الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 645
- بتاريخ: 12 - 11 - 1945
الفن عام
نعم. لكن بأي معنى؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
(سير كنيث ماكنزي كلارك) هو في الوقت الحاضر أكبر النقاد في فن التصوير بالبلاد الإنجليزية.
وقد تولى إدارة المتاحف الوطنية الكبرى عدة سنوات وهو لم يتجاوز الثلاثين، وبلغ هذه المنزلة الرفيعة في عالم الفن ولما يتجاوز اليوم الثالثة والأربعين.
كتب هذا النقادة العالمي في إحدى الصحف اللندنية بحثاً بدل عنوانه على فحواه وهو (أن الفن ليس لكل إنسان).
ولا نطيل في تلخيص آرائه لأننا قد نستغني عن الإطالة في تلخيصها بمثلين اثنين من أمثلة المتكررة فيهما الكفاية فيما أراد البيان عنه.
إحداهما أن المتحف الوطني اشترى سنة 1840 صورة لفان آيك بثلثمائة وثلاثين جنيها إنجليزياً واشترى معها صورة لجيدو بألف وستمائة جنيه. . . والآن تقدر الأولى بثلثمائة ألف جنيه لو سمح ببيعها، ولا تزيد قيمة الأخرى على الثلاثين.
أما المثل الثاني فهو نتيجة استفتاء لهواة الصور في مجموعة من القطع الفنية الخالدة ومعها بعض القطع التي لا تعلو على طبقة الصور المعدة للإعلان وترويج البضائع.
بيع من هذه المجموعة ثمانون ألف نسخ، وكان أربعة أخماس الصور المعروضة فيها من آيات الفن الكبرى، وما بقي من المجموعة أخلاط وأو شاب.
والذين سئلوا عن رأيهم في أبدع هذه الصور جميعاً هم بطبيعة الحال هواة الفن الذين يسهل على أحدهم بذل الثمن الغالي في كتب التصوير.
ومع هذه أحصيت الأجوبة فإذا بالصور الست المفضلة كلها من غير الآيات الفنية الكبرى، مع أنها تبلغ أربعة الأخماس من صور المجموعة وليست هي بالقلة التائهة بين زحام تضل فيه الأذواق والآراء.
ونعتقد أن المثلين يتكرران في كل بيئة وفي كل فن من الفنون الجميلة، وأن النتيجة لا تختلف عن هذه النتيجة كبير اختلاف.
وإنما يلفت النظر في المثلين أن الغلطة في المثل الأول غلطة نقاد مختصين بالتقويم والتقدير في المتاحف العالمية المعدودة، وأن الغلطة في المثل الثاني غلطة جمهور غفير ولكنه هو جمهور الفن على كل حال.
فما الذي يفهم من هذين المثلين؟
لا يفهم منهما أن ذوق الفن حظ شائع بين سواد الناس، ولا أنه ذوق خاص بالعلية في عصر واحد.
فكيف يقال إذا إن (الفن عام) وإنه تراث عالمي أو تراث إنساني يقاس بمقياس الإنسانية جمعاء؟.
إنما يقال هذا بمعنى واحد لا معنى سواه.
وهو أن الفن (عام) بمعنى أنه للخاصة في جميع الأزمان وليس للخاصة في زمن واحد أو بيئة واحدة.
فإذا كان كذلك كان (إنسانياً) وكان عاماً بهذا المعنى دون غيره، لأن اتفاق الخاصة على استحسانه في كل زمن هو الدليل على أنه قائم على المزايا الإنسانية التي تنال بالفطرة المهذبة، ولا ترجع إلى الأسباب الموقوتة التي ترفع إلى منزلة الخاصة أحياناً في بعض العصور من لا يستحقون التمييز والترجيح.
فإذا كان العمل يروق الخاصة في بعض العصور ولا يروق الخواص في العصور الأخرى فذلك هو الدليل القاطع على أنه لا يروقهم لمزية إنسانية باقية، ولكنه يروقهم لسبب من سببين عارضين: أحدهما أن نزوة من النزوات التي تطغي على العقول والأذواق في بعض الأحوال قد طغت على أولئك الخاصة فأضلتهم عن سواء السبيل، والآخر أنها خاصة مزيفة قد صعدت إلى مكان العلية والسراة لعيب من عيوب المجتمع الذي برزت فيه.
فمن قال إن (الفن عام) لا يصح أن يعني بكلامه هذا أنه خلق للعامة وكل من يعقل أو لا يعقل على السواء، وإنما يستقيم كلامه على وجه واحد وهو أن الفن الرفيع إنساني لأنه يعجب الممتازين من بني الإنسان في جميع العصور.
ونحن نقول العامة والخاصة في مسائل الفن والأدب، ونقصد بهما العامة والخاصة في الأذواق والأخلاق والملكات، ولا نقصد بهما عامة العرف الاجتماعي أو خاصة الأوضاع
والتقاليد.
فالغني قد يكون من أحقر العامة في أذواقه وأخلاقه وملكاته، والفقير قد يكون من أرفع الخاصة في تلك المزايا الإنسانية العليا، وقد يكون هو مبدع الآيات الغوالي في الأدب والتصوير والموسيقى والتمثيل كما حدث ويحدث إلى آخر الزمان.
بل نحن نرى أن العامية أوسع نطاقاً من فوارق الغنى والفقر والذكاء والغباء.
فقد يكون الرجل خاصة في الهندسة وعامة في الشعر والكتابة، وقد يكون خاصة في الأدب وعامة في الموسيقى والتصوير، وقد يكون خاصة في فقه اللغة وعامة في أذواق الفنون، وقد يكون خاصة في الخلق والإنتاج وعامة في النقد والشرح والتفسير.
لأن الإنسان الذي يرتقي إلى مرتبة الخاصة في جميع المحاسن الإنسانية غير موجود ولا يتأتى له وجود.
والمقصود على هذا بخواص الفنون والآداب هم أولئك الذين يحسبون فهمها ويملكون وسائلهم وموازين الترجيح فيها.
وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال كما قال أناتول فرانس إن الجمال الفني سهل وإنه على قدر سهولته يكون نصيبه من الجمال.
فأسهل الفنون هو أجمل الفنون.
ولكن ينبغي قبل ذلك أن تسأل: سهل هو على أي الناس؟
فلو كان المقصود أن تكون سهلا على جميع الناس لخرج من الفنون العليا فن المتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والبحتري وهو مر وجيتي وشكسبير، وارتقى إلى ذروة هذه الفنون كل نظام من سوقة الجماهير يطربهم بالأزجال والمواويل.
ولكن المقصود بالسهولة هم أولئك الذين استعدوا بفطرتهم وتهذيبهم لفهم الجمال الرفيع في آيات مبدعيه والمعبرين عنه من الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى هذا المعنى أيضاً يقال إن (الفن عام) لأنه يعم كل من تهيأ بفطرته وتهذيبه، وكلاهما من صفات بني الإنسان، وليسا من الصفات المستعارة للآدميين من خارج الحياة الآدمية.
والأمر بعد أوضح من أن يحتاج إلى عناء في إثباته وتمييز صوابه من خطئه.
لآن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الأذكياء أكثر من الأغبياء، وأن أصحاب الأذواق أكثر من
المحرومين منها، وأن دقائق البلاغة وأسرار الجمال أخفى من البلاغة الشائعة والجمال المبذول، وأن الإنسان بالفطرة والتعليم معاً أرجح من الإنسان بالتعليم وحده أو بالفطرة وحدها.
ومع ثبوت هذه الحقيقة واستغنائها عن اللجاجة في إقامة البرهان على صحتها لا تكون الدعوة إلى تجريد الفنون من الخاص والعام، ومن الرفيع والوضيع، إلا مسخاً للمزايا وهبوطاً للصاعدين وتسوية بين الذي هو أدنى والذي هو خير.
ولم نر قوياً وهب له الله الصحة يتمارض لأن في الخلق مرضى وضعفاء.
ولم نر ذكياً رفيع الذهن يحرم على نفسه الارتفاع إلى ذراه لأن في الخلق أغبياء لا يطاولونه إذا ارتفع ذلك الارتفاع.
ولم نر صحيحاً موفور الاشتهاء للمآكل أكل الممعودين، لأن الممعودين لا يهضمون كل ما يهضم من الطعام.
فلماذا نحرم على النوابغ والموهوبين أن يفكروا في شيء لا يقوى على التفكير فيه من حرموا النبوغ وهبات الخلق والابتكار؟
ألان الطعام أرفع وأكمل من الذوق والفكر والشعور؟ ألان الارتفاع والامتياز حرام والشيء الوحيد المباح هو الانحدار والتساوي بين نزلاء الحضيض؟
ليقل ذلك من ينفعه أن ينحدر الصاعدون، وأن تخلو الدنيا من التفوق والرجحان.
وإذا قالوه فلا سبيل لهم إلى تحقيقه إلا بقوة الحيوان دون قوة الإنسان.
أما الإنسان فهو لا يقول هذا ولا يستريح إلى سماعه، ولا يأبى أن يكون الفن عاماً لا يستأثر به أناس بغير الحق والاستعداد، ولكنه يأبى أن يعم ليسقط فيه الرفيع إلى منزله الوضيع، لأن زواله خير من بقائه على هذه الحال.
عباس محمود العقاد
في إرشاد الأديب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 16 -
ج 2 ص 227: أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخصيب كان بليغاً مترسلا شاعراً أديباً متقدماً في صناعة البلاغة، وكان بينه وبين ابن المعتز مراسلات وجوابات عجيبة. وهو القائل:
خير الكلام قليلٌ
…
على كثير دليلُ
والِعيُّ معنى قصيرٌ
…
يحويه لفظ طويل
وللبليغ فضولٌ
…
وللعيّ فضول
قلت:
خير الكلام قليلُ
…
على كثير دليلٌ
وللبليغ فصولُ
…
وللعي فضولُ
فالبيت الأول مقفى، والبيت الثالث مصرع، وليس البيتان بمصمتين.
ج 18 ص 238: ابن التعاويذي:
وعلام أشكو والعهود نقضنها
…
بلحاظهن إذا لوين ديوني
هيهات ما للغيد في حب امرئ
…
أرب وقد أربى على الخمسين
ومن البلية أن تكون مطالبي
…
جدوى بخيل أو وفاء خؤون
ليت الضنين على المحب بوصله
…
ألف السماحة عن صلاح الدين
قلت: (وعلام أشكو والدماء مطاحة بلحاظهن) كما روٌى في (الوفيات) في سيرة بطل المسلمين صلاح الدين. وقد يكون الأصل (والدماء مفاحة) وأفاح دمه هراقه كما في (اللسان). وتخلص ابن التعاويذي هو من التخلصات المنكرة وإن لم يبلغ في القبح ما بلغه قول شاعرنا المتنبي:
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي
…
إلى التي تركتني في الهوى مثلا
قال ابن الأثير - وقد روى البيت في كتابه (المثل السائر): والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره، وما ألقاه في هذه الهواة إلا أبو نؤاس فإنه قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد
…
هواك لعل الفضل يجمع بيننا
وفي (معاهد التنصيص) هذا الخبر:
حدثت رابعة البرمكية قالت: كنت يوماً وأنا وصيفة على رأس مولاي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي وبيدي مذبة أذب بها عنه، إذ استؤذن لمسلم بن الوليد الأنصاري، فأذن له، فلما دخل عليه أعظمه وأكرمه واستنشده، ثم خلع عليه وأجازه وانصرف، فما قلت إنه جاز الستر حتى استؤذن لأبي نؤاس، فامتنع من الإذن له حتى سأله بعض من كان في المجلس أن يأذن له ففعل على تكره منه، فلما دخل سلم عليه، فما علمت ولا أمره بالجلوس ولا رفع إليه رأسه، فلما طال عليه الوقوف قال: معي أبيات أفأنشدها؟ قال: افعل، وهو في غاية التكره والثقل، فأنشد إياها، فلما بلغ إلى قوله (سأشكو البيت) قطب وجهه، وقال: أمسك، عليك لعنة الله! اغرب، قبحك الله! وأمر بإخراجه محروماً فأخرج، والتفت الفضل إلى أنس بن أبي شيخ وقال: ما رأيت مثل هذا الرجل ولا أقل تمييزاً في كلامه منه. فقال أنس: إن اسمه كبير!
فقال: عند من ويلك؟ هل هو إلا عند سقاط مثله وخلق يشاكلونه. . .؟
ج 18 ص 156: قد خدمت سيف الدولة - تجاوز الله عن فرطاته - وأنا ابن تسع عشرة سنة.
وجاء في الشرح: الفرط: الظلم والاعتداء.
قلت: لا يقصد القائل - وهو الحاتمي اللغوي - بهذا الدعاء الظلم والاعتداء. في الأساس: وتقول: اللهم اغفر فرطاتي، ولا تؤاخذني بسقطاتي. وفيه: ولا يخلو أحد من سقطة، وفلان يتتبع السقطات ويعد الفرطات، والكامل من عدت سقطاته. وقد روى التاج هذا القول وقال: السقطة: العثرة والزلة.
ج 6 ص 214: قال (الصاحب بن عباد): ما أفظعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاقٌ، فنظرت إلى حاجبي، فقال له وهو يصعد إلى: اخلع نعلك، فقال: ولم؟ ولعلي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني
الضحك، وقلت: أتراه يريد أن يصفعني. .؟ وجاء في الشرح: يقال: أفظعه الأمر: اشتدت شناعته، وجاوز قدره، وأفظعه الأمر وجده فظيعاً. ويقال: نعل طاق عطف بعضه على بعض، وربما قيل طاق نعل، ومن إضافة الصفة إلى الموصوف قلت:(ما أقطعني)(وفي رجليه نعل مطرقة أو مطارقة)(أتراه يريد).
في التاج: ومن المجاز: قطع خصمه بالحجة. وفي الأساس: بالمحاجة غلبه بكته كأقطعه.
