الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 642
- بتاريخ: 22 - 10 - 1945
بركة (الإمام).
. .!
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومئذ مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام - للبكالوريا والكفاءة - وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقباً أو ملاحظاً في إحداها، وكان أخي طالباً، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان.
واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريبٍ لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير. . .
وألفيت في بيت قريبنا هذا نفراً من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي - بلبل زمانه - ونحن نأبى كل الإباء أن نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.
وجاء - قبل الطعام - رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطاناً وطربوشاً مثل طرابيشنا نحن (الأفندية)، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكانت له معرفة ببعض الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة - قهوة البن - فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله:(معك خلطة؟)
ولم أكن أعرف ما (الخلطة) يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك. . . ولا أدري ماذا أيضاً، قطرات منها تطيب بها القهوة؛ فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره. . .
وكنا جلوساً على الحشايا والوسائد فوق السجادة على الخضرة، فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتاً ثقيلا - أو هكذا خيل إلي -
فأرقت ما بقي من الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي:
(ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟)
ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضاً، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائماً، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك، على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبقى عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه (الخلطة)، ليس إلا نوعاً من المخدرات (كالمنزول)، فآليت لأخنقه قبل أن أموت! وهممت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن - لا أدري - فما أخذته عيني بعد ذلك!
وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه (الخلطة) فلم أنتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكني كنت لا أرى شيئاً واضحاً، وكان (قوس) الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني. فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو أشر منى حالا، سوى أنهم أقوى أجساماً أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه (الخلطة) فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت!
ودعوت أحدهم - وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ - أن يذهب بي إلى داره، وأن يبعث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقى حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، وتبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئني (بخلطة) أخرى: سكر وخل. . . فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج، فقد اضطربت نفسي ورميت ما فيها يتبع بعضه بعضاً،
حتى خفت أن لا ينقطع.
ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر، قمت إلى بيت صهري لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، ولأضمن أن لا يتخلف أخي عن امتحانه، وخلعت ثيابي لأستريح قليلا.
وإذا بي أرى أخي كالمجنون يصيح بكلام غير مفهوم، وكان رأسي لا يزال ثقيلا مما مر بي في ليلتي، فسألته عن الخبر، فإذا هو معذور، ذلك أن خادماً في بيت صهري سرق سترته وحذاءه، وسرق بنطلوني وطربوشي، فصار من المستحيل علينا أن نخرج من البيت، فما لنا فيه ثياب أخرى، ولا جئنا إلا بما على أبداننا فما العمل؟ لقد ذهب اللص بثيابنا، وكأنما تعمد أن يسرق منها ما يكفي لمنعنا من الخروج. وكيف بالله يخرج أخي بغير سترة وحذاء؟ وكيف أخرج بغير بنطلون وطربوش؟
وأضحكني هذا، فإنه أشبه بالنكتة، أو بما يسميه العامة (المقلب).
ولم يبق إلا أن نحاول أن نستعير من بعض الجيران ثياباً نعود فيها إلى بيتنا، وهناك نستطيع أن نرتدي غيرها، ويذهب كل منا في سبيله.
وفعلنا بعد عناء، فقد كان الناس نياما بعد طول السهر، فأزعجناهم وكلفناهم شططاً، ولكن المضطر يركب الصعب.
وقد نسيت أن أقول إن بيت صهري كان على (تخوم العالمين) وعلى مقربة من مسجد الإمام الليث بن سعد، فارتدينا الثياب المستعارة، وتوكلنا على الله، ومررنا بالمسجد، ووقف أخي يقرأ الفاتحة، لعلها تنفعه في (الامتحان) ببركتها، وكنت أنا مغيظاً محنقاً، فلم يخطر لي أن أقرأ لا الفاتحة ولا سواها، وإني لأتلفت وإذا بالخادم قاعد على باب المسجد. ولم أعرفه في أول الأمر، لأنه كان في ثياب غير معهودة نكرته في عيني - ثيابنا المسروقة. فلما استثبت جذبته من ذراعه فنهض، وعدنا به إلى البيت، ونزعنا ما عليه من أشيائنا، ثم سألناه: فاعترف أنه سرق - وهل كان ينقصنا أن يعترف؟ - وقال: إنه لما بلغ المسجد أحس أنه مقيد، وألفى نفسه يجلس على الباب، ولم يستطع بعد ذلك أن يبرح مكانه!
فقال كل من سمع هذه القصة إنها بركة الإمام؛ وقلت أنا في سري: لعل هذا هكذا، فما أدري، ولكني أحسب أن إيمان هذا الخادم بما لأولياء الله الصالحين من البركة والسر، قد فعل فعله، وكان له أثره حين مر بالمسجد، فاضطرب وارتبك، ولزم مجلسه حائراً، وكبر
في وهمه أن (الإمام) قيده وأقعده عن الحركة.
وقد أصرت زوجتي يومئذ - رحمها الله - على أن تصنع (خبزاً وفولا) لفقراء (الإمام)، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلم أعترض. وكيف كان يقبل مني اعتراض؟
إبراهيم عبد القادر المازني
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 13 -
ج 18 ص 39: قال محمد بن بركات السعيدي يخاطب أبا القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت البوصيري الأنصاري:
فله أوامر من حجاه حكيمة
…
وله زواجر من نهاه
يقظان من فهم لكل فضيلة
…
بنباهة جلت عن الأشباه
علامة ما مشكل مستبهم
…
خاف عن الإفهام عن أساه
وجاء في الشرح: هكذا بالأصل وترى الشطرين الثانيين من البيتين الأول والثالث ليسا بالتامين إذ الأبيات من بحر الكامل.
قلت: وله زواجر من نهاه نواه:
علامة ما مشكل مستبهم
…
خاف عن الإفهام - عنه بساه
ج 19 ص 301
وكنت كذئب السوء لما رأى دما
…
بصاحبه يوماً أحال على الدم
قلت: في اللسان والتاج: تقول: هذا رجل سوء بالإضافة وتدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجل السوء، قال الفرزدق بالفتح والإضافة:(وكنت كذئب السوء. أبيت) ولا يقال: هذا رجل السوء بالضم لأن السوء بالضم اسم للضر وسوء الحال. وإنما يضاف إلى المصدر الذي هو فعله كما يقال رجل الضرب والطعن فيقوم مقام قولك: رجل ضراب وطعان، فلهذا جاز أن يقال رجل السوء بالفتح، ولم يجز أن يقال: هذا رجل السوء بالضم. والسوء مصدر سؤته أسوأه سوءاً، وأما السوء فاسم الفعل.
قلت: ولبيت الفرزدق قصة، إن صحت فقد حرمه الله إياه؛ ففي أغاني أبي الفرج: عن الوليد بن هشام عن أبيه قال: أنشدني الفرزدق وحماد الراوية حاضر (وكنت كذئب السوء) فقال له حماد: آنت تقوله؟ قال: نعم، قال: ليس الأمر كذلك، هذا لرجل من أهل اليمن، قال:
ومن يعلم هذا غيرك أفأردت أن أتركه وقد نحلنيه الناس ورووه لي لأنك تعلمه وحدك، ويجهله الناس جميعاً غيرك.
ج 1 ص 213:. . . والذي يأخذه من السلطان ينفقه في أهل طرسوس (المجاهدين).
قلت: في معجم البلدان: بفتح أوله وثانيه ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر لأن فعلول ليس من أبنيتهم.
قلت: قال المتنبي وقد سكن ضرورة:
صدق المخبر عنك، دونك وصفه،
…
من بالعراق يراك في طرْسوسا
قال لي الأديب الكبير الأستاذ شفيق جبري: (من بالعراق يراك في طرسوسا) هذا (شهود البعيد) الذي ابتدعه هؤلاء العفاريت في هذا الزمان أو كما قال.
ج 19 ص 149: وله (لمظفر بن إبراهيم العيلاني):
يا نائما أسهرني حبُّهُ
…
وعائداً أمرضني طبُّهْ
وخادعا رقّ لحبي له
…
كلامه وقسا قلبه
قلنا على حسنك عيني جنت
…
جثماني الناحل ما ذنبه؟
قلت: إما (حبهْ وطبُّهْ) والبيت مصرع. وإما (حبهُ وطبهُ وقلبهُ وذنبهُ).
وعجز البيت الثاني هو (كلامه لي وقسا قلبه) والشعر من بحر السريع.
ج 16 ص 34: وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فتعرف بركتها.
قلت: بروات أو برايات. في مستدرك التاج. البروة نحاتة القلم والعود والصابون ونحو ذلك. وفي اللسان: البراية النحاتة وما بريت من العود.
ج 5 ص 199: (أسامة بن مرشد بن منقذ):
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل
…
طلق وقلبي كئيب مكمد باك
وراحة القلب في الشكوى ولذَّتُها
…
لو أمكنت لا تساوي ذلة الشاكي
قلت: (في الشكوى ولذتها).
ج 18 ص 123: كان للرواسي (محمد بن الحسن) امرأة من أهل النيل، تزوجها بالكوفة وانتقلت إليه من النيل وشرطت عليه أنها تلم بأهلها في كل مدة، فكانت لا تقيم عنده إلا
القليل، ثم يحتاج إلى إخراجها وردها، فمل ذلك منها وفارقها وقال فيها:
بانت لمن تهوى حمولُ
…
فأسفت في أثر الحمولٍ
اتبعتهم عينا عليهم
…
ما تفيق من الهمول
ثم أرعويت كما ارعوى
…
عنها المسائل للطلول
لاحت مخائل خُلفِها
…
وخلافُها دون القبول
ملَّت وأبدت جفوة
…
لا تركنَنَّ إلى ملولِ
قلت: بانت لمن تهوى حمولٌ:
لاحت مخايل خلفِها
…
وخلافِها دون القبول
ج 16 ص 249:. . . لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تماسكه في ذلك وتضايقه. وظني بأن الله سوف يريك.
وجاء في الشرح: تماسكه: تشاحه وتظلمه.
قلت: (وظني بأن الله سوف يديل) الأساس: أدال الله بني فلان من عدوهم: جعل الكرة لهم عليه. وفي الصحاح: الأدالة الغلبة، اللهم أدلني على فلان وانصرني عليه، و (تماسكه): تشاكسه.
ج 18 ص 144: وكان شليمة أولا مع العلوي صاحب الزنج ثم صار إلى بغداد.
وجاء في الشرح: (الزنج) بضم الزاي مشددة: قرية من قرى نيسابور.
قلت: الزنج بفتح الزاي وكسرها - الجيل المعروف، والعلوي المذكور هو على بن محمد الثائر على العباسيين في خلافة المعتمد.
ذكره أبو العلاء في (رسالة الغفران) فقال:
(وأما العلوي البصري فذكر بعض الناس أنه كان قبل خروجه يذكر أنه من عبد القيس ثم من أنمار، وكان اسمه أحمد فلما خرج تسمى عليا، والكذب كثير جم، وتلك الأبيات المنسوبة إليه مشهورة وهي:
أيا حرفة الزمني، ألمّ بك الردى
…
أما لي خلاص منك والشمل جامع؟
لئن قنعت نفسي بتعليم صبية
…
يد الهر إني بالمذلة قانع
وهل يرضين حر بتعليم صبية
…
وقد ظن أن الرزق في الأرض واسع
وما أمنع أن يكون حمله حب الحطام على أن غرق في بحر طام).
وقد صيغ في (النهج) في (صاحب الزنج) هذا القول:
(يا أحنف، كأني به سار الجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام (قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى يومي بذلك إلى صاحب الزنج ثم قال عليه السلام ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم. . .).
قال ابن أبي الحديد في شرحه:
قوله لا يندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا لدهاقين البصرة وبناتها، ولم يكونوا ذوى زوجات وأولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزاباً فلا نادبة لهم. وقوله ولا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده. فأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرأت البصرة في سنة (255) رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. وأكثر الناس يقدحون في نسبه وخصوصاً الطالبيين. وجمهور النسابين اتفقوا على أنه من عبد القيس وأنه علي بن محمد بن عبد الرحيم وأمه أسدية. ومن الناس من يطعن في دينه ويرميه بالزندقة والألحاد، وهذا هو الظاهر من أمره لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم والسحر والاسطربالات. وكان حسن الشعر مطبوعا عليه، فصيح اللهجة، بعيد الهمة، تسمو نفسه إلى معالي الأمور، ولا يجد إليها سبيلاً، ومن شعره:
وإذا تنازعني أقول لها قرى
…
موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قُضي سيكون فاصطبري له
…
ولك الأمان من الذي لم يقدر
ومنه:
إني وقومي في أنساب قومهم
…
كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف
ما عُلّق السيف منا بابن عاشرة
…
إلا وعزمته أمضى من السيف
وكانت بينه وبين عمال السلطان وقواده حروب عظيمة ووقعات كثيرة، وكانت سجالا تارة
له وتارة عليه، وهو في أكثرها المستظهر عليهم. وكثرت أموال الزنج والغنائم التي حووها من البلاد والنواحي، وعظم أمرهم، وأهم الناس شأنهم، وعظم على المعتمد وأخيه أبي أحمد خطبهم، واقتسموا الدنيا فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج وإمامهم مقيما بنهر أبي الخصيب قد بنى مدينة عظيمة سماها (المختارة) وحصنها بالخنادق. واجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهي العدد والحصر إليه رغبة ورهبة، وصارت مدينة تضاهي سامرا وبغداد، وتزيد عليهما، وأمراؤه وقواده بالبصرة وأعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده إلى أن دخلت سنة (267) وقد عظم الخطب وجل، وخيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض، فلم يجد أبو أحمد الموفق وهو طلحة بن المتوكل على الله بدا من التوجه بنفسه ومباشرته هذا الأمر الجلل برأيه وتدبيره وحضوره معارك الحرب. وكان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى وإنما المعتمد صورة خالية من معاني الخلافة لا أمر له ولا نهي ولا حل ولا عقد، وأبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء والكتاب، ويقود القواد، ويقطع الأقطاع، ولا يراجع المعتمد في شيء من الأمور أصلا. وبحق ما سمى المنصور الثاني، ولولا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته ولكن الله ثبته لما يريد من بقاء هذه الدولة).
وكان (صاحب الزنج) مشعوذاً كبيراً. روى الطبري في تاريخه:
ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن (صاحب الزنج) قال في بعض أيامه لقد عرضت على النبوة فأبيتها. فقيل له: ولم ذاك؟ قال: إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها. . .
وذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها أني لقيت سوراً من القرآن لا أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها (سبحان والكهف وصاد) ومن ذلك أني ألقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له وأجعل مقامي به إذ نبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة. . .
