المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 646 - بتاريخ: 19 - 11 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٤٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 646

- بتاريخ: 19 - 11 - 1945

ص: -1

‌خواطر.

. .

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كتب إلي بعضهم يستشيرني في العيد كيف يقضيه! حتى عن هذا يسأل بعضهم! وقد حرت كيف، وبماذا أجيب؟ ثم خرجت من المأزق الذي زج بي فيه سؤاله بكتاب وجيز، هذا بعض ما فيه:

(والشروط في العيد أن يشتري لك سواك كسورة، فإذا لم يوفقك الله لهذا، أو كنت ممن يشترون ولا يشتري لهم، فلا عيد لك. ويجب أن يكون مع الكسوة لعبة - أي لعبة - كرة ملونة مخططة، أو زمارة، أو حصان خشبي، أو ما شئت غير ذلك، على انك سألتني فأنا اختار لك (البارود) إذا كنت غلاماً، وإذا كنت لا تعرفه فاعلم انه (فتيل) ملفوف عليه ورق أحمر، وبعضه في سمك القلم، والبعض اسمك من ذلك جداً، والأول يَرصُّ في علبة، والثاني يستعمل فرادى لضخامته. وإذا أشعلت النار في هذا أو ذاك، انطلق منه مثل أصوات البنادق والمدافع. أما إذا كنت (بنتاً) فأنا أشير عليك بما يسمى (على لوز) وهو سكر يُحل ويُعقد، ويزين باللوز والبندق والفستق، وما إلى ذلك، وتحمله الفتاة في طبق - بعد أن يبرد لئلا أصابعها الناعمة - وتدور به على الصبيان تبيعهم منه، كل ملء ملعقة صغيرة بمليم، وهذا هو السعر القديم، وزيادته جائزة.

(واحرص على أن تعطى في العيد بلا تقتير أو حساب، فتأخذ باليمين لتنفق بالشمال، وكلما فرغت يدك وذهب ما معك، عدوت إلى اهلك تطلب منهم أن يعطوك، وتبكي وتصيح وتدبدب برجليك - وبيديك أيضاً إذا شئت - وتتمرغ على البساط، أو على البلاط وهو افضل - إذا أبطئوا وتلكئوا في العطاء، أو بخلوا به. فإذا ملئوا جيوبك قروشاً ذهبت إلى الأراجيح، وبعضها خيل تدور براكبيها حتى تدور رءوسهم، والبعض (دكك) أربع كل اثنتين منها متقابلتان، تدور كالساقية وأنت معها، فتسر أو تخاف، وتصرخ أو تغنى على هواك، والدكك دائرة كالأيام، صاعدة بك طوراً، وطوراً هابطة، لا تبالي - كالأيام أيضاً - أضحكت أم بكيت، وفرحت أم جزعت. ومن الأراجيح أيضاً نوع لا أشير به عليك إذا كنت فتاة، فانه يعريك ويطير ثوبك عما تحته، وهو عبارة عن لوح مشدود من الجانبين إلى حبلين معلقين، يقف عليه الفتى ويمسك الفتى الحبلين بيديه، ويروح يدفع اللوح بقدميه،

ص: 1

فيندفع من الخلف إلى الإمام، ومن الإمام إلى الخلف، فإذا كنت قويةً أو مدرباً، بلغ بك غلواً كبيراً.

(وإذا لم يعجبك هذا الذي اقترح به فانه لا يبقى لك إلا أن تذهب إلى القبور فتزور موتاك، وتترحم عليهم وتستغفر لهم، والسلام).

وقد ندمت بعد أن وضعت الكتاب في صندوق البريد، لأني خفت أن يصدر رأي، فيفعل ما أشير به! ومن الغريب أن هذا هو الرد الوحيد الذي بعثت به على ما جاءني من الرسائل في شهر كامل!

صدق من قال: يُثاب المرء رغم انفه!

ما اعجب غرور الإنسان! وما أحوج الإنسان إليه!

لي صديق - وفي هذا مبالغة قليلة ولكنه لا ضير منها - ليس بينه وبين الغوريللا فرق، وقد اعتاد أن يتخذ مكانه كل يوم على مقهى يكثر مرور الناس - رجالاً ونساء - على رصيفه، وهو على طريقي في أغلب غدواتي وروحاتي. ومن عجيب أمره انه شديد التألق في ملبسه، كأن من الممكن أن يحجب حسن الهندام قبح الوجه وسخافة القوام. وكان أولى به في رأيي أن يتواري عن العيون في مقهى في زقاق ضيق إذا كان لابد من الجلوس في مقهى. وقد سألته مرة وقد ألح على في مجالسته: لماذا تؤثر هذا المكان والضجة فيه عظيمة!

قال (أتفرج على الناس)

قلت (ويتفرجون عليك!)

فلم يسؤه قولي بل ضحك وقال (لا بأس: يتفرجون وأتفرج)

قلت (أواثق انك تحمد العاقبة!)

قال (لا شك! انظر إلى هذا الفتاة التي ترشقني بنظرتها الحلوة)

فأحنقني واستفزني هذا الغرور وقلت (لعلك تظن انك فتنتها بجمالك؟)

فما انهزم والله، بل قال (وهل في هذا شك؟)

فلم أطق صبرا على هذا الغرور فانصرفت عنه، وأني لأدرى أن بالإنسان حاجة إلى قدر من الغرور يعوذ ويعول عليه، ويستمد منه القدرة على احتمال حياته: ولكن هذا قد جار

ص: 2

على نصيب جليه كله من الغرور.

وقد تعجبت في مستهل هذه الكلمة لغرور الإنسان، وأنا اختمها بالتعجب من المرأة؛ فقد رأيت اجمل امرأة أخذتها عيني في حياتي: تتأبط ذراع هذا الغوريللا، ويثنى إليه محياها الصبيح وهو ينضج بشراً وابتهاجا، وفي عينيها وميض الحب، وقد خيل إلي، وأنا انظر إليهما كأنها تشتهى أن تأكله!

وقد سلم على يومئذ بغير استخفاف، وبغير استخفاف كذلك. ولم يتمهل إلا ريثما يهز يدي، ويسألني عن صحتي، كعادته كلما لقيني، ولم يستعجل أيضاً، ولم أرى على وجهه ولا في سلوكه ما يدل على انه مزهو بمصاحبة هذه الحسناء الفاتنة. فكأن هذا أمر عادي جداً! فسبحان ربي القادر.

وعلى ذكر التعجب أقول إن عجبي لا ينقضي من عجز الإنسان وجهله. نعم استطاع أن يخترع اللاسلكي مثلا، فهو يرسل الموجة من جهاز فتمضى في الجو إلى أطراف المعمورة، ويلتقطها جهاز أخر فتستحيل كلاما وغناء وموسيقى. وهذه الأجهزة المصنوعة من مواد يستخرجها الإنسان من الأرض التي يعيش عليها، وهو أيضاً مخلوق من طينها، وفي بطنه كل عناصر هذه الأرض، ومع ذلك لم يخطر له أن يحتال حتى يتخذ من بدنه جهازين للإرسال والتلقي، أو أن ينمي قدرته على ذلك، فأن الناس بالنظر إلى حد ما، فماذا يمنع أن يتسع نطاق التفاهم حتى يشمل كل شىء، فيستغني الإنسان عن أداة اللغة التي قل أن يحسنها والتي هي عنوان العجز والقصور؟

وأمر آخر: حطم الإنسان الذرة، وهي لا ترى لا بالعين ولا بالمجهر. أطلق بتحطيمها قوة مهولة مفزعة، استخدمها أول ما استخدمها في التدمير، وسيستخدمها - إذا لم تقض عليه قبل ذلك - في التعمير. وما من شك في أن في الإنسان طاقات محبوسة أو مستكنة أو راكدة لو أطلقت بحساب وقدر - حتى لا تعصف به - لبلغ من القوة والاقتدار درجة يعجز الخيال عن تصورها. ولكنه لا يفعل، ولعل العلماء الذين حطموا الذرة لم يخطر لهم أن يعالجوا القيام بشيء من التحطيم في جسم الإنسان، وقد يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وقد يستغرق الاهتداء إلى وسيلة مأمونة إلى تحطيم ذرات الإنسان وإطلاق طاقاتها بقدر إلى قرن أو اكثر، ولكن ما قرن إذا قيس إلى هذه الغاية التي تقلب الإنسان مارداً جبارا؟

ص: 3

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 4

‌من ماضي مصر

بين فرنسا وإنجلترا

للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك

إن ما يحدث في الشرقين الأوسط والأدنى من الحادثات، ويقع فيهما من توليه أو عزل للحكام والحكومات، ويجري من السياسات، كل أولئك أمور يعتقد أناس كثيرون إنها جميعاً من تصرف الشرقيين وحدهم، وإنها لا اثر فيها لنفوذ غيرهم أو لدس أو سياسة من سواهم؛ لكنها أمور لا يستقل الشرقيون دائماً بالرأي فيها ضعفت الدول الشرقية أو تخلفت، بل يغلب أن تسببها وتلعب بها أيد صنُع أجنبية ظاهرة أحياناً وتارة خفية

وهذا مقال وجيز جاء بمثال أو أمثلة في موضوعه، فليس يزعم انه يبين جميع ما وقع لمصر بين فرنسا وإنجلترا من جراء تعاديهما، وطمعهما وتنافسهما الاستعماري؛ وإنما غرضه الإشارة الخفيفة إلى اثر ذلك التعادي والطمع والتنافس في بعض حوادث هذا القطر المتصل بالشرق الأدنى، والمنسوب إلى البلاد العربية بخلط في دم أهله، وبلغهم وتالد ثقافتهم.

طال العداء بين فرنسا وإنجلترا دهراً تحاربتا فيه حرباً عواناً، وخصوصاً لعهد حكومات الثورة الفرنسية الكبرى وإمبراطورية نابليون، بسبب المبادئ الثورية وأعمال أصحابها، والسيادة الدولية والبحرية، والتجارة والاستعمار. وقد ظلت إنجلترا في تلك الأيام تؤلب الدول الأوربية على عدوتها اللدود؛ ودخلت الحرب في الحلف الأولى على فرنسا بعد أن أعدمت لويس السادس عشر سنة 1793؛ ولم تكف إنجلترا بعد انحلاله، بل بقيت تحارب، وألبت الحلف الثاني الذي تحطم، ثم أنهت حربه سنة 1802 بمعاهدة أميان بينها وبين فرنسا.

فكانت إنجلترا في حرب مستمرة مع فرنسا يوم نزلت حملة بونابرت بأبي قير عام 1798، ويوم أبحر عائداً إلى فرنسا، ثم تبعه الجنرال بليار قسم من الحملة في 7 من أغسطس عام 1801 فتبعهما الجنرال منو في الشهر التالي بالقسم الباقي. وجاءت معاهدة أميان بعد ذلك بنحو نصف عام.

وكانت مصر على الدوام محسدة الدول التي سادت العالم القديم: لأنها كانت مركزه

ص: 5

الجغرافي، وإنها تمكن من السيادة على البحر المتوسط. ومفتاح هذه السيادة هو على الأصح تونس لوقوعها في منتصف البحر وإشرافها على شقيه الشرقي والغربي، وعلى صقلية ومضيق مسينا الفاصلين بينهما. بيد أن مصر أيضاً مشرفة على البحر المتوسط ومشرفة مع ذلك على البحر الأحمر، وهي منفذ إلى الهند ووصلة بين أفريقية وآسية، ومجاز إلى طرقها البرية. وقد اتجه نظر بونابرت إلى مصر منذ كان يحارب في إيطاليا حيث انتصر وعد انتصاره طالع سعده، ومنها كتب إلى تالران 1797:(لن نلبث مليا حتى نحس انه ليس بد من أن نمتلك مصر لتحطيم إنجلترا). ولما عهدت إليه حكومته في الاستعداد لغزو الإنجليز شرع يستعد؛ غير انه وضع مشروعاً للاستيلاء على مصر، وشرح لحكومته ما تجنيه فرنسا من الثمرات إذا هي استبدلته بغزو إنجلترا فوكلت إليه قيادة الحملة وفتح القطر.

وملخص الأسباب التي شرحها بونابرت في إيثار مشروعه أن مصر أخصب أرض وثروتها الزراعية والحيوانية عظيمة؛ وإنها كانت هري رومة وهي يومئذ هري القسطنطينية، ومجمع القوافل الأفريقية والأسيوية، ومحل تبادل المتاجر الشرقية والأوربية؛ فإذا قامت فيها إدارة فرنسية خمسين عاماً يزيد عدد سكانها زيادة كبيرة، وتصبح سوقاً ومصرفاً لمصنوعات فرنسا، وإن حلول الفرنسيين بمصر يضر إنجلترا، ويمكنهم من السيادة على البحر المتوسط فيوطد الإمبراطورية العثمانية؛ وإذا كان الانهيار مقدراً عليها أخذت فرنسا أحسن حصة من سلبها؛ فإذا استعمرت فرنسا مصر، أو جعلتها مستودعاً للمتاجر أو موثباً تنقض منه فرنسا على مؤسسات الإنجليز في الهند، كان لها أن تستيقن بأنها سترد التجارة الكبرى إلى طرقها الطبيعية فتصل إلى الثغور الفرنسية، لأن فرنسا أحسن الدول الغربية الكبيرة موقعاً بالنسبة إلى مصر.

نزلت الحملة الفرنسية بإسكندرية في أول يولية عام 1798، وأعلن الباب العالي الحرب على فرنسا في 4 سبتمبر من العام نفسه، واخذ جيشين أحدهما في سورية، والثاني في رودس لطرد الحملة، فرأى بونابرت أن نزول جيش رودس من البحر لا يتيسر إلا في الصيف، فاثر أن يفاجئ الجيش البري قبل أن يتم احتشاده ليشتته في سورية ويفتحها كما فتح مصر؛ ومتى يقهر الترك ويجمع محاربين في صفه بالتجنيد من المسيحيين المنتشرين

ص: 6

في تلك البلاد، ومن الدروز وغيرهم تمتد الحركة إلى سائر العرب ويتسهل له إصلاح العلاقات بين فرنسا والباب العالي، ثم يجتاز الصحراء زاحفاً إلى الهند. لكنه رجع إلى مصر مضطرباً بسبب صبر عكا على حصاره وتفشى الطاعون في عسكره وغير ذلك.

وجلت الحملة الفرنسية من مصر، لكن بونابرت المستسعد بجده وفرنسا التي أعزت به، فرنسا إلى ما فتئت تدافع عن مصالحها في الشرق لم ييأسا من إمكان فتح هذا القطر ثانية، بل أرادا العمل على إحياء النفوذ الفرنسي فيه ريثما تتاح فرصة الاستيلاء عليه.

ففي محفوضات وزارة الخارجية البريطانية وثيقتان: إحداهما مذكرة بمشروع لاستقلال مصر منسوب إلى المعلم يعقوب الذي ورد ذكره في تاريخ الجبرتى - وليس في كلام المؤرخ إشارة ما إلى انه عرف شيئاً يتعلق بهذا المشروع؛ والوثيقة الثانية كتاب من قائد سفينة حربية إنجليزية أرسل معه المذكرة إلى حكومته عقيب نقله يعقوب من مصر. ولهاتين الوثيقتين علاقة بعمل فرنسا على إحياء نفوذها في مصر.

