس (عبد الله دجين) هادئ النفس مطمئناً، برغم ما لقيه في ذلك اليوم من الكوارث والأحداث. ولولا أن بعض ما حل به من المصائب قد أصاب غيره لما وجد العزاء إلى نفسه سبيلاً، ولضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ودارت به الأرض قائماً.
تسألني ماذا لقي (دجين) من النكبات. فاعلم - حفظك الله ورعاك وسلمك من كل سوء - أن بعض الأشرار قد أحرق بيته. وأن الزمن تنكر له فاستهدفت أسرته للجوع والمرض. ولم يكد أصحابه يرون ما حل به من الملمات حتى هجروه وابتعدوا عنه بعد أن كانوا يتوددون إليه ويلتمسون معونته. وانقبضت أيديهم عنه بعد انبساطها، فلم تمتد إليه بالمساعدة يد واحد من أصدقائه وأصفيائه الذين كان يدخرهم للنوائب ويستبقيهم للشدائد ولم يكن ينقصه شيء ليكون أتعس خلق الله إنسانا.
ولولا عطف جارته (زبيدة) المحسنة على زوجه وولديه لهلكوا جوعا، ولكن الله لطف بهم فسخرها لهم لتتعهدهم في أيام النحس والشقاء.
وقد لقي (دجين) تلك الخطوب والنكبات باسم الثغر وضاح الجبين، مملوء القلب بنور اليقين. ولعلك تدهش إذا قلت لك إنه كان يشعر في تلك الليلة بطمأنينة وثقة لا حد لهما.
وكانت الضفادع قد سكتت حين رأته قادماً عليها، فلما أستقر به الجلوس على ضفة النهر، عاودتها الشجاعة، فأنست به واطمأنت إليه، وأقبلت عليه وقد استولت عليه البهجة فراحت
تقفز في الفضاء وترفع أصواتها بما تملكه من قبيح الغناء.
وأحس (أبو الغصن) صوت جسم يسقط في الماء، وسمع استغاثة خافتة ضعيفة تنبعث في أثر الصوت طالبة النجدة والغوث.
فخف (دجين) إلى النهر، واندفع إلى مكان الغريق حتى إذا داناه، أسرع أليه، فألقى بنفسه إلى الماء في غير تردد ولا وجل، وما زال يسبح جاهداً حتى عثرت يداه بطرف ثوب فأمسك به وجذبه اليه، وما زال به حتى أنقذ صاحبه من الغرق وحمله إلى الشاطئ.
وما كاد يتأمل وجه ذلك التاعس المشرف على الغرق، بعد أن كتب الله سلامته على يديه، حتى أبصر شيخاً زري الهيئة مغمى عليه. وما لبث الشيخ أن أفاق من غشيته فشخص إلى (دجين) بعينين صغيرتين يظللهما حاجبان كثيفان، ثم قال له بصوت متهدج يكاد يختنق من البكاء.
(شكراً لك يا أخي، على ما أسديته إلي من صنيع، لقد خاطرت بحياتك لتنقذ حياتي ولولا ذلك لكان الهلاك نصيبي.
على أنني لا أدري - على التحقيق - اجميلا صنعت معي أم قبيحاً؟ ولا أعلم اليقين من أمري: أخيراً صنعت بي أم شراً)
فقال (دجين): (أكنت تقصد عامداً إلى إغراق نفسك هذه الليلة؟)
فقال الشيخ: (أستغفر الله! ذلك ما لا يدور ببال عاقل كريم! لقد زلت قدمي وأنا أمشي على الجسر فهويت إلى النهر، وحملني التيار في ظلام الليل الحالك، فكنت لولاك من المغرقين)
فقال (دجين): فما بالك تندم على نجاتك، ولا تحمد الله على سلامتك؟)
فقال الشيخ في أسلوب حزين يفيض مرارة واكتئابا: الحمد لله على كل حال! فإن كل ما ينالنا من خير أو شر مقدر علينا لا حيلة لنا في دفعه، ولا سلطان لنا عليه قال (دجين)(فما يحزنك من الدنيا؟)
قال الشيخ: (مثل لنفسك شيخاً مثلي ماتت أسرته جميعاً: زوجه وأولاده وبناته واخوته وعشيرته، وأقاربه الأدنون والأبعدون، فاصبح في شيخوخته يعيش بلا أسرة، ولا يجد في العالم كله قلباً يهفو إليه أو يعطف عليه، ولا يظفر بمورد يعيش منه، وقد حمل من أعباء السنين سبعين. كيف يكون شعور مثل هذا الرجل الفاني إذا هيأت له المصادفة أن يغرق،
ثم كتبت له السلامة مرة أخرى؟ أتراه يسعد بذلك أم يشقى؟ وهل يبتهج باسترداد حياته؟ أم يأسف لخلاصه ونجاته؟ إن للفتى والشاب - من أمثالك - آمالا كباراً يسعيان إلى تحقيقها والظفر بها فإذا بلغا ما بلغت من السنين وذرف (أي: زاد) على السبعين فأي أمل يبقى لهما في الحياة، وأي مطلب يسعيان له ويتمنيانه؟
فقال (دجين) يناجي نفسه في صوت خافت: (ما بال هذا الشيخ يستنكر البقاء ويلعن الحياة!)
وكان سمع الشيخ مرهفاً، فلم تفلت منه تلك الهمسة، فقال لدجين قولة الواثق المتثبت مما يقول:
(كلا - يا صاحبي - لا تسيء ظنك بي فما أنا بمبغض للبقاء ولا كاره للحياة! كلا لا أستنكرها كما ظننت، ولا ألعنها كما توهمت! بل أنا أحتقر من يفعل ذلك أشد الاحتقار. وقد عشت طول حياتي مؤمناً بالله مستسلما لقضائه وقدره، مفوضاً أمري له. يقبض روحي متى اقتضت إرادته ذلك. ولم يمنعني ذلك عن السعي في مناكب الأرض في طلب الرزق. ولكنها تأوه محزون، وكلمة حمقاء سبقت إلى لساني فنطق بها في ساعة يأس، دون أن يتدبر عقلي مغزاها، أو يثبت فكري من معناها!
