الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 644
- بتاريخ: 05 - 11 - 1945
نكبة فلسطين
في أيدي العرب سلاح ماض
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
نكبت السياسة البريطانية فلسطين على الخصوص، وبلاد العرب على العموم بوعد بلفور في إبان الحرب العالمية الماضية، ولم تحفل بالعهود والمواثيق التي أعطتها للمرحوم الملك حسين. وما كانت ثورة الملك حسين رحمه الله لتحرير الحجاز وحده، ولو أن هذا كان كل ما يبغي، لاكتفى بحصار الحامية التركية في المدينة، ولما كانت به حاجة إلى تسيير جيش كبير بقيادة ابنه الأمير فيصل (الملك فيصل فيما بعد) لم يزل يسير من نصر إلى نصر حتى دخل دمشق.
وقد ظهر من الصور الشمسية للمكاتبات التي تبودلت بين الملك حسين والسير هنري مكماهون المندوب السامي يومئذ في مَصر - وقد وزعتها وزارة الخارجية البريطانية على الوفود العربية في مؤتمر لندن الذي عقد في سنة 1938 من أجل فلسطين، أن الملك حسين طالب باستقلال العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق وشبه جزيرة العرب، وقد أجيب إلى ما طلب، في تحرز كان المراد منه إرضاء مطامع فرنسا في لبنان ليس إلا، أما فلسطين فلم يرد عليها أي تحفظ، ومع ذلك لم تحجم السياسة البريطانية عن وعد بلفور المشهور! ثم جاء الانتداب البريطاني على فلسطين في أعقاب الحرب مباشرة، فأبى الملك حسين كل الإباء أن يعترف به، فكان هذا من أسباب تغيّر القلوب عليه في بريطانيا.
على أن وعد بلفور، على ما فيه من نكث بالعهود، ليس فيه أكثر من إقامة وطن قومي للصهيونية (في) فلسطين. ولم يكن مقصوداً به قط أن يجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وغير أن الصهيونيين الذين حاولوا أن يدركوا غايتهم في العهد العثماني وأخفقوا، أرادوا أن يكون وعد بلفور خطوة أولى في سبيل الغاية التي كان يضمرونها، وهي اجتياح فلسطين والاستئثار بها دون العرب، ولو أن كل ما يبغون هو إنشاء الوطن القومي لقنعوا بما تم لهم من سنوات، فقد أنشئ الوطن القومي، وانتهى الأمر، ولكنهم أبوا أن يقنعوا عند هذا الحد، فجاءوا بالمهاجرين سراً وعلانية، وراحوا يتوسعون في شراء الأراضي ويخرجون منها العرب، فثار العرب ثورتهم المشهورتين حتى كانت سنة 1938
فدعت بريطانيا إلى عقد مؤتمر مزدوج - أو مؤتمر على الأصح، واحد بينها وبين ممثلي فلسطين والعراق والدولة السعودية ومصر، وآخر بينها وبين ممثلي الصهيونيين. وعقد المؤتمران في وقت واحد ولكن في مكانين مختلفين. وحاول ممثلو بريطانيا في هذا المؤتمر أن يهتدوا إلى وسيلة للتوفيق بين الفريقين وإيجاد قاعدة للتعاون، فتعذر ذلك، فرأت بريطانيا أن تصدر كتاباً أبيض مبيناً لسياستها، وكان من قواعد هذه السياسة تحديد الهجرة الصهيونية في خمس سنوات، بحيث لا يتجاوز عدد اليهود في فلسطين ثلث السكان جميعاً أي نصف عدد العرب، وأن يخطر بيع الأراضي في مناطق، ويباح في مناطق، ويجوز في مناطق أخرى بإذن من المندوب السامي. ورأى العرب أن في هذا بعض دواعي الاطمئنان فتقبلوا هذه السياسة الوقتية إلى أن يتسنى الفصل في القضية على وجه حاسم. ثم كانت الحرب، فأخلد العرب إلى السكينة حتى تضع أوزارها.
ولكن الصهيونيين لا يسكنون ولا يكفون عن السعي، لأن لهم غاية أبعد من مجرد الوطن القومي الذي فازوا به، وهي أن يستولوا على فلسطين كلها ويخرجوا العرب منها، ويقيموا لأنفسهم فيها دولة. وحتى هذه ليست إلا خطوة ثانية في سبيل غرض أكبر وأعظم، فقد صرح مندوبوهم في المؤتمر الصهيوني الذي عقدوه منذ بضعة شهور في لندن، بأن الشرق الأوسط كله (مجال حيوي لهم) كما كان هتلر يقول إن شرقي أوربة وجنوبها الشرقي (مجال حيوي) للرايخ الثالث.
فالبلاد العربية كلها - لا فلسطين بمجردها - مهددة بالاجتياح والاستعباد والاقتصاد والسياسي إذا نجح الصهيونيون في إقامة دولة لهم. ومن هنا كان إجماع البلاد العربية على الحيلولة دون قيام هذه الدولة، دفاعاً واجباً عن الذات.
ولسنا ندري هل اليهود جميعاً صهيونيون، أو أن الصهيونيين جماعة منهم ليس إلا كما يزعم البعض، وإنما الذي ندريه أن الصهيونيين يملكون كل وسائل الدعاية، وإذا كان هناك يهود غير صهيونيين فإننا لا نكاد نسمع لهم صوتاً، على أن هذا التمييز لا قيمة له، والمهم أن الصهيونية قد استطاعت أن تحمل رئيس جمهورية الولايات المتحدة على مناصرتها، فطلب من بريطانيا أن تأذن في الهجرة لمائة ألف يهودي في ألمانيا، كان أكثر من مائة مليون في أوربة يعانون الفاقة والمرض لا يستحقون مثل هذا العطف. ثم إن المهم أن
بريطانيا حائرة بين إرضاء أمريكا وإرضاء العرب، وهي لا تستغني عن أمريكا، ولا يوافقها أن تغضب العرب عليها، فإن بها حاجة إلى أسواقهم وبها حاجة إلى معونتهم إذ تأزمت الأمور وفسد ما بينها وبين روسيا. ثم هي تسعى للاقتراض من أمريكا لتفرج ما هي فيه من أزمة مستحكمة، وتود أن تضمن عونها أيضاً حيال روسيا.
وهذه حيرة لا تبعث على الاطمئنان، فيحسن بالعرب أن يتولوا بأنفسهم جميع أمرهم، وأن لا يعولوا في إحباط مساعي الصهيونية على أحد غيرهم، فإذا أنصفتهم بريطانيا فبها، وإلا مضوا في سبيلهم حتى يقضي الله بينهم وبين الصهيونيين.
ودعوتي هي إلى المقاطعة التامة الجامعة المانعة لكل ما هو صهيوني، لا في فلسطين وحدها، بل في البلاد العربية جميعاً، فقد غزا الصهيونيون أسواقها بسلعهم مغتنمين فرصة الحرب وقلة الواردات من الغرب. وليكن العرب على يقين جازم بأن هذا سلاح ماض، وانهم إذا نجحوا في مقاطعة الصهيونية، ارتحل القوم عنهم مؤثرين العافية.
ولا سبيل إلى نجاح المقاطعة إلا بالتنظيم وحسن التدبير، فما تصلح الأمور فوضى. وأظن أن هذا سلاح تستطيع جامعة الدول العربية أن تشهره وتصيب به الصهيونية في مقاتلها دون أن تحتاج إلى سلاح سواه. ولن يلومها أحد فيه إذا هي استخدمته فإنه وسيلة سلمية للدفاع عن النفس، وله مزية أخرى هي أنه يعلم الأمم الغربية أن العرب ليسوا كما مهملا يقضي في أمرهم بغير رأيهم. والغرب يجيد فهم هذه اللغة - لغة المقاطعة - وهو أحرى بأن يكون أحسن فهماً لها بعد هذه الحرب التي هبطت بتجارته إلى الحضيض الأوهد، وتركته أشد ما يكون حاجة إلى أسواق الشرق الأوسط خاصة.
وثم وسائل أخرى كثيرة، ولكن هذه الوسيلة أول ما يجب البدء به، ونجاحها مكفول فلنتوكل على الله، فما زال صحيحاً أنه ما حك جلدك مثل ظفرك
إبراهيم عبد القادر المازني
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
للتشريع الإسلامي مزايا ومحاسن، جعلت شريعته أغنى الشرائع وأوفاها بحاجات الأفراد والجماعات، وأكفلها بتحقيق طمأنينة الأمم وسعادتها، وقوتها وعزتها، بل هي إذا اتبعت مع آداب الإسلام ووصاياه الأخرى كفيلة بتكوين أمة مثالية تجتمع فيها عناصر القوة والمنعة، والحياة الصالحة والمدنية الفاضلة، وتتهيأ لها أسباب التقدم والنهوض إلى أرفع المراتب وأعلى الدرجات، وبها تستحق خلافة الله في الأرض لتملأها عدلا وأمناً، وإحسانا ورحمة.
وليس في قدرتنا أن نحصي هذه المزايا لتنوعها وكثرتها، فحسبنا أن نذكر بعض محاسنها ليكون شاهد يكشف عما فيها من قوة الحياة، ونصوع العدالة، وسمو المبادئ، ونبل المقصد، وشرف الغاية، فنقول:
1 -
موافقة أحكامه لمقتضى العقل
إن جميع أحكام الشرع الإسلامي جرت على مقتضى العقل، وجاءت وفق الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها قبل أن تفسدها الأهواء، وتطغي عليها الشهوات: فما نص عليه من الأحكام في الكتاب والسنة معقول المعنى، له حكم جليلة، وأسرار تشريعية سامية، حتى العبادات، لها في جملتها من الحكم والمنافع والآثار النفسية والتهذيبية والخلقية والاجتماعية، ما لا يمكن أن يخفي على ذوي العقول السليمة، ولا يضيرها أنها في بعض تفصيلاتها قد يخفي علينا وجه الحكمة فيها، فإن خفاءها لا ينفي وجودها، وقد تكون حكمته في العبادات اختبار قوة الإيمان في العبد، وامتحان طاعته وامتثاله لربه، وما لم ينص عليه، وهي الأحكام الاجتهادية المبنية على الرأي والقياس، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد - مصدر العقل وحرية الرأي التي لا تتقيد إلا بمراعاة العدالة، وإقرار الحقوق، وما ينبغي أن يراعي من أصول الاجتهاد الشرعي وقواعده.
فشريعة الإسلام شريعة العقل والفطرة، وليس فيها شيء يخالف القياس الصحيح، ولذا جاءت رحمة وحكمة، ومصلحة ونعمة، قال ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية:
(ما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام، يقطع ببطلان سنته حساً أو عقلا، فحاشا أحكامه - سبحانه - من ذلك، فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه ولا أعدل، ولا يحكم حكما
يقول العقل ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما شهد العقل والنظر بحسنها ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح في موضوعها سواها)
2 -
غايته تحقيق مصالح العباد
ومن محاسنه جعل غايته من التشريع تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع الضر والمفاسد عنهم، وتحقيق العدالة المطلقة، فما من حكم منصوص عليه، أو حكم اجتهادي إلا روعي فيه تحقيق هذه الغاية. قال ابن القيم في كتابه المذكور:(من له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالاتها، وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها جاءت بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها - لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة).
وقال فيها أحد كبار الكتاب في هذا العصر: (الأمور الشرعية التي دونها الفقهاء المسلمون قبل نحو أحد عشر قرناً تبذ في عدالة أصولها وسمو مستواها واتفاقها مع الحق الطبيعي جميع القوانين الوضعية حتى التي سنت في القرن العشرين، ثم قال: إن من يتأمل في التشريع الذي استنبطه علماء المسلمين في الرق والأرقاء، وفي المرأة، وما يتعلق بها من حقوق طبيعية وروحية، وفي الأيتام والفقراء، وفي حقوق المحاربين والمعاهدين، والأجانب والذميين، وفي الشئون المدنية والجنائية، وفي العقوبات والتعزيز. . . من يتأمل في هذا كله يجد تفوقاً ظاهراً في التشريع الإسلامي على التشريع الأوربي في القرن العشرين).
ولا شك أن ذلك هو الجدير بشريعة جاءت مكملة لما كان في الشرائع قبلها من قصور أو نقص بعد أن استعدت أمم البشر لتلقي هذا الكمال، ونضجت لتقبل أسمى المبادئ وأشراف الغايات والمقاصد، وهو قُمن بشريعة عام جاءت لإصلاح البشر كافة بعد أن كانت كل شريعة قبلها خاصة بأمة معينة ومقصورة على زمن محدد: روى عن صاحب الشريعة محمد صلوات الله وسلامه عيه أنه قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها إلا موضع هذه لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها فأعجب بها قال: ما أحسن هذه الدار إلا موضع هذه اللبنة، فأنا اللبنة، بي ختم الله الأنبياء والمرسلين)
(البحث موصول)
حسن أحمد الخطيب
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 15 -
ج 16 ص 200
ما أبو عامر سوى اللطف شيء
…
إنه جملة كما هو روح
كل ما لا يلوح من سر معنى
…
عند تفكيره فليس يلوح
وجاء في شرح (جملة): الجمالي من الرجال الضخم الأعضاء التام الخلق.
قلت: (فليس يروح) لا يذهب، لا يعزب عن علمه بل يدركه ويذهنه.
ويعني بقوله (جملة كما هو روح) أنك إن مددته إنسانا من الأناسي مؤلفا من لحم ودم أصبت، وإن قلت: أنه روح من الأرواح كأنه ملك من الملائكة صدقت. وصدر البيت - وفيه اللطف - يساعد على هذا التأويل.
ج 5 ص 168: ودعا بقهرمانة:
قلت: ضبط اللسان (القهرمانة والترجمان) بالفتح والضم.
وفي النهاية: هو كالخازن والوكيل والحافظ لما تحت يده والقائم بأمور الرجل بلغة الفرس.
وقد أخذت العربية ذات التقدم والشجاعة هذه اللفظة الأعجمية، ثم اشتقت منها فعلا جاء في تاريخ بغداد للخطيب (ج 7 ص 320):
الحسن بن سهل بن عبد الله أبو محمد هو أخوذي الرياستين الفضل بن سهل. كانا من أهل بيت الرياسة في المجوس، وأسلماهما وأبوهما في أيام هارون الرشيد، واتصلوا بالبرامكة، وكان سهل (يتقهرم) ليحيى بن خالد بن برمك.