فقد وجد رؤساء حملة بونابرت أن المعلم يعقوب رجل حرب وإدارة على ذكاء ومكر، فألحقوه بجيش الجنرال دُزِه مديراً للتموين، فأثبت إخلاصه لهم وشجاعته. وبعد هزيمة المماليك في الصعيد رجع في أسيوط إلى عيشة الثراء بجواز قائده، وعاشره هو وأركان الحرب من ضباطه وبعض أعضاء اللجنة العلمية الفرنسية، وكانت المحادثات بندى القائد شائقة وسامية المعاني في اكثر الاحيان، فلا غرو من أن تكون أرسخت الأفكار الجديدة في أعماق ذهن المعلم. ثم عهد إليه كليبر في تنظيم المالية المصرية؛ ثم جعله رئيساً لفرقة عسكرية قبطية؛ ورقاء خلف كليبر في القيادة العامة إلى رتبة اللواء (جنرال) وعينه مساعداً للجنرال بليار في دفع الجيوش الإنجليزية والتركية عن القاهرة، فعد هو وفرقته القبطية - عند استسلام العاصمة في 17 من يونية عام 1801 - من الجند الموكول أمرهم إلى بليار وأبحر مع هذا القسم من جيش الجملة إلى فرنسا على تلك السفينة الحربية الإنجليزية.

قال الجنرال يعقوب القائد السفينة، في حديث لم يحضره سوى رجل من اصل فرنسي اسمه لسكرى جاء من مالطة مع الحملة التي استولت عليها في الطريق إلى مصر: إنه يمر مشروعا لاستقلال مصر يريد من القائد أن يبلغه عنه سراً إلى الحكومة البريطانية.

ص: 7

وخلاصته أن مصر إذا استقلت فأنها تكون في حكم الخاضعة لإنجلترا سيدة البحار، ولن تكون أبداً إلا دولة زراعية غنية بأرضها الخصبة وبتجارة أفريقية الوسطى؛ وهذه الفوائد تغنى الأمة التي لها دائماً أعظم مصلحة في تجارة مصر وبحارها، بسبب الهند؛ وهذا الاستقلال لا يكون انقلاباً أحدثه نور العقل أو قلق الخواطر بمبادئ فلسفية متنافضة، بل يكون تغيراً سببه عمل قوة قاهرة في حال أناس هادئين جهلاء، لا يعرفون على التقريب سوى المنفعة والخوف؛ فلا يكون استطاعة المصريين أن يحموا استقلالهم من الأوربيين قبل زمن مديد، حين تنتظم القوة الأهلية وتصبح مهيبة؛ أما حمايته من الترك والمماليك فان الدول الأوربية تستطيع أن تحرمهم كل اعتداء على مصر، ويمكن أن يستأجر المصريون فرقة أجنبية مساعدة تجمع إثني عشر ألف رجل أو خمسة عشر ألفاً، فتكون نواة الجيش المصري وتكفى لإيقاف الترك في الصحراء وإبادة المماليك في داخل مصر؛ ومصر منقسمة طوائف وشيعاً يسهل تزجيها إلى الاختلاف لتتوازن؛ وهو ومن معه من الأقباط وفد متصل بها جميعاً، مفوض إليه من وجهاء الإخوان الأحرار أن يفاوض الدول في الاستقلال (ولو فوضه أحد في شيء من نحو ذلك لما خفي جملة الأمر على مثل الجبرتي)؛ وغرضه أن يفاوض بطريقة تجعل فرنسا هي البادئة بطرح المشروع على إنجلترا إذا أيقنت هذه الدول بفوائده السياسية فعزمت على تأييده عند عودة السلام العام إلى أوربا فلا يتعرض الوفد لرفض مشروعه بسبب التنافر بين هاتين الدولتين الأوربيتين، أو حذر أن يكون حيلة من الجمهورية الفرنسية.

لم يكن الدين حائلا بين الفرنسيين والقبط ولم يكن بد من أن يحدث ضم يعقوب إلى الجيش الفرنسي، قراب ثلاثة أعوام، آثاراً عميقة في نفسه. فكان له أن يتوقع المكافأة الثمينة من بونابرت، ولا سيما بعد إذ اصبح القنصل الأول في حكومة القنصلية وهو الذي لم يكن ليغفل عم الجزاء السخي على مثل ارتياح المعلم إلى خدمة الفرنسيين في جميع الاحوال، واستسلامه لأرادتهم كل الاستسلام حتى جعلوه جنرالا فرنسياً. غير أن المعلم مات على السفينة البحرية الإنجليزية عقب الإفضاء بسره، فكتب لسكرى المشار إليه آنفاً مذكرة بالمشروع هي التي أرسلها قائد السفينة مع كتابة إلى الحكومة الإنجليزية. وكان يعقوب قبيل موته قد أبدى رغبته في أن يدفن بجانب (دزه) حباً فيه، فلم تلق جثته في البحر بل

ص: 8

حفظت في برميل روم إلى أن دفنت في مرسيليا.

وواضح من نص الوثيقتين برمته، ومن سيرة صاحب المشروع في زمانه ومكانه، أن فكرة هذا الاستقلال وليدة السياسة العليا، وان المعلم يعقوب تبناها تحت رعايا الحملة الفرنسية. ولو امتد بالجنرال يعقوب زمنه لأيّدت فرنسا مشروع هذا القبطي الوجيه الثري، عند عقد معاهدة اميان، ليخدم مصلحتها بنفوذه في مصر إذ كان أحد رؤساء طائفته وقد صيره شخصية كبيرة الشأن. لكنه مات فلم يبق في الفرقة القبطية من يصلح للحلول محله والمفاوضة في مشروعه.

لما عاد بونابرت من مصر إلى فرنسا وتولى رياسة الحكومة القبطية أرسل ماتيو ده لسبس قنصلا عاما إلى مصر، وذلك في سنة 1804 من أيام القلق التي كان جلاء الجيش الفرنسي عن القطر تركه فيها لنفوذ المماليك وللفوضى. وكان من شأن المهمة الحقيقية المعينة لماتيو أن تعرضه للمخاطر في بهرة هذه الفوضى، إذ كانت المهمة هي إعادة النفوذ الفرنسي إلى حاله السابقة، وقد أداها بنجاح باهر: فان البيانات والأوامر السرية التي أصدرها إليه تالران المشهور، وزير الخارجية الفرنسية يومئذ، أوجبت عليه أن يبحث في الجيش التركي الذي حارب الفرنسيين عن رجل مقدام ذي كفاية للحلول محل المماليك؛ فاهتدى ماتيو بفراسة ذات بصيرة إلى محمد علي (المغفور له محمد علي باشا الكبير)، وفاز بصداقته، ومساعده مساعدة فعالة في سبيل علوه؛ فلم يبث محمد علي أن أصبح سيد البلاد وجعل المصريين ينادون به والياً على مصر، ثم أباد المماليك - كما كان يحدث لو نفذ مشروع يعقوب.

ومشهور أن فرنسا أيدت المساعي التي نال بها محمد علي فرمان الولاية عام 1805؛ بعد ذلك فرمان بنقله والياً على سلانيك، لأن الحكومة البريطانية طلبت من الباب العالي أن يعيد السلطة إلى المماليك ضامنة له أمانة محمد بك الألفي - الذي كان الإنجليز يؤيدونه إذ وعدهم وعوداً تعرض مستقبل مصر للخطر، منها انه سوف ينزل لهم عن الثغور المصرية الكبيرة.

ثم نجحت مساعي فرنسا في استنبول ففاز محمد علي بفرمان أعاده إلى ولاية مصر من غير أن يبارحها. لكن الإنجليز لم يرقهم نجاحه الملائم لسياسة فرنسا ونفوذها، فأرسلوا

ص: 9

حملة على مصر؛ وكانت الخطة لدفع هذه الحملة الخائنة عن الإسكندرية من وضع دروفتي قنصل فرنسا في هذا الثغر.

استتب حكم محمد علي وغزا الشام - بعد أن قهر الوهابيين بنحو خمسة عشر عاماً. وكان لويس فيليب، ملك فرنسا. وحكومته والرأي العام الفرنسي، شديدي الرغبة في أن ينفذ والي مصر ما عزم عليه وأن يوطد سلتطه في الشرق إلى أقصى حدود الإمكان؛ فلما خرج احمد باشا القبطان بالأسطول العثماني من الدردنيل في سنة 1839 ليسلمه إليه حقداً منه على عدوه الشخصي خسرو باشا، الصدر الأعظم، كان أمير البحر للند يسد بالأسطول الفرنسي منفذ المضيق إلى البحر المتوسط، فلم يبذل أي جهد ليمنع الأسطول العثماني من الخروج تنفيذا للرغبة الدولية الأوربية مع علمه بنية أحمد باشا، بل أعانه على خدع الإنجليز والتخلص إلى مصر. لكن إنجلترا خشيت عواقب النصر الذي حازه محمد علي الكبير فحالت دون غرضه من توحيد الشرق العربي تحت حكمه وإن أيدته فرنسا في المفاوضات الدولية الأوربية حتى كادت تحارب من أجله، بل حرصا على نفوذ سياستها. وقد كتب بالمرستون، وزير الخارجية البريطانية، في 4 من مارس عام 1840 إلى جيزو، رئيس الوزراء الفرنسية:(أما كانت فرنسا تسر لو رأت في مصر وسورية دولة جديدة مستقلة تؤسس فيهما وتكاد تكون من إنشائها فتصير بالضرورة حليفتها؟ لكم الوصايا على الجزائر، فماذا يبقى يومئذ بينكم وبين حليفتكم مصر؟ هاتان الدولتان المسكينتان تونس وطرابلس، وهما تكادان لا تكونان شيئا. وهكذا يصبح ساحل أفريقية كله وقسم منه ساحل آسية على البحر المتوسط، من مراكش إلى خليج الإسكندرية، في قبضة يدكم وتحت نفوذكم. وهذا محال أن يكون من سبيلنا)

ضمن ماتيو بجرأته فيما ابتدأ به عمله السياسي صداقة محمد علي العظيم، ووطد في مصر نفوذ فرنسا لمدة مديدة، ومهد من حيث لا يدري لابنه فردينان طريقا قصدا إلى الأذن له في إنشاء قناة السويس: فإن صداقة الوالي، بعد إذ وصل إلى الحكم بمواهبه الفطرية وبتأييد من ماتيو، كانت صداقة مضمونة بادئ بدء لفردينان. وقد أكد الوالي أمر ذلك التأييد من الأب وهذه الصداقة للابن تأكيدا علينا يوم كان في سورية بين قواده وحاشيته ورأى فيه فردينان أول مرة فقال له (إن والدك هو الذي جعلني ما أنا اليوم. فاذكر أنك تستطيع دائماً

ص: 10

أن تعتمد علي). ومن صداقة الوالي نشأت صداقة ابنه سعيد باشا لفردينان، ولولاهما لكان من الممكن جدا أن يخفق في أمر الفتاة. وليس شك في أن أحوال البيئة التي ظهر فيها محمد علي، ومنطق التاريخ في زمانه وتصرفه بسياسة اثبت حكمتها علو شأنه، أمور تؤيد هذه الحقائق. وإذا قال التاريخ بوقوع إرشاد له وإسعاد فان هذا القول ليس يصغر من جلال عبقرية سمت بصاحبها إلى أوج سودده ومجده: إذ أنقذ مصر من الفوضى وأحياها، ومنحها ملكا واسعا وعرشاً زعزع العرش العثماني المجيد، ولم يثبت أمامه سوى إجماع الدول العظمى.

ولما وقعت المذابح بسورية، في 9 من يوليه عام 1860، رفع الأمير عبد القادر الجزائري العلم الفرنسي على داره بدمشق، وحمى الفرنسيين هو ومن معه من أبناء الجزائر، وأعاد النظام إلى المدينة فمنحه نابليون الثالث الوشاح الأكبر لجوقة الشرف، وعظم أمل الفرنسيين في الأمير حتى طلبت صحفهم إنشاء إمبراطورية شرقية تضم جميع سكان العرب في سورية ولبنان والعراق وشبه جزيرة العرب. وهذا المشروع الفرنسي لم يعقبه أي إجراء فيه. لكن الإنجليز وجسوا بسبب النفوذ الذي أصبح يومئذ للأمير الجزائري في سورية فراقبوا أعماله ومسالكه مراقبة دقيقة؛ وكان شأنهم مع أولاده أن شغل أولئك الإنجليز واجسهم منذ أصبح الأمير رمز المصلحة الفرنسية في الشرق حتى اجتهدوا، عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، في الحط من سمعة أمراء الجزائر لإبعادهم عن سورية حيث كانوا عقبة أمام السياسة الإنجليزية.

وكان من الشروط في عقد الشركة التي حفرت قناة السويس أن تملك جميع الأراضي البور التي تحييها في جانب القناة. وكانت نية ده لسبس أن يروى خمسة عشر ألف فدان من الصحراء في جانبها الغربي بمياه ترعة من النيل، وأن يستميل بدو سينا إلى سكناها؛ وقصد أن يوجد الثقة في قلوبهم بدعوته الأمير عبد القادر الجزائري، عام 1867 إلى زيارة الأعمال الجارية يومئذ في القناة وبتمليكه خمسمائة فدان في بئر بلاح جنوبي نفيشه. وقد شرع الأمير بحث البدو على التجمع حول منشات الشركة عازماً على إسكان واحد من أبنائه بينهم ليعيش معهم، ساعياً بوجاهته لإصابة الغرض. فأوجس بالمرستون خيفة من هذا المشروع الذي يلائم مصلحة الشركة ويوائم السياسة الفرنسية في آن معا: إذ رأى فيه

ص: 11

نواة دولية عربية تابعة لفرنسا قد تنشأ في برزخ السويس وقد تسد ذات يوم طريق الهند. فتفادت إنجلترا من هذا الخطر البعيد باستعانتها نخوة الخديو إسماعيل، الذي كان يشغله ما حاز الأمير عبد القادر من الشهرة المتناهية؛ فطلب الخديو من ده لسبس أن يعدل عن مشروعه. ولقد بحث الإنجليز يومئذ عن سبب يمكنهم من إيجاد طريق حربي يسلكونه إلى الهند رأسا إن أغلقت دونهم قناة السويس، وينافسها في كل وقت؛ فكان مشروعهم هو حفر قناة من حيفا إلى البحر الميت ومنه إلى العقبة.

ودام تنافس الفرنسيين والإنجليز مؤثراً في شؤون مصر، آخذاً في الضعف رويدا حتى انتهى بالاتفاق الودي عام 1904.

محمد توحيد السلحدار

ص: 12

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيى

- 17 -

ج 1 ص 181:

إذا ما الفكر ولد حسن لفظ

وأسلمه الوجود إلى العيان

ووشاه فنمنمه بيان

فصيح في المقال بلا لسان

ترى حلل البيان منشرات

تجلى بينها حلل المعاني

قلت: (تجلى بينها صور المعاني) كما روى أبو الفرج. وفي (أغانيه): (فنمنمه مسد فصيح) وأسد القول أصاب السداد، والشعر لإبراهيم بن العباس الصولي.

ج 19 ص 209: حدث أبو عبيدة ان يونس النحوي سئل عن جرير والفرزدق والأخطل أيهم اشعر؟ فقال: أجمعت العلماء على الأخطل. قال أبو عبيدة: فقلت لرجل إلى جنبه: سله: من هؤلاء العلماء؟ فسأله فقال: هم ميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي. هم طرقوا الكلام وماثوه لا كمن تحكون عنهم لا هم بديون ولا هم نحويون.

وجاء في الشرح: (ماثوه موثا) هذا كناية عن بحثهم المتواصل واستقرائهم المتتابع كمن مات الشيء بالشيء إذا خلطه بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر.

قلت: (ماشوه ميشا) في الأساس: ومن المجاز: وتقول: هم نقشوا الكلام وماشوه وطرقوه للنحارير في العربية.

في التاج: ماش القطن يميشه ميشا: زبدَه بعد الحلج. وزبُد القطن نفش وجود حتى يصلح لأن يغزل. وفي اللسان: طرق النجاة الصوف يطرقه طرقا ضربه، واسم ذلك العود الذي يضرب به المطرقة.

ليمون الأقرن وعنبسة الفيل وسائر من ذكرهم يونس بن حبيب البصري النحوي أن يقدموا ويؤخروا، ويعلوا وينزلوا (فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما (بين الفرزدق وجرير) وبين الأخطل؛ لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له مثل مالهما من فنونه) كما قال أبو الفرج في كتابه، وقد أوردت قضاءه في مقالاتي (خليل مردم بك وكتابه في الشاعر

ص: 13

الفرزدق) في (الرسالة الغراء) في سنتها السابعة، وبينت هناك ما بينت.