ثم أطرق الشيخ، وكأنه خجل مما فاه به لسانه من كلمات الخور والضعف فطأطأ رأسه برهة. ولكن (دجينا) قطع صمته عليه حين سأله:
(من الرجل؟) فقال: (أنا لعلع بن دعدع) وكنيتي (أبو شعشع). فخبرني أنت ما بالك منفرداً في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الصحراء الموحشة؟ وما بالك تؤثر العزلة والانفراد في ظلام الليل، كأنما تفر من أبناء جنسك! ولئن صحت فراستي فما أنت بسعيد في حياتك قط) فقال (دجين): (كلا يا صاحبي - فإن السعادة لم تفارق نفسي قط، وما أذكر أنني شعرت بالتعاسة يوما واحداً طول عمري، على كثرة ما أصابني من المحن والمصائب والآلام؛ فإن الحزن والسرور - فيما أرى - يتعاقبان على الإنسان كما يتعاقب عليه الليل والنهار.
ولو أردنا أن نستديم السرور أو الحزن لعجزنا عن ذلك كما يعجز من يحاول أن يستديم الليل أو النهار. ألا ترى كيف تتعاقب علينا الفصول الأربعة في أثناء السنة: فتمر بنا صيفاً يتلوه خريف، وشتاء يتلوه ربيع؟
كذلك يتعاقب علينا الحزن والفرح، والانقباض والانبساط، واليأس والرجاء، والشدة والرخاء، والعسر واليسر، والفقر والغنى، والظلمة والنور، والمرض والصحة.
فقال الشيخ: (ما سمعت في كلامي أحسن من حديثك، ولا أحكم من رأيك. ولئن صح ظني ليكونن لك شأن عظيم في حياتك وبعد مماتك. فمن تكون أيها السيد الكريم؟).
فقال: (أنا عبد الله دجين بن ثابت)، وكنيتي: أبو الغصن، ولقبي: جحا).
فقال لعلع: (وما صناعتك؟)
فقال دجين: (كنت بالأمس، تاجراً كبيراً يشار إليه بالبنان، ولكن حريقاً شب في بيتي ومخزني - منذ أيام - أتى على كل أملك من أثاث وبضائع، فلم يبق لي - مما ملكت - كثيراً ولا قليلا، ولقد تداركنا الله بلطفه ورحمته، فسلم كل من في الدار: سلمت زوجي وولدي وابنتي. فشكراً لله على لطفه بنا. ولقد كدنا نهلك جوعا لولا جارتنا الكريمة التي مدت إلينا يد المعونة، وتكفلت بإطعام زوجي وولدي.
أما الجاني الذي أوقد النار في بيتي ومخزني فقد فر، ولم يقف له أحد على أثر:
فقال الشيخ لعلع: (لقد أنستني مصائبك - يا أبا الغصن - كل ما لقيت في حياتي من أحداث والآم. ثم ارتعش جسم الشيخ، فقال وهو يصرف نابه: (كيف تكون الدنيا إذا خلت من أهل المساعدة والعون من كرام المحسنين).
فظن (دجين) أن الشيخ يرتجف مثله ألماً، لالتصاق ثيابهما المبللة بأعضاء جسميهما. وحسبه يستجديه المعونة فقال:(دعنا من حديث الأحزان، فليس منه فائدة، وسينقضي وقت الشدة - إذا صبرنا لها - ثم يعقبها وقت الرخاء، فتنسينا بهجته جميع ما كابدناه من مصائب وآلام، ومتى صبر الإنسان لجهد نازلة أصابته، ووطن نفسه على احتمالها وابتسم للكوارث والنكبات غير هياب ولا وجل، لم تلبث أن تنجلي عنه وينساها كما نسى غيرها من المصائب والآلام. والعاقل هو من يرضى بأحكام القضاء، فلا يستسلم للضعف، واثقا أن لكل شدة مدة ثم ينقضي معها، فإذا صمد لها غلبها وانتصر عليها، ثم صمت قليلا، واستأنف حديثه قائلا: هلم يا أبا شعشع فاتبعني إلى داري فإنك واجد فيها - على ضيقها - مكانا تأوي اليه، وسنحضر لك بعض الحشائش والأعشاب توقدها لتجفف ثيابك المبتلة. فأطرق (لعلع) لحظة، ثم قال لدجين (قبلت ضيافتك، يا أبا الغصن، ولعل الله - سبحانه -
يوفقني ذات يوم إلى أداء هذا الدين الجميل إليك).
فقال (دجين): (إن في صنع المعروف لذة يتضاءل أمامها كل جزاء مهما عظم، وتصغر بالقياس إليها كل مكافأة مهما جلت. وحسبي سرورا أن يمكنني الله من القيام بواجب الضيافة، دون نظر إلى جزاء أو شكر.
إن خير ما يكافأ به المحسن - يا سيدي - هو شعوره بأنه أدى واجبه، وفرحه بقدرته على فعل الجميل، وحسب الطيب مكافأة له أنه طيب. هلم فاعتمد ذراعي واتكئ عليها لتساعدك على السير).
فقال (لعلع): (ما أبعد نظرك، وأحكم رأيك، وأصدق نيتك، وأسلم طوبتك! إني لأتنبأ لك بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وسيتولى الله - سبحانه - حمايتك، ويخلد على مر الزمان اسمك وسمعتك، ويسخر لك الإنس والجن لمعاونتك وخدمتك، ويجعلهم طوع مشيئتك، ورهن إشارتك)
ثم مشى كلاهما في ضوء النجوم المتألقة في السماء، يلفهما ظلام الليل، ويؤنسهما نقيق الضفادع، ويحوطهما الله برعايته، ويكلؤهما بعنايته.