ج 17 ص 216: قال (علي بن محمد الجلاني الواسطي): وأن شدنا (ابن بشران) وقد انقطع الناس عن عيادته والدخول إليه:
ما لي أرى الأبصار بي جافيه
…
لم تلتفت مني إلى ناحية
لا ينظر الناس إلى الميت لا
…
وإنما الناس مع العافية
قلت: (لا ينظر الناس إلى المبتلى) والبيتان من مقطوعة عزاها أبو الفرج في (بعض أخبار إبراهيم بن المهدي) إلى علية بنت المهدي. وقال: في أخبار (عليه بنت المهدي): (الشعر لأبي العتاهية وذكر ابن المعتز أنه لعلية) وقد تمثل بالبيتين هذا العالم العظيم المحدود غير المجدود. قال ياقوت:. . . صاحب نحو ولغة وأخبار ودين وصلاح، وأليه كانت الرحلة في زمانه، وهو عين وقته وأوانه. وكان مع ذلك ثقة ضابطا محررا حافظا إلا أنه كان محدودا. . .!
ج 3 ص 100:. . . وضرب أعناقهم فيه، وسار، وأنكر الناس ذلك وتحدثوا به، ونحبت قلوبهم منه.
وجاء في شرح (نحبت): اشتد عليهم الأمر.
قلت: (نخبت): جبنت، فزعت. في الأساس: أنه لمنخوب ونخيب ونخب: لا فؤاد له. وقد نخب قلبه ونخب كأنما نزع من قولهم نخبت الشيء وانتخبته إذا نزعته، ومنه الانتخاب: الاختيار كأنك تنتزعه من بين الأشياء.
ج 4 ص 66: أحمد بن علي الأسواني:
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة
…
قل الصديق بها وقل الدرهم!
في معشر خلقوا شخوص بهائم
…
يصدى بها فكر اللبيب ويُبهَم
فالله يغني عنهم، ويزيد في
…
زهدي لهم، ويفك أسري منهم
وجاء في الشرح: يقال: صدى الرجل يصدي صدى: عطش، أهو شدة العطش، كناية عن تبلد العقل.
قلت: (فالله يغني عنهم) و (يصدي) هي (يصدأ) فخفف وهو مثل حبيب:
لم آتها من أي وجه جئتها
…
ألا حسبت بيوتها أجداثا
بلد الفلاحة لو أتاها جرْوَل
…
أعني الخطيئة لاغتدى حراثا
تصدا بها الإفهام بعد صقالها
…
وترد ذكران العقول إناثا
وروى ابن قتيبة في (عيون الأخبار) لبعض الشعراء:
إني أجالس معشرا
…
نوكي أخفهم ثقيل
قوم إذا جالستهم
…
صدئت بقربهم العقول
لا يفهموني قولهم
…
ويدق عنهم ما أقول
فهمُ كثير بي وأعلم
…
أنني بهم قليل
وللأسواني هذا البيت من جملة قصيدة:
ومالي إلى ماء سوى النيل غلةٌ
…
ولو أنه (أستغفر الله) زمزمُ
ج 19 ص 276: هبة الله بن صاعد المعروف بابن التلميذ كان واحد عصره في صناعة الطب متفننا في علوم كثيرة. . . وكان عارفا بالفارسية واليونانية والسريانية متضلعا بالعربية، وله النظم الرائق والنثر الفائق.
قلت: (متضلعا من العربية) كما جاء في (ج 19 ص 282) وهو كلام مولد غير مستنكر. والذي قالته العربية الأولى هو ما جاء في (المصباح): تضلع من الطعام امتلأ منه. وفي النهاية وفي حديث زمزم فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع أي أكثر من الشرب حتى تمدد جنبه وأضلاعه، وفي حديث ابن عباس: أنه كان يتضلع من زمزم. وقال الأساس: (وأكل وشرب حتى تضلع) ولم يذكره في مجازه. وفي مقدمة (القاموس). . . بما يتضلع منه (أي من علم اللغة) قال شارحه: قال ثعلب: تضلع امتلأ ما بين أضلاعه
ج 6 ص 60:. . . وكان (إسحاق بن إبراهيم البربري المحرر ويعرف بابن النديم) يحرر الكتب النافذة من السلطان إلى ملوك الأطراف في الطوامير، وكان في نهاية الحرفة والوسخ، وكان مع ذلك سمحا لا يليق على شيء.
وجاء في شرح (لا يليق) أي لا يمسك من جوده على شيء.
قلت: لا يبقى على شيء أو لا يليق شيئا. في الأساس: فلان لا يليق بكفه درهم، ولا تليق كفه درهما: لسخائه. وفي اللسان قال الأصمعي للرشيد: ما ألاقتني أرض حتى أتيتك يا أمير المؤمنين. الأزهري: العرب تقول: هذا أمر لا يليق بك، معناه لا يحسن بك حتى يلصق بك. وقول الأصمعي الذي رواه اللسان هو في هذا الخبر ذي الفائدة، نقله ابن خلكان:
الأصمعي قال: دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعي، ما أغفلك عنا وأجفاك لحضرتنا!
قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ألاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك. فأمرني بالجلوس، فجلست
وسكت عني. فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت للقيام فأشار إليّ أن اجلس، فجلست حتى خلا المجلس ولم يبقى غيري ومن بين يديه من الغلمان فقال: يا أبا سعيد، ما معنى قولك: ما ألاقتني بلاد بعدك؟ قلت: ما أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت قول الشاعر:
كفاك كف ما تليق درهما
…
جودا وأخرى تعط بالسيف دما
أي ما تمسك درهما. فقال: هذا أحسن. وهكذا فكن، وقرنا في الملا، وعلمنا في الخلا، فانه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالما، إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب، وإما أن أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت.
قال الأصمعي: فعلمني أكثر مما علمته. . .
ج 9 ص 231: (الرضى من قصيدة في رثاء ابن الحجاج):
لسان هو الأزرق القعضبيّ
…
تمضمض في ريقه الأفعواني
وجاء في الشرح: القعضبي نسبة إلى قعضب وهو رجل كان يصنع السنان. الأفعواني منسوب إلى الأفعوان وهو الثعبان فهو صفة لريق.
قلت: (تمضمض في ريقة الأفعوان) في الصحاح: الريق الرضاب والريقة أخص منه. وفي (ديوان الرضي): (من ريقه) و (في) أصح من (من).
ج 16 ص 150: قال أبو العباس ثعلب: جمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائي والأصمعي وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة:(همكٌ ما أهمَّك) فذهب الكسائي يقول: يجوز كذا ويجوز كذا. فقال له عيسى: عافاك الله: إنما أريد كلام العرب، وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب.
قال أبو العباس: وليس يقدر أحد أن يخطئ في هذه المسألة لأنه كيف أعرب فهو مصيب. وإنما أراد عيسى بن عمر من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه.
قلت: هذا مما قيل في المسألة. . .
في (التلويح في شرح الفصيح) لأبي سهل محمد الهروي. والفصيح للإمام ثعلب:
وتقول: (همَّك ما أهمَّك) فهمك مرفوع بالابتداء، وما أهمك خبره، وتقديره حزنك هو الذي حزنك ولم يحزن جارك ولا غيره من الناس. وأهمني الشيء بالألف حزنني، وهمني بغير ألف إذابني. (ص 76)
وفي (المخصص) للإمام ابن سيده:
(همَّك ما أهمَّك) يعني أذابك ما أحزنك (ج 13 ص 138).
وفي (مجمع الأمثال) للإمام أبي الفضل أحمد الميداني:
همَّك ما همك، ويقال همك ما أهمك. يضرب لمن لا يهتم بشأن صاحبه إنما اهتمامه بغير ذلك. هذا عن أبي عبيد. يقال: أهمني الأمر إذا أقلقك وحزنك. ويقال: همَّك ما أهمك أي آذاك ما أقلقك. ومن روى همك بالرفع فمعناه شأنك الذي يجب أن تهتم به هو الذي أقلقك وأوقعك في الهم.
وفي (لسان العرب) للإمام أبي الفضل محمد بن مكَرمَّ المصري:
قال أبو عبيد في باب قلة اهتمام الرجل بشأن صاحبه: (همُّك ما همك) ويقال: همك ما أهمك جعل ما نفيا في قوله ما أهمك أي لم يهمك همك. ويقال معنى ما أهمك أي ما أحزنك، وقيل: ما أقلقك وقيل ما أذابك. . .
ج 12 ص 233: كان ابن سيدة منقطعا إلى أبي الجيش مجاهد. . .
قلت: في (وفيات الأعيان) ابن سيده: بكسر السين وسكون الياء وفتح الدال وبعدها هاء ساكنة.
قال ابن خليكان: وكان ضريرا وأبوه ضريرا أيضاً. وكان أبوه قيما بعلم اللغة، وعليه اشتغل ولده في أول أمره.
ومن تصانيفه - كما ذكر ياقوت - (المخصص) وقد طبع و (المحكم والمحيط الأعظم) رتبه على حروف المعجم وهو اثنا عشر مجلدا. ومنه نسخة مخطوطة في (دار الكتب المصرية) عمرها الله!
الأجانب في البلاد العربية
للدكتور جواد علي
في الكتب اليونانية القديمة أسماء مستعمرات أنشأتها الجاليات الأجنبية في البلاد العربية. تقع أكثرها على سواحل البحر الأحمر أو السواحل الجنوبية. وقد عنى المستشرقون بالبحث عن هذه المستعمرات وعن مواقعها وآثارها. ومن أشهر هؤلاء المستشرق النمساوي الشهير المرحوم كلاسر في كتابه القيم (صورة تاريخ البلاد العربية وجغرافيتها).
وقد أُنشئت هذه المستعمرات على ما يظهر لتموين القوافل البحرية ولحراستها من هجمات قرصان البحر. ولإقامة البحارة والتجار. ولما ضعفت الأم وهزلت ولم يعد في إمكانها إمداد هذه المستعمرات بالمؤن والرجال استعرب من كان في هذه الثكنات الحربية واندمج في مجموعة القبائل العربية. وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الكلمات الأجنبية في اللغة العربية قبل ظهور الإسلام بزمان طويل ووجود بعض القبائل العربية ذات السحن الغربية في داخل شبه الجزيرة.
ومن جملة تلك المستعمرات مستعمرة (العيلاميين) المتاخمة لأرض المعينين وقد ذكرها المؤرخ (بلينيوس) الشهير في جملة الأماكن التي ذكر أسماءها في أرض المعينين.
ورأى المستشرق كلاسر أن هذه المستعمرة العيلامية هي من بقايا العيلاميين المعروفين سكنة عيلام سكنوا في هذه المنطقة بعد أن تمكن العيلاميون من الاستيلاء عليها وظلوا فيها بعد زوال دولة العيلاميين. ويأتي هذا المستشرق بدليل هو أن هذه المنطقة التي نتحدث عنها وجميع أرض عمان قد كانت في عهد المؤرخ (بلنيوس) تحت سيطرة الإرشاكيين وورد في نص الأكسومي اسم بشبه هذا الاسم هو (عظالم) من كلمة (عظلم). وقد وردت هذه التسمية في كتاب (صفة جزيرة العرب) للعالم الشهير الهمداني الاختصاصي في تاريخ اليمن. فلا يستبعد إذاً أن تكون هذه الكلمة محرفة عن التي ذكرت في كتاب (بلنيوس) المذكور.
وتعرف المستشرق المذكور على مستعمرة أخرى هي (امبلونة) وقد ذكرها بلنيوس أيضاً ويرجح أن سكانها من الملاطيين اليونانيين. وتقع في المحل المعروف باسم وادي العمود على مقربة من السواحل التي اشتهرت بالذهب وهي بلاد العسير على رأي المستشرق
شبرنكر غير أن أوصاف هذا المحل لا تنطبق على الأوصاف التي ذكرها المؤرخ بلنيوس تمام الانطباق.
والأرجح أن يكون هذا المكان في الشمال بعيداً عن منطقة نفوذ السبئيين. وأحسن مكان يصلح لأن يكون محلا مناسباً لسكنى اليونانيين هو في شمال الحجاز، على سواحل البحر الأحمر حيث تبعد المنطقة عن سيطرة السبئيين وحيث يمكن الاتصال بمصر وفلسطين.
والظاهر أن سكان هذه المستعمرة من المكان الذي أنجب الفيلسوف طاليس والفيلسوف انكسمندر وانكسمانس وكان سكانه على جانب عظيم من الرقي والحضارة والذكاء. وقد ازدهرت فيه الحضارة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. غير أن الحزب دب إلى هذا المكان فيما بعد منذ سنة 494 قبل الميلاد فارتحل أهله وهاجروا إلى شتى الأنحاء حتى نسى المحل تماماً في عهد الإسكندر المقدوني الكبير.
واختار هؤلاء اليونانيون فرصة مناسبة هي فرصة انتقال الملك من المعينين إلى السبئيين. ففي هذا الوقت لم يكن شمال الحجاز كله بأيدي السبئيين ولم يكن لأهل اليمن أسطول قوي يسيطر على شمال البحر الأحمر فاختار اليونان ذلك المكان.
وليس من المستبعد ذلك فقد كان سكان قد أنشئوا حوالي الثمانين مستعمرة انتشرت في ساحة واسعة على البحر الأسود وعلى بحر مرمرة وعلى سواحل البحر الأبيض. وأنشئوا لهم مستعمرة في مصر في عهد الفرعون حيث ألفوا أسطولا قوياً دخلوا به نهر النيل وسكنوا في أرض اختاروها سميت باسم مستعمرة نكراطيس
فمن الجائز كما يقول المستشرق مورتيس أن يلتجئ جماعة من هؤلاء إلى الفرس بعد تخريب مستعمراتهم التي أنشئوها في مصر وأن يطلبوا حمايتهم، وأن ينتقلوا إلى موضع آخر فاختاروا محلا لا يبعد كثيراً عن مصر ولا يعرضهم في نفس الوقت إلى اضطهاد المصريين، هو المكان الذي أسسوا فيه مستعمرة
وورد في تاريخ هيرودوتس نقطة مهمة جداً تخص هذا الموضوع أثناء بحثه عن داريوس الكبير ملك الفرس ذكر أن هذا الملك حمل الملطيين معه أسرى إلى سوسه حيث عاملهم معاملة حسنة ثم أسكنهم مدينة أمب التي أنشأها على سواحل بحر الإريتريا في النقطة التي يلتقي فيها نهر دجلة بهذا البحر. أما المدينة نفسها مدينة ملطية فقد استولى عليها
الفرس.
أما موقع مدينة على حد وصف هيرودوتس فيجب أن يكون على الخليج الفارسي حيث يصب نهر دجلة فيه لا على البحر الأحمر كما يظهر ذلك من وصف الروماني بلينوس إذ من المعلوم أن مصب نهر دجلة في ذلك الخليج.
على كل فسواء كان موقع أو على الخليج الفارسي أو على البحر الأحمر فإن النتيجة واحدة وهي أن اليونانيين كانوا قد سكنوا مدينة أنشئت في بلاد عربية وعاشوا فيها وتاجروا، ثم اندمجوا بعد ذلك واختلطوا بالوطنيين.