وهذا قول لم أروه في تلك المقالات وهو الأديب العظيم أبي بكر محمد بن يحيى الصولي في كتابه الفائق (أخبار أبي تمام): كنت عملت (أخبار الفرزدق) وبدأت (به) وفي نيتي عمل أخبار جرير والأخطل بعده، وإنما بدأت بالفرزدق لقوة أسر كلامه، وكثره معانيه، وجميل مذهبه، ولأنه يتقدم عندي الاثنين من طبقته في شعره، أعني جريراً والأخطل، ولا أعيب من يقدم عليه إذ كنا نجد أئمة من العلماء لهم فيهم أراء مختلفة، وتقديم لبعضهم على بعض، ولكنني في حيز من يقدم الفرزدق. وابتدأت في عمل أخبار جرير، فبلغني أن قوما تضمنوا عملها حلافا على وكياداً إلي، فأمسكت عن إتمامها امتحانا لصدقهم، فمات بعض وبقى آخرون، ولم تعمل حتى الساعة. . .

ج 2 ص 269:

لو دام لي في الورى وعاتقة

لما حفلت بدى قربى ولا رحم

ولا بكرت إلى حلو لنائله

ولا التفت إلى شيء من النعم

قلت: (لما حفلت) حفل يحفل (ولا بكرت إلى خلق لنائله) بكر إلى شيء - من باب قعد - أتاه بكرة أو في أي وقت كان، وبكر إلى الشيء كفرح عجل كما في التاج. وخلق اسم ومصدر كما قال سيبويه في (الكتاب) أو أصله مصدر كما في الصحاح. وخلق هنا أمثلة في قول المتنبي:

ولا تشكَّ إلى خلق فتشمته

شكوى الجريح إلى الغربان والرحم

والعاتقة في الشعر - وهو لجحظة البرمكي - هي الخمر.

والمعروف خمر عاتق وعتيقة ومعتقة وعتاق. قال حسان (رضى الله عنه):

تبلت فؤادك في المنام خريدة

تسقى الضجيع ببارد بسام

كالمسك مخلطة بماء سحابة

أو عاتق كدم الذبيح مدام

ج 9 ص 178: فكم أهل هدته - نصر الله عزائمها - بعد الضلال، وحر استنقذته من حبائل الأقلال، ومرهق خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريد بوأته من حرمها أمنع المعاقل.

منازل عز لو يحل ابن مزنة

بها لسلا عماله من منازل وجاء في الشرح: ابن مزنة

ص: 14

المطر. قلت: (فكم تائه أو حائر أو ضال أو ضليل أو مضلل هدته بعد الضلال)؛ وابن مزنة هو الهلال.

في الصحاح: ويقال للهلال: ابن مزنة قال:

كأن ابن مزنتها جانحا

فسيط لدى الأفق من خنصر

وقيل للهلال لبن مزنة لأنه يخرج من خلال السحاب، حكى ذلك عن ثعلب كما في التاج. ونسب البيت في اللسان والتاج إلى عمرو بن قميئة. والفسيط هو القلامة، في الأساس: ما لفلان مقدار فسيط، وأنشد يعقوب: كأن ابن مزنتها البيت.

ج 15 ص 207: لأبي علي المنطقي:

في البرق لي شاغل عن لمعة البرق

بدا وكان متى ما يبد لي يشق

منفرا سرب نومي عن مراتعه

كأنما اشتق معناه من الأرق

أخو ثنايا التي بالقلب مذ ظعنت

أضعاف ما بوشاحيها من القلق

ما كان يسرق من حرز الجفون كرى

لو انه من لماها غير مسترق

وجاء في الشرح: البرق الأول مكان والثاني برق السحاب.

قلت: (في البرق لي شاغل عن لمعة البُرَق)(لو أنه من لماها غير مسترق) والبرق الأول هو البرق المعروف واللفظة الثانية هي جمع برقة.

في اللسان: اللمعة الموضع الذي يكثر فيه الحلي، ولا يقال لها لمعة حتى تبيض، وقيل: لا تكون اللمعة إلا من الطريفة والصليان إذا يبسا، تقول العرب: وقعنا في لمعة من نصي وصليان أي في بقعة منها ذات وضح لما نبت فيها من النصي وتجمع لُمعا.

والبرقة (وجمعها برق) ذات حجارة وتراب، وحجارتها الغالب عليها البياض، وفيها حجارة حمر وسود، والتراب ابيض وأعفر وهو يبرق لك بلون حجارتها وترابها، وإنما برقها اختلاف ألوانها وتبت أسنادها وظهورها البقل والشجر نباتاً كثيرا، يكون إلى جنبها الروض أحياناً.

ومما رواه أبو الفرج في هذا البرق السائق قول أبي قطيفة:

إذا يرقت نحو الحجاز سحابة

دعا الشوق منى برقها المتيامن

وقول ابن ميادة:

ص: 15

أرقت لبرق لا يفتر لامعه

بشهب الربى والليل قد نام هاجعه

أرقت له من بعد ما نام صحبتي

وأعجبني إيماضه وتتابعه

وقول إبراهيم بن اليزيدي:

ماذا بقلبي من اليم الخفق

إذا رأيت لمعان البرق

من قبل الأردنَّ أو دمشق

لأن من أهوى بذاك الأفق

وروت هذين البيتين (نهاية الأرب).

ج 2 ص 73: وقال (الصابي) في غلام له اسمه رشد اسود:

قد قال رشد وهو اسود للذي

ببياضه يعلو علو الحائن

ما فخر خدك بالبياض وهل ترى

أن قد أفدت به مزيد محاسن

ولو أن منى فيه خالا زانه

ولو أن منه في خالا شانني

وجاء في الشرح: ويروى باليتيمة استعلى علو مباين.

قلت: (بياضه استعلى علو الخاتن) في المقامة الثامنة والثلاثين المروية للحريري: قال فقربه الوالي لبيانه الفاتن، حتى احله مقعد الخاتن.

في (نهاية الأرب): قال بشار وأجاد:

يكون الخال في خدنقي

فيكسبه الملاحة والجمالا

ويونقه لأعين مبصريه

فكيف إذا رأيت اللون خالا

في (الوفيات) هذا الخبر البارع في السواد:

قال إبراهيم بن المهدي: قال لي المأمون وقد دخلت عليه بعد العفو عني: أنت الخليفة الأسود؟ فقلت يا أمير المؤمنين، أنا الذي مننت عليه بالعفو، وقد قال عبد الحسحاس:

إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما

أو أسود الخلق إني ابيض الخلق

فقال لي: يا عم، أخرجك الهزل إلى الجلد، وأنشد يقول:

ليس يزري السواد بالرجل الشهم (م)

ولا بالفتى الأديب الأريب

إن يكن للسواد فيك نصيب

فبياض الأخلاق منك نصيبي!

قلت: - ولا قول إلا الحق -: إن السواد عند الله وعند الطبيعة والحقيقة هو كالبياض، والبياض لد السواد، والأحمر أخو الأصفر، والبيئة - يا أخا العرب - هي التي قد لونت،

ص: 16

وهي التي قد شكلت ونوعت، وصورت ما صورت؛ فلا يروق ذو لون على ذي لون، وليس في الدنيا عبد وحر، ولن يشين المرء لونه - يا أيها الغربي - لكنه يشينه تلونه. . .

في (أساس البلاغة) لجار الله: ورجل متلون: مختلف الأخلاق.

ج 7 ص 151: أبو محمد القاسم بن احمد الأندلسي قال:

وجدت في مسائل نحوية تنسب إلى ابن جنى: لم أسمع لأبي علي (الفارسي) شعراً قط إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، أبو علي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فان خاطري لا يواتيني على قوله مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط منه شيئاً البتة؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:

خضبت الشيب لما كان عيباً

وخضب الشيب أولى أن يعاب

ولم أخضب مخافة هجر خل

ولا عيباً خشيت ولا عتابا

ولكن الشيب بدا ذميم

فصيرت الخصاب له عقاب

فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال، لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها.

وجاء في الشرح: كانت (المفاوهة) في الأصل (المفاوضة) قلت: الأصل صحيح، ومفاوضة العلماء محادثتهم ومذكراتهم، والمفاوهة: المقاولة والمناطقة، فهي تحكى المحادثة والمذاكرة.

وقد ضبطت (البتة) في هذا الخبر وفي مواضع أخر في الكتاب بهمزة مقطوعة أو بألف القطع، وقد وجدتها في البخاري والكامل وكتاب سيبويه والصحاح وغير ذلك بألف الوصل، ولم أعثر على نص للأئمة القدماء فيها، فمن وجده تقرب إلى العلم بنشره في (الرسالة) مشكوراً. وهذا ما قاله التاج:

(ولا افعله البتة) بقطع الهمزة كما في نسختنا، وضبط الصحاح بوصلها، ونقل شيخنا عن الدمامينى في شرح التسهيل: زعم في اللباب انه سمع في البتة قطع الهمزة، وقال شارحه في العباب: إنه المسموع. قال البدر: ولا أعرف ذلك من جهة غيرهما، وبالغ في رده وتعقبه، وتصدى لذلك أيضاً عبد الملك العصامي في حاشيته على شرح القطر للمصنف.

قال ابن خلكان: كنت مرة رأيت في المنام سنة (648) وأنا يومئذ بمدينة القاهرة كأنني قد خرجت إلى قليوت، ودخلت إلى مشهد بها فوجد له شعثاً، وهو عمارة قديمة، ورأيت به

ص: 17

ثلاثة أشخاص مقيمين مجاورين، فسألتهم عن المشهد وأنا متعجب لحسن بنائه وإتقان تشييده: ترى هذه عمارة من؟ فقالوا: لا نعلم ثم قال أحدهم: إن الشيخ أبا علي الفارسي جاور في هذا المشهد سنين عديدة، وتفاوضنا في حديثه، فقال: وله مع فضائله شعر حسن، فقلت له: ما وقفت له على شعر، فقال: وأنا أنشدك من شعره، ثم أنشدني بصوت رقيق إلى غاية ثلاث أبيات، واستيقظت في اثر الإنشاد، ولذة صوته في سمعي، وعلق على خاطري منها البيت الأخير وهو:

الناس في الخير لا يرضون عن أحد

فكيف ظنك سيموا الشر أو ساموا

ج 18 ص 286: قال (الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب):

لقاء الناس ليس يفيد شيئاً

سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلا

لأخذ العلم أو إصلاح حال

قلت: (من قيل وقال)(أو إصلاح حال)

ج 19 ص 202:

كأن القلب ليلة قيل يغذى

بليلى العامرية أو يراحُ

قطاة غرها شرك فباتت

تجاذبه وقد علق الجناح

قلت: (غرها شرك) كما روى الكامل والحماسة والأغاني وفس التبريزي. وقد نسب الشعر في الإرشاد والحماسة إلى نصيب بن رياح. وقال صاحب الكامل: أحسبه توبة، وقال أبو الحسن الأخفش: يقال: إنه لمجنون بنى عامر وهو الصواب، وعزى في الأغاني في موضعين إلى (المجنون) فضاع - والحالة هذه - قائله.

مما قيل في (مجنون ليلى) في (الأغاني):

عن المدائن عن ابن دأب قال: قلت لرجل من بنى عامر: أتعرف المجنون وتروى من شعره شيئاً؟ قال: أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير، فقلت ليس هؤلاء أعني، إنما أعني المجنون بنى عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات، بنو عامر أغلط أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها، فأما نزار فلا.

عن أيوب بن عباية أن فتى من بنى مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر،

ص: 18

وبنسبة إلى المجنون، وإنه عمل له أخباراً، وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.

ص: 19

‌من محاسن التشريع الإسلامي

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

- 4 -

حرصه على الأخلاق والفضائل

من خصائص الشريعة الإسلامية التي امتازت بها على الشرائع الوضعية كلها أنها قامت على الأخلاق المرضية، والفضائل المرعية، وخشية الله، ومحاسبة الوجدان والضمير، في كل ما يصدر عن الإنسان، ألا ترى إلى قوله تعالى:(ولا يجر منكم شنآن قوم على إلا تعدلوا، اعدلوا، هو أقرب للتقوى)، وقال صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق عليه:(إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، ويجتهد عمر رضى الله عنه في إبعاد الناس عما يغرس الأحقاد والإحن في النفوس، فيقول:(ردوّا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن)، ويشدد الرسول صلى الله عليه وسلم في النكير على من يخادع المسلمين ويغشهم، فيقول:(من غشّنا فليس منا) كما يقول صلوات الله عليه (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه، لا يبايعه إلا لدينا، فإن أعطاه منها رضى، وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه الرجل - ثم قرأ - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).

ولست قوانين أفلاطون، ولا الشرائع الرومانية، ولا القوانين الغربية الحديثة بمستطيعة أن تجاري الشريعة الإسلامية في هذا السمو الخلقي الذي بنيت عليه جميع التصرفات والمعاملات، وما يصدر عن الإنسان من قول أو عمل.

- 5 -

اقتصار تشريعه التفصيلي على الأمور الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور، أما

ص: 20

الحوادث الجزئية، والأحكام الفرعية التي تختلف باختلاف الأحوال والأمم فإنه لم يتناولها إلا بقواعد كلية، ومقاصد عامة، ليترك الباب مفتوحاً لأهل الاجتهاد من كل أمة، وفي أي عصر، ليستنبطوا من الأحكام ما يحقق مصالح العباد، ويتفق مع حاجاتهم.

لذلك كان من خصائص هذه الشريعة التي امتازت بها على سائر الشرائع أنها قائمة على دعامة الاجتهاد، من لدن أول مجتهد في الإسلام، وأعظم مشرع، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى مجتهدي الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء المجتهدين في كل عصر.

هذا الاجتهاد - فيما لا نص فيه - هو الذي يكفل تجددها على مدى الأيام، ومسايرتها لتطورات الأمم والشعوب، ويضمن قدرتها على وضع الأحكام لما يجد من الأحداث والوقائع، وضروب المعاملات، بل هو سر خلودها، ودوامها وبقائها على وجه الدهر، صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك يدع ولا يعجب، فإن أحكام الشريعة معللة، لها أسرار وحكم ومنافع، والنصوص المعقولة المعنى.

وقد تضافرت الأدلة الشرعية، والنصوص الدينية على أن الإسلام شرع الاجتهاد ودعا إليه في وضع الأحكام في وضع الأحكام عنده عدم وجود النص، فمن ذلك.

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر معاذ بن جبل على اجتهاده برأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله، فإنه عليه الصلاة والسلام، لما بعثه إلى اليمن - قال له:(كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بما في كتاب الله، قال فإن لم يكن في كتاب الله، قال فبسنة رسول الله، قال فإن لم يكن في سنة رسول الله، قال أجتهد رأيي لا آلو)، قال معاذ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله).

2 -

ما ثبت من أقوال بعض الصحافة من إقرار الاجتهاد بالرأي والقياس، فمن ذلك ما جاء في رسالة عمر بن الخطاب في القضاء إلى أبى موسى الأشعري (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك القضاء مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله، وأشبهها بالحق).

3 -

ما ثبت من أن كثيراً من الصحافة كانوا يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض

ص: 21

الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، ويرون استعمال الرأي عند عدم وجود النص، ولعل عمر كان أظهرهم وأجرئهم في هذا الباب، متى بان له وجه الحق فيه، فمن ذلك أنه رفعت إليه قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر، هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له علي أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضواً، وهذا عضواً، أكنت قاطعهم؟ قال نعم، قال فكذاك، فعمل عمر برأيه، وكتب إلى عامله أن اقتلهما، وروي عن عمر أيضاً انه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، وأوقع الطلاق ثلاث بلفظ واحد ثلاثاً، وقال إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه.