وفي الأساس: ونعل مطرقة ومطارقة: مخصوفة وكل خصفة طراق. وفي النهاية: طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق وركب بعضها فوق بعض. وفي حديث عمر: فلبست خفين مطارقين أي مطبقين واحداً فوق الآخر. وروى بعضهم المطرقة بتشديد الراء للتكثير، والأول أشهر.
ج 1 ص 157: الرجوع إلى الحق خير من التمادي عل الباطل.
قلت: (خير من التمادي في الباطل) في الأساس: وتمادي في الأمر: تماد فيه إلى الغاية. وفي اللسان: تمادى فلان في غيه إذا لج فيه وأطال مدى غيه أي غايته. وفي (الكشاف) في تفسير (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)
فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم آمنا بالله وباليوم الآخر خبثاً مضاعفاً، وكفراً موجهاً لأن قو لهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق، وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان، فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً وكفراً إلى كفر.
ج 15 ص 196: وكتب (علي بن يوسف القفطي يعرف بالقاضي الأكرم) إلى القاضي الفاضل رقعة وضمنها البيت المشهور:
نميل إلى جوانبه كأنا
…
إذا ملنا نميلٌ على أبينا
قلت: الرواية (نميل على جوانبه) وبعده:
نقلبه لنخبر حالتيه
…
فنخبر منهما كرماً ولينا
والبيتان لأبي الجهم العَدوَى يقولهما في معاوية (رضى الله عنه) وقد رواهما ابن قتيبة في
(عيون الأخبار) في (باب الحلم والغضب).
ج 1 ص 138: تنسم أعلى السماء. قلت: تسنم أعلى السماء. في التاج: تسنم الشيء تسنما وسنمه تسنيما علاه. وتنسم النسيم إذا تشممه كتنسم العليل والمخزون إياه فيجدان لذلك خفة وفرحاً.
ج 6 ص 15:. . . قد والله زانيته دفعات.
وفي الشرح: في الأصل زينته فأصلحتها إلى زانيته بمعنى نسبته إلى الزنا ويقال أزناه نسبه إلى الزنا.
قلت: الأصل صحيح وياقوت هنا ينقل من الأغاني واللفظة في كتاب أبي الفرج هي كما جاءت في (الإرشاد) في الأصل. وفي (الأغاني) هذا الخبر:
المدائني قال: قال عبد الله بن مسور الباهلي يوماً لأبي النضير وقد تحاورا في شيء: يا ابن اللخناء، أتكلمني ولو اشتريت عبداً بمئتي درهم وأعتقته لكان خيراً منك؟ فقال له أبو النضير: والله لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلها. فغضب الباهلي، فقال له بشار: أنت منذ ساعة تزني أمه ولا يغضب، فلما كلمك كلمة واحدة لحقك هذا كله. فقال له: وأمه مثل أمي يا أبا معاذ؟ فضحك ثم قال: والله لو كانت أمك أم الكتاب ما كان بينكما من المصارمة هذا كله.
وقد أورد اللفظة كما قصد هنا الصحاح والأساس واللسان والتاج. وفي كتاب سيبويه ج 2 ص 235: فأما خطأته فإنما أردت سميته مخطئاً كما أنك حيث قلت فسقته وزنيته أي سميته بالزنا والفسق كما تقول: حييته أي استقبلته بحياك الله.
ج 14 ص 107: فدخلت عليه وهو جالس على كرسي ملوكي وعليه بغدادية مشهورة وعلى رأسه بطيخية.
وجاء في الشرح. يريد ثيابا بغدادية، والبطيخية قلنسوة على شكل البطيخة.
قلت: (بطيخية) في المصباح: قال ابن السكيت في باب ما هو مكسور الأول. وتقول هو البطيخ، والعامة تفتح الأول، وهو غلط لفقد فعيل بالفتح.
ج 13 ص 36: وله (لعلي بن حسن الباخرزي):
يروقك بشرا وهو جذلان مثلما
…
تخاف شباه وهو غضبان محنق
كذا السيف في أطرافه الموت كامن
…
وفي متنه ضوء يروق ورونق
قلت: (وهو غضبان محنق) في الأساس: مالك مغيظا محنقاً. وفي السيرة لابن هشام وديوان الحماسة:
هل يسمعن النضر إن ناديته
…
أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمدٌ ولأنت ضنء نجيبة
…
في قومها والفحل فحل معرِقِ
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنَق
فالنظر أقرب من أسرت قرابة
…
وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
…
لله أرحام هناك تُشقق!
وهذه الأبيات من مقطوعة مصنوعة أوردها محمد بن إسحاق في (السيرة) وقال: (وَقالت قُتَيْلة بنت الحارث أخت النضر ابن الحارث تبكيه) وقد استجادها حبيب - وإنها والله لجيدة - فاختارها في (حماسته).
وابن اسحق هذا هو الذي يقول فيه ابن معين - كما جاء في ميزا الاعتدال ونقد الرجال -: (ما لابن اسحق عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة والأشعار المكذوبة) وجاء في الميزان: (قال أبو بكر بن الخطيب: روى أن ابن اسحق كان يدفع إلى شعراء وقته أخبار المغازي ويسألهم أن يقولوا فيها الأشعار ليلحقها بها) وقد ندد محمد بن سلاّم الجمحي في (طبقات الشعراء) بابن اسحق ونقل طعنه فيه السيوطي في (المزهر).
والنضر بن الحارث أسر في بدر وقتله على بن أبي طالب (رضى الله عنه) صَبرا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء وقيل بالأٌثيل. (وكان بن الحارث من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا (والله) يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إلى، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار).
قال ابن هشام راوي خبر النضر:
(فيقال (والله اعلم) إن رسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: لو بلغني هذا
قبل قتله لمننت عليه).
قلت: إن الذي قيل هو من الأباطيل، فما عملت قتيلة في أخيها شعرا، ولم يقل النبي ما عزى إليه، وما كان النضر المحتشد المجتهد في هدم ذاك البناء الإسلامي الإنساني العربي حقيقياً بأن يمن ذلك الباني عليه.
من خواطر جحا
الغراب الطائر. . .!
للأستاذ كامل كيلاني
(مهداة إلى نقله الشوائع والأخبار الذين عناهم الشاعر بقوله):
(هم نقلوا عني الذي لم أفه به وما آفة الأخبار إلا رواتها)
يسرنا أن ننقل إلى القراء القصة البارعة التالية من المقدمة الشائقة التي صدر بها (عبد الله جحا) خواطره وقصصه نقلا عن المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه أو أحد معاصريه.
قال: (أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا: (سمعت ذات يوم أن رجلا - في أقصى المدينة - تقايأ غراباً، ثم لم يلبث الغراب أن طار، وغاب عن الأنظار. فسألت مخبري عمن أخبره بهذا؟ فقال: (فلان) فرحت إلى (فلان) أسأله جلية الخبر، فقال:(لقد رويت لصاحبي هذا الخبر، ولكنني لم أقل إن الغراب طار، بل قلت إنه سار (أي مشى)، فسألته عمن أخبره بذلك؛ فقال:(فلان)، فلما سألت فلاناً أخبرني أن الغراب لم يسر ولم يطر، ولكنه وقف ساكناً، ثم مات بعد قليل. وسألته عمن أخبره بذلك فسماه لي، ومازلت أتقصى الخبر من رواته - واحداً بعد الآخر -: هذا يخبرني أنه سمع أنه لم يتقايأ غراباً، بل طائراً يشبه الغراب. وما زال الخبر يتناقص كلما تتبعته وقربت من مصدره، حتى لقيت صاحب القصة نفسه، فلما أفضيت إليه بما سمعته، وسألته عن جلية الأمر، ضحك متعجباً من تحريف الأخبار ثم قال:(لقد تقايأت - منذ أيام - فقال أحد الحاضرين مداعباً: إن قيئك يشبه لون الغراب. ومازال الخبر ينتقل من واحد إلى آخر حتى زعم الزاعمون أنني تقايأت - كما سمعت - غراباً، ثم لم يلبث الغراب أن طار، وغاب عن الأبصار). . .
(وفق الأصل)
كامل كيلاني
التصوير الفني والعقيدة في القرآن
للأستاذ سيد قطب
طال الجدل بين الأستاذ عبد المنعم خلاف وبيني حول هاتين النقطتين منذ أصدرت كتابي (التصوير الفني في القرآن) ولم يكن بد من أن يطول، فالموضوع في ذاته خصب يحتمل الجدل الطويل، والأمر بيني وبين الصديق في هذا الجدل ليس فكرة عارضة ولا خاطرة سريعة، وإنما هما نظريتان مختلفتان للعقيدة بل للحياة. فما سجلته في كتابي وما ناقشت به الأستاذ عبد المنعم هو خلاصة عقيدتي ورأيي وفلسفتي الخاصة المبنية على كل تجاربي النفسية والذهنية في رحلتي على هذه الأرض. وما كتبه في مناقشتي هو امتداد لآرائه في كل ما قرأت له. وبخاصة في كتابه القيم (أومن بالإنسان)، ذلك الذي أقعدني المرض أربعة أشهر عن أن أفرغ له يستحق من النقد والتنويه
وقد تشعب الجدل بنا في تفصيلات وجزيئات لا مجال لإعادة الحديث فيها بعد هذا الأمد الطويل، فأحب أن أرد المسألة إلى أصلها الواحد الكبير لتكون لدى القراء منها صورة كلية يشارك في دراستها من يشاء
المسألة في صميمها تتلخص في كلمات:
أمن الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة. وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود؟
أما أن فلا أتردد في الإجابة بالنفي على هذا السؤال، فأنا لا أثق بالذهن كل هذه الثقة، ولا أعتقد أنه ينهض وحده لحمل هذه الأمانة؛ وإنما قصاراه في هذا المجال أن يكون منفذاً واحداً من منافذ العقيدة إلى النفس الإنسانية - وليس هو مع ذلك أقرب المنافذ ولا أصدقها - وإنه لن يصل إلى شيء يذكر إلا بوحي من البداهة وهدى من البصيرة، البداهة التي تدرك الحقائق الخالدة في هذا الكون منذ النظرة الأولى وبلا فلسفة ذهنية ولا قضايا منطقية، والبصيرة التي تتصل مباشرة بالله فتدرك وجوده إدراكاً كلياً قد يعجز الذهن عنه لو تركنا له وحده المجال. ومن هنا كان (المنطق الوجداني) الذي يعتمد على هذه الحقائق الخالدة، وعلى إدراك البصيرة لها وإقرار البداهة بها، هو الطريق الذي سلكه القرآن في تقرير العقيدة الإسلامية، لأنها (عقيدة)، وكل عقيدة مقرها الضمير الإنساني الكبير لا الذهن
البشرى المحدود الصغير
وأما الأستاذ عبد المنعم، فيبدو أن ثقته بالذهن كبيرة إلى حد أن يعهد إليه بالأمر كله، ويأتمنه عليه في النهاية!
على أنه كان يكون هناك محل للجدل، لو أنني أخرجت الذهن كلية من المجال، ولكنني لم أرد هذا، وليس في كتابي ما يدل على أنني أردته، وقد نقلت منه في كلماتي الماضية نصوصاً كثيرة، ثم قرأه الكثيرون أيضاً، ولست أعتقد أن أحداً من القراء قد فهم أنني أطرد الذهن من الحلبة؛ إنما أنا أضع الذهن في مكانه المناسب، فلا أغفله إغفالا في مجال العقيدة، ولكنني كذلك لا أتجاوز به هذا المكان المحدود
وأحب أن أصحح هنا وهماً صححته من قبل في الكتاب في هذه الفقرات:
(كانت وظيفته القرآن إذن أن ينشئ هذه العقيدة الخالصة المجردة - عقيدة التوحيد - وموطن العقيدة الخالد هو الضمير الوجدان - موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها - وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس. وما الذهن في هذا المجال إلا منفذ واحد من منافذ كثيرة، وليس على أية حال أوسع المنافذ ولا أصدقها ولا أقربها طريقاً.
(وبعض الناس يكبرون من قيمة هذا الذهن في هذه الأيام بعد ما فتن الناس بآثار الذهن في المخترعات والمصنوعات والكشوف وبعض البسطاء من أهل الدين تبهره هذه الفتنة فيؤمن بها، ويحاول أن يدعم الدين بتطبيق نظرياته عل قواعد المنطق الذهني أن التجريب العلمي!
(إن هؤلاء - في اعتقادي - يرفعون الذهن إلى آفاق فوق آفاقه. فالذهن الإنساني خليق بأن يدع للمجهول حصته، وأن يحسب له حسابه. لا يدعو إلى هذا مجرد القداسة الدينية. ولكن يدعو إليه اتساع الآفاق النفسية، وتفتح منافذ المعرفة. (فالمعقول) في عالم الذهن، و (المحسوس) في تجارب العلم، وليس كل (المعروف) في عالم النفس. وما الفكر الإنساني - لا الذهن وحده - إلا كوة واحدة من كوى النفس الكثيرة. ولن يغلق إنسان على نفسه هذه المنافذ، إلا وفي نفسه ضيق، وفي قواه انحسار، لا يصلح بهما للحكم في هذه الشئون الكبار).
والأمر الذي أريد أن أقرره، وأصحح به وهماً قد يرد على بعض الأذهان: هو أن العقيدة أكبر من الذهن، فلا يعيبها ألا تعتمد على الذهن وحده، وأن يكون لها منافذ إلى الضمير الإنساني غير هذا الذهن المحدود.