كامل كيلاني
الحكاية الازلية
للأستاذ ايليا أبو ماضي
(أخرج الأستاذ نجدة فتحي صفوة مدرس اللغة العربية بكلية بغداد، الحلقة الأولى من سلسلة الشعر. المعاصرين التي اعتزم صياغتها، وهي كتاب لطيف الحجم في (ايليا أبو ماضي والحركة الأدبية في المهجر) آلم فيه المامة بليغة، حسنة بأدب إخواننا العرب المهاجرين إلى أمريكا، ونوه بمزاياه وخصائصه، ثم دل على مكانة أبي ماضي منه، وذكر طرفاً من حياة الشاعر وطرفاً من أدبه في أسلوب بليغ وعرض مشوق. وقد ختمه بهذه القصيدة الجديدة لأبي ماضي، كما افتتحه بمقدمة نفيسة للأستاذ رفائيل بطي عميد الصحافة العراقية في وجوب العناية بتراجم المعاصرين وتجيل أخبارهم وآثارهم. والكتاب والمقدمة من خير النماذج لأدب العراق الحديث.
توطئة
كان زمان، لم يزل كائنا
…
وحالة، ما برحت باقيه
مل بنو الإنسان أطوارهم
…
وبرموا بالسقم والعافيه
فاستصرخوا خالقهم واشتهوا
…
لو أنه كونهم ثانيه
وبلغت أصواتهم عرشه
…
في ليلة مقمرة صافيه
فقال: أني فاعل ما اشتهوا
…
لعل فيه حكمة خافيه
وشاهدوه هابطاً من علٍ
…
فاحتشدوا في السهل والرابيه
من القوى الكئيبة العارية
…
والمدن الضاحكة الزاهية
تألبوا من كل صوب كما
…
تجتمع الأمطار في الساقيه
يسابق الصعلوك رب الغني
…
والأبله الباقعة الداهيه
ويدفع الشيخ التوى عوده
…
وصار مثل الرمة الباليه
فتى مضى الفجر ولما تزل
…
روعته في وجهه باقيه
وتزحم الحسناء ممكورة
…
خلابة كالروضة الحاليه
دميمة تشبه في قبحها
…
مدينة مهجورة عافيه
فقال رب العرش: ما خطبكم،
…
ما بالكم صرخاتكم عاليه؟
هل أصبحت أرضكم عاقرا
…
أم غارت الأنجم في هاويه؟
أم اقلع الماء فلا جدول
…
وماتت الطير فلا شاديه؟
أم فقدت أعينكم نورها
…
أم غشيت أرواحكم غاشيه؟
أين الهوى، أن لم يكن قد قضى
…
فكل جرح واجد آسيه
الفتى
قال الفتى: يا رب إن الصبا
…
مصدر أحزاني وآلامي
البستنيه مونقاً بعدما
…
أبلاه أخوالي وأعمامي
وصار في مذهبهم عصره
…
فترة زلات وآثام
فاختلفت حالي وحالاتهم
…
كأنني في غير أقوامي
وصرت كالجدول في فدفد
…
أو شاعر ما بين أصنام
والأخضر المورق في يابس
…
أو مثل صاح بين نوام
دنياهم دنياي. . . لكنما
…
أعلامهم ليس كأعلامي
عندهم الروضة أشجارها
…
والروض عندي الزاهر النامي
والطير لحم ودم عندهم
…
وليس عندي غير أنغام
سكري بها أو بالندى والشذي
…
وسكرهم بالخمر في الجام
يسخر قلبي بلياليهم
…
ويسخر الدهر بأيامي
كأنني جئت لتبكيتهم
…
كأنما جاءوا لإيلامي
عبء على نفسي هذا الصبا
…
الجائض المستوفز الطامي
يزرع حولي زهرات المنى
…
وشوكها في قلبي الدامي
فان. . . له في كل فان هوى
…
فان. . . ولا ينجو من الذام
خذه. . . وخذ قلبي وأحلامه
…
فإنني أشقى بأحلامي
ومر يمر الدهر في لحظة
…
كالطيف. . . أو كالبرق قدامي
وأزرع نجوم الشيب في لمتي
…
فينجلي حندس أوهامي
وأبصر الحكمة في ضوئها
…
إني إليها جائع ظامي
الشيخ
وجاء شيخ حائر واجف
…
مشتعل اللمة بالي الإهاب
كأنما زلزلة تحته
…
لما به من رعشة واضطراب
فصاح: يا رباه خذ حكمتي
…
واردد على عبدك عصر الشباب
إن أماني الروح أزهارها
…
وإن روحي اليوم قفر يباب
لا جدول لا بلبل منشد
…
بلى بها الوحشة والاكتئاب
تلك الأمانيُّ. . . على كذبها
…
لم تكن اللذة فيها كذاب
زالت وما زلت. . . وإن الشقا
…
أن تطمس الآي ويبقى الكتاب
وتسلب السرحة أوراقها
…
ولم تزل أعراقها في التراب
قيل لها في البحر كل المنى
…
فلم تجد في البحر إلا الضباب
كنت غنياً في زمان الصبا
…
وكنت صفر الكف صفر الوطاب
صحوت من جهلي فأبصرتني
…
كأنني سفينة في العباب
نأت عن الشط ولم تقترب
…
شبراً من السر الذي في الحجاب
ولو ترجى أوبة لا شتفت
…
لكنما عز عليها الإياب
مرتقف الأيام عن سيرها
…
فإنها تركض مثل السحاب
وضع أمامي لا ورائي المنى
…
وطول الدرب وزد في الصعاب
ما لذتي بالماء أروي به
…
بل لذتي في العد وخلف السراب
الحسناء
وقالت الحسناء: يا خالقي
…
وهبتني الحسن فأشقيتني
وجهي سني مشرق إنما
…
مرعى عيون الخلق وجهي السنى
حظي منه حظ ورد الربى
…
من عطره الفواح والسوسن
ومثل حظ السرو من فيئه
…
والطير من تغريدها المتقن
ومثل حظ النجم من نوره
…
في الحندس المعتكر الأدجن
للقائل للفيء. . . وللسامع
…
التغريد. . . والزهرة للمجتني
والنور لمدلج والمجتلي
…
والدر للغائص والمجتني
كم ريبة دبت إلى مضجعي
…
مع الجمال الرائع الممكن
إن عشقت لنفسي فويل لها
…
والويل لي إن رجل حبني
السم والشوك وجمر الغضا
…
أهون من كاشحة الألسن
كم تقنفيني نظرات الحنا
…
ويلي من خائنة الأعين
لم يبق في روحي من موضع
…
يأرب لم يخدش ولم يطعن
إن الغنى في الوجه لي آفة
…
فليت أني دمية ليتني
الجارية
وسكتت. . . فصاحت الجارية
…
باكية من بؤسها شاكيه:
ذنبي إلى هذا الورى خلقتي
…
فهل أنا المجرمة الجانية؟
إن أخطأ الخزاف في جبله الـ
…
طين، فأي الذنب للآنيه؟
أليس من يسخر بي يزدري
…
بالقوة الموجدة الباريه؟
لو كنت حسناء بلغت العلى
…
فللجمال الرتبة العاليه
وبات من أسجد قدامه
…
صاغرة يسجد قداميه
فإنني في ملأ ظالم
…
أحكامه جائرة قاسيه
ليس لذات القبح من غافر
…
وفيه من يغفر للزانيه. . .