والأرجح أن يكون محل تلك المستعمرة على سواحل البحر الأحمر في شمال الحجاز. وفي أقوال (288 ق. م) ما يؤيد هذا الرأي. وأصبح هذا المحل في عهد (بلنيوس) تحت سيطرة الحكومة السبئية. ولما ضعف نفوذ هذه الحكومة تغلبت القبائل المتوحشة على هذا المكان كما يظهر ذلك من أقوال مؤلف كتاب فصار التجار يتجنبون جهد الإمكان هذا المكان. يقول المستشرق كلاسر: كانت هذه المنطقة ملتقى مختلف القبائل. نقطة يجتمع فيها التجار من كل مكان. وقد كانت معروفة عند الكتاب اليونانيين والرومانيين وقد ذكر بطليموس أسماء عدة قبائل نزلت هذا المحل.
وتحدث ديودورس الصقلي عن شعب دبن كان يسكن على سواحل البحر الأحمر في موضع يصح أن يكون في عسير. وهذا الشعب لا يضيف أحدا من الغرباء إلا إذا كان الغريب من أو لاعتقاده وهذا يرجع إلى أسطورة قديمة إن هذه الشعوب الثلاثة ترجع في النسب إلى جد واحد هو هرقل
وفي العهد القديم اسم موضع دعي (ياوآن) ذكر في جملة الأماكن التي كانت تتاجر مع مدينة صور. تدل القرائن على أن المقصود منه موضع من المواضع الواقعة في جنوب البلاد العربية ولعل ذلك في اليمن، وقد يكون اسم قبيلة من القبائل العربية وتطلق كلمة في أكثر آيات العهد القديم على اليونانيين، فهل يمكن أن نجد صلة بين الاسمين؟
قال بعض المستشرقين: المعقول أن يكون هذا الموضع اسم مستعمرة كان اليونانيون قد سكنوا فيها بدافع المتجارة. لاسيما وقد ثبت عندنا أن الأجانب كانوا قد أسسوا لهم المستعمرات في مختلف أنحاء شبه الجزيرة. فمن المعقول أيضاً أن يكون موضع تلك
المستعمرة في (جينة) الذي ذكره الهمداني في عداد الأماكن الواقعة في أراضي (جهينة) الواقعة بين حرة النار وبين الربذة وقد ورد ذكره أيضاً عند البكري في جملة الأماكن التي مر بها الرسول حينما غزا بني قريظة ثم بني لحيان.
وذكرت أسماء مستعمرات أخرى أنشئت في مختلف أنحاء بلاد العرب. مثل أريتوزا ولاريزا ومستعمرة كلسيس وغيرها. لم يذكر (بلنيوس) أماكنها بالضبط ولم يحدد مواقعها. فلا ندري أكان يقصد من مدينة لاريزا مثلا مدينة لرسا أو لرسام التي ذكرت في النصوص الآشورية، أو أنه قصد محلا آخر. ولا ندري أكان يقصد من أريتوزا المحل الذي ذكره هو وهو بحيرة كان نهر دجلة يمونها بالماء أم لا.
على أن هذه الأسماء الثلاثة هي من الأسماء اليونانية التي طالما يتكرر ذكرها في الشرق، وهي أسماء مدن حديثة أنشأها اليونانيون في الشرق لإعادة ذكرى المدن اليونانية القديمة. فهناك مدينة أريتوزا وهي مدينة أنشئت في سوريا قديماً بين حمص وحماة. وأطلق اكزينوفون اسم لاريزا على قسم من أقسام مدينة نينوى القديمة وربما عنى بذلك ريزن وهنالك محل آخر عرف بهذا الاسم يقع في منطقة أبامين في الشمال الغربي من (حماة) وأما كلكيس فهو الاسم القديم لمدينة (قنسرين) في جنوب حلب واسم مدينة أخرى تقع في جنوب البقاع بيكا يرى اصطيفان البيزنطي أن مؤسسها ملك يعرف باسم موفكسوس العربي، وكان يطلق على هذا المحل (عين غار) وعرفت اختصاراً في الأيام المتأخرة باسم (عنغار)
واشتهر أحد ملوك السلوقيين وهو نيكاطور السلوقي ببناء المدن وقد بنى ثلاث مدن حديثة في فلسطين حملت نفس الأسماء المتقدمة الثلاثة. ولا يستبعد أن يكون هذا الملك قد أنشأ ثلاث مستعمرات بهذه الأسماء على سواحل البحر الأحمر لحماية الخطوط البحرية ولتموين السفن. ولما انتزع البطالسة أرض فلسطين من خلفاء هذا الملك كانت هذه المستعمرات في جملة ما أخذ منهم.
وورد في النصوص اليونانية اسم أي جزيرة الدوريين. فهل لهذه الجزيرة علاقة باليونانيين الدوريين وهل حل هؤلاء في شبه جزيرة العرب؟
يقول المستشرق موريتس: لا نستطيع أن نقول شيئاً جازماً في هذا الباب، على أن هنالك
جزيرة ورد اسمها في نقشي رستم لداريوس باسم والظاهر أنها جزيرة سقطرة وهنالك جزيرة حل بها اليونانيون بقرون عديدة قبل الميلاد يرى أنها هذه الجزيرة نفسها فلا يستبعد أن تكون جزيرة سقطرة إحدى الجزر التي نزل بها اليونانيون. ويستشهد المستشرق بدليل ما ذكره المسعودي عن استيلاء الإسكندر المقدوني على هذه الجزيرة بإشارة من الفيلسوف المشهور أرسطو إليه. وما ذكره المسعودي أيضاً من وجود النصرانية في هذه الجزيرة أيضاً، وهو قول يؤيده بعض الكتبة اليونانيين حتى قيل إن اللغة اليونانية كانت معروفة في هذه الجزيرة إلى القرن السادس الميلاد.
وورد في (نقشي رستم) اسم محل دعي بوتا في ضمن جدول أسماء الأماكن التي خضعت لهذا الملك. يرى المستشرق كلاسر أنه مستعمرة من مستعمرات اليونان الأيونيين الذين كانوا يسمون بهذا الاسم أيضاً. وحاول التوفيق بين هذه الكلمة وبين كلمة فودا التي وردت في نص المؤرخ بلنيوس والتي عين محلها. وعلى هذه الفرضية تكون مستعمرة مستعمرة يونانية من جملة المستعمرات التي أنشأها اليونانيون على سواحل البحر الأحمر.
وفي (نقش رستم) لداريوس أسماء أخرى كثيرة حاول المستشرق كلاسر أن يجد أماكنها في شبه جزيرة العرب من كلمة استبردا حتى كلمة بوتا وهو يجهد نفسه في ذلك إجهاداً بيناً، ويأتي باحتمالات قد تكون بعيدة لتأييد وجهة نظره. فيحاول مثلا أن يجد مناسبة بين عبارة (واليونانيين الذين يحملون على رؤوسهم غطاء مصنوعاً من الشعر) وهي عبارة وردت في نص (نقشي رستم) وبين عبارة وردت في كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني عن أهل مخلاف المعافر وما والاه من استعمالهم للسكينية في الرأس.
كان اليونانيون على رأس المستشرقين كلاسر وعلى ما يظهر من بعض الملاحظات الواردة في المصادر اليونانية القديمة وفي جملتها (الأوديسة) على اتصال دائم بالعرب وذلك منذ أزمنة بعيدة قبل المسيح. والظاهر أن اتصالهم هذا كان عن طريق القوافل البحرية التي كانت تدخل في المياه العربية، وقد تركت تلك الرحلات البحرية انطباعات مخيفة في نفوس اليونانيين ظهرت في الأساطير التي رووها عن بلاد العرب فيما بعد.
وفي المصادر العربية إشارات وردت عرضاً فيها تأييد لما تقدم. غير أن البحث لا يستقيم في الوقت الحاضر إلا بعد زمان حينما يتسنى للعلماء إجراء حفريات علمية وتنقيبات أثرية
في أماكن مختلفة من الجزيرة العربية، وبعد دراسة النصوص اليونانية والرومانية والفارسية والحبشية وتحليلها وتدقيقها تدقيقاً علمياً صحيحاً. وسيظهر للأمة العربية تاريخ جديد تماماً عن العهد المظلم الذي سبق عهد الإسلام والذي نجهله تمام الجهل.
قد يجل لنا هذا البحث مشكلة عويصة قديمة هي مشكلة وجود كثير من الكلمات اليونانية والفارسية والأكسومية (الحبشية) في اللغة العربية قبل مجيء الإسلام. وقد ثبت وجود ذلك ثبوتاً لاشك فيه؛ ثم مشكلة تشابه بعض الأساطير والعقائد التي كان يدين بها العرب مع الأساطير والعبادات المعروفة في السابق عند اليونانيين والفرس.
ثم مشكلة أخرى هي وجود بعض القبائل العربية القديمة التي كانت تمتاز من أغلب القبائل العربية بصفات ومميزات لا يمكن أن تكون من صفات ومميزات الجنس العربي؛ مثل زرقة العيون وحمرة الوجه وبياضه ولون الشعر وشكل الأنف والجمجمة وطول القامة وغير ذلك مما ذكر عن بعض القبائل العربية القديمة وهي قبائل ربما كانت قد استعربت واندمجت في العرب ونسيت أصلها والوطن الذي جاءت منه.
ثم مشكلة أسماء بعض القبائل وعاداتها وتقاليدها ثم أصنامها وما شاكل ذلك؛ فكل هذه نقاط غامضة ستحل متى ما عرفنا بأن هنالك جاليات أجنبية كانت تنزل في بلاد العرب ولكن سرعان ما تندمج في هذا المحيط الجديد وتختلط بأهله وسكانه.
وفي التاريخ أمثلة ربما تؤيد هذا الرأي وتقويه، فقبائل اليهود التي حلت في خيبر ويهود بنو النضير وبنو فيينقاع ثم قبائل اليهود التي نزلت في اليمن بعد خراب المعبد على يد الرومان، ثم القبائل اليهودية التي نزلت على شواطئ الفرات والتي كونت مستعمرات (الكالوته) هنالك وهي أشبه ما تكون بحكومات المدن ثم القبائل السريانية المختلفة؛ كل هذه استعربت وانتسبت إلى أصل عربي وافتخرت بالعرب مع أنها لم تكن من هذا الأصل.
وما بالنا نذهب بعيداً وعشائر (الصليب) أو (الصلبة) وهي عشائر تتكلم العربية وتعيش عيشة بدو العرب في البوادي على رأي أكثر الباحثين من أصل لا يمت إلى العرب بصلة قد يكون من أصل مسيحي استعرب وتبدى. وقل مثل ذلك عن الفرس والأتراك الذين اندمجوا في العرب ونسو أصولهم وعدوا أنفسهم من أقحاح العرب.
جواد علي
معلومات جغرافية عن:
الحبشة
للأستاذ عمر رشدي
الإمبراطورية الحبشية القديمة:
تحتل الإمبراطورية الحبشية، فضلا عن الجزء الذي تحتله من حوض النيل، أودية الهواش والأدمو والجوبا وخور الجاش وخور بركة؛ وحوض النيل قوي الصلة ببلاد الحبشة القديمة التي يسكنها الشعب الحبشي والتي تقع في الجزء الشمالي والشمالي الغربي من الهضبة، وهذا الجزء الذي يرتكز على أعالي النيل الأزرق والسوباط والعطبرة هو النواة التي تكونت حولها الإمبراطورية الحبشية القديمة وتبلغ مساحته400 ، 000 كيلو متر مربع. ومثل معظم الأقطار الجبلية الأخرى تقسم الظاهرات التضاريسية هذا الجزء إلى وحدات سياسية مستقلة أمثال تيجري وجوجام وشوا وامهرا، وهذه هي الممالك الأربع الحبشية الرئيسية ويحكم كل منها رأس، وليس من السهل توحيد هذه الأقطار تحت سيادة ملك واحد كشأن الأقطار الجبلية عموما.
الحروب والرفيق وأثرهما في اختلاط الشعوب:
هذا القطر الجبلي قد أصبح إلى حد ما ملجأ للعناصر المختلفة، ولذلك نجد به صفات ثقافية وجنسية متعددة. وعلى الرغم من أن بلاداً جبلية كالحبشة تساعد على أن تحتفظ الوحدات الجنسية المختلفة بميزاتها الثقافية وصفاتها الجنسية، فان هناك عوامل خاصة دعت إلى الاختلاط والامتزاج من أهمها الحروب الكثيرة وتجارة الرقيق التي كانت منتشرة في الحبشة إلى وقت قريب جداً على نطاق واسع حتى أن الفرد لم يكن يحسب لدينه حسابا بقدر ما يحسب له إذا ما كان رقيقاً أو حراً. لهذا نجد الصفات الجنسية الخليطة بين الزنجية والقوقازية هي الصفات الغالبة في الحبشة إذا تمثل نحواً من 70 % من السكان، وهناك حوالي 15 % من السكان من الزنوج الصرف كقبائل ال شنجلة (بمعنى العبيد) التي توجد في الجزء الجنوبي والجنوبي الغربي من الحبشة. هذا بالإضافة إلى الجماعات النيلوتية الموجودة في غمبيلا من الأتراك ثم هناك حوالي 15 % من السكان من الجماعات
التي تغلب فيهم الصفات الجنسية القوقازية، وهذه توجد في الجنوب والشرق والشمالي الشرقي. والصفات الجنسية الغالبة هي القامة المتوسطة والشعر المجعد واللون الأسمر القاتم والشفاه المعتدلة.
الهجرة السامية:
الهجرة السامية التي صبغت البلاد الحبشية بالصبغة السامية التي تتصف بها هضبة الآن، قد دخلت البلاد قبل الميلاد بعدة قرون (حوالي القرن الخامس) فقد سمع أهل اليمن عن بلاد الحبشة وما فيها من خير وفير، وساعدهم تشابه بيئة الحبشة ببيئة بلادهم على عبور البحر الأحمر إليها واستيطان الجزء الشمالي منها، وكانت هذه القبائل التي هاجرت من بلاد العرب الجنوبية تعرف باسم (حبشات) ولذلك أطلق على هذا الجزء الشمالي من الحبشة اسمها، ومن ثم عمر العرب هذه التسمية فأطلقوها على البلاد كلها الواقعة بين خطي عرض 4، 15 شمالا.
اللغة الحبشية:
كانت الجماعات اليمنية التي هاجرت إلى هذه البلاد لا تتكلم بلهجة واحدة بل بلهجات متعددة، وكانت اللغة التي تتكلم بها تعرف باسم (الغيز) التي لا تزال لغة المعابد هناك، ولغة الغيز لا تستعمل الآن ولكن لهجات إقليم تيجري قريبة منها. أما اللغة السائدة الآن فهي اللغة الأمهرية وهي لغة سامية اختلطت بها بعض الألفاظ الحامية وتكتب بحروف تشبه الحروف اليمنية التي تكتب بها لغة اليمن والتي هي لغة حمير، واللغة الأمهرية هي لغة التعامل والتخاطب، ولا يزال هناك شعب الأمهرة الذي يحتل الجزء الواقع في شرق بحيرة تانا وإلى الجنوب الشرقي منها وعاصمتهم أديس أبابا.
