المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 648 - بتاريخ: 03 - 12 - 1945 - مجلة الرسالة - جـ ٦٤٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 648

- بتاريخ: 03 - 12 - 1945

ص: -1

‌فلسطين بين العرب والصهيونية

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

دخلت قضية فلسطين في مرحلة جديدة، أو كرت راجعة، على الأصح، إلى مرحلة قديمة. فما هذه بالمرة الأولى التي تؤلف فيها لجنة تحقيق، تبحث وتدرس وتقترح، وقد كان المأمول بعد أن تعددت اللجان، وصارت تقاريرها أكواماً أو تلالا، وصدر الكتاب الأبيض قبيل الحرب. أن لا يعاد فتح الباب على مصراعيه هذا الفتح التام كأنما هي مشكلة طارئة لا عهد لأحد بها ولم يسبق لبريطانيا نظر فيها وتدبر ودرس لها. وإنه لأمر محزن ولا شك أن يتكرر هذا كل بضعة أعوام وإن كان لا جديد هناك سوى أن الصهيونيين ضاعفوا نشاطهم ولجوا في العنف والعدوان وأغرقوا حتى وجب أن يحرموا كل حرمان. فإنه إذا كان هذا مبلغ استخفافهم بدولة قوية المراس شديدة البأس مثل بريطانيا، فمن ذا الذي يستطيع أن يأمن شرهم إذا صارت لهم - لا أذن الله - في فلسطين دولة خالصة لهم؟ أليست الدولة العربية المجاورة لفلسطين على حق جلى في مقاومتها لقيام هذه الدولة الخطرة؟

ويخطئ من يظن أن الصهيونيين تدرجوا في مطالبهم وتوسعوا فيها شيئاً فشيئاً، أو أنهم كانوا يخفون غايتهم في البداية، أو أن أطماعهم تفاقمت على الأيام. فليس مثل هذا الظن بصحيح، وتاريخ مساعيهم ينقضه. ولست أنوي أن أورد هذا التاريخ الطويل فما يتسع