نفسي جزء منك يا خالقي
…
وإنها عاقلة راقية
أليس ظلما وهي بنت العلى
…
أن تك بالقبح إذن كاسيه؟
فليكن الحسن رداء لها
…
ترفل به أو فلتكن عارية
الصعلوك
وأقبل الصعلوك مسترحما
…
في مقلتيه شبح اليأس
يصرخ يا رباه حتى متى
…
تحكم الموسن في نفسي
وتضع التاج على رأسه
…
وتضع الشوك على رأسي
ويشرب اللذات من كأسه
…
وأجرع الغصات - من كأسي
وتنجلي النجوم في ليله
…
ضاحكة كالغيد في عرس
ويتواري في نهاري السنا
…
أو يتبدى خالق الشمس
يا رب لا تنقله عن أنسه
…
ولكن انقلني إلى الأنس
فإن تشأ ألا يذوق الهنا
…
قلبي فجردني من الحس
لو لم يكن غيري في غبطة
…
ما شعرت روحي بالبؤس
الغني
وقال ذو الثروة: ما أشتهي
…
لا أشتهي أني ذو ثروة
أنفقت أيامي على جمعها
…
وخلتني أدركت أمنيتي
فاستعبدتني في زمان الصبا
…
وأوقرت بالهم شيخوختي
قد ملكتني قبلما حزتها
…
وملكتني وهي في حوزتي
كنحلة أمسكها شهدها
…
من الجناحين فلم تفلت
حسبتها تكسبني قوة
…
فافترست قوتها قوتي
جنت على نفسي وأحلامها
…
جناية الشوك على الوردة
ينمو فتذوي فهي عليقة
…
يحذرها الطائف بالروضة
من قائل عني لمن خالني
…
امرح من دنياي في جنة
لا تنظر الأضواء في حجرتي
…
وانظر إلى الظلماء في مهجتي
ولا يغرنك قصري فما
…
قصري سوى سجن لحريتي
إني في الصرح الرفيع الذرى
…
كطائر - في قفص - ميت
كم في عباب البحر من سابح
…
قد مات ظمآن إلى قطرة
موت الطوى شر ولكنما
…
أفظع منه الموت بالتخمة
إن سهر العاشق من لوعة
…
أو سهر المحزون من كربة
فالشوق كالحزن له آخر
…
وينقضي في آخر المدة
أما أنا فقلقي دائم
…
ما دمت في مالي وفي فضتي
والخوف من كارثة لم تقع
…
أمض من كارثة حلت
كم من فقير مر بي ضاحكا
…
كأنما يسخر من غصتي
رأيته بالأمس من كوتي
…
فخلتني أنظر من هوة
وكنت كالحوت رأى موجة
…
ضاحكة ترقص كالطفلة
أو حية تدب في منجم
…
ترنو إلى فراشة حرة
قد اختفت ذاتي في بردتي
…
فما يرى الخلق سوى بردتي
فهم إذا ما سلموا سلموا
…
على خيوط البرد والجبة
رباه أطلق من عقال الغني
…
روحي فإني منه في محنتي
وانزع مع الدينار من قبضتي
…
صلابة الدينار من سحنتي
وحول المال إلى راحة
…
وحول القصر إلى خيمة
الأبله
وصرخ الأبله مستفسراً
…
ما القصد من خلقي كذا والمراد؟
ألم يكن يكمل هذا الورى
…
إلا إذا أوجدتني في فساد؟
لي صورة الناس وحاجاتهم
…
من مطعم أو مشرب أو رقاد
لكن لبي غير ألبابهم
…
فإنه مكتنف بالسواد
يعجزني إدراك ما أدركوا
…
كأن عقلي فحمة أو رماد
إن كنت إنسانا فلم يا ترى
…
لست بإدراكي كباقي العباد؟
أو لم أكن منهم فمرني أكن
…
جرادة أو أرنبا أو جواد،
فالند لا يعدم من نده
…
ذريعة للسلم أو للجهاد
لا تسخر النملة من نملة
…
وليس يزري بالقراد القراد
أم أنت كالعقل على رغمه
…
ينمو مع الحنطة فيه القتاد
الباقعة
وجاء بعد الأبله المستريب
…
الألمعي العبقري اللبيب
فقال: إني تائه حائر
…
أنا غريب في مكان غريب
أبحث عن نفسي فلا أهتدي
…
وليس يهديني إليها أريب
أنا عليم حيث لا عالم
…
أنا لبيب عند غير اللبيب
لو أنني كنت بلا فطنة
…
سرت ولم تكثر أمامي الدروب
وكان عقلي كعقول الورى
…
وكان قلبي مثل باقي القلوب
وصار عندي كالنجوم الورى
…
فلا عدو فيهم أو حبيب
ولم أجد في ضحكهم والبكا
…
شيئاً سوى الضحك وغير النحيب
اسائل كوكباً طالعاً
…
لماذا تبدو، ولماذا تغيب؟
ولم أقف في الروض عند الضحى
…
يذهلني لون وشكل وطيب
ولم أقل ما كنت من قبلما
…
كنت، ولا ما في سجل الغيوب،
ما العقل يا رب سوى محنة
…
لولاه لم تكتب علي الذنوب
الخاتمة
لما وعى الله شكايا الورى
…
قال لهم: كونوا كما تشتهون
فاستبشر الشيخ وسر الفتى
…
والكاعب الحسناء والحيزبون
لكنهم لما اضمحل الدجى
…
لم يجدوا غير الذي كانا
هم حددوا القبح فكان الجمال
…
وعرفوا الخير فكانا الطلاح
وليس من نقص ولا من كمال
…
فالشوك في التحقيق مثل الأقاح