ولم يفتني أن أشير إلى هذا في ختام الفصل الذي عقدته في الكتاب تحت عنوان (المنطق الوجداني) فقد جاء فيه:
(لم يكن المنطق الذهني ليصل إلى شيء لو اتبعه القرآن؛ لا لأن ما فيه من حقائق لا يثبت لهذا المنطق؛ ولكن لأن العقيدة لا ينشئها هذا الجدل. إنها دائماً في أفق أعلى من هذه الآفاق. وما يعيب العقيدة أن يكون عمل الذهن فيها ضئيلا. فما الذهن إلا قوة صغيرة محدودة، تتعلق باليوميات، وما هو بسبب من اليوميات)
والذي أعتقده أن (المجهول) قسط أساسي من بناء كل عقيدة - ومن عقيدة الإسلام بالطبيعة - وحين تخلو العقيدة من روعة المجهول تستحيل رأياً، ولا تملأ جوانب النفس الإنسانية جميعاً.
وما دامت للمجهول حصته في العقيدة، فهناك مجال لغير الذهن بكل توكيد. والعقيدة - أية عقيدة - كلٌّ لا يتجزأ في داخل النفس، وإن تجزأت قضاياه وتعددت أمام الذهن. والشك في قضية منها معناه تخلخل جميع قضاياه
ويجهد الذهن ما يجهد في فلسفة العقيدة فيكون له هذا، ولكن بعد أن تكون العقيدة قد استقرت في الضمير، وسلكت إليه طرائق شتى ليس الذهن إلا واحداً منها، لم يكن ذا أثر حاسم ولا أثر ظاهر في عملية البناء.
وإنه لحسب الذهن أن تكون وظيفته هي تفسير هذه العقيدة بعد بنائها. تفسير ما يستطيع تفسيره منها، أما ما لم يستطع، فليقف على أبوابه هناك، فقد استلهمته النفس من منافذها الأخرى التي لا شك فيها
أما الاستدلال بالآيات التي استدل بها الأستاذ على أن الذهن هو محور الإثبات فيها، فلا أزال فيه عند رأيي الذي أبديته: وهو أن القرآن كان أعرف بالنفس الإنسانية من الأستاذ عبد المنعم فلم يسق الآيات سياقته لها، بل تركها في إجمالها الذي يخاطب قوى النفس جميعاً، ولا ينفرد بالذهن المحدود في نقاش جدلي قابل للردود الجدلية على طريقة الذهن
المعهودة. . .
على أن هناك واقعة تاريخية لا سبيل إلى الجدل فيها: هي أولئك الذين آمنوا، أو كثرتهم التي لا يتخلف عنها إلا أفراد. وهؤلاء لم ينتظروا من يفلسف لهم الأدلة، حتى يؤمنوا بالمنطق الذهني؛ إنما هم استراحوا إلى نصوع هذه العقيدة ونفاذها إلى نفوسهم من شتى منافذها، فآمنوا مطمئنين!
أما القضية الأخرى التي يجادلني فيها الأستاذ، فهي قضية التصوير الفني في القرآن. . . وهي أيسر وأوضح من القضية الأولى
فأما أنا، فرأيي أن إدراك التصوير القرآني في هذا المستوى المعجز إدراك لسر الإعجاز في تعبير القرآن.
وأما هو، فيرى ألا أذكر كلمة الإعجاز هذه، لأن هذا السر يجب أن يبقى مجهولا أبداً حتى يتحقق له وصف (الإعجاز)
ولقد قلت من قبل، وأكرر اليوم: إنه ليس من الحتم أن يكون الأمر المعجز هو المجهول السر، فيكفي ألا يستطيعه أحد مع
التحدي. ولم يستطع أحد أن يرقى إلى مستوى التناسق الفني في هذا التصوير، فإدراكه إدراك لسر الإعجاز - على الأقل في هذا الأوان، وليس ما يمنع من ظهور أسرار أخرى غير ما ظهر منها حتى الآن -
على أنني كنت دقيقاً في التعبير، فلم أقل سر الإعجاز في (القرآن) إنما قلت: سر الإعجاز في (تعبير) القرآن. وفرق كبير ما بين العبارتين. فالإعجاز في القرآن شائع، وشامل لتعبيره ومنحاه وقضاياه. . . الخ
غير أن العجيب في الأمر أن الأستاذ عبد المنعم الذي يريد أن يعهد إلى الذهن البشري بقضية العقيدة كلها، لا يأتمن هذا الذهن على إدراك سر من أسرار الإعجاز في تعبير القرآن.
وكلمة أخرى تتصل بالجدل وإن تكن ليست منه:
لقد شكا الأستاذ عبد المنعم من عبارات جاءت من غير قصد في ردودي، فأحب ألا يكون في نفسه منها أثر، ليظل هذا الجدل العلمي المفيد بعيداً عن جميع المؤثرات
وبدوري أشكو إليه كلمة ظالمة قالها عن كتابي، تاركا ما عداها مما لو رحت أعده عليه، لأربي على مواضع عتبه:
هذه الكلمة الظالمة هي أن يقرن بين بعض عملي في (التصوير الفني في القرآن)، وبعض عمل المرحوم الأستاذ (الرافعي) في (إعجاز القرآن)، وإنه ليعلم، وقراء الكتابين يعلمون أنه ما من نقطة ارتكاز واحدة بين النهجين والطريقتين. بل لقد قرر بعض النقاد المنصفين أن طريقتي في عرض الجمال الفني في القرآن غير مسبوقة في كل ما كتب عن هذا الموضوع الخالد على الزمان
وكل ناقد منصف عليه أن يسجل أولا هذه الحقيقة. ثم ليكن له رأيه في نقد هذه الطريقة وعيبها كما يريد؛ فهي قابلة للنقد والعيب ككل عمل إنساني في الوجود.
وعلى أية حال فللأستاذ عبد المنعم شكري الخالص، وإليه ثنائي الجم الذي أحسب القراء يشاركونني فيه، لإخلاصه فيما كتب وسلوكه طريق النقد الصحيح.
سيد قطب
من التاريخ الإسلامي
رجل وامرأة. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
(يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه وربما كان صحيحاً هذا الذي
يقولون)
(ع)
كان ذلك في يوم من أيام سنة 607هـ وكانت دمشق تصارع دهرها الغاشم الحرون، الذي رمى بلاد الشام بقاصمة الأصلاب: الصليبيين، فنزلوا على مدنه نزول البلاء، وفشت أجنادهم في نابلس وعكا وبلاد أخر فشو الطاعون، وكان صبرها يزيد كلما زاد الكرب، وحزمها ينمو كلما نمت المصيبة، شأن دمشق في كل عصر. وكأن طوفان المغيرين يمتد ويتسع، يحمل الموت والدمار، يأتي على البلاد والعباد، يجتث الحضارة من أصولها، وأهل الشام ينهضون له فلا يملكون له دفعاً، حتى كادت الديار تخلو من شبابها، ولا يبقى فيها إلا شيخ أو امرأة أو صبي. . . أو قَعدي نسى واجب الجهاد!
. . . وقد ذهب فيمن ذهب اخوة (ميسون) الأربعة، وبقيت من بعدهم وحيدة في دارها لا يؤنسها إلا شبابها وجمالها وذكرى اخوتها
أصبحت ميسون مهمومة، قد تقاسم فكرها العزيزان: وطنها وإخوتها، فما تدري ماذا جرى لهم، وماذا يجري عليه، ولقف
سمعُها طرفاً من أحاديث المارة، فعلمت أنه قد اشتد الخطر، ودنا الهلاك، وأن هؤلاء (الواغلين. . .) لا يفتأون يركبون جناح الليل الأسود، إلى شاطئ فلسطين، تحملهم المواخر الهاربة من عين الرقيب، المتسللة من وراء الحرس، فكلما دجا الظلام نزلوا إلى الشط أفواجاً فكانوا للغاصبين عوناً، وعلى أهل البلاد حرباً، وجعلت تفكر في هذه العصبة المجاهدة الكريمة، ماذا تستطيع أن تصنع لها؟ وكيف توقد النار في أعصاب هؤلاء الذين لا يزالون يروحون ويغدون على متاجرهم وأعمالهم، ويأخذون حظوظهم من مفاتن الطبيعة وجمال الكون، وتنسيهم ملذات أجسامهم ومرابح تجارتهم، وهذا الخطر الذي عم البلاد،
والذي طال الزمان به، ونشأوا عليه، فألفوه ونسوا أيام الحرية والمجد، وأن هذه البلاد بلادهم، وأنهم سلائل الأبطال الفاتحين، وحسبوا حكم هؤلاء (الواغلين. . .) ضربة لازب، وأن قضاء الله قد تم فيهم فلا ينفع معه سعي، وأن أيام السعادة قد انتهت فلا نؤمل لها رجعة، كيف لها وهي الفتاة المفردة بإيقاظ هذه النفوس التي امتد بها الهجوع حتى كاد يكون موتاً؟ كيف تفهم هذه الشخوص التي تجئ وتذهب كشخوص من ورق في ألعوبة (الكراكوز)، أن الحياة ليست بطناً يملأ، ولا شهوة تقضى، ولا مالاً ينال، ولكن الحياة المجد والتقى، وجلائل الأعمال، وأن يعرفوا للوطن حقه، وأن يعلموا، ويعلم كل عربي، وكل مسلم، أنه ما دام في فلسطين (واغل. . .) واحد من هؤلاء فحرام أن ينعم زوج بأهله، أو غني بماله، أو يغلق جفن على لذيذ المنام؟
وأنها لفي تفكيرها، وإذا بالباب يخفق، وإذا هو نعي اخوتها الأربعة. . .
صعقت ميسون لهذا النبأ، وعجز جسمها اللدن، وقلبها الرقيق عن حمله، فتضعضعت وانهارت، ولكن الإيمان والشباب تنبها في نفسها، ونهضا من تحت أنقاض الصبر، وخلال غبار المصيبة، يوقظان اللبؤة للانتقام. لقد كان وتراً واحداً فصار وترين، وكانت تطلب ثأر وطنها فلتطلب ثأر وطنها واخوتها، ووضعا البارود في أعصابها كما يوضع في المدافع، ثم أرسلاها في هذا الشعب الهاجع، تقرع أذنه بالرعود فيفيق أو ينام إلى الأبد. . .
وأحست ميسون أن في عضلاتها القوة التي تهز دمشق هزاً، وفي حنجرتها الصوت الذي يسمع الأموات، وفي قلبها العزم الذي لا يكل، والمدد الذي لا ينقطع، والأيد الذي يفل الجيوش، ويدك الحصون؛ وكذلك الإيمان إن نزل بقلب امرأة جعل منها بطلا يغلب، وما أعجب ما يصنع الإيمان!
وهمت ميسون أن ترتدي ثيابها ثم تطلب ميدان العمل، وتلفتت حولها لم تجد لها في الأرض قريباً، ولا ذا رحم، فقطعت أسبابها من الأرض ثم وصلتها بالسماء، فشعرت كأنها مؤيدة بقوة إلهية، اصطفتها من دون الناس، لتعلم، وهي الفتاة الغريضة الناعمة، لتعلم هؤلاء الرجال، الرجولة كيف تكون! ولم تعلم من أين تبدأ العمل، وجعلت تفكر، وهي تمر يدها على شعرها المنسدل حولها، المتموج كالحرير يفتن العباد لو أرادت به الفتنة ويأسر قلوب الفرسان، فسطعت لها الفكرة كما يسطع البرق خلال الظلام، إن هذا هو سلاحها،
لتشدن الرجال بهذا الشعر الناعم، ثم لتقودنهم من أعناقهم إلى المعمعة الحمراء، لتجعلن من ضعفه قوى تأكل القوى.
وذهبت فنادت جارات لها كن يقتدين بها، ويسمعن منها، فذكرت لهن مصابها في اخوتها، فحسبنها قد دعتهن ليواسينها ويخففن عنها، ولكنها مضت في حديثها مصعدة، حتى سمت إلى فلك التضحية ونسيان النفس ورفعتهن معها، حتى إذا استوثقت منهن، قالت: إننا لم نخلق رجالا نحمل السيوف، ونقود الخميس، ولكنا إذا جبن الرجال لم نعجز عن عمل، هذا شعري أثمن ما أملك أنزل عنه، أجعله قيداً لفرس تقاتل في سبيل الله، لعلي أحرك هؤلاء الأموات.
وأخذت المقص فجزت شعرها وصنع الفتيات صنعها، ثم جلسن يضفرنه ليوم الكريهة، لجماً وقيوداً لخيل المعركة العابسة، لا يضفرنه ليوم الزفاف، ولا لليلة العرس.
أرسلن هذه القيود واللجم إلى خطيب (الجامع الأموي) سبط ابن الجوزي العظيم، فحمله إلى الجامع يوم الجمعة وقعد في المقصورة وقد زلزلته الحماسة فما يستقر، ونفذ منه الصبر فما يدري أيان يصعد المنبر، فما آن الأوان حتى أسرع بالصعود وجلس وهذه اللجم وهذه القيود بين يديه، والدمع يترقرق في عينيه، ووجهه ممتقع شاحب، والناس يلحظون ذلك كله، وينظر بعضهم في وجوه بعض، فلما انتهى الأذان قام فتكلم. . .
خطب خطبة حروفها من نار تلذع أكباد من يسمعها، وكلماتها سحر لم يدر هو مأتاه لأن قلبه كان يتلقاه من عالم مجهول، فيقذف به على لسانه، ولم يستطيع أحد أن يرويها لأنها خطاب من الروح إلى الروح قد ذابت كلمتها في معانيها، ثم استحالت معانيها إلى إيمان وتضحية وبذل، فكانت إحدى هذه المعجزات البلاغية التي يهدر بها كل عصر مرة، لسان محدث، أو يمشي بها قلم ملهم، كرامة من الكرامات، وواحدة من خوارق العادات، يجعل الله بها الكلمات أحياء عظيمة لها روح تجذب الأرواح، ويد تشد الأعصاب، وعيون تبصر. . . وإنما حفظوا منها جملاً، نقلوها إلى لسان الأرض، فجاءت كتمثال الحسناء، جميل ولكنه من الشمع. . وكان مما حفظوا:
(يا من أمرهم دينهم بالجهاد حتى يفتحوا العالم، ويهدوا البشر إلى دينهم، فقعدوا حتى فتح العدو بلادهم وفتنهم عن دينهم! يا من حكم أجدادكم بالحق أقطار الأرض، وحكموا هم
بالباطل في ديارهم وأوطانهم!