كذلك ثبت اجتهاد بعض الصحابة في حياة الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - في كثير من الأحكام، فلم ينههم ولم يعنفهم، فقد أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بنى قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون، وأخروها حتى وصلوا إلى قريظة، فصلوها ليلا، فنظروا إلى حرفية النص، واجتهد سعد بن معاذ في بنى قريظة، وحكم فيها باجتهاد، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).

هذا هو حكم الاجتهاد في شريعة الإسلام، وهذا هدى السلف الصالح فيه، أفما آن لنا نعد العدة، ونأخذ الأهبة، لنحيي هذه السنة، ونقتفي أثر السالفين من علمائنا المجتهدين؟!

(يتبع)

حسن أحمد الخطيب

ص: 22

‌من خواطر جحا:

معلم النباح

على هامش وعد بلفور

للأستاذ كامل كيلاني

(مهداة إلى الذين علموا أصحاب المبكي، فنون النباح، فراحوا

يخلطون العواء بالنواح. وكانوا أول من تنكر لناصره

ومؤيده، ونبح في وجه معلمه ومرشده.)

ننقل القصة التالية عن المقدمة النفسية التي افتتح بها (أبو الغصن جحا) خواطره التي أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحية) وقد ضمها مخطوط حجري نفيس، لعله مكتوب بخط رجل من أصحاب جحا أو بخط أحد معاصريه، وما أجدر أن يعتبر بهذه القصة من يرسمون لغيرهم طرائق الاعتداء ومناهج الجور، ويطول هتافهم وتصفيقهم لها، وإطراقهم وإعجابهم بها، متى وافقت أهدافهم، وأعانتهم على قضاء لباناتهم، حتى إذا عارضت أهواءهم، واصطدمت بأنانيتهم، ضاقوا بتلك الطرائق ذرعاً ولاقوا من هذه المناهج أشد الويلات.

قال أبو الغصن عبد الله دجين بن ثابت الملقب بجحا رحمة الله: قاتل الله الأثرة والأنانية - يا ولديَّ العزيزين - فإنهما تضلان الذكي، وتلغيان عقله الراجح، وتفسدان عليه منطقة السديد، فلا يلبث أن يعميه الهوى، وبنسبة الغرض ما هو خليق به من القصد والاتزان! وما أخلق الرجل العاقل بأن يعرف أن اكثر ما يشير يه من الرأي إنما هو سلاح ذو حدين: أحدهما له والآخر عليه. ولا يجوز لمنصف بعد أن يتخير الرأي ويرتضيه أن يقبل منه ما هو له ويأبى منه ما هو عليه. وما أولاه أن يروض نفسه على احتمال عواقب مشورته، فلا يوجه إلى غيره بعد أن يسر له سبيل الشر والأذية.

أقول هذا لكما بعد أن قص على بعض جيراني في هذا الصباح قصته شاكياً باكياً مرارته تتميز من الغيظ، وهو يلعن أنانية صاحبه، بعد أن رسم له طريقها، ونهج له خطتها، وزين

ص: 23

تطبيقها وتحقيقها.

وفد عليَّ صاحبي (أبو عامر) عابس الوجه متجهماً فسألته: (ما خطبه)

فقال: (أتذكر صاحبنا يا إسحاق؟)

قلت: أتعني (رأس الوزة؟)

قال: (ما عنيت غيره، يا أبا الغصن!)

قلت: (فليس في بلدنا أحد يجهله أو يجهل ما نزل به من كوارث وأحداث! لطف الله يا أبا عامر! لقد سمعت انه اختلط)

فقال: (هذا كلام يذاع ويملأ الأسماع، وإن بعد عن الحقيقة كله، إن رأس الوزة لم يختلط؛ ولكنه رأى في جنونه مهربا له من ديونه، فلاذ به، وتشبث بأذياله؛ ولم تلبث حيلته أن جازت على كل من رآه. وليس هذا بمستكثر على مثله، فهو آية من آيات الخداع والغدر والعقوق!).

قلت: (ما علمت عليه من سوء! فماذا بدر منه حتى ساء رأيك فيه، وقسا حكمك عليه؟).

قال: (لقد أرهقته ديونه، وألح عليه دائنوه، فلم يجد له وسيلة غير الاختباء في منزله ليهرب من الحاف غرمائه، وينجو من مضايقة دائنيه).

وكنت قد سلفته - فيمن سلفه - دينا يسيرا.

ورأيت إمعانه في الاحتجاب، فما زلت أحتال عليه، حتى وصلت إليه.

ولم يكد يراني حتى تجهم محياه، وظهرت الحيرة والارتباك على سيماه، فهونت عليه الأمر، وما زلت به حتى سكن روعه، وسرى عنه.

وما عتم أن راجعه أنسه وبشاشته حين عرضت عليه وسيلة للخلاص من دينه ودائنيه والفكاك من أسره، على أن يرد لي - إذا نجحت الخطة - ما أسلفته إليه من دين.

فهلل بشراً وقال: (لك على عهد وميثاق إن أظفرتني بذلك لأردنّ إليك ضعف دينك، ثم لا أنسين لك صنيعك ما حييت).

فقلت له: (افتح دارك - غداً أو بعد غدٍ، إن شئت - والبس أفخر ثيابك - وهيئ في ساحة الدار أفخر مجلس تستطيع أن تهيئه لاستقبال عارفيك - دائنين وغير دائنين - ثم اجلس متكئاً على أريكة تعدها في صدر مجلسك. وتظاهر بالجد والوقار.

ص: 24

فإذا مر بك أحد فلا تلتفت إليه ولا تلق له بالا. فإذا حياك فلا تجب تحيته بغير النباح. فإذا أظهر لك دهشته فانبح ثانية وثالثة، فإذا تمادى في الالحاح، تماديت في النباح.

ثم اتخذ من النباح شعاراً لك بعد ذلك، فلا يجب بغيره كل من حياك، ولو كان أخلص عارفيك وأصدق محبيك وأقرب المقربين إليك من ولدك وأهلك. انبح ولا تكف عن النباح، واعو ولا تقصر في العواء، حتى يضجروا بك فيرفعوا أمرك إلى والي المدينة.

فإذا مثلت بين يديه فاعتصم بالصمت، فإذا سألك عن جلية أمرك لم تُحر من جواب إلا تملأ أذنيه عواء. وحذار أن تغير من ذلك شيئاً أو تبدله حتى يقر في نفس الوالي أنك - فيما تأتيه - غير متصنع ولا متكلف.

فإذا اقتنع أن طائفاً من الجنون قد ألم بك، لم يجد فائدة من حوارك، فيدفعه اليأس منك إلى إطلاق سراحك، ورد حريتك إليك، وإعفائك مما عليك من دين!

أتعرف يا أبا الغصن كيف استقبل (رأس الوزة) هذه النصيحة الغالية؟ لقد فاضت نفسه - حين سمعها - عرفاناً بالجميل. ولهج لسانه بأبلغ عبارات الثناء والشكر على ما يسر له من أسباب النجاة من ورطته، والخلاص من كربته. فلما جاء الغد نفذ الخطة وفق ما رسمها له في براعة وحذق!

قدم عليه زائر من جيرانه، فلم يكد يراه جالساً حتى أقراء السلام، فكان رده عليه نباحاً. وأقبل ثان وثالث ورابع، فلم يلقوا منه غير ما لقيه أول القادمين عليه.

ولم يمض زمن يسير حتى ذاعت قصته في المدينة، فأقبل عليه دائنوه يتقاضوه ديونه، فلم يلقوا إلا عاوياً. وراحوا يعنفون به تارة، ويلينون له تارة أخرى، ثم يسرفون في وعيدهم حيناً، وفي تلطفهم أحياناً، فلم تجد في رده عن عوائه حيله ولا وسيلة.

فلما يئسوا منه، ذهبوا به إلى الوالي، فسأله عن قصته، فنبحه. فزجره وتوعده، فوجده يسترسل في النباح. وما زال بالوالي حتى اضجره؛ فأمر بزجه في السجن، ووكل به من يراقبه عدة أيام ليخبر أمره، ويجلو سره، فلم يظفر منه مراقبوه بشيء غير ما تواصل من نباحه.

فأمر الوالي بإطلاق سراحه بعد أن ثبت له بعض العيون والأرصاد يكمنون في غدواته وروحاته، ليروا ما يصير إليه شأنه.

ص: 25

فظلوا يتبعون ظله أياماً، فلم يتحول عن حاله فتيلا. فأيقن الوالي حينئذ انه لا بد قد أصابه لمَمٌ، وأدركه من الخبال طرف.

فلم ير له حيلة فيه، فقضى بإسقاط ديونه، وأمر دائنيه بالإقلاع عن مطالبته بما لهم قبلهُ من الحقوق.

وهكذا خلص (رأس الوزة) مما ركبه من دين. وتبدل خوفه أمناً، وفزعه طمأنينة، وأصبح يغدو ويروح حيث شاء، دون أن يزعجه دائن أو ينغص عليه صفو عيشه غريم

أتعرف كيف جزائي على هذا الصنيع يا أبا الغصن؟

فقلت له مبتسماً ساخراً وقد امتلأت نفسي زراية له ونفوراً منه: (لا شك عندي في انه سار على النهج القديم الذي رسمته له في اغتيال حقوق الناس، فنبح في وجهك كما نبح في وجوه دائنيه، ثم في وجه واليه).

قال: (أبو عامر)

ما أبدع ذكاءك وأنفذ فطنتك يا أبا الغصن: لقد جئته بعد أن هدأ باله وقر قراره أذكر عهده، واستنجزه وعده، فما زاد على النباح. فدهشت من جرأته، وتملكتني الحيرة من صفاقته.

وقلت له: (لك أن تمثل هذا الدور مع كل إنسان إلا معي، وأنا واضع خطته، ومُبدع قصته. فتكلم ويحك!).

فأبى إلا عواء يتلو عواء، وكلما تماديت في محادثة تمادى في عوائه، حتى نفذت حيلتي، ودب اليأس إلى قلبي، فغادرته محزون القلب مهيض الجناح.

ورجعت إلى داري أفكر فيما انطوت عليه نفوس الناس من غدر ولؤم وفساد، بعد أن رأيت من صاحبي ما لم يكن ليخطر على بال، من فنون العقوق، وسلب الحقوق.

ولكن خبرني بربك - يا أبا الغصن - كيف تبينت خاتمة القصة قبل أن أفضي بها إليك؟).

فقلت له: (إن عجبي منك - لا منه - شديد. فليس عليه - فيما صنع - غبار: لقد رسمت له الطريقة واضحة جلية، فسلكها مهتدياً بهديك، فما تنكبها ولا حاد عنها. فمن تلوم؟ ومم تشكو؟ ألم تعلمه كيف تغتال حقوق الناس؟ وهل أنت إلا واحد من الناس؟ فكيف تريده على ألا يغتال حقك فيما يغتال؟ ما أجدرك - يا صاحبي - أن تشكر لهذا الرجل أمانته في الانتصار لرأيك، والتحمس لخطتك، والانتفاع بتدبيرك ومشورتك. لقد لقنته درساً في الأثرة

ص: 26

والأنانية فحفظه عنك ولم ينسه لك.

وسننت له سنة من سنين العقوق والغدر، فاقتفى آثارك، وارتضى سيرتك. ولو حسنت لو الوفاء، ورسمت له طريقه لوفي لك دينك فيما وفي الناس.

ثم خبرني بربك - يا أبا عامر - أتراك كنت شاكياً غدره وتفريطه في رد الأمانات إلى أهلها لو انه وفَي لك دينك وحدك، ثم اغتال ديون غيرك؟

أرأيت - يا صاحبي - لو سمعت أن رجلاً هدى الذئب إلى طريق الغنم بعد أن أخذ عليه شاه من عهود ومواثيق أن يعفي شاته من بينها جميعاً، أتراه كان فاعلاً؟

لقد علمته العواء فعوى، وأرشدته إلى طريق الغواية فغوى!؟

واستباح من الحقوق ما استباح، بفضل ما علمته من فنون العواء والنباح.

وليس هذا أول من نبح، فكسب بنباحه وربح. وكم من الناس آثروا أن يبلغوا أهدافهم بالهراء، ويتسنموا المجد بقولٍ جفاء. فتصنعوا الجنون ليصبحوا أعزة، بعد أن أعوزهم أن يظفروا في ظلال العقل بالكرامة والعزة، كما فعل صاحبك (رأس الوزة).

فلترض يا صاحبي بهذا الجزاء العادل، فما ظلم (رأس الوزة) ولا غبن، ولكنك ظلمت نفسك بتلك المشورة فيمن ظلمت الناس، فلا تجزعن من سنة سننتها، وخطة نهجتها، ولك أسوة سيئة في شبيهك الذي وصفه الشاعر حين قال:

وكنت إماما للعشيرة، تنتهي

إليك، إذا ضاقت - بأمر - صدورها

فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها،

فأول راض سنة من يسيرها

عبد الله جحا

وفق الأصل

كامل كيلاني

ص: 27

‌هند والمغيرة

للأستاذ علي الطنطاوي

في عشية (من عشايا سنة 41 للهجرة) ساكتة لا يسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على (الحيرة) إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق، عجوزاً طاعنة قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة: كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم، واستراحت من الحزن، تطوى أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها. إنها لا تعيش في دنيا الناس ولا يعيشون دنياها إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي افتقدته من زمان، عالم الحيرة وعديّ بن زيد والنعمان، العالم الذي احتوى مسراتها وأحزانها وروحها، فلما مر حمل ذلك كله معه فعاشت من بعده بلا حب ولا مسرات ولا أحزان ولا روح، إلا هذه الذكريات التي تنقر كل يوم نقرة في قلبها، فلو كان حجراً صلداً لتفتت فكيف وهو من لحم ودم؟

لقد بنت هذا الدير وتوارت وراء جدرانه، وعاشت منه في منطقة الحرام بين الحياتين، فلا هي بحياة الناس الدنيا، فيها متعها وملاهيها ومشاغلها، ولا هي بالحياة الأخرى، منطقة وراء الحياة ودون الموت، هي معيشة الدير. وزادها ضيقاً وجموداً أنها في الدير وحدها، بنته لتأوي إليه تناجي فيه ذكريات حبيبها الذي فجعت به، وعافت لأجله الأرض برحبها وسعتها، وصبرت على هذا السجن الدهر الأطول، لا تدري مما وراء بابه إلا طرفاً مما يحمله إليها رجال القوافل الذين كانوا يمرون بها، وكان أقصى ما تصنعه إذا هي نشطت يوماً، وأحبت أن تفارق منسكها، أن تسلك هذا الطريق الذي طالما مر عليها فاتحون ومنهزمون، وسارت فيه الحضارة مصعدة وهابطة، ومشى فيه ملوك وسوقة، وسوقة وملوك، ذهبوا جميعاً إلى حيث لا يؤوب ذاهب، حتى تتعب من المسير، فتجلس على

ص: 28

رابية، وتشرف على البلد الحبيب: الحيرة، التي كانت يوماً موطن هواها، وكان فيها الإنسان الذي أعطته قلبها وأعطاها متعة العمر، فترى الحيرة لا تزال ترفل في حلل الخزامي والأقحوان، ولا تزال قصورها البيض تخطر تياهة بين البساتين، ولا يزال نسيمها معطراً بأنفاس المحبين، تطفو على وجهه وسوسات القبل وهمات الغرام. ولكنها لم تكن تحيا فيها، كانت تفكر في ماضيها، وما اصعب أن تعيش المرء في الماضي، ثم تذكر أنه لم يبق أحد من ناس بلدها الحبيب، لقد ذهبوا، ولا تدري أين ذهبوا، ولمَ بقيت هي وحدها من بعدهم؛ وجاء هؤلاء، ولا تدري من أين جاءوا، حتى تغرب الشمس وراء الأفق البعيد، وتمشى الظلمة إلى الكون، فتعود وفي قلبها ظلمة أخرى، ولكنها لا تأمل أن يكر عليها فجر يوم جديد. لقد خلقت ضياء الفجر في طريق العمر فلا تملك أن تعود إليه. لقد كتب عليها أن تعيش في ليل دائم وصمت سرمدي هو صمت هذه الصحراء التي آوت إليها، وآثرت سكناها، الصحراء التي وسع صدرها أسرار الزمان ثم أغلق عليه إلى الأبد. كم بين ترابها ورملها، كم تحت روابيها وقورها، من بقايا قلوب كانت محبة وكانت محبوبة، وأجسام كان فيها فتنة وجمال! وما اقرب ما يصير قلبها هي (أيضاً) تراباً فيها تطؤه أقدام لا تعرف أصحابها. . . فما الحب، وما الجمال، وما الدنيا؟ إنها زوال في زوال.

