المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 643 - بتاريخ: 29 - 10 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٤٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 643

- بتاريخ: 29 - 10 - 1945

ص: -1

‌العدل الإنساني

في جرائم الحروب

للأستاذ عباس محمود العقاد

كان بعض النقاد الأوربيين يكتبون عن حروب الإسلام الأولى فيذكرون منها في معرض النقد أن النبي عليه السلام كان يأمر بعقاب المشركين الذين أساءوا إلى المستضعفين كلما ظفر بهم بعد معركة من المعارك، ويحسبون أن عقوبة المقاتل لا تجوز لخصمه لأنه غير مسئول أمامه في شرعة القانون.

ومن الواضح أن هؤلاء النقاد قد نسوا أو تناسوا أن الأنبياء مطالبون بإصلاح الفساد حيث كان وليسوا هم حكومة من الحكومات تحاط دعوتهم بالأقاليم والحدود، فيجوز لهم على هذا الاعتبار ما ليس يجوز لساسة الدول وقواد الجيوش.

ولكن تشاء الأيام - بعد أربعة عشر قرناً - أن يأخذ الأوربيون بمبدأ معاقبة المقاتلين الذين يقترفون الجرائم سواء في ساحة القتال أو في غير ساحة القتال، وأن يبنوا ذلك على قاعدة مقررة لا يكثر الخلاف عليها، وهي أن الدول تسأل عن جرائمها وسيئاتها، فلا موجب لأن يعفى أفرادها - أو أجزاؤها - من العقاب، ولا يصح أن يخليهم من التبعة أنهم كانوا مأمورين مكرهين على الطاعة. فإن المتهم المكره لا يعفى من العقاب، وإن جاز أن تلاحظ حالة الإكراه في تقدير عقابه، إذا ثبت أنه كان مسوقاً إلى جناية بأمر رؤسائه وأصحاب السلطان عليه.

فالآن يجوز للخصم المقاتل الذي لا يطالب بما يطالب به الأنبياء من تعميم الإصلاح - أن يحاسب خصمه ويعاقبه على الجرائم التي تخالف القانون في بلاده. فإن كان القانون في بلاده لا يحرم الجرائم النكراء فقد سقط حقه في حماية الإنسانية وحماية الشريعة، وجاز أن ينال العقاب على هذا الاعتبار.

أما الجرائم التي يحاسب عليها المقاتلون فهي القتل والتحريض عليه، والغدر في طلب الإيواء أو اصطناع المرض والإصابة، واستخدام السموم والأسلحة المتفق على منعها، والإجهاز على الجرحى المستسلمين، والقسوة على الأسرى والمصابين بالجروح والأمراض أو اختلاس أموالهم التي لا تعتبر من الأموال العمومية، والتمثيل المعيب بجثث

ص: 1

القتلى والأموات، والاعتداء على المستشفيات والمعابد والمدارس ومخلفات الفنون والآثار، وإغراق السفن المستسلمة وتخريب المدن المفتوحة التي لا يدافع عنها، واتخاذ ملابس الجيش الآخر للغدر والتغرير، ونقض العهود أو شروط التسريح.

هذه وأمثالها هي الجرائم التي تجيز الدول اليوم أن يساق مرتكبوها إلى القضاء، وأن يتلقوا عليها عقاباً قد يصل إلى الموت

ولم يعرف عن النبي عليه السلام أنه عاقب أحداً من المشركين على جريمة غير هذه الجرائم وأمثالها، ولا سيما الغدر ونقص الكلمة وتعذيب المستضعفين.

ونقول إن الدول الحديثة قد صنعت خيراً بتقرير هذا المبدأ السليم في جرائم الحروب، وأن العمل بهذا المبدأ سيفيد بعض الفائدة وإن لم تمتنع به الجرائم كل الإمتناع، لأن الجندي الذي يستحضر هذه العقوبات وهو يحمل السلاح خليق أن يتورع عن العدوان مخافة القصاص عند الهزيمة، وهو لا يأمن الهزيمة كل الأمان ولا يضمن النصر في جميع الأحوال.

وليس من الظلم أن يحيق العقاب بمن يؤمر فيطيع، لأن الرجل الذي يمثل بالأبرياء ويهتك الأعراض ويقترف المحرمات لأنه أمر بذلك فأطاع لا يعفى من العقاب في وطنه ولا يخليه من التبعة أن يحيل الذنب على آمريه. فلا اختلاف في الأمر إذا حمل السلاح وتجرد للقتال.

وإنما الظلم في رأينا أن يقصر على المجرمين في الأمم المهزومة دون المجرمين في الأمم المنصورة، لأن الذي يعاقب على الذنب أولى أن يتجنبه ولا يغضي عنه، وإلا سقطت حجته في الإدانة وتوقيع الجزاء.

نعم إنه منطق الواقع الذي تقرره القوة، ولكن حكم القوة وحكم الشريعة لا يتفقان، فلا شريعة حيث يفعل القوي ما يشاء، ولا قوة حيث يجري العدل في مجراه.

وربما تعذرت التسوية بين المهزومين والمنتصرين في الوقت الحاضر أو في وقت قريب، لأننا لا نزال قريبين من أحكام الحرب التي لا تحرم على المقاتل وزراً يقترفه في حق إنسان يناصبه العداء أو يلقي له يد السلم على ملأ من الناس.

ولكننا نرجو أن تبلغ الإنسانية هذه المرتبة الرفيعة بعد خطوات لعلها لا تطول.

ص: 2

وأول هذه الخطوات أن تقام في بلاد المنتصرين أنفسهم محاكم مستقلة على مثال محكمة الغنائم التي تفصل في المنازعات بين حكوماتها وبعض الأفراد المحايدين أو المنسوبين إلى الأعداء. فقد حدث غير مرة أن قضت هذه المحاكم المستقلة على حكوماتها بالغرامة والتعويض، فكان فخر الحكومات بقضائها المستقل أنفع للأمة من كل مال تخسره في ساحة القضاء.

فإذا قامت هذه المحاكم وجب أن يباح لكل إنسان في أمة منهزمة أن يتقدم إليها بالشكوى من الجنايات التي اقترفها الجنود المنتصرون، وأن يدان الجناة بالعقوبات التي يدان بها المنهزمون، متى ثبتت جنايتهم بالبرهان الذي لا يقبل المحال.

وموضع الصعوبة هنا أن تعتبر شهادة المنهزم لتأييد دعوى المنهزم وكلاهما موتور متهم النية والشعور، ولكن الوقائع لا تثبت كلها بالشهادات، وليست الشهادات كلها مع هذا بالتي يلتبس فيها الحق والباطل كل الالتباس.

والخطوة الثانية في طريق العدل الإنساني بصدد الجرائم التي تقترف أثناء الحروب أن يؤخذ حق القضاء من الدول المنفردة ويوكل إلى هيئة عالمية يتبع في تأليفها نظام لا تغيره الهزائم والانتصارات، ويعرف أعضاؤها وأصول المقاضاة بين يديها قبل أن تعرف مصائر الحروب.

والخطوة الأخيرة - ولعلها لا تحسب من أحلام الخيال - أن تفلح الهيئات الدولية والمواثيق العالمية في منع الحروب وفض الخصومات من طريق التحكيم، فلا حروب ولا جنايات في أثناء الحروب ولا محاكمات أو عقوبات من جراء تلك الجنايات.

فإذا كان هذا حلماً من أحلام الخيال فدونه في الطمع أن تقع الحروب ولكن على الفيصل الواضح بين المحقين والمبطلين، فيتسنى للعالم كله أن ينصر المحق على المبطل، وأن يحصر شرور القتال في أضيق الحدود.

منى إن تكن حقاً تكن أعذب المنى! وإلا فهي على كل حال خير من اليأس الدائم من كل مصير.

عباس محمود العقاد

ص: 3

‌في إرشاد الأريب

إلى معرفة الاديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 14 -

* ج 13 ص 30:

غنينا بلا دنيا عن الخلق كلهم

وإن ما الغنى إلا عن الشيء لا به

وجاء في الشرح: أن مخففة من إن، اسمها محذوف والجملة بعدها خبر مفيدة للحصر.

قلت: وليس الغنى إلا عن الشيء لا به.

وقائل الشعر هو علي بن الحسن القهستاني، قال ياقوت: كان يميل إلى علوم الأوائل، ويدمن النظر في الفلسفة، فقدح في دينه، ومقت لذلك. . .

* ج 1 ص 256: كان (إبراهيم بن محمد نفطويه) عالماً بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد. قال المرزباني في المقتبس: وكان يخضب بالوسمة. وكان من طهارة الأخلاق وحسن المجالسة والصدق فيما يرويه على حال، ما شاهدت عليها أحداً ممن لقيناه.

قلت: في (الصحاح): الوسمة بكسر السين العظلم يختضب به، وتسكينها لغة. وفي (التاج): قال الأزهري كلام العرب الوسمة بكسر السين. قاله الفراء وغيره من النحويين.

في (الكامل): قيل لأعرابي: ألا تخضب بالوسمة؟ فقال: لم ذاك؟ فقال: لتصبو إليك النساء. فقال: أما نساؤنا فما يردن منا بديلا، وأما غيرهن، فما نلتمس صبوتهن. . .

* ج 11 ص 41:

أقلوا عليّ اللوم فيها فإنني

تخيرتها منهم زُبَيريّة قَلْباً

أحب بني العوْام طراً لحبها

ومن حبها أحببت أخوالها كلباً

وجاء في الشرح: ولها قلب كقلوب آل الزبير طهارة وحفاظ عهد.

قلت: في الأساس: رجل قلب محض واسط وامرأة

قلب وقلبة قلب عقيلة أقوام ذوي حسب=ترمى المقانب عنها والأراجيل

وفي النهاية: كان على قرشياً قلباً أي خالصاً من صميم قريش. وفي اللسان: يستوي فيه

ص: 4

المذكر والمؤنث والجمع، وإن شئت ثنيت وجمعت. قال سيبويه: وقالوا هذا عربي قلب وقلباً على الصفة والمصدر، والصفة أكثر.

الشعر هو لخالد بن يزيد بن معاوية في امرأته رملة بنت الزبير ابن العوام. وهو مقطوعة روى المبرد منها ثلاثة أبيات (منها هذان البيتان) ثم قال: وزيد فيها:

فإن تسلمي أسلم وأن تتنصري

يعلق رجال بين أعينهم صلباً

فيروى أن عبد الملك ذكر له هذا البيت، فقال له يا خالد، أتروي هذا البيت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، على قائله لعنة الله. . .

ورواية الكامل (فلا تكثروا فيها الملام)(ومن أجلها أحببت)

* ج 18 ص 18: أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي قال: هو أحد الفضلاء المعروفين، والشعراء المفلقين، صاحب التصانيف العجيبة المفيدة جداً وهزلا، والفائق أهل عصره ظرفا وفضلا، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حماة لسانه وعقارب هجائه ثانية. ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحداً من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس إلا هجاه. . . ومما حكاه لي رحمه الله أنه قال: ما وقع بصري قط على شخص إلا تصور في قلبي هجاؤه قبل أن أكلمه وأجربه أو أخبر حاله. . .

وجاء في الشرح: (حماة) جمع حمة وهي الحية أو إبرتها التي تلدغ بها.

قلت: حمات بضم الحاء وبالتاء المطولة جمع كثبة. وفي طبعة (القاموس): (حماة) مثل قضاة الهاء أو بالتاء المقصرة. وهو خطأ.

والحمة هي السم كما جاء باللسان. وفي الأساس فوعة السم وسورته. وفي اللسان: قال بعضهم الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور ونحو ذلك أو تلدغ بها. وفي (أدب الكتاب) لابن قتيبة:. . . حمة العقرب والزنبور يذهب الناس إلى أنها شوكة العقرب وشوكة الزنبور التي يلسعان بها وذلك غلط؛ إنما الحمة سمها وضرها. وفي (النهاية): ويطلق على إبرة العقرب للمجاورة لأن السم منها يخرج.

* ج 1 ص 123:

يا حيائي ممن أحب إذا ما

قلت بعد الفراق إني حييتُ

ص: 5

لو صدقت الهوى حبيباً على الصحة

لما نأى لكنتُ أموت

قلت: (إذا ما قال)(لو صدقتَ الهوى)(لكنتَ تموت) كما روى الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) ج 6 ص 38 ومثله ما رواه الخطيب وياقوت:

غابوا فصار الجسم من بعدهم

ما تنظر العين له فيّا

بأي وجه أتلقاهُم

إذا رأوني بعدهم حيا؟

يا خجلتي منهم ومن قولهم

ما ضرك الفقد لنا شيا!

* ج 9 ص 152:. . . وكان (أبو الحسن بن محمد العسقلاني) يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة، قيل: إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني منها استمد، وبها اعتد، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر، لأن في رسائله جوابات إلى الفساسيري. . .

قلت: البساسيري بالباء كما ضبط في (الوفيات) قال ابن خلكان: أبو الحارث أرسلان بن عبد الله البساسيري التركي وهو الذي خرج على الإمام القائم بأمر الله ببغداد، وكان قد قدمه على جميع الأتراك وقلده الأمور بأسرها، وخطب له على منابر العراق وخورستان، فعظم أمره، وهابته الملوك ثم خرج على الإمام القائم وأخرجه من بغداد، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فراح الإمام القائم إلى أمير العرب محي الدين أبي الحارث صاحب الحديثة وعانة، فآواه وقام بجميع ما يحتاج إليه مدة سنة كاملة حتى جاء طغرلبك السلجوقي، وقاتل البساسيري وقتله، وعاد القائم إلى بغداد، وكان دخوله إليها في مثل اليوم الذي خرج منها بعد حول كامل، وكان هذا من غرائب الاتفاق.

وقال ابن خلكان في سيرة المستنصر: وجرى في أيامه ما لم يجر في أيام أحد من أهل بيته. . . منها قضية البساسيري فأنه لما عظم أمره ببغداد قطع خطبة القائم وخطب للمستنصر وذلك في سنة (450) ودعي له على منابرها مدة سنة. ومنها أنه ثار في أيامه على بن محمد الصليحي وملك بلاد اليمن، ودعي للمستنصر على منابرها. ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس. ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضا حتى قيل: إنه بيع رغيف واحد بخمسين ديناراً. وكان المستنصر في

ص: 6

هذه الشدة يركب وحده وكل من معه من الخواص مترجلين ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا يتساقطون في الطرقات من الجوع. وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع وذلك في سنة (462) وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا، ولم يزل هذا الأمر على شدته حتى تحرك بدر الجمالي من عكا، وجاء إلى مصر، وتولى تدبير الأمور فانصلحت.

قلت: (انصلح) في كلام المتأخرين في الشعر والنثر كثيرة. أصلح الله الحال والأفعال والأقوال. . .!