يا من باع أجدادهم نفوسهم من الله بأن لهم الجنة، وباعوا هم الجنة بأطماع نفوس صغيرة، ولذائذ حياة ذليلة!
يا أيها الناس:
ما لكم نسيتم دينكم، وتركتم عزتكم، وقعدتم عن نصر الله فلم ينصركم، وحسبتم أن العزة للمشرك وقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين يا ويحكم أما يؤلمكم ويشجي نفوسكم؟ مرأى عدو الله وعدوكم، يخطر على أرضكم التي سقاها بالدماء آباؤكم، يذلكم ويتعبدكم وأنتم كنتم سادة الدنيا؟
أما يهز قلوبهم، وينمي حماستكم، وأن إخواناً لكم قد أحاط بهم العدو، وسامهم ألوان الخسف؟! أما في البلد عربي؟ أما في البلد مسلم؟ أما في البلد إنسان؟ العربي ينصر العربي! والمسلم يعين المسلم! والإنسان يرحم الإنسان! فمن لم يهب لنصرة فلسطين، لا يكون عربياً ولا مسلماً ولا إنساناً!
أفتأكلون وتشربون وتنعمون وإخوانكم هناك يتسربلون باللهب، ويخوضون النار، وينامون على الجمر؟
يا أيها الناس، إنها قد دارت رحى الحرب، ونادى منادي الجهاد، وتفتحت أبواب السماء، فإن لم تكونوا من فرسان الحرب، فأفسحوا الطريق للنساء يدرن رحاها، وأذهبوا فخذوا المجامر والمكاحل! يا نساء بعمائم ولحي! أو لا. . . فإلى الخيول. وهاكم لجمها وقيودها. . .
يا ناس. أتدرون مم صنعت هذه اللجم والقيود؟
لقد صنعها النساء من شعورهم لأنهن لا يملكن شيئاً غيرها، يساعدن به فلسطين. .
هذه والله ضفائر المخدرات التي لم تكن تبصرها عين الشمس صيانة وحفظاً، قطعنها لأن تاريخ الحب قد انتهى وابتدأ تاريخ الحرب المقدسة، الحرب في سبيل الله، وفي سبيل الأرض والعرض، فإذا لم تقدروا على الخيل تقيدونها بها فخذوها فاجعلوا ذوائب لكم وضفائر. . . إنها من شعور النساء، ألم يبق في نفوسكم شعور!
وألقاه من فوق المنبر على رؤوس الناس، وصرخ:
(تصدعي يا قبة النسر، وميدي يا عَمَد المسجد، وانقضي يا رجوم، لقد أضاع الرجال رجولتهم. . .)
فصاح الناس صيحة ما سمع مثلها، ووثبوا يطلبون الموت!
بلغت الحياة هذه القلوب فعاشت بحمية الإيمان، وحماسة الشرف، وعاش فيها إرث الجدود، فهبت دمشق، يستبق رجالها في طريق الجهاد، وتوالت الإمداد على الملك المعظم في نابلس، ونابلس دائماً مطلع شمس النصر، ونابلس دمشق فلسطين، وكانت هجمة الأسود على الأعداء (الواغلين. . .) فطردوهم حتى التجئوا إلى عكا، فحاصروهم فيها حتى أشرفوا على الهلاك، فاستسلموا. . .
وكذلك جاء النصر على يدي رجل وامرأة، وأما الرجل فقد أكرمه الله فجعله أحد العظماء الخالدين، وأما المرأة فقد كافأها فرد عليها اخوتها الأربعين سالمين مظفرين، لم يصبهم سوء. . .
وعلمت الدنيا أن أتباع محمد، لا يذلون ولا يستعبدون، ما بقي فيهم رجل واحد، أو امرأة مفردة، طوت صدرها على إيمان صحيح، وأنهم قد ينامون ولكنهم لا يموتون، وأن (الواغلين. . .) عليهم، في فلسطين وغير فلسطين قد يقيمون حيناً ولكنهم لا يستقرون ولا يملكون!
علي الطنطاوي
من محاسن التشريع الإسلامي
المساواة في التكليف والأحكام
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 3 -
أحكام الشريعة الإسلامية، وتكاليفها مبينة على مبدأ المساواة، كلف بها الأفراد والجماعات بلا تمييز: فأحكامه، وعقوباته، وحدوده لا يستثني منها غني واسع الثراء، ولا أمير عريض الجاه، ولا خليفة تدين له الخلائق بالطاعة والأمتثال، فالمسلمون كلهم متساوون في الحقوق والواجبات، وفي التكليف والأحكام والقوانين، لا فرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، تقرر هذا المبدأ من يوم أن بزغت شمس الإسلام، وسطع النور المحمدي، منذ نيف وثلاثة عشر قرناً ونصف
وهنا تغلبنا الدلائل والشواهد كثرة، لذلك سنجتزئ بذكر بعضها فنقول:
1 -
من أصول التشريع الإسلامي - وهو من مميزاته كذلك - اعتبار النصوص الشرعية موجهة إلى الأمة كلها، ما لم يدل دليل على الخصوصية، ومن قواعد أصول الفقه عدم الخصوصية في الأحكام التكليفية.
2 -
صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه وضع هذا الأصل، وأقره عملا وقولا، ودعا أمته إلى الأخذ به وعدم التهاون فيه فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام دعا الأعرابي الذي خدشه غير متعمد، فقال له: اقتص مني، فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي، ما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير.
وفي خطبته في حجة الوداع عرض لبعض ما كان يقترف في الجاهلية، فحكم بأنه موضوع بالنسبة لجميع المسلمين، وخص بالذكر ذوي القربى لإدخالهم في الحكم الذي يؤخذ به الجميع، حتى لا يتوهم أن لهم مزية على من سواهم، فقال صلى الله عليه وسلم:(وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب)، وخرج مرة في مرض موته، فكان مما كلم به الناس قوله: (أيها الناس، من كنت جلدت له
ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضاً، فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا، فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء، فهي ليست من شأني).
ومن ذلك أن الربيع بنت النضير لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص. فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيعّ أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال: يا رسول اللَّه: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية الربيع، فقال الرسول: كتاب الَّله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الَّله حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به
كذلك نسوق إليك قضية، هي أروع ما يذكر في هذا الباب: قضية المرأة المخزومية التي سرقت حليا في زمن رسول الله، وكانت من بيت مجادة وشرف، فلما أراد الرسول إقامة الحد عليها عظم ذلك على المهاجرين، وقالوا من يشفع لها عند رسول الَّله؟ فقالوا من يشفع إلا أسامة بن زيد حِبْ رسول الَّله، فتكلم أسامة مع الرسول، فغضب وقال له: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
(ج) حدثنا التاريخ أن محمد بن عمر بن العاص زمن ولاية أبيه على مصر - كان يجري الخيل، فنازعه أحد المصريين السبق، فغضب، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها، وأنا ابن الأكرمين، فقدم المصري إلى الخليفة عمر يشكو، قال أنس بن مالك روى القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس. . . ومضت فترة، إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه، فقدما ومثلا في مجلس القصاص، فنادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة، فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: أضرب ابن الأكرمين، ثم قال: أجلها على صلعة عمر، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. . . قال عمروفزعاً: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت؛ وقال المصري معتذراً: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني. . . فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمر ومغضباً، وقال له تلك الكلمة الخالدة: (يا عمر، متى
تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟).
(د) كذلك حدثنا أن جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان حج بعد إسلامه، فبينا هو يطوف بالبيت يجر ثوبه - وطئ رجل من فزارة ثوبه، فلطمه جبلة فهشم أنفه، وكسر ثناياه، فأستعدى الفزاري عليه عمر بن الخطاب، فقال له عمر: إما أن يعفو عنك الفزاري، وأما أن يقتص منك. فقال جبلة: أيقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: قد شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية والتقوى. قال جبلة: ما كنت أطن إلا أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر: دع عنك هذا. فلما رأى جبلة حرص عمر على القصاص، قال: أنظر في أمري الليلة؛ ورحل بليل بخيله ورواحله ولحق بالشام، ثم بالقسطنطينية فتنصر وبقي عند قيصر، ومما يعزى إليه قوله في ذلك سادما:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة
…
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تَكَنَّفني فيها لجاج ونخوة
…
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
…
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ولا يخل بمبدأ المساواة تخلفها في بعض حالات قليلة محصورة لوجود مانع جبلي أو شرعي، ولحكم ومصالح تقتضي ذلك - على ما هو مبين في موضعه من كتب الفروع كعدم مساواة المرأة للرجل في استحقاق النفقة عليها، وعدم مساواته لها في حسانه الأولاد، وعدم مساواة المرأة للرجل في تعدد الأزواج وفي مقدار ما يورث.
بهذا المبدأ العظيم عزت نفوس المسلمين في صدر الإسلام، وسمت هممهم، وعظمت أخلاقهم، وبرزت فيهم قوة الشخصية والمواهب، ونجم فيهم رجال قادوا الأمة الإسلامية إلى أوج المجد والرفعة، وساسوا العالم كله بالقسط والمعدلة، والرفق والمرحمة، وتلك هي روح الإسلام التي بها دخل الناس في دين الله أفواجا، وكانوا له حماة وأنصار:(يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير).
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب
جيوردانو برونو
لألفرد فيبر.
للأستاذ عبد الكريم الناصري
ولد جيوردانو برونو في مدينة (نولا) - القريبة من نابلي - سنة 1548. وقد أنضم في صباه إلى الأخوة الدومنيكية؛ ولكن شغفه العميق بالطبيعة، وتأثره بكتابات (ليقولا الكوسيّ) و (ريموند لولوس) و (تيلسيو) سرعان ما حولاه عن حياة الرهبنة وعن المذهب الكاثوليكي. ثم ذهب مطوفاً في الآفاق، فزار جنيف وباريس ولندن، وزار ألمانيا فشرّق فيها وغرّب. ولكن البروتستانتية لم تقنعه أكثر مما أقنعه مذهب آبائه. وعند عودته إلى إيطاليا ألقى القبض عليه بأمر من محكمة التفتيش، وسجن عامين، ثم أعدم حرقاً في روما.
كان برونو أول ميتافيزيقي - في القرن السادس عشر - قبل نظرية مركزية الشمس بلا تحفظ. وكان ينظر إلى أفلاك أرسطو وتقسيماته للعالم على أنها محض أوهام. فليس للمكان مثل هذه الحدود التي رسمها له أرسطو، هذه الحواجز المنيعة التي تفصل عالمنا عن ملكوت علوي خاص بالملائكة، والأرواح المحضة، والكائن الأعلى. ما السماء إلا الكون الذي لا حد له، وما النجوم الثوابت إلا شموس تحيط بها كواكب سيارة، ترافقها توابع أو أقمار. والأرض كوكب من هاته الكواكب، ليس غير، فما تشغل مكاناً مركزياً ممتازاً في السماء. ومثل ذلك يقال في شمسنا، لأن الكون نظام من أنظمة شمسية.
وإذا كان الكون غير متناه فينبغي أن نقول: إنه لا يمكن أن يكون ثمت لا نهايتان؛ ولكن وجود العالم لا يمكن أن ينكر؛ إذن فالله والكون شيء واحد. وبرنو - لأجل أن يتخلص من تهمة الإلحاد - يميز بين الكون والعالم: فالله، أو الوجود اللانهائي، أو (الكون)، هو مبدأ (العالم) أو علته السرمدية: هو الطبيعة الطابعة (أو الطبيعة مصدراً أما العالم فهو كلية معلولات الله أو ظواهره: هو الطبيعة المطبوعة (أو الطبيعة معلولا وفيلسوفنا يرى أن من الإلحاد أن يعتبر الله والعالم شيئاً واحداً، إذ ليس العالم إلا مجموع الكائنات الفردية، والمجموع ليس بكائن، وإنما هو لفظ فحسب. فأما اعتبار الله والكون شيئاً واحداً فليس بإنكار له، وإنما هو، على الضد من ذلك، تعظيم له، لأنه توسيع لفكرة الكائن الأعلى إلى ما وراء الحدود التي يفرضها عليه هؤلاء الذين يتصورونه كائناً (بجانب) الكائنات الأخرى:
أي كائناً محدوداً. ومن هنا كان يحلو لبرونو أن يدعو نفسه (فليوتيوس) أي (محب الإلهي)، إرادة أن يميز في وضوح بين تصوره لله وبين الإلحاد. بيد أن هذه الحيطة لم تجده نفعاً، ولم تفلح في تضليل قضاته.
والواقع أن إله برونو لا هو خالق العالم بل ولا هو محركه الأول؛ وإنما هو (نفس العالم). إنه ليس علة الأشياء المتعالية والموقتة؛ وإنما هو - على حد تعبير اسبينوزا - علتها الحالة أي الباطنة. إنه مبدؤها المادي والصوري معاً؛ إنه المبدأ الذي يحدثها وينظمها ويحكمها (من الداخل نحو الخارج). إنه بالإيجاز جوهرها السرمدي. إن الموجودين اللذين يميز بينهما فيلسوفنا بلفظي (الكون) و (العالم) ليسا في الحقيقة إلا شيئاً واحداً، يعتبر حينا من مقام (الواقعية)(بالمعني المدرسي) وحيناً من مقام (الاسمية).
فالكون الذي يحوي ويحدث جميع الأشياء ماله من بداية ولا نهاية؛ أما العالم - أي مجموع الموجودات التي يحولها ويحدثها - فله بداية ونهاية. ههنا - إذن - تحل فكرة الطبيعة الضروري محل فكرة الخالق والخلق الحر، وتعود الحرية والضرورة لفظين مترادفين ويرجع الوجود والقدرة والإرادة في الله فعلاً واحداً لا يتجزأ.