وجاءه رجل يهودي خيبري يقال له (ماندويه) فقبل يده، وسجد له - زعم شكراً لرؤيته إياه
- ثم سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله عن علامات في بدنه، فذكر أنه عرفها فيه. فأقام معه ليلته تلك يحادثه. . .
لما كان في شوال من هذه السنة (207) أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر، فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول. اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت فقيل لي: إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده.
قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعاء، وسجدت، وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى البصرة فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفاً في الهواء قد خفض يده اليسرى ورفع يده اليمنى يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكي عنها. وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. . .
قال الطبري: وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة (255) وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة (270) فكانت أيامه من لدن خروجه إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام. وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة (256) وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة (257).
قلت: ومما قاله ابن الرومي في خطب البصرة في ميميته المشهورة:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
…
شغلُها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعد ما حل بالبصرة
…
ما حل من هنات عظام
أي نوم من بعد ما انتهك الزنج
…
جهاراً محارم الإسلام
دخلوها كأنهم قطع الليل
…
إذا راح مدلهم الظلام
كم أب قد رأى عزيز بنيه
…
وهو يُعلى بصارم صمصام
كم رضيع هناك قد فطموه
…
بشبا السيف قبل حين الفطام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا
…
أضرم القلب أيما إضرام
رب بيت هناك قد أخربوه
…
كان مأوى الضعاف والأيتام
رب قصر هناك قد دخلوه
…
كان من قبل ذاك صعب المرام
عرّجا صاحبيَّ بالبصرة الزهراء
…
تعريج مذنف ذي سقام
فاسألاها ولا جواب لديها
…
لسؤال ومن لها بالكلام
أين تلك القصور والدور فيها
…
أين ذاك البنيان ذو الأحكام
بدلت تلكم القصور تلالا
…
من رماد ومن تراب ركام
بل ألِمَا بساحة المسجد الجامع
…
إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه ولا جواب لديه
…
أين عبّاده الطوال القيام؟
انفروا أيها الكرام خفافا
…
وثقالا إلى العبيد الطغام
صدقوا ظن اخوة أملوكم
…
ورجوكم لنوبة الأيام
إن قعدتم عن اللعين فأنتم
…
شركاء اللعين في الآثام
وقال البحتري في مدح الموفق:
وما كان يدري صاحب الزنج أنه
…
إذا أبطرته غفلة العيش صاحبه
وكان شفاء صلبه لو تألفت
…
له جثة يُريٍ بها العين صالبه
تعجل عنه رأسه وتخلفت
…
لطيبتها أوصاله ومناكبه
جبابرة الأرض استكانت لضربة
…
أرت قائمَ النهج الذي ذاق ناكبه
محمد إسعاف النشاشيبي
قصة:
هذيان مجنون!
للأستاذ علي الطنطاوي
ذهبت منذ أيام أزور (المستشفى الإسلامي) الكبير، الذي تعاونت على إنشائه الجمعيات الإسلامية الأربع في دمشق (الغراء، والهداية، والشبان، والتمدن)، فوجدته شيئاً عظيما يرفع الرأس، بناء ضخما يطل على الربوة من هنا ويشرف على سهل المزة من هناك، قد قام حيث كانت تقوم تلك (القلاع العادية)، فكان من تمام نعمة الله علينا به أن تخير له هذا المكان، فأبدلنا بعمارات الموت، وبنايات البلاء، تلك القلاع، هذا المستشفى، بيت الصحة، ودار الشفاء. . .
وجعل المدير، وهو شاب مسلم رضي الخلق، واسع الخبرة، يدور بي في المستشفى، ويمر بي على شعبه، حتى إذا وصلنا إلى جناح الأمراض العقلية قال لي:
- إن هاهنا مريضاً يلح علينا أن ندعوك إليه، وهو لا يفتأ ينادي باسمك ويرجو أن يراك. . .
قلت: ومن هو؟ وما شأنه بي؟
قال: هو شاب مصاب بنوع من الهستريا (الجنسية)، وهو يزعم أنه تلميذك، وأنه وثيق المعرفة بك
فلم أحب أن أخيب رجاءه، وإن كنت لا أدري ما أصنع له، وانطلقت مع المدير حتى دخلت عليه، فإذا هو شاب حديث السن، شاحب اللون، بادي الضعف، شارد النظرات مسجى، لا يبدو منه إلا وجهه، فتاملته. . . فإذا هو قد كان تلميذاً لي، وإذا أنا أعرفه، فسلمت عليه فرد السلام، وابتدرني فقال لي:
- أنت أستاذي، وإني أرتقب مجيئك. إن لي إليك حاجة
فقلت: مقضية إن كنت أقدر عليها
فظهر على وجهه خيال البشر، ولاحت على شفتيه ظلال ابتسامة. . . وقال:
- لقد نعشتني وبشرتني، إن الذي أريده منك، هو أن تعي حديثي وتنشره في الناس، أفلا تقدر على ذلك؟
قلت: بلى، أقدر إن شاء الله. . .
قال: إنه خبر لا يكاد يصدقه أحد، ولكني أحلف لك أنه واقع، وإذا شككت فاسأل القرية، أتعرف قرية (الجمالية)؟
قلت: ما سمعت باسمها إلا الآن!
قال: لقد أردت أن أبتعد عن مرابع المصطافين ومواطن الازدحام إلى بلد أطلق فيه نفسي على سجيتها، لا أقيدها بقيد عادة ولا واجب مجاملة، فأممت بحيرة (العتيبة)، ثم صعدت (جبل عيرام)، حتى بلغت هذه القرية المختبئة في كنف واد عميق لا يصل البصر إلى قرارته، يجري في بطنه نهر (العامون) متحدراً هائجاً يقفز من صخرة إلى صخرة، فيكون له دوي وخرير، ويعلوه الزبد فتراه من خلال الأشجار، وأنت في القرية، كأنه البلور المذاب، إذا كنت قد رأيت في زمانك بلوراً مذاباً؛ يحمي هذا الوادي المسحور جبلان عاليان تنطح ذراهما النجم، وقد لبست سفوحهما وحدورهما ثوباً من الشجر أخضر، توارت خلاله هذه القرية. . .
واتخذت فيها داراً سلخت فيها شهراً من شهور الصيف، لم أعرف السعادة إلا فيه، ولم أدر حتى عشته ما لذة العيش وما الاطمئنان، فلقد كنت أغدو مع النور فأصعد في الجبل أحيي الشمس البازغة حين تشرق على الدنيا، وأهبط الضحى إلى بطن الوادي فأتخذ لي مكاناً على صخرة عالية، أو أقعد على حافة النهر الفياض. وكنت في أكثر الأيام أضع طعامي في سلة وأرتاد المرابع، فحيثما استطبت المكان أقمت. وكنت أحمل معي كتاباً أقرأ فيه مرة، وفي مصحف الكون أخرى، فأمتع النظر بأعجب المشاهد وأبهى المرائي، ثم أروح العيشة إلى داري، وقد طفحت نفسي بصور الجمال، وفاض جسمي بالعافية. . .
. . . حتى جاء ذلك اليوم الذي صب في كأس حياتي العلقم!
لقد صعدت في الجبل على عادتي حتى جاوزت حدود القرية، وقاربت ينبوع (البارة)، وبلغت الغابة المهجورة التي تطيف به، فما راعني إلا الحجارة تتساقط حولي كأنها المنجنيق، تنزل دراكاً نزول رصاص الرشاشات، فحرت لحظة، ثم وليت هارباً أعدو ما أطقت العدو، حتى وصلت إلى صخرة فاحتميت بها، فجعلت أنظر: ما خبر الحجارة! فأسمع قهقهة مرعبة. . . فأحسب أنها الجن تروعني. . . ثم أرى امرأة تخرج من بين
أشجار الغابة، وتسير حذرة تتلفت، فلما صارت قريبة مني، رأيتها وهي لا تراني؛ فإذا هي فتاة سمراء محلولة الشعر، ذات جمال يروع الناظر ويأسر القلب، لها عينان سوداوان واسعتان. . . إذا نظرت بهما إليك أحسست بهما في الفؤاد، وجسم ممشوق قد لوحته الشمس، وما عليها إلا أسمال بالية لا تكاد تستر إلا الأقل منها، فكأنما جسمها فيها البدر قد حجبته قطع من المزن الرقراق. لها كتفان مدورتان ممتلئتان، وثديان ما فهمت قبل أن أراهما كيف يكون الثديان كالرمانتين حقاً، وصدر رحب كأنه خلق مهداً للحب، وساقان وفخذان لا أحب أن أؤذيك بوصف فتنتهما وجمالهما. . .!
وقد وقفت كالغزال المذعور، لا أقولها كما يقولها الأدباء المقلدون، بل أنا أعني ما أقول، ولا أجد صفة هي أدنى إليها وأعلق بها. . . وجعلت تنظر حواليها. . . فلما اطمأنت ألقت حجارتها التي كانت تحملها، وقعدت على الأرض. ونظرت إليها، فإذا ذلك الغضب الفاتن يسقط برفق عن وجهها ويسدل عليه نقاب من الألم، الألم العميق الذاهل، فازدادت به جمالا حتى لقد تخيلتها في قعدتها تلك تمثالا للجمال الحزين قد افتنت فيه يدا عبقري وعقله. . . فخرجت من مكاني وسرت إليها متلصصاً أسارق الخطو حتى إذا كدت أن أصل إليها وأضمها، أحست بي فوثبت وثبة ابتعدت بها عني، ثم عدت تلقاء الغابة. . .
. . . وجعلت أرتاد هذا المكان كل يوم، أفتش عنها وأطلبها حتى أنست بي واتصل بيننا الحديث. . . فسمعت لهجة فتاة ليست من بنات القرى، ولا من الجاهلات، ولكن حديثها حديث المجانين. . .!
سألتها ما شأنها، وأحببت أن أعرف خبرها، فكانت تجيبني بكلام لا يعقل:
قالت: إني أفتش عليه، لقد دخلت المدن، وولجت المدارس، وبحثت في القصور، وطفت الملاهي، وتهت في البراري، وضربت في الجبال، وجست خلال الخرائب، وسريت وحيدة، حيث لا تجرؤ النسور أن تطير. . . كل ذلك أملاً بلقائه!
قلت: بلقاء من؟
قالت: بلقائه. . . إني أحس بصوته أبداً يرن في أذني، وأرى حينما سرت عينيه، وألمس أبداً جلده الدافئ، فأشعر كأن الكهرباء تسيل في عروقي، ويطفر شيء إلى عيني ولكنه يحتبس فلا أستطيع أن أبكي. . .
قلت: منذ كم فارقته؟ وهل مات أو سافر؟
قالت: أنت مجنون. . . ما فارقته قط ولا اتصلت به، هو معي إذا قمت، ومعي إذا نمت، أبكي لآلامه، ويبتسم هو للذيذ أحلامي، ويغضب فيخفق قلبي، ويأكل فتذهب جوعتي، ولكني لا أقدر أن أضمه إلي، ولا أستطيع أن ألمسه بشفتي!
ولو لم تكن أعمى لرأيته، إن رياه في عبق كل وردة، وصوته في كل أغنية، وصورته في صفحة البدر، وصفاء الينبوع، وخضرة الروض. . .
قلت: فمتى عرفته؟
قالت: مذ كان لي قلب، لقد همت به منذ وجدته في فكري، وقد ملأ علي نفسي، ولكني لا أدري أين يقيم، إني أراه في اليوم على ألف شكل، أرى في الرجل يمر بي عينيه، وأرى في آخر قامته، وربما استحال معنى من المعاني أحس به ولا أملك التعبير عنه. . .
قلت: فمن يدلك عليه؟
قالت: قلبي، ألا تفهم، أليس لك قلب؟ دلني على خفقانه، هو الجمال كله، فكل ما أرى من الجمال جماله. . .
ثم سكتت وأرخت أهداب عينيها، وغابت في ذهلة عميقة، فدنوت منها وضممتها إلي وأرحت ذينك النهدين على صدري، فاستجابت لي وتعلقت بي، ووضعت قلبها في شفتيها، ووضعت قلبي على شفتي، ثم ذقت منها قبلة، ما أظن أن إنساناً ذاق مثلها.
ولكنها انتفضت فجأة، وألقت برأسي على صخرة، فشجته وانطلقت لا تلوى على شيء، ثم لم أرها. . . وإن لم تغب خيالتها عن عيني. . .
ولما خرجنا من حضرة المريض قال لي مدير المستشفى:
لا تصدق كلمة مما قال، إنه هذيان مجنون لم يقع منه شيء!
قلت: إن آخر ما يهتم به الأديب، أن يقع الحادث أو لا يقع، أني أكتب قصة لا تاريخاً، وحسبي ما في قصته من جمال الوصف، وإن لم يكن لها مغزى، وإن كانت هذيان مجانين. . .
قال: شأنك. . . أنت أدرى به!
علي الطنطاوي
الذرة في الصناعة
للأستاذ خليل السالم
بعد انفجار القنبلة الذرية وحين كان صداه يرن في الأسماع، اتفق رأي الرجال الذين صفت نفوسهم ونبلت مقاصدهم بالإجماع على أن الأشياء يجب أن تنتظم لئلا يسمح لهذه الآلة المرعبة أن تستعمل في الأغراض الحربية؛ ومعنى هذا الحيلولة دون نشوب حرب جديدة. وفي الوقت عينه حارت الأسئلة على الشفاه: ما هي أغراض الخير في الكشف الجديد؟ وكيف تذلل الطاقة الكامنة في نواة الذرة لتستغل في الأغراض الصناعية؟
يختلف انطلاق الطاقة الذرية كما أفضت إليه أبحاث العلماء عما تتطلبه الصناعة من ناحيتين: الأولى أنه أغفل حساب النفقات، والثانية أن انبعاث الطاقة وقتي ومفاجئ جداً. فقد بلغت النفقات نحو نصف مليار جنيه، واشتغل في إنتاج القنبلة (125) ألف عامل لا يزال في العمل منهم (65) ألفاً بينهم نفر كبير من أفضل الأدمغة العلمية في العالم. وإنه وإن كان تقدير الطاقة المتاحة متعذر لقلة الأرقام المرشدة إلا أننا سنعطي بعض التقديرات التقريبية.
تحطم نواة الراديوم تحطيماً عضوياً تدريجياً، وتمر بها ثمانية أدوار قبل أن تتحول إلى ذرة من الرصاص، وتنطلق الطاقة الكامنة المخزونة فيها خلال هذه الأدوار فتساوي الطاقة المتحررة من أوقية راديوم الطاقة الناتجة من حرق 300 طن فحم حجري. قد تختلف هذه الطاقة عن طاقة أوقية من القنبلة الذرية ولكنها بدون شك من نف الرتبة. فإذا فرضنا أن معامل القنبلة الذرية قد أنتجت 100 باوند من العنصر الفعال تكون هذه المبالغ والجهود المنفقة قد قدمت لنا طاقة نصف مليون طن من الفحم الحجري. وعلى هذا المعدل نخسر اقتصاديا كيفما كانت أشكال استثمار الطاقة. حتى لو كان تقديرنا بعيداً عن الدقة إلا إنه يضعنا أمام مشكلة اقتصادية حقيقية.