الديانة الحبشية:
كما أن بلاد الحبشة كانت ملتقى العناصر المختلفة من حامية وسامية فهي كذلك البقعة التي اجتمعت فيها شتى الديانات من مسيحية ويهودية وإسلامية فضلا عن الوثنية. وقد كان الدين السائد فيها هو الدين اليهودي الذي جاء من اليمن التي كان يسودها هذا الدين قبل انتشار الإسلام، ولا يزال إلى الآن في الحبشة جماعات تدين بالدين اليهودي وتعرف باسم
(الغلاشة) ويسكنون إقليم سيمين الجبلي، وإذا نظرنا إلى بيئتهم الجبلية المنعزلة استطعنا أن نفسر بقاءهم إلى وقتنا هذا بعيدين عن المؤثرات المسيحية التي سادت معظم تلك البلاد. ومن بين العشرة ملايين نسمة التي يتكون منها الشعب الحبشي نجد نحوا من ثلاثة ملايين يدينون بالمسيحية التي أدخلها المبشرون إلى البلاد في القرن الرابع الميلادي وأصبحت دين الأسرة الحاكمة الرسمي سنة 350م عندما اعتنقها الملك (عزانا)، أما البقية الباقية من السكان فكثرتها تدين بالإسلام ولا يقل معتنقوه عن خمسة ملايين نسمة.
وعلى الرغم من ظهور الإسلام ونفوذه في الحبشة وقربه منها فقد ظلت الحبشة ملجأ للدين المسيحي وسط الوثنيين والمسلمين واليهود، فتاريخ المسيحية هناك عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح لتثبيت قدمها ومقاومة انتشار الإسلام. وفي الواقع يصطبغ هؤلاء المسيحيون بالوثنية القديمة أكثر منها بالمسيحية، ويتمثل هذا في بعض عاداتهم مثل تعدد الزوجات، واكل اللحم النيئ، ومع أن مسيحيتهم سطحية فإننا نجد حوالي ربع سكانهم من الرهبان، والديانة السائدة في الحبشة هي الديانة الأرثوذكسية.
الصلات بين اليمن والحبشة:
كانت هذه الصلات قوية في أوائل العهد المسيحي وفي القرن السابق له مباشرة، والدماء الحبشية متأثرة تأثرا كبيرا بدماء سكان بلاد اليمن القدماء. ومما يدل على وجود هذه العلاقة بين الأحباش والساميين تلك الأسطورة الحبشية القديمة التي تتصل عناصرها بقصة من قصص الكتاب المقدس والقرآن الكريم وهي قصة ملكة سبأ وسليمان، فالأسطورة الحبشية تتحدث عن تنين عظيم كان يحكم البلاد قرونا طويلة وكان على جانب عظيم من البشاعة والشراهة إذ كان يفترس يومياً عددا كبيرا من الأبقار والثيران والماعز والظان إلى جانب ما يقدم إليه من العذارى حتى ضاق السكان به ذرعا فلجأ إلى شخص اشتهر بالقوة ليقتل التنين ويتولى الملك ففعل، وأنجب ابنة هي التي عرفت في التاريخ باسم ملكة سبأ، ودخلت في حرم سليمان وقد وضعت ولدا أطلقت عليه أسم سليا بن سليمان هو المعروف في التاريخ الحبشي باسم (منليك الأول) الذي أسس الأسرة السليمانية التي جلست على عرش الحبشة من سنة 95 ق. م إلى سنة 1855م.
شعوب الحبشة:
يتكون مكان الحبشة من شعوب مختلفة، لا تختلف فيما بينها في الجنس فحسب، وإنما تختلف أيضاً في اللغة وفي الشكل وفي العادات وفي الدين. ويطلق خطأ على كتلة هذه الشعوب اسم (الأحباش) فهؤلاء لا يمثلون في الواقع إلا جزءا من هذه الشعوب يبلغ ثلث عدد سكان الحبشة الذي يتراوح بين 8 ، 12 مليون نسمة على أرجح التقديرات. ويحتل الأحباش مقاطعتي تيجري والأمهرة وشمال مقاطعة جوجام وجزءا من وسط مقاطعة شوا، وتشمل هذه المقاطعات أكثر من ثلث مساحة الإقليم. ويتكون الجزء الأكبر من بقية السكان من فروع مختلفة من شعب الجلا العظيم الذي أخذ يغزو الإقليم منذ بدء القرن السادس عشر الميلادي واحتل جزاء كبيرا منه.
وتنتشر على طول الحافة الشرقية تلك القبائل المسلمة المعروفة باسم الدناقل والإيشا والصوماليين، وأخيراً توجد في الجنوب الشرقي قبائل أوغادن. وتعيش على هامش هذه القبائل الرئيسية السابقة وفي ثناياها أخلاط غريبة من الشعوب التي تميزها صفات خاصة، ولعل أكثر هذه الشعوب غرابة هي الغلاشة اليهودية التي تحتل خاصة منطقة جبال سيمين شمال بحيرة تانا، ثم الجوارج التي تعيش في المنطقة التي تحمل هذا الاسم في جنوب شرقي أديس أبابا.
الأحباس:
الأحباش شعب محارب وهم على استعداد دائم للحرب، إذا يحمل كل رجل منهم بندقية باستمرار. وهم شعب فخور باستقلاله الذي تمتع به قرونا طويلة، فخور بدينه الذي احتفظ به خلال ألف وخمسمائة عام، فقد ظلت الحبشة أربعة عشر قرنا، وهي أرض المسيحية في وسط هذه البحار من الوثنية. ومن صفاتهم المعيبة غلظتهم وقسوتهم الشديدة وسيما على الحيوان. ويحيط بالحاكم أو الرئيس أعداد كبيرة من الجند، وهؤلاء في العادة كسالى ولا نفع لهم. ولا تعني الطبقات الفقيرة بالأخلاق، فالخمور منتشرة والأمراض الخبيثة تفتك بهم فضلا عن أمراض الجذام والعمى، ولعل ذلك يرجع إلى كثرة الذباب الذي ينقل جراثيم هذه الأمراض، وإذا شعر الحبشي بالمرض يدب في جسمه أيقن بأن نهايته قد دنت وفقد كل أمل في الشفاه.
الجالا:
مجموعة الجالا هي أكثر المجموعات الجنسية عددا في الحبشة وهي تسكن مساحات واسعة قد انتشروا عليها عندما لجئوا إلى هذه البلاد في أوائل القرن السادس عشر الميلادي. ويبدو مع ذلك أنهم جنس مميز حامي الأصل قد تفرع الآن إلى فروع مختلفة على الرغم من أنهم يتكلمون لغة واحدة وأنهم قد جاءوا - حسب ما يعتقدون - (عبر المياه) أي عبر البحر الأحمر أو ما هو أكثر احتمالا عبر بحيرات أفريقيا الاستوائية الكبرى، ولكن هذه المسألة لم تبحث بحثا وافيا. وهناك رأى يقول إنهم قد جاءوا من بلاد العرب في زمن بعيد مضى مخترقين أفريقية الشرقية البريطانية ومهاجرين إلى الجنوب الغربي إلى البحيرات الكبرى ومن هناك يمموا شطر الحبشة شمالا مخترقين بورانا وعندما جاءوا من الهضبة الوسطى استقروا في المناطق الجنوبية والغربية وبعضهم استقر على الحدود الشرقية بين الحبشة وصحراء آثار.
والجلا رعاة يحبون الحرب وفيهم صفاتها، وقد خضعوا أخيرا للإمبراطور منليك وذلك لكثرة ما أمده به الفرنسيون من الأسلحة ومن ذلك الحين لم تجد هذه القبائل وسيلة لإشباع هذه الطبيعة في نفسها إلا في مقاتلة بعضها البعض الآخر، أو في شن الغارات على جيرانها، ولكنهم مع ذلك لا يحتكون مع الأوربيين أو مع غيرهم من الأجانب. والجلا عموما أكثر سوادا من الأحباش وأقل تقدما. وكلما بعدنا عن العاصمة بدت وحشيتهم التي تتمثل فتشاهد في هيأتهم وعاداتهم خصوصا بين الجماعات الوثنية. وتجد في إقليم جيلي أقذر جماعة رأتها العين من الجلا، فالسواد يغشي وجوههم وملابسهم وماشيتهم أيضا، ويتخذون بيوتا أكواخا حقيرة محاطة بزريبة صغيرة حيث تساق إليها الماشية ليلا لحمايتها. ورائحة هذا المكان وقذارته لا يمكن أن توصف، ويبدو أن الشمس تعمل كمطهر لهذا الأمكنة، ولهذا السبب على ما يظن لا تصيبهم الأمراض على قدر ما يحيط بهم من الأوساخ والأقذار. وجماعات الجلا التي تسكن أقليم شوا أقل توحشا، فان تدينهم بالمسيحية جعلهم يفقدون العادات الوثنية القديمة، كما أن اقترابهم من أديس أبابا جعلهم يتصلون بالأحباش الغازين بطريق الزواج والاختلاط.
والجلا يلبسون ملابس بسيطة فيضع الرجال قطعة من الجلد على أكتافهم أو يلتفون بقطعة
من القماش القطنية، أما النساء فيلبسن رداء من الجلد مكوناً من قطعتين إحداهما أشبه (بالجونلة) والأخرى توضع على الأكتاف، ويحلون بالأساور والعقود والخواتم المصنوعة من النحاس أو الحديد أو العاج. ويظهر أنهم يأكلون أي شيء تقع عليه أيديهم، ويعتمدون في غذائهم على ما يصيدونه من الحيوانات البحرية، ويستعملون في صيدهم للأسماك قوارب عجيبة لا تطفو فوق الماء بل تغطس تحته وبذلك يظل السمك طازجاً.
وللجلا طريقة عجيبة في جمع هدايا الزواج، فعندما يرغب شاب في الزواج يقوم والده بتوزيع بعض الهدايا كالماعز بين أقاربه لينال رضاهم، وتأخذ المسألة هذا النحو عندما تكون العروس المنتخبة لم تزل في المهد صبية، وعندما تبلغ الثلاثة عشرة أو الرابعة عشرة يحدد يوم الزفاف ويذهب والد العروس إلى أصدقائه جميعاً لينتقي الهدايا، ثم يعود إلى بيته ويصف للخادم هذه الحيوانات التي انتقاها ثم يكلفه بالذهاب لجمعها، ويندر أن يخطئ الخادم في معرفة هذه الحيوانات فان ذاكرتهم قوية جداً. وعندما يتسلمها الأب يرسلها مع الفتاة كنوع من الصداق، وهو يعلم تماما عند انتقائه لهذه الهدايا أنه سيجيء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء الأصدقاء هدايا لبناتهم ولذلك يختار هذه الهدايا بحذر. وإذا ما هربت امرأة من منزل زوجها وأنجبت من رجل آخر مولوداً ذكراً فان لزوجها الحق في أن يعتبر هذا الولد ابناً له وكثيراً ما يحدث ذلك.
بعض عادات الأحباش:
هناك عادات كثيرة للأحباش تجعلهم يختلفون تماما عن معظم شعوب أفريقيا، فعلى الرغم من أنهم يدينون بالديانة التي أدخلها اليهود الأول إلا أن كرههم لليهود ظاهرة تستحق النظر، ولعل ذلك الكره ناشئ عن تلك الحروب التي استمرت خلال الفترة بين القرنين الرابع والعاشر بين هؤلاء الذين تحولوا حديثا إلى الدين المسيحي وبين هؤلاء الذين ظلوا يهودا. ومن عادات المهاجرين الأول من الأحباش عادة قطع اللحم وأكله من الحيوان وهو حي، ويصف لنا (بردس) حادثتان من هذا النوع أولاهما: أن جنودا قادوا بقرة إلى مكان خال حيث أوثقوها وقطعوا منها قطعة من اللحم ثم وضعوا على الجرح بعض الطين، وأما الثانية فقد كانت في وليمة حيث أحضرت فيها بقرة حية أخذ الضيوف يقطعون من لحمها ويأكلون إلى أن ماتت بعد وقت ليس بالقصير، ولكن أهل البلاد الآن ينفون حدوث مثل
ذلك.
والأحباش لا يدخنون على الرغم من أن الدخان ينمو بطبيعته هناك، وقد كان الإمبراطور (يوحنا) يعاقب الذين يدخنون بقطع شفاههم، ولعل هذا المنع جاء نتيجة لاعتقادهم بأن هذه العادة هي عادة إسلامية، ولكل منهم زوجة واحدة لفترة ما ثم يعقبها زوجات أخر واحدة فواحدة. والطلاق هناك سهل وكثير، وإذ ما طلقت المرأة مراراً رغب الرجال في الزواج منها لكثرة ما تملكه. وللمرأة الحق في تطليق زوجها بنفس السهولة التي يطلق بها الرجل المرأة. والنساء هناك لا يشتغلن بعمل ما فلا يحملن الماء ولا يغسلن ولا يصلحن من ملابس أزواجهن ولا يطهين. ونساء الطبقة العليا لا يخرجن إلا نادرا وإذا خرجن خرجن محجبات على ظهور البغال ويصحبهن حارس يسير إلى جوارهن.
عمر رشدي
ليسانسييه في العلوم الجغرافية
من خواطر (جحا):
غداً تقوم الساعة. . .
(مهداة إلى الذين يزنون الأخبار بميزان المصلحة والهوى)
للاستاذ كامل كيلاني
بهذة القصة النفيسة التالية وأمثالها، أفتتح خواطره (أبو الغصن جحا)، وقد أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحية)، وما أجدرها أن تهدى إلى ساسة العالم وقادة الشعوب، في كل مصر وعصر. لما فيها من تذكرة وعبرة، نقلا عن المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه. ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه. قال (أبو الغصن عبد الله الدجين بن ثابت) الملقب بجحا:
(من الحقائق الثابتة عندي أن أكثر الناس قلما يعنيهم من الأخبار والأحاديث إلا ما يوافق أهواءهم ويلائم مصالحهم. وقد جروا على ذلك منذ بدأ الخليقة، وجارتهم بمثل منطقهم، هربا من الأشتباك وأياهم فيأخذ ورد وتفاديا من التمادي معهم في جدال عقيم.