وإبداع العالم لا يكيف (الكون الإله) على أي نحو من الأنحاء، وهو الكيان الواحد الثابت السرمدي اللامتناهي، والممتع على القياس والمقارنة. فإنه إذ يفض نفسه يحدث مالا عداد له من الأجناس والأنواع والأفراد، وملا نهاية له من شتى القوانين والنسب (التي تقوم حياة الكون وعالم الظواهر) من غير أن يصير هو نفسه جنساً أو نوعاً أو فرداً، أو يخضع لأي قانون من القوانين، أو يدخل في أية نسبة من النسب. إنه وحدة مطلقة لا تقبل الانقسام، ولا شأن لها بالوحدة العددية. إنه في كل شيء وكل شيء فيه. وليس من موجود إلا ويحيا ويتحرك ويتقوم فيه. إنه حاضر في سنبلة القمح، وفي حبة الرمل، وفي الهباءة التي تسبح في شعاع الشمس، كما هو حاضر في (الكل) الذي لا حد له - لأنه لا يقبل الانقسام. وحضور (الواحد) اللانهائي في كل مكان، وحضوراً جوهرياً طبيعياً، يفسر - وفي الوقت نفسه يهدم - الاعتقاد الديني بوجوده الفائق الطبيعة في (الخبز المقدس)، هو الاعتقاد الذي يعتبره الدومنيكي السابق حجر الزاوية في المسيحية. وبسبب هذا المحضر الحقيقي للكائن اللانهائي في كل مكان، كان كل شيء في الطبيعة حياً؛ في سبيل إلى إعدام شيء؛ وما
الموت نفسه إلا تحول في الحياة من شكل إلى آخر. . . إن مزية الرواقيين تستقر في أنهم رأوا في العالم موجوداً حياً؛ ومزية الفيثاغوريين تستقر في أنهم أدركوا ما تتسم به النواميس الحاكمة للخلق السرمدي من الثبات والضرورة الرياضية.
وبرونو يسمى (اللانهائي) أو (الكون) أو (الله) بالمادة أحياناً. وليست المادة عنده (اللاوجود) الذي قالت به المثالية اليونانية وقال به المدرسيون. فإنها عنده غير ممتدة، أي (لا مادية) في ماهيتها، وليست تقبل وجودها من مبدأ إيجابي خارج عنها (الصورة)، وإنما هي بضد ذلك الصدر الحقيقي للصور كلها، إذ هي تنطوي على أصول هذه الصور جميعاً، وتبرزها بالتعاقب. فما كان أول الأمر بذرة يصير ساقاً، ثم سنبلة، ثم خبزاً، ثم عصارة، ثم دماً، ثم نطفة، ثم جنيناً، ثم إنساناً، ثم جثة، ثم يعود إلى الأرض أو الحجر أو ما إلى ذلك من المواد، ليمر بعد بالمراحل نفسها من جديد. وهكذا نجد ههنا شيئاً واحداً يتحول إلى كل شيء، ويبق مع ذلك واحداً في جوهره. ومن ثم تبدو المادة وحدها ثابتة سرمدية، وجديرة بأن تدعى مبدأ. وأنها - وهي المطلقة - تتضمن الصور والأبعاد جميعاً، وتطور من نفسها ما لا حد له من شيء الصور التي تستعلن فيها وتظهر. ونحن حين نقول إن شيئاً قد مات، إنما نعني أن شيئاً جديداً قد ولد؛ فإن انحلال مركب من المركبات معناه تكوين مركب جديد.
والنفس البشرية أعلى ما تتطور إليه الحياة الكونية، فهي تنبثق من جوهر الأشياء كلها، بفعل القوة نفسها التي تخرج السنبلة من حبة الحنطة. على أن لكل موجود في الكون جسما ونفساً، فجميع الموجودات (مونادات) حية يستعلن فيها (موناد المونادات) أو (الكون الإله) في صورة جزئية وهيئة خاصة. والجسمانية هي الأثر الناشئ عن قوة الموناد التوسعية، أو حركته نحو الخارج؛ وفي الفكر ترجع حركة الموناد على نفسها. إن هذه الحركة المزدوجة، من توسع وتمركز، تقوم حياة الموناد. وهو يدوم ما دامت هذه الحركة، ويموت حين تقف، ولكنه يختفي ليظهر وشيكا في صورة جديدة. وعلى هذا يمكن أن يوصف تطور الكائن الحي بأنه اتساع مركز حيوي، وتوصف الحياة بأنها ديمومة الكرة، والموت أنه تقلص الكرة وعودتها إلى المركز الحيوي الذي انبثقت منه.
إننا سنصيب هذه التصورات كلها، وخصوصاً (تطوريّة) برونو، في أنظمة (ليبنتس) و
(بونيه) و (ديدرو) و (هيجل) فأن فلسفة برونو تنطوي على أصولها البدائية البسيطة. هذا إلى أن هذه الفلسفة، من حيث هي توفيق بين الوحدية والذرية، والمثالية المادية، والنظر والملاحظة، تعتبر المصدر المشترك للمذاهب الأنطلوجية الحديثة.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري
4 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ولقد حاول الفرس مراراً الاستقلال عن العرب وطرح حكمهم ودينهم منذ ملكوهم، وقد اختفت هذه المحاولات أولا بعد خيبتهم فيها - كما قدمنا - ثم عادت إلى الظهور في أواخر الدولة الأموية. والقارئ لتاريخ عمر وعثمان وعلي والدولة الأموية في الكتب المبسوطة كتاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري والكامل لابن الأثير وكتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون وغير ذلك تهوله كثرة انتفاضات الفرس على العرب في البلاد الفارسية، ومما يدل على أن الاستقلال كان وسواسا لازبا في عقول سادة الفرس.
وما أظن أبا مسلم إلا بطلا فارسيا كان يرمي إلى هدم السلطان العربي والإسلام، وما لسبب غير ذلك حول أبو مسلم الملك عن العلويين إلى العباسيين بأن العلويين أحق منهم بالخلافة مادام الأمر أمر قرابة من النبي. وما ثار بعده تلميذه سنباذ وثارت الراوندية إلا لهذا الغرض، وما أبري البرامكة من الطمع في هذا الاستقلال مما دعا الرشيد إلى نكبتهم، وما استعان العباسيون بهم إلا وهم يحذرونهم، ويتخلصون منهم في الآونة المناسبة، ولا أهملوا العرب إلا بعد أن يئسوا منهم، ومع ذلك قربوا العرب وأنهضوهم حين خافوا نزوات الفرس ليضربوا هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء حذرا من الفريقين. وما كان النزاع بين الأمين والمأمون إلا نزاعا بين الفريقين، ولا كانت استعانة المعتصم ومن بعده بالترك إلا عن سوء ظن بهما معا مما أدى إلى ازدياد نفوذ الترك على نفوذهما.
غير أن الفرس لم ينوا في طلب الاستقلال حتى ظفروا به على يد الدولة البويهية (334 - 447 هـ) فقد أكثر العباسيون طوال القرن الثالث الهجري من إقطاع الفرس ولايات المشرق طعمه لهم ولأخلافهم، وهب دهاة الفرس ينشئون في فارس إمارت وطنية، ولكنهم حينما استعادوا بعض أملاكهم وجدوا الإسلام قد أتى على المجوسية، واللغة العربي كادت تهزم الفارسية، فأنابوا إلى الخلفية لأنه الحاكم الشرعي الذي تحب طاعته، ودعوا إلى نصرته استدراجا للعامة تحت سلطانهم، ومع غلبة الإسلام على مجوسيتهم لم يقض على عصبيتهم، فلما استقلوا بالولايات شرعوا في تجديد لغتهم ونقل ثقافة العربية إليها فنجحوا
في تجديدها كثيرا وخابوا في نقل الثقافة إليها لأنها كانت قد انحطت بإهمالها زمنا طويلا.
ولقد كان الفرس البويهيون يحكمون بلاد الخلافة حتى بغداد عاصمة الدولة العباسية.
ويعنينا هنا أمر آخر أهم من كل ما تقدم هو أن العصبية الفارسية حملت الفرس على أن يحافظوا على كل ما هو فارسي، ويؤثروه على كل ما هو عربي ومن ذلك ديانتهم المجوسية القديمة التي تفرقت إلى نحل مختلفة قبل ظهور الإسلام.
ما من شك في أن كثيرا منهم قد دخلوا في الإسلام مخلصين واعتنقوه عن إيمان، واستطاعوا إلى حد بعيد أن يتخلوا عن ديانتهم القديمة، ولكن مما لا شك فيه أن كثير منهم أيضاً أبطنوا المجوسية وأظهروا الإسلام وأسباب ذلك كثيرة لا يعنينا هنا الكلام فيها. وما من شك في أن كثيرين دخلوا في الإسلام مخلصين ولكنهم لم يستطيعوا التخلي عن الميراث الذي تركته في عقولهم الديانة القديمة، وما من شك في أن كثيرا منهم لم يكونوا يؤمنون بالإسلام ولا بالديانة القديمة في قلوبهم ولكنهم تمسكوا بالديانة القديمة لأنها ميراث لهم قديم يدفعهم وقوف العرب بمفاخرهم أمامهم إلى التمسك به، فقد اعتبر العرب أنفسهم جيلا يمتاز على سائر الأجيال، ووضعوا أنفسهم في موضع سام، ووضعوا كل من عداهم في موضع وضيع، وسموا أنفسهم العرب، وسموا كل من عداهم العجم، وأظهروا مفاخرهم يتحدون بها العجم جميعا، وبرز لهم العجم فتحدوهم بمفاخرهم، وكثر احتكاك هؤلاء بهؤلاء في كل مكان وامتدت الملاحاة والمفاخرة حتى عاب العجم على العرب مثلا إمساك خطبائهم بالعصا، ورد ممن كانوا في صف العرب عليهم ذلك فعدوه مفخرة، وكثرت مجالس المناظرة بين العرب والموالي ولا سيما الفرس للأسباب السابقة، ولما كان للفرس من سلطان في أيام العباسيين وكان الفريقان يتبادلان الاحتقار والتفاخر، وظهر ذلك على ألسنة الشعراء والعلماء، فألف كثير من الفرس الكتب في مثالب العرب، وأول من شجع على ذلك الخلفاء والأمراء والعرب أنفسهم، فنحن نعلم أن العصبيات القبلية العربية التي نجح النبي في إسكانها قد بدأت تظهر بعده ولا سيما في الدولة الأموية، واستدعى هذا أن يطلب الخلفاء وأتباعهم من علماء الأنساب تأليف الكتب في مثالب القبائل العربية التي كانت تناهضهم، وكتب المفاخر في مفاخر القبائل التي تناصرها، فلما برزت الشعوبية لمناهضة العربية وجدت في كتب المثالب أصولا تحتذيها في الطعن على العرب متفرقين
ومجتمعين، وإنا نجد في كتب التراجم أسماء كتب في مثالب العرب عامتهم أو قبائلهم لكبراء والأدباء والعلماء.
وقد شارك كثير من الشعراء الموالي قومهم في ذكر مثالب العرب والتندر بهم حتى في مجالس الخلفاء والأمراء العرب، ومن ذلك ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني، قال:(دخل أعرابي على مجزاة بن ثور السدوسي، وبشار عنده، وعليه بزة الشعراء، فقال الأعرابي: من الرجل؟ فقالوا: رجل شاعر. فقال أمولي أم عربي؟ قالوا: بل مولي. فقال الأعرابي: وما للموالي والشعر؛ فغضب بشار، وسكت هنيهة، ثم قال: أتأذن لي يا أبا ثور؟ قال: قل ما شئت يا أبا معاذ) فأنشأ يقول:
خليلي لا أنام على اقتسار
…
ولا آبي على مولي وجار
سأخبر فاخر الأعراب عني
…
وعنه حين تأذن بالفخار
أحين كسيت بعد العرى خزَّاً
…
ونادمت الكرام على العقار
تفاخر يا ابن راعية وراعٍ
…
بني الأحرار؟ حسبك من خسار!
وكنت إذا ظمئت إلى قراح
…
شَرِكتَ الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر الموالي
…
وينسيك المكارم صيد فار
وتغدو للقنافذ تَّدريها
…
ولم تعقل بدراَّج الديار
وتتشح الشَّمال للابسيها
…
وترعى الضأن بالبلد القفار
مقامك بيننا دنس علينا
…
فليتك غائب في حرَّ نار
فقال مجزأة للأعرابي: (قبحك اللَّه! فأنت كسبت الشر لنفسك وأمثالك).
ولقد حذا أبو نواس حذو بشار في التعصب للشعوبية والطعن على العرب، وديوانه حافل بالسخر منهم. وما افتتاحه قصائده بمدح الخمردون مناجاة الديار إلا تعصب للشعوبية وليس تجديداً كما زعم أكثر من أرخوا عصره أو كتبوا فيه، فأطنبوا في الإشادة به، وفواتح قصائده تنبئ عن سخره من مناجاة الديار أو بوجه أعم من العرب جميعا، وإليك مثلا من عشرات الأمثلة قوله:
عاج الشقي على ربع يسائله
…
وعُجْبتُ أِسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
…
لادر درك! قل لي: (من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ولِفٌّهماَ؟
…
ليس الأعاريب عند الله من أحد!)
فقوله: (ليس الأعاريب عند الله من أحد) طعن صريح في العرب جميعا: ولو مضينا في الاستشهاد بشعره على ما تقول لضاق المكان، وما دمنا بصدد الموضوع خاص فلنضرب صفحا عن الشواهد، وحسبنا هذا الشاهد.
فهذا الطعن الصريح وغبره وليد العصبية الفارسية عند أبي نواس ومن عاصره من الموالي، وكان عصرهم عصر انتصار للفرس على العرب، فتمكنوا في التصريح برأيهم حتى في بلاط الخلفاء والأمراء العرب، ووافق ذلك ميلا في مزاج أبي نواس وأمثاله المستهترين الذين لا يحفلون بسنن العرف والأخلاق فجروا في هذا المضمار شوطا بعيدا.