ثم إن قوة القنبلة الذرية في التدمير والتخريب تعود في أقوى أسبابها إلى انطلاق الطاقة الفجائي. وقد لا تزيد هذه الطاقة عن طاقة بضعة ألوف من أطنان الفحم إلا أن ظهورها في مكان واحد خلال جزء بسيط من الثانية يبعث في الجو حرارة وضغوطاً موضعية هائلة تثير موجة عاصفة تكتسح كل ما يقف في طريقها.
وليس شرطاً أن تكون الطاقة عظيمة، فمثلها مثل الطفل الذي يحرك ذراعيه وساقيه عاماً بطوله ولا يكن أي خطر من بذل طاقته بهذا الشكل، ولكن لو تركزت جميع حركاته في ضربة واحدة لقتلت أقوى رجل على الأرض.
هذا التركيز في الزمان والمكان الذي يساوق انطلاق الطاقة من القنبلة الذرية أمر مرغوب فيه عندما يقصد التدمير والهدم، وهو سيئ مزعج في الصناعة، فتنحصر مشكلة المستقبل إذن في السيطرة عليه وضبطه.
ويجدر بنا قبل تناول هذه المشكلة بالبحث أن ننظر فيما حصله العلماء حتى اليوم:
أكتشف (بكرل) القوة الإشعاعية في اليورانيوم سنة 1896 وبعد ذلك ببضع سنوات استفرد آل كوري من اليورانيوم العنصر الأكثر فعالية وهو الراديوم. وسريعاً ما عرف أن الأخير يعطي قدراً من الطاقة ناقضاً بذلك كل النظريات القديمة. وانتظر البحث حتى سنة 1912 عندما وضع رذرفرد نظرية جديدة عن بناء الذرة، وبرهن بالتجربة على أن للذرة نواة صغيرة وصغيرة جداً بالنسبة للذرة نفسها التي لا تزيد أبعادها عن جزء من مائة مليون جزء من البوصة، وتكمن في هذه النواة كل كتلة الذرة وحولها تدور الكهارب (الإلكترونات). ففي الذرات الثقيلة، كذرات الراديوم مثلا، تنشطر الذرة من تلقاء نفسها، أو تتحطم كما يقول العلماء، وتقذف دقائق مع قدر من الطاقة المخزونة في النواة.
فالراديوم يعطي الطاقة من تلقاء نفسه ولكن ببطيء شديد. وليس لدينا إلا قدر ضئيل من العنصر نفسه.
أما الخطوة الثانية فقد خطاها رذرفرد وتلاميذه، ونخص بالذكر العلامة السر جيمس شادويك، إذ تبين أن قذف نوى العناصر بدقائق ألفا السريعة يغلق النوى ويحولها إلى نوى لعناصر جديدة. فاستعملت قذائف أخرى؛ وفي بعض الأحيان تحررت الطاقة النووية؛ إلا أن طريقة رذرفرد هذه لم تؤثر إلا في الذرات المفردة، وتم العمل في نطاق ضيق، وحرارة الطاقة المنطلقة لم تزد عن حرارة شرارة. بعدها أصبح انطلاق الطاقة ممكناً نظرياً؛ وبرغم أن فلق ذرات قليلة استلزم جهداً عظيما فإن لذة العلماء بالبحث كانت نظرية بحثه أكثر منها عملية تطبيقية.
وفي سنة 1939 أحدث العلماء نوعاً جديداً من التغير النووي. ولا يمكن أن يعزى الفضل
إلى شخص واحد دون غمط حق الآخرين وفضلهم. . . فكانت القذائف هي النيوترونات. . . فانفلقت ذرة اليورانيوم إلى شطرين أو أكثر، وسميت هذه العملية بالانقسام النووي ونتج عن الانشطار نيوترونات جديدة ظن أنها تستطيع تحت ظروف مناسبة أن تشطر ذرات أخرى. . . فأي عدد ضئيل من الانقسامات الأصلية سيفضي إلى سلسلة طويلة متتابعة تهشم كل ذرات الكتلة كالنار المشتعلة التي تلتهم كل ما حولها. وحققت الأبحاث الأخيرة هذا الظن وأثبتت التجارب صحته.
لم تنجح التجارب الأولى لأن لليورانيوم ثلاثة اصناء (جمع صنو). خواصها الكيميائية متماثلة ولكنها تختلف في أوزانها الذرية، ويدعو رجل العلم هذه الأصناء (النظائر). ولمحض الصدف اكتشف أن نظيراً واحداً مقداره أقل من 1 % من اليورانيوم الطبيعي تتأثر ذراته، أما ذرات النظيرين الآخرين فلا تتأثر، وأكثر من هذا أنها تقف في طريق التفاعل وتقطع السلسلة. فكان الواجب الباهظ الملقى على أكتاف العلماء في أمريكا هو عزل هذا النظير المطلوب (يورانيوم 135).
وهكذا يتلخص تاريخ ما وصلنا إليه في خطوات ابتدأت باكتشاف المواد التي تنقسم نواها من تلقاء نفسها، ثم تهشيم بضع ذرات هنا وهناك في مجموعة من ملايين ملايين الذرات، ثم فلق النواة إلى شطرين يصاحبه تحرير الطاقة. ثم تحضير مادة ما يكاد يبتدئ انشطار الذرة فيها حتى يجري سريعاً من ذرة إلى أخرى كالنار المندلعة في مدينة خشبية.
وسريعاً ما يلحظ أنه لا فرق كبيراً بين تحطيم بعض الذرات بعد بذل جهود مضنية كبيرة وتحطيم عدد كبير منها في انفجار واحد متسلسل. فكأنه المتفجرات التي لا تتأثر إذا أصيبت برفق، وتنفجر ملتهبة إذا أصيبت بعنف. ولكن لا تستطيع أن تفرض عليها الاحتراق البطيء لتعطي طاقتها بطريقة مضبوطة مقيدة
وحتى الآن لم يبذل أي جهد لحل المشكلة الماثلة. فلا يمكننا تخفيف نظير اليورانيوم 235 من السيطرة على التفاعل كما يبدو لأول وهلة، ذلك أن النظائر الأخرى تكبح انطلاق الطاقة الذاتي. وتقترح طريقة أخرى نفسها علينا: هي سحق اليورانيوم الفعال إلى حبيبات دقيقة ناعمة نعلقها في الهواء أو في سائل ما وعندئذ يقتضي ترتيب هذه الحبيبات لتنفجر واحدة أو قليل منها فقط في آن واحد. وقد يستعصي امتلاك الطاقة في هذه الحالة أيضاً.
ذلك أن انطلاق طاقة يمكنها تبخير قدر كبير من الماء لحظة واحدة يضع في وجه المهندس الفني مشاكل معقدة متعددة. أضف إلى ذلك أن الإشعاعات التي تتحرر كما تتحرر الحرارة من ذبذبات الانشطار المتكرر بين جزئي النواة مجهولة الأثر في معدن الآلة التي تحتوي على العنصر الفعال.
تدور في ذهني مجالات استخدام الطاقة الذرية بعد السيطرة عليها فأرى منها تدفئة المنازل وتوليد البخار والحصول على انفجار معتدل في أسطوانة كما في آلة الاحتراق الداخلي، واستعمال عاصفة القوة في محركات الدسر أو تدوير المراوح. . . وفي كل هذه الإمكانيات يجب الحصول على قدر ضئيل من العامل المتفجر ثم توزيع الطاقة الموضعية المنطلقة حتى يكون مقدارها عملياً في حيز محدود دون أن تحدث كارثة.
ومن يدري فربما يجيء استثمار الطاقة عن طريق أخرى. فمنذ 300 سنة اكتشف البارود أول متفجر حربي، وبذلت محاولات جمة لتشغيل آلة بقوته ولكنها فشلت، غير أن هذا لم يحل دون أن يستعمل نوع آخر من المتفجرات لتسيير كل آلات الاحتراق الداخلي وهو مزيج من بخار البترول والهواء أو ما يشبه المزيج لأننا نستطيع ضبطه والتحكم فيه بسهولة، فمن الممكن أو المؤكد، كما يخيل لبعض الناس، أننا سنكتشف تفاعلات ذرية تستمر وتمتد بنفسها وتكون السيطرة عليها والتصرف بها أكثر سهولة ويسراً.
نحن أمام كيمياء جديدة ستبتدئ. فالكيمياء القديمة المعروفة في الكتب المدرسية تبحث الذرات واتحاد الذرات كاملة غير مجزأة. أما الكيمياء الجديدة فستبحث نوى الذرات وبنائها وفلقها. ومع أن عدداً قليلا من الدقائق يكمن في نوى الذرات إلا أن سلوكها فرع جديد من العلم. وسترى السنون القليلة المقتبلة نتائج مدهشة جديدة باهرة.
ليست مشكلة استثمار الطاقة الذرية جديدة إذ انطوت عليها أدمغة العلماء منذ أن بين رذرفرد وأتباعه أن النواة مخزن للطاقة ينتظر طرق التحرير المناسبة.
وفي سنة 1927 كتبت (إن دراسة النواة كيمياء وفيزياء جديدتان نطرق بابهما اليوم. . . حقيقة هذا العلم يبحث أصغر الأجسام التي يتصورها العقل. ولكنه سينتج منبعاً للطاقة يبذ كل مناجم الفحم في العالم. . . فهل نستطيع تحرير هذه الطاقة بكميات وافرة وافية، وإذا استطعنا فهل نستطيع ضبطها والتحكم بها؟) لقد أجابت الأيام عن السؤال الأول بالإيجاب
والثاني لا يزال بالانتظار.
لقد انقضى خمسون عاماً قبل أن يتقدم العلم من كشف القوة الإشعاعية إلى العجيبة الحاضرة، وانقضى خمسة وعشرون عاماً رأت تقدمنا من تحطيم نوى الذرات على نطاق ضيق إلى هذا التحطيم المريع الذي أذل اليابان وألقاها صاغرة راكعة. واليوم يقف تحصيلنا العلمي في الذروة، وتنتظم أعمال العلماء والفرق العلمية على أساس ثوري جديد. ولا يجسر أحد أن يرى بعد احتمال استعمال القوة الذرية في المصانع بعد خمسة وعشرين عاما أو بعد عشرة أعوام، وإننا لنرجو أن نستعملها لترفيه سعادة الجنس البشري وزيادة رخائه وطمأنينته وضمانه الاجتماعي.
خليل السالم
الحديث المحمدي
تعقيب على مقال
للأستاذ محمد محمد أبو شهبة
قرأت بإمعان ذلك المقال الذي كتبه الأستاذ محمود أبو ريه بالرسالة العدد 633 عن (الحديث المحمدي)، وقد سرني منه أنه أراد أن يدرس دينه بالرجوع إلى مصادره الأصلية. وقد ذكر أنه لما أخذ في دراسة الحديث النبوي على هذا النحو ظهرت له حقائق وسرد بعضها، وقد تتبعت الأستاذ في حقائقه، فوجدت أن منها ما يجافي الحقيقة، ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية:
1 -
ذكر الأستاذ أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم ترتيبه، حتى لقد قال الإمام الشاطبي:(أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر)؛ ولا أدري ما مبعث هذا الحكم: أهو نقل أم استقراء؟ فإن كان الأول فليدلنا عليه، وإن كان استقراء، فالواقع خلاف ذلك، ونحن لا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بألفاظها، وكيف؟ وقد ثبت أن القصة الواحدة، أو الواقعة، رويت بألفاظ مختلفة، وأساليب متباينة وإن كان المعنى واحداً؟ ولا نقول بأن الأحاديث كلها رويت بالمعنى، وكيف؟ ومن الأحاديث ما اتفقت الروايات على لفظها - وإن لم تصل إلى درجة المتواتر - ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب؛ ومن قبل أدرك أئمة في اللغة والبيان هذه الحقيقة، فألفوا الكتب في البلاغة النبوية
ولقد أدهشني أن اتخذ كلمة الشاطبي مؤيدة لدعواه، وأنا أقول للأستاذ: فرق بين عدم وجود حديث متواتر بلفظه، وبين عدم وجود حديث بلفظه، فقد ينتفي الأول ولا ينتفي الثاني، لأن المتواتر نوع خاص (وهو حديث رواه جمع بحيل العقل تواطؤهم على الكذب). وهو لفظي أو معنوي؛ وقد بحث علماء الحديث عرضاً في التواتر وفي وجوده؛ وبعضهم - كابن الصلاح - حكم بندرته، وبعضهم منعه، وبعضهم حكم بكثرته. ومع هذا لم يقولوا إنه لا يكاد يوجد حديث بلفظه. ومن يشك في أن ما روى عن الرسول الكريم مثل (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) و (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)(أرحنا بها بلال) يعني الصلاة. وغير ذلك كثير من كلام النبوة، ومن ينكر ما في هذا المنطق من نور
وما فيه من بلاغة؟ وحسب الأستاذ أن يخلو بنفسه وبكتاب كالبخاري، وأنا واثق بأنه سيعدل عن فكرته.
2 -
تكلم الأستاذ عن الرواية بالمعنى، وإن بعض الصحابة رأوا الرواية بالمعنى، وكذا من جاء بعدهم، إلى أن قال:(وهكذا ظلت المعاني تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواه). وأقول (أما اختلاف الألفاظ، فهذا ما لا ننكره، وأما توالد المعاني، والتزيد فيها والتبديل، فهذا ما لا نقر الأستاذ عليه، والصحابة الذين أجازوا الرواية ومن أخذ عنهم، إنما أجازوها مع تحفظهم الشديد وتحوطهم البالغ في المحافظة على المعنى. وكيف يغيرون في المعنى ويتزيدون، وهم كثيراً ما طرق مسامعهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ ولهم من عربيتهم ودقة فهمهم للأساليب وإحاطتهم بالمعنى المراد ما يحول دون ذلك، ولا سيما وأن الرواية إنما تتصل بالحديث، وللحديث في نفوس الصحابة ومن بعدهم من القداسة والاحترام ما له. أليس الحديث هو الأصل الثاني من أصول التشريع؟ الحق أني كنت أحب من الأستاذ أن يقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين ليعرف ما خص الله هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة. وعلماء أصول الحديث بعد حينما تكلموا في الرواية بالمعنى، منهم من منع منها، ومنهم من بالغ في التثبت والتحوط، فلم يجيزوا الرواية بالمعنى إلا لعالم بالألفاظ، عارف بمقاصدها، خبير بما يختل بها معانيها؛ ولو أن تدوين الحديث تأخر قروناً معدودة، لكان هذا الفرض قريباً، ولكن التدوين بدأ في أوائل القرن الثاني وازدهر في القرن الثالث، وخصائص العروبة متمكنة من الرواة، ولم يكن لسان أهل العلم فسد بعد، وإن تطرقت لوثة الأعاجم إلى العامة.