* ج 9 ص 175: وكتب (الحسن بن محمد العسقلاني) إلى صارم الدولة بن معروف: أطال الله بقاء الحضرة الصارمية يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، وتحلى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وتنجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة.

قلت: الأهوية جمع الهواء، واليقين أن العسقلاني لا يريد هذا المعنى بل يقصد الهوى (المقصور)؛ ومن معانيه (مراد النفس) وهذا يجمع على الأهواء. وهو السجع، وكم أضل، وكم له من صريع. . .

* ج 15 ص 217:

تلاحظ عن سحر، وتسجر عن دجى

وتسفر عن صبح، وتبسم عن عقد

وجاء في الشرح: وشعرها المسجر ليل، وشعر مسجر: مسترسل.

قلت: (وتسحر عن دجى) استعمل تسحر استعماله تسفر، والسحر قبيل الصبح آخر الليل، في الأساس: وإنما سمي السحر استعارة لأنه وقت أدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفس الصبح. في التاج: السحر بفتح فسكون وقد يحرك، ويضم: الرئة. وقيل هو كل ما تعلق بالحلقوم من قلب وكبد ورئة.

* ج 16 ص 84: ومن كلام الجاحظ: أحذر من تأمن كأنك حذر ممن تخاف.

وجاء في الشرح: (في الأصل فإنك).

قلت: الأصل صحيح.

* ج 12 ص 248: قال أبو مروان بن حيان. . . وكان (ابن حزم) يحمل علمه هذا (في مذهب أصحاب الظاهر) ويجادل من خالفه فيه. . . فلم يك يلطف صدعه بما عنده

ص: 7

بتعريض، ولا يرقه بتدريج، بل يصك به معارضه صك الجندل، وينشقه متلقعه إنشاق الخردل. . .

وجاء في الشرح: المتلقع الذي يرمي بالكلام رمياً.

قلت: (وينشقه متعقبه) وتلقع فعل لازم، وتعقب متعد. في اللسان: واستعقبت الرجل وتعقبته إذا طلبت عورته وعثرته. وفي الأساس: وتعقبت ما صنع فلان: تتبعته، ولم أجد عن قولك متعقبا أي متفحصاً يعني أنه من السداد والصحة بحيث لا يحتاج إلى تعقب.

قال ابن خلكان: قال أبو العباس بن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف الثقفي شقيقين. قال صاعد بن أحمد الجياني في كتاب أخبار الحكماء - كما روى ياقوت -: أخبرني ابنه الفضل أن مبلغ تآليفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التأريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المعارض نحو (400) مجلد، تشمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ولأبي محمد ابن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر، وصناعة الخطابة.

ص: 8

‌القضاء في الإسلام

قطعة أخرى من محاضرة ألقيت سنة 1942 ولم تنشر

للأستاذ علي الطنطاوي

القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار. . . كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إلي، ولعل أحدكما ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له، فإنما أقضي له بقطعة من النار - وكيف يهدأ له بال، ويقر له قرار، ويلتذ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسميها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟

لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفروا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظل على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطلب ابن وهب ليولى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعل الله يحي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟! ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يارب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يارب، ولو قرضت بالمقاريض!

ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فر إياس من القضاء، فلما تعذر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلا باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي

خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون ما مغبتها، وبلاء لا يعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه

ص: 9

أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم، وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه صاحبه بالمذبوح بغير سكين، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار

نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجل الطاعات، فرغبوا فيه، وتقربوا إلى الله به، قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه في طاعة الله؛ ورجل آتاه الله علماً، فهو يعلمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إلي من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسر علي رضي الله عنه والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما: قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم. وفسروا حديث المذبوح بغير سكين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجر، يسدده للحق ما لم يرد غيره.

وقد فصل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحباً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه، وأن من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتباع المغريات

وليس كل طالب للقضاء يولاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتوليه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأ أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت، ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمر من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار

ص: 10

من أرباب المكان وخلاصة السكان، فإذا عدونا ذلك لم نجد في أصول تقليد القضاء عندنا مغمزاً

وتعالوا قابلوا بين شرائط تقليد القضاء اليوم، وقد نص عليها القرار ذو الرقم 238 وبين ما اشترطه الفقهاء في القاضي تروا أمرها من أمره قريب، فقد شرط القرار أن يكون القاضي سورياً، لأن القضاء مظهر من مظاهر السيادة، وأداة من أدوات السلطان، فهو يوسد إلى أبناء الأمة تثبيتاً لسيادتها وتقوية لسلطانها. وشرط الفقهاء أن يكون مسلماً، لأن الجنسية عند المسلمين هي الدين، وقد منعوا سماع شهادة غير المسلم على المسلم، لأنها ولاية، والله تعالى يقول:(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، والقضاء بذلك المنع أولى

واشترط القرار ألا يكون القاضي محكوماً بعقوبة شائنة، وأن يكون فاضل الخلق، واشترط الفقهاء العدالة فيه، وإن ذهب الحنفية إلى صحة ولاية الفاسق إن لم يجاوز في أحكامه حد الشرع مع تأثيم من يولي فاسقاً

واتفق القانون والشرع على اشتراط صحة الحواس في القاضي، لأن بها تمييز ما بين الخصوم، وتمييز المحق من المبطل، وعلى اشتراط الذكورة في القاضي، ولم يجوز القانون تقييد امرأة القضاء بين الناس، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله بجواز تقليدها القضاء فيما تصح به شهادتها، أي في الشرعيات والمدنيات دون الجنائيات، فمن لي بإفهام هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أنصار المرأة أن الشرع أعطاها أكثر مما يطلبون لها، وأن مذهبهم يقوم على واحد من شيئين: إما الغفلة وابتغاء ما لا يكون أبداً من تساوي المرأة بالرجل، وإما المجانة واتخاذ هذه الدعوة مطية يبلغون بها حاجات في نفوسهم

ولم يرو لنا التاريخ خلال هذه العصور الطويلة أن امرأة وليت القضاء، ولا يكاد يسيغ العقل ذلك ولا الطبع يألفه، وقد قال الله تعالى:(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض)؛ وفسروا الفضل بأنه العقل والدين

واتفقت قوانين اليوم وأحكام الفقه على اشتراط العلم في القاضي؛ غير أن القانون أوجب نيله ليسانس الحقوق قاضياً شرعياً كان أو مدنياً

وأكثر الفقهاء شرطوا في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، واحتجوا بحديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال له: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن

ص: 11

لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فارتضى ذلك رسول الله، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله إلى ما يرضي رسوله؛ واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيما لم يوح إليه حكمه. ويقضي باجتهاده (ولكن الله لا يقره على الخطأ)، وأن الاجتهاد كان جائزاً للصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام

وجاء في المبسوط: إن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه، وإنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه، فكما أنه لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص، لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه

غير أن الحنفية ذكروا أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية لا شرط صحة التولية، وأنه يصح قضاء المقلد إذا قضى بفتوى غيره (الهداية والهندية)، أما المفتى، فأجمعوا على اشتراط كونه من أهل الاجتهاد، أو النظر في الدليل. قال أبو حنيفة: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعرف من أين قلنا. وهذا منتهى ما تصل إليه حرية البحث، وما تبلغه الروح الاستقلالية في العلم

قال في المبسوط: (وإذا لم يكن القاضي من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل، سأل المفتين (أي المجتهدين)، ونظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه، وهذا اجتهاد مثله، ولا يعجل بالحكم إذا لم يبن له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة)

ومهما كان من أمر، فالأصل في القضاء الاجتهاد، ولا يكون إلا كذلك، لأن النصوص محدودة، والوقائع لا حد لها، ولا ينقطع الاجتهاد في المسائل الجزئية أبداً، ومن قال بسد باب الاجتهاد، إنما أراد به الاجتهاد في غير موضع الحاجة أو الاجتهاد المطلق، أما الاجتهاد عند وقوع الواقعة لا بد من معرفة حكم الله فيها، أو عند تبدل العزف الذي بني عليه الحكم الاجتهادي، فلم يمنعه أحد ولم ينقطع أبداً، ولا يقلد في هذا الموطن إلا عصبي أو غبي كما قال القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب:

قال الطحاوي (أبو جعفر الإمام الحنفي الكبير)، وكان كاتب هذا القاضي: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها

ص: 12

القاضي، أو كل ما قال أبو حنيفة أقول به؟! قال: ما ظننتك إلا مقلداً، قلت: وهل يقلد إلا عصبي؟ قال لي: أو غبي. فطارت هذه الكلمة في مصر حتى صارت مثلا، وكان ذلك في أول القرن الرابع

سمعتم خلاصة الخلاف في هذه المسألة، وعلمتم أن العزيمة هي كون القاضي من أهل الاجتهاد، والرخصة التي قال بها الحنفية هي جواز كونه مقلداً يا أيها السادة: إنهم كانوا يختلفون في القاضي هل يجوز له التقليد، فلم يبق خلاف بيننا اليوم في أن القاضي لا يجوز له الاجتهاد!

ونقل الماوردي، أن السلطان إذا قال للقاضي قد وليتك فلا تحكم إلا بمذهب فلان (من الأئمة) كان الشرط باطلا، وكان له أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده. ومن الاجتهاد اختيار من يفتي بقوله من المفتين كما جاء في المبسوط.

أما القضاء اليوم فالأهلي منه على مذهب (أئمة) الإفرنج، كأننا أمة من البرابرة لا دين لها ولا فقه، ولا كتاب. وقد بدت في سواد هذا الليل خيوط الفجر، وأوشك أن يفيق النائمون. وأما الشرعي فعلى مذهب أبي حنيفة، إلا مسائل بأعيانها جرى العمل فيها (في مصر) على غيره، منها ما عدل فيه إلى قول معتمد في أحد المذاهب الثلاثة، ومنها ما خولفت فيه المذاهب الأربعة اجتهاداً ورجوعاً إلى دليل كمسألة طلاق الثلاث دفعة واحدة ووقوع طلقة واحدة به، ومنها ما خولفت فيه بلا دليل شرعي كمنع سماع دعوى الزواج ممن لم تبلغ السابعة عشرة أو ما لم تسجل في كتاب وقد مات أحد الزوجين - ولو أنهم اجتهدوا في مصر ونظروا في الأدلة لهان الخطب، ولكن سبيلهم أن يهونوا حكما، كتوريث ابن الابن مع الابن، فيحتالوا عليه، فيسموه وصية إجبارية، أو يجدوا له مستنداً قولا لمجتهد من المجتهدين الأولين ولو كان مرجوحاً أو منقطعاً سنده، فيأخذوا به، وهذا ما سماه ابن عابدين في رسالته اتباع الهوى.

أما القضاء عندنا فليس فيه ابتداع أو مخالفة إلا في مسألة واحدة ولكنا خالفنا فيها ظاهر القرآن وثابت السنة والإجماع. لا تعجبوا يا سادة قبل أن تسمعوا البيان:

نصت المادة 7 من قرار حقوق العائلة على أنه لا يجوز لأحد أصلا أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة ولا الصغيرة التي لم تكمل التاسعة. ونص في المادة 52 منه على

ص: 13

أن هذا النكاح فاسد. وفي المادة 77 على أن البقاء على الزوجية ممنوع في هذا النكاح فإذا لم يفترقا يفرق بينهما القاضي.

أما خلافها لظاهر القرآن (وظواهره حجة كما هو محرر في كتب الأصول) فلقوله تعالى: (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن). ففهم من ذلك صحة زواج المرأة وطلاقها قبل بلوغها سن الحيض. أما السنة فلزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في السنة السادسة من عمرها، والحديث (كما قال في فتح القدير) قريب من المتواتر. وقد انعقد الإجماع على أن حكمه عام وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بعائشة. وقد زوج الزبير ابنته لقدامة بن مظعون يوم ولدت، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة مع علمهم به. أفنكاح قدامة بنت الزبير نكاح فاسد يا أيها السادة؟ أم انه يجب التفريق بين محمد سيد النبيين وإمام المرسلين، وعائشة أم المؤمنين، لأن قرار حقوق العائلة يمنع بقاءهما على الزوجية؟ أم إنه يزعم أن أحكام الإسلام تتبدل ولو نطق بها القرآن وجاءت بها السنة المتواترة وانعقد عليها الإجماع؟

سيقول قائل منكم أو من غيركم إن قانون العائلة وضعه فحول من العلماء، وعرض على شيخ الإسلام وأمر به السلطان واستند فيه إلى اجتهاد ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم.

لا يا سادة، إنه لا شيخ الإسلام، ولا السلطان، ولا مائة مجتهد يستطيعون مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، وما أحسب قاضياً يخاف الله ويعرف طرق العلم يحكم بغير ما أنزل الله فيصح فيه الوصف بالفسوق والظلم والكفر، وقد وصف الله بها من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف بمن يحكم بخلافه؟!

وإني احب أن أسركم فأخبركم بأن هذه المادة قد وضعت من أكثر من ثلاثين سنة، ولكن قاضياً واحداً لم يقض بها، فلم يبق منها إلا سواد الحبر في بياض الورق، ذلك لتعلموا أن هذا القرآن قد تولى الله حفظه وحمايته (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وإن قلعة يدافع عنها الله لا يستطيع أن يقتحمها بشر!

علي الطنطاوي

ص: 14

‌ملحمة الحرب والسلام

دراسة تحليلية لفكرة الحرب وعواملها والسلام وأسسه

للأستاذ فؤاد عوض واصف

يكاد يكون الشعار الغالب في حياة البدائي الأخلاقية هو أن يكون الإنسان سعيد الحظ في الحرب يقتل من استطاع من الأعداء. وأنجح الكشوف هو ذلك الذي يهيئ للقبائل البدائية اقتناص أكبر عدد من الأجانب والعودة بجماجمهم، يجمعونها في حرز حريز لأنها الثروة التي بها يتفاضلون، وهي ضمان الشجاعة والشرف التي يتقدم البدائي إلى عروسه في فخر وخيلاء. . .

فإذا انتقلنا إلى شعوب أكثر حضارة وجدنا أن الوحدة الاجتماعية تكبر وتتميز؛ وكلما قويت الوحدة الاجتماعية ازداد الشعب استنكاراً لجريمة القتل؛ إلا أن النظرة إلى الأجنبي تظل محتفظة بآثارها الموروثة عن القبيلة. فقوانين الملك اين تصور لنا كيف كانت حياة الأجنبي رخيصة في بلاد اليونان في العصور الأولى، فلم يكن له أي حق قانوني. وكذلك كان الحال في الشعوب الرومانية القديمة؛ فالكلمة اللاتينية ومعناها عدو كانت تعني الأجنبي أيضاً. فالأجنبي والعدو يدل عليهما بكلمة واحدة. والذي يدلنا على مدى نظرة هذه الشعوب - ومن شابهها في درجة الحضارة - إلى الأجنبي، تلك السهولة التي كانوا يقابلون بها حروبهم مع الأجانب. وفي التاريخ المصري القديم لا نشاهد أية صيحة على الحروب وأهوالها، وكأنما الحرب ضرورة مادام هنالك أجنبي. وكذلك الحال عند العبرانيين القدماء إذ كانوا يتصورون أن الحياة حق مقصور عليهم وعلى نسلهم. وعند العرب في الجاهلية كانت القبائل تتحارب لأتفه الأسباب، ومن ذلك ما يروى عن أيامهم، فيوم النباج وتيتل مثلاً كان من الوقائع التي أثارها حب الغزو فحسب.