فتم لي ما أردت، وأبتسمت وبتسم لي الحياة
نقد
النشيد السوري
للأستاذ علي الطنطاوي
ناظم هذا النشيد أديب كبير، وصديق كريم، وهو يعلم أن ليس
له عندي إلا الإجلال والتوقير، وأن الشاعر (وإن نبغ) يسبق
تارة ويقصر، وأن النقد (وإن قسا) لا يصدر عن حقد، ولا
يرمي إلى تحقير، وإن مصلحة الوطن بإصلاح النشيد تسوغ
مفاجأة الصديق الكبير بنقد هذا النشيد
(علي)
كانت نشأتنا الأولى في عهد العثمانيين، وكانت لهم أناشيد يلقونها علينا باللسان التركي، لذا لم نكن نفهم معانيها الضخمة إلا بالترجمة، والترجمة لا تحمل دائماً المعنى كله، فلقد كانت تهزنا ألحانها القوية المثيرة التي وضعت لتكون لمشاة الجيش قوة وعوناً. وكنا إذا أنشدناها سائرين لا نستطيع أن نقف، وإذا تلوناها واقفين سرنا، وإن قرأناها قاعدين حركنا، من غير قصد منا، أيدينا أرجلنا - وإنها لتحرك الحجر! ثم جاء عهد فيصل، وكان عهد ازدهار وحياة، ونشاط بدا في كل شيء، فنشطت فيه الأناشيد العربية من عقالها، فترجمت أكثر الأناشيد التركية فكان منها نشيد:
أنا أمي لم تلدني
…
إلا للحرب العوان
بنغمته القوية، ولحنه العاصف - وكان أسير أناشيد ذلك الزمان وأشهرها نشيد:(أيها المولى العظيم)، الذي اعتبر النشيد الوطني السوري بل العربي، على هلهلة أسلوبه، وضعف معانيه، يليه في الشهرة والذيوع نشيد:
أنت سوريا بلادي
…
أنت عنوان الفخامة
كل من يأتيك يوماً
…
طامعاً يلقى حمامه
لفخري بك البارودي، وهو نشيد ضعيف النسج، متهافت البناء، لكن معانيه في الذروة، واشتهرت أناشيد أخرى منها نشيد:
(سيروا للمجد طراً سيروا للحرب، واستعيدوا بالمواضي دولة العرب)؛ ونشيد طلاب المدرسة الحربية: (نحن جند الله شبان البلاد)، وهو من خيرها لفظاً ومعنى، وقد جمعها (الفلاح العربي) في رسالتيه المعروفتين في تلك الأيام.
ثم لما قضى الله قضاءه فينا في (ميسلون)، ووقعت الواقعة، ودخل العدو ديارنا، منعت هذه الأناشيد كلها، إلا أن تردد همساً، واشتهر يومئذ نشيد الأستاذ أديب التقى رحمه الله:(في كل صوب حشدت عساكر مدججون)، الذي يصور فيه موقعة ميسلون، فكان ينشد وراء الأبواب، وحيث لا يسمعه الغاصبون، وهو نشيد جيد لحنه حزين مؤثر.
وانقطع بعد ذلك سبيل الأناشيد الوطنية، حتى قدم علينا من العراق الكشافون في العهد الوطني الأول (سنة 1936) فأخذنا منهم نشيدين اشتهرا فينا وسارا بيننا، حتى كان الطفل الذي لم يتعلم بعد الكلام يدير في حلقه كلمات منهما، وهما (هذا الوطن حق له أن يفتدى بالدماء والمهج) و (نحن كشاف العراق)، والشعر فيهما ليس بذاك، واللحن فظيع هو أشبه بصراخ لا دلالة له، منه باللحن الذي يؤثر في الأعصاب ويحرك القلب، ولكنهما مع ذلك نشيدان قويان
ووضعت على أثر ذلك أناشيد جيدة منه (نحن الشباب لنا الغد)، ولكن يعيب لحنه هذه الصيحة المؤنثة في آخر البيت، عند تكرار (نحن الشباب)، فهي صيحة عجوز ثاكل كان لها الأمس لا صيحة شباب لهم الغد، والنشيد العظيم حقاً في نظمه ولحنه، ولفظه ومعناه، نشيد:(موطني) لفقيد الشعر إبراهيم طوقان رحمه الله ومن أجودها لحناً نشيد الأستاذ حسني كنعان: (أيها الكشاف بادر وارتق أوج العلا)؛ ولحنه نموذج للألحان الحماسية - نسجل هذا للتاريخ!
وصحت النية على وضع نشيد للجمهورية السورية، وكانت مسابقة، ولجنة وجائزة، ثم عدل عن ذلك واختير النشيد الذي قدمه هذا الأديب الكبير، فلما قرأناه علمنا أنه لوحظ باختياره اسم الشاعر ومنزلته، وإنه لهما لا لبراعة الشعر فرض علينا هذا النشيد، واحتملناه سنين، غير أنه لا يصح أن نحتمله الآن، وقد تم استقلالنا، أو هو قد أشرف على التمام،
واستقبلنا عهداً من حياتنا جديداً، ولا بد من بيان عيب هذا النشيد لنستبدل به:
الأصل في النشيد الوطني أن يكون على لسان المتكلم، لأن الأمة هي التي تردده وتنطق به، وهذا النشيد موجه إلى حماة الديار، مطلعه:
حماة الديار
…
عليكم السلام
أبت أن تذل
…
النفوس الكرام
فمن الذي يقول هذا الكلام، ومن المخاطب به؟ إن كان ينطق به الشباب وهم حماة الديار، لم يعقل أن ينادوا أنفسهم، ويسلموا عليها، وليس هذا من (التجريد) الذي كان يألفه شعراء العرب؛ وإن كان يقوله غير الشعب لم يكن مقبولا. لأن النشيد يوضع ليقوله الشعب، ويترجم به عن آماله ومطامحه.
ثم إن هذا السلام المنكر، من منكر القول، وهو بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام أشبه. وليس يليق بهذا المكان، ولا محل له في البلاغة، هذا إذا كان للسلام ورده داع ولا داعي له هنا أصلا.
ثم يقول بعد هذا:
عرين العروبة
…
بيت حرام
وعرش الشموس
…
حمى لا يضام
فلا يعرف السامع ما عرين العروبة هذا، أهو الجزيرة أم مصر أم الشام أم العراق؟ ولا يعرف المسلم (بيتاً حراماً) إنما يعرف البيت الحرام، لا ثاني له، فهذا التنكير أولا، وابتذال اسم البيت الحرام في كل مكان ثانياً، كلاهما قبيح. وما هو هذا العرش، والنشيد نشيد جمهورية؟ أفنظمه ليكون النشيد الرسمي لبني أمية وأي شموس هذه؟ وما هذا الإبهام حيث لا يحسن إلا التصريح والتوضيح؟ يأتي بعد ذلك هذا المقطع العجيب:
ربوع الشام
…
بروج العلاء
تحاكي السماء
…
بعالي السناء
وأرض زهت
…
بالشموس الوضاء
سماء لعمرك
…
أو كالسماء
أما (بروج العلاء) هذه فتصح في كل أرض يريد أن يبالغ في مدحها القائل، ولا تدل على
ميزة للشام لا تصفها بصفة فيها، ولا تعرف بها الغريب عنها، ولا يحبها إلى أبنائها، فهي كمراثي الأستاذ علي الجارم التي تصلح لغازي وللإسكندر المكدوني وللشيخ المراغي، لأنها تهد الجبال وتبكي السماء، وتقيم القيامة، أو ترسل على الدنيا قنبلة ذرية، لا بحجم البيضة، بل بحجم الفيل، ثم لا تذكر المرثيّ بشيء مما كان عليه. وهذا استطراد نعتذر إلى الشاعر الكبير علي الجارم بك منه، فقد جرته المناسبة.
وما دامت الشام بروج العلاء، وكان ذلك قد تقرر لدى السامع فما معنى كونها تحاكي السماء، وبروج العلاء هي السماء في إفهام الناس كلهم، وهل السماء، أسنى سنا من البروج؟ المسألة تحتاج إلى خبير فلكي.
ثم إن الضياء هو السنا بالقصر وأما السناء بالمد فهو الارتفاع، ومن هنا أطلق على المجد مجازاً، فصار معنى قوله (بعالي السناء) برفيع الارتفاع، وهو الحشو نفسه، وهو إذا قبل في القصيدة لا يقبل في النشيد، لأن النشيد كلمات معدودة وألفاظ محدودة، لا يجوز أن يذهب لفظ واحد منها من غير أن يدل على شيء. وهو بعد أن جعلها بروج العلاء التي تحاكي السماء، عاد فهبط بها فجهلها (أرضاً زهت) ولكن بالشموس الوضاء! وما فهمت إلى اليوم ما يريد بهذه الشموس التي يرددها ولا يشبع من ذكرها، إن كان يريد الحقيقة فهي شمس واحدة ما خلق الله سواها، وأن كأن يقصد المجاز، فليذكر ما يدل عليه ويصرف الفكر إليه، وما كل سامع للنشيد أو تالٍ يستطيع أن يجد له التأويل، هذا إذا كان له ذا الكلام العجيب تخريج أو تأويل.
وأعجب العجب، وأقبح القبح، وأن يعود بعد كل ما مر، فيجعلها سماء، ثم ينزل بها فيجعلها كالسماء، وهذا ضد ما عليه البلغاء في كل عصر، وفي كل أمة ولا أحسب ذوقاً في الدنيا يسيغه، عدا عن هذا الحشو في كلمة (لعمرك)، وعمر من هذا الذي يحلف به؟ ولمن هذا الخطاب؟ والمفروض في النشيد كما بينت أن ينطق به الشعب كله؟!
وما هو مغزى هذا كله، وما دلالته، وأي مجد للشام يذكر، وأي عاطفة تثير؟ لا شيء إلا هذه المناقشة المزعجة في الشام: هل هي بروج العلاء تشابه السماء برفيع الارتفاع؟ أم هي أرض ولكن زهت بالشموس؟ أم هي سماء (وحياة عمرك. . .) أم كالسماء؟ هذه هي المشكلة الوطنية الكبرى، ملأ النشيد بذكرها، وهذه هي آمال الوطن ومطامحه، والله
المستعان!
وباقي النشيد لا يختلف كثيراً عما ذكرت منه على حين أن النشيد يجب أن يكون موضوعاً على لسان الشعب، وأن يكون قوي العبارة، خالياً من الحشو، واضحاً كل الوضوح، صالحاً لكل زمان، معبراً عن آمال الشعب وآلامه ومطامحه، مثيراً نخوته وحماسته، مشيراً إلى ماضيه وأمجاده، وجمال أرضه ودياره، إلى غير ذلك مما يوصل إلى الغاية من وضع النشيد، وهي إثارة العزة الوطنية في النفوس، وأن يختار له النغم القوي من غير خشونة، العاطفي بلا ضعف. وحياة النشيد بلحنه وما يهز هذا اللحن من أوتار القلوب، ويحرك من أعصاب السامعين، فإذا كان لنا نشيد يشتمل على هذا كله. . . وألا فلا تقولوا: لنا نشيد!!
علي الطنطاوي
3 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
الشعوبية:
(أكل كبدي عمر)
(الهرمزان)
(وأبى كسرى علا إيوانه
…
أين في الناس أب مثل أبي)
(مهيار الديلمي)
(أنا ابن المكارم من آل جم
…
وطالب إرث ملوك العجم)
(فقل لبني هاشم أجمعين
…
هلموا إلى الخلع قبل الندم)
(وعودوا إلى أرضكم بالحجاز
…
وأكل الضباب ورعي الغنم)
(الموبذ)
(بهاليل غر من دؤابة فارس
…
إذا انتسبوا لا من عرينة أو عكل)
همو راضة الدنيا وسادة أهلها
…
إذا افتخروا لا راضة الشاة والإبل
(أبو سعيد الرستمي)
(عاج الشقي على ربع يسائله
…
وعجبت أسأل عن خمارة البلد)
(يبكي على طلل الماضين من أسد
…
لا در درك قل لي: من بنو أسد؟)
(ومن تميم ومن قيس ولفهما؟
…
ليس الأعاريب عند الله من أحد!)
(أبو نواس)
أشرنا في المقال الأول (الرسالة - العدد 637) إلى أن كره الفرس العرب بدأ منذ وطئت أقدامهم أرض فارس في عهد عمر بن الخطاب، وأن الهرمزان كان - حين مقامه بعد الأسر في المدينة - حاقداً على عمر، وأنه حين وفد سبى جلولاء إلى المدينة كان يمسح
على رؤوسهم ويقول: (أكل كبدي عمر
وأشرنا في ختام المقال الثاني إلى هناك صلة بين الشعوبية والزندقة ووعدنا هناك ببيان هذه الصلة، وهانحن أولاء نوفي بما وعدنا.
على أننا لسنا هنا في صدد الكلام المفصل في الشعوبية وكل ما يتصل بها، بل همنا أن نعرض بالإيجاز لما يوضح لنا أسباب الزندقة في عهد المهدي العباسي وآثارها وحقيقتها دون تعرض للشعوبية وما يتصل بها من سائر النواحي الأخر.
في زمن النبي عليه السلام بدأ بتوجيه كتبه إلى الملوك والأمراء في شبه الجزيرة العربية وفارس وبلاد الروم، وفيه توجهت بعض البعوث لمحاربة بلاد غير عربية، وفي أبي بكر بعد انتهائه من حروب الردة انطلقت الجيوش العربية الإسلامية شرقاً وشمالا تطرق أبواب مملكة فارس والروم، واستطاعت أن تستولي على بعض بلاد الدولتين، وما كاد عمر يلي الخلافة حتى عبأ الجيوش وقذف بها الدولتين فدك مملكة فارس دكا، وفيها انساحت جيوش قائده الأحنف بن قيس حتى بلغت نهر جيحون، وكاد يعبر النهر مطاردته يزدجرد ملك الفرس ولا أن نهاه عمر عن عبوره اتباعا لسياسته المشهورة التي تقضي إلا تكون بينه وبين جيوش المسلمين مياه، وفتحت جيوش المسلمين في عهده الشام ومصر وقد كان القطران خاضعين لمملكة الروم.
كان يسكن هذه البلاد أقوام من أجيال مختلفة لهم ديانات ونحل شتى وكان من رضى عن الفتح الإسلامي لبلاده، ومنهم من قابله بالحقد والكراهية، فقد كان معنى هذا الفتح سيطرة الجيل العربي على البلاد التي فتحها. وسيطرة الدين الإسلامي على أديان أهل هذه البلاد.
ومن الشائع أن المسلمين في هذه الفتوح إنما كانوا يرمون إلى نشر الإسلام تنفيذاً لفريضة الجهاد في سبيل الله، ولكن هناك أمراً ليس بالشائع وإن يكن غرض آخر من الفتوح، هذا الأمر هو التوسعة بهذه البلاد المفتوحة على سكان شبه الجزيرة من العرب: هو الهجرة من شبه الجزيرة إلى البلاد المفتوحة بعد أن ضاقوا به، ونصيحة عمر بن الخطاب لجنوده الذين وجههم إلى الفرس وتؤيد هذا الرأي، فالفتوح كانت موجة من موجات الهجرة الكثيرة من شبه الجزيرة إلى ما جاورها من البلاد، لكن هذه الموجة تمتاز بأنها تحمل ديناً وتدعو إليه.