ولئن كان لراوية الحديث بالمعنى ضرر من الناحية اللغوية والبلاغية - كما ذكر الأستاذ - فلا ضرر من الناحية الدينية بعدما بينا أن لا توالد في المعاني ولا تزيد ومن علم مبلغ ما وصل إليه علم الرواية في الإسلام وما امتاز به من التثبت والتحوط فإنه يستبعد ما قاله الأستاذ كل الاستبعاد وقد بلغ من يقظة أئمة الحديث أنهم كانوا يعلمون اللفظ الدخيل في الحديث من أين أتى وكيف دخل
3 -
كتب الأستاذ كلمة عن الموضوعات وأنا أوافقه فيما قال وآخذ عليه قوله ولكي يشدوا عملهم بما يؤيده وضعوا على النبي أحاديث تجيز الوضع مثل مارووا: (إذا لم تحلوا حراما
ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع وأن في قوله: (وأصبتم المعنى) ما يدل على أن الحديث قبل تجويزاً للرواية بالمعنى؛ وإلا فأي إصابة للمعنى النبوي إذا كان الكلام موضوعا وللحديث بقية تدل على ما سيق له. روى ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير عن عبد الله بن اكيتمة الليثي قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفا؟ فقال: (إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس). وكان الأجمل أن يمثل بما روى زورا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث) فهذا يشد أزر الوضاعين.
4 -
ذكر الأستاذ حديث من كذب على متعمداً الحديث وأنه وصل به البحث إلى أن لفظ متعمداً لم تأت في روايات كبار الصحابة وأن الزبير قال: والله ما قال متعمدا، ورأى أنها تسللت إلى الحديث من سبيل الأدراج الخ ما ذكر. وأقول قد روى هذا الحديث من روايات عدة عن كثير من الصحابة حتى قد أوصلها بعض رجال الحديث إلى المائة بل إلى المائتين. والحق أن الحديث روى من طرق تصل به إلى درجة المتواتر بهذا اللفظ. أما وصوله إلى هذا العدد الضخم فذلك فيما ورد في مطلق الكذب لا في هذا اللفظ بعينه، وقد جاءت كلمة متعمدا من رواية الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة وطرق ذكرها أكثر من طرق تركها والقاعدة عند المحدثين إذا تعارضت الروايات رجج الأكثر والأقوى وهنا ترجح روايات ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد، وأما تجويزه أن هذه الكلمة أدرجت في الحديث ليتكئ عليها الرواة فيما يروون عن غيرهم على سبيل الخطأ أو الوهم الخ. فأقول رداً عليه إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة وإنما ذلك بما ثبت من أدلة أخرى وتقرر في الشريعة بأنه لا إثم على الخاطئ والناسي ما لم يكن بتقصيره منه وسر الكلمة دفع توهم الإثم على الخاطئ والغالط والناسي.
وأما تجويزه أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين يضعون حسبة من غير عمد عملهم؛ فلا أدري كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد، والوضع حسبة أن يقصد الواضع وجه الله والثواب وخدمة الشريعة - على حسب ظنه - بالترغيب في فعل الخير والفضائل، وهم قوم الصوفية والكرامية جوزوا الوضع في الترغيب والترهيب، فكيف
يجتمع - أيها الأستاذ - قصد الوضع طمعاً في الثواب مع عدم التعمد؟ وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد لم أقع عليه ولا أعقله
5 -
ذكر الأستاذ في تدوين الحديث أنه كان في أول أمره مشوباً بأقوال الصحابة في التفسير، وغيره من مسائل دينية، أو طرف أدبية، أو أبيات شعرية الخ. فمن أين وصل إلى الأستاذ أن الحديث في أول أمره كان ممزوجاً بالطرف الأدبية والأبيات الشعرية، وأقدم كتاب وصل إلينا ممزوجاً فيه الحديث بأقوال الصحابة وفتاوي التابعين موطأ الإمام مالك، فأين ما فيه من طرف وشعر؟ وإذا كان ذلك المزج قبل طبقة مالك، فمن أي مصدر استقى الأستاذ هذه الفكرة؟ والذي ذكره الحافظ في مقدمة الفتح أن الجامعين للحديث كانوا يجمعون كل باب على حدة إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، فصنف الإمام مالك موطأه بالمدينة، وابن جريج بمكة، وعلى رأس المائتين جرد الحديث من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، إلى أن جاء الإمام البخاري فميز الصحيح الخ ما ذكر.
6 -
ذكر الأستاذ أن الفقهاء كبلهم التقليد فلم يعتنوا بكتب الحديث، ولم يعطوها حقها من البحث والدرس الخ ما قال
وكلمة الفقهاء شاملة للأئمة المتقدمين، ومن بعدهم من استقل باستنباط الأحكام العملية والفروع الفقهية؛ والثابت أن قدماء الفقهاء قد أحلوا السنة محلها الممتاز، وجعلوها المصدر الثاني من مصادر التشريع، وإنما اختلفوا في الأخذ بها قلة وكثرة، وما كان الفقيه ليصل إلى درجة الاجتهاد إلا إذا أحاط الكثير من السنة رواية ودراية. والإمام أبو حنيفة رحمه الله مع التخرص عليه بقلة البضاعة في الحديث - كان له سبعة عشراً مسنداً، أي كتاباً مؤلفاً على حسب أسماء الصحابة، وتلميذه محمد اشتهر برواية الحديث عن مالك
وأقرب الظن أن الأستاذ أراد متأخري الفقهاء الذين جعلوا همهم العصبية المذهبية ولم ينظروا إلى الحق في ذاته، وهم الذين كانوا في عصور الجمود الفقهي
هذا، وفي المقال بعض هنات تجاوزت عنها، وحيث أن المقال ملخص كتاب سينشر، فإني لأهيب بالأستاذ أن يراجع نفسه في بعض هذه الحقائق التي تكشفت، وليكر على الكتاب من جديد بالتمحيص والتدقيق، وعلم الحديث ليس بالأمر الهين والبحث فيه يحتاج إلى صبر وأناة وتمحيص وتدقيق، ورحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً؛ وقصارى قولي: ليس
الخاطئ من يظهر له الحق فيعود إليه، وإنما الخاطئ من يظهر له الحق فيصر على الباطل.
محمد محمد أبو شهبة
عالمية من درجة أستاذ
قصة نجاة المعري بالدعاء
هل هي خرافة؟
للأستاذ برهان الدين الداغستاني
كتاب سر العالمين:
للإمام أبي حامد الغزالي كتاب صغير الحجم يسمى (سر العالمين، وكشف ما في الدارين) رسم فيه سياسة وافية للفوز في الدنيا والآخرة، جاء في أوله:(سألني جماعة من ملوك الأرض أن أضع لهم كتاباً معدوم المثل لنيل مقاصدهم، واقتناص الممالك، وما يعينهم على ذلك).
طبع هذا الكتاب لأول مرة في بومباي سنة 1314هـ (1896م) ثم طبع في القاهرة سنة 1327هـ (1909م).
وفي هذا الكتاب ذكر الغزالي قصة نجاة المعري بالدعاء، ثم تناقلها المؤرخون، والكتاب جيلا بعد جيل وعصراً بعد عصر من غير نكير ولا شك ولا ارتياب.
ولعل مما جعل المؤرخين ينقلون هذه القصة من غير ارتياب فيها ويتقبلونها على ما فيها - لعل من أسباب ذلك - فوق مكانة الغزالي في قلوب العلماء على تعاقب الأجيال - قرب العهد بين المعري والغزالي، فقد ولد الغزالي بعيد وفاة المعري والمسافة بين سنة 449 وفاة المعري وسنة 450، سنة مولد الغزالي ليست بذات بال في الحوادث التاريخية. فالغزالي على هذا أول راو لهذه القصة والمصدر الذي استقى منه كل من أتى بعده من المؤرخين.
قصة نجاة المعري بالدعاء:
بعد هذا التمهيد الوجيز نقدم للقارئ نص القصة كما ذكرها الغزالي قال:
حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار، قال: دخلت معرة النعمان وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق، لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل. فأمر محمود بحمله إليه من المعرة إلى حلب، وبعث خمسين فارساً ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال: يابن أخي قد نزلت بنا هذه الحادثة: الملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عاراً
علينا عند ذوي الذمام، ويركب تنوخاً العار والذلة، فقال له: هون عليك ياعم، فلا بأس علينا، فلي سلطان يذب عني، ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر. . . أين المريخ؟ فقال: في منزلة كذا وكذا. فقال: زنه، واضرب تحته وتداً، وشد في رجلي خيطاً، واربط به إلى الوتد، ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجد الموجودات، أنا في عزك الذي لا يرام وكنفك الذي لا يضام، الضيوف! الضيوف! الوزير. الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة؛ فسئل عنها، فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها، فقتلت الخمسين، وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ، فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن علي: فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري، فقال: من أين أتيت؟ فقلت: من أرض الهركار، فقال: زعموا أني زنديق، ثم قال: اكتب وأملي علي:
أستغفر الله في أمني وأوجالي
…
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي
قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في
…
مشاة وفد ولا ركبان أجمال
فقلت: إني ضرير والذين لهم
…
رأي رأوا غير فرض حج أمثالي
ما حج جدي ولم يحجج أبي وأخي
…
ولا ابن عمي ولم يعرف مني خالي
وحج عنهم قضاء بعدما ارتحلوا
…
قوم سيقضون عني بعد ترحالي
فان يفوزوا بغفران أفز معهم
…
أولا فإني بنار مثلهم صالي
ولا أروم نعيما لا يكون لهم
…
فيه نصيب وهم رهطي وإشكالي
فهل أمر إذا حمت محاسبتي
…
أم يقتضي الحكم تعناتي وتسآلي
من لي برضوان أدعوه فيرحمني
…
ولا أنادي مع الكفار أمثالي
باتوا وحتفي أمانيهم مصورة
…
وبت لم يخطروا مني على بال
وفوقوا لي سهاماً من سهامهم
…
فأصبحت وقعاً مني بأميال
قالوا وهم كفيول في كثافتهم
…
ولا نجاح لأفيال كأفيال
لما هتفت بنصر الله أيدني
…
كأن نصرت بجبريل وميكال
وجاء إذ ذاك عزرائيل يغضب لي
…
فيقبض الروح مغتاظاً بإعجال
فما ظنونك إذ جندي ملائكة
…
وجندهم بين طواف وبقال
لقيتهم بعصا موسى التي منعت
…
فرعون ملكا ونجت آل إسرال
أقيم خمسي وصوم الدهر آلفه
…
وأدمن الذكر أبكاراً بآصال
عيدين أفطر من عامي إذا حضرا
…
عيد الأضاحي يقفو عيد شوال
إذا تنافست الجهال في حلل
…
رأيتني من خسيس القطن سربالي
لا آكل الحيوان الدهر مأثرة
…
أخاف من سوء أعمالي وآمالي
وكيف أقرب طعم الشهد وهو كذا
…
غصب لمكتسب نحل ذات أطفال
نهيتهم عن حرام الشرع كلهم
…
ويأمروني بترك المنزل العالي
وأعبد الله لا أرجو مثوبته
…
لكن تعبد إكرام وإجلال
أصون ديني عن جعل أومله
…
إذا تعبد أقوام بأجعال
رأي الكتاب والمؤرخين في هذه القصة
هذه هي قصة نجاة المعري بالدعاء كما ذكرها الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب سر العالمين وكشف ما في بين الدارين. ثم تتابعت الأيام، ومضت السنون والأعوام والمؤرخون ينقلون هذه القصة لا يشكون فيها ولا يرتابون في أمرها. فقد نقلها عن كتاب سر العالمين سبط ابن الجوزي - 581 - 654هـ في كتاب مرآة الزمان.
ونقلها عن مرآة الزمان الصفدي - 696 - 764هـ في كتابيه: الوافي بالوفيات، ونكت الهميان في نكت العميان.
كما نقلها عن الغزالي أيضاً ابن أبي أصيبعة المتوفى سنة 668هـ في كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء.
ونقلها عن ابن أبي أصيبعة كل من صاحب سكردان السلطان والشيخ العباسي المكي من علماء القرن الثاني عشر الهجري في كتاب نزهة الجليس.
وذكر ابن الوردي المتوفى سنة 749هـ في تتمة المختصر ملخص القصة، ثم قال: فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده، ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده.
كذلك نقل القصة أيضاً عن كتاب سر العالمين العيني - 762 - 855هـ في كتاب عقد الجمان.
والشيخ عبد القادر السلوي في كتاب الكوكب الثاقب.
كل هؤلاء الأعلام من رجال العلم والأدب والتاريخ رووا هذه القصة كل على حسب مزاجه ورأيه من اختصار لها أو إسهاب فيها ولكن واحداً منهم لم يحاول إنكار الفكرة الأصلية فيها أبداً.
ولما كتب الدكتور طه حسين بك كتابه (ذكرى أبي العلاء) أنكر هذه القصة من أساسها لأن عم أبي العلاء مات قبل أبيه!، ولأن المعري لم يكن ينتحل السحر، ولا يعرف الطلسمات! ولم يرض هذا التكذيب القاطع الذي لا يستند إلى سبب معقول مؤرخ حلب الشيخ محمد راغب الطباخ فذكر في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء (ج 4 ص 163) سبباً جديداً معقولا لإنكار هذه القصة. وهو أن محمود بن صالح تولى حلب بعد وفاة المعري بنحو أربع سنوات. فكيف تحدث هذه القصة في عهد محمود بن صالح؟.
وعن الشيخ محمد راغب الطباخ - فيما أعتقد - أخذ هذه الحجة الأستاذ الشيخ الميمني وأثبتها في كتابه عن المعري. جازماً بها، راضياً عنها.
وفي عدد الرسالة: 625 ص 675 قرر الدكتور الفاضل عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول: أن هذه القصة خرافية مروية. معتمداً في ذلك على كتاب الأستاذ الميمني عن أبي العلاء المعري.
بقي أن نذكر أن عالماً فاضلا بحاثاً مدققاً هو المرحوم أحمد تيمور باشا ذكر في كتابه الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر بعد وفاته الخلاصة التي أوردها ابن الوردي ثم نقل تفصيل هذه القصة عن كتاب الكوكب الثاقب للشيخ عبد القادر السلوي ولم يحاول تكذيبها ولا الشك فيها ولكنه أراد استبعاد (رصد المريخ) لأن من يقف على كلام المعري في المنجمين، وتقبيح أعمالهم يحكم بأن ذلك من الموضوع عليه.