وقامت العجوز تجر برجلها إلى الدير لتبدأ ليلة مملة كآلاف الليالي التي مرت بها من قبل، ليالي لا آخر لها، ولا أمل يسطع من خلالها. إن السجين يأمل بالعفو ويرجو الحرية، ويتسلى بحديث الرفاق، ويأنس بأحداث السجن، وهي لا ترجو شيئاً ولا تأنس بأحد، ولا تتسلى بحادث. ولطالما أمضت ليالي قصيرة حلوة، تلك هي ليالي الحب والوصال، ليالي زوجها عدي فتى الفتيان، وأبيها النعمان. إنها كلما فكرت فيها رأتها دانية منها، قريبة كأنها لم يطله لها صبح، فأين يا تبصر مكانها من الوجود أفنيت وعادت عدماً؟ لا، إن الفناء لا يقوى عليها في الكون كوجودها في ذاكرتها. إن الفناء لا يدرك حقيقتها كما أن النسيان لا يقوى على محو صورها. إنها لا تشبع من الإيغال في هذا الماضي، لأنها كلما أوغلت فيه وجدت لها طرق ظليلة لا عهد لها بها، قد أزهر فيها المجد وبدا السنا، ورجُاً على كل رابية فراش غرام مرشوش بالعطر والشعر، ووجوه أحبةٍ كانت تعيش بهم ولهم. . .

ولطالما احتوت (من محبتها هذا الماضي) حاضرها فخامرتها فكرة الموت، فمشت تقصد

ص: 29

النهر حتى إذا أدنتها خطاها الواهنة من مائه، ورأتها تلمع كالمرآة، أشفقت من الموت وهابته وارتدت عنه للمرة الخامسة بعد الألف. إنها لا تريد أن تموت، ولا تزال متعلقة بالحياة قد أقفرت من المجد والحب.

ولما دلفت إلى مخدعها في الدير سمعت ضجة، قالوا لها، إنه أمير المغيرة بن شعبة يستأذن عليك. الأمير؟ ما لها وللأمير؟ ما شانه بها؟ ما يبتغي لديها؟ أما تركت له ولقومه ملك أبيها فلم لا يترك لها ديرها؟ وفكرت. . . ثم أذنت له فدخل عليها فبسطت له مسحاً، وسألته: ما جاء بك؟ قال: جئت خاطباً؟

خاطباً؟ إنها كلمة لم تسمعها من عمر طويل، فلما طرقت سمعها هزت وتراً في قلبها كان قد صدئ، ونسيت ضيفها وقفزت إلى الماضي فغلبت عن حاضرها، وغرقت في ذهلة عميقة امتدت أبداً، والمغيرة يرقب جوابها ولكنه كان أكَيَس من أن يفسد عليها أحلامها، فانتظر صابراً. . .

تخيلت أنها قد عادت فجأة تلك الفتاة التي كانت فتنة القلب والنظر، وكانت مطمح الأنفس والفكر قد جمع الله لها المجد كله والجمال كله، فهي عروس الزمان بهاء وحسناً، وهي بنت النعمان أعز عربي عزاً، وأمجده مجداً، وإنها قد عادت أيام الحيرة، ورجع الفصح والشعانين، فخرجت إلى البيعة تتقرب فيها، فلما احتوتها البيعة، وأمنت الأنظار، وألقت عنها خمارها، وأخرجت هذه اللؤلؤة من صدفتها، وأبدت ذلك الجسم الذي كانت تتقطع على الوصول إليه قلوب الرجال، ولم تدر أن الزمان أراد أن يؤلف قصة حب تتلى بعد أربعة عشر قرناً، فجأة بعدي بن زبد الشاعر الجميل ليتخلص النظر إليها، ويقع في قلبه هواها، فلما رأته استنرت منه وسبت جواريها، وظنت أن القصة ختمت قبل أن تفتتح، لم تدر أنها قد سطرت منها الأسطر الأولى (لتكون سفر سعادتها العاجلة وشقائها الطويل) يدا (مارية) الجميلة الخبيثة. . .

لقد كانت مارية تحب عديا، ولا تجد إلى الوصول إليه سبيلاً. إلا أن تأتي بهند لتحلها مكان المحبوبة من قلبه، ترضي بذلك حبها ونفسها، وقد يفنى المحب في الحبيب، فيبنى مسرته على أساس من شقاء نفسه، ومشت بين عدي وهند تدير خيط الحب من حولهما، حتى غدا سبباً قوياً، وجامعة لا تنقطع. لقد صبرت حتى مضى حول كامل على يوم الشعانين ونسيته

ص: 30

هند، فواعدت مارية عديا بيعة ثوما، وأغرت هندا بزيارتها، فاستأذنت أمها فأذنت لها وهناك عرفت هناك عرفت هند ما الغرام، وذاقت غصصه. . .

يا ويل مارية! لقد جعلت هنداً مهراً لها لزواج الليلة لقد تعرضت لعدي غداة يوم ثوما فهش لها وبش - وقد كان لا يكلمها - وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة! قال: اذكريها فوالله لا تسأليني إلا أعطيتك إياه.

قالت: أريد. . . وسكتت، وأدركها الخجل، ونطقت عيناها وفهم عنها، فأخذ بيدها إلى حانوت خمار في الحيرة. . . وكافأته بأن وعدته أن تحتال له في هند. . .

وتتالت الصور على قلب هند، فذكرت ليالي زواجها بعدي، فكانت لقوة الذكرى تحس على لسانها حلاوة تلك القبل، وتجد على عنقها لذة ذلك العناق، وعاد قلبها شابا؛ على أن قلب المرأة والمشاعر لا يفارقهما الشباب أبداً. ومدت يدها إلى المغيرة، تحسب أنه لما طغى عليها من الخيال، عدي الحبيب، فلما أحس بها أجفل منها وانتفض، فتهاوى الحلم وتهافت، وهبطت المسكينة إلى أرض الحقيقة الصلدة، فإذا هي لم تفارق أرضها ولم تطر في سماء الأماني وإذا هي تتحسس وجهها فتلقاه ذابلاً ذاوياً ذا غضون. ولا تلقي على لسانها من قبل الحبيب إلا مرارة الفقد، ولا تجد في قلبها إلا ذكرى الفاجعة التي تركت لأجلها دنياها وبنت ديرها فحسبت فيه نفسها، فماذا يريد منها هذا الرجل الذي اقتحم عليها معتزلها في هذه العشية الساكتة، أجاء يخطب عجوزاً قد بقيت وحدها إرثا من الدنيا التي فنيت واضمحلت: دنيا النعمان وكسرى، للدنيا التي يظهر أنها لن تضمحل أبداً: دنيا محمد؟ أيريد أن يتزوج ميتة تمشي؟ لا. بل هو يريد ابنة النعمان، ونسيت تطوافها الأليم بمرابع ماضيها، وغاب عنها الحبيب الذي كان يتراءى لها من وراء حجب الزمان - وأدركها ارثها الماجد من حزم النعمان - فقالت للمغيرة:

(لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم، ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته، فبحق معبودك هذا أردت)؟

قال: (أي والله) قالت: (لا سبيل إليه).

وخرج المغيرة؛ وعادت العجوز إلى مكابدة الذكريات وحيدة في لياليها الطوال. . . وعرض عنها التاريخ لا يلتف إليها فيواسيها؛ لأنه لم يتعود الوقوف إلا على أبواب

ص: 31

الملوك؛ وفي ساحات الحروب!

علي الطنطاوي

ص: 32

‌توماسو كمبانلا

لألفرد فيبر

للأستاذ عبد الكريم الناصري

إنا نصيب في بحوث توماسو كمبانلا - وهو كبرونو دومنيكي من جنوبي إيطاليا - ملامح من مقالات الإنجليز والألمان في العقل الإنساني، أعنى من النقد الحديث، ولد هذا البطل الجريء من أبطال إصلاح الفلسفي والحرية الإيطالية بمقربة من (ستيلو) من أعمال كالبريا، سنة 1568، وتوفي في باريس، سنة 1639، بعد أن أنفق سبعة وعشرين عاماً في غياهب السجن بنابُلي، بتهمة التآمر على الحكم الأسباني.

وكمبانلا تلميذ من تلامذة الشكاك اليونان. وقد علمته هذه المدرسة أن الميتافيزيقا تقوم على الرمل إن لم تُبنَ على أساس نظرية في المعرفة. ومن ثم تبحث فلسفته أول ما تبحث في المسألة الصورية.

تنشأ معرفتنا من مصدرين: التجربة الحسية، والاستبدال العقلي؛ فهي إما (تجربية) وإما (نظرية).

هل المعرفة المحصلة بالإحساس يقينية؟

يرى أغلب القدماء أن شهادة الحواس يجب أن تغفل، ويلخص الشكاك شكوكهم في الحجة التالية: ليس الموضوع الذي تدركه الحواس إلا تكفيناً في الذات، وإن الواقعات التي تحصل - فيما تخبرنا الحواس - خارج النفس، إنما تحصل على الحقيقة. الحواس هي حواسي؛ إنها جزء مني؛ والإحساس واقعة تحدث فيَّ؛ وهي واقعة أعللها بعلة خارجية، في حين أن الذات المفكرة قد تكون علتها المعينة ولكن غير الواعية؛ فليس هذا التعليل بأعسر من ذاك. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نستطيع أن نصل إلى علمٍ يقينيٍ بوجود الأشياء الخارجية وطبيعتها؟ إذا كان الموضوع الذي تدركه حواسي لا يريد على انه إحساسي، فكيف أبرهن على انه موجود في الخارج؟ يجيب كمبانلا: بأني أبرهن على ذلك (بالحس الباطن).

فالإدراك الحسي يجب أن يستمد صفة اليقين - التي لا يملكها في نفسه - من العقل: يحيله معرفةً. قد يشك الميتافيزيقي في صدق الحواس، ولكنه لا يستطيع أن يتهم الحس الباطن.

ص: 33

بيد أن الأخير يكشف لي عن وجودي بلا واسطة؛ وبيقين لا ظل من الشك فيه. إنه يكشف لي عن نفسي كائناً يوجد، ويفعل، ويعرف، ويريد، ولكن هيهات أن يفعل ويعرف كل شيء. إنه - بعبارة أخرى - يكشف لي وجودي وحدوده معاً. ومن ثم أستنتج بالضرورة أن هناك كياناً يحدني، أو عالماً موضوعياً يختلف عنى؛ أو (لا أنا). وهكذا أبرهن بالمنهج البعدي على حقيقة فطرية، أو قبلية أو سابقة على كل تفكير: وهي أن وجود (اللا أنا) هو علة إدراكي الحسي.

أتدحض هذه الحجة مذهب الشك؟ ألحق أنها لا تبلغ من ذلك كثيراً، وإن فيلسوفنا ليعترف بهذا، ولا يدعى لنفسه النصر والغلبة. فإن قولك إن الحواس صادقة في إرادتنا الموضوعات الخارجية، لا يلزم عنه بالضرورة أنها ترينا هذه الموضوعات على ما هي عليه. إن التطابق الذي تفترضه (التوكيدية) بين نحو تصورنا الأشياء ونحو وجودها إنما هو - في رأى كمبانلا - نتيجة لتماثل الموجودات، وهذا بدوره نتيجة لحقيقة ممتنعة على البرهان: وهي أصل الموجودات الموحد. ثم إنه لا يسلم أن لدى النفس الإنسانية علماً مطلقاً بالأشياء. قد تكون معرفتنا صحيحة، لكنها لن تكون تامة أبداً. وهي إذا قيست بمعرفة الله تافهة أشبه بلا شيء. وقد كنا خُلَقاء أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، لو كانت معرفتنا فعلاً محضاً: لو كان إدراكنا خلقاً. إنا لأجل أن نعرف الأشياء على ما هي عليه، أو بصورة مطلقة، يجب أن يكون (المطلق) من حيث هو، أي نكون (الخالق) نفسه. على أن معرفتنا وإن كانت مثلا أعلى لا يستطيع الإنسان تحقيقه - وهذا دليلٌ بين على أن هذه الدنيا ليست بداره الحق - فإن من واجب المفكر أن يشتغل بالبحث الميتافيزيقي.

والميتافيزيقا، أو الفلسفة الكلية، باعتبار موضوعها، هي علم مبادئ الوجود أو شروطه الأولى؛ وهي، باعتبار مصادرها وآلاتها ومناهجها، علم العقل، الذي يفوق العلم التجريبي يقيناً وسلطاناً.

والوجود أو الكينونة معناها الصدور من مبدأ والرجوع إليه. ترى ما هو هذا المبدأ؛ أو بالأحرى ما هي هذه المبادئ؟ فإن الوحدة المجردة شيء عقيم. وبعبارة أخرى: ما هي شروط وجود الموجود؟ الجواب:

1 -

أن يكون (قادراً) على الوجود.

ص: 34

2 -

أن يكون في الطبيعة فكرة أو (مثال)، هذا الموجود تحقيق له (لأن الطبيعة لا تحدث شيئاً بغير علم).

3 -

أن يكون ثم (نزوع) إلى تحقيق المثال. فالقدرة والمعرفة والإرادة هي مبادئ الوجود النسبي. ومجموع هذه المبادئ، أو (بالأحرى) الوحدة العليا التي تحويها، هي الله. فالله هو القدرة المطلقة، والمعرفة المطلقة، والإرادة أو المحبة المطلقة. وللمخلوقات أيضاً قدرة وإرادة وإدراك، وحظوظها من هذه الصفات تتفاوت بتفاوت قربها بمصدر الأشياء فإن الكون نظام متدرج ينتظم العالم العقلي أو الملائكي أو الميتافيزيقي (الملائكة، والنفس العام، والنفوس الخالدة) والعالم السرمدي أو الرياضي؛ والعالم الزمني أو الجسماني. وكل هذه العوالم - حتى العالم الجسماني نفسه - تشارك في المطلق، وتعكس عناصر الماهوية الثلاثة: القدرة والمعرفة والإرادة.

كل موجود فإنما يصدر عن الكائن المطلق ويسعى إلى الرجوع إليه. وبهذا المعنى يصح أن نقول إن الموجودات المتناهية كلها بلا استثناء (تحب) الله؛ كلها دينة؛ كلها تسعى إلى أن تحيا حياة الخالق اللانهائية؛ كلها تفزع من اللاوجود، وبما أنها جميعاً تحمل في نفسها اللاوجود بالإضافة إلى الوجود، فكلها تحب الله أكثر من ذاتها أن الدين ظاهرة كلية، مصدرها توقف الأشياء كلها على الكائن المطلق؛ وإن علم الدين أو اللاهوت ليسمو على الفلسفة سمو الله على الإنسان.

بالرغم من كل هذا الذي سلمه كمبانلا للكاثوليكية، وبالرغم من رسالته الموسومة (بالإحاد المنتصر)، كانت محاولاته في الإصلاح موضع ريبة الكنيسة، فلم يتحقق منه شيء. وقد يئست الفلسفة بعد أن تظفر بمزيد من التقدم في إيطاليا؛ فتراها من ذلك الوقت تقيم في البلدان التي أنارها أو حررها الإصلاح الديني: في إنجلترا، وعلى ضفتي الراين.