وكل هذا يدلنا على أنه إذا كان نطاق القتل داخل البلاد قد ضاق كثيراً عنه في الشعوب البدائية، فقد ظل الأجنبي منظوراً إليه بنظرة لا تختلف عن نظرة الشعوب البدائية.

ولما دخلت المسيحية في أوربا أشاعت احترام الحياة الإنسانية بدرجة لم تعرف في العصور السابقة. وكان المسيحيون في عصورهم الأولى يرون أن القتل في جميع صوره خطيئة كبرى. وفي هذا يقول ترتيليو هل من الممكن أن يكون لنا حق امتشاق الحسام

ص: 15

والسيد المسيح نفسه قد صرح لتلاميذه أن (. . . كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون).

ولئن كان السيد المسيح قد أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده عندما أراد بطرس أن يقاتل أعداء المسيح، فإنما كان يعني المسيح بهذا أن امتشاق الحسام محرم على كل جندي في المستقبل.

وفي سنة 314م صدر أمر بأن يحاكم كل جندي يترك سلاحه من أجل الدين، وذلك لأن البلاد كانت مهددة بغارات الأعداء. وهكذا نرى أن فكرة الحرب بدأت تعود، وأن آباء القرن الرابع والخامس الميلادي قد أخذوا يبررون امتشاق الحسام؛ حتى إذا جاء القديس أوغسطين ذهب إلى أبعد من هذا حين أراد تفسير العهد الجديد تفسيراً لا يتعارض مع فكرة الحرب، وعنده أن السيد المسيح عندما أمر بطرس بأن يرد سيفه إلى غمده لم يكن يعني كل جندي وإنما كان يعني بطرس بالذات لأن امتشاقه الحسام لم يكن قانونياً. وينتهي أوغسطين من هذا بقوله:(إذا كان السلام هو الخير الأسمى وكانت مدينة الله قد أقيمت من سلام أزلي فإن الحرب في بعض الأحايين ضرورة لهذا العالم الممتلئ بالخطيئة).

نجد في كلام القديس أوغسطين تحولا جديداً في فكرة الحرب عمل أتباعه على تدعيمه قائلين إنه ليس ثمة تعارض بين أن يكون الإنسان مسيحياً وجندياً في الوقت نفسه. وانتهى الأمر بأن يتناول الفارس سيفه من القسيس الذي يباركه ويقول له تلك العبارة باللاتينية:

، ،

أعني: في خدمة سيدك المسيح تتناول حسامك أيها الجندي باسم الأب والابن والروح القدس آمين. وهكذا أصبح الجندي يمتشق الحسام باسم الله، والحرب أصبحت قضاء من الله، والنصر هبة من هباته.

وفي العصور الوسطى أيضاً كانت الحرب قضاء من الله. فاللورد بيكون يرى أن الحرب هي الوسيلة المثلى التي يتجلى بها الحق واضحاً، إذ يحتكم الله عز جلاله بين الأمراء والمتنازعين. ويقول لاهوتي في هذا الصدد، إن الحرب مرآة تقرب إلينا صورة الله (فليس كرائحة البارود عطر يستطيع من يتنسمه أن يتعرف الحق السماوي في صورته العليا. . .)

ص: 16

ولكن النزعة السلمية لم تعدم الأنصار في أوربا في تلك الآونة؛ ففي القرن الرابع عشر ظهرت جماعة اللولارد وقالوا إن الحرب في جميع صورها تتعارض مع تعاليم الإنجيل. وإن سلاماً غير عادل أكرم من حرب عادلة. ويقول (ارازم) إن الحرب ليست وحشية فحسب بل هي أكثر من ذلك، لأن الإنسان القاتل أكثر وحشية من الوحش نفسه، لأن الطبيعة إذا كانت قد هيأت الوحوش للحرب فإنها على العكس لم تهيئ الإنسان للحرب؛ ومن ذهب إلى الحرب فليعلمن أنه يمتشق الحسام ضد الطبيعة وضد الله وضد الإنسان. . .

وجماعة الكويكرز ترى أن الحرب أيا كانت تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس؛ وإذا كانت نهاية الإنسان هي الخلود فإن مستقبل فرد واحد في الآخرة يفوق كل خير وقتي لأمة بأسرها. . .

ومن هنا نرى أن الناس قد انقسموا أمام فكرة الحرب، في تلك الآونة، إلى فريقين: فريق يرى أن الحرب مرآة فيها يتجلى الحق السماوي، وفريق يرى أن الحرب تتعارض مع تعاليم المسيحية، وأن سلاماً غير عادل أفضل من حرب عادلة.

وأما الحال عند العرب فقد عرفنا أن الإسلام قد أبطل الكثير من عاداتهم القديمة وجعل القتل جريمة كبرى. وقد نص القرآن الكريم على هذا بقوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).

ولكن القرآن قد حث من جهة أخرى على مقاتلة الكفرة في ظروف معينة إذ يحق للعرب أن يعتبروا (الجنة في ظلال السيوف). وفي هذا يقول الله لنبيه: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا) وهكذا يكون الإسلام قد أجاز الحرب في ظروف خاصة.

وفي القرن السابع عشر ظهرت في أوربا طائفة الموسوعيين وعلى رأسهم ديدرو الذي استطاع أن يجمع إليه عدداً من أشهر فلاسفة أوربا من أمثال فولتير وروسو. والفلاسفة - في الانسيكلوبديا - وإن تباينت آراؤهم قد اتفقوا في معاداتهم للمبادئ الكاثوليكية ولم تكن إذ ذاك سلمية. ولقد قام فلاسفة الانسيكلوبدية بدعوة سلمية معتدلة تختلف عن دعوة ارازم، ففولتير وإن يكن يعترف بأن الحرب واجبة في بعض الأوقات إلا أنه ينعى عليها شرورها ويقول إن الذي يجر الناس إليها طمع الأمراء وجشعهم.

ص: 17

ونحن نجد أيضاً عند فلاسفة النهضة الحديثة من أمثال كانت وبنتام وروسو نزعات معادية للحرب. ولكن ظهر رد فعل لهذه النزعات، في نزعة قومية زعم أنصارها أن وحدة عالمية ليست إلا حلماً فظيعاً؛ فليس ثمة ضمان لفضيلة عندهم إلا بوجود القوميات؛ وهكذا أخذوا ينفخون في نفير الحرب لأنها مقياس الحق ولأنها منبع ترتوي منه الفضيلة فيشتد عودها ويتقوى ساعدها. والحرب عند نيتشة قد جلبت للإنسانية من الخيرات أضعاف ما جلبه الحب الإنساني. وهي عند راسكين أم الفنون وجميع الفضائل المدنية. ولقد أصبحت الحياة عند هؤلاء حق يغتصبه القوي من الضعيف. وإن الصراع من أجل الحياة بين الأقوياء والضعفاء سيتمخض عن الإنسان الأعلى الذي يعلو على أعقاب الضعفاء ويقضي على جيلهم. ان فلسفة القوميات في الواقع هي فلسفة قوة وحرب وسيطرة.

وبعد سقوط نابليون شاع في العالم الرغبة في سلام طويل. ولكنها كانت فترة قصيرة تلك التي شاع فيها حب السلام استيقظت بعدها صيحة القوميات وتعطشها إلى الحرب والسيطرة.

عرضنا فيما سبق استقراء عاماً لفكرة الحرب وتحولها في أحقاب التاريخ. وإن نظرة واحدة إلى ما أمامنا من العناصر لكافية بأن تخرجنا بحقيقة أشبه بأن تكون يقينية، إن كان هنالك ثمة يقين في مجال العلم الحديث. . .

لقد وجدنا أن فكرة الحرب من المعاني الخلقية التي لم تثبت على حال واحدة، بل اختلفت وتبدلت باختلاف الشعوب والعصور؛ فبينا نرى الحرب في بعض الأحايين خيراً أسمى بل وضماناً للفضيلة، نراها في أحايين أخرى شراً مستطيراً، أولى بالحيوانات الكاسرة منها بالإنسان الأخلاقي. . .

هذا الاختلاف في نظرة الإنسان إلى معين الحرب نتيجة لعوامل اجتماعية تشكل الوجدان الأخلاقي فتارة تغلب عليه فكرة الحرب فيراها الإنسان خيرا، وتارة تغلب عليه فكرة السلام فتبدو الحرب للإنسان شراً ليس بعده شر.

فكرة الحرب إذا من المعاني النسبية، تخضع لعوامل اجتماعية معينة تتولد منها وتزول بزوالها.

والتاريخ يدلنا على ألوان أخرى من القتال غير الحروب بصورتها الحالية وذلك مثل

ص: 18

الحروب الخاصة والثأر للدم والمبارزة بين الأفراد وغيرها. وقد كانت هذه الأنواع من القتال تتولد تحت ظروف اجتماعية معينة، وكانت تبدو للضمير الجمعي في صورة بطولة وشرف. حتى إذا زالت العوامل الاجتماعية المولدة زالت معها أنواع القتال المختلفة، وأصبحت نظرة الناس إليها غير تلك النظرة السابقة. . .

لذلك ليس بصحيح ما يزعمه بعض العلماء من أن الحرب ضرورة في فطرة الإنسان، فكما أن خلايا الجسم تتحارب فتتولد الحياة الفردية، كذلك يتحارب الناس فتتولد الحياة الاجتماعية. إنما الحرب كما أثبت الاستقراء التاريخي، نتيجة لعوامل اجتماعية خاصة قابلة لأن تزول، وعندئذ تصبح فكرة الحرب من المعاني المجهولة، كما أن الكثير من أنواع القتل كالمبارزة بين الأفراد أصبحنا نجهله كل الجهل.

وعند العلامة وسترمارك أن أنصار السلام يزدادون يوماً بعد يوم، وهكذا عندما تنحسر موجة القوميات - وهي العوامل الاجتماعية المولدة للحروب في عصورنا - ولا يعود الناس ينظرون إلى الحرب والسلام بالمنظار القومي، فإن كل الدلائل تدل على أن الصيحة ضد الاستبداد المنبعثة من القوميات ستخفت، كما خفت غيرها من صيحات الحروب الخاصة والثأر للدم. . .

وإن لنا الدليل كل الدليل في أن العالم يتجه نحو وحدة عالمية، تتلاشى عندها الدوافع القومية وتختفي معالمها، وذلك في روح المذاهب السياسية للدول المنتصرة في هذه الحرب. فالديموقراطية تنعت بأنها مبدأ يعلو على القومية - وكذلك الاشتراكية الحديثة في روسيا (البلشفية) ليست مبدأ قومياً، وإنما هي ترمي في النهاية إلى وحدة عالمية شأنها في ذلك شأن الديموقراطية. ففي حين أننا نرى الفاشيستية والاشتراكية القومية (النازية) تنظران إلى وحدة عالمية كحلم فظيع، نرى أن الديموقراطية والبلشفية تتجهان في جوهرهما إلى وحدة عالمية يسودها الوئام والسلام. . .

إن ملحمة الحرب ملحمة طويلة وحافلة، ولكن لها - ككل قصة في الحياة - نهاية وخاتمة

فؤاد عوض واصف

ليسانسيه في الفلسفة

ص: 19

‌رأي جديد في

حماد الراوية

للأستاذ السيد يعقوب بكر

1 -

منهج البحث

لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد (أعني روايته للشعر)؛ فقد أكثرت كتب الطبقات من ذكر أخباره والأحداث التي تقلبت عليه، ولكنها لم تعرض لروايته كما يعرض العلماء لمواضيع بحثهم، ولم تمحصها كما يجب أن تمحص الأشياء، وكل ما فعلته أنها اتهمته بالوضع والانتحال وذكرت من أخبار انتحاله الشيء الكثير.

أقول: لعل أهم ما أقصد إليه في هذا البحث هو تمحيص رواية حماد، ولكنني قبل أن أمحص هذه الرواية، يجب أن أعرض لحياة هذا الراوية في عصره وللراوية هذا العصر؛ فلعل اكتناه حياته والرواية في عصره يأخذ بيدنا عند تمحيص روايته؛ ولعله يكشف لنا منها جوانب ما كنا لنفطن لها لولاه؛ ولعله يكشف لنا عن الدواعي التي حدت به إلى أن يضع إن كان قد وضع حقا، أو الدواعي التي جعلت الرواة يتحاملون عليه إن كان هو من الوضع براء.

هذا منهج البحث لا أشك في أنه سيصل بي إلى النتيجة الحق. ذلك لأنه منهج قائم على أساس صحيح؛ فهو يربط بين حماد راوية وبينه إنسانا في ذاته وإنسانا في مجتمع، وهو يربط بين روايته ومجرى الرواية في عصره. والدراسات الأدبية لا يمكن أن تؤدي إلى الحقيقة ما لم تربط بين من تدرسه وبين نفسه وبيئته.

2 -

حياة حماد

يقول ابن قتيبة في كتاب المعارف (ص 183): هو حماد بن هرمز؛ وكان هرمز من سبى مكنف بن زيد الخيل، وكان ديلميا يكنى أبا ليلى. ويقول في كتاب الشعر والشعراء (ص 157 وحماد الراوية مولى مكنف.

وفي الأغاني (ج 5 ص 164 ط بولاق) أن الأصمعي سأل حمادا: ممن أنتم؟ فقال حماد: كان أبي من سبى سلمان بن ربيعة، فطرحتنا سلمان لبني شيبان، فولاؤنا لهم.

ص: 21

ويقول ابن النديم في الفهرست (ص 91 ط فلوجل) إنه: أبو القاسم حماد بن سابور بن المبارك بن عبيد؛ وكان سابور يكنى أبا ليلى، من سبى الديلم، سباه ابن عروة بن زيد الخيل ووهبه لابنته ليلى يخدمها خمسين سنة، ثم ماتت، فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه.

ويقول ياقوت في معجم الأدباء (ج 4 ص 137 ط مرجليوث) إنه حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي؛ مولى بني بكر بن وائل، وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل الكوفي المعروف بالراوية

ويقول ابن خلكان في وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس) إنه أبو القاسم حماد بن أبي ليلى سابور، وقيل ميسرة ابن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي.