وذرة الرمل ككل الجبال
…
وكالذي عز الذي هانا
إيليا أبو ماضي
البريد الأدبي
رأي عظيم في (دفاع عن البلاغة):
(أرسل إلينا حجة الفقهاء وعمدة القضاة الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا رأيه في (دفاع عن البلاغة) نسجله شاكرين في (الرسالة) إجلالا لتنويهه واعتزازاً بتوجيهه):
تفضلت فأهديت إلي كتابك القيم (دفاع عن البلاغة) فقرات نصفه في مجلس واحد، ثم قرأت نصفه الآخر في صباح اليوم التالي، وخرجت من قراءة هذا الكتاب الممتع بأن دراسته لا تصلح للمبتدئين ولا لأنصاف المتعلمين، لأنه مقارنة قوية لبلاغة العربية ببلاغات اليونانية وللاتينية والفرنسية وغيرها؛ ودراسة هذه المقارنة إنما تصلح للمتخصصين في علوم العربية، ويسرني أن أسمع يوما أن إدارتي جامعتينا قد قررتا تدريس هذا الكتاب لطلاب التخصص في اللغة العربية؛ فإنهم بالمقارنة بين ما قاله علماؤنا وبين ما قاله العلماء الأجانب قديما وحديثا يستطيعون أن يحددوا مركز علمائنا السامي بين رجال البلاغة في كل بلد، وأنت سيد العارفين بأن هذه المقارنة تفتق الأذهان وتوسع الآفاق؛ وهي خطوة لابد منها لشرقنا حتى يستطيع الناقص أن يتم، والتام أن يكمل، والكامل أن يكون على بينة من كماله.
وكتابك هذا باكورة خير ظهر معها كتاب آخر أطلعني بعضهم عليه وهو كتاب (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد فطب الذي ينم عن تحرر في العقل لم يتفق أن سمعنا بمثله من قبل. وكتابك وكتابه كوكبان يضيئان الأفق لمن يتلهف مثلي على الرؤية في وضح النهار.
عبد العزيز فهمي
التاريخ القومي في المدرسة الابتدائية
وزعت وزارة المعارف جدول الدراسة في المدارس الابتدائية هذا العام على أساس ست وثلاثين حصة بدلاً من تسع وثلاثين.
ولا يعنينا أمر هذا العدد في ذاته، ولكن الذي يعنينا أمره كثيراً هو أن الوزارة قد حذفت - فيما حذفت - حصة التاريخ الوحيدة التي كان يتلقاها تلاميذ السنة الثانية في كل أسبوع.
وقد كان موضوع هذه الحصة قصصاً عن حياة قدماء المصريين وبعض الفراعنة المشهورين مثل بناة الأهرام وامنحعت وحتشبسوت. . . الخ.
وكانت هذه القصص على ضآلتها وتفككها هي الخيط الوحيد الذي يربط التلاميذ بتاريخهم القومي العظيم، والصورة الوحيدة التي تعرض عليهم من عصر كان أزهى العصور في تاريخ العالم كله يوماً من الأيام.
فاليوم تريد وزارة المعارف أن تقطع هذا الخيط الضئيل وتطمس تلك الصورة الباهتة: وكان واجبها يقتضي أن تقوي كل ما يربط التلميذ بقوميته وأن تؤكده توكيداً وتلح على التلاميذ في استيعابه بأن تخلق له الفرص خلقاً في كل درس وفي كل مناسبة؛ لا أن تلغي الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة للتلاميذ.
وقد كان للوزارة مندوحة عن إلغاء هذه الحصة فلديها وفر من حصص اللغة الإنجليزية التي ألغتها مشكورة لتوفر على التلاميذ الجهد وتتيح لهم الفرصة ليتعرفوا على لغتهم القومية وكيانهم القومي!
أجل! ما كان أجدر رجال التعليم أن يستغلوا بعض هذه الحصص الزائدة في تقوية الروابط التي تربط التلاميذ بوطنهم وقوميتهم وتنمية البذرة التي تنشئ في المستقبل جيلا معتزا بوطنه حريصا على وجوده.
وبدل أن تحول اثنتان من هذه الحصص الزائدة إلى (قصص) عام لا هدف له، كان الأولى أن تكون هاتان الحصتان أو إحداهما على الأقل قصصاً قومياً يهدف إلى غاية وطنية نبيلة. وخاصة حين نعلم أن الوزارة تنوي - في النظام الجديد - أن تجعل السنة الثانية الابتدائية نهاية لمرحلة تعليمية. فلا يجوز أن تنهي تلك المرحلة دون أن يعرف التلميذ فيها شيئا عن أحد المقومات الضرورية لشخصيته.
ولا أحسب أن حذف هذه الحصة أمر مقصود لذاته وإنما هي ضربة من ضربات (المقص) جاءت على غير هدى!
ولكني أرجو وزارة المعارف أن توازن جداولها على حساب أي شيء إلا الكيان القومي للتلاميذ.