(بغداد)

عبد الكريم الناصري

ص: 35

‌قصة بنى إسرائيل

في القران الكريم

للأستاذ علي محمد حسن

(مهداة إلى يهود القرن العشرين الذين يريدون دخول فلسطين

بالقوة بمناسبة وعد بلفور).

أشرت في عدد سابق من الرسالة إلى بعض مواقف بني إسرائيل مع نبيهم القوي الأمين موسى بن عمران، وعطفت بإشارة أخرى إلى بعض مواقف أجدادنا العرب في نصرة دينهم، وميلت بين الشعبين ووزنت أقدار أولئك بأقدار هؤلاء فشالت كفت الإسرائيلين وخفت موازينهم.

واليوم أهدي إليهم قصة آباهم مفصلة بعض التفصيل، ولست أتجنى عليهم ولا أتزيد فإن الحقائق نفسها أعجب من سبحات الخيال. وسأكتفي - ما استطعت - بما جاء في كتاب الله الحكيم الذي جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه.

ولقد عني القران بأخبار الأمم السابقة لمكان العبرة فيها وموضع العظة (لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ولكنه عنى عناية خاصة بأعاجيب بنى إسرائيل ليهون على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلقاه من يهود المدينة فهم - كآبائهم - أهل غدر وخيانة، وطالما نكثوا عهودهم (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) وليهددهم إذا استمرأوا هذا المرعى الوبئ واستعذبوا هذا الورد الآسن من الغدر والكيد والخيانة بأن مصيرهم كمصائر آبائهم، كما حذر الله النبي والمؤمنين منهم (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) ولقد صدق الله فبأيديهم فتح باب الشر على المسلمين. فتحه عبد الله بن سبأ فنقذ منه الناس إلى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه، ومنذ ذلك الحين ومعاول الفتن تهدم في دعائم السياسة الإسلامية، وبسوء دخائلهم اختلطت الخرافات والأساطير بالتراث الإسلامي فكدرت منهله الصافي، وغبرت منهاجه

ص: 36

الواضح، ونالت من حقائقه السامية. واليوم يتجلى لنا مصداق هذه الآية، فنراهم مصدر قلاقل للعرب عامة وللمسلمين خاصة وإنا لعلى يقين أنه سيصدق فيهم قول الله عز وجل (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب).

والعجب - بل ليس بعجيب لان الأمم بأخلاقها - أن بني إسرائيل أعيوا جميع أنبيائهم، حتى بلغ من كفرهم أن قتلوا بعضهم (ويقتلون النبيين بغير الحق). شكا منهم موسى (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) وشكا منهم هرون (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). وشكا منهم داود وزكريا ويحيى؛ وأخيراً يسميهم الله بهاتين الآيتين ويصمهم بهما (لعن اللذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوا، لبئس ما كانوا يفعلون) ثم كانوا شوكة في جنب الدعوة الإسلامية، فحاولوا أن يطفوا نور الله بأفواههم، ولكن الله الذي يعلم خبث نفوسهم عاجلهم بالعقوبة (هو الذي اخرج اللذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتهم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف من قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين).

نزل يعقوب وهو إسرائيل مصر في زمن ابنه يوسف عليه السلام وأعقب بنين أثنى عشر كانوا فيما بعد فرقاً سماهم القران أسباطاً وتكرر ذكرهم فيه، وظلوا ينعمون بخيرات مصر وأرزاقها زمناً طويلاً حتى جاء (رعمسيس الثاني) فاضطهدهم وعاداهم عداء شديداً وجعل يقتل أبنائهم، وأراد الله أن يسبغ عليهم نعمه فنجاهم واهلك عدوهم و (دللهم وأعطاهم حكم الصبي على أهله فأتاهم بالعجائب وفعل بالأمم الظالمة لهم الأفاعيل، واحتمل صلفهم وطغيانهم ولم يترك وسيلة من وسائل استرضائهم إلا فعلها وهم لا يزيدون إلا عناداً ومخالفة عن أمره). جاء موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله وحده لا شريك له ويستوهبه بنى إسرائيل، ولكنه طغى واستكبر وقال أنا ربكم الأعلى، فأوحى الله إلى موسى أن أسر بعبادي فرأوا فرعون يتبعهم، فالقوا إنا لمدركون. وقال كلا إن معي ربي سيهدين. وفرق بينهم البحر الأحمر وعبروا فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء

ص: 37

العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون). وكانت هذه نعمة عظيمة لو أنفقوا أعمارهم ساجدين لله شكراً ما وفوها حقها، لكن نفوسهم الخبيثة أبت إلا أن تستعلن فما كادوا يعبرون البحر حتى نسوا ما كانوا فيه وجحدوا نعمة الله عليهم وطلبوا إلها غير الله يعبدونه (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) وعجبت لموسى أن يكون معهم هذه المرة لطيفاً هادئاً وأن يجادلهم بالمنطق ويدعوهم بالتي هي أحسن (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) وسكنوا إلى حين وخضعوا على دخن، فلما سنحت لهم الفرصة نهزوها فما كاد موسى يذهب لمناجاة ربه حتى صنعوا من حليهم عجلا يعبدون، وعبثاً حاول هرون أن يردهم قال (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فأتعبوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى). (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجروا إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).

وهنا نرى عجيبة من أكبر عجائبهم، وذلك أن موسى نخلهم واختار منهم سبعين رجلاً ليتوبوا إلى الله من عبادة العجل، وكان الظن بهم أن يكونوا بررة أطهاراً، ولشد ما دهش موسى حينما قالوا له (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) فندد بهم القرآن، وجعلها مخزاة في أعقابهم (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) ووبخ للعرب لما حاولوا يعنتوا مع النبي (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ظل سواء السبيل) ثم أخذ موسى يشرح لهم ما في الألواح ويعرض عليهم شريعته، ولكن رأى من كفرهم وعنادهم ما جعل الله تعالى يريهم آية من آية (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وكان من شأنه بعد ذلك ما ذكرته في (الرسالة) سابقاً من دعوة موسى لهم إلى دخول الأرض المقدسة ونكولهم عنها وخوفهم من سكانها فحرمت عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. وهناك في التيه انزل الله عليهم المن

ص: 38

والسلوى وظلل عليهم الغمام ولكنهم يئسوا من هذه النعم وملوها وقالوا يا موسى (لن يصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). ومات هرون في التيه ومات موسى ومات جيلهم القديم فلم يكن من الناشئة إلا كما كان من آبائهم؛ أمروا أن يدخلوا (أريحاء) فدخلوها ولكنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم.

ولعل من أولى مواقف بنى إسرائيل بان نهديه إلى يهود اليوم ما كان منهم مع نبيهم صموئيل (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لهم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ قالوا أو ما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليهم بالظالمين). ولو ذهبنا نتتبع جميع مساوئهم لطال بنا القول فنجتزئ بهذا القدر ففيه بلاغ. ولكن يبدو هنا سؤال وهو إذا كان بنو إسرائيل بهذه الأخلاق فكيف اختارهم الله؟ والجواب عند سيدنا موسى على ما ذكرته التوارة: لا تظنوا أن الله سيأتي بكم إلى الأرض المقدسة بسبب قداستكم وطهارتكم وأنكم أفضل الناس في طاعته. كلا. فإنه إنما يطرد الأمم أمامكم لرداءتهم ورجسهم العظيمين.

علي محمد حسن

المدرس بمعهد القاهرة

ص: 39

‌مين دى بيران

(1766 - 1824)

فيلسوف المذهب الروحي في العصر الحديث

للأستاذ زكريا إبراهيم

مين دى بيران فيلسوف فرنسي ممتاز، أدرك الباحثون قيمته بعد وفاته، فاهتموا بنشر مؤلفاته، واعتنوا بدراسة فلسفته. وقد ذاعت شهرته على اثر ذلك، فلقي مذهبه رواجاً كبيراً بين الأوساط الفلسفية التي أقبلت على دراسته.

والفكرة الأساسية التي تقوم عليها مذهب (دى بيران) هي أن الحقيقة الجوهرية الأولى ليست (الذات) باعتبارها مريدة، أي (الروح) باعتبارها فاعلة. فما يكون جوهر الإنسان، إنما هو الإرادة. والإرادة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، لان الإنسان لا يحيى ويحس ويشعر فحسب بل هو يفكر ويريد ويفعل. وإذا كان الإنسان يدرك ذاته، فان لا يدرك هذه الذات فلا باعتبار أنها علة، وقوة، وإرادة، وجهد، وفعل. ومعنى هذا أن نقطة البدء في كل معرفة حقيقية، إنما هي تلك الواقعة الأولية للشعور أو الوعي الإنساني، وهي الحس الباطن أو التجربة الباطنة. وفي هذه البداية يتفق دى بيران مع فخته اتفاقاً كبيرا، حتى لقد سمى كوزان فيلسوفنا باسم:(فخته الفرنسي).

غير أن دى بيران يستبدل بفكرة فخته عن (الفعل) فكرة أخرى جيدة هي فكرة (الجهد). فالواقعة الأولية عند مين دى بيران ليست هي (الإحساس المجرد) الذي يقول به كوندياك وليست هي (الفكر) بالمعنى الذي قصد إليه ديكارت، بل هي (المجهود) الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها.

ولما كانت الواقعة الأولية للذات هي إدراكها لنفسها، من حيث هي قوة حرة، تعمل وتشرع في الحركة، بإرادتها الخاصة؛ فان الصواب (في نظر دى بيران) لا أن نقول (كما قال ديكارت):(أنا أفكر، فأنا إذن موجود) أو بعبارة أخرى: (أنا أدرك نفسي باعتباري حرة، فأنا إذن علة موجودة بالفعل). وفي موضع آخر نجد مين دى بيران يصحح مقال ديكارت فيقول: (إذا كان ديكارت قد توهم أنه اهتدى إلى المبدأ الأول لكل علم حين قال:

ص: 40

(أنا أفكر، فأنا إذن شيء موجود، أو جوهر مفكر)، فان في استطاعتنا أن نقول - تصويباً لهذه العبارة - وبالاستناد إلى شهادة الحس الباطن التي لا ترد:(أنا أفعل، أنا أريد، أو أنا أتعقل الفعل في ذاتي، فأنا إذن أدرك نفسي كعلة، وإذن فأنا موجود، أو أنا كائن باعتباري علة أو قوة).

هذه الحقيقة الأولى التي يؤكدها دى بيران بكل قوة (حين يقول إن الذات تدرك نفسها باعتبار أنها مجهود، وإرادة، وفعل) تدلنا على أن فيلسوفنا هذا كان المؤسس الأعظم للمذهب الروحي في العصر الحديث؛ وهو المذهب الذي ساعد على تقدم علم النفس ونظرية المعرفة، العلوم الخلقية على وجه العموم، في نهاية القرن التاسع عشر. والواقع أننا إذا نظرنا بيران، سواء من الناحية الذاتية أو من الناحية الموضوعية، فإننا نجد أنه من أعظم المفكرين اللذين قادونا إلى الناحية الباطنة في الإنسان. بل ربما كان بيران أعظم فلاسفية المذهب الروحي في فرنسا. وهو بالفعل قد توفر على التوسع في المذهب الروحي الذي أقامه أستاذه (ليبنتس)، فأظهرنا على الإنسان (في حقيقة الأمر) ليس ألعوبة في اثر الأقدار، أو عبداً ذليلاً للضرورة المستبدة، بل هو ذات مريدة فاعلة، لا تستمد نشاطها وقدرتها على الفعل من الأشياء الخارجية، بل من جهدها الإرادي ونشاطها الذاتي، أعني من الإرادة)

والنفس الإنسانية - في نظر بيران - لا تتمثل باعتبارها ذاتاً فاعلة، إلا بالممارسة لقوتها الخاصة؛ ما دامت هذه الممارسة حرة غير خاضعة لأية ضرورة أو قوة خارجية، أي ما دامت غير متوقفة على قوى الطبيعة الخارجية.

وقد فرق بيران بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين الإنسان والله من جهة أخرى. غير أنه لم يقصد بهذه التفرقة أن يقيم هوات غير معبورة بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان والله. وإنما الذي اهتم به بيران وقصد إليه فعلا، هو أن يقرر تلك الحقيقة الهامة عنده، وهي أن الحياة الإنسانية بمعنى الكلمة إنما هي تلك التي تعلو على المستوى الحيواني، وما يميز الحياة الحيوانية (في نظره) هو أنها تخضع للانفعالات العمياء؛ أعني أنها لا تتميز بالحرية والإرادة والاختيار. وعلى الرغم من أن بيران لا ينزل بالحيوان إلى درجة (الآلة)، كما فعل ديكارت، فإنه يعتبر أن الحيوان يحيا دون أن يعرف ما هي حياته،

ص: 41

ويشعر دون أن يعرف انه يشعر، أي بعبارة أخرى ليست لدية (ذات) أو (إنية).

أما الحياة الإنسانية فإنها تبدأ حيث تنتهي الحياة الحيوانية، أي حيث يبدأ الشعور بالذات، أو التجربة الباطنة التي تدرك فيها الذات نفسها على أنها قوة فاعلة وإرادة حرة. وبعبارة أخرى فإن الإنسان يحيا حياة إنسانية خالصة، إلا بقدر ما يتحرر من الضرورة العمياء، والأهواء الأنانية. والحيوانية داخلة في الحياة الإنسانية، نظراً لان الانفعال موجود في الإنسان إلى جوار الفعل؛ ولكن في استطاعته الإنسان أن يشارك في حياة غير إنسانية، هي حياة الروح التي تعلو على الحياة البشرية. وفي هذا الصدد يتفق بيران مع نيتشه الذي يقول: إن الإنسان وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى - وما يميز الحياة الإنسانية بالنسبة إلى الحياة الحيوانية والحياة الروحية، هو النشاط والشخصية وحرية الفعل؛ أعني المجهود الذي يبذله الإنسان في مقاومة الأهواء، وتنمية قواه النفسية، من أجل الوصول إلى حياة إنسانية بمعنى الكلمة. أما بالنسبة إلى ما هو دون الإنسان أو ما هو فوق الإنسان، فليس ثمة جهاد أو صراع، لأنه ليس ثمة جهد أو مقاومة -.

والحياة الإنسانية هي في أعلى صورها تحرر من نير الأهواء والانفعالات، وتجاوز لمرتبة الحياة الحيوانية، وارتفاع إلى مرتبة الحياة الروحية.