فظاهر من هذه الروايات الخمس أن حمادا ديلمي الأصل؛ وأنه من الموالي، وإن كان قد اختلف في ولائه: لمن. على أن هذا اختلاف في الظاهر. فنحن إذا أخذنا برواية ابن النديم استبان لنا أن ولاء حماد كان لابن زيد الخيل (ابن عروة كما يقول ابن النديم، أو مكنف كما يقول ابن قتيبة وياقوت، ثم كان لعامر بن مطر الشيباني. وشيبان بن ثعلبة، وثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر. وهكذا نفهم تردد ولاء حماد بين ابن زيد الخيل وبني شيبان وبني بكر بن وائل. ولكننا لا نجد بعد هذا تفسيرا لما يقوله حماد من أن أباه كان من سبى سلمان بن ربيعة، فنحن لا نعرف من هم بنو سلمان هؤلاء.

والديلم - كما يقول هيار في كتابه: (ص 58) - هم ذلك الجنس الهائل الذي كان يحتقر العرب؛ والذي كان يسكن جبال جيلان الوعرة مستقلا غير خاضع لسلطة ما؛ والذي استولى على بغداد باسم بني بويه، فجرد الخلافة من سلطتها الزمنية، ولم يبق لها إلا سلطة روحية محضا، وكان لحق حماد ينم عن أصله الأعجمي.

وظاهر من هذه الروايات أيضاً أن هناك خلافاً حول اسم أبي حماد. فابن قتيبة يقول إنه هرمز، وهو في هذا يوافق الجاحظ فيما يحكيه عنه السيوطي في المزهر (ج 2 ص 206) وابن النديم يقول إنه سابور؛ ويتابعه في هذا هيار (ص 58)، وتشارلز ليال في كتابه:(المقدمة: هامش ص 39) وفي مقدمته لترجمة المفضليات (هامش ص 13): وياقوت يقول إنه ميسرة، وهو في هذا يوافق الهيثم بن عدي فيما يحكيه عنه أبو الفرج في الأغاني (ج

ص: 22

5 ص 164) والبغدادي في خزانة الأدب (ج 4 ص 129 ط بولاق).

وقد ولد حماد بالكوفة. واختلف في تاريخ ميلاده؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 75هـ، وينقل عنه في هذا بروكلمان في كتابه:(ج 1 ص 63) وهو عند ياقوت (ص 140) سنة 95هـ، ويتابعه في هذا ابن خلكان (ص 241). كذلك اختلف في تاريخ وفاته؛ فهو عند ابن النديم (ص 91) سنة 156هـ، وهو عند ياقوت (ص 140) وابن خلكان (ص 241) سنة 155هـ.

وحماد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. فتشارلز ليال يقول في كتابه الأول: (المقدمة، هامش ص 39): (علا ذكر حماد الراوية بن سابور الفارسي الأصل وجامع المعلقات ومعظم شعر امرئ القيس في دولة بني أمية خاصة، منذ عهد يزيد الثاني (يعني يزيد بن عبد الملك)(101 - 105) حتى سقوطها سنة 132، وبعد ذلك عاش في عصري المنصور والمهدي). فالذي يؤخذ من قول هذا المستشرق أن حمادا لم يدرك عصرا بعد عصر المهدي، وهو في هذا يتابع ما يرويه ابن خلكان إذ يقول (ص 241):(وقيل إنه توفى في خلافة المهدي). على أننا نجد في الأغاني (ج 3 ص 80) هذه الرواية: (ذكر أبو أيوب المدني أن حمادا الراوية حدثه، قال: رأيت عبد الرحيم الدفاف أيام هرون الرشيد بالرقة. . .)، وهي رواية صريحة الإشارة إلى أن حمادا أدرك عصر الرشيد، ولكننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نرجحها على سائر الروايات التي تقف بحياة حماد قبل عصر المهدي، أو عن هذا العصر، بل إننا لا نظن حمادا قد أدرك عصر المهدي، كما تقول الرواية التي أشار إليها ابن خلكان. فحماد قد توفى سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان؛ بينما المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. والرواية التي يشير إليها ابن خلكان غير صريحة النسبة، وهي لا تذكر تاريخا معينا. وقد رجع تشارلز ليال عما قاله في كتابه الأول (المقدمة، هامش ص 39) من أن حمادا توفى سنة 160هـ، وجعل يشك في أن حمادا أدرك عصر المهدي، وهذا في مقدمته لترجمة المفضليات (ص 18). ويبدو لنا أنه في الكتاب الأول قد أخذ بمفهوم الرواية التي يشير إليها ابن خلكان، فافترض سنة 160هـ تاريخاً لوفاة حماد، أي بعد ولاية المهدي الخلافة. وهذا افتراض محض، لأن المراجع العربية لم تذكر هذا التاريخ.

ص: 23

وقال ابن النطاح (الأغاني ج 5 ص 171، وخزانة الأدب ص 131): (كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك، وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ). وهذه الرواية - إن صحت - تدلنا على طور من أطوار حياة حماد، لا بد أنه خلف في نفسه أثراً، ولا بد أنه كيف مزاجه تكييفا خاصا.

وكان خلفاء بني أمية يقدمون حمادا ويؤثرونه، وكثيرا ما كانوا يستحضرونه لينشدهم وليسألوه، فكان يفد عليهم فيجزلون صلته. ويروى أنه كان منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك في خلافته، فأسخط هذا هشاما أخا الخليفة وولي عهده؛ فلما تولى هذا الخلافة خاف حماد على نفسه، فلزم بيته سنة لا يبرحه؛ ولكن هشاما لم يلبث أن استدعاه إلى دمشق ليسأله عن بيت من الشعر: من قاله؟ فلما أجابه وأنشده أجازه وأحسن صلته. وهذه القصة مذكورة في معظم المراجع التي بين يدينا؛ وهي مذكورة على سبيل المثال في الأغاني (ج 5 ص 166 - 167)، وقد استغرق ذكرها جل ما كتبه صاحب نزهة الألباء عن حماد (ص 44 - 50)، وذكرها السيوطي في تحفة المجالس ونزهة الجالس (ص 69 - 71 ط مطر السعادة). ولكن الأستاذ أرندنك كاتب مادة حماد الراوية في الموسوعة الإسلامية، يشك في صحة هذه القصة فهو يرى أنها لا يمكن أن تقع في مثل هذا التاريخ، وأن سماتها تشبه سمات قصة تروى عن الوليد الثاني (يعني الوليد بن يزيد) الذي كان خاصة يستمع إلى حماد كثيرا. ويشك أبو الفرج (ج 5 ص 167) في صحة جانب من هذه القصة، وهو أمر هشام الجاريتين المذكورتين في القصة بسقي حماد الخمر؛ لأن هشاما - كما يقول أبو الفرج - لم يكن يشرب ولا يسقي أحد بحضرته مسكرا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه. كما أن ابن خلكان يشك في جانب آخر من القصة، وهو أمر هشام يوسف بن عمر الثقفي باستدعاء حماد؛ فهو يقول (ص 241):(وما يمكن أن تكون هذه الواقعة مع يوسف بن عمر الثقفي لأنه لم يكن واليا بالعراق في التاريخ المذكور بل كان متوليه خالد بن عبد الله القسري). وفي اعتراض ابن خلكان تفسير للشطر الأول من اعتراض أرندنك.

ويبدو لنا أن قصة حماد مع الوليد بن يزيد التي يشير إليها أرندنك في الشطر الثاني من

ص: 24

اعتراضه هي التي رواها أبو الفرج في الأغاني (ج 6 ص 128) حيث قال: (. . . قال (أي حماد): دخلت يوماً على الوليد، وكان آخر يوم لقيته فيه، فاستنشدني، فأنشدته كل ضرب من شعر الجاهلية والإسلام، فما هش لشيء منه، حتى أخذت في السخف فأنشدته لعماد بن ذي كنانة مجتبذاً. . . فضحك حتى استلقى، وطرب ودعا بالشراب، فشرب، وجعل يستعيدني الأبيات، فأعيدها حتى سكر، وأمر لي بجائزة، فعلمت أن أمره قد أدبر. ثم دخلت على أبى مسلم، فاستنشدني، فأنشدته قول الأخوة:

لنا معاشر لم ينبوا لقومهم

فلما بلغت إلى قوله:

تُهدى الأمورُ بأهل الرشد ما صلحت

وإن تولَّت فبالأشرار تنقاد

قال: أنا ذلك الذي تنقاد به الناس، فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل).

على أن هذه القصة غير صحيحة فيما يبدو لنا. فإن أبا مسلم الخراساني لم يبرز إلى الميدان السياسي إلا سنة 129هـ، أي بعد وفاة الوليد بن يزيد بثلاث سنين. وأغلب الظن أنها من وضع دعاة العباسيين وضعوها تشهيراً بالوليد وإظهاراً لما كانت عليه دولة بني أمية من انحلال وما كانت عليه الدعوة العباسية من فتوة. وهكذا يسقط الشطر الثاني من اعتراض أرندنك.

ومهما يكن من شيء، فقد كان حماد ذا حظوة لدى يزيد ابن عبد الملك، ثم لدى الوليد بن يزيد من بعده. وتفسير هذه الخطوة يسير. فقد كان الخليفتان يحبان اللهو والمجون، وكانا يجدان في حماد ما يوائم ذينك اللهو والمجون من شعر سافر ومذهب داعر.

على أنه لم يكن ذا حظوة لدى العباسيين. يظهر هذا مما يرويه أبو الفرج (ج 12 ص 102) إذ يقول: (. . . كان مطيع بن إياس منقطعاً إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له من غير فائدة، فاجتمع يوماً مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذاكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها وحسن ملكهم وطيب دارهم بالشام وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور وشدة الحر وخشونة العيش وشكوا الفقر فأكثروا. . .)؛ ومما يرويه أبو الفرج (ج 5 ص 169 - 170) والبغدادي (ص 130 - 131) من أن جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكريه كان يستخف مطيع بن إياس

ص: 25

ويحبه، وكان منقطعاً إليه، وله منه منزلة حسنة، فذكر حماداً وكان صديقه وكان مطرحا مجفواً في أيامهم، فقال له: ائتنا به لنراه، فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمصير إليه ومعه، فقال حماد: دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي مع هؤلاء خير، فأبى مطيع إلا الذهاب به، فلما أتيا جعفر استنشد هذا حماداً فأنشده قصيدة جرير التي مطلعها:

بان الخليط برامتين فودّعوا

أَوَ كلما اعتزموا لبيْن تجزعُ

فلما وصل إلى قول جرير:

وتقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع

أبدى جعفر نفوره من لفظ بوزع، وأمر غلمانه بصفع حماد وجر رجله. ويقول أرندنك إنه (كان أحد الشعراء الذين خرجوا عن بغداد في عهد المنصور في طلب المعاش فذهب إلى الكوفة؛ ولكن يقال إن المنصور استدعاه ثانية إلى بغداد من البصرة).

ومن اليسير علينا أن نفسر إعراض العباسيين عن حماد ورفاقه. فقد كان العباسيون في أول أمرهم يأخذون الحياة مأخذ الجد، ويصطنعون الصرامة والقسوة، ويعملون على تدعيم ملكهم الوليد. وما كان لمثل هؤلاء أن يقبلوا على حماد ورفاقه، وأن يسوغوا لهوهم ومجونهم. هذا إلى أن حماداً ورفاقه كانوا من المقربين إلى بني أمية، وما كان للعباسيين أن يقربوا من كان هواهم مع أعدائهم.

وقد اشتهر حماد بمجونه واستهتاره وفسقه وسكره. وتجد في الأغاني (ج 5 ص 169) قصة من قصص استهتاره، كما تجد صورة من صور فسقه في (ص 170).

ويقول ابن قتيبة في الشعر والشعراء (ص 302 المكتبة التجارية): (وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان النحوي؛ وكانوا يتعاشرون، ويتنادمون، وكانوا يرمون بالزندقة كلهم؛ وكان حماد بن الزبرقان عتب على حماد الراوية في شيء فقال:

نعم الفتى لو كان يعرف قدرَه

ويقيمُ وقت صلاته حمادُ

هدلت مشافره الدنانُ فأنفه

مثل القدوم يسنُّها الحداد

وابيضّ من شُرب المدامة وجهُه

فبياضُه يوم الحساب سواد)

على أن نسبة هذه الأبيات إلى حماد بن الزبرقان في هجاء حماد الراوية يحوطها الشك؛

ص: 26

فأبو الفرج (ج 5 ص 171) ينسبها وثلاثة أبيات أخرى بعدها إلى أبي الغول الطهوي في هجاء حماد، والبغدادي (ص 132) ينسبها - مغيرة قليلا - إلى أبي الغول الطهوي أيضاً، وابن خلكان (ج 1 ص 295 ط مصر) ينسب البيتين الأول والأخير منها إلى بشار في هجاء حماد عجرد وكانا يتهاجيان، والمرتضى في أماليه (ص 92 ط صبيح) يذكر رواية يؤخذ منها أن أبا الغول النهشلي قال هذه الأبيات - مع اختلاف في صدر البيت الثاني - وبيتاً رابعاً في هجاء حماد عجرد.

ولما توفي حماد رثاه محمد بن كناسة بقوله:

أبعدْت من نومك الفرارَ فما

جاوزت حتى انتهى بك القدرُ

لو كان يُنجي من الردى حذرٌ

نجّاك مما أصابك الحذر

يرحمك الله من أخٍ يا أبا

القاسم ما في صفاته كدر

فهكذا يفسد الزمان ويفنى الع

لم فيه ويدرس الأثر

وهذه الأبيات يذكرها ابن النديم (ص 92)، ويذكرها ياقوت (ج 4 ص 140 ط مرجليوث) وابن خلكان (ص 242 ط باريس) الأبيات الثلاثة الأخيرة منها مغيرة بعض التغيير.

(للبحث بقية)

السيد يعقوب بكر

ص: 27

‌حول مذهب الشيخية:

بيان حقيقة وإيضاح شبهة

للشيخ عبد الله بن علي الموسوي

قرأت في الرسالة المباركة عدد (633) ما حرره الدكتور جواد علي بعنوان (الفلسفة الإسلامية المتأخرة) فرأيته، وفقه الله وسدده، قد خالف الحقيقة فيما نسبه إلى الشيخية ورئيسها المرحوم الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي؛ فتعجبت غاية العجب وقلت يا سبحان الله؛ إن مثل الدكتور جواد على المعروف بالتتبع والصدق والأمانة كيف يكتب خلاف الحقيقة ويسيء إلى التاريخ ويشوه سمعته حتى أني ظننت أنه، سلمه الله، لم يطلع على كتب الشيخ أحمد بن زين الدين ولا على كتب واحد من تلاميذه وأتباعه وما كتبه قد استقاه من عيون غير صافية. وها إني أبين ما جاء فيما كتبه صواباً وخطأ.