ونحن حريون أن ننظر إلى هذا الفتوح من هاتين الناحيتين لا من ناحية واحدة، وألا ندعي لأنفسنا من الفهم للإسلام والعصر الذي ظهر فيه أكثر من فهم عمر الذي كأن من أقرب الصحابة إلى النبي وأعظمهم فهما عنه.
ولقد نظرت الأمم التي دانت للسلام إلى الفتوح العربية على أنها فتوح أمة تنشد لنفسها السلطان على غيرها من الأمم، وتنشد لدينها السلطان على غيره من الأديان: لم ينظر كثير منهم إلى أن هذه الأمة العربية قد جاءت بدين عام للعربي وغير العربي، وأنها تفتح بلادهم لتدعو إليه، بل رأوا أنها فتحت بلادهم للتسلط والاستعمار، وإن كان حكمها خيراً من حكم سواها، وأنها تقصد من الدعوة إلى دينها الدعوة إلى سلطانها الدنيوي.
ولقد ساء الفتح العربي كثيراً من الأقطار المفتوحة، ولاسيما فارس، ولذلك سببه الذي لا بدلنا أن نكشف عنه.
كانت بلاد الشام وبلاد المغرب تحت سيطرة الروم، فلم يكن من نتيجة الفتح العربي إياها إلا أنها استبدلت سلطان العرب بسلطان الروم، ووجدت تحت الحكم العربي من العدل والرغد ما لم تجد تحت حكم الروم، فاستكانت إلى العرب واطمأنت إلى حكمهم حتى فقدت قومياتها ولغاتها.
وكانت فارس قبل الفتح العربي بلاداً مستقلة ذات سيادة وحضارة ومملكة، وكان لها سلطان حتى على العرب، وكانت تحكم قبل الإسلام بلاد اليمن والبحرين والعراق حتى أن كسرى أبرويز حين تلي عليه كتاب النبي الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، غضب ومزق الكتاب وكتب إلى عامله على اليمن (بازان) يأمره بأن يأتيه برأس هذا الرجل الحجازي، وكانت فارس تستعين بقبائل الحيرة في حروبها مع الروم، وتستعين بقبائل العرب على صد المعتدين على حدودها من الروم والأعراب، وعلى خفارة القوافل أثناء مرورها في البلاد العربية، بل لقد استعان بهرام جور برؤساء قبائل الحيرة في الجلوس على عرش فارس بعد أبيه يزدجرد برغم أنوف المعارضين له من الفرس، ولقد كانت لفارس ثقافة وحضارة، وفي اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية دخلتها قبل الإسلام، وفي سيرة ابن هشام أن النضر بن الحارث كان يقول لأهل مكة:(يحدثكم محمد بأخبار عاد وثمود، وأنا أحسن حديثاً منه: هلموا إلي أحدثكم بأخبار رستم واسفنديار والأكاسرة) وقد عرف العرب
المجوسية (الديانة الفارسية القديمة) ويقال إن بعض بني تميم قد اعتنقوها.
ولم يكن لسلطان فارس مثيل قبل الإسلام إلا سلطان الروم، وقد وقعت بين الدولتين حروب كثيرة شهد ظهور الإسلام أواخرها، ويقول المقريزي:(إن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وصولة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب عند الفرس أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة)
ما من شك في أن الفرس كان لهم قبل الفتح العربي سلطان واستقلال ومملكة، وأنهم كانت لهم سيادة على بعض البلاد العربية، وأنهم كانوا يحتقرون العرب، وأن بلادهم هي البلاد الوحيدة التي كانت تتمتع باستقلالها ومملكتها وحضارتها عند الفتح العربي، فلما فتحها العرب سلبوا استقلالها ومملكتها ونظمها، ومن أجل ذلك تعاظمهم - كما يقول المقريزي - الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وأي مصيبة أعظم من فقدان استقلالهم على أيدي أمة كانت أقل الأمم خطراً عندهم. ومن أجل ذلك لقي العرب في إخضاع الأمة الفارسية من المشقات ما لم يلقوا في إخضاع غيرهم من الأمم.
ولقد بقيت فارس تتطلع إلى الاستقلال تحت الحكم العربي من أول يوم دخلت فيه تحته، وظلت موطن كفاح دائم بين الفريقين، واستعان الفرس في مناضلة العرب بجميع قواهم: فاستعانوا بقوة الجيوش مرارا فما أفلحوا، وظل العرب قابضين على نواصيهم لقوة عصبيتهم ضد عصبية الفرس، وشجاعتهم أمام شجاعة الفرس، فلما خانتهم قوة الجيوش حاولوا التمسك بلغتهم وحضارتهم وديانتهم فخابوا بعض الخيبة وظفروا بعض الظفر: ذلك أن اللغة العربية غلبت على لغتهم لغناها ووجوب التعبد بها، وغلب الإسلام ديانتهم بترك بعضهم دينهم خوفا من البطش أو تزلفا إلى الدولة الإسلامية أو إيمانا به، ووهت ثقافة اللغة الفارسية كما وهت المجوسية، وامتزجت الحضارتان، وأناب كثير من العامة إلى الحكم العربي والدين الإسلامي الذي جاءهم به العرب واللغة العربية، واختفت العصبية أول الأمر كثيرا، ومما ساعد على اختفائها عندهم حسن سيرة الحكام في العهد الأول في الرعية وتنفيذهم أوامر الدين في معاملة المغلوبين بنصها وروحها، فكان للمغلوبين ما للغالبين
وعليهم ما عليهم فيما عدا الإدلاء ببعض المناصب، ولكن العصبية لم تذهب - وإن اختفت - من رؤوس رؤسائهم وذراري ملوكهم بل بقيت متأججة يتناقلونها خلفا عن سلف، وقد بدأ ظهورها يزداد منذ انقسام العرب بعضهم على بعض في أثناء الدولة الأموية، وظهور العصبيات الجزئية القبلية التي اجتهد النبي وخلفاؤه ونجحوا في إخفائها، وظهور التفرقة في المعاملة بين العربي وغيره ممن دخل في الإسلام عند الخلفاء والولاة، واحتقار العرب الموالي عامة.
وأول ما بدأ ظهور العصبية الفارسية في فارس، ففيها ضعفت أول ما ضعفت العصبية العربية لظهور العصبيات القبلية، وقلة العناصر العربية فيها لقلة العرب واندماجهم مع الفرس بالتزاوج والتناسل واستقرارهم فيهم وبعدهم عن مواطنهم التي خرجوا منها.
ولقد ظهرت حاجة العرب إلى الفرس بعد الفتح العربي بقليل، فقد انصرف العرب إلى الفتح والجهاد، فغفلوا عما سواه، كما يقول ابن خلدون في مقدمته، وانصرف الموالي من الفرس إلى الأدب واللغة والفقه والنحو فأسدوا إلى هذه النواحي أعظم الخدمات، وكانوا فيها المبرزين دون العرب، ومما يؤثر عن الخليفة سليمان بن عبد الملك (96 - 99هـ) قوله:(ألا تتعجبون من هذه الأعاجم! احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم)
وقوله: (العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم).
ومما يحكى أن عربيا وفارسيا تناظرا بين يدي يحيى البرمكي، فقال الفارسي للعربي:(ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم حتى أن طبيخكم واشربتكم ودواوينكم على ما سمينا ما غيرتموه).
(البقية في العدد القادم)
محمد خليفة التونسي
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 5 -
ب - كسر السجن:
وكان يحدث كثيراً أن يكسر السجناء أو العامة السجن ويخرج مَنْ في السجون، كلما غضبت العامة، أو ثار الجيش، أو قامت فتنة في البلد. وكثيراً ما نقرأ في الطبري (وفي هذه السنة كسر العامة السجن. . .) فمن ذلك أنه لما خرج الراوندية على أبي جعفر المنصور، وكانوا قوماً يقولون بتناسخ الأرواح، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور. أخذ أبو جعفر رؤساءهم فحبسهم. فأقبلوا يطوفون حول قصر الخلافة وقد غضبوا. وأعدوا نعشاً، وحملوا السرير، وليس في النعش أحد، ثم مروا في المدينة حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدّوا على الناس، وكسروا باب السجن فدخلوا وأخرجوا أصحابهم.
ولما شغب الجند على الأمين نقب أهل السجون سجونهم وخرجوا منها فلم يجازهم أحد. وحاول أهل السجن أن يشغبوا زمن المأمون، وأن ينقبوا السجن. فسدوا الباب من داخل ولم يدعوا أحداً يدخل عليهم، وأخذوا في نقب السجن. فلما كان الليل، وعلا شغبهم وصوتهم ذهب المأمون، فدعا بنفر من الشُطّار وأصحاب الشغب في السجن، فضربت أعناقهم، وصُلبوا على الجسر.
وفي زمن المستعين سنة 249 اجتمع العامة في بغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الشاكرية، ففتحوا سجن نصر ابن مالك، وأخرجوا من كان فيه. وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء.
وفي زمن المهتدي (255) اجتمع جماعة من الجند والشاكرية ومعهم جماعة من العامة، حتى صاروا إلى سجن باب الشام، فكسروا بابه في الليلة الثالثة عشرة من رمضان، وأطلقوا أكثر من كان فيه. ولم يبق من أصحاب الجرائم إلا الضعيف والمريض والمثقل.
وفي زمن المعتمد سنة (272) نقب المطبق من داخله وفر بعض المسجونين.
وقبيل وفاة الموفق سنة 278 قامت العامة فانتهبت دار إسماعيل ابن بلبل، وفتحت الجسور وأبواب السجون، ولم يبق أحد في المطبق ولا في الجديد إلا أخرج.
وفي سنة 306 شغب أهل السجن الجديد، وصعدوا السور فركب نزار بن محمد صاحب الشرطة وحاربهم وقتل منهم واحداً ورمى برأسه إليهم فسكنوا.
ويذكر الخطيب البغدادي أنه في سنة 307 كسرت العامة الحبوس في مدينة المنصور، فأفلت من كان فيها. وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية فغلقت وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس فأخذوا جميعاً حتى لم يفتهم منهم أحد.
وفي زمن المقتدر سنة 308 غلت الأسعار ببغداد، وشغب العامة، ووقع النهب، وركب الجند فيها، وشتتتهم العامة، وأحرقت الحبس وفتحت السجون.
ولعلك لاحظت أن كسر السجون كان نتيجة الشغب والفتن وعصيان الجند، وغلاء الأسعار، واضطراب العامة. وهذه أمور كانت مما امتاز به العصر العباسي الثاني. وقد كان للأتراك الشأن الكبير فيها. ولن نورد كل ما ذكره المؤرخون فحسبنا ما ذكرنا.
3 -
موت الخليفة:
وكانوا يطلقون السجناء لموت الخليفة أو عزل الوزير: حدّث التنوخي عن أحمد بن المدبر قال: (لما سجنت مع احمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب معاً قال لي سليمان ذات يوم: رأيتُ البارحة في نومي كأن قائلا يقول لي: (يموت الواثق إلى ثلاثين ليلة. فلما كان يوم الثلاثين، وكان الليل، لم نشعر بالباب إلا وقد دُقّ دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق فاخرجوا).
وربما أطلق الخليفة الجديد المسجونين زمن الخليفة السابق كما فعل المهدي. فقد أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور. إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد. فأطلقوا من في المطبق.
وأطلق المقتدر أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، وأمر محمد بن يوسف القاضي أن ينظر في ذلك.
وذكر ابن الجوزي أن الراضي لما ولي الخلافة أمر بإطلاق من كان في حبس القاهر،
فأطلقوا جميعاً.
وربما يطلقون لعزل الوزير أو موته. حدَّث محمد بن الحسن الكاتب صاحب الجيش قال: (قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله ابن سليمان بن وهب، في وزارته للقاهر على أبي وعليّ معاً. فحبسنا في حجرة من دار ضيقة، وأجلسنا على التراب، وشدد علينا. فقال لنا الموكلون بنا ذات يوم: قد عزم الوزير على قتلكما الليلة. . . فتغير حالي، وقام أبي يدعو الله ويصلي، فلما مضى ربع الليل سمعت الباب يدق، فذهب عني أمري، ولم أشك أنه القتل. وفتحت الأبواب، فدخل قوم بشموع، فتأملت فإذا فيهم سابور خادم القاهر. فقال أين أبو طاهر؟ فقام أبي وقال هاأنذاك فقال: أين ولدُّك؟ قال: هو ذا. فقال انصرفا إلى منزلكما. وإذا هو قد قبض على الوزير محمد بن القاسم، وأحدره إلى دار القاهر، وانصرفنا. وعاش محمد في الاعتقال ثلاثة أيام
ومات.
4 -
العفو:
وقد يطلق المسجون بعفو من الخليفة. مثال ذلك ما حكاه المسعودي، قال: ذكر عبد الله بن مالك الخزاعي، وكان صاحب شرطة الرشيد قال: أتاني رسول الرشيد في الليل. فارتعت. . فلما مثلت بين يديه، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة، فقال إن لم تخلِّ عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة فاذهب فخلِّ عنه، قال فمضيت إلى الحبس وأطلقته.
ومن الطرافة أن تقرأ هذه المنامات، وترى كيف يطلق السجناء بعدها. وقد سرد قسما كبيراً منها التنوخي في الفرج الشدة.
5 -
الاحتيال:
وقد يحتال المسجون بحيلة لينجو. ذكر ابن طيفور أن طاهر بن الحسين كان يتعشق بخراسان جارية من جيرانه يقال لها (ديذا) وكانت توصف بجمال عجيب، وكان يختلف إليها. ولما صار إلى مدينة السلام، وقع في سجنه جار لديذا بجرم خفيف، وطال حبسه، ولم يعرف أحداً يشفع فيه، فاحتال لرقعة لطيفة، أرسلها إلى طاهر، وتوسل إليه بجوار ديذا فلما
قرأها كتب في ظهرها:
ويا جار ديذا لا تخف سجن طاهر
…
فواليك لو تدري عليك شفيق
أيا جار ديذا أنت في سجن طاهر
…
وأنتَ لديذا فاعلمن طليق
ولما سجن عزّ الدولة، إبراهيم بن هلال الصابي؛ احتال هذا على الخروج بأن ألف له مصنفاً في أخبار آل بويه وهو التاجي، فخرج.