زكريا إبراهيم

مدرس الفلسفة بمدرسة السويس الثانوية

ص: 42

‌من وحي الصيف:

على جبل الرويس

للأستاذ حسن الأمين

سقياً لأيام الرويس فطالما

كانت لأدواء الفؤاد دواء

نلقي الجمال الغص في ذرواته

وعلى السفوح الماَء والخضراء

ويشوقنا الإصباح في أفيائه

وتطيب حول كرومه إمساء

قد جئته قلباً ينوء بدهره

هماً ويرزح شقوة وعناء

عبست له الدنيا فلم ير باسماً

للناس إلا أن يكون رياء

رضى الشجون من الحياة صحابة

ومن الزمان همومه خلطاء

حتى إذا برز الرويس وأقبلت

دنياه تزخر متعة ورجاء

بعثت هوى القلب القديم وهيجت

للحب فيه الوجد والبُرَحاء

وجلت لنا الحسن الرفيع وأطلعت

في كل أفق كوكباً وضاء

وطلعت يا ظمياء في صرح الصبا

وجهاً أغر ومقلة نجلاء

ودعوت للحب المبرح والجوى

قلباً خلياً من هواك فجاء

أحببت أفياء الرويس وإنما

أحببت من حبي لك الأوفياء

فالليلة القمراء فيه لم تكن،

إلا بوجهك ليلة قمراء

والروضة الغناء ما كانت لنا

إلا بحسنك روضة غناء

لم يحل لولاك الرويس ولم يطلب

أرضاً ولم يعذب لدى سماء

قد كنت بهجته وكنت رواءه

فسما بعيني بهجة ورواء

تمشين في الأرجاء عاطرة الشذى

فتعطرين بعرفك الأرجاء

ويطل وجهك في السجوف كأنما

ألق السعادة في السجوف تراءى

وأراك في غسق الزمان فأجتلي

نور الضحى من مقلتيك أضاء

يا أيها الجبل الأشم أسامع

نجوى يرددها الفؤاد وفاه

إني لأطرح في ذراك كآبتي

وأرد عن قلبي بك البأساء

وتهيجني ظمياء فيك ملاحة

وتثير أشواقي لها إغراء

ص: 43

كانت ليالينا عليك ضواحكا

أبداً وأيام الهوى غراء

أرشفتنا العذب الزلال على الظمأ

ومنعتنا الأكدار والأقذاء

وعرفت في واديك غر مباهجي

ولمست تحت ظلالك السراء

إن تحبُني العيش الرغيد فلن أني

أشدو بذكرك في الحياة غناء

وأرتل الشعر الرقيق منمقاً

بجمالك الإنشاد والإنشاد

(بغداد)

حسن الأمين

ص: 44

‌البريد الأدبي

رأي الأستاذ عبد الرحمن الرافعي في كتابه:

من يوميات محام

عزيزي الأستاذ عبده حسن الزيات

قرأت كتابك الجديد (من يوميات محام) فقضيت في قرأته وقتاً غير قصير استوعبت خلاله ما جاد به قلمكم من سديد النظرات، وبديع الأفكار والتأملات، وصادق الأماني والآمال وقضيت وقتاً آخر في الإعجاب بالروح التي أملت عليكم هذا الكتاب، إنها روح الرغبة المتوثبة في الإصلاح والنهوض القومي والبرم بما يعترض هذا الإصلاح من شتى العلل والعقبات. فيا حبذا هذه الروح الطيبة ويا حبذا الكتاب الذي يبرزها ويجليها!

رأيتك أيها الزميل تدون خواطرك وملاحظاتك اليومية عن المحاماة والحياة القضائية والاجتماعية عامة، وما أحوجنا إلى أن نتعرف هذه الخواطر والملاحظات، فإن المحاماة ما هي إلا الحياة الاجتماعية على حقيقتها في معاملات الناس، وعلاقتهم ببعضهم ببعض وما يتخللها من صدق أو غش، ووفاء أو غدر، وشجاعة أو جبن، ونبل أو ضعة، وفضيلة أو رذيلة. إننا نشهد فيها صورة متناقضة من الحياة. ولقد جلوت هذه الصور، ومجدت النواحي السامية منها، واستنكرت نواحي القصص والضعف الخلقي فيها فجاءت يومياتك خير دعاية للمثل العليا.

رأيتك في كتابك تشرح بعض مواطن النقص من حياتنا القضائية عامة، سواء في دور المحاكم أو في ملفات القضايا أو في أقلام الكتاب والمحضرين، ولم يفتك أن تأخذ على زملائك في المهنة ما رأيت موضعاً للنقد، وفي الحق إنها لشجاعة أدبية تحمد عليها، وإنها لملاحظات ومشاهدات جديرة بأن تكون أساساً للنهوض في نواح عديدة من نظمنا القضائية والتشريعية؛ فإن هذه النظم على إنها سائرة إلى الأمام في حاجة إلى معالجة وإصلاح مستمرين لا ينقطعان.

وفي كتابك ناحية أخرى جديرة بالاعجاب، وهي انك ما أردت منه إلا الخير والإصلاح؛ وما قصت إلا وجه الوطن، وعندما انتهيت من قرأته عدت إلى التأمل في مقدمته التي تقول فيها: (إلى مصر الخالدة، التي عاهدت ربي أن أعيش من أجلها، وأفنى في سبيلها،

ص: 45

عزيزاً على عداتها، ذليلاً على حمايتها، سيداً حر الضمير في خدمتها، عبداً متقرباً إلى الله بإطاعتها). فعلت وتحققت أن الكتاب يعرف من عنوانه.

فتقبل أيها الزميل الفاضل خالص تهنئتي على هذه التحفة الأدبية والاجتماعية والروحية التي أخرجتها لمصر وللناطقين بالضاد؛ وشكراً لك وألف شكر والسلام.

عبد الرحمن الرافعي

مكتبة الكيلاني للأطفال

. . . وهكذا نجحت - يا أستاذ - في أن تحبب إلى الأطفال مكتبتهم وتغريهم بالمطالعة. ولئن أدراك الأطفال - برياض الأطفال - مرداً بعيداً، لقد فتحت لهم، بمكتبة الأطفال - فتحاً جديداً. أدركت أرب نفوسهم، وأبدلتهم أنساً من عبوسهم، وهجت للمعاني أشواقهم، وحسبت لغتهم وأخلاقهم. والأستاذ الكيلاني منشئ مكتبة الأطفال أديب عالمي جدير بما يهدف إليه من نبيل الأغراض. وانه ليسرني - إذ أتابع مع التقدير هذا الجهد العلمي المتواصل - أن ألاحظ مقدار العناية التي تبذلونها في هذا السبيل، والفائدة التي تعود على النشء منه بتهيئة أذهان الأطفال وعقولهم لتقبل خير الأفكار والمعاني وتقديمها لهم على مثل هذه الصورة الطريفة. وإني قد تتبعت هذا المجهود القيم المتصل لا يسعني إلا الإعجاب بما تساهمون به في سد نقص يشعر به جميع الآباء في تعليمم أطفالهم. فشكر الله لك ما هدفت إليه من تنشئة الطفل: مشبوب الشغف بالقراءة والدرس، موفور الحظ من متاع الفكر، مستقيم اللسان على نهج البيان. فهي تتمشى مع طباع الطفل الشرقي وغرائزه حتى يترعرع، وتجعل الحلقة متصلة بين المدرسة والبيت، في قصص مناسبة متماسكة مع نفسية الطفل وعقليته وبيئته وما يهوى سماعه أو يميل لوعيه بأسلوب صحيح فصيح، إذا حفظه الصبي صغيراً نفعه كبيراً. ومن ثم يشب الطفل، وقد صحت ملكته، وأشرت الفصحى فكرته.

إلى الأستاذ علي الطنطاوي

تفضلت أيها الأخ الكريم فكتبت كلمة جريئة موفقة في نقد (النشيد السوري)؛ وقد أعجبني هذا الشعور الوطني الجميل الذي يدعوك إلى أن تجدد للوطن أناشيده وأهازيجه كما تجددت

ص: 46

فيه روح الحرية والاستقلال، ولكني لاحظت أنك عندما تعرضت لنقد هذين البيتين:

حماة الديار

عليكم السلام

أبت أن تذل

النفوس الكرام

قد قلت: (ثم هذا السلام المنكرَّ، من منكر القول، وهو بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام أشبه، وليس يليق بهذا المكان، ولا محل له في البلاغة). . . قرأت هذه الفقرة من حديثك فتوقفت، وتفكرت، فذكرت أن قول الشاعر (عليكم السلام) تعبير بليغ لا غبار عليه، وقد اقتدى فيه صاحبه بالقران الكريم - المثل الأعلى لكل بليغ - ففي سورة هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى، وقالوا سلاماً، قال سلام) وفي سورة الذاريات: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً، قال: سلام). ولا شك أن إبراهيم قد أراد أن يكون جوابه أبلغ من تحية الملائكة، اقتداء بأمر الحق تبارك وتعالى:(وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) فاستعمل الاسم المرفوع الدال على الدوام والثبوت؛ ولذلك نرى الإمام جار الله الزمخشرى حينما تعرض لتفسير آية الذاريات السابقة القول (م 4 ص 29 الكشاف): (سلاماً) مصدر ساد مسد الفعل، مستغنى به عنه، وأصله نسلم عليكم سلاماً؛ وأما (سلام) فمعدول به إلى الرفع على الابتداء، وخبره محذوف معناه عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام كأنه قصد أن يحيهم بأحسن مما حيوه به، أخذا بأدب الله تعالى، وهذا أيضاً من إكرامه لهم)!. . .

ومن هذا يتضح للأخ المفضال أن تعبيره السابق عربي قرآني بليغ، ولولا أن نقد الأستاذ لتعبير الشاعر يمس تعبير القران الكريم من قريب أو من بعيد لما قوى الداعي الذي دعاني إلى توجيه هذا الحديث، وجل المتعالي عن النسيان!

أحمد الشرباصي

من علماء الأزهر الشريف

مجلة كلية البوليس:

صدر العد الثالث من مجلة كلية البوليس الملكية ويشرف على تحريرها الأمير الاي علي بك حلمي. وهى حافلة بالأبحاث القيمة المتصلة بحياة رجال البوليس وعلاقتهم بالمجتمع

ص: 47

فضلا عما حوته من البحوث التشريعية والبحوث الاجتماعية الصلة بعمل البوليس. وقد اشترك في الكتابة بها طائفة من كبار رجال القانون والإدارة ممن أشهروا بضلاعتهم في العلم واكتسبوا خبرة عظيمة في شئون الأمن، ولذلك فسحت المجلة صدرها لفريق من طلا ب الكلية فظهرت بها آثار أقلامهم الناهضة.

ومن ذلك نرى أن هذه المجلة تعد نهضة ثقافية جليلة الأثر في حياة الكلية. ومرد الفضل في ذلك إلى مديرها الأمير الاي على بك حلمي الذي اشتهر بهمته في كل ما يلي من عمل والذي عرف ببحوثه القيمة في كثر من نواحي الاجتماع.

ونحن إذ ننوه بفضله نستحث رجال البوليس جميعا على الإفادة من هذا الأثر الطيب، ونستزيد محرري هذه المجلة بحوثاً جديدة في الأعداد القادمة، ونرجو لها التوفيق الدائم فيما ترمي إليه من غرض كريم.

م. ف

تصويب:

وقع (أيضا. . .) في مقالة (هذيان مجنون) في العدد 642 تطبيعات، هذا صوابها:

صفحةعمود سطر خطأصوابه

11421 16 برفقبرفقه

11422 19 على خفقانه عليه خفقانه

أما من ظن أني أسخر بالجمعيات الإسلامية فليسأل الله أن يرزقه الفهم!

علي الطنطاوي

ص: 48

‌القصص

أسطورة من الأدب الروسي:

السلطان وولده. . .

للكاتب الروسي مكسيم جوركي

للأستاذ مصطفى جميل مرسي

(يعد مكسيم جوركي - شبح الأدب الروسي - قطباً من أقطاب

الثورة البلشقية الذين مهدوا بما كانوا يسطرون لقيامها أمثال

تولستوي والأمير كورباتكين ولد جوركي في سنة 1868،

ونشأ فقيراً يعاني شظف العيش وذاق مرارة الحياة بين تلك

الطبقة السفلى من المجتمع. فكان لذلك أثر جلي في طبع أدبه

بطابع البؤس والشقاء. وفي هذا يصل مكسيم إلى ذروة فنه،

وقد لبث جوركي يقود الحركة الأدبية في روسيا إلى أن وافته

منيته سنة 1930 بعد أن أخرج عدة كتب تعد من روائع

الأدب الروسي؛ منها، (الأعماق السفلي) وكتب (ذكريات

الشباب).

وفي هذه القصة التي نقدمها اليوم إلى قراء (الرسالة) نهج جوركي لهجاً جديداً ولكنه رائع ممتع. . . نهجاً يتجلى فيه خيال جوركي الخصب، وأفكاره البديعة، ومعانيه الجليلة وأساليبه الرائقة.

وسيلمس القارئ الكريم ذلك بيننا في هذه القصة)

ص: 49

م. جميل

اعتمد (التتاري) الأعمى إلى جدع الشجرة من أشجار التوت، وراح يقص واحدة من تلك الأساطير التي سطرتها الذكريات في عقله عن شبه الجزيرة القوم. . . والتف حوله حشد من (التتار) في بردهم الموشاة المفوفة، ومطارفهم الزاهية المخلبة. . . وقرت فوق رؤوسهم قلانس مطرزة بالذهب. . .

وقد جلسوا على أحجار دارسة، وأطلال بالية، كانت حيناً قائمة في جدران قصر فاخر لسلطان من السلاطين القدماء.

كانت الشمس تنحدر نحو مستقرها في البحر، فتبعث أشعتها الجاهدة الكليلة وقد راحت تخترق ستور الظلام. . . وتبعث بحلكته، وتميس بين أوراق الطحلب فتخلع عليها روعة وبهاء، وتسيطر على الأطلال فتبعث فيها شيئاً من الرهبة والوراء. . .

وبرحت الريح رخاء تداعب غصون الأشجار، وتصاول الأوراق فيسمع لها حفيف وزفيف. . . وكأن صوت الرجل ينبعث واهناً فيه بعض من الاختلاج والاضطراب؛ أما وجهه فكالصخر جامد لا ينم تجعده على شيء سوى الراحة والهدوء. وانسابت الألفاظ من لسانه حيناً، ومن قلبه أحياناً تعيد لسامعيه صورة جلية للأيام الخالية العامرة بالهناء.

ولم يلبث أن قال في صوت جليل، وجرس ندى:

(زعموا انه عاش في شبه الجزيرة القزم سلطان يقال له. . . (مسيلمة الأسراب) وكان له ولد يدعى (توليق الجلي).

كان هذا السلطان كهلا، يبد أن قصره ضم كثيراً من النساء اللواتي عشقن السلطان الكهل. . . فما زال جسده يمور قوة ونشاطاً، ولا زالت نفسه تمور مرحاً وشباباً. . . وما برحت النساء يعشقن ذا القوة والبأس.! إذ يقال أن الجمال يكمن في ثنايا القوة. . . لا تحت الأظافر الناعمة والوجنات الأسيلة المخضبة. . .

كن جميعاً يعشقن السلطان، ولكن السلطان ينصرف عنهن إلى ظبية سباها في حرب له مع (القوزاق) عند مروج النهر (الدنيبر). . . وكان يخص هذه الفتاة بجل حبه وعطفه وحنانه وينفر عن نسائه وجواريه وقد نيفن على الثلثمائة من كل فج وبلد. نسوة منهن العذراء والخود والبضة، والعطبول والغيداء والغانية والرقراقة إلى غير ذلك. . . كانت كل منهن

ص: 50

على جمال رائع كالزهور، وقد تفتحت أكمامها في صبيحة يوم اضحيان من أيام الربيع. . .

لم يبخل السلطان عليهن بمال. . . بل كان ينفق عليهن بسعة ويجلب لهن ما يوددن. . . أتى لهن بالخمر الفاخرة. . . وبما لذ وطاب من طعام وشراب. وكان يأذن لهن بالرقص واللهو كما يحلو لهن. ولكن إيثاره للفتاة القوزاقية بحبه كان ينغص عيشهن بعض التنغيص. . .

كثيراً ما كان يدعو الفتاة القوزاقية إلى جناحه حيث يشرف على البحر المسيطر إلى الأفق. . . حيث أعد لها كل ما تطمح إليه نفس امرأة ويهفو نحوه فؤادها كي نلحقها السعادة في الحياة. . . الحلوة والفاكهة والشفوف والغلائل. . . والقلائد من ذهب، والأقراط من شذور، والوشائح من زمرد. . . وثمت الطيور المعتدلة بأغاريد عذبة. . .