وأصرح من بشار وأبي نواس قول الموبد:
(أنا ابن المكارم من آل جم
…
وطالب إرث ملوك العجم
فقل لبني هاشم أجمعين:
…
هلموا إلى الخلع قبل الندم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز
…
وأكل الضباب ورعي الغنم)
وقول أبي سعيد الرستمي:
(بهاليل غر من ذؤابة فارس
…
إذا انتسبوا لا من عرينة أو عُكْلِ
هموا راضة الدنيا وسادة أهلها
…
إذا افتخروا لاراضة الشاة والإبل
ودون أولئك أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي الذي أسلم على يد أستاذه الشريف الرضي فحسن إسلامه، وظل بعد إسلامه حتى مات دون أن يظهر منه ما يدل على حنينه إلى ديانته القديمة (المجوسية)؛ فهو - على الرغم من إسلامه، وصلته القوية بالشريف الرضي - لم ينس أنه فارسي، وأن قومه الفرس كان لهم مجد أعظم حتى من مجد العرب، وأن ليس للعرب فضل إلا الدين، وإليك أبياته المشهورة التي تغنى في زماننا:
(أعجبت بي بين نادي قومها
…
(أم سعد) فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي
…
فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبا يخفضني
…
أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى
…
ومشوا فوق رءوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهم
…
وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي (كسرى) على إيوانه
…
أين في الناس أب مثل أبي؟
سورة الملك القدامى وعلى
…
شرف الإسلام لي والأدب
قد قبست المجد من خير أب
…
وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه
…
سودد الفرس ودين العرب)
هذه صورة موجزة للشعوبية وبعض آثارها وأسبابها، ولقد دفعت الشعوبية العجم جميعا ولا سيما الفرس على المحافظة على كل ما تستطاع المحافظة عليه من تراث فارس حتى المجوسية، وقد أشرنا في هذا المقال إلى الصلة بين الشعوبية والمجوسية، وسنفصل إن شاء في المقال الآتي القول في هذه الصلة، والقول في المذاهب المجوسية التي أظهرها الزنادقة أيام المهدي العباسي. وبيان أصولها القديمة عند الفرس القدماء، لنعرف صلة مذاهب الزنادقة المحمرة والمبيضة بالمجوسية القديمة التي دان بها أهل فارس قديما، ثم تفرقت مذاهب مختلفة، وتطورت أطوارا جديدة على يد دعاتهم ذرادشترا وماني ومزدك.
محمد خليفة التونسي
سجون بغداد
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 6 -
طرائف مختارة من أدب السجون
- 1 -
كتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد من الحبس:
(. . . إلى أمير المؤمنين، من عبد أوبقته ذنوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وزال به الزمان، ونزل به الحدثان، وحلّ به البلاء بعد الرخاء، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهود، وفقد الهجود؛ ساعته شهر، وليلته دهر. قد عاين الموت، وشارف الفوْت: جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك، من موجدتك، وأسفاً على ما حُرِمتُه من قربك. لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك، وعارية في يدي منك. والعارية لابد مردودة. فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه، وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه؛ فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره. ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله، ولا كان مع ذلك بقاؤه أحب إلي من موافقتك. فتذكر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، وحجب عني فقدك، كبر سني، وضعف قوّتي، وارحم شيبي، وهب لي رضاك عني، ولتَمِل إلي بغفران ذنبي. فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل، ومِن مثلك الإقالة. ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى. فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري، وبراءة ساحتي، ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني، ورحمتك لي. زاد الله عمرك يا أمير المؤمنين، وقدّمني للموت قبلك:
قل للخليفة ذي الصنا
…
ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري
…
ش والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير مَنْ
…
ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذين
…
رموا لديك بداهيه
عمتهم لك سخطة
…
لم تُبقِ منهم باقيه
فكأنهم مما بهم،
…
أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهمُ
…
خلع المذلّة باديه
متفرقين مشتتين (م)
…
بكل أرض قاسيه
بعد الإمارة والوزا
…
رة والأمور الساميه
ومنازلٍ كانوا بها
…
فوق المنازل عاليه
أضحوا وجلّ مناهُم
…
منك الرضا والعافيه
فإذا رضيت فإن أنفس
…
هم بحكمك، راضيه
فاليوم قد سلبَ الزما
…
ن كرامتي وبهائيه
واليوم قد ألقى الزما
…
ن جرانه بفنائية
يا من يود لي الردى
…
يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك ما أبصرت من
…
ذلِّي، وذلّ مكانيه
يكفيك أني مستباح (م)
…
معشري ونسائيه
ورزئت مالي كله
…
وفدى الخليفة ماليه
إن كان لا يُرضيك إلا (م)
…
أن أذوق حِماميه
فلقد رأيتُ الموت (م)
…
من قبل الممات علانيه
وفجعتُ أعظم فجعةٍ
…
وفنيتُ قبل فنائيه
ولبست أثواب الذلي
…
ل ولم تكن بلباسِيَه
وعطبتُ في سخط الإما (م)
…
م على رفيع بنائيه
فانظر بعينك هل ترى
…
إلا قصوراً خاليه
وذخائراً مقسومة (م)
…
قُسِّمْنَ قبل مماتيه
وحرائراً من بين صا
…
رخة عليّ وباكيه
ونوادباً يندبْنَني
…
تحت الدجى بكنائيه
يا با عليّ البرمكيّ!
…
فما أجبت الداعيه
وبكاؤهن وقد سمع
…
تُ مقلقَلَ أحشائيه
أخليفة الله الرضا
…
لا تشمِتَنْ أعدائيه
أذكر عهودك لي وما
…
أعطيْتني بوفائيه
أذكر مقاساتي الأمور وخدمتي وعنائيه
ارحم، جعلتُ لك الفدا
…
كِبري وشدة حاليه
ارحم أخاك الفضلَ
…
والباقين من أولادِيه
فلقد دعوك، وقد دعو
…
تُكَ إن سمعتَ دُعائيه
أخليفة الرحمن إنك
…
لو رأيت بناتيَهْ
وبكاء فاطمة الكئيبة
…
والمدامع جاريه
ومقالها بتوَجع
…
وا شقوتا وشقائيه!
مَنْ لي، ولا مَنْ لي
…
وقد قصم الزمان قناتيه
وعدِمتُ صفو معيشتي
…
وتغيّرت حالاتيه
من لي وقد غضب الزمان
…
على جميع رجاليه
يا عطفة الملك الرضا
…
عودي علينا ثانيه
- 2 -
وقال مسجون:
إلى فيما نابنا نؤثر الشكوى
…
ففي يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجان يوماً لحاجة
…
عجبنا، وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا، فجلُّ حديثنا
…
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كان بطيئاً مجيئها
…
وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
- 3 -
قال علي بن الجهم من قصيدة يذكر محاسن الحبس:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري
…
حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يحمي غيله
…
كبراً، وأوباش السباع تردد
والنار في أحجارها مخبوءة
…
لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتجلي
…
أيامه، وكأنه متجدد،
غيَرُ الليالي بادئات عوَدٌ
…
والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حال ومعقب ولربما،
…
أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يوئسنك من تفرج كربة
…
خطب أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطاه الردى
…
فنجا ومات طبيبه والعوّد
صبراً فإن اليوم يتبعه غد
…
ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنية
…
تزري فنعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه
…
لا يستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة
…
ويزار فيه، ولا يزور ويحمد
- 4 -
فعارضه عاصم بن محمد الكاتب لما حبس وقال:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد
…
أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كان سربي مطلقاً
…
ما كنت أؤخذ عنوة وأقيد
أو كنت كالسيف المهند لم أكن
…
وقت الشديدة والكريهة أغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت
…
فيَّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة
…
فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة
…
ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت
…
يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه الصديق فموجع
…
يذري الدموع بزفرة تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى
…
أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخير برهة فكبا بنا
…
ريب الزمان وصرفه المتردد
في مطبق فيه النهار مشاكل
…
لليل، والظلمات فيه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لرقده
…
طعماً، فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني إلى كم أسهرت
…
ويقول لي قلبي إلي كم أكمد
وغذاي بعد الصوم ماء مفرد
…
كم عيش من يغذوه ماء مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجداً
…
جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد
…
وإلى متى هذا البلاء مجدد
(يتبع)
صلاح الدين المنجد
أشواق.
. .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
أرجعي قبل أن تشيب الأماني
…
كرجوع الربيع في الأغصان
صوَّح الزهر، فامنَحيه رُواءً
…
وغفا الطير، فانفحيه الأغاني
أنا أحيا على الأماني، ولكن
…
أيُّ معنىً لها سوى الحرمان
طال في ظلِّها خداعي، فحسبي
…
ذلك العمر في خداع الأماني
نفحة من شذاك. . تعبق نفسي
…
وسنىً منك. . تُبصر العينان
وهدىً منك. . تستفيق ضلالي
…
وادِّكاراً لذلك النسيان
شاقني وجهك العجيب وما فيه (م)
…
من الفيْض عبقريَّ المعاني
أنا من هزَّهُ الحنينُ لِلُقْيا
…
يتحدَُّى بها غُرور الزمان
ألحنينُ الذي يزلزل قلبي
…
هو منْ ذلك الهوى والهوان
أيُّ لمحٍ ذاك الذي يتجلَّى
…
في مُحيَّاك سارياً بكياني؟!
أي ومضٍ ترفُّ عيناك فيه
…
فيلجَّ الفؤادُ في الخفقان!؟
أطفئي يا حبيبتي لهب الروح (م)
…
وروِّي لواعجَ الظمآن
فيك من سَطوة الجلال أفانين (م)
…
أُعاني من أَسْرها ما أُعاني
أُسكبي النور في متاهات نفسي
…
وأَجيبي هواتف الوجدان
أنا في رحلتي إلى الغد أسعى
…
ويكاد الغد البعيد يراني
قرِّيبه إليَّ. . . رُبَّ زمان
…
قد تأبَّى فعاد طَوْعَ بنان
منك شكي، وأنت إيمان قلبي
…
ليس للشك روعةُ الإيمان
ابعثي في غدي مسرات أمسي
…
وأعيدي شباب هذا المكان
وأجمعي السامر الذي كان يوماً
…
بين تلك الظلال والجدران
طاب فيه اللقاءُ فهو صفاءٌ
…
ورخاءٌ لخاطري الولهان
كنتِ أنسَ الحياة فيه فلما
…
غبْتُ شاهت مجالياً ومجاني
آن أن تُمْلأَ الكؤوس ونُسقي
…
ضجت الخمرُ بين تلك الدِّنان
قلَّ منها النصيب إن لم تكوني
…
أنت راح الكؤوس والنشوان
فرحةٌ في غدي تلوح لعيني
…
تلك زاد للمُجهَد الحيران
هو ذاك الغدُ البعيدُ المرجَّى
…
رُبَّ ناءٍ محجَّبٍ وهو دانِ
أحمد عبد المجيد الغزالي
الأعرابية الكادحة
للأستاذ محمد بهجة الأثري
(قرأت لأعرابية قديمة قولها:
أظل ارعي وأبيت أطحن
…
والموت من بعض الحياة أهون
فقرأت في إيجازه البليغ كتاب عيشها المفعم بالكدح والشقاء، وألفيت في وصفها لحياتها وصفاً صادقاً لحياة أعرابية اليوم هزني هزاً فقلت:)
(أظلُّ أرعى وأبيت أطحن)
…
ليليَ كَدْحٌ ونهاري شَزَن
يَطْوي حياتي بالشقاءِ الزمن
…
(والموت من بعض الحياة أهون)
يا ليت شعري والورى تمتحن
…
تسوؤها الأيام ثم تحسن
أكلَّ دهري ارتعي وأطحن؟
…
يُسْلِمُني ذاك لذا ويَقْرِنُ
ما طلعت شمس ووافى مُدجن
…
أما بدهري ليَ يومٌ أيمن؟
لا أضطني فيه ولا أمتهن؟
…
أذوق فيه العيش وهو ليّن؟
أَقِيلُ في هجيره وأسكن!
…
ويحتويني الليل وهو محسن؟
فيلفيَ الراحة جسمي الضمن؟
…
وتطعم السهاد مني الأجفن؟
لُماظَةً تُريحني يا وسن
…
ولَفْتَةً تُسعدني يا زمَن
لم أدر ما العيش ولا ما السكن
…
لكنه شيءٌ رَوَتْهُ الألسن
جَهِلتهُ وإن وَعَتْهُ الأذُنُ
…
هل لي أن أدري ما لا أزكن؟
سلني عن البؤس، فعندي العلن
…
من أمره والباطنُ المكتمنُ
إن فؤادي للهموم موطنُ
…
فَهْوَ بها مُحَنَّطٌ مكفَّنٌ
ينحت جنبي الضحى والموْهن
…
كأن صرف الدهر بي مرتهن
كم أكلتْ قلبي الرحى إذا أطحن
…
وبَتَّ تأوينيَ هذا الشزَن!
عشيري البَهم وداري الدِّمن
…
وزاديَ الجشب ووردي الآجن
ثوبيَ أسمالٌ وجسمي دَرِنُ
…
أَرْحَضُهُ بعَرَقي فيأْسَنُ
وأرفأ الجيب فيهرا الرُّدُنُ
…
لكن عرضي وافرٌ لا يمهنُ
أبيض لم تَلُثْ نقاه الظِّنَنُ
…
حَسْبُ الحصان أن تطيب الألسن
بها فلا تزُنّها أو تطعن!
…
تجوع بنت يَعْرُبٍ وتغبن
وهي على لؤم الزمان تحصِن!