محمد القطب
بين الأستاذين قطب وخلاف:
نشرت مجلة (الرسالة) الغراء في أعدادها السابقة مناقشات علمية طيبة في موضوع على جانب كبير من الخطورة والإجلال، هو موضوع إعجاز القرآن بين الأستاذين الفاضلين خلاف وقطب
- وكنت متتبعاً باهتمام بالغ ما كتب الأستاذان، غير أني لحظت أموراً فيما كتبا. ذلك أن كلا منها قرر حقاً لا مراء فيه سوف أنبه إليه والعجب أن كليهما أخذ على صاحبه ذلك الحق ومارى فيه، دون مبرر لذلك إلا شدة الحرص على الرأي الفردي من غير نظر أو اعتبار لرأي الآخر؛ وهذا إسراف منهما.
1 -
الأستاذ سيد قطب يقرر في كتابه أن (التصوير الفني) جانب كبير اعتمد عليه القرآن الكريم فيما ساق من وجوه الاستدلال في بيان أن ديكتاتورية الأولين من الشعوب الغابرة - لم يكن نصيبها إلا الانهيار، فهذا القصص البارع في معرض العظة والاعتبار بمن غبر من الأمم، وهذا الحوار التمثيلي الذي دار بين الحضر وموسى في سورة الكهف، والذي ساقه الله بين موسى وفرعون في سورة الشعراء؛ كل أولئك تصوير فني بارع معجز لأمراء البيان في جميع العصور الغابرة (ماضية أو آتية)؛ وإذن فهذا وجه آخر من وجوه إعجاز القرآن دون ريب، يضاف هذا الوجه الذي زاده الأستاذ سيد إلى وجوه الإعجاز الأخرى التي دونها العلماء - وهذا سداد في الرأي وتوفيق نهنئه عليه.
أنكر الأستاذ خلاف أن يكون التصوير الفني وجهاً غالباً من وجوه الإعجاز - واحتج لذلك بقوله لأنه (أي الربط بين التصوير وسر الإعجاز) يفسر إعجاز القرآن بأمور في مستوى الصنعة البشرية). فالتصوير الفني في نظر الأستاذ خلاف سبيل مألوفة للأدباء من البشر، وأسلوب من أساليبهم من الممكن أن يسلكوه وهنا كما يقول الأستاذ الخطر كل الخطر، ثم راح الأستاذ خلاف يؤيد إنكاره بكلمة للأستاذ العقاد رداً على الأديب الفذ المرحوم الرافعي قال (وإنما الأساس فيها المعجزة، والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة)
والأستاذ خلاف في هذا الإنكار مسرف، مجانب للحق والصواب - فليس ثمت خطورة كما يقول بل الأمر الذي أدرك منه خطورة، وهو كون التصوير الفني طريقاً مألوفة للبشر -
والفصحاء العرب وأبنائهم أن يستخدموه في مستوى رفيع فيه الوحدة والتناظر) أقول هذا الأمر الذي خشيه هو الشرط الأساسي في الإعجاز - وذلك أن القرآن نفسه جاء من جنس كلام العرب. ومن لغتهم وعلى طرق من القول صرفها لهم، وطائفة من الأمثال ضربها فيهم، ومن المقطوع به البتة أنهم كانوا يعلمون هذه الطرائق التي سار فيها القرآن لغة ومعنى وأسلوباً وخيالا ولو من طريق الإجمال - أو قل على حد تعبير المناطقة إنهم كانوا يعلمون هذا بالقوة، ولكنهم لا يعلمون، هذا بالفعل، ولعل هذا ما جعل النظام يرى أن العرب أو الناس صرفوا عن الإتيان بمثله ومن هذا يبين ويضح أن القرآن في إعجازه البشر وتحديه سلك طرائق مألوفة معهودة لهم. وهذا ضروري حتى يكون التحدي، وحتى يكون الإعجاز، إذ لا معنى في أن أتحداك أو أعجزك في لغة أو شيء ما لا تعرفه، بل يجب أن يكون موضوع التحدي والإعجاز مألوفاً معروفاً لك حتى يتم معنى الإعجاز والتحدي؛ وإذن فلا ضير ولا خطر أن يكون التصوير الفني في مستوى الصنعة البشرية ثم هو بعد وجه من وجوه الإعجاز على هذا النحو المبتدع الذي نحاة القرآن - بل هو غاية في الإعجاز وحماداه.
أقول وإذا كان التحدي من طريق ممكنة معهودة للمخاطبين كان أدخل، وأمعن، وأبلغ في باب الإعجاز.
وإذا كانت المعجزة يجب أن تخرق النواميس الطبيعية، وأن تشذ عن السنن المطردة في حوادث الكون كما يذكر الأستاذ العقاد - فهذا المعنى موجود ملحوظ في الأمور التي يتحدى للأعجاز كهذا الذي نحن بسبيله - فالشذوذ هنا والخرق لناموس الطبيعة أنهم عجزوا من حيث لا ينبغي أن يعجزوا.
2 -
يرى القارئ الفاضل مما تقدم أنني انتصرت للأستاذ قطب - وأعود الآن فأنتصر للأستاذ خلاف في البيان الذي سلكه في الآيات الكريمة: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون. . . الخ آيات سورة الأنبياء التي جاءت في هذا المعرض فإن الأستاذ الفاضل نهج في تحليلها نهجاً لم يسبقه إليه أحد من المفسرين. ذلك أنه حلل الآيات إلى مقاطع وجمل محدودة - كل مقطع فيه استدلال خاص - قد استوفت فيه الآيات أنواع الاستدلالات المنطقية والوجدانية - ولم تترك مؤثراً يؤثر في الفعل والعاطفة إلا تناولته، لو كان هؤلاء
يعقلون. ومن الإسراف والشطط ألا يقر الأستاذ قطب هذا التفسير العلمي الحديث، فما لا ريب فيه أن القرآن سلك في طرائق الاستدلال صوراً من المنطق فطرية سهلة تتناسب والعقلية العربية يومئذ.