أما قوله: إن الشيخية هم المنسوبون إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي فهو حق، لأن الشيخية هم الذين يقلدون الشيخ أحمد ويأخذون فروع دينهم عنه كما هي سيرة الشيعة الإثني عشرية إلى يومنا هذا. وأما قوله: إن الشيخ أحمد تأثر بآراء الملاصدرا كثيراً فشرح بعض كتبه مثل كتاب العرشية والمشاعر، وهو عيال على الملاصدرا فهو مخالف للحقيقة، لأن الملاصدرا يقول بوحدة الوجود كمحيى الدين بن عربي، والشيخ أحمد عقيدته التوحيد الخالص، وقد رد على الملاصدرا في شرحه كتابيه: العرشية والمشاعر، لا أيده، والشرحان مطبوعان وبإمكان كل منصف طالب الحقيقة النظر فيهما ليعرف حقيقة الأمر؛ كما أن الشيخ أحمد في كتابه شرح الزيارة زيف آراء محيى الدين وعقيدته في وحدة الوجود، تجد ذلك في (صحيفة 22) من كتاب شرح الزيارة طبع سليمان خاقان. فالقول بأنه عيال على الملاصدرا بعيد عن الإنصاف جداً.

قوله: وبالنظر إلى ما كان يظهره من غلو في بعض الآراء نفر الناس منه فألتمس الشيخ أحمد حامياً له ومعيناً، وكان ذلك الحامي هو الأمير محمد علي بن فتح علي شاه إلى آخر عبارته

(اعلم) أن الشيخ أحمد لا غلو في آرائه، وكانت آراؤه مستقاة من كتاب الله سبحانه وسنة نبيه وأحاديث آل البيت الإثني عشر، وتلك المصادر لا غلو فيها.

ص: 28

نعم إن الشيخ أحمد لما كانت له درجة رفيعة في العلم وكان ورعاً تقياً زاهداً عابداً لا همة له سوى إرشاد الناس وصلاحهم صارت له لدى الملوك والأمراء منزلة لا بأس بها، فأحب السلطان فتح علي شاه إقامته في طهران لما زارها وألح عليه فامتنع الشيخ أحمد عليه امتناعاً شديداً ورجع إلى يزد بعد أن زار خراسان، ثم بعد ذلك عزم السفر إلى زيارة أئمة العراق، ولما وصل إلى أصفهان أوفد الأمير محمد علي جماعة إلى أصفهان يستقبلونه وكان إذ ذاك في كرمنشاه والياً، ولما قارب الشيخ كرمنشاه خرج الأمير وحاشيته وجنده ورعاياه لاستقباله وقد طلب من الشيخ الإقامة في كرمنشاه فوعده بالإقامة بعد رجوعه من العراق، وبعد أن رجع أقام في كرمنشاه يدرس العلوم الدينية ويوضع الشريعة المحمدية.

هذه قصة الأمير محمد علي ميرزا ومن أراد الاطلاع عليها أو على غيرها فعليه بكتاب هداية الطالبين المطبوع في إيران.

قوله: يروى عن الشيخية أن الإمام تجلى للسيد كاظم الرشتي في ليلة من الليالي وكان عمره إذ ذاك إثني عشر عاماً وأشار عليه بوجوب الذهاب إلى مدينة يزد والالتحاق بحاشية الشيخ أحمد، ما أدرى من أين أخذ دكتورنا هذه الرواية وعلى من اعتمد في نقلها ومتى كانت الشيخية تعتمد على أمثال هذه المزخرفات وإن كان ما يرويه الدكتور جواد علي حقاً فليذكر الكتاب الذي فيه هذه الرواية.

قوله: ولما غادر الأحسائي إيران ثم ترك العتبات المقدسة في العراق لأداء فريضة الحج توفي في الحجاز ودفن في المدينة في جوار قبور الأئمة بالبقيع سنة 1243، الصحيح أنه توفي سنة 1241 لا سنة 1243 للهجرة.

قوله: وأصبح السيد كاظم الرشتي خليفة الأحسائي والنايب منابه. نعم إن الشيخية لما فقدوا الشيخ أحمد ورأوا السيد كاظم الرشتي عالماً فاضلا ورعاً تقياً صادقاً أميناً قلدوه وأخذوا الأحكام الفرعية عنه، حتى أن الشيخ أحمد الأحسائي خلف ولدين وهما: الشيخ محمد تقي والشيخ علي وقد كانا عالمين فاضلين إلا أنهما رحمهما الله لما لم تكن درجتهما العلمية في نظر الشيخية كدرجة السيد كاظم الرشتي قلدوه وأعرضوا عن تقليدهما، وكذلك لما توفى المرحوم السيد كاظم الرشتي خلف ولده المرحوم السيد أحمد وكان أيضاً عالماً فاضلا وله من المال ما لا بأس به، إلا أن درجته العلمية لما لم تكن موازية لدرجة المرحوم الحاج

ص: 29

محمد كريم خان قلدوا الحاج محمد كريم خان، وذلك دليل تدينهم وعدم تأثرهم بالماديات وغيرها وذلك لا عيب عليهم فيه.

قوله: إلى أن توفى الرشتي بمرض أصابه ببغداد دون أن يتمكن من النص على تعيين شخص يكون خليفته من بعده وزعيم الشيخية الديني المطاع بالنص والتعيين.

يا سبحان الله ما أعظمها من فردية ما أدرى من أين اقترف الدكتور هذه التهمة التي اتهم بها الشيخية، ومتى كانت الشيخية تعتقد بأن زعيمها الديني لابد وأن يكون منصوصاً عليه من سابقه؛ وفي أي كتاب من كتبهم اعتقدوا ذلك، ولذلك فليحسن الدكتور إلى التاريخ وليوقفنا عليه من كتب الشيخية أنفسهم لا من أقوال المفترين نكن لسعادته شاكرين.

نعم عقيدة الشيخية في التقليد هي عقيدة المجتهدين من الشيعة الإثنى عشرية فكل من رأوه فقيهاً عالماً عاملا تقياً نقياً قلدوه وأخذوا أحكام دينهم عنه، وذلك ما نص عليه الإمام جعفر من آل البيت بقوله: أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، ولا أمنع أنهم يختارون تقليد الأعلم.

قوله: فانصرفت جماعة منهم إلى الميرزا علي محمد الشيرازي إلى أن قال والبابية عيال على الشيخية في آرائها وأفكارها المغالية ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي وعلاقة الإمامة بالإنسان؛ أظن أن الدكتور لم يطلع على كتب البابية وآرائها كما أنه لم يطلع على كتب الشيخية وعقائدها، ولو اطلع على الكتبين والعقيدتين لما افترى على الشيخية ولما ألحق البابية بالشيخية، فإن ميرزا على محمد الشيرازي ادعى البابية للإمام مرة، وادعى أنه المهدي الذي يخرج بالسيف تارة، ومرة ادعى أنه يوحي إليه وقد أنزل عليه بزعمه كتاب كالقرآن نعوذ بالله، وتارة ادعى الألوهية، ولولا الإطالة لسطرت من مزخرفاته التي أنزلت عليه في قرآنه بزعمه الذي سماه الذكر والبيان ما يهتدي به الطالبون، وأن ميرزا علي محمد أنكر شريعة سيد المرسلين وأسقط عن أتباعه الصلاة والصيام والحج والزكاة كما في قرآنه المزخرف وغيره من رسائله، وأول من زيف مزخرفاته ورد عليه وكفره بها هو زعيم الشيخية وعالمها المرحوم الحاج محمد كريم خان، وقد كتب في ذلك رسائل عربية وفارسية، وقد كان الميرزا علي محمد في قرآنه المزخرف يحرم على أتباعه النظر في كتب الشيخ أحمد والسيد كاظم وينهاهم عن مطالعتها، منها قوله في أول سورة من

ص: 30

مزخرفه: (من اليوم الذي قرء عليكم كتاب ربكم كتاب البيان حرمنا عليكم يا حروف كلمة البيان ومظاهر النقطة السايرة في هويات الظهور إلى تفسير الزيارة وشرح الخطبة وكل ما كتب الأحمد بيمينه والكاظم بيمناه كما حرمنا على الذين من قبلكم النظر إلى عورات أمهاتكم وأن هذا من فضلنا عليكم وعلى الناس لعلهم يحذرون)

فهل يا ترى من الإنصاف لمتدين يدعي الإنصاف أن يتهم الشيخية بفكرة البابية ويجعل البابية عيالا عليهم، وما أدرى ما يجيب إذا سأله الله سبحانه يوم فصل القضاء عن ذلك فليستعد للجواب. وأما قوله: ولا سيما في نظرتها إلى الإمام المهدي، فاعلم أن الشيخية لا عقيدة لهم في المهدي كعقيدة البابية، بل عقيدتهم في الأئمة الإثنى عشر عقيدة الشيعة الإثنى عشر وهم: علي بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن المهدي فلا يغيرون ولا يبدلون؛ فالشيخية إن اعتقدوا أنهم يزاد عليهم فيكونون ثلاثة عشر أو ينقص منهم فيكونون أحد عشر، وكذلك إن اعتقدوا بأن المهدي ليس هو محمد بن المحسن وإنما هو نوعي فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وإن افترى عليهم أحد بذلك فلعن الله من افترى، وقد جاءت الرواية عن الرسول (ص) من طريق الشيعة وطريق إخواننا السنية بعددهم وأسمائهم وأسماء آبائهم في مائة وخمسة وستين حديثاً وقد رواها التويلي في كتابه (غاية المرام)، وإن كان ما يقوله الدكتور حقاً فليوقفنا عليه من كتب الشيخية لا من كتب غيرهم فإن المرء يؤخذ بمنطقه.

قوله: ومن أقوال الإحسائي في الحشر والمعاد إن هذا البدن المحسوس المركب من العناصر الأربعة يفنى ويزول ولا يعود. الشيخية يعتقدون بالمعاد الجسماني وأن الجسم الذي عمل في الدنيا خيراً أو شراً هو الذي يعود في الآخرة؛ إلا أن المسألة مسألة علمية وقد شرحها مشايخنا ولا سيما المرحوم الحاج زين ألعابدين خان الكرماني في كتابه إيضاح الاشتباه وهو موجود ومطبوع في العراق وإيران.

قوله: وقد أنكر معراج النبي بالبدن العنصري البشري. الشيخية يعتقدون بمعراج النبي (ص) بروحه وجسمه كما أوضحه صاحب إيضاح الاشتباه الذي أشرت إليه.

ص: 31

قوله: وينسب إليه الغلو في الأئمة حتى أنه أشركهم مع الله في الخلق وفي القدرة وفي مسائل أخرى هي من صفات الألوهية والربوبية، هذه فرية أخرى.

قال الشيخ أحمد في كتابه حياة النفس الذي صنفه في العقائد صحيفة (4) اعلم أنه واحد في أربعة مراتب لا شريك له فيها (الأولى) لا شريك له في ذاته. قال الله سبحانه وتعالى لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد (والثانية) لا شريك له في صفاته قال الله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). (والثالثة) لا شريك له في صنعه، هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (والرابعة) لا شريك له في عبادته فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. هذا مذهبه وهذه عقيدته ولا يضره كفر من كفره إن صح ما قاله الدكتور فان من كفر مسلماً فقد كفر. (قوله) أما المذهب الشيخي فلم يظهر في وسطه زعيم قوي بعد وفاة الخليفة الإحسائي يستطيع الاستمرار على دعاية ذلك المذهب على الرغم من الجهود التي بذلها بمض علمائهم من أمثال الحاج محمد خليل خان الكرماني والملأ محمد المماقاتي.

بينت فيما سبق أن الشيخية لا مذهب لهم غير مذهب الشيعة الأثنى عشرية، ومن نسب لهم غير ذلك فقد بهتهم وافترى عليهم وظلمهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وأما علماؤها فقد ملئوا الأصقاع والبقاع بتصانيفهم ومؤلفاتهم في أغلب العلوم والفنون حتى أنها من زمان الشيخ أحمد الأحسائي إلى الآن تزيد على ألف مصنف ومؤلف. (قوله) ومع ذلك فلا زالت هنالك جماعة صغيرة مشتتة بين العراق وإيران وسواحل الخليج تنتمي إلى مذهب الأحسائي ولكنها لا تتظاهر بذلك ولا تجهريه

هذه النبذة الأخيرة التي سجلها الدكتور يقصد بها الإزراء على الشيخية والطعن عليهم في أنهم جماعة صغيرة فأراد أن يطعن عليهم بقتلهم مع أن المناط هو الحق فلا تجدي الكثرة نفعاً إن كان أصحابها مبطلين، كما أن القلة ليست بضائرة إن كان معتنقوها محقين. وقد مدح الله سبحانه القلة في مواضع كثيرة من كتابه كقوله:(قليل من عبادي الشكور) وكقوله: (وما آمن معه إلا قليل).

(وأما قوله) سلمه الله: لا تتظاهر بذلك ولا تجهر به بينت مكرراً أن دين الشيخية دين المسلمين الذي أنزله الله سبحانه في كتابه المبين وبينه خاتم الأنبياء والمرسلين والبلاد

ص: 32

والحمد لله بلاد مسلمة لا بلاد كافرة، والعدالة سائدة فيها، فعلام لا تجهر به فتلك مساجد الشيخية والحمد لله في جميع أنحاء العراق وفي جميع بلاد إيران وفي الإحساء والبحرين والكويت وغيرها من بلاد المسلمين معمورة بالأذان والعبادات؛ والشيخية معروفة بالمحافظة على الصلوات وأداء الفرائض في أوقاتها والصدق والأمانة وإن خفي ذلك على الدكتور فلا يخفى على غيره من المنصفين. وأنا أعلم أن ما كتبته الآن لا يجدي نفعاً لأن المسألة لم تكن مبنية على الإنصاف:

وقد حكى أن رجلا دخل على الإمام جعفر الصادق فقال له الصادق من أنت قال: أنا رجل أحضر عند العلماء. قال له: أي شيء عندك من الأخبار؟ قال: أخبرني سفيان الثوري أن جعفر ابن محمد الصادق يقول: إن الله قاعد على العرش ففضل منه من كل جانب من العرش أربعة أصابع. فقال له الإمام: أخبرني بغير هذا مما عندك فذكر له من هذا القبيل أموراً كثيرة وكلها ينسبها إلى الإمام جعفر فقال له الإمام جعفر لما سمع منه كثيرا من الأكاذيب عليه يا هذا هل تعرف جعفراً إذا رأيته قال لا. فقال الإمام جعفر إذا أخبرك جعفر وقال لك إني ما قلت كذا وأنا بريء من هذه الأكاذيب ما كنت تقول في حق جعفر بن محمد؟ قال أنكر عليه ولا أقبل منه وأقول له إن الذي أخبرني أعدل منك، فقضيتنا مثل هذه القضية وليس لنا إلا أن نفوض أمرنا إلى الله سبحانه ونتوكل عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(البصرة)

عبد الله بن علي الموسوي

ص: 33

‌سجون بغداد

زمن العباسيين

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 4 -

وكان في نورمبرغ سجن يتناقل الناس أشد الأخبار هولا عما كان المسجونين يسامون فيه البلاء، وكان يعرف بالسجن الأحمر. وكانوا يقلعون أظافير السجناء، ويفقأون عيونهم، ويضغطون على عظامهم بآلات حديدية فتسحق وتهرس. أو يدفعونهم ليناموا في أسرة ذات مسأمير محماة، تنخزهم وخزاً مؤلماً فتسيل دماؤهم. وكان في السجن نفسه كساء حديدي يدخل فيه المسجون فيطبق عليه. وكان له من داخله مسامير حادة تنفذ في الجسم، فيقاسي الرجل أنواع الألم حتى يموت.