…
رجنت يا ليل فلسْت تظعن
قل لي متى أنت بصبح مؤذن؟
…
أأنت دهر في الظلام مُمْعِن؟
أم صبحُكَ المشرقُ يومَ أُدْفَنُ؟!
محمد بهجة الأثري
البَريدُ الأدبي
فلسطين والنشاشيبي
أرادت (السياسة) أن تسلها وأن تسميها (فلسطين) فسلتها وسمتها، قالت: هذى (تُخومها) وما شاها القوم في التسمية، وفي غير التسمية، وقالوا:(قضاء من الله العزيز أراده) وفي الضمير أن هذه المدعوة فلسطين تمسي مملكة، وسوف يؤمرون أو يزرون يعودون (يصيرون) أوزارا. قال فريق: هل خلصنا من (اصطنبول) حتى نروح لـ (دمشق) تبعا. وأبى شخص أن يزل وأن يضل فيدين بما دان به غيره، وصاح منذ أول يوم: يا قوم، إن هي إلا أسماء سموها ما أنزل الله والعربية بها من سلطان، وأن وراء الأكمة ما وراءها، فاحذروا ثم احذروا، لا تهتلكوا، لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
أمرتهمُ أمري بمنعرجَ اللوى
…
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وذلك الشخص هو (محمد إسعاف الشناشيبي) وهو على ما عاهد الله عليه، على ما واثق العربية لم يتبدل، ولم يتحول، ولم يقل:
وهل أنا إلا من غزية، إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولن يتبدل، ولن يتحول
يقول العلامة الأستاذ الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب في كتاب (رحلاته) ص 4:
(. . . وبينما نمني أنفسنا بالمبادرة إلى الفندق للاستراحة إذا بوفد من كرام إخواننا المقدسيين ينتظرنا. وأبصرنا في مقدمة لمستقبلين ذلك المحيا المحبوب المعروف أديب العرب إسعاف النشاشيبي. سارع الإخوان إلينا مسلمين وأخبرنا أن حفلا حاشد ينتظرنا في (روضة المعارف) فسارعنا إليها. نضر الله روضة المعارف وبارك في أهلها الأمجاد؛ لقد لقينا من حفاوتهم وإيناسهم ما هو جدير بنفوسهم الكريمة. . . دخلنا الروضة والموسيقى تعزف بألحان مصرية، ولقينا هناك جماعة من العلماء الإخلاء منهم الأستاذ الحسيني المفتي ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، والشيخ الخالدي، ولما اطمأن بنا المجلس خطب مدير الكلية مرحباً معرباً عما يكنه الشاميون (ولا أقول الفلسطينيون إرضاء للحق وللأستاذ النشاشيبي الذي لا يعرف إلا اسماً واحداً الشام لما يسمونه فلسطين وشرق الأردن وسورية
ولبنان والعلويين) لإخوانهم المصريين من الحب والولاء والإكبار والإعجاب. . .)
(السهمي)
كيف نحتفظ بأرض فلسطين لأهلها
ذكر الأستاذ الكبير إبراهيم عبد القادر المازني في مجلة الرسالة الغراء أنه يجب أن تقاطع التجارة الصهيونية حتى تكف عن أطماعها في فلسطين، وإني أضيف إلى ذلك وسيلة أخرى لها شأنها في قطع أطماع الصهيونية، وهي أن يقوم كل فرد من أهل فلسطين بوقف ما يملك من عقار وقفاً أهلياً أو خيرياً، حتى لا يصح فيه بعد ذلك بيع أو شراء، وتقوم دول الجامعة العربية بدفع نفقات تسجيل تلك الأوقاف لكل فرد، وبذلك تنقطع أطماع الصهيونيين في ملك تلك الأراضي، فلا يهاجرون إلى فلسطين لتملكها، ويستقر أهل فلسطين في بلادهم فلا يبيعون ما يملكون فيها ويهاجرون عنها، وإذا كان الوقف الأهلي بعض مضار، فإنها لا تذكر بجانب حفظ أرض فلسطين لأهلها، وقطع أطماع الصهيونيين فيها.
عبد المتعال الصعيدي
على هامش الأدب الحجازي
فيما كتبه الأخ الأستاذ إبراهيم فلالي وفيما سطره الأستاذ الفاضل أحمد أبو بكر إبراهيم من حديث عن (الحياة الأدبية في الحجاز) ما يعطي صورة مصغرة عامة عن الأدب الحجازي، ولكن لا يجوز لنا بحال أن نتخذها مقياساً صحيحاً لما هو عليه الأدب الحجازي اليوم
فالأول، وهو حجازي، قد سرد علينا قصائد ومقطوعات من هذا الشعر في عجلة وبلا تحليل فني يرتكز إليه القارئ المدقق، وقد اغتفرنا له ذلك حملا على أنه في مجال عرض لقضية الأدب الحجازي يستدعيه السرعة والارتجال، وهو اغتفار - كما ترى - لغير النقد والمناقشة، إذا كان الأقمن به أن يقتصر على بعض النماذج التي سردها مع تبيين القيمة الفنية لها
أما الآخر، وهو مصري كريم، فقد أبت عليه أريحيته المشكورة إلا أن يعرض للأدب الحجازي منذ أدواره الأولى في تعمق وفلسفة، حتى الدور الذي يتمثل جله في مجموعة
(وحي الصحراء)، فساق حديثاً عذباً طلياً، إلا أنه انتهى إلى قوله:(ولا ضير علينا بعد الذي فصلناه في باب الشعر أن نقرر أن الشعر الحجازي قد تقدم في هذه الفترة القصيرة في أغراضه ومعانية، واستطاع أن ينأى بالتلاعب بالألفاظ وألوان الزينة، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نقول: إن الحجاز مهد الأدب شعره ونثره لا يزال يتطلب من شعرائه المزيد، وبخاصة فيما يختص بقوة الأساليب ورصانتها، فإن الكثير منهم مع إجادته لا يهتم أحياناً بجزالة الأسلوب ورصفه، شأنه في ذلك شأن شعراء المهجر. . .) هنا تختلف نظرتنا، ولسنا متشيعين - عن نظرة الأستاذ الكريم، ولكن للأستاذ العذر، فلو قد له الآن - لا منذ صدور وحي الصحراء - أن يدرس شاعراً كالفقي أو قنديل أو شحاتة أو عواد مثلا، أسوى هؤلاء من شعراء الشباب في الحجاز - متوفراً على استيعاب أكثر شعر الشاعر الحديث، متذوقاً أسلوبه الرائع الجديد للمس ما يطرب له ويعجب من أصالة الأفكار ونضجها والتماعها، وروعة السبك وزخور الأسلوب بشتى الصور الشائقة الفاتنة، ولكن أنى يتسنى ذلك للأستاذ الفاضل، ونحن لم نر بعد شاعراً حجازياً واحداً قد أبرز ديوانه للقراء، وما أظن ذلك بالعسير لو تضاف أدباء الحجاز على خدمة فنهم، باذلين الجهد في تذليل كل مشقة وعناء ليضموا إلى العربية من كنوز قرائحهم ما تظفر به وتفخر
أما النثر الحجازي، فقد قطع مرحلة بعيد وبلغ مستوى عصرياً عالياً، وليس ببعيد إن شاء الله ذلك اليوم الذي تنتشر فيه صحف الحجاز الأدبية وتتألق فيه كتبه الحديثة ومنتجاته، وحينئذ سيتذوق قراء العربية في الأقطار الشقيقة، ولا فخر، من أدب أخواهم هنا شهداً سائغاً مصفى، يلذ لهم تناوله في فرحة وإكبار وبعد، فلحضرة الأستاذ المفضال أحمد أبو بكر إبراهيم، ولرصفائه من كرماء مصر الحبيبة، ممن يعنون بأدب هاته البلاد، مزيد التقدير والشكر والإعجاب. . .
حسن عبد الله القرشي
عبد الله أبي بكر وهيكل باشا
ذكر الدكتور هيكل باشا في كتابه (الصديق أبو بكر)(الطبعة الثانية صفحة 384) في باب مرض أبي بكر ووفاته: (وضع الجثمان في المسجد بين القبر والنبر، وتولى عمر صلاة
الجنازة فكبر أربعاً، ثم نقل الجثمان إلى القبر، ودخل معه عمر وطلحة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله بن أبي بكر أن يدخل، فقال له عمر: كفيت). ومن هذا يفهم أن عبد الله بن أبي بكر قد حضر وفاة أبيه ودفنه، وهذا لم يحدث، والذي منع حدوثه أن عبد الله كان قد توفي قبل ذلك بعامين، وقد ذكرت جميع المظان موت عبد الله في خلافة أبيه، وهاك ما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب:(ومات، أي عبد الله بن أبي بكر، في أول خلافة أبيه، وكان قد ابتاع الحلة التي أرادوا دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بتسع دنانير ليكفن فيها، فلما حضرته الوفاة قال: لا تكفنوني فيها، فلو كان فيها خير كفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفن بعد الظهر، وصلى عليه أبوه، ونزل في قبره عمر وطلحة وعبد الرحمن أخوه).
وقد ذكر الدكتور هيكل باشا نصاً في الصفحة السابقة للصفحة التي أورد فيها النص الذي نحن بصدده، لو أنه استقرأه ومحصه قبل أن يثبته لما وقع في هذا الخطأ، فقد ذكر حديثاً على لسان الصديق إلى عائشة أم المؤمنين جاء فيه:(يا بنية، إن أحب الناس غنى إلى بعدي أنت، وأن أعز الناس فقراً بعدى أنت، وإن كنت نحلتك أرضى التي تعلمين، وأنا أحب أن ترديها علي فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله، فإنما هو مال الوارث، وهما أخواك وأختاك، ولم يكن لعائشة غير أخت واحدة فسألت أباها ذلك فقال: (ذو بطن أبنة خارجة، فإني أظنها جارية). وهذا الذي قاله الصديق يدل على أن لعائشة أخوين اثنين لا ثالث لهما هما: عبد الرحمن بن أبي بكر، ومحمد بن أبي بكر، الذي ولد في حجة الوداع، أما التي كانت حبيبة بنت خارجة بها حامل، فهي أم كلثم، وقد ولدت بعد موت الصديق، فلو كان عبد الله حياً لما قال أبو بكر:(. . . وهما أخواك وأختاك)
وأظن أن الذي أو قع الدكتور هيكل باشا في هذا الخطأ هو أنه وجد النص الآتي في كتاب لطبري: (. . . أن أبا بكر حمل على السرير الذي حمل عليه رسول اللهم صلى الله عليه وسلم، ودخل قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله أن يدخل فقال له عمر: كفيت).
هذا ما أورده الطبري، وقد أضاف الدكتور هيكل من عنده ابن أبى بكر بعد عبد الله، فجاء هذا الخطأ، وقد يكون عبد الله هذا الذي ذكره الطبري هو عبد الله بن الزبير حفيد أبي
بكر، وهذا يجوز إذا أخذنا بالرأي الذي يقول: إن واقعة اليرموك قد حدثت في أيام عمر، لا في أيام أبي بكر، وعلى ذلك يصح أن يكون عبد الله بن الزبير في المدينة لم يخرج مع أبيه بعد إلى اليرموك ليشاهد قتال الروم عن كثب، وإلا فإن عبد الله الذي ذكره الطبري هو أي عبد من عبيد الله خلاف ابن أبي بكر الذي كان قد قبر قبل ذلك بعامين
عبد الحميد جودة السحار
جائزة فاروق الأول للصحافة
كان الأستاذ ادجارجلادبك صاحب ومدير سياسة (الجورنال ديجيبت) قد تبرع بستة آلاف جنيه ترصد فائدتها لإنشاء جائزة سنوية باسم (جائزة فاروق الأول للصحافة)، وتمنح للصحفيين في البلاد العربية الذين لا تزيد سنهم على ثلاثين سنة والذين يتفرقون في مهنتهم
وقد تقرر توزيع ربع هذا المبلغ في هذه السنة وقدره ثلاثمائة جنيه على ثلاثة جوائز على الوجه الآتي:
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد كتب أحسن مقالة في موضوع وطني.
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد قام بأوفى تحقيق صحفي في موضوع عام
100 جنيه للصحفي العربي الذي يكون قد كتب أحسن مقالة بلغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية) في موضوع شرقي.
ويجب أن تكون هذه المقالة قد كتبت في المدة من 11 فبراير سنة 1945 إلى أول يناير سنة 1946
ويرسل منها ثلاثة نسخ إلى إدارة (الجورنال ديجيبت) بالقاهرة وستؤلف لجنة من كبار الصحفيين للحكم في هذه المباراة، وتعلن النتيجة في 11 فبراير سنة 1946 يوم عيد ميلاد حضرة صاحب الجلالة فاروق الأول ملك مصر. وحكم اللجنة غير قابل للاعتراض
مجلة (الكتاب):
صدرت هذه المجلة الشهرية عن دار المعارف بالقاهرة يتولى رياسة تحريرها الأستاذ عادل الغضبان، ويعاونه في ذلك بعض الأقلام البارعة في الأدب والفن. وهذه المجلة مثل
عال للصحافة الشهرية في جمل التبويب وحسن الترتيب وطرافة المادة وأناقة الطبع. فرحب بالزميلة الجديدة ونرجو لها التوفيق في خدمة العربية والعروبة.
1 -
تصويب
وقع مقالة (دفاع عن الأدب) تطبيعات هذا تصويبها:
صفحة عمودسطرالتطبيعالصواب
1111 220ويغرفواويعرضوا
1112 1 27 من مجالستهممن مجالستهم (أو) بمجالستهم
2 -
الجيل
جاء في إحدى حواشي مقالة الزندقة (العدد 641) أن الجيل الأمة، وليس معناه العصر. وإطلاق النفي يوهم أن الجيل بمعنى القرن لا أصل لها، مع أنها قد جاءت في التاج في مادة (جيل) ومرت على ألسنة بعض الفصحاء، ولها مواضع لا يصلح لها غيرها.