(الإسكندرية)
أحمد الامبابي
مدرس بالليسيه فرانسيه
اليهود والعرب:
تطالعنا الصحف كل يوم بما يقوم به اليهود من أعمال العنف لجعل فلسطين وطناً قومياً لهم، وقد وصلوا في ذلك إلى حد لا يقره تاريخهم الذليل، ولعل من أعجب ما قرأت في هذا الشأن ما نشرته بعض الصحف من أن عدداً كبيراً من اليهود اجتمعوا في جنوب إيطاليا، وهم مصممون على دخول فلسطين
وقد لفتت هذه الجملة الأخيرة نظري، ورجعت بفكري إلى عهد بعيد يوم ضاعت جهود النبي الكريم موسى بن عراد سدى في حمل بني إسرائيل على دخول الأرض المقدسة
ذكرت ما قصه علينا القرآن الكريم في هذا الشأن، وما سجله عليهم من الخزي والضعف والجبن، وكيف أنهم خافوا من سكانها الجبابرة وقطعوا على أنفسهم عهداً مؤكداً أنهم لن يدخلوها ما داموا فيها:(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين. قالوا: يا موسى، إن فيها قوماً جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها، فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين؛ قالوا: يا موسى، إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون). وكتب الله عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله
ثم ذكرت مواقف البطولة التي وقفها أجدادنا العرب مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فآزروه ونصروه وما وهنوا في موقف من المواقف وما ضعفوا وما استكانوا، وكيف أنهم
وهبوا لدعوته أنفسهم فكانوا يقولون له: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولا نقول لك كما قال بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون. ولكننا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا، إننا معكما مقاتلون!
ذكرت هذا وذكرت ذاك، فأيقنت أن الفوز للعرب، وأن اليهود سيجبنون كما جبن آباؤهم من قبل، فإن دماء الآباء لا تزال تجري في عروق الأبناء. . .!
علي محمد حسن
مدرس بالمعهد الأزهري
حول شعر حافظ الضائع
قرأت بالعدد الماضي كلمة للأديب عبد القادر محمود عن شعر حافظ الضائع، التي أثبتها في الرسالة صوناً لها من الضياع، ولكن هذه الأبيات السبعة، نشرها الأستاذ حسين المهدي الغنام ضمن مقالات له عن حافظ إبراهيم، في جريدة كوكب الشرق، وهذه الأبيات بالذات نشرت في أحد أعداد شهر يونيو سنة 1933، مع قصيدة أخرى طويلة من نفس البحر والروى.
والقصيدة الثانية، والأبيات السبعة التي ذكرها الأديب عبد القادر، موجودتان كذلك في كتاب الأستاذ الغنام عن حافظ إبراهيم في الصفحات 55 - 57. وهذا الكتاب صدر بالإسكندرية سنة 1935.
فهذه الأبيات وإن لم تجمع في ديوان حافظ، لم تضع. وقد نشر الأستاذ حسين غنام في كتابه كثيراً من شعر حافظ لا تجده في جزئي ديوانه.
عوض الله فوزي اسكندر
من السيدة وداد سكاكيني إلى الأستاذ وديع فلسطين:
حضرة الأديب الفاضل:
بعد التحية. تلقيت (مسرحيتك) القيمة بسرور وإعجاب، وقرأتها متملية بدقة تعبيرك وبراعة ترجمتك، وقلت: هذا أول قطرك فكيف بغيثك؟
أرجو أن يكون لك في دنيا الأدب منزلة تليق بنبوغك، فإن فتى بيني أدبه كما تبني خليق بالمجد والإكبار.
وتقبل تهنئتي الخالصة بباكورة آثارك مقرونة بتحيتي وشكري وإعجابي.
المخلصة
وداد سكاكيني
تصويب:
إني برغم جزعي من (التطبيع). ورجائي كلما بعثت بمقالة مقابلتها على الأصل، حتى كاد ذلك الرجاء يكون روسماً (كليشيه) دائما، فقد وقع في مقالتي (الموسيقي العاشق) في العدد (639) من الرسالة، هنات، هذا تصويبها، وإن تكن هينات:
ص ع س خطأ صواب
57 1 2 2 رحبته رحبة
58 1 1 5 تعلم تعليم
1 19 أهدابها - لونها أهدابهما - لونهما
59 1 1 12 لا أحب الذكرى لا أحب أن أهيج الذكرى
2 1 غبتّ غبتُ
أما الذين ذهبوا يسألون عن (ش) بك هذا، ويفتشون عن داره. . . هل حسبوني أكتب تاريخاً؟ إنما هي قصة. . .
علي الطنطاوي
الكتب
1 -
خان الخليلي
للأستاذ نجيب محفوظ
2 -
سعد بن أبي وقاص
(للأستاذ عبد الحميد جودة السحار)
للأستاذ وديع فلسطين
- 1 -
الأستاذ نجيب محفوظ - كما يعرفه قراء (الرسالة) الزاهرة - شاب أوتى خيالاً خصباً، وعيناً نافذة، وقلماً طيعاً، ومداداً وفيراً، فسخر هذه جميعاً في كتابة القصة وتصوير الحياة الواقعية بما تنطوي عليه من نزعات متضاربات.
ومن أحدث ما جاد به قلم الفتى كتاب (خان الخليلي) الذي أصابه فيه توفيق كبير. وقد نهج في كتابة قصته الضافية الذيول النهج الذي ألتزمه الكاتب الكبير الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (إبراهيم الكاتب). فالكتاب مقسم إلى خمسين فصلا، كل منها صورة أحسن رسمها، فلم تغب في إحداها خفقة قلب أو طرفة عين أو حركة لسان أو بسمة شفتين أو زفرة نفس، لأن الأستاذ محفوظ سكب نفسه في كتابة كل منها سكباً، وعاش في روايته فعرف شخوصها معرفة قرب، وزامل أفرادها ففهم كلا منهم على حقيقته وأدرك ما انطوت عليه نفسه وما أسفر تعنه مظاهره. وربط بين فصولها بإحكام حتى لا ينفلت أحدها من القلادة المتعددة الحلقات التي وصلت بينها وأخرجت من مجموعها صور نابضة بالحياة تنطق صريحة سافرة بأحوال حي من أحياء القاهرة القديمة يتردد عليه الأجانب للمتعة والمصريون للتبرك (بالحسين).