وكان في مدينة لاهاي سجن يسمى (جيفا نجن بورث) كان المسجونين فيه يصابون بالجنون قبل أن يموتوا لشدة ما كانوا يعانون من العذاب كالكي بالحديد وقطع الأعناق بحز الرؤوس حزاً بطيئاً.

وفي مدينة هاليفكس كانوا يأتون بالمسجون وهو موثق اليدين والقدمين فتوضع عنقه تحت آلة قاطعة مدلاة مربوطة إلى السقف بحبل، إذا انقطع سقطت الآلة الحادة على عنق الرجل فمات.

وفي سجن قمة سان ميشيل في فرنسا كان السجناء يدفعون إلى كهوف في بطن الأرض فيها الأفاعي وضروب الحشرات وقد ملئت بالماء الراكد القذر فيموت المسجون موتاً بطيئاً؛ وربما ضرب أو عذب حتى يموت.

اللهو

على أننا نرى من تمام البحث، وقد أوردنا طرفاً من ألوان التعذيب أن نسوق طرفاً من اللهو الذي كان يتمتع به بعض المسجونين في بعض السجون. حدث أبو علي بن مقلة قال (من ظريف ما اتفق لي في نكبتي التي أدنتني من الوزارة، أني أصبحت وأنا محبوس مقيد في حجرة من دار ياقوت أمير فارس. وقد لحقني من الأياس من الفرج وضيق الصدر ما

ص: 34

أقنطني وكاد يغلب على عقلي. وكنت أنا وفلان محبوسين مقيدين في بيت واحد، إلا أنا على سبيل ترفيه وإكرام. فدخل علينا كاتب لياقوت كان كثيراً ما يجيئنا برسالته، فقال الأمير يقرأ عليكما السلام، ويتعرف أخباركما ويعرف عليكما قضاء أي حاجة لكما. فقلت: تقرأ على الأمير السلام وتقول له ضاق والله صدري، واشتهيت أن أشرب على غناء طيب. (قال) والمحبوس معي يخاصمني ويقولك يا هذا، والله ما في قلوبنا فضل لهذا. ثم مضى وعاد يقول: الأمير يقول حباً وكرامة لك، أي وقت شئت! قلت: الساعة، فلم يمض إلا ساعة حتى جاءوا بالطعام والمشام والفاكهة والنبيذ. وصفف المجلس، فجلست والمحبوس معي مقيداً، وقلت له تعال حتى نشرب ونتفاءل بأول صوت يغنى به لنا في هذه الساعة. وجاءت المغنية، وغنتنا غناء طيباً، فقطعنا يومنا بين لهو وشراب وغناء. . .).

وحدث أحمد بن المدبر أنه (لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل وسليمان بن وهب. فجعلت في بيت ثالث. وكنا نتحدث ونأكل جميعاً وربما أدخل إلينا النبيذ فنشرب ونلهو).

مدة السجن

ولم يكن للسجن مدة خاصة، ولم يكن لكل جرم عقوبة ذات أجل معروف. فقد حبس اسحق بن خلف القاتل حتى مات. وهذا ما يشبه السجن مدى الحياة في أيامنا. وسجن يعقوب بن داوود خمسة عشر عاماً. وحبس رجل في كساء بدرهمين سنتين، وسجن أبو نواس ثلاثة أشهر، وأبو دلامة ليلة واحدة، وحبس الرشيد زلزلاً المغني لوجد عليه عشر سنين، وسجن القاهر إحدى عشرة سنة، في حين سجن المتقي في جزيرة بمقابلة السندية خمساً وعشرين سنة. وهذا ما يشبه السجن مع الإبعاد في هذه الأيام.

فأنت ترى أن ليس للسجن أجل محدود وإنما كان الخروج منه منحصراً في سبل خمسة سنذكرها فيما يلي.

الخروج من السجن

أما هذه السبل فهي: (ا) الفرار، (ب) كسر السجن، (ج) موت الخليفة، (د) العفو، (هـ)

ص: 35

حيلة يحتال بها.

ا - الفرار:

أما الفرار فحوادثه كثيرة نسوق إليك منها مثالا. حدث محمد بن القاسم وكان المتوكل قد قبض عليه وسجنه في سجن منفرد قال: كنت أدبر أمري في التخلص منذ حبست. وكان في البيت الذي حبست فيه خلاء إلى الغرفة التي فوقه وخلاء في الغرفة إلى سطحها. وكنت قد أدخلت معي منذ حبست لبداً. فكان وطأتي وفراشي. وكنت أرى (بغرش) وهي قرية من قرى خراسان حبالا تعمل فيها من لبود، كما يفعل بالسيور، فتجيء أحكم شيء. فسولت لي نفسي أن أعمل من اللبد التي تحتي حبلاً. وكان على باب البيت قوم وكلوا بي يخفظونني لا يدخل علىّ منهم أحد؛ وإنما يكلمونني من خلف الباب، ويناولونني من تحته ما أتقومه، فقلت لهم إن أظفاري قد طالت جداً، وقد أصبحت إلى مقراض. فجائني رجل بمقراض وقلت لهم إن في هذا البيت فيراناً يؤذونني ويقذرونني إذا قربوا مني، فاقطعوا لي جريدة من النخل تكون عندي أطردهم بها، فقطعوا لي جريدة من بعض نخل البستان، ورموا بها إلي. فأخذت أضرب بها في البيت وأسمعهم صوتها أياماً. ثم قشرت الخوص عنها، وقطعتها على مقدار ما علمت أنها تعترض في ذلك الخلاء إذا رميت بها. فضممت كل ما قطعته منها بعضه إلى بعض، وقعطت اللبد، وضفرت منه حبلاً على ما كنت أرى يعمل بغرش ثم شددت ما قطعته من الجريدة في رأس الحبل، ثم رميت به في الكوة، وعالجته مراراً حتى اعترض فيها. ثم اعتمدت عليها، وتسلقت إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، وفعلت ذلك أياماً، وشددت القيد مع ساقي. فلما كان ليلة العيد، وقد شغل الناس وانصرف من كان على الباب صعدت بين المغرب والعشاء إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى سطحها، ثم تدليت بالحبل إلى بستان مجاور وفررت. . .).

صلاح الدين المنجد

ص: 36

‌في الريف

غصون الصفصاف

للأستاذ إدوار حنا سعد

هذا لك فاتِن الورقات غض

يرف نضارة ويميس ليناً

تدنى للمياه كأن ثغراً

يقبل أو يهمّ بأن يبينا

فقولي، إن بي شجناً شبيهاً

بأي هوى قديم تهمسينا

وما ألقى إليك الماء سمعاً

يبادلك الحنان ولا جفونا

تتابع غير مكترث وولى

وجفنك مظهر ألماً دفينا

إذا وهب الندى أجراه دمعاً

شجياً في تسلسله سخيناً

فإن هبَّ النسيمُ معطرات

غلائله يمسن ويزدهينا

ومسَّكِ لهفةً وحنا غراماً

وأن بكل ناحيةٍ أنينا

ورقرق في غدائرك النشاوي

مع الهمسات عطر الياسمينا

رعشت للمسه ولويت عطفاً

وعدت إلى نهيرك تهمسينا

فواها للحياة تُعَذَّبينا

بحب خائب وتُعذِبينا

وما أشقى المحبين الحيارى

إذا نكبوا بحب المعرضينا

وقفت إلى جوارك نضوَ همٍ

غريب الدار أبكي الغائبينا

ترفرف ثمَّ أطيار حيارى

ملأن الجو ترجيعاً حزينا

تطالعني الزوارق سابحات

قبيل الأفق تملأه فتونا

يرف بكل سابحة شراع

رفيق الخفق يستهوي العيونا

كأن السابحات إذا تلاقت

حمائمُ قد هبطن ليستقينا

فإن لعبت بها النسمات حيناً

وشتت شملها التيار حينا

تمثل لي شيوخٌ (في مسوح

طوال الردن بيض) راكعينا

وقد رفعوا أكفهم دعاءً

وقد غضوا النواظر خاشعينا

أبنتَ الماءِ ما أوفى بناتٍ

بضفته، وما أوفى البنينا

علوتِ وما شمخت عليه كبرا

فعدت إليه تقضين الديونا

ص: 37

حنوت على وسادته مسجى

وحيداً لا مهدهدَ أو معينا

لمست جبينه الساجي فأصغى

وأشرق وجنةً ورنا عيونا

فهل يرعى حقوق أب نبات

وينساهن بعض العاقلينا

إذا بلغوا رجولتهم وشبوا

تغاضوا عن حقوق الوالدينا

ص: 38

‌غرام.

. .

(أحبك حبين: حب الهوى)

وحباً لأنك لم تخضعين

تزيدين سحراً بطول الدلال

كماء تعايا على الظامئين

غزوت القلوب فما قاومت

ولكن قلبك حصن حصين

أهاجمه في صيال ملح

وأحميه من كل واش ظنين

وإني القنيص الذي تعرفين

وإني المحب الذي تجهلين

عفيف الخلال وإن شتمني

عنيف النضال كنسر طعين

جمال الرجولة أن تستبدَّ

وسحرُ الأنوثة أن تستكين

وما هو ظن ولكنه

يقين الجدود وإرث القرون

تجاريب آدم في خاطري

فيا بنت حواء من تخدعين؟

لبست الدلالَ ولاقيتني

لكي تستزيدي عُرامَ الحنين

فتمشي إلى الحب مأسورة

يثور هواك ويعنو الجبين

وما أعذبَ القنص بعد الصيال

وأحلى اللقا بعد صبر السنين

غرامي طوفان شوق عنيفٍ

فلا تسخري فتظني الظنون

طحت بابن نوحٍ وأودت به

شكوكٌ تمشت بنور اليقين

وقال سآوي إلى قمةٍ

فضلَّ وكان من المغرقين

فإن أكُ داءً فإني الدواء

وإن أكُ ماءً فإني السفين

وإلا فما لك من عاصمٍ

ولا مهربٍ من سمائي الهتون

(الإسكندرية)

إدوار حنا سعد

ص: 39

‌البريد الأدبي

بين ابن الزبير وتوفيق الحكيم:

قرأت في كتاب (محمد) للأستاذ توفيق الحكيم في صفحة 251 قوله:

(يحمي وطيس القتال ويثخن المسلمون أعداءهم قتلا وأسراً وسلباً. ويستلب عبد الله بن الزبير أدراع أحد القتلى ويأسر أمية ابن خلف وابنه).

عبد الله بن الزبير (رافعاً سيفه).

هذا أنت يا أمية بن خلف!. . . الخ.

فعجبت وحق لي أن أعجب فإني لأعلم أن عبد الله بن الزبير كان ابن سنة واحدة يوم غزوة بدر، فكيف استطاع الأستاذ أن يجعل من ابن السنة مارداً يرفع السيف، ويستلب الأدراع، ويأسر الرجال؟

إن الذي أسر أمية بن خلف هو عبد الرحمن بن عوف، وكان صديقاً حميما له في مكة قبل الإسلام، وما شهدت مكة عبد الله بن الزبير بعد.

فأخذت أحقق هذه الواقعة، فلم أجد مؤرخا واحداً، ولا مرجعاً واحداً قد ذكر ما ذكره الأستاذ فأسفت فقد كنت أود أن أجد للأستاذ مخرجا، وهاك ما أورده الطبري في حادثة أسر أمية بن خلف:

(. . . عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبوك، فأقول: نعم. فيقول فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه فقلت اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت قال: فأنت عبد الإله. قلت: نعم فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجيبه، فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي بن أمية آخذاً بيده ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها فلما رآني قال: يا عبد عمرو، فلم أجب فقال: يا عبد الإله، قلت: نعم، قال: هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك، قال قلت: نعم هلم إذا، قال: فطرحت الأدرع من يدي وأخذت بيده ويد ابنه علي وهو يقول: ما

ص: 40

رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن. قال ثم خرجت أمشي بهما).

من هذا يتضح أن عبد الله بن الزبير قد ولد في السنة الأولى وأن غزوة بدر قد وقعت في السنة الثانية، وأن عبد الرحمن بن عوف هو الذي أسر أمية بن خلف. لذلك لزم التنبيه حتى إذا ما فكر الأستاذ في إعادة طبع كتابه القيم، عمل على إعادة ابن الزبير إلى مهده، واستل منه سيفه الذي رفعه قبل أوانه.

عبد الحميد جودة السحار

خطأ تاريخي في كتاب (على ضفاف دجلة والفرات):

قرأت في كتاب (على ضفاف دجلة والفرات) لمؤلفه الأستاذ طاهر الطناحي قوله:

(وكانت الشيعة قد بايعت محمد بن علي بن الحسين المعروف بابن الحنفية على طلب الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي عنها لمعاوية ابن أبي سفيان سنة 41 هجرية).

فوجدت فيه خطأين تاريخيين هما:

(1)

إن محمد المعروف بابن الحنفية لم يكن ابن علي بن الحسين. بل هو ابن علي بن أبي طالب (ع) نفساً وأخو الحسين بن علي بن أبي طالب لأبيه.

(2)

لم تكن الشيعة قد بايعته ألبته في زمن الحسن بن علي بعد تنازله عن الخلافة بل بايعت أخاه الحسين بعد وفاته وإذا نزلنا على قول المؤلف فعلي بن الحسين لم نعهد له ولداً في ذلك الوقت بل لم يكن متزوجاً وإنما كان عمره لا يتجاوز الثلاث سنوات.

(الكويت)

عبد الصمد تركي الجعفري

توقيع عبد الله بن طاهر

في العدد 640 من مجلة (الرسالة) الغراء لخاتمة المحققين، وأديب العربية - غير مدافع - في فلسطين، وأحد أفذاذها في العالم العربي الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي أمد الله في عمره ونفعنا به، ما يلي:

قال الزمخشري في شرح مقاماته: (ومن توقيعات عبد الله ابن طاهر فيما سمعته من أبي

ص: 41

غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك، فاخش فاحش فعلك، فلعلك بهذا تهدأ.