وبعد فهذه هي قصة نجاة المعري بالدعاء وهذه أدوارها التي مرت بها. فهل هي خرافة مروية حقاً.
برهان الدين الداغستاني
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 3 -
ويمعن أبو يوسف في تصوير هؤلاء العامة من السجناء فقول: وأغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم الناس؛ فإن هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا وأخطئوا، وقضى الله عليهم ما هم فيه فحبسوا، يخرجون في السلاسل يتصدقون. وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بإسارى المسلمين الذين في أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ وإنما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع.
ولقد بلغني، وأخبرني به الثقات، أنه ربما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم واليومين، حتى يستامر الوالي في دفنه، وحتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون، ويكترون من يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة).
وقد نجد في كتب الأدب والتاريخ، نبذاً عما كان يفعل بخواص المسجونين إذا دخلوا السجن. كانوا ينزعون عنهم ثيابهم فيلبسون غيرها، ثم يقيدون، ويقدم لهم طعام خاص:
حدث ابن وهب قال: أخذني اسحق (بن إبراهيم) فقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف. فأقمت كذلك نحو عشرين يوماً، لا يفتح عليه الباب إلا مرة واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع لي فيها خبز شعير وماء حار).
وحدث سليمان بن وهب قال: (كنت في يدي محمد بن عبد الملك يطالبني وأنا منكوب، وكان يحضرني كل يوم وأنا في قيودي، وعلي جبة صوف).
وذكر يعقوب بن داود قال: (حبسني المهدي. . . في بئر. . . وكان يدلي إلي في كل يوم رغيف وكوز ماء. . .) ولما سجن ابن عبد الملك أمر بتقييده فقيد، ولم يأكل في طول حبسه إلا رغيفاً واحداً. وكان يأكل العنبة والعنبتين).
وقيد جعفر بن يحيى في حبسه بقيد حمار قبل أن يقتل ثم ضربت عنقه.
وسأل الرشيد جعفر بن يحيى يوماً ما فعل بيحي بن عبد الله؟ قال بحاله يا أمير المؤمنين:
في الحبس الضيق والأكبال.
وقيد إيتاخ في سجنه وصير في عنقه ثمانون رطلا وقيد ثقيل وكانت وظيفته رغيفاً وكوزاً من ماء.
ولما حبس اسحق بن إبراهيم عمر بن فرج ألبسه جبة صوف وقيده بالأكبال.
وحبس بختيشوع المتطبب في المطبق فضرب مائة وخمسين مقرعة وأثقل بالحديد.
وقد كانت جبة الصوف تدهن أحايين كثيرة بالنقط أو بماء الأكارع، كما فعل بجبة ابن الفرات وغيره. أما القيد فربما بقيت آثاره بعد فكه. وهذا ما حدث لأبي العباس أحمد. . . ابن الفرات، فقد علق بحبال في يديه بقيت آثارها فيها مدة حياته، وربما أصاب المسجونين الإهمال، فلم يكسوا أو يطعموا. وقد ذكر ابن المعتز أن الرشيد أرسل مسروراً الكبير إلى البرامك، وهم في الحبس يتعرف حالهم. فصار إليهم فوجد الفضل ساجداً فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط. وكان في ثوب سمل، وذلك في الشتاء والبرد شديد.
فأنت ترى أن لباس السجناء جبة من صوف، وأن طعامهم رغيف في اليوم، وشرابهم كوز من ماء، وقيودهم السلاسل والأكبال.
وربما كان للسفهاء في السجون العامة سيطرة وسلطان. نستدل على ذلك من أبيات قالها عبد الملك بن عبد العزيز وكان قد حبسه الرشيد، وهي:
ومحلة شمل المكاره أهلها
…
وتقلدوا مشنوءة الأسماء
دار يهاب بها اللئام وتتقي
…
وتقل فيها هيبة الكرماء
ولم يكن يسمح للمحبوسين أن يقابلوا أحداً. وقد يكون ذلك بالرشي. حدث محمد بن صالح العلوي قال: (وجاءني السجان يوماً وقال إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد. إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما، وهما في الدهليز، فاخرج إليهما. . .).
ويقول ابن المعتز إن البرامكة كان يزورهم في محنتهم من كان يألفهم أيام نعمتهم حتى أن الرشيد كان يقول لسعيد بن وهب (آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم).
وهنا قد يتساءل الإنسان: أكان السجناء يتعلمون في السجن صناعة ما أو علماً؟ ويذهب آدم متز إلى أن المسجونين كانوا يشتغلون بنسج التكك، مستنداً على بيت من الشعر قاله ابن
المعتز، لم نجده في ديوانه، وهو:
تعلمت في السجن نسج التكك
…
وكنت امرءاً قبل حبسي ملك
على أننا لا نستطيع أن نجزم بذلك. فابن المعتز سجن في مكان خاص منفرد؛ ولم تكن مدة سجنه طويلة حتى يتعلم، على أنه إذا نفينا ذلك عن ابن المعتز، فقد يكون لسجناء، في السجون العامة الأخرى.
ويحدثنا إبراهيم الموصلي أنه حبس أيام المهدي وضرب قال: فحذقت الكتابة والقراءة في الحبس. وليس في هذا أيضاً ما يوجب التعميم.
وما كادت المائة الثانية من الهجرة تمضي، حتى بدأت السجون تنال عناية من الخلفاء؛ ولا سيما المعتضد. فقد أوقف لها الأموال الكبار لنفقات المحبوسين وثمن أقواتهم ومائهم وسائر مؤنهم. وقد جعل في ميزانيته ألف وخمسمائة دينار في الشهر لذلك. ويحدثنا القفطي أنه عين لمن في السجون أطباء أفردوا لذلك. فكانوا يدخلون إليهم ويحملون معهم الأدوية والأشربة، ويطوفون على سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، كما جعل للمحبسين ديوان خاص تكتب فيه قصصهم في دفاتر خاصة يرجعون إليها دائماً.
التعذيب
وكانوا يلجئون في بعض الأحايين إلى تعذيب السجين تعذيباً مؤلماً. وقد يخص بالعذاب الوزراء والعمال. وسنعرض عليك ألواناً مختلفات من التضييق والتعذيب؛ فقد كان سليمان بن وهب في أول حبسه بالبئر (يأنس بالخنافس وبنات وردان ويتمنى الموت لشدة ما هو فيه).
وحبس محمد بن القاسم. . . بن علي بن أبي طالب في الحبس الذي شيد في بستان موسى (فلما أدخل إليه أكب على وجهه في أسفل بيت منه. فلما استقر به أصابه من الجهد لضيقه وظلمته، ومن البرد لندى الموضع ورطوبته، ما كاد يتلفه).
أما الضرب والتعذيب فكثير: فقد ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسون مقرعة. وضرب يحيى بن خالد، والفضل ابن يحيى وسوهر محمد بن عبد الملك، ومنع من النوم، وكان ينخس بمسلة (تؤلمه وتدمي جسده).
ولما سجن المعتز بعد خلعه دفع إلى من يعذبه ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب
حسوة من ماء البئر فمنعوه منها، ثم جصصوا سرداباً بالجص السخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه فأصبح ميتاً).
وقد كان يحدث القتل وضرب الأعناق. وأورد التنوخي قصة قتل نوردها بكاملها، قال:(حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحسن. . . وكان خليفة أبي علي على الفتيا بسوق الأهواز بإسناده عن القاضي أبي عمر قال: لما جرى من أمر عبد الله بن المعتز ما جرى حبست وما في لحيتي شعرة بيضاء، وحبس معي أبو المثنى القاضي، ومحمد بن داود بن الجراح في دار واحدة، في ثلاثة أبيات متلاصقة. وكان بيتي في الوسط؛ وكنا آيسين من الحياة وكنت إذا جن الليل حدثت أبا المثنى تارة، ومحمد بن داود تارة. وحدثاني من وراء الأبواب. ويوصي كل واحد منا إلى صاحبه، ونتوقع القتل ساعة بساعة. فلما كان ذات ليلة، وقد أغلقت الأبواب، ونام الموكلون؛ ونحن نتحدث من بيوتنا إذ أحسسنا بصوت الأقفال تفتح. فارتعنا، ورجع كل منا إلى صدر بيته. فما شعرت إلا وقد فتح البواب على محمد بن داود، وأخرج، وأضجع على المذبح فقال: يا قوم ذبحاً كما تذبح الشاة؟ أين المصادرات؟ أين أنتم من أموالي أفتدي بها نفسي. فما التفتوا إلى كلامه، وذبحوه وأنا أراه من شق الباب، وقد أضاء السجن من كثرة الشموع، وصار كأنه نهار. واحتزوا رأسه فأخرجوه معهم، وجردوا جثته، وطرحت في بئر الدار وغلقت الأبواب. (قال) فأيقنت بالقتل، وأقبلت على الصلاة والدعاء والبكاء، فما مضت إلا ساعة واحدة حتى أحسست بالأقفال تفتح؛ فعاودني الجزع، وإذا هم جاءوا إلى بيت أبي المثنى ففتحوه وأخرجوه وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين، يا عدو الله، يا فاسق بم استحللت نكث بيعتي وخلع طاعتي؟ فقال. لأني علمت أنه لا يصلح للإمامة! فقالوا: إن أمير المؤمنين قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر، فإن تبت رددناك إلى محبسك، وإلا قتلناك. فقال أعوذ بالله من الكفر، ما أتيت ما يوجب الكفر. فلما أيسوا منه مضى بعضهم وعاد فأضجعوه وذبحوه وأنا أراه، وحملوا رأسه وطرحوا جثته في البئر. فذهب علي أمري، وأقبلت على الدعاء والبكاء والتضرع إلى الله. فلما كان وجه السحر سمعت صوت الأقفال، فقلت: لم يبق غيري وأنا مقتول. فاستسلمت وفتحوا الباب فأقاموني إلى الصحن، وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاعل ويا صانع، ما حملك على خلع بيعتي؟ قلت: الخطأ وشقوة الجد. وأنا تائب إلى الله عز وجل من هذا
الذنب. . . فجاءوا إلي بخفي وطيلساني وعمامتي، فلبست ذلك وأخرجت، فجيء بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة. فلما رآني، أقبل يخاطبني بعظم جنايتي وخطأي، وأنا أقر بذلك وأستقيل وأتنصل فقال:(وهب لي أمير المؤمنين دمك، وابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار، ألزمتك إياها).
وقد يعذبون بغير ما ذكرنا. فقد رؤى في أيام المقتدر، رجل في المطبق مغلولا على ظهره لبنة حديد فيها ستون رطلا. ولما حبس إيتاخ أطعم كثيراً فاستسقى فمنع الماء فمات عطشاً.
على أن هناك صلة بين التعذيب عند العباسيين، والتعذيب على أهل أوربة في القرون الوسطى. وإن كان التعذيب في أوربة يفوق تعذيب العباسيين شدة وفظاظة. فلقد بلغوا فيه مبلغاً من القسوة لا يجاريهم فيه أحد. وقد ذهبوا في الظلم والإرهاق مذاهب شتى، وتنافسوا في ابتكار أشد وسائل الإرهاب في السجن فظاعة. من ذلك أن بعض السجون المظلمة التي كان يزج فيها السجناء كانت أشبه بمغاور تحت الأرض، يوصل إليها بسلاليم، لا ينفذ إليها النور. وكانت السلاليم مؤلفة من عدة درجات، يختلف بعضها عن بعض في حجمها وارتفاعها، والغرض من جعلها كذلك تضليل النازل حتى تزل قدمه فيهوي إلى قاع السجن الرهيب.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
الحياة الأدبية في الحجاز
نهضة النثر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
أثرت العوامل الثقافية والقومية والسياسية في النثر الحجازي كما أثرت في الشعر، فتخلص من قيود القديم، ولم يعد الآن بين الكاتبين في الحجاز من يصب على قوالب الأقدمين فيطرب للمحسنات أو يتحرى موضوعاتهم في العتاب والشكوى والمقامات.
وإنك لتعجب لهذا الانقلاب السريع الذي طرأ على النثر الحجازي؛ فإنهم استطاعوا أن يغيروا اتجاهه في فترة قصيرة من الزمان، ولعل الذي سهل لهم هذا الطريق هو ما سبق أن قررناه في الشعر من أن الأديب الحجازي وجد نفسه - منذ أن تفتحت أمامه سبل النهضة - متخلفا عن الركب العربي فدفع بنفسه دفعة قوية آملا أن يصل إلى أقصى الغايات. ثم إنه وجد أمامه طريق التجديد سهلة معبدة قد سلكها غيره من أدباء مصر والشام والمهجر فلم يتعثر طويلا في الطريق التي تعثروا فيها قبله وصاح صيحة قوية في وجه التقليد ودعا في حرارة وشغف إلى التعلق الجديد ومن قول عواد في ذلك: (إذن فما لنا نرجع إلى الوراء حتى في الأدب؟! جناية جناها على أفكارنا وأقلامنا الأقدمون فطأطأنا لها الرءوس.
كفى يا أدباء الحجاز، ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات؟ أقسم لولا حركة عصرية في الأدب قائمة الآن في الحجاز بهمة لفيف من أحرار الأدب العصري، لما عرف العالم شيئا في الحجاز يدعي الأدب الصحيح. . .
وفي الحجاز الآن مدرستان للنثر تقابلان مدرستي شعر؛ فإحداهما متئدة وهي متأثرة أشد التأثر بأدب مصر والشام، والثانية مجددة ممعنة في التجديد وهي متأثرة بأدب المهجر، وكان طبيعيا أن تقوم هاتان المدرستان في النثر بجانب مدرستي الشعر لاختلاف المصادر التي يستقي منها التجديد أدباء الحجاز وانقسامهم فريقين يختار كل منهما ما يحلو له وما يغذي اتجاهه. وثمة سبب آخر لعله أوضح من سابقه في ظهور هذين الاتجاهين في الشعر والنثر معا وهو أن التخصص لم يظهر بعد ظهورا واضحا عند أدباء الحجاز فأكثر الأدباء عندهم شعراء وكتاب وخطباء ولو أننا عددنا كاتبين كالسباعي وزيدان لم يحاولا الشعر ولم
يحفلا به لوجدنا بجانبهما عشرات من الكتاب الشعراء فعبد القدوس والنقشبندي وعلي حافظ ومحمد سرور وغيرهم يكتبون ويشعرون فكان طبيعياً أن تظهر نزعاتهم الشعرية في نثرهم وأن ينهجوا منهجين في النثر كما نهجوهما في الشعر.