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
يا نسيم الخريف
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
يا نسيم الخريف أحييت آما
…
لي بريَّاك يا نسيم الخريف
لك في كل خطرة نفحات
…
من حنان الحاني وعطف الأليف
ولدي كل مهجة ذكريات
…
تجتليها الأحلام مثل الطيوف
أنت حققتها نجوماً وِضاءً
…
في ظلام النسيان ذات رفيف
يا نسيما تهلل الأيك نشوا
…
ن طروباً يشدو له بالحفيف
وجرى النهر راقصاً يتهادى
…
صافحته يد النسيم اللطيف
يده تملأ الفضاء أريجاً
…
عبهري الشذا كمسك مدوف
يا لذاك النسيم طليقاً عليلا
…
سار في حيرة القوي الضعيف
في سهول فيح وواد فسيح
…
ومروج خضر وريفٍ وزيف
داعب الدوح باعتناق الأمالي
…
د وشَعر الصفصاف بالتصفيف
وخدود الورود بالقبل الريَّ
…
امن الشوق والغرام العفيف
وقدود النخيل جمشها، يح
…
سب أن النخيل أعطاف هيف
عجباً يا نسيم ما زلت تسعى
…
حدباً حانياً كقلب عطوف
كم تفانيت في التلطف حتى
…
قد وصلت المشتي بلطف المصيف
ووصلت الشتاء بالصيف والوح
…
شة بالأنس والربا بالكهوف
وجعلت الضحى أصيلا وحر ال
…
قيظ برد المساء بالتلطيف
وبلغت الشطوط وهنان فاستل
…
قيت تغفي حيناً على كل سِيف
ثم دوّيت في الفضاء دوي الر
…
عد في ثورة القوي العنيف
بارداً تجمد الحرارة فيه
…
وهو ماض ببرده كالسيوف
نتمناه في الهجير ونخشا
…
هـ شتاءً متى أتى كالحتوف
يا نسيْم الخريف طابت ليالي
…
ك لقلبي طيب الجني والقطوف
وليالي الخريف أنشودة الشا
…
دي وعيد المنى وحلم الريف
هي في الخفة الطليقة برد
…
وسلام من الجمال الشفيف
كم غمام يختال فيها خفيفاً
…
فإذا اربد لم يكن بخفيف
وسحاب كالبحر أسبح فيه
…
بخيال يجد في التجديف
ونجوم تجلو الدجى لتراها
…
ولنصغي لهمسها المألوف
ولشدو الطنبور أدركه الأي
…
ن فأصغي لأنه الشادوف
عجباً للطبيعة الحسن فيها
…
صور بالألوف بعد الألوف
كم لها من مناظر وشكول
…
وصنوف تجد إثر صنوف
هي حيناً تلوح في نزق الغر
…
وحيناً في حكمة الفيلسوف
وإذا ما تبرجت فكم استح
…
يت دلالا بوجهها المكشوف
كل ما في الطبيعة المثل الأع
…
لى لنفسٍ تحيا بحس رهيف
وأراها بمقلة الشاعر الشا
…
دي وقلب المتيم المشغوف
من يكن يعبد المحاسن طرًّا
…
فبحسبي هذا الجمال الريفي
يا شعب صهيون
(تحدى المؤتمر الصهيوني العام العرب في بيانه الصادر من
القدس)
للأستاذ حسن أحمد باكثير
يا شعب صهيون! لا تبطركم النعم
…
ولا نفوذ لكم تعنو له أمم
ولا يغرنكم مال لكم لبد
…
فالدهر يمهل حيناً ثم ينتقم
دعوا فلسطين وانأوا عن عزائنها
…
ففي عرائنها الآساد والبهم
إن صودقوا صدقوا أو سوبقوا سبقوا
…
أو هوجموا هجموا أو صودموا صدموا
لا تحسبوا أنها تغدو لكم وطناً
…
إذا ارتضت طغمة في الغرب أو طُغم
مصيرها في يدي أصحابها فسدًى
…
ما ترجفون وما شدتم سينهدم
إن كان في يدكم مال ففي دمنا
…
بأس ورثناه عن آبائنا حطم
بأس جرى في دم الأجداد مضطرماً
…
ولم يزل في دم الأحفاد يضطرم
إني لألمح خلف الأفق عاصفة
…
عرباء لا تنقضي حتى يراق دم
وفتنة تتلظى في جوانبها
…
حمر المنايا وتستشري وتحتدم
أعيذكم أن تثيروها بباطلكم
…
فتندموا حين لا يجديكم الندم
البَريُد الأدبيَ
البحتري وإسماعيل صدقي باشا، رؤية المكان البعيد:
1 -
روُى لي أن الأستاذ إسماعيل صدقي باشا لما قابل (سعداً العظيم) بعد تلك الصدعات قال له: يا سعد كلما سعينا في هدمك بناك الله. والبحتري (أحد الثلاثة) يقول:
كم حاسد لأبي العباس مشتغل
…
بنعمة في أبي العباس تشجيهِ
يروم وضعاً له والله يرفعه
…
ويبتغي هدمه والله يبنيهِ
فإن كان الأستاذ إسماعيل صدقي باشا قرأ ديوان (الوليد) فإنه للمفتش المطلع، وإن كان القول من عنده فلوذعيته هي معطيته. وقد سمعت شاعرنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن يذكر (صدقياً) بخير.
2 -
جاء في إحدى المقالات التي تنشرها (الرسالة الغراء) في عنوان (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب):
(قال الأديب الكبير الأستاذ شفيق جبري: (من بالعراق يراك في طرسوما) هذا (شهود البعيد) الذي ابتدعه هؤلاء العفاريت في هذا الزمان).
وقد وجدت خبرا في (طبقات الشافعية الكبرى) للعلامة عبد الوهاب السبكي في (رؤية المكان البعيد) فرأيت روايته، قال:
(التاسع عشر رؤية المكان البعيد من وراء الحجب كما قيل: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي كان يشاهد الكعبة وهو ببغداد).
السهمي
إلى صاحب العزة الأمين العام لجامعة الدول العربية:
من أخبار بغداد الأخيرة نبأ مؤداه أن مجلس الوزراء العراقي قرر منع طلبة البعثات العلمية العراقية من الزواج بالأجنبيات مدة دراستهم. .
ولما كان القرار بالشكل الذي نشر به في الصحف مطلقاً غير مقيد فهو يذكر الأجنبيات دون تحديد أو تخصيص
ولما كان كثير من طلبة البعثات العلمية العراقية يدرسون في البلاد العربية الشقيقة وخاصة
مصر - فقد اختلفت الآراء في تفسير المقصود من هذا القرار وبيان مدى تطبيقه. .
ومهما يكن من أمر فلا شك في أن من سياسة جامعة الدول العربية تقوية الصلات وتنمية الروابط بين البلاد العربية بكافة الطرق والوسائل. كما لا نشك في أن تزاوج الأفراد من مختلف البلاد العربية هو من أنجع الطرق في تحقيق الوحدة القومية بين هذه البلاد إذ بالتزاوج والتصاهر تقوم علاقات لا يمكن أن تنفصم بين الأفراد والعائلات وتكون هذه العلاقات الشخصية الفردية أقوى دعامة للعلاقات العامة القومية في بناء الوحدة العربية المنشودة. .
فإذا نظرنا على ضوء ما تقدم إلى قرار مجلس الوزراء العراقي يكون شمول لفظ (الأجنبيات) لغير العراقيات عموما بما فيهن المنتميات إلى دول أعضاء في الجامعة العربية موضوع نقد معقول لما فيه من تفويت للمصالح المشار إليها ومن تسوية بين رعايا الدول العربية ورعايا سائر الدول الأجنبية وهي تسوية يأباها روح ميثاق الجامعة العربية. بل ويأباه نصه الذي تناول مسألة الجنسية فيما تناوله من الأمور التي تهدف الجامعة إلى توحيدها بين الدول الأعضاء وقد خصصت لها فعلا لجنة من لجان الجامعة.
لهذا أتشرف بأن أقترح على عزتكم أن تقوم الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بمباحثة الحكومة العراقية في إصدار تفسير للقرار سالف الذكّر يتحدد به المقصود بلفظ (الأجنبيات) بما يخرج من مدلوله المنتميات لدولة من الدول الأعضاء في مجلس الجامعة مراعاة لكل ما سلفت الإشارة إليه من الاعتبارات. . وإني لعظيم الأمل في أن تنال هذه المسألة التي لا تنقصها الأهمية حسن الالتفات والاهتمام وذلك لما نعهده في عزتكم بصرف النظر عن مهام منصبكم السامي من إخلاص صادق لقضية العروبة واهتمام دائم بكل ما يخدمها من قريب أو بعيد.
حمد عبد الجليل
رئيس رابطة العروبة بجامعة فاروق
رأي في الشرط الرابع في عضو هيئة كبار العلماء:
يدون الآن بمناسبة تعيين شيخ للأزهر خلاف كبير في الشرط الرابع فيمن ينتخب ضمن
هيئة كبار العلماء، وهو أن يكون قد اشتغل بالتدريس في إحدى الكليات، أو شغل إحدى وظائف الإفتاء أو القضاء الشرعي من درجة رئيس محكمة الخ الخ.
ففريق كبير من علماء الأزهر يرى أن المراد بالكليات التي يجب أن يكون قد أشتغل بالتدريس في إحداها الكليات الأزهرية الثلاث: (كلية اللغة العربية، وكلية الشريعة، وكلية أصول الدين) لا غيرها من الكليات الأخرى.
وقد أفتت لجنة الفتاوي بوزارة العدل أنه يدخل في الكليات الواردة في هذا الشرط غير الكليات الأزهرية من الكليات، مثل كلية الآداب، وكلية الحقوق.
وإني أرى أن هاتين الكليتين لا يمكن دخولهما في الكليات الواردة في هذا الشرط بطريق النص كما أفتت هذه اللجنة، وإنما يمكن دخولهما فيها بطريق القياس للشبه بينهما وبين كلية اللغة العربية وكلية الشريعة، فإذا اشتغل بالتدريس فيهما بعض علماء الأزهر، جاز انتخابه عضوا في هذه الهيئة، وإنكار هذا القياس لا يصح بعد أن جاء الإسلام باعتبار القياس، ولم ينكره إلا من لا يعبأ به من فرق الإسلام، وهذا الشرط لا يقصد منه إلا إخراج مدرسي المعاهد الابتدائية والثانوية
وقد صار للأزهر أبناء لا يحصون يشتغلون بالتدريس في غير المعاهد الدينية والكليات الأزهرية، فلا يصح أن يحرموا من منصب شيخ الأزهر.
عبد االمتعال الصعيدي
البعث:
قرأت أخيراً ديوان البعث للأستاذ الشاعر ابن محمود فوجدت في الديوان رقة عذبة تنساب في القصيدة التي أهداها إلى الآنسة أم كلثوم كما تظهر واضحة في القصيدة (الانطلاق) حيث يقول:
رب يوم أبصرتك العين في الجو طليقا
تنشد الألحان ألوانا، وفي الحب غريقا
ناعم البال بإلف عزفي الأيك رفيقا
وهفت نفسي إلى عيشك في شوق وحزن
أي عيش كان حلوا حينما كنت تغني
غن لي يا طير غن، أي لحن أي لحن
ترى معي أن الشاعر قد رق في هذه الأبيات إلى درجة لا تملك معها إلا الاهتزاز والشوق إلى سماع هذا الطائر المغني.
وكم سرني أن وجدت الشاعر يبتسم للحياة ابتسامة نفتقدها على شفاه أغلب الشعراء فلا نجدها، سرني هذا وظلت به مسروراً إلى أن صادفته يتجهم للحياة مرة أخرى ويبرم بها فيقول: -
أنكر الناس حينما أنكروه
…
فنأى عنهم بشتى المراحل
يا لقومي كم نابغ عبقري
…
في حمى النيل ذكره اليوم خامل
أجل نجده يتابع الشعراء في هذا المضمار، وحبذا لو سلك الطريق المشرق الآخر. . وعلام التجهم والحياة كلها لا تساوي هم ساعة. . . ابتسم يا سيدي فستبتسم هي لك وتلفتك إلى أفراحها.
وأعجبني الشاعر أيضاً حينما تناول ناحية القصص وعالجها، الشيء الذي لا نكاد نجده في شعرنا، وهو بهذا أجرى الشعر في مضمار المجتمع خاصة في قصيدته (عقبى الجهل).
ولكن يظهر أن القافية كانت تتعب الأستاذ الشاعر بعض الشيء ويبدو هذا في قوله:
يسطع البدر بينها كمنار
…
باهر الضوء بالسني مستطار
وقوله في قصيدة أخرى:
وعلى الدنيا وما أبهجها
…
عالما يبهر أرباب العقول
ترى معي أن القافية مجهدة (فمستطار) كلمة أتى بها للوزن فحسب، (وأرباب العقول) كلمتان نسمعها في السوق ولا نقرأهما في الشعر.
وكنت حينما تطول القصيدة ألمس الضعف في الأبيات الأخيرة مع أن القصيدة قد تبتدئ قوية ثم تتدرج في الضعف حتى تصل إلى آخرها فترى البون قد بعد بين مطلع القصيدة وختامها ولو أنها بترت لأصبحت كاملة معنى وليس بها ما يشوب، ويبدو هذا المأخذ واضحا في قصيدته (في الزفاف الملكي).
ولا بد للمتكلم عن هذا الديوان أن يذكر ما به من روح متوثبة قد تقعد بها في بعض
الأحيان وعورة اللفظ والقافية.
وأعتقد أن كل هذه المآخذ سهلة الاستدراك لو تفضل الأستاذ الشاعر وأولاها شيئاً من التفاته
ثروت أباظة
الكتب
هتاف الجماهير
للأستاذ عبد الحفيظ نصار
(هتاف الجماهير) للأستاذ أمين يوسف غراب، ومجموعته تشتمل على خمسة عشر قصة لن يتسع لي المجال للتعرض لها كلها، وأعتقد أن مجموعته في الطليعة عندما يصح أن نختار قصصاً نضعها بكل فخر جنباً إلى جنب مع القصص الأجنبية القوية، كما أنها تتسم جميعاً بأسلوب بارع الوصف، كما أن الكاتب متأنق في اختياره لألفاظه أناقة محببة غير متكلفة، ويأخذك من تعبيراته عطر قوي نفاذ. . . لعله عطر المرأة التي تأخذ دوراً هاماً في أكثر قصصه.
وإليك قصة (طريق الدنس) وهي قصة امرأة ناضرة ناضجة شغل عنها زوجها بسهراته خارجا - فماذا قالت لنفسها وماذا قالت المرآة لها في خلوتها. . . فكرة بسيطة في حوادثها. . ولكني أؤكد أنها في تحليلها لعواطف المرأة لا تقل عما يكتبه مارسيل بريفو، وفي قوة وصفها تقف بكل فخار بجوار قصص موباسان. ليس في القصة حوادث أو حركة كبيرة بل تعتمد على (الحركة النفسية) التي هي موضوع القصة. وذلك شأن القصص الروسية الخالدة التي نعتبرها مثالا في القصص العالمية.