أقول: يغلب على الظن أن هذه (الرسالة) من وضع علماء البديع، فهم يقدمونها مثلا للجناس المصحف الذي تماثل ركناه وضعاً واختلفا نقطاً بحيث لو زال إعجام أحدهما لم يتميز من الآخر، وفي اختلاف نسبتها إلى واضعها دليل على هذا، والراجح أن واضعها ذهب في وصفها إلى ذكر ستة جناسات مصحفات لا أربعة، وكتابتها على هذا تكون على الوجه التالي

(غرّك عزك فصار قصار ذلك ذلك فاخش فاحش فعلك، فعلك بهذا تهدأ) مستبدلا بكلمة (فلعلك): (فعلك) وبكلمة (تهدأ) كلمة (تهدا) دون همز، تحقيقاً لما ذهب إليه واضعها من الجناس المصحف

وفي كلمة الأستاذ الجليل نفسها تحقيق في (حركة)(الشغب) قال: (والفتح لغة وليس بخطأ كما قال الحريري في (الدرة)، وليس هو من كلام العامة كما ذكر ابن الأثير في (النهاية).

أقول: شيخ أدباء القدس اليوم من أعظم أساطين اللغة والأدب تعلقاً بشيخ المعرة وفيلسوفها في الأسى، وهو من أكثرهم ارتياحاً لآرائه وأبحاثه وتحقيقاته، وأنا - على هذا - مورد ما ذكره فيلسوف المعرة في (الشغب) هذا

جاء في كتاب (عبث الوليد) - وهو ما علقه أبو العلاء على ديوان الشاعر المطبوع أبي عبادة البحتري - في أثناء تعليقه على قصيدته التي مدح بها أبا عيسى بن صاعد، والتي مطلعها:

كيف به والزمان يهرب به

ماضي شباب أغذذت في طلبه

والتي منها:

إحاطة بالصواب تومن من

لجاجة في المجال أو شغبه

قال رحمه الله:

(الاختيار عند أصحاب النقل الشغب بسكون الغين كما قال:

لقعقعة المفاتيح في رائد الضحى

أحب إليكم من طعان ذوى الشَغَبِ

وقد جاء شغب في بعض الكلام، وقد شهر القول في أن الثلاثي، إذا كان أوسطه حرفاً من حروف الحلق الستة أجاز الكوفيين فيه التحريك والإسكان)

ص: 42

قلت: وابن جنى يرى في خصائصه هذا ولا يستثنى

ولما كان (الشغب) من خصائص (الشعب) وتصحيفه حار في أمره العلماء وأرباب الفكر، فرأوا أن (التسكين) ألزم من (الحركة) في هذا المعنى، حتى ولو كان فيه استثقال في اللفظ والمبنى - والفتحة أخف الحركات - ولم يحركه إلا أهل الكوفة وليس بينهم في الشعب ملتب، وجلهم على السياسة والدولة شغب قبل أن يكون على اللغة والنحو شغابا، فقد خذلوا علياً (كرم الله وجهه) وغرروا بأبنائه من بعده قبل أن يودوا بواضع (الكتاب) سيبويه

(فلسطين)

رامز فاخرة

أستاذ الأدب العربي في مدرسة غزة الثانوية

ص: 43

‌القصص

(عبث لطيف)

مسرحية في فصل واحد

للقصصي نويل كوارد

للأستاذ أحمد فتحي عبد التواب

(ترفع الستار والمسرح مظلم. وتسمع أصوات، ثم يدخل شاب تتبعه فتاة، يضيء الشاب الأنوار فيظهر كرسي ومائدة وأريكة ومكتبة بها كتب ودولاب وغير ذلك. . . ثم بقايا نار متأججة في المدفأة).

هو: ألا تتفضلين بالجلوس؟

هي: نعم أشكرك. (تدنو متباطئة ثم تجلس على الأريكة وتخلع معطفها)

- (بعد لحظة صمت): حقا إن الجو قارس للغاية.

- (بجهد): أليس كذلك؟ إن الإنسان يحس الخريف في الهواء.

- نعم، هكذا يشعر الإنسان. (لحظة انتظار أخرى)

- (بازدراء): إنني أحب لندن في الخريف.

- (بنفس الازدراء): وأنا أيضا.

- إنها تكون غاية في الكآبة.

- نعم، نعم، غاية في الكآبة - هكذا تكون.

- كم الساعة الآن.

- (ناظرا إلى ساعته): الثانية عشرة ونصف.

- الوقت متأخر، أليس كذلك؟

- متأخر جدا.

- ما أجمل هذه الغرفة!!

- نعم، أعني، هل ترينها كذلك؟

- أوه، نعم، إنها جميلة وفي غاية الأناقة والترتيب.

ص: 44

- إن ذلك ليسرني.

- (تقف): وكتب أيضا!! أتقرأ كثيراً؟

- بين الفينة والفينة، أعني - أحيانا.

- (تقترب من المكتبة): كتب جميلة، ولا سيما ذلك الكتاب

- أي كتاب تعنينه؟

- ذاك: سترندبرج

- أوه، سترندبرج، إنه خامد العزيمة متشائم، أليس كذلك؟

- نعم، ولكن الحياة - الحياة الحقيقية دائما - ليست عاطفة مزيفة و. . . و. . . ونفاق.

- أوه، لا لا. وفي الحقيقة إنني لم أقرأ له كثيرا. وهذا المسكين ليس لي في الواقع وإنما استعرته فقط.

- هذا ما يبدو لي (تجلس ثانية).

- لم يمض على إقامتي في هذا المسكن طويل وقت.

- إنه في وسط المدينة.

- نعم. هو كذلك (بعد سكوت قليل) ألا تشربين شيئا؟

- (بسرعة): أوه، لا، أشكرك (تصلح من شأنها) إنه. . . عسى. . . (بتصميم) نعم، أشرب.

- أخشى ألا يوجد غير الويسكي والصودا. (يتوجه نحو المائدة)

- (بلا تكلف): وسكي وصودا!!

- نعم، ألا توافقين؟

- نعم، بكل تأكيد.

- متى شربتيه من قبل؟

- (بسرعة): لم أشربه كثيرا. . . قليلا جدا. . . الآن. . . في ذلك الكفاية.

- (مقدما إليها الكأس عديم اللون تقريبا): إنه ضعيف للغاية

- (مغمضة عينيها ورادة له الكأس) إذن. زده قليلا من الويسكي.

- (مأخوذاً بحدتها المفاجئة) أوه، حسن جدا، لك ما تريدين

ص: 45

- (تتناول الكأس) شكراً لك. . . (ترتشف المشروب) أوه، يا عزيزي!!

- ما هذا؟

- لا شيء.

(ولا يلحظ رجفة الامتعاض حينما تشرب الويسكي)

- (يجلس بجوارها على الأريكة): لقد كان مضحكا أن أقابلك هكذا.

- (بضحكة عصبية): نعم، أليس كذلك؟

- أقسم إنني رأيتك قبل ذلك في مكان ما.

- لست موافقة لك على هذا.

- من الحماقة أن تفعلي. اسمعي، إنني. . .

- (قافزة صوب الباب) ماذا؟

- أوه، لاشيء.

- (بعد صمت قصير): يسرني ألا تنسى ذلك.

- نعم.

- (غاضة بصرها) أوه، لاشيء.

- (بغتة): لا فائدة، لا يمكني. . .

- لا يمكنك ماذا؟

- لا يمكني أن أذهب معك أكثر من هذا (بحدة) اسمعي، لا يهمني ما تظنينه بي، لاشك أنك تضحكين مني طول الوقت. . . ولكن هذا لا يعنيني. . . أعني. . . أسمعي. . . ألا ترحلين!

- (ويدها فوق جبهتها) أتعني؟. . . أوه، يا عزيزي (تسقط بين ذراعيه مغشيا عليها).

- يا إلهي (يروح لها) إنه مخيف. . . مخيف!! تنبهي، بحق السماء. . . أوه، إنه مرعب! (يسندها بوسادة).

- (تفتح عينيها) أوه، ماذا صنعت؟

- أغمي عليك.

- (تنفجر باكية): أوه مخيف. . . مرعب. . .!

ص: 46

(تعتدل على حافة الأريكة وتدفن رأسها بين ذراعيها).

- أريد أن أقول، لم كل هذا؟ ما قصدت أن أكون فظاً. . . أقولها مخلصا. . .

- (متنهد): يا للعار. . . يا للعار. . .

- اشربي هذا (يقدم لها كأسها التي لم تتذوقها بعد)

- (دافعة الكأس بعيداً): خذها بعيدا، إنها تتعبني.

- حسن جدا، أريد أن أقول - بكل أسف. . . أرجوك أن تكفي عن الصراخ.

- اتركني وحيدة. . . دقيقة واحدة.

وبعدها أكون على ما يرام. (تجلس)

- إنني وحش.

- لست كذلك. . . شكراً لله (تقف) يجب أن أرحل حالا.

- أين تسكنين؟ - في كنسنجتن.

- سأوصلك حتى المنزل.

- أوه، لا، أرجوك لا. . . ليس من الضروري. . .

- سأحضر لك سيارة أجرة، إذن.

- حسن. . . أشكرك.

- انتظري هنا (يذهب صوب الباب)

- قف.

- (بفزع): ماذا حدث؟

- من فضلك تعال واجلس برهة. . . أريد أن أقول لك شيئا.

- ولكن. . .

- أرجوك. . . سأفعل حقا. . . وبقولي الصدق سأخفف من شعورك بقسوتك. . .

- يهمني ألا أراك تعسة.

- (بحدة) تعسة!! إنني يائسة. . . يا للعار الأليم. . . ألا أملك ذخيرة من الكلمات أعبر بها عن ازدرائي الكلي من نفسي.

- لم أفهم!!

ص: 47

- أنا، لست كما ظننت أن أكون بتاتا.

- (مرتبكا): لقد تغير ظني بعد الدقائق القليلة الأولى.

- ولهذا طلبت مني الخروج؟

- لا، ليس هذا بالضبط. أعني. . .

- أوه، أشكرك كثيرا. . . إنك عزيز. . . إنه من حسن حظي. . . إنني. . .

- أقول. . . من فضلك. . .

- (مستجمعة قواها). حسن جدا. . . سوف لا أصرخ مرة أخرى. . . يجب أن تعتقد أنني حمقاء. . . إنني. . . أسوأ من هذا بكثير. أصغ إلي، إنني، بالضبط، فتاة عادية. . . أسكن في رتلاندجيت مع عمتي، أذهب إلى الملاهي وأراقص وأتريض في الحدائق وأساعد في جمع الإحسان للمعوزين. . .

- ولكنني. . .

- لا تؤخذ هكذا. . . فمما يزيد الأمر صعوبة أن أخبرك بكل شيء. . .

إن مشكلة المرأة في العصر الحديث، وحياتي المعقدة الكليلة التي أحياها - حياة المرأة على العموم - دفعاني إلى قراءة مقدار وافر مما أنتجه جميع الكتاب المحدثين تقريبا. قرأت الرسائل والأبحاث التي تعالج شئون المرأة وتبحث في المسائل الجنسية الحادة فشغلت نفسي، وأهمني هذا السؤال:

لم لا يكون للنساء من فرص التجارب ما للرجال؟؟ فيحيون حياتهم. . . ولا يخفى عليك ما أقصده طبعا، وكنت أعتقد أنني فتاة عصرية ماهرة أتمتع بالحرية المطلقة، وعواطفي واضحة ولو أنها خامدة. . . تأملني. . . تأملني. . . (تضحك ضحكة هستيرية)

ولقد رحلت عمتي أول من أمس إلى بورنموث لقضاء أسبوع وقد قررت أن أقوم بتجربتي. . . لأرى الحياة. . . الحياة الحقيقية العملية. . . في الأحياء المغلقة. . . فالشباب من الرجال مسموح لهم بالخروج أينما شاءوا ليمتعوا أنفسهم. . . فلم لا يتاح للشابات الفرص نفسها؟؟

خرجت بالأمس وقصدت الملهى وحيدة، وعزمت - بجسارة ملحة - على أن أعود إلى المنزل مشيا على الأقدام، ولكن انهمر المطر غزيراً فأسرعت إلى السيارة حيث آويت إلى

ص: 48

الفراش مباشرة

والليلة أكدت العزم. فتناولت غذائي وحيدة في مطعم بشارع أكسفورد، ثم سرت في ميدان بيكادللي فهايماركت ثم على الشاطئ حيث عدت إلى ميدان ليستر، وجلست على كرسي وسط الحديقة الصغيرة حتى أقبل رجل سكران قذر وجلس بجواري، فقمت وعاودت المسير متأملة الناس أجمعين. . . مئات بعد مئات منهم. . . يتدفقون خروجاً من الملاهي ويزحمون الأفاريز. . . فكان في الواقع شعوراً مثيراً. . . ولا تستطيع إدراك هذا الأمر - كما أعلم - لأنك رجل قضيت حياتك غير مراقب ولا مدلل. . . بل شجعت على أن تكون طليقاً حراً. . . ولكن بالنسبة لي فقد هزني ذلك الأمر. وكنت وحيدة سيدة نفسي إطلاقا. . . وأدركت مبلغ جهدي وتعبي، فعرجت على أحد المشارب وتناولت فنجاناً من الشكولاته. وكان يشغل المائدة المجاورة لي سيدتان مزعجتان وشاب عليه سيماء المجد وقد بدأتا تعاركانه، ولو أن ما قالتاه له كان من البذاءة بمكان إلا أنه كان مضحكا للغاية، وفي النهاية خرجوا جميعاً وهم يتشاتمون كالمعتاد!! عندئذ خرجت ثانية وقد تبدل كل شيء، فقد اختفى الزحام وهدأت حركة المرور اللهم إلا بضع سيارات تجري مسرعة، فأسرعت الخطى - لأنني رأيت النساء حولي يتلكأن - قاصدة بيكاديللي. ولم أكد أحاذي بيركلاي حتى انفجر أحد المصابيح المعلقة في وسط الشارع فأزعجني وراعني انفجاره المفاجئ فضحكت من نفسي وابتدأت أقلل من سرعتي وأخذت أراقب كل شيء حولي،. . . فوجوه الناس من أغرب وأدهش ما لاحظت. . . ثم. . . ثم. . . أوه يا عزيزي (تسبل جفونها متخيلة لمدة دقيقة) ثم ابتسم لي رجل، وظننت لأول وهلة أنني أعرفه، فتلفت حولي ولكنه بقى واقفاً مكانه، ثم أخذ يتأثرني، فأسرعت دقات قلبي وحاولت أن أستجمع شتات أعصابي النافرة عسى أن تخمد وألتمس في هدوء نفسي طريق الخلاص، ولكنني عجزت، وعلى غير وعي مني جريت إلى الجانب الآخر من الشارع، ومن المؤكد أنه سخر مني، وفي شارع كرزن أخذت ألوم نفسي بعد أن استجمعت قواي. . . لقد كنت جبانة. . . ضعيفة. . . غبية. . . وعلى ذلك، وزيادة في معاقبة نفسي من أجل فقدانها الشجاعة والإقدام لا من أجل شيء آخر، فكرت أن أستسلم لأي رجل كان. . . أوه، أنا أعلم أنه شيء مهين حقير. . . لا تنظر إلي هكذا. . . ولكن تذكر أن هذا كان نتيجة دراسة الشهور بل السنين الطويلة

ص: 49

للآداب العصرية، فرغبت في تجربة الحياة، ولم أكن أخشى على نفسي من شيء. . . فإنني قادرة كل القدرة على صيانة عفافي. . . وإنما أردت الاستطلاع ليس غير. . . وعندما قابلتك في شارع داون كانت ثورة العزم مالئة جوانحي، أوه يا عزيزي. . . أليس كل هذا مخيفاً؟ (تتنهد) إنه مرعب للغاية حتى لأن يقال. . .