والنثر الجديد في الحجاز يحمل طابع الشعر وخصائصه: ففيه خياله الفياض وحماسته المتدفقة، وفيه التعبير عن العواطف والأحاسيس حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ نثر المجددين منهم أنك أمام شعر شاعر قد تزاحم خياله ودقت عواطفه؛ فساق إليك المعاني في صور من الخيال مؤثرة، ولا تلحظ من الفوارق بين شعرهم ونثرهم إلا أن الأول موزون، والثاني غير موزون. فتأمل قول (عزيز ضياء) في قطعة عنوانها (وطني).
أنت يا وطني ينبوع تدفقت منه أنوار المدنية والحضارة والعلم.
من روابيك وربوعك، من جبالك وسهولك، من صحاريك وقفارك تعالى فيك صوت الدين الإسلامي الحنيف فسمعته الإنسانية؛ فاستيقظت فيها مواضع الإحساس وانبعث فيها روح الحياة.
منك يا وطني انبثق الفجر الذي بدد ليل الهمجية والوحشية الذي ظلت تتخبط في دياجيره الإنسانية قرونا طوالا.
يا وطني يا مهبط الوحي ومشرق الإصلاح.
يا منجم الأبطال الخالدين ومنبت العباقرة النابغين
يا مهد الحرية والعدالة والمساواة.
يا مهد طفولتي السعيدة، يا من استقبلت فيه وجه الحياة وعرفت فيه معنى الوجود.
يا جوهرتي الغالية يا كنزي الثمين، يا رمز مجد العالم، يا شارة فخر الإنسانية.
أحبك يا وطني.
أتفانى في حبك كما يتفانى الفراش في النور.
يلذ لي أن أحترق بخورا في مجمرة الواجب الذي على نحوك.
من ثدي أمي رضعت لبان حبك.
من حرارة شمسك استمددت حرارة إخلاصي.
من صفاء جوك اكتسب الصفاء ضميري.
وسأظل يا وطني.
سأظل وفيا ما دامت لبان أمي تجري في دمائي.
وستظل حرارة إخلاصي ما دامت حرارة شمسك
وسيدوم صفاء ضميري مادام صفاء جوك.
أحبك يا وطني. . . . . . . . . الخ)
ألسنا نرى في هذه القطعة من الخيال وطريقة العرض ما يحملنا على القول بأنها شعر منثور قد توافرت فيه خصائص الشعر في المعاني والأخيلة والأساليب وطريقة الأداء؟!
وقد يكون هذا الإمعان في الخيال ناتجا من عدم تخصص أدبائهم في صنعة من الصناعتين، وقد يكون راجعا إلى قراءتهم أدب المهجر، فإنك لا تكاد تظفر بكاتب من كتاب المهجر لا يقول الشعر، بل إنهم ليحاولون دائما التقريب بين الشعر والنثر: فيخففون من قيود القافية ويتحررون من التزامها، ولكنهم في النثر يكررون بعض الجمل ويلتزمونها بل إنهم يسجعون أحيانا لا لأنهم يريدون السجع ولكنهم يرون مثل هذا في قافية الشعر فيريدون التقريب بينهما لتزول الفوارق.
وهذه الظاهرة يجدها القارئ لنثر الحجازيين فهم خياليون في نثرهم، وهم يتخيرون الألفاظ الموسيقية التي تشبه ألفاظ الشعر وهم فوق هذا وذاك يطرقون به أغراض الشعر العاطفية التي تتدفق حماسة وقوة. وهم كثيرا ما يفصلون الجمل فصلا كأن كل جملة من جمل النثر بيت من أبيات الشعر غير متصل بما بعده في تركيبه وإن اتصل به في معناه.
ومن الأمثلة الحديثة في نثر الحجاز ما كتبه (حسين خزندار) بعنوان (ذراع الجبار) وقد أراد في كلامه أن يصور بطولة جندي جاهد في سبيل الواجب حتى قتل فهو يقول من كلام طويل:
أرأيت تلك السهول الفسيحة؟
فهناك في تلك الأكمة الخالدة.
وهناك حيث التضحية والشهامة.
تثوي عظام الجبار الخالد.
فهي رمز البقاء الدائم.
تنادي من أعماقها:
الحرية أو الموت.
تعالي يا فتاتي ولننشد نشيد السعادة.
مرددين مقطوعته العذبة.
الحرية أو الموت.
فالحياة بدونها كابية كئيبة.
والحياة بدونها موحشة قد ارتدت سلاب الحزن.
فهي سر الحياة كالأرواح.
ومنبع الإحساس في نفوس الأباة.
فإما الثريا وإما الثرى.
ولسنا نريد من هذا الكلام أن نقول: إن كل كتابة في الحجاز تتبع الطريقة التي ذكرناها فإن المدرسة المتئدة تتأثر أدب مصر والشام فتتحرى الدقة في التعبير وتحاول أن تخاطب العقل أكثر مما تخاطب العاطفة في كلام مترابط متسلسل يتبع أساليب المنطق، وقد رأينا من هؤلاء الأدباء
(عبد السلام عمر، وأحمد العربي، وعلي حافظ، وزيدان، وأمين عقيل، وعنبر وغيرهم).
أما أحمد سباعي وهو أثبت الناثرين قدما في الحجاز وأقواهم قلما فإنه يتبع المنهاجين ويسير على الطريقتين، فتارة يكتب كما يكتب أدباء مصر وأخرى يسير كما يسير أدباء المهجر في عرض الموضوع وطريقة الأسلوب، ومثله في طريقته الشيخ سرور الصبان.
قال السباعي من قطعة له بعنوان (حذار أن تكون ضعيفا).
(ما رأيت كالقوة منعة تحصن جانب المرء وتعزز مكانته وتحفظ عليه كرامته، وإنه يخيل إلي أن البسيطة بأهلها وأهلها بقواعدهم اصطلحوا على احتقار الضعيف وأطبقوا على الاستهانة به والسخرية منه، فحذار يا صاحبي، حذار أن تكون ضعيفا.
شهدت ضعيفا يدلج في أحد الشوارع وعاصفة من الصفير تدوي في أذنه وكوكبة من الأطفال تعبث به، فقلت هو الضعيف ويله من الصغار والجهلاء!
وشهدت آخر تكالب جمع غفير على إيذائه، هذا يصفعه، وذاك يمتطي ظهره وغيره يدفعه
ليغريه بالرقص واللعب، وكانت زفرات المسكين تتصاعد فتتلاشى في ضحك الضاحكين وقهقهة الصاخبين، فقلت هو الضعيف ويله من غوغاء الشوارع وأوباشها!. . .
ويقول:
وسمرت ليلة في جمع من أرباب الحجى وذوي الفضل، فتصدرنا ضعيف أخذوه بيده إلى أرفع مجلس فأوهموه العظمة وراحوا على حساب ذلك يتغامزون ويعبثون. ومضت ليلة حسبت صاحبي سيقضي في نهايتها كمداً وهماً، فقلت هو الضيف ويله من أبناء الحياة صغارهم وكبارهم وغوغائهم وأشرافهم!!
فحذار. حذار يا صاحبي أن تكون ضعيفا. . .)
ومن هذا الكلام تستبين تأثر الكاتب بطريقة المنفلوطي كما تستبين حماسته التي استفادها من أدباء المهجر
والشعر الحجازي لا يزال أقوى من النثر، ويظهر أن هذه حقيقة مقررة في كل أدب ناشئ؛ فإن الشعر دائما في بداية النهضات يطغي على النثر حتى إذا ما توافرت أسباب النهوض ونمت دوحة الأدب تقدم النثر لاهتمام الناس به وتأخر الشعر عن منزلته شيئا فشيئا، وقد حدث مثل هذا في نهضتنا المصرية في العهد الحاضر.
ويعالج النثر الحجازي في الغالب الكثير النواحي الاجتماعية: فهو يتناول النواحي الخلقية يحاول إصلاحها وهو ينتقد ضعف الشباب وعدم طموحه ويرسم له المثل العليا، وهو يتحدث عن المرأة الحجازية ليقوي مكانتها الاجتماعية فتصبح أماً صالحة تستطيع أن تربي أبنائها وتأخذ بأيديهم إلى طريق الفلاح وهكذا. . . وهو يسوق ذلك كله في طرائق مختلفة، وأظهر تلك الطرائق التهكم من الحالة الاجتماعية القائمة والعرض القصصي والأسلوب الخيالي.
أما القصة العصرية عندهم فلا تزال مجهولة وذلك لأن إتقان القصة يحتاج إلى زمن طويل يتملأ فيه الأدباء مناهج الغربيين ويعرفون طرائقهم فيها، وإذا كانت مصر إلى الآن لا تزال متعثرة في فن القصص مع أنها بدأت تترجم هذا الفن عن الغربيين منذ عهد إسماعيل فما بالك بالحجاز ونهضته لا تعدو ثلاثين سنة.
نعم، لقد بدأ بعض الحجازيين ممن يعلمون اللغات الأجنبية يترجمون بعضا من الأقاصيص
الأوربية وينشرونها في مجلاتهم ليربوا الذوق القصصي في البلاد، ولكن هذا العمل لا يزال في البداية وسوف لا تظهر ثمرته إلا بعد وقت طويل من الزمان.
أحمد أبو بكر إبراهيم
من (لزوميات مخيمر)
(إلى هؤلاء الذين أرشدوني إلى ينابيع نفسي: الشبيشي
والزيات، والسباعي بيومي، والعقاد، وهاشم عطية أهدي هذه
اللزوميات)
للأستاذ أحمد مخيمر
ليلى
أتعلم ليلى بحبي لها
…
وماذا فؤاديَ منهُ خَبأْ
تشّيعني بالخطوب الكبا
…
ر، وتقتلني قتلة لم تُبَأْ
وتُظْمئني، وتُواري الميا
…
هَ، وتلحَظَ ظِمْئِيَ بالمرْتَبَأْ
وتذهبُ أنباء حبّي لها
…
وما جاء من هواها نبأْ
وما حفلتْ سرايا الحني
…
نِ فؤادي لها من قديمٍ عَبَأْ
أرأْريءُ في شغفٍ للمزا
…
ر، فيا ليتني كنتُ فيه الحَبأْ
سنَعْبدُها بذلت بحْضَهَا
…
لتُكْرِمَنَا، أم سقتْنا الكّبَأْ. . .
خلود ليلى
أتطمعني في الخلد وحدي! وإنما
…
خلودي بلا ليلى خلودٌ مضلَّلُ
إذا أشرقتْ بين الجوانح شمْسُها
…
مضى القلبُ خفّاق المنى يَتهلَّلُ
وخف به شوقان: شوق معَللٌ
…
يُحَسُّ، وشوق دونه لا يعلَّلُ
وأي بقاءٍ بعد ليلى أريده
…
وليلى خلودٌ بالنعيم مكلّلُ
أنازُع قلبي عند أبياتها الخطا
…
فأمضي، ويمضي وحده يتسللُ.!
الدليل
إذا رمضَت أقدام روحي تفيأت
…
ظلال حبيب، أو فُيوَء خليلِ
وقد سرتُ في وادٍ بحسنك عاطرٍ
…
وعشتُ بأيكٍ من هواك ظليل
وما خفتُ يوماً أن تضلَّ مسالكي
…
وأنتِ بصحراء الوجود دليلي
وكيف يخاف الفقر من كنت عونه
…
وما بذلت عيناك غير قليل
طلعت فبدّدتِ الظلام بلامعٍ
…
مهيبٍ، ومعشوقٍ أغرَّ جليل
وكنتِ على الأيام راحةَ مُجهدٍ،
…
ونعمةَ محرومٍ، وبرَء عليلِ
وينبوعَ حب، كم أتَحْتِ لظامئ
…
ملَّذة وِرْدٍ، أو شفاَء غليلِ
ألا كلّ ليلى طاولتْكٍ بحسنها
…
هوتْ بجناح للتراب ذليل. . .!
قمم النور
يا فرحةَ الحبّ قد صعدنا
…
إلى ذرا النور، وارتقينا
وقرّبنا لها الليالي
…
في جيرةِ الخْلد فالتقيْنا
وهيَأت ظلّها فنمنا،
…
ومدَّتِ النَّبَع فاستقيْنا
أيّ سرورٍ نريد منها
…
وأي حزن قد اتقينا. . .!
قد عرضَتْ ذخرها فنلنا
…
ما شاءت الروح، وانتقينا
وحدة الخلود
ستخلد بي ليلى، ويزخر قلبها
…
بآباده، ملآنَ بالنشواتِ
وما لحظات الأرض، وهي قصيرة
…
سوى زبدٍ طافٍ على السنواتِ
فيا أسفا إن رحتُ وحديَ خالدا
…
وطال اعتساف الروح في الفلواتِ
وألقيت طرفي في الوجود، فلم أجد
…
وراء الدجى ليلايَ والغدواتِ
وطال حنين القلب في قبضة الأسى
…
وفاضت دموع العين في الخلواتِ
ستمسي حنايا النفس مغلقةَ الصدى،
…
مخوفَ الجُذَا، مطوّيةَ النزواتِ
تدلَّى إلى مهوًى سحيقٍ قراره
…
بعيد الحوافي، مظلم الفجواتِ. .
فلا تتركيني ليلَ وحدي، فإنما
…
لحسنك ما غنيت من صلواتِ
إذا فرقتنا بعد حين يد النوى
…
فإن رحيلي عنك من هفواتي.!
(ادفو)
أحمد مخيمر
البريد الأدبي
الشيخ أحمد إبراهيم بك:
من الطفولة حتى الشباب في مراحل التعليمي الثلاث، وأنا أسعد بأستاذيته رحمه الله وقد كان لهذه الصلة في نفسي منذ نشأت أعمق الأثر، وكنت أشعر دائماً أن له عليّ فضل التوجيه وقد كان إكباري له وإعجابي بعلمه وورعه، وسمو نفسه وأسلوب تفكيره يحملني على أن أحاول اتخاذه قدوة صالحة.
فما عرفت أدق منه في سبر أغوار المشاكل العلمية، في يسر وسهولة، ولا أحرص منه على شعائر الدين والتقوى، في نقاوة وورع، ولا أسبق لمعاني الفضيلة، في جلال وجمال وروعة
ما عرفت من هو أوفر حظاً منه في هذا كله، نأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، فأحاط نفسه بسور منيع حال بينه وبين الزلفى، والعمل لغير وجه الله، في مراقبة شديدة لواجبه وضميره.
عف عن المادة في مختلف مواطنها، فما طلبها ولا سعى إليها، وقد كانت سبلها ميسرة معروفة لمن يلتمس حطام الدنيا الفانية.
كرس حياته رضي الله عنه لاستنباط أسرار الشريعة السمحاء، والكشف عن دقائقها ومميزاتها وذخائرها، وما تمتاز به عن سائر الشرائع، فكان يعني بالمقابلات الطريفة والمقارنات الدقيقة بين المذاهب والآراء، والعقائد وطرق التدليل والتفسير والتأويل التي تنطوي عليها مباحث علماء الإسلام، ثم بين هذه وغيرها في الديانات الأخرى، كل ذلك في تبسيط جم للمعقد، وتذليل للصعب العسير من نظريات الشريعة، فما كنا نلمح أثراً للجفاف الذي يبعدنا عن فهمها، ونحن في هذه السن الباكرة التي لا تقوى على استساغه هذه المقارنات المستفيضة الشاملة.