كذلك قصة (الأستاذه) وهي محامية كتبت عواطفها الحارة كامرأة، وتجاهلت نضج ثمارها كشجرة يانعة، فأخفت تلك العواطف وتلك الثمار، تحت رداء المحاماة القاتم، وتكلفت الجد الذي هو بعيد كل البعد عن طبيعتها المشرقة ومضت في الحياة عاملة كرجل. . . ولكن إلى متى يمكنها أن تمضي متجاهلة النداء؟
وأما قصة (البلبل والحمامات السبع) فتصور حياة سبع مدرِّسات في مدرسة إقليمية شاءت مديرتها أن تجعل منها ديرا منعزلا عن الحياة والأحياء - وعلى الأخص ذلك الجنس الآخر مصدر الشر وهو الرجال - فيعشن في سلام معيشة الراهبات.
وليست العبرة عند الكاتب في حوادث القصة. ولكنه يعالج فكرة قد تظهر بساطتها عند تلخيصها. ولكنك ترى عمقها في تحليله وروعتها في عرضه. كما أنه يرتفع في وصفه في هذه القصة إلى درجة عالية من البيان، وقد وصف لنا الرئيسة محللا نفسيتها بأنها امرأة
حلت الأيام مشاكلها مع الزمن على حسابها، خلقة مشوهة دميمة وصوت أجش بغيض وعينان ضيقتان أكل الحقد أهدابهما ولم يبق منهما سوى نظرات نارية حادة لا تكاد تعكس مرئيات الأشياء على عينيها أبدأ وإنما تعكس صفحة وجهها المشوه على خاطرها فتراه دائما وتراه مقترنا بسلسلة تلك المصائب التي جرها عليها هذا القبح طيلة الأربعين سنة التي قضتها في دنياها الشقية. .) فهي لا تكاد تطيق رؤية الفتيات السبع يخطرن أمامها في مرح وسعادة ملء إهابهن الحب والأمل، ومن ذلك يفسر لك قسوتها عليهن وتزمتها في معاملتهن وأخذهن بالتقشف الشديد المر حتى نسين الشباب والابتسام
وأما (البلبل. . .) فهو ذلك العامل الذي تضطر المدرسة الضرورة لاستدعائه من المدينة لبعض الإصلاحات لبضع ساعات ثم تحتال الحمامات على إطالتها إلى ليلة. . وقد تيقظ الفتيات كما تفتح الزهرات لأنداء الربيع، حتى تلك الزهرة الذابلة. . الناظرة. وإني لأحس بأنني اظلم القصة عندما أحاول أن أعطي منها صورة فلا أستطرد في ذكر ما كان. ولكن أحب أن أقول إنها ذكرتني بقصة (ستة وعشرون رجلا وامرأة. . .) لمسكيم جوركي. والبلبل هنا امرأة، وعند قصاصنا فتى، ولكنها لا تشبهها في شيء من الحوادث أو طريق المعالجة ولكن في بعض الخطوط الرئيسية في الفكر النفسية وهي شيء يتشابه فيه البشر في كل مكان
ولكن يختلف الكتاب في تصويره. واله إلى هذا بعض قصص اجتماعية يصف فيها الريف بصميم تقاليده وعميق إحساس أفراده إلى بساطة وسذاجة هما طبائع أهله، قد دل على معرفة ودراسة لأحوال الريف قلما تجدها صادقة في غير تكلف كما تجدها في قصص الأستاذ أمين. ومن هذه القصص (الفطائر الثلاث) ومن أمتع قصصه (مفاتيح الأقفال) وإنه لعنوان رمزي لما استغلق من المرأة، وما المفاتيح إلا الإنسان الذي جعلها تلبي نداءه في أحضان الشيطان. وإنها لمأساة قد يخيل إليك أن الكاتب يصورها بألوان زاهية فاضحة. ولكنه فنان يعرف كيف يتصرف في هدوء حتى بالألوان الحمراء. . .
وقصة (هتاف الجماهير) ليست هي القصة الأولى في المجموعة كما اعتاد بعض الكتاب في تسميتهم المجموعة بأعظم قصة فيها؛ بل هناك قصص أخرى تعلوها. وهي مع هذا ذات نزعة رومانسية عنيفة وتجمع إلى هذا جانب التهكم اللاذع وعلى الأخص في الخاتمة،
والخاتمة عند أمين كأبسط وأروع ما يمكن أن تكون التفاتة بسيطة ذات دلالة عميقة تكفي عنده لأن تكون عقدة القصة. وقصة (طريق الدنس) التي عرضنا لها تعتبر مثالا عاليا لذلك. وتوجد عنده عدة قصص يصور فيها شخصية (البروجوازي) كما تسميه الاشتراكيون، أذكر له قصة اتفق لي أن قرأتها له في إحدى المجلات ولا أدري لماذا لم يضمها إلى هذه المجموعة وهي (الحلوى المسمومة) فقد صور فيها مدى استغلال البروجوازية لعماله. وقد تعدى ذلك لأعراضهم، وله في تصوير هذه الشخصية في هذه المجموعة قصة (صفقة رابحة) و (السيد) وأنه ليعطينا صورة لا تقل عظمة عن تمثيلية (السيد) لموليير وإن كان هذا نموذج للسيد المصري وفرق كبير بين السيدين. أقلهما البيئة وعواملها مع المزاج والثقافة. كما يوجد فرق كبير بين الكاتبين في طريق المعالجة.
ويصدر الأستاذ أمين مجموعة بقصة (أفراح السماء)، وهي قصة إنسانية عالية تصف الطفولة وتشردها. قصة طفلة تتضور جوعا باحثة عن لقمة، تهديها حاستها أو معدتها إلى بائع طعمية تقف أمام دكانه تستنشق رائحتها المحببة، ولا تسل عن خواطرها حينئذ، ولا عن تصوير الكاتب لها، ولكنها أخيراً تتشجع وتطلب منه واحدة؛ فإذا بصاحب المحل الرجل الضخم يجيبها بصفعة هائلة فلم تولول ولم تتألم طويلا فقد تعودت مثل ذلك وكان أن جففت دموعها، وأصلحت أسمالها، وابتعدت عنه قليلا حيث واراها الظلام، وحيث أسندت رأسها المثقل جالسة على الرصيف بعد أن اطمأنت على مكان كوز أعقاب السجاير بين ركبتيها. وابتدأت قصة حلم رائع إذ تقدم منها شاب وسيم شكت إليه جوعها فحملها إلى القصور التي يعلو وصفها على قصور ألف ليلة وليلة، وكان أن رأت هناك استقبالا واحتفاء ومأكلا ونعيما وسعادة بجوار ذلك الشاب الوسيم ما كانت لتحلم به أو لتفكر فيه يوما فتتمتم شاكرة له: إنك لملك كريم. وبعد فراغها من حلمها اللذيذ يكون قد جاء الصباح وعاد صاحب محل الطعمية جلادها بالأمس إلى محله؛ فيجد هذه قريبة منه فتأخذه بها شفقة بعد أن تذكر ما كان منه بالأمس؛ فيحركها موقظا لها فإذا بها جثة هامدة!! ترفرف روحها في السماء. وهذه القصة تذكرني بقصة (بائعة الثقاب) لهانس أندرسون الكاتب النمساوي، وهي أيضاً حلم طفلة تضورت طوال يومها جوعا في البرد وفي ليلة عيد الميلاد ومع ذلك لم تبع شيئا من أعواد الثقاب التي تحملها فخافت أن تعود إلى أبويها؛ فجلست بجوار جدار
وجعلت تستنشق رائحة الإوزة التي تشوى خلف جدار ذلك المنزل وتركت خيالها يدور حول ما فيه من طعام، وأحست بوطأة البرد فجعلت تدفئ أطرافها بإشعال أعواد الثقاب، وعلى ضوئه ابتدأت قصة حلمها فقد رأت جدتها الميتة التي كانت تحنو عليها وتحبها كل الحب وصارت تستنجد الجدة أن تأخذها عندها وأخيراً تستجيب لتوسلاتها. وفي الصباح ترى طفلة ميتة مرتكنة على جدار منزل، وما برح شفتيها ابتسامة الرضى؛ فقد كانت تنعم هناك قرب جدتها، ومع تقارب الفكرة في القصتين فلكل منهما طريقته وأسلوبه ولعل قصة أمين لا تقل روعة عن قصة هانس أندرسون
ولعل كاتبنا أبعد الكتاب تأثرا بالصور التي يأخذها للحياة عن طريق الثقافة بل يلجأ إلى الحياة نفسها ويتغمر بمشاعره بين شخصياتها إذ للكاتب معالجته الكثيرة في الحياة وصوره التي لا تنفد من فصولها ونماذجها الإنسانية التي تحس بحرارة حياتها ولفحات أنفاسها. بل تحس بأجوائه الشعرية العاطرة كأنك تعيش فيها.
بقي أن أقول إن مجموعته جديرة بأن يحتفل بها قراء العربية وأن كاتبها جدير بأن يحتفل به نقاد الأدب والقصة إذ في إنتاجه دليل على حيوية في القصاص المصري، وأمل كبير في أن تزاحم قصصنا الإنتاج القصصي العالمي. وما احسبني مغاليا فيما أقول.
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار
القَصَصُ
أهذه قصة!؟. . .
سبيلك الجديد
للأديب عزيز الحاج
وأخيراً. . مزقتها ثائراً ثم محوتها محواً بعود ثقاب. . .
(مسكين أنت! لا تعرف من الحب غير اسمه الساحر الخلاب، تتوهم أنك فائز بأطايب الحب جميعاً وأنت محروم منها، محروم. وكيف ترضى أن تكتفي من حبيبتك ببسمتها الوضاءة، ونظرتها الحنون دون أن تهفو إلى ما وراء ذلك من المتع العذاب!؟
(لا، يا صاحبنا، لا! أضرم ثغرها بالقبلات الملتهبات، وضمها إليك ضماً يهدهد حواسك العطاش، وانظر إليها نظراتك إلى أنثى ناضجة، فاتنة، لا نظراتك إلى ملاك من نور).
ويصغي صاحبنا إلى أحاديثهم منكراً لها، مجدفا بها، حانقاً عليها؛ ولكنه يضمر إنكاره، ويخفف تجديفه، ويكبت حنقه، فيظنون أنه مقتنع، راض، ويتوهمون أنه سيلبي قريباً نداءاتهم المغريات. .
ويرحل الحبيب، ويتصدع منه الفؤاد، ولكن الرجاء يروح عنه. فهو يعرف أن الفراق لن يدوم، وأن القطار الذي مضى بالتي يهوى سيرجع بها بعد أربعة شهور. فالنأي المروع، أذن، لا يبطن اليأس الدامس، القتال، وإن كان - مع ذلك - يوجعه، ويبريه، ويذيقه اللوعة المرة، والهم الزعاف. .
ويجد أولئك (الأصدقاء) - قد ظل وحيداً - مجالا أفسح ليرددوا نغمات (الوعظ) و (الإرشاد) ماضين في ذلك دون أن يضجروا، أو يملوا، أو يضيقوا صدوراً بثباته العجيب وإخلاصه المكين.
(اهتد، اهتد يا صاح. فماذا تجني من هذا الوفاء الصوفي غير الأشواك والسموم!؟)
على أنه هو الآخر مصر على الوفاء، منطلق في الاسترسال مع هواتف الحب، واستحضار صورة الحبيب. . .
ولكنه إنسان! وإنسان يتعذب ويئن وينوح. فهو غير غني عن السلوى والعزاء، إن قلبه
المصدوع سيودي به حتما إن لم يلتمس ألواناً من اللهو تذهله عن هواه ولو لحين. إن الوحشة السوداء تغلف لياليه والأيام، وإن اللقاء الموعود لن يتم إلا بعد أسابيع طوال مضنيات، فما أحوجه إلى العزاء - أي عزاء!
إنه لا يدرك كل ذلك، وقد ينكره إن يجابه به، ولكنه هو هو ما تهتف به نوازعه الخفية المهمة، وهو هو ما أخذ يهيمن شيئاً فشيئا على خوالجه الباطنة العميقة، وهو هو الذي مهد سبيل (المأساة). . .
أجل لقد ظلت، ظلت أسبوعاً كاملا، ما كنت أصغي في لغير نداء الجسد الحقير.
أبعدت الروح، فقلت للشهوات الراقدات:(هبي! هبي!)؛ وخاطبت المتع الترابية مردداً: (ضميني إليك، عانقيني. . هكذا!)؛ ونصحت الجسد الظمآن قائلا: (اغرف من الينبوع ما طاوعتك قواك، واحتس من الأباريق جهد المستطاع فمن يدري! لعل صاحبك يشمئز يوماً ما من هذه الحال، فيرتد عن ضلالة المبين ويهتدي إلى الحظيرة من جديد)
سعال عنيف، يتصاعد من صدر منهار، وعلى الفراش ثمة إنسان شاحب، هزيل، أضناه السقام، وشفه التبكيت، فيا للمريض!
إنه ليزيد نفسه تعذيبا بقراءة اليوميات (العذرية)، والتي كان يخطها بدمعه الثر، ودمه الغزير قبل فترة (الظلال) إن قرأتها تجسم له خطيئته، وتكبر زلته، وتوحي إليه أنه دنئ دنئ، فهو يتساءل متعجبا آسفا ثائراً: (أأنا الذي فعلت ما فعلت؟! أأنا - أنا الذي ما كنت أصبو ألا إلى السمو والتحليق - أمرغ نفسي في التراب المشوب والطين المهين؟!
(ويل لي! ويل لي من نفسي! وويل لي من الحبيب الذي خنت! وويل لي من الله!)
أيها الجسد الظمآن: ألم أقل إن صاحبك قد يبصر بعد عماه؟
. . . وهكذا مزقتك ثائراً، أيتها الصفحات، ثم محوتك محواً بعود ثقاب، أوديت بك في لحظة من لحظات ثورتي على نفسي وعلى أصدقائي الذين أضلوني؛ وفعلت دون تردد أو نكوص، أحرقتك لكي تصفيك النار، وتعيد إليك نقاءك المفقود، فأنت أيضاً قد دنست، وهم، هم أيضاً الآلي دنسوك، لقد لطخوك كما لطخوا صاحبك المأفون، الذي كان إليهم بين أيام وأيام، فيقرئونك ساخرين، صاحبك الذي أوحت إليه الغرارة والوهم
أن المعفر في التراب قدير على فهم عاشق السماء
برغمي فارقتك، وبرغمي قضيت عليك، ولكن هيهات، هيهات أن أنساك!
هذا أيها العاشق سبيلك الجديد: الصمت المطبق والسكوت التام.
احبس عواطفك في حناياك، وأسدل بينها وبين الناس الحجب والأستار، وع - واذكر ذلك أبداً - أن الجسد لا يريد أن يفهم الروح، ولن يستطيع إن أراد
وأنتما، يا قلمه، ولسانه: صمتاً شاملا أبدياً كصمت القبر الرهيب في الليل البهيم، فقد جنى (المسكين) من ثرثرتكما أفانين النكد وضروب العذاب. . . ارحماه!. . .
عزيز الحاج
نزيل القاهرة