- اسمعي، إنها لم تكن - كما تعلمين. . . ولن أفوه بكلمة.

- أعلم أنه لا يمكنك. . . ولكن. . . أشعر أنه لا يمكنني أن أنفي العار عن هذه التجربة.

- لا عار قط.

- كم أتمنى أن ألجأ إلى دير، هذه اللحظة مباشرة.

- إنك تفكرين في الأمر على أنه محزن بينما هو مضحك - حينما تحللينه.

- عندما أتزوج ويتقدم بي العمر أستعيد ذكراها على أنها كانت فكاهة، ولكن إلى ذلك الوقت، سأخر راكعة على ركبتي كلما فكرت فيها.

- لم أزر لندن وحيداً حتى هذا الأسبوع. . . وطلب مني أحد الأصدقاء أن أقيم هنا في هذا الطابق وتركني منفرداً وذهب لقضاء بعض شئونه.

- هل هذا صحيح. . . حقاً

- نعم. . . ولهذا السبب طلبت منك في المبدأ أن تخرجي. . . لأنني خفت الفساد.

- أحقاً ما تقول؟

- نعم. . . بكل تأكيد، فقد ظننت أنك تضحكين مني وتهزئين بي.

- أهزأ. . . يا إله السماء!!

- نعم. . . أليس من الحمق أن يخشى المرء دائماً أن يكون موضع سخرية؟ والواقع أنه قلما يحدث هذا.

- أقل من أي شيء.

- جميع أصدقائي يقولون مثل هذا عندما يقضون أوقات الخلاعة والسرور بالمدينة. . . كما تعلمين

- نعم.

- أفكر في نفسي، إنها لفرصة عجيبة، أن أبقى وحيداً. . . وكل شيء. . .

ص: 50

- تماما مثلما أفكر.

- نعم بالضبط.

- كم عمرك؟

- واحد وثلاثون عاما.

- وأنا أيضاً.

- إنني جد آسف إن كنت قد أقلقتك وسببت لك الفزع.

- لقد كنت شفوقا وحريصاً منصفاً. ولست أدري؟ ماذا كنت أفعل لو كنت مع غيرك.

- وأنا أيضاً، لست أدري.

- كم أود أن تريق هذا الويسكي. . . فإنني أكره حتى رائحته.

- لست مولعاً به. . . ألا نجهز شاياً؟

- لا. بل يجب أن أذهب الآن. . . حقيقة. . .

- إن هذا ليسرني. . . أمتأكدة أنت؟

نعم كل التأكيد. . . يجب أن أذهب.

- حسن (يذهب إلى النافذة) لابد أن تكون مركبة في الموقف. ما هذا؛ إن المطر ينهمر. . .

- أوه!! ألا ترى مركبة هناك؟

- (ينظر من خلال زجاج النافذة): لا. . . من سوء الحظ. . .

- سأجد واحدة سريعا.

- لا - اسمعي - انتظري قليلا حتى ينقطع المطر. ويمكننا تناول الشاي بعد كل هذا. . .

- ولكن. . . ولكن. . .

- نحن أصدقاء. . . ألسنا كذلك؟ (ويمد يده)

- نعم - حسن - منذ فترة وجيزة. (يتصافحان)

- الأفضل أن تخلعي معطفك ثانية.

- حسن. (يساعدها في خلع المعطف ويضعه على الكرسي)

- والآن فلنجهز الشاي

ص: 51

- أين الغلاية؟

- في المطبخ. سأذهب وأملؤها ونستطيع أن نغليها هنا، فالنار في المدفأة كافية. ويمكنك أن تخرجي فنجانين من الدولاب وكذلك بعض البسكويت.

- حسن

(يخرج فتأخذ من الدولاب فنجانين وبعض البسكويت وتضعها على المنضدة).

- (من الخارج): كم ملعقة من الشاي أضعها في الوعاء؟

- (متجهة نحو الباب): أثنين ونصف كما أعتقد.

- حسن. (تذهب نحو المدفأة وتحرك النار. ويدخل حاملا صينية صغيرة عليها غلاية ووعاء للشاي)

لم أضع ماءً كثيراً في الغلاية حتى يغلي بسرعة (يضع الغلاية على النار)

- والآن علينا أن نأخذ أنفسنا بالصبر (تجلس على الأريكة)

- يمكننا أن لا نلقي بالاً إليها حتى لو غلت.

- نعم، أعتقد أن تلك هي الطريقة الوحيدة.

- ما اسمك؟

- (مترددة) أوه. . .

- (بسرعة) آسف جداً. . . لقد نسيت. . . إذا كان حرياً بك تبدئيني بالسؤال. . . اسمي هج لومبارد.

- واسمي ماري جيفون.

- إنه اسم جميل.

- أفكر دائما في أنه اسم إنجليزي فاتر. . . ولكنه على ما ترى جميل. . .

- أوه، وقد دفعني إلى حبه كونه إنجليزياً.

- وأخيراً، يتلهف قلبي على شيء أجنبي. . .

- أثراً بعيداً أحدثته الآداب العصرية في الشباب.

- والآن، لا تهزأ بي. . .

- آسف.

ص: 52

- أنت تعلم من نكون، أليس كذلك؟

- لا، من؟

- إننا ضحايا التمدين.

- أنحن هكذا؟

- نعم، إننا ضحايا - ولو أننا - في الحقيقة متوسطا التفكير عاديان، إلا أننا غصنا إلى الأعماق، ولكن كلامنا حاول بمشقة جاهدة أن يحافظ على الأمان والسلام وسط هذه الحياة العصرية. فإن كنا قد تمادينا قليلا لكنا قد أجهزنا على فضيلتنا الحقيقية.

- أرى أنك جد ماهرة

- (فجأة) أوه، إياك. . . إياك. . .

- إياي، ماذا؟

- إياك أن تقودني إلى الزلل. . . سوف تقوض كل ما أسديته لي من معروف!

- المعروف الذي قمت به؟؟ عما ذا تتكلمين؟

- لقد فعلت كل طيبة في العالم نحوي. . . إنك أمين كل الأمانة. . . ولطيف. . . وفي الحقيقة لم أهز شعورك بقدر ما هزه اسمي

- لست أرى أي إحسان في هذا؟

- لقد أنقذتني من نفسي - التي تدوي في عواطفي الفائرة - ولكنها في الحقيقة الكاملة.

- وهذا عين ما فعلته نحوي - لقد جعلتني أحس العار من نفسي - ولا سيما حينما صرخت.

- إنني مسرورة.

- وكذلك أنا. . . ولم سألتني ألا أقودك إلى الزلل؟

- (بخبث) لأنني كنت ماهرة. . . وكنت مفكرة عصرية.

- لا، لم تكوني كذلك. . . ولكنك كنت جميلة.

- لا تكن أحمق.

- ولكنك كنت. . . إنه مخيف. . .

- (بحدة) لا تعد إليها مرة أخرى. . . مطلقاً، مطلقاً، إياك

ص: 53

- إياي أن أعود لماذا؟

- من الآن فصاعداً سأكون على حقيقتي - نفسي الحقيقية - لا أن أكون نسخة من شلسي.

- وأنا أيضاً. . . لن أكون بعد الآن صورة لابن المدينة الشاب

- يا للبلهاء!!

- لقد طرأت علي فكرة. . .

- وما هي. . .؟

- أصغي إلي. . . لم لا نكون. . .

- الماء يغلي.

- أوه. . . (ينهض) لا. . . لم يغل بعد.

- رأيت بعض البخار يتصاعد من الغلاية.

- قليلا جداً. حينما يتصبب الماء يكون قد تم غليانه. . .

- ماذا كنت تريد أن تقول؟

- سوف لا أقولها. . . بعد ذلك. . .

- ولمه؟

- أخشى أن أهدم ما بنيت.

- أوه!! (يصمتان قليلا)

- ألم ينقطع هطول المطر؟ (تنهض وتتوجه إلى النافذة).

- ألا تزال السماء تمطر؟

- ليست من السوء كما كانت - ومن العسير أن نحكم ونحن هنا - وإنما يمكن المرء أن يبدي رأيه مما يرى من أوحال.

- (يقترب من النافذة بجوارها) ألا تلمع الأفاريز كالزجاج.

- حقاً، بالضبط. . . وإذا نظرت من الركن قليلا أمكنك أن تلمح المتنزه (تلصق وجهها بالزجاج).

- نعم، إن قربه مما يزيد البهجة. . .

- من أي جهات الريف قدمت؟

ص: 54

- من أجام كنت. . .

- لا!!

- ولماذا؟

- إنني خبيرة بتلك الجهة. . . بين راي وفولكستون. . .

- بالضبط. . . إيفيتشيرش. . . إن منزلي لبالقرب من إيفيتشيرش.

- ما أحبها إلى نفسي. . . بل ما أبهج شميم البحر، ورؤية الآجام وحواجز الماء والفضاء هناك.

- كم أنا سعيد لأنك تعرفينها. . . وتحبينها. . .

- انظر. حقاً. إن الماء يغلي الآن.

- تعالي وامسكي وعاء الشاي.

(يتقدمان معاً بجوار النار. ويجهزان الشاي ثم يضعان وعاء الشاي على الصينية).

لنشرب الشاي ونحن جلوس على الأريكة. . . ويمكننا أن نضع الصينية على ركبتينا.

- حسن. سأجلس هنا. . . ناولنيها. . .

- جميل. البسكويت أولا. . .

(يضع الوعاء على الأرض بجوار أقدامها، ثم يعطيها الصينية ويجلس بجوارها)

- كن على حذر.

- أليست جلسة مريحة!!

- في الحقيقة لم تستقر بعد. . . ولكن لا بأس. (تصب الشاي)

- أظن أنني لم أحب إنسانا مثل هذا الحب. . . وبهذه السرعة. . . من قبل.

- ما هذا الهراء!!. . . أتريد سكرا؟

- نعم، من فضلك. . . قطعتين.

- كان يخيل إلي منذ بضعة أشهر أنني أفضل الشاي ممزوجا باللميون. . . بدلا من اللبن.

- روسية صميمة. . . كما يظهر!!

- (مقهقهة): بالضبط.

- إنني أود في الحقيقة أن أقول لك شيئا هاماً. . . ولكنك تمنعينني.

ص: 55

- أعرف ذلك.

- ماذا. . .؟

- لنفس الأسباب التي قلتها. . . سوف تهدم كل شيء. . .

- لا. . . لم أفكر في هذا. . .

- دون أن تلجئنا إلى المجازفة، بعد؟

- (بكآبة): لك ذلك. . . (يرتشفان الشاي في هدوء)

- ماذا تعمل؟

- ماذا تقصدين؟

- أعني ما صناعتك؟

- إنني مهيأ لأن أكون جنديا.

- أوه. . .

- أسوأ ما في الموضوع. . . إذ معنى ذلك الهند. . .

- أوه، ما أعجب حياة هذا الصنف من الجنود.

- نعم. . . الحياة وسط الأبهاء الفسيحة، والمراوح المعلقة في الأسقف وهي تتماوج، وصليل الثلج في الكؤوس، والنساء الجميلات اللائى يتأودن في مشيتهن كالهررة مرتديات أثوابهن البراقة اللامعة. . .

- وارتداء السراويل (البنطلونات) البيضاء النظيفة ولعبة البولو والمفاجآت الشعبية والمحاورات التي تهز الشعور. . . ألا ما أحب كل أولئك إلى نفسي!!!

- أتظنين أنك تحبينها؟

- أي نعم. . . ولو أنها في البداية. . . تبدو غريبة. . .

- كم يسرني أنك لم تكرهي الفكرة. . .

- كم الساعة الآن؟

- (واضعا فنجانه): لم يتأخر الوقت. . . انظري. . . (يريها ساعته)

- (تضع فنجانها بشدة فتسمع فرقعته) يجب أن أذهب الآن. . . حالا. . . يجب أن أذهب.

- أوه. . .

ص: 56

- حتى ولو كانت تمطر سيولا جارفة. . . (تتوجه نحو النافذة)

- بودي أن تنتظري بعض الوقت.

- من الحمق أن أتمهل في الخروج. . . فأنني أحس تعبا مضنيا، كما أعتقد أنك تعب أيضا. . . ويجب أن ننام ونستريح. وقد سكن المطر تماما. . . وأرى عربة منتظرة هناك. . .

- فلتذهب تلك العربة إلى الجحيم!

- والآن.

- رغبت أن أرافقك في المسير حتى تجد أخرى.

- يمكنك أن توصلني إلى الخارج.

- حسن.

- ساعدني على ارتداء معطفي.

- لك ذلك.

(يساعدها على ارتداء معطفها. . . ثم يأخذها بين يديه)

كم أنا مدين لك بالشكر. . . على هذه الفترة السعيدة. . .

- حقا، ما أسعدني بها. . .

- دعيني أعبر لك. . . الآن.

- عما ذا؟

- أتقبلينني زوجاً؟

- لا تكن أحمق.

- لست أحمق. وإنما أعني ما أقول.

- لم يختبر كل منا الآخر.

- بالعكس. . . فقد خبر كل منا الآخر كل الاختبار.

- كلا. . . لم يكن الوقت فسيحاً.

- لقد تولهت بك. . .

- كلا. . . بالتأكيد كلا. . . إذ لا يمكنك. . .

ص: 57

- ولمه؟

- لست أدري.

- أتحاولين؟

- (تطرق) ك إياك. . . وإلا فسأصرخ ثانية.

- ما أعزك إلى قلبي.

(يضمها إلى صدره ويهوي على شفتيها تقبيلا).

- (مرتجفة): والآن كادت تسقط قبعتي.

(يخرجان معاً وهو يحوطها بذراعه بحنان)

ستار. . .

احمد فتحي عبد التواب

ص: 58