شغفنا بالبحث والقراءة، وسكنا إلى هذه الدراسة على ما فيها من تشعب واسترسال بفضل معونة أستاذنا وتوجيهه - أثابه الله - وحبب إلينا درسه، فما أذكر أنني تخلفت عنه يوماً، ولا كانت لي رغبة ملحة ولهفة في الإصغاء لأستاذ سواه.
طراز نادر بين الأساتذة والعلماء ورجال الدين، ولعله كان المثل الأعلى والنموذج النادر بين هؤلاء جميعاً.
وفضيلة أخرى كانت من أخص فضائله - أكرم الله مثواه - تلكم هي الوفاء - هذه الصفة التي غاص نبعها في نفوس الناس حتى الخلصاء منهم والأصفياء.
فلقد شاء كرم أبناء المعهد الكريم - دار العلوم - أن تقام لي حفلة تكريم منذ شهور فلم تحجزه العلة المعقدة عن الخطابة على ما كان يشعر به من ضعف وألم، فأبحت لنفسي الكلام عنه وأنا العارف بزهده وبرمه - من أن يسمع الثناء عليه، فسجلت في كلمة الشكر، ما أدين به، وأعتقده في شخصه الجليل، ولست أرى ضيراً من أن أختم هذه الكلمة القصيرة بما جاء على لساني إذ ذاك وأنا أنعم برؤيته بين المتكلمين الإجلاء، ففيها ذكرى لحياة كانت حافلة بجلائل الأعمال، والذكرى تنفع المؤمنين.
أما أستاذي المفضل في سائر مراحل التعليم، فهو العلامة الكبير والباحث المدقق أحمد بك إبراهيم، فله علي فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم، وقد كنت أحاول أن أتخذه قدوة، ولو اقتدى به سائر المصريين لما بكينا على العلم، ولا على الأدب والدين.
إبراهيم دسوقي أباظة
(الرسالة) العاتبة و (الرسالة) المعتوبة
قرأنا (الرسالة) الفلسطينية العاتبة، وقرأنا جواب (الرسالة) المصرية المعتوبة. وكانت أحكام الأولى جائرة جد جائرة، وكانت احجاج الثانية دامغة جد دامغة، فتلك زعمت أن مجلة (الرسالة) تؤثر الأدب المصري فتنشره، وتضن على الأدب الفلسطيني فتطويه. وهذا زعم - لعمر الحق - باطل. ولست هنا بصدد أن أدفع تهمة أو أرد شبهة، ولكن العتاب الشديد والجواب السديد أثارا في نفسي ذكرى تتعلق بأول قصيدة نشرتها لي مجلة (الرسالة) الزاهرة لا أرى بأساً في تسجيلها على صفحاتها.
كان ذلك منذ سنوات سبع خلت، يوم انتهيت من نظم قصيدة في أبي الذي كان يرسف في قيوده إبان الثورة الفلسطينية الخالدة. أخذت أنظر في تلك القصيدة من وراء دموعي، وكانت في نظري جيدة، وأحببت أن أفاجئ بها شقيقي المرحوم إبراهيم منشورة في إحدى الصحف، وكثيراً ما كان يحلو لي أن أفعل ذلك معه اعتزازاً وثقة بشعري. ونزعت بي نوازعي إلى أن أبعث بها إلى مجلة (الرسالة). ولكنني ترددت وجفلت، إذ أين اسمي الخامد
من تلك الأسماء الساطعة في سماء الشعر؟! وأخذت أقلب الرأي على وجوهه. وسولت لي نفسي أن أرفق القصيدة بتعريف بي يكتبه ابن عمي قدري طوقان إلى صاحب (الرسالة)، ولكن عزة الشعر، وللشعر والله عزة، ربأت بي عن التوسل إلى نشر القصيدة بما يوهم معنى الالتماس، وقلت لنفسي: وي! ما بالك يا هذه؟ إن هذا هو الحمق بعينه، وإذا كانت القصيدة جيدة حقاً، فلن يحول اسمك المغمور دون إنصاف المنصفين في الحكم لها. وبعثت بالشعر وثقتي بنشره بين بين.
وظهر الشعر في (الرسالة)، وقد فوجئ به شقيقي إبراهيم، فكتب إلي يقول:(يا أم تمام - وكثيراً ما كان يناديني بهذه الكنية لما يعرف من حبي للشاعر أبي تمام، ولكثرة ما أحفظ له - إن القصيدة لجميلة، وقد حدثني الأستاذ النشاشيبي بشأنها فأهنئك). ولما التقينا أظهرته على ما خامرني من شك في نشرها لعدم معرفة الأستاذ الزيات لي. فقال: (يا أختي، إن الشعر الجيد يعرف بنفسه وبصاحبه عند المميز المنصف، ولا يحتاج إلى من يعرف به).
وكان هذا مما شد من عزمي وزادني إيماناً بنفسي، ولا والله ما أجحد يداً للرسالة علي، ولا أنسى حقاً لها عندي
أجل، إن (الرسالة) مجلة الأدب العربي في جميع أقطاره، فلا صلة شخصية هناك، ولا أثرة إقليمية تغريان على نشر هذا وطي ذاك من الإنتاج الأدبي في القطر المصري وخارجه، وهي - منذ كانت - ميدان للمجلي والمصلي من أدباء العربية على اختلاف أقطارهم، وهاهي بين أعيننا واضحة المذهب، وقد أشهدت الله بحق:(أنها في مدى حياتها الصحفية لم تغفل أدباً يستأهل النشر، ولا أديباً يستحق التنويه). وغفر الله لأخينا العاتب عتبه واتهامه، فقد نكب عن محجة الصواب حين أسرف في هذا العتاب.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان
إندونيسيا:
دخل الإسلام إلى إندونيسيا منذ قرون، وظل يتوغل فيها توغلا قد لا تدانيه فيه أية بلاد إسلامية أخرى إذ أصبحت تعاليم الدين الإسلامي والتقاليد الإسلامية هي وحدها السائدة في
أمة بلغ عدد سكانها سبعين مليونا، تسعون في المائة منهم مسلمون.
والمسلمون الإندونيسيون أشد ما يكون تمسكا بدينهم الحنيف فلا عجب إذا كانت الروح الإسلامية هي السائدة في علاقاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم بغيرهم من الأمم ولا عجب بعد ذلك إذا كانت الأمة الإندونيسية دائما تشعر بوثيق العلاقة بينها وبين الأمم الإسلامية. وقد ربطتها وإياها الرابطة الروحية وما أشدها رابطة قوة ومتانة.
كانت إندونيسيا في اتصال وثيق بالعالم العربي الإسلامي قبل الحرب ولا أدل على ذلك من اشتراكها في جميع المؤتمرات الإسلامية الهامة المنعقدة في (مكة ومصر وفلسطين) كما كانت تراقب دائما الحركات السائرة في هذا العالم فتسر لسروره وتتألم لألمه. ظهرت سياسة التنصير البربري في شمال أفريقيا، فقامت قيامة الصحف الإندونيسية تحتج على فرنسا. فقامت إيطاليا في طرابلس وبرقة بتطبيق سياسة الحديد والنار. ولعل أفظع مظاهرها شنق الشهيد عمر المختار - فقامت الأمة الإندونيسية على بكرة أبيها تقاطع البضائع الإيطالية، وبلغت شدة هذه المقاطعة أن حرق الأهالي الطرابيش على أنها صناعة إيطالية. ورمى أحدهم سيارة (فيات) الإيطالية في قاع النهر.
اندلعت نار الحرب العالمية الثانية فانقطعت الأخبار عن هذه البلاد الإسلامية وما إن وضعت أوزارها إلا وقد زف إلى العالم العربي والإسلامي نبأ وأي نبأ، نبأ إعلان إندونيسيا استقلالها وقيام الحكم الجمهوري في ربوعها. لقد أثلج حقا هذا النبأ السار صدور المسلمين قاطبة ولم لا يطربهم هذا النبأ وقد قامت في أقصى الشرق حكومة إسلامية قوامها ما يقرب من سبعين مليونا من المسلمين أقوياء الإيمان فزادت بذلك شوكة الإسلام ودانت إلى الوجود الجامعة الإسلامية القوية البنيان.
على أثر ذلك سرعان ما أعلنت لجان استقلال إندونيسيا في (مصر والعراق والهند واستراليا وأمريكا وهولندة) ثقتها التامة في الزعيم (سوكارنو) المحبوب عند شعبه رئيساً للجمهورية.
لقد شعر العالم بحق الإندونيسيين في الاستقلال، فبادر عمال استراليا ونيوزيلندة إلى تأييده عملياً، فعم الإضراب في مواني الشرق الأقصى، وأيدت هذا الإضراب نقابات عمال الشواطئ الأمريكية كما أعلن وزير الحربية للحكومة البريطانية أن ليس في نية القوات
البريطانية التي نزلت الآن في بتافيا مقاتلة الوطنيين الإندونيسيين في سبيل هولندا كما نشرت كل الصحف في حينها. ومع ذلك لم تكن الروابط التي تربط الأمة الإندونيسية وهذه الأمم أية رابطة روحية أو مادية، اللهم إلا شعورها واعترافها بحق هذه الأمة في تقرير مصيرها.
والآن، نوجه نحن الإندونيسيين إلى العالم الإسلامي عامة، وإلى العالم العربي خاصة نداء حاراً، لكي تتذكر الشعوب الإسلامية قاطبة العلاقة الروحية القوية التي تربطها وهذه الأمة الإسلامي - وهي في أدق مواقفها وأحرجها معاً - التي قد عاهدت الله والوطن على أن تدافع عن الاستقلال الذي أعلنته للعالم في التاسع عشر من شهر أغسطس المنصرم بكل ما فيها من عزم وقوة، فيؤيد موقف الشعب الإندونيسي المشروع في تقرير مصير نفسه بنفسه بجميع الوسائل التي ترى أنها أمضاها في تحقيق هذا التأييد وتعترف حكومتها بهذا الاستقلال، فتمد بذلك إلى الحكومة الجمهورية الإندونيسية الجديدة قوة فوق قوتها فتقنع هولندا المستعمرة بعبث محاولتها في العودة إلى احتلالها بالقوة الشنيعة.
وإنا حين نتوجه بهذا النداء إلى الشعوب الإسلامية والعربية لعلى يقين في أنها ملبية نداءنا. وإنها حين تؤكد الحركة الوطنية في أندونيسيا، وحين تعترف حكوماتها باستقلال إندونيسيا لا تخدم القضية الإندونيسية الحقة وحدها، ولكنها تخدم كذلك نفسها بنفسها، إذ بوجود حكومة إسلامية قوية في الشرق الأقصى تتقوى مراكز جميع الحكومات الإسلامية والعربية كلها، وتتحقق لكل منها أمانيها المشروعة. والحكومة الجمهورية الإندونسية لن تنسى أبداً ما تقدمه الشعوب الإسلامية والعربية من التأييد لها وما تفعله الحكومات الإسلامية من الاعتراف بها.
جمعية استقلال إندونسيا
تصويب:
التطبيعات (الأخطاء المطبعية) قبيحة، وأقبحها ما أبدل كلمة بكلمة. ظاهرها صحيح ولكنها تجيء في غير موضعها، فتفسد المعنى على القارئ، وتضيع مقصد الكاتب، وتقوله ما لم يقل، وتحمله ذنبا لا يد له فيه، وقد كثر ذلك في العدديين الأخيرين من الرسالة ولم يكن
فيها من قبل.
فمن ذلك كلمة (المفتي) في مقالة (القضاء في الإسلام) العدد (640) الصفحة (1086) العمود (2) السطر (9) وقد وقفت عندها - أنا كاتب المقالة - ولم أفهمها علم الله، واتهمت نفسي حتى رجعت إلى الأصل فإذا هي (المفتش). ومن ذلك هذه الجملة التي جاءت عجباً في ركاكة الأسلوب، وضعف التأليف، في ص (1087) ع (1) س (17) لسقوط كلمة منها وصوابها (هذا الزمان الذي نجد فيه العلماء) كما سقطت كلمة (ذلك) من ص (1086) ع (2) س (25) وصوابها (إذا ولاه الخليفة ذلك) وأنكى من ذلك كلمة (استعار) التي جاءت في الصفحة (1088) ع (2) س (15) كأنها من لغة عرب مالطة وأصلها (استشعار).
هذا وقد نشرت هذه المقالة، وهي القطعة الثالثة من المحاضرة قبل نشر التي قبلها.
وفي مقالة (الموسيقي العاشق) تطبيع آخر شنيع نسيت التنبيه إليه هو (وصف الكلم) في ص (1058) ع (1) س (17) والصواب (رصف الكلم).
فماذا كان يضر المصحح لو رجع إلى الأصل وقابل عليه، وأراح الكتاب والقراء من هذا العناء الذي لا آخر له، فيا أخي المصحح. . . ارأف بنا وبنفسك، فرب عجلة تهب ريثا، ورب راحة تعقب تعبا طويلا!
ويا سيدي الأستاذ الزيات، إليك أشكو فاشكني، فإن ألمي لهذه التطبيعات أشد من فرحي بنشر المقالة، وآثار الكاتب كولده يحبها مهما كانت - ولا يريد بها بديلا - من من الآباء يعطيك عيني ولده بعيني (بهيجة حافظ)؟ فكيف إن أبدلته بهما عيني (الجاحظ)! فكيف إن تركته له بلا عيون؟!
علي الطنطاوي
الكتب
بحث وتحليل:
قضية الجمال والحب
(أول تآليف طلبة قسم النقد والبحوث الفنية بمعهد فن التمثيل
العربي)
للأستاذ زكي طليمات
الحب والجمال قضية شغلت الإنسان في مختلف مداركه منذ القدم، وستكون شغله مادامت النفس البشرية على ما هي عليه، وذلك أن الجمال من عناصر الوجود، نتصيد مظاهره في المرئيات وما يقع عليه الحس، كما هو كامن فينا بفعل الفطرة بدليل أننا نخلعه أحياناً على ما يحيطنا، هذا والحب رباط الحياة وقوامها وسناد التجاذب الذي تقوم عليه غريزة حفظ النوع، وهي أقوى ما ركبته لفطرة فينا، لأنها أساس الحياة الدنيا وسر بقائها.