علي الطنطاوي
القصص
من الأدب القصصي الروسي
عمل شاق. . .
للكاتب الروسي أنطون تشيكوف
للأستاذ مصطفى جميل مرسي
كانت ليلة من ليالي شهر مارس، والسحب مدجنة مطلخمة، وقد اسبطر الضباب فطوى الأرض والسماء في مطارفه. . حتى لا يكلف المرء نفسه الخطو خيفة العثر. . وهب الحارس فجأة وقد طرق أذنيه لغط وهسيس لبعض من الناس يمضي في مطارب المقبرة. وصاح في هيعة وتحوب (من ثمت يسرى؟). ولكن دون مجيب. . فراح يرجع صيحته قد توجس همساً وهجساً (من ثمت يسرى؟!) فأجاب صوت مختلج لرجل هرم. (أنا ذا. . أيها الرفيق.)
- ولكن من أنت؟!
- أنا رجل جوال.
فصاح الحارس في صوت حاول أن يستر به رنة الفزع التي سرت إليه:
- أي شيطان رمى بك إلى هنا؟! أتجول قدميك في المقبرة ليلا؟ أيها الشرير الخبيث!
- وَىْ! أتقول إن هذه المقبرة؟!
- وما في ذاك؟! إنها مقبرة. . ألا تلمح ذلك؟.
فتنهد الرجل الهرم قائلا: (آه. . يا للسماء. ما أقدر على إبصار شيء أيها الرفيق. . إن الظلمة لحالكة. . الظلمة. . فما يستطيع الإنسان أن ترى يده وهي أمام وجهه!
- ولكن من أنت؟!
- أما قلت لك. . زائر. . أيها الصديق، رجل جوال فنبس الحارس في يقين: (إلى الشيطان. . يالكم من معربدين أيها الجوالون، كل منكم يطل يجرع الخمر، ويأتي إلى هنا يقلق راحتنا ويسبب متاعبنا ليلا. . ولكن. . لقد سمعت أصواتاً تهمس معك فأين أصحابها؟!
- إني بمفردي يا صديقي. . إني وحيد. . آه يا إلهي فدنا الحارس من العجوز ووقف إزاءه وسأله:
- كيف حضرت إلى هنا؟!
- لقد ضللت سبيلي يا سيدي بينما كنت أروم طاحونة (ميتريافسكي). .
- وي. . . أهذا طريق طاحونة (ميتريافسكي)؟ أيها الشرير؟ كان ينبغي أن تسري إلى يسارك ثم تدوم سيرك على استقامة. . . يخيل إلى أنك تناولت بعضاً من أقداح الخمر، فتنكبت سبيلك!
- نعم. . . لقد أتت يداي هذه الخطيئة، فما ثمت سبب للإنكار. ولن أعود فأركب هذا المتن الخاطئ ثانية. . . بالله أين الطريق الذي علي أن أسلكه؟
- امض أمامك في هذه المطربة حتى نصل إلى باب المقبرة، فافتحه، وانطلق إلى حال سبيلك. . . حاذر أن تعثر بالخندق فتتردى فيه. . وستلاقي الطريق حيث يمكنك أن تصل إلى الطاحونة إن سلكته.
- اسأل الله أن يسبغ عليك وافر الصحة والخير. . . أيها الرفيق، ويطهرك من ذنوبك برحمته وغفرانه. . . ألا يمكنك أن تصحبني حتى الباب. . . فيضاعف ثوابك، فما أكاد أتلمس طريقي في تلك العتمة. . .
- كأني بك ترى عندي الوقت الذي أضيعه عبثاً في السير معك. . . امض وحدك.
- كن رحيما يرحمك الله. . . فسأصلي من أجلك. إني لا أكاد أرى طريقي فالظلمة حالكة. . . بالله أرني الطريق.
- أيدور بخلدك أن وقتي متسع لصحبتك أيها الشرير الكهل!
- نشدتك الله. . . قدني إلى الباب. . . لا أقدر على أبصار شيء، كما أنني أخشى هذه المقبرة وما يجول فيها من أرواح وأشباح. . . هيا معي يا سيدي. . . بالله رافقني. . .
- ليس سبيل إلى الخلاص منك ومن ثرثرتك، هيا إذاً معي أيها العجوز. . .
ومضى الرج لان متلاصقين في صمت رهيب. . . وهبت الريح صرصراً تصطك منها الأسنان، والأشجار ضاربة في جو السماء تصفر في رهبة كأنها صراخ الجن. . . ويساقط منها الطلل والندى. . . وقد تناثرت في ساح المقبرة المناقع الضحلة. . .
وبغتة قال الحارس بعد أن طال أمد الصمت بينهما:
- ثمت شيء يثير حيرتي وتساؤلي! كيف تسنى لك أن تدلف إلى هنا مع أن الباب مقفل؟! أتسلقت الحائط!؟ ما أظن ذلك فأنت هرم، فأنت آخر من أتي هذا العمل!.
- لست أدري! أيها الرفيق. . . لست أدري كيف أتيت إلى هنا. . . لعمري إنها مشكلة. . . رحماك يا رب. . . لا بد أن الشيطان مس عقلي، ألست حارس المقبرة أيها الرفيق؟
- بلى. . .
- أنت وحدك تقوم بحراسة كل هذه المقبرة؟!
وارتفعت حينئذ ريح عاصف كادت أن تنتزعهما من مكانهما فلما هدأت حدتها عاود الحارس حديثه مجيباً:
- إنا هنا ثلاثة رجال: واحد مضطجع في فراشه محموم، والآخر مستغرق في نومه، ونحن الاثنين نتبادل الحراسة. . .
- حسن. . . آه، يالها من ريح عاصف يكاد أن يسمع صفيرها الأموات في قبورهم. . . إنها تزأر كالوحوش الكاسرة. . . آه. . . آه. . .
- ولكن من أين أتيت إلى هنا؟
- كنت عند صديق في إقليم (فولجدا) على مبعدة من هنا. . . إني أتجول من مكان إلى آخر حيث أصلي وأعظ. . . اغفر لي يا إلهي. . .
توقف الحارس هنيهة ليشعل غليونه، وقام الرجل العجوز بينه وبين الريح. . . وأبرق عود الثقاب على المطربة التي يسلكانها واستقر شعاعه على بعض أحجار القبر التي إلى جانبهما؛ فأشعل العود الثاني فتألق ضوؤه ثم خبا على حين فجأة. . . أما العود الثالث فألقى بشعاعه إلى اليمين وإلى الشمال، فتمكن من إشعال غليونه قال الرجل الغريب:
- إن الراحلين راقدون. . . الراحلين الأعزاء. . . أنهم يرقدون سواسية لا فرق بين غني وفقير، حكيم وأحمق، قوى وضعيف، إنهم على حال واحد الآن. . . وكذلك سيمكثون إلى أن ينفخ في الصور وتبعث الأموات من القبور. . . أن هذه الحياة الدنيا لفانية مضمحلة أما الحياة الأخرى فخالدة سرمدية. فقال الحارس في جلال:
- نعم. . . إننا لنسير في هذا المكان الآن، وبعد حقبة تطوينا هذه الأرض فنصبح نسياً
منسياً. . .
- لا مجال لريب في ذلك. . . كلنا جميعاً. . . جميعاً إلى هذا المصير سائرون. وليس ثمت من يخلد على أديم هذه الأرض. . . أواه. . . إن أفعالنا لآثمة، وأفكارنا تطمح إلى آمال كالسراب. إن الخطيئة لتسيطر علينا وليس ثمت خلاص من قضاء الله سواء في الدنيا أو في الآخرة. وإني لغارق في خطيئاتي كالحشرة تسعي في جوف الأرض. . .
- أجل. . . ورب منيتك كانت قلب قوسين منك!
- إنك لعلى صواب وحق، أيها الصديق. . .
فقال الحارس وهما يحثان الخطأ نحو الباب.
- إن الموت لأدنى إليكم معشر الجوالين منا نحن من نستقر في الأرض على الدوام!
إن هناك أنواعاً متباينة من الجوالين يا سيدي. فمنهم من أنزل الله السكينة على قلبه، فراح يصلي ويعبد ربه. ومنهم من أصابه الفجور فراح يعربد ويأتي المنكرات وليس له رادع يردعه عن أفعاله. وإن هؤلاء يجولون في المقابر لتتصل أنفسهم بالشياطين.
وهناك من في مقدورهم أن يهووا بفأسهم على هامة رأسك فتخر وقد بت على شفا الموت. . .
- هه. . . عم تتحدث أيها العجوز؟!
- آه. . . لا شيء. . . يخيل إلى أن هذا هو الباب. . . نعم إنه هو. أرجو منك فتحه. . .
فتلمس الحارس طريقه وفتح الباب، وقاد الرجل إلى الخارج من منكبه وقال:
- هذا هو منتهى المقبرة. . . وعليك بالانطلاق عابراً الحقول حتى تدرك الطريق، وحاذر الخندق أن تتردى فيه. وإذا ما لحقت بالطريق العام فانثن إلى يمناك وواصل سيرك حتى تصل إلى الطاحونة التي ترومها. . .
فزفر العجوز بعد فترة صمت:
- هيه. . . ولكن ما الذي يدفع بي إلى الذهاب إلى طاحونة (ميتريافسكي) إني أفضل البقاء هنا على المضي إلى هناك يا سيدي. . .
- وما الذي ترجوه من اللبث هنا؟!
- ستجد مني من يؤنس وحدتك، ويفرج عنك كربك.
- العلك رجل لطيف المعشر، حلو النكتة؟!
- بلا شك يا سيدي. . . فستضل تذكرني. . . تذكر ذلك الجوال على الدوام. . .
- ولم تظل ذكرى إنسان مثلك ببالي على الدوام؟!
قال العجز في صوت أصحل ساخر:
- هه. . . اسمع. . . إنك تمعن في الجفاء. . . وأنا أتبسط في الحديث. . . فما أنا بجوال كما أنبأتك!
- إذن من أنت؟!
- رجل ميت لقد خرجت الآن من لحدي. . ألا تذكر (جبرياف) القفال الذي شنق نفسه في عيد (الكرنفال). . . حسن. إنه أنا (جبرياف).
- بالله خبرنا بشيء غير هذا. . .
لم يصدق الحارس لفظة مما قاله العجوز، ولكن سرت قشعريرة الهلع في جسده فراح ينتفض فرقاً. . . ويسرع بالنأي عن الباب، فقبض الرجل الغريب على كتفة وهتف قائلا:
- قف. . . أتمضي وتدعني وحدي أعاني مرارة الوحدة. . . فصاح الحارس وهو يحاول نزع ذراعه من براثن ذلك العجوز:
- دعني أذهبّ دعني أمض بسلام!
- قف. . . إني آمرك بالوقوف، وستقف حتماً. . . لا تناضل أيها الكلب الرعديد. . . إن كنت تبغي الحياة. فقف حتى آذن لك؛ هذا لأني لا أود أن أسفك دماً حقيراً كدمك أيها الخنزير الجبان. . . قف مكانك. . .
وتهاوى الحارس، وقد سرت عنه شجاعته فأغمض جفنيه وراح يرتعد ويرتجف وقد طارت نفسه شعاعاً. . . إنه يستطيع الصياح والاستغاثة ولكن عبثاً يحاول. . . فليس من حي تصل إلى أذنه صيحاته. . .
قام الرجل الغريب إلى جانبه وساعده في ثبات وقسوة. . . وتقضت ثلاث دقائق والكون غارق في صكت رهيب. . . فعاد الغريب يقول:
- واحد مريض محموم، والثاني غارق في النوم، والثالث يلقى الجوالين بجفاء وبرود. . . ألا بالله خبرني يا سيدي الحارس كيف تستحقون مرتباتكم، إنكم كاللصوص ولكن في
الخفاء. قف مكانك. . .
انقضت خمس دقائق ثم تلتها عشر والصمت لم ينفك مخيما على المقبرة. . . وعلى حين غرة. . . قطع هذا الصمت صوت صفير سرى في جنح الليل. . . فقال الغريب إثر ذلك وهو يطلق ذراع الحارس: (حسن. . . الآن. . . امض. . . امض، واذكر أن الله يرقب أعمالك الشائنة. . .)
ثم أطلق صفيراً - يشابه سرى مذهنيهة - وانطلق خارجاً من باب المقبرة. . . وسمعه الحارس وهو يجتاز الخندق قفزاً ووقف الحارس هنيهة جامداً لا يتحرك. . . يرتعد فرقاً. . . كأن الغريب ما زال ماثلا أمامه.
ولما انقلب عقبه في المطربة طرق أذنه أصوات لأقدام تتسارع في سيرها، وسؤال يجري على لسان يقول:(أنت (تيموفي)؟ أين (ميتكا)؟) وابتعدت عنه الأصوات فراح يجد في سيره حتى لمح شعاعاً يخفق في الظلام. . . فلما أمعن في الدنو، وضح له الشعاع فراح يردد:
- كأن النور يشع من الكنيسة!. من أين أتى هذا الشعاع يا إلهي. . . فرج كربتي. .
دار الحارس حول الكنيسة حتى وقف أمام نافذة محطمة فراح يحملق نحو المذبح. . . في هلع وفزع. . وكانت هناك شمعة خلفها وراءهم اللصوص تخفق في رهبة، وتلقى الظلال الدامسة في الأرجاء. . . وقلب الحارس طرفه فرأى الخزانة مقلوبة محطمة وقد فتحت على مصراعيها، واختفى ما كان بها من كنوز وأموال. . .
وكذلك ذهبت القرابين وغيرها. . وأدرك الحارس سر ذلك الرجل الغريب الذي راح يداوره ويبعده عن الكنيسة حتى يهيئ الفرصة لزملائه اللصوص. . .
ومضت برهة، وعادت الريح تعصف وتصفر في جنون وكأنها تسخر من ذلك الحارس المسكين
مصطفى جميل مرسي