إنها قصة عائلة مصرية متوسطة، فزعت من الغارات الجوية فانتقلت إلى حي خان الخليلي وأمضت فيه دورة كاملة من دورات الأرض حول الشمس، شهد أفرداها فيها عجباً. فالابن الكبير - أحمد عاكف - الذي كان يركن إلى مكتبته يقلب كتبها ويدرب نفسه عبثاً
على درسها وهضمها؛ طابت له عشرة أهل الحي والسهر معهم في قهوة الزهرة، وخفق قلبه للحب وهو بعد كهل في الأربعين، ولكن المقادير شاءت ألا ينعم بالفتاة التي يهوى والأليف الذي أستحوذ على عواطفه وملك جنانه. ورشدي - الابن الأصغر - شاب حديث العهد بالتخرج في الجامعة ينقاد وراء دوافع بدنه فيغترف من اللذاذات غير عابئ بصحته التي ناءت بهذا الحمل وأخذت تتهالك تحت الضغط الشديد الذي يفرضه عليها. ولم يكتف بالحب الآثم، بل سولت له نفسه الفتية أن يسطو على الفتاة التي كادت أن تصبح من نصيب أخيه أحمد، ولكنه ظل سادراً في غيه، سائراً في طرق ضلاله، فأصيب بداء الدرن الرئوي وقضى نحبه - وهو الشاب المرح المفعم بالنشاط الدائب الحركة - ولم يستطع أبواه أو أخوه، ولم يفلح الطب أن يحفظ زهرة حياته التي ما شرعت تتفتح حتى قطفت من كمها وطمرت بين أطباق الثرى.
والقصة التي دبجها الأستاذ نجيب محفوظ تمتاز بميزتين عدا مزية الرواية نفسها. ففيها وصف رائع لليالي رمضان في حي خان الخليلي، وفيها وصف للغارات الجوية التي تعرضت لها قاهرة المعز من ثلاثة أعوام، وهي حقبة من الزمن لم يسبق لها مثيل في تاريخ مصر الغابر، وعسى أن لا تكرر في ما يجئ من السنين. والمؤلف قدير على جلو المعاني، خبير بخوالج النفس، استطاع أن يجعل من كتابه تزاوجاً بين السخرية والتهكم من ناحية، والجد من ناحية أخرى. وجمع بين اللهو والمزاج والعبرة والدروس. وهو في هذا وذاك لا يخلو من فكاهة مستملحة ودعابة طريفة.
إنها الحياة في (خان الخليلي) كما هي بلا (رتوش).
- 2 -
أصدر الأستاذ عبد الحميد جودة السحار كتاباً مترع الفصول عن (سعد بن أبي وقاص وأبطال القادسية) تتبع فيه سعداً منذ ما كان حدثاً يبرى النبل حتى انطلقت روحه إلى بارئها وقد أشرفت على الثمانين أو نحوها.
سيرة رجل كفاح ورجل حرب، قاد جيوش المسلمين في معارك طاحنة فدمر الأعداء، ودخل إيوان كسرى دخول المظفر المنتصر بعدما هزم مملكة الفرس وأنزل بها أقسى الدمار. واستطاع سعد أن يتصدى لجيوش قوية بعضها معزز بعدد من الفيلة الضخمة،
وبعضها تتقدمه الأسود الضاريات، غير أنه ما تهيب ولا جزع، بل هجم عليها وبددها، فسرت روح الهزيمة والهلع بين جنود العدو وردوا على أعقابهم مخذولين.
وسعد علاوة على ذلك ابن بار بوالدته مخلص لدينه الجديد. وعلى الرغم من أمه لم ترض له الخروج على دين آبائه وأجداده وهددته بالصوم عن الطعام إذا أوغل في (غيّه) وتبع الدين الجديد، إلا أنه استطاع بلباقة وحصافة أن ينتزع من بين حنايا أمه غضبها، ويوفق بين شئون الدين والدنيا.
ثم هو صديق صدوق، لطيف المعشر، يوثق به ويعتمد عليه. شجاع لا يهاب القوة، ولا يخشى الضيم، سبّاق إلى المكرمات، عدّاء في ميادين البطولة، لا تلين له قناة ولا يفتر له عزم أو يصد عن قرار اتخذه. وفيّ لخلانه وصحبه حتى إنه نهر معاوية لأنه شرع يسب علياً، وأقسم يميناً مغلظة ألا يدخل داره مدى الحياة.
هذه الشخصية الفذة التي شهدت مولد الإسلام وعاصرت فتوته وأرست دعائمه وساهمت في نشر رسالته في بلدان شتى، وهذا البطل المقدام الذي رضى طوعاً بالجهاد والنضال والصراع والتشريد والتجريح والتعرض للأخطار، وهذا المؤمن الذي لم يدخر وسعاً في البدن أو المال أو الوقت إلا أوقفه على خدمة دينه، جدير ولا ريب بأن تسرد سيرته مفصلة، وتنشر في أسلوب عربي بليغ وإحكام روائي صادق، وتبويب زمني مرتب، على أحفاد العرب الأولين.
وقد بلغ الأستاذ عبد الحميد السحار القمة في تبيان مناحي شخصيته الفريدة ووصف ميادين الوغى وأساليب القتال ومصارع الرجال. وفي ختام كتابه أورد السحار خلاصة وافية لحياة سعد ابن أبي وقاص عرضت في ذهن الشيخ سعد كما يعرض الشريط السينمي على الشاشة البيضاء، فأغمض عينيه وقد اكتحلتا بنشوة الماضي وذكريات الشباب وأحداث الصبي وجد الظفر
(وانبهرت أنفاسه وخرج نفس ما عاد غيره، فقضى سعد نحبه في قصره بالعقيق على مسيرة عشرة أميال من المدينة. ولما بلغ أهل المدينة خبر موته، انطلق الرجال إلى داره وجهزوه. . . وتوجهوا إلى البقيع ليقبروا آخر أهل الشورى ودمعهم جار وحزنهم عميق).
وديع فلسطين