هذا غير ما ميز به السلطان من لطف المعشر ودماثة وفتنته. . . في هذا الفردوس يقيم السلطان أياماً وليالي يمتع نفسه بهذا النعيم ويتذوق الراحة والسعادة وهي تسعى إليه بعد العناء الذي يلقاه من أعباء الحكم. . . يقضي أيامه وقلبه آمن على ولده. . . وقدرته في أن ينهض بعظمة السلطان إبان غيبته. . . فهو يعلم كيف ينسل ولده إلى مروج الروس كالذئب فيغزوها ويغير عليها. . . ثم يعود والنصر يعقد لواءه على رأسه. . . فيكللها بآيات المجد والفخار. . . يعود مثقلا بالغنائم والأسلاب. . . والسبايا الفاتنة. . . يعود بعد أن يخلف الذعر والاضطراب. . . وفلول الأعداء ملوثة بالدماء والهزيمة. . . وحدث مرة أن عاد (توليق) من إحدى غزواته للروس فائزاً مضفراً. . . فأقام حفلا دعا إليه الأمراء وعظماء الدولة ابتهاجاً بالنصر المبين. . . وعقدت المباريات ومدت موائد الطعام. . . وراح القوم يقذفون نبالهم على أعين الأسرى ليعرف من هم أشد الجمع ساعداً؛ وأصوب رمياً. . . وعادوا إلى الشراب ينهالون حتى أترعوا وهو بين ذاك وذاك يمجدون هذا الفوز والنصر الذي أحرزه بطلهم العظيم (توليق الجلي). . . ويشيدون بالخوف والهلع وقد خلفهما يفخران في عظام أعدائه أما السلطان فكان سروره بفوز ولده لا يعادله سرور. . . وكان يعتقد أنه إذا ما انتقل إلى السماء سيستوي على العرش من بعده سلطان قوي مرهوب الجانب. . .

ص: 51

رغب أن يبدى لولده مبلغ حبه وإخلاصه له - على مرأى من شعبه ورعيته فهم والقدح في يده وقال:

(بني العزيز (توليق). . . فتح من الله ونصر مبين. . . والنصر آية من آيات رسوله ونبيه. . .)

فارتفع صوت الحشد يترنم بأنشودة حماسية تمجد نصر النبي؛ ثم عاد سلطان فقال: (إن الله عظيم خبير. . . لقد جدد قوته ومضائي في ولدي الأروع. . . إني لأبصر بعيني الغائرتين عندما يغيب شعاع الشمس عنهما إلى الأبد، وعندما يدب الفناء إلى قلبي النابض وأقضي نحبي. . . أني سأحيا ثانية في نفس أخرى. . . في نفس ولدي. . . فسبحانك اللهم أنت الإله الأوحد الجبار. . . لقد رزقتني ولداً عظيما صلبا الساعد، ثابت الجأش رزين العقل. . . فاللهم إني اشهد بوحدانيتك وقدرتك، وأشهد أن محمد رسولك ونبيك.

أبني توليق. . . ماذا تبغي أن تقدم لك يد أبيك؟. اذكر ما تود، وسأمنحك إياه.)

وخفت صوت السلطان رويداً حينما أخذ (توليق الجلي) يتأهب لإعلان رغبته، وقد تألقت عيناه تألق الحر في ضوء القمر. . . عيناه اللتان كأنهما عينا النسر وهو يحوم بقلة الجبل. . . قال أخيراً:

- مولاي وأبت. . . امنحني الفتاة القوزاقية. . .)

وصمت الوالد ليهدئ من روعه، ويسكن من نفسه المضطربة وفؤاده الجياش. . . وبعد برهة رفع صوته ثابتاً لا ينم عما يعتمل بنفسه:(. . . خذها. . . عندما يختتم الحفل).

شملت البهجة والمراح قلب (الجلي). . . وتألقت عيناه النسريتان بدموع الفرح. . . وقال لوالده السلطان في حب وبر:

- أي والدي ومولاي. . . إني لأقدر مبلغ هديتك إياي. . . إني لأقدره حق قدره. . . إني ابنك بل قل عبدك المخلص لك. . . خذ دمي. . . قطرة في كل لحظة. . . سأموت أكثر من ميتة فداء لك. . . يا أبت ويا مولاي. . .)

فقال السلطان وقد طأطأ رأسه إلى الأرض - رأسه الذي طالما كلله بالنصر بآياته سنوات متتاليات - (إني لأرغب عن كل شيء)

آذنت الوليمة بالانتهاء، فهم السلطان وولده يسيران من القصر إلى دار الحريم. . .

ص: 52

وكانت السماء تغشيها السحب، فطوت القمر النجوم في حجب مغيبة دام السير طويلا في صمت وسكون. . . وأخيراً قال السلطان (الأسراب):

- ستفنى حياتي يوما بعد يوم، وسيخفت قلبي في خفقانه حيناً بعد حين. . . وستخمد رويداً هذه الجذور المستعرة في جسدي. . . جذوة الحياة. لقد كان الضوء الذي يشع في حياتي، والدفء الذي يبعث لي بالحرارة هي تلك الفتاة (القوزاقية). . . خبرني بني (توليق). . . خبرني إن كنت حقاً في حاجة إليها. . . خذ مائة من حريمي. . . خذهن جميعاً. . . بدلاً منها. . .)

صمت (توليق الجلي). . . فعاد السلطان المتيم يقول:

- لقد تقضت حياتي. . . ولن ألبث طويلاً فوق أديم هذه الأرض. . . فدعني أنعم بحب هذه الفتاة. . . إنها تعشقني. . . من ذا سيحبني بعد أن تنأى عني؟! يحبني. . . أنا يا من دبت في جسدي الشيخوخة. . . من؟ ليست واحدة منهم يا توليق. . .)

- ولكن (الجلي) لم ينبس ببنت شفة. (بالله. . . كيف يتردد لي نفس، وأنا أحسب أنك تعانقها. . . وأنها تقبلك؟. . . إذا كنا أمام المرأة يا توليق فلسنا والداً وولداً. . . ليت جروحي - وقد تناثرت في جسدي - نكأت فسال دمي حاراً دافقاً منها. . . فهذا خير وأفضل من عيشي حتى هذه الليلة. . .)

انتهى بهما المطاف عند باب الحريم، فوقفا - وقد طأطأ كل منهما رأسه إلى الأرض - وشاع الصمت بينهما، وشملهما الظلام. وفي السماء راحت بعض السحب تطارد بعضها والريح تميل الأشجار عن يمين وعن شمال. . . وكأنها تترنم لها. . .

قال (توليق) في صوت هادئ رزين (يا أبت. . . لقد أحببتها) فقال السلطان (أعلم هذا. . . كما أني أعلم أنها لا تحبك)

- إن قلبي لينفطر حينما أفكر فيها. . .

- إني لأشد منك حباً لها. . .

وعاد الصمت يحلق فوقهما ويرين عليهما. . . فقال (الجلي) في صوت فيه ألم، وفيه عزاء:

- لقد أدركت الآن صدق الحكمة القائلة (المرأة خلقت لمتاعب الرجل) إن كانت حسناء

ص: 53

راحت تغري الآخرين ليتملقوها فتوقظ في زوجها آلام الغيرة والحسرة. . . وإن كانت قبيحة، فزوجها يعاني من قبحها ويعاني آلام الحسد ومرارة الحقد على غيره. . . وإن لم تكن بالجميلة ولا بالقبيحة راحت تتدلل على زوجها وتجعله يعتقد انه لم يقم بواجبه نحوها، فهي إذاً مصدر شقاء الرجل وتعاسته في هذه الحياة. . .)

فقال السلطان:

- ليست الحكمة دواء ناجعاً لشقاء القلب! يا بني

- يا أبت. . . يجب أن يشفق كل منا على الآخر

فرفع السلطان رأسه، وراح يحدق في ولده. . . فقال (توليق)

- يا أبت. . . دعنا. . . دعنا. . . نقتلها

فشك السلطان غير طويل ثم قال في تمتمة هادئة:

- إنك تحب ذاتك أكثر منها ومني؟!

- أجل. . . وأنت الآخر!

فقال السلطان بعد هنيهة في صوت شاع فيه الألم، وشاع فيه الحزن حتى لكأنه ارتد صبياً

- نعم، وأنا الآخر

- سوف نقتلها يا أبت

- لن ادعك تأخذها لنفسك. . . لن أدعك

- لا اقدر على مجالدة هذا طويلاً. . . إما أن تمزق قلبي أو تتركها لي. فلم يقل السلطان شيئاً. . . (أودعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى. . .) فراح السلطان يردد هذه العبارة، وكأنه رجع الصوت الذي أطلقه ولده. . . وهو يهز رأسه في شرود وألم

- دعنا نلق بها من شاهق إلى البحر فتتردى. . .

دخلا الحريم، واتخذا وجهتيهما حيث مرقدها في فراش وثير وثمين. . . فوقفا ساهمين ينظران. . . وفي قلب كل منهما لهفة شوق. . . وألم

وانحدرت من مقلتي العجوز دمعات فسالت على وجنتيه. . . ثم تألقت على لحيته - وقد حاكت الفضة في لون شعرها - أما ولده فقد قام بعينين لامعتين. . . يصر على أسنانه ليخفى ذلك الهوى الذي يضطرب بين جوائحه. . . وقد راح يوقظ الفتاة (القوزاقية). . .

ص: 54

أفاقت من نعاسها، تفتحت عيناها على وجنتيها الورديتين فكأنهما زهرتان من أزهار الأقحوان. . .

لم تبصر (التوليق) ولكنها مدت شفتيها الأرجوانيتين إلى السلطان

- قبلني، يا نسري العزيز. فقال السلطان في رقة:

- انهضي. . . ينبغي أن تأتي معنا. . .

ووقع طرفها على (الجلي)، والدمع يتألق محبوساً في عينيه. . . فما أسرع ما أدركت، وفهمت كل شيء. . . وقالت:

- هه. . . سآتي. . . سآتي. . . ليس لواحد منكما. . . أليس هذا مبتغاكما؟ وما قر عليه أمركما. . . للقلوب القاسية أن تقرر وعلى النفوس الضعيفة الواهنة أن تطيع. . . سآتي معكما. . .

وأنطلق ثلاثتهم شطر البحر في صمت وسكون. . . سلكوا في سبيلهم مسالك ضيقة، والريح لها صوت كعواء لبن آوى. . .

كانت الفتاة نحيلة الجسد، هيفاء القد. . . فما أسرع ما أدركها الوهن والعناء؛ ولكن كانت تعاني هذا في صمت، ولا يند عنها ما ينم عليه. . . وإذا لمح ابن السلطان ما اعتراها - وكان يسير إثرهما - أسر لها (أأنت خائفة؟!)

فلمعت عيناها، وأشارت إلى قدميها الداميتين. . . فقال وهو يمد ذراعيه إليها (دعيني أحملك!)

بيد أنها نفرت منه إلى عنق نسرها العجوز. . . فرفعها السلطان كالريشة حاملاً إياها. . . بينما راحت تثني أغصان الأشجار وتزيحها من أمام وجهه

وطال المسير. . . وأخيراً طرق أسماعهم صوت البحر وهو يهدر ويزمجر على مبعدة منهم. . . قال (توليق) موجهاً الحديث لأبيه (دعني أمض أمامك) وإلا حدثني نفسي الأمارة بالسوء أن أغمد خنجري في ظهرك)

- أمض. . . كما تشاء. . . إن الله سيغفر خطيئتك هذه. . . ويعفو عن إساءتك. . . فقد غفرت لك وعفوت عنك، إني لأعرف ما هو الحب يا بني!

وأخيراً أبصروا البحر يجثم تحتهم. . . كانت صخرتهم سامقة والظلام يسربلها. . . الظلام

ص: 55

الذي ليس له حد ولا نهاية؛ وراحت الأمواج تهدر بألحان الموت وهو يسري بين الصخور. . . وقد أخفاها الظلام يحفه القر والخوف.

قال السلطان بعد أن طبع على ثغرة الفتاة قبلة حارة (وداعاً). وقال (الجليّ) وهو يحني هامته لها (وداعاً. . .).

ألقت الفتاة بطرفها إلى ما تحتها حيث صخب الموج يردد ألحان الرهبة والجلال. . . فضمت يديها إلى صدرها وقالت في هلع وفرَقَ (اقذفا بي. . .)

فمد (توليق) يديه إليها وهو يئن ويتأوه. . . ولكن السلطان أخذها بين ساعديه وضمها إلى صدره وقبلها ثانية. . . ثم رففهما فوق رأسه وألقى بها من الصخرة الشاهقة إلى واد سحيق. . . وارتفعت ألحان الموج. . . ألحان الموت. . . أجل رهبة وأشد فزعاً. . . ولم يسمع للفتاة صيحة وهي تلقى في الماء، أو تلقى حتفها على الصخور.

وتهالك السلطان على نشز وراح يحملق في الظلام يحاول بطرفه يخترق سجف الليل. . . سجف الغيب. . . وما برحت الأمواج تلطم الصخور في جنون وهوج. . . والريح تهب عاصفة في أعقاب موكب الموت. . . تعبث بلحية السلطان العجوز.

وجلس (توليق) جواره وقد دفن وجهه بين راحتيه، لا يتحرك ولا ينبس. . . وكأنه الصخر. . .

وتقضي الوقت والسحب يطارد بعضها بعضاً في جو السماء. . . شاعت الكآبة في ثنايا الظلام الرهيب المهيب، وكأنها تلك الأفكار التي راحت تطوف سوداء بخاطر ذلك العجوز. . . وهو جاثم على هامة الصخرة السامقة، ومن تحته البحر يهدر في وادِ عميق. . . قال (توليق):

- (يا أبت. . . دعنا نمض. . .).

فنبس السلطان همساً، وكأنه يتوجس نبأة تسري في الهواء:(مهلاً) وعاد الوقت يمضي، والأمواج تتلاطم في عبث وجنون من تحتها والريح تصفر بين الأشجار كعواء ابن آوى. . . وعاد الابن يردد عبارته، فردد السلطان إجابته. . . وكان هذا التردد مراراً. . . كأن السلطان لا يبرح مكانه. . . وقد قبر فيه بهجته ومراحه. . . وأيامه الخوالي. . .

بيد أن لكل شيء نهاية، فلم يلبث السلطان أن قام نشيطاً، ولكن عابس الوجه، مقطب

ص: 56

الجبين وقال في صوت شاع فيه الجفاء:

- (هيا. . . بنا!)

وانطلقا. . . ولكن لم يلبث السلطان أن وقف قائلاً:

(لم أنطلق معك يا توليق. . . وإلى أين؟! لم أعيش بعدها؟! لم أعيش بعد أن ذهبت بعيداً عني. . . إني عجوز زلن يهوني أحد ثانية. . . وإذا يهواك فليس ثمت خير في أن تعيش بهذا الكون!).

- (إنك ذو مال! وذو مجد يا أبت!).

- دعني ارتشف من ثغرها قبلة من قبلاتها نظير هذا المال). . .

هذا المجد. . . يا بني. إن الناس جميعاً أموات في هذه الحياة والحي منهم الذي يعشق النساء. . . إن الحياة هباء بغير النساء،

يا بني. . . بارك الله فيك وفي ملكك. . . في حياتك وفي مماتك).

واتجه السلطان شطر البحر. . . فصاح (توليق) في هلع (أبت. . . أبت. . .). ولم ينطق بغير هذا. . . لأنك لا تجد الكلمات تلفظها لرجل يلقى حتفه باسماً راضياً. . . رجل آيس من حياته.

- (دعني أرحل. . .) فقال (توليق): (الله يا أبت. . .)

- (أن الله يعلم، وسيغفر لي) وبخطا سريعة مضى السلطان إلى نهاية الصخرة. . . وألقى بنفسه إلى أحضان الوادي. . . لم يسمع شيء فقد عصفت الريح إثر موكب الموت وهو يمضي في جلال. . . وراحت الأمواج تدوم هديرها، وكأنها في عراك عنيف مع الصخور. . .

- وأخذ (توليق) ينظر ويطيل النظر إلى حيث الهوة السحيقة. . . إلى حيث الموت تحت قدميه. . . ثم ارتفع صوته جليلاً ورأسه إلى السماء: (يا إلهي. . . أسألك أن تلهم قلبي الصبر والسلوان. . . وأن تغفر لوالدي وتشمله برحمتك إنك غفور رحيم).

ثم مضى عائداً إلى قصره والصمت يحف به. . . حتى غيبه الليل في مطارفه. . .).

مصطفى جميل مرسي

ص: 57