فإذا شغلت هذه القضية ذهن شاب في العقد الثالث من عمره، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر السرعة والآلة الذي يقوم على أثر حرب طاحنة ما زال انهيار الأنقاض فيها يسك مسامعنا إذا كانت تشغله هذه القضية إلى حد إصدار مؤلف جديد يعالج دخائلها وشعابها، ففي هذا ما ينهض دليلا على أنها قضية خالدة لا تبلى جدتها أبداً.
فقد أصدر الأديب (حلمي عبد الجواد السباعي) مؤلفاً يحمل هذا العنوان تناول فيه، ماهية الجمال، ووسائل الإحساس به، ومظاهر تعبيره وذلك في التصوير والنحت والرقص والموسيقى والأدب، ثم عرج على الحب فأحاطه به إحاطة كاملة فأوضح ألوانه، وكما تحدث عن حب الله، وحب الكرامة والواجب، وحب القرابة، فأنه أجرى قلمه في الحب المألوف وحب الشهوة، والحب الشاذ، أجرى كل هذا في لفتات سريعة تشهد له ببراعة في الإنشاء الذهني والأسلوب اللغوي.
ويزهيني، والمؤلف أحد طلاب قسم النقد والبحوث الفنية بمعهد فن التمثيل العربي، أن أقدم كتابه إلى القراء، وأن أقدمه متجرداً من عطف الأستاذ على التلميذ، ومن هوى الزميل
للزميل، في خدمة المبدأ والفكرة العامة.
إن المتصفح هذا الكتاب، المتمعن عناوين أبوابه، لا يلبث أن يحكم بأن المؤلف ما زال في غمرة الشباب وأحلامه، وأنه للجمال وللحب، فإذا ما قرأ الكتاب انتهى إلى أنه لم يخطئ في حكمه، وأن للكاتب عرقاً في الأدب يمتد إلى القديم والحديث والشرقي والغربي في أفانينه.
بيد أنه عرق ما زال رطب العود بدليل أن المؤلف، وإن أحاط بما سبقت الإشارة إليه من مواضيع إحاطة شاملة تشهد له بالتقصي المحكم والاستقراء الحاذق في الشائع من الأدبيين العربي والأوربي، إلا أنها إحاطة تكاد تخلو من كشف جديد في أحكام قضية الحب والجمال، وتكاد تقفر من اللفتات الأصيلة البارعة التي تشق للقارئ أفقا جديداً من التأمل.
وهذا مأخذ إذا سجلناه، فلأننا ننفس بالمؤلف، وهو نابه في بدايته، أن تقف جهوده عند السير في السبل المعبدة المطروقة.
والمؤلف في كتابه يوحي بظاهرة نفسية جديرة بالتأمل، تراود الخاطر على استجلاء بواطنها، فإذا أخذنا في تحليلها، برد الفرع إلى الأصل، إذا تقصينا الحافز الباطني الذي دفع قلم المؤلف إلى معالجة هذه القضية بهذا النفس الحار والنشوة البالغة التي لا تتوانى عن أن تمتد إلى القارئ اليقظ الوجدان، إذا أخذنا بكل هذا فسرعان ما يتضح لنا أن المؤلف يصدر فيما كتب عن كبت حسي، كبت له طابع خاص، إذا تعاونت على تصفيته وتهدئته وإلجام نزواته قيود تأصلت في نفسه، وثقافة أمدت صاحبها بما يجعله يغلب المعنويات على الماديات في أحاسيسه فركبت فيه شاعرية حالمة تدخل في نطاق الحديث الشريف (إن الله جميل يحب الجمال).
المؤلف يكابد عقدة نفسية، ومن منا ليست له عقدة نفسية تسيطر على أعماله وسلوكه، ولكن من لطف الله بالأستاذ المؤلف وبنا، وبآنسات المعهد، أن عقدته النفسية رهينة قيود لا تشكو أسرها، جعلته للشباب في أحلامه وتهاويله العذراء البكر، وليس للشباب في متطلباته العادية، واستجابته لصوت الدم الدافيء، فهنيئا له فقد كفاه الله شر القتال في مجال قلما يكون الغالب فيه خيراً من المغلوب.
ولا يضير الأستاذ (حلمي) في شيء أن يكون من هذه الفئة المحرومة من لذاذات الواقع، الموفورة الحظ من متع الخيال وأفاويقه فإن كتابه جاء خالياً مما يسعر الحس، ويدفع إلى
مزالق الشهوات.
ولا يهمنا إذا كان المؤلف قد انتهى إلى هذا عن عجز في الوسائل فهو مكره لا بطل، أو عن تعفف القادر الصادف عن وحل البهيمية، فالعبرة بالكتاب الذي أصدره وهو كتاب يصح أن يقرأه الجيل الشاب ليستبطن دخائل ما يختلج في واعيته من إشاعات الحس الفائر وموحيات الدم الشاب المستعر، وليتبصر بها، وقد عرضها الكتاب عرضا ينشط الإيحاء العفيف، بعد أن أضفى عليها المؤلف من روحانياته مسحة أحالتها إلى متع ذهنية تضيء ولا تحرق.
زكي طليمات
مدير معهد التمثيل العربي
نظرة في كتاب:
حضارة العرب
تأليف الدكتور غوستاف لوبون
(الذي نقله إلى العربية الأستاذ محمد عادل زعيتر سنة
1364هـ سنة 1945م، والتزمت طبعه ونشره دار إحياء
الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركاه)
ظهر هذا الكتاب، والشبيبة العربية حائرة، لضعف في إيمانها، وعوج في تربيتها، ووهن في ثقافتها، وعجمة في لغتها، ويأس من أمتها، وخجل من ماضيها، وغموض في حاضرها، وخوف من مستقبلها. أجل ظهر هذا الكتاب النفيس ليقول - بلسان الأجنبي - لضعيف الإيمان هذا هو الصخر من عظمة الأجداد فابن عليه إيمانك الوطني الضاوي الهزيل. ويقول للبائس! من كان لأمته مثل هذا الماضي المشرق اللامع لا يمكن أن يتسرب اليأس في قلبه، إلا إذا كانت قد حقت عليه اللعنة، ويقول للخجل من أمته الذي لا يحدثك إلا وهو يخلط العربية بألفاظ من لغات متعددة، إنك من شعب لم تعرف البشرية أنبل منه ولا أشرف! وليقول للوجل من الحاضر الخائف من المستقبل (إن الخوف هو لعنة الحياة! وإن الشك في الانتصار هو الهزيمة العابسة النكراء!). . .
هذا السفر الضخم الذي يقع هو ومقدماته، وفهرساه، وثبت مصادره وتصحيح لتطبيعاته - وهي قليلة - في ستمائة وخمسة وسبعين صفحة من القطع الكبير، يسحرك ويستهويك فتمضي في مطالعته لا تشعر بسآمة ولا ملل، لا تحس إلا وقد قرأت آخر حرف فيه، ولكم تتمنى وأنت تطالع الكتاب، لو كانت أعصابك تسمح لك بقراءته في جلسة مهما تطل.
حقا إنك لا تشعر إلا وقد اتجهت أفكارك إلى الدكتور جوستاف لوبون تحييه تحية المعجب بصدقه، الممتن لإخلاصه وإنصافه. لأنك تجد في الكتاب كل ما تريد أن تقول في مثل هذه الأيام العابسة السود. فإذا اتهم قومك بالوحشية والتبربر، وإذا أنكر فضل أمتك منكر، وإذا قيل لك إنك من أمة ليس لها في المدنية والعلم من أثر، جاء الدكتور غوستاف لوبون بكتابه
هذا يشهد للحق المهيض الجناح. وجاء قلم الأستاذ الزعيتري العادل ينقل تلك الشهادة لأبناء قومه بقلمه الساحر، وأسلوبه الغض الناضر، فإذا هو تحفة من التحف، التي تستحق أن تقتنى بثقلها ذهباً! لا أقول هذا مبالغة، ولا أقوله إفراطاً مني في تقدير مجهود الأستاذ العادل، فأنا والله لا أعرف الرجل ولكني مجل لفضله، محترم له لما خدم به قومه. فإذا قلت إن الكتاب يستحق أن يقتنى ولو بثقله ذهباً فما ذلك منى من الإفراط في شيء، فلقد كان عظماء العرب قبل اليوم يكافئون الشاعر المجيد بأن يملئوا فمه جوهراً فأين أحلام الشعراء الذين يتبعهم الغاوون من الحقائق الملموسة التي توقظ في النفس أنبل ذكرياتها؟!
ولو لم يكن الغرض من نشر هذا الكتاب باللغة المبينة أن يطلع عليه أعظم عدد ممكن من الناطقين بالضاد لقلت إن ثمته نزر يسير. أما والغاية من نشره تعميمه فأقترح أن تتولى إحدى الهيئات الوطنية شراء هذا الكتاب وتخفيض ثمنه إلى أقصى حد ممكن، حتى لا يظل بيت خالياً من نسخة منه لأنه من حق الرجل الذي أنصف العرب - يوم كان الإنصاف جريمة - من حقه أن ينشر كتابه أعظم نشر، ومن حق المترجم الذي جعل الحقائق التاريخية الجافة - بما أضفى عليها من بيانه العذب - أنغاماً عذبة أن يروج كتابه أوسع رواج جزاء لجهوده الموفقة.
فالكتاب في جملته وتفصيله لا غنى للأديب، ولا للكاتب، ولا للناشئ عنه، وهو خير تحفة لأنه شهادة من عالم كبير يكاد قومه ينكرون على العرب كل فضيلة، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان في الاطلاع على التمدن الإسلامي للمرحوم جرجي زيدان ما يغنى عن هذا الكتاب، ولكن أين شهادتنا لأنفسنا من شهادة الأجنبي لنا؟!
هذا ولئلا يكون كلامي مقصوراً على ناحية الجمال في هذا الكتاب أرجو من الأستاذ الزعيتري النابه أن يقبل بعض الملاحظات التي تتعلق بألفاظ جرى فيها قلمه على طريقة المعاصرين من أبناء هذه اللغة الشريفة، فجاءت بالنسبة إلى أسلوبه النضر كأنما هي الكلف في وجه الغادة الحسناء، فمن ذلك قوله: الخطأ: البطرا. الصواب: بطرا ليس غير. أذكر أن العلامة المرحوم أحمد زكي باشا طلب مني في كتابه المخطوط إلي في سنة 1934 أن أحقق هذه النقطة، فوجدت أن في شرق الأردن مواقع عدة خلط بينها الكتاب والمؤرخون خلطاً شنيعاً.
بطرا - وهي المعروفة بالعربية الحجرية، وقد كان المرحوم صروف يكتبها البتراء وهو وهم، وكتبها الخبير الجليل بولس سلمان رئيس أساقفضة شرقي الأردن (بطرى) وهو وهم انفرد به سيادته. أما البتراء - فماء يرده الكركيون في شرق الأردن، وأرض معروفة هناك. وخلطوا أيضاً بين (بطرا) والرقيم - مع أن الرقيم شيء وبطرا شيء آخر، فالرقيم موضع في مساكن عرب العجارمة التابعة لقضاء مأدبا، وخلطوا بينها وبين (الرجيب) والرجيب - تحريف لكلمة (الرقيم) لأن عربان بني صخر يلفظون القاف جيماً والجيم باءً في بعض الأحيان، والرجيب هذه موقع بالقرب من عمان حاضرة شرقي الأردن. وخلطوا بينها وبين (بيتراس) وبيتراس آثار قرية في جهات عجلون من أعمال شرقي الأردن، إذا فالكلمة (بطرا) ليس غير. ويرى العلامة الكرملي أن كتابتها (بترآء) هي الوجه.
الخطأ: البحر الأبيض المتوسط
الصواب: هو بحر الروم، أو البحر المتوسط، أو البحر الشامي، أو بحر الشام. راجع صفحة 21 و99 و135 و136 من كتاب نخب الذخائر في أحوال الجواهر تحقيق الإمام الكرملي المطبوع في مصر سنة 1939. الخطأ: طيبة.
الصواب: طيبة المدينة المنورة، أما المدينة المصرية (فطيوه) ليس غير. من كتاب مخطوط وجه به الإمام الكرملي. الخطأ: أمريكه. الصواب: أمريكة - راجع صفحة 167 و102 و153 و199 و200 من كتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، تحقيق الإمام الكرملي طبعه في مصر سنة 1939. الخطأ: الأطلسي.
الصواب: الأطلنطي، أو الأتلنتي، أو الأتلنتيكي، راجع صفحة 30 و140 من كتاب نخب الذخائر المار ذكره. ومقدمة ابن خلدون طبعة بيروت الثالثة صفحة 44. الخطأ: الإمبراطور
الصواب: الانبراطور - وهو اللفظ الذي نطق به العرب،
راجع مقدمة ابن خلدون طبعة بيروت غير المشكولة ص 204
وص 234 من طبعة بيروت المشكولة. وقالوا الانبريارين
لنبات معهود، والسبب أن العرب تضع نوناً ساكنة قبل الباء
المتحركة ولا يرد على ذلك بأن هذه النونات في مثل
انبراطور، وسبتنبر، ونوفنبر، وديسنبر تكتب ميمات في
اللغات الغربية، لأنها تلفظ نونات في تلك اللغات عينها، عن
رسالة مخطوطة، إلى من الإمام الكرملي في 25111940.
وهناك وهم شائع لا يكاد ينجو منه مؤرخ محدث وقد تردى في هوته المؤلف نفسه وهو القول بأن الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان هو أول ضارب للنقود في الإسلام.
ووجه الصواب: أن النقود ضربت في الإسلام قبل عبد الملك بن مروان. فلقد ضرب خالد بن الوليد باسمه نقوداً في طبريه سنة 15 أو 16 للهجرة. راجع التمدن الإسلامي ج 1 ص 120 نقلا عن الدكتور مولر، وصفحة 91 من كتاب النقود العربية وعلم النميات تحقيق الأب الشهير انستاس ماري الكرملي المطبوع في مصر سنة 1939. وضرب عمر بن الخطاب نقوداً حتى هم بأن يتخذ نقوداً من جلود الإبل. ص 17 و18 من كتاب النقود العربية وعلم النميات، وكان أول من ضرب النقود مستديرة عبد الله بن الزبير. راجع صفة 92 من كتاب النقود العربية. وضرب معاوية أيضاً دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً فوقع منها دينار رديء في يد شيخ من الجند فجاء به إلى معاوية وقال: يا معاوية إنا وجدنا ضربك شر ضرب. فقال له معاوية: لأحرمنك عطاءك ولا كسوتك القطيفة. صفحة 23 من كتاب النقود العربية وعلم النميات. فمما تقدم نرى أن ضرب الإسلام للنقود سبق عبد الملك بن مروان اللهم إذا أردنا أن نقول: (أن عبد الملك بن مروان كان أول موحد للنقد المتداول في البلاد العربية فيحق لنا ذلك).
هذا وأسأل الله أن يكون ما قلته خالصاً لوجه العلم والحق.
القدس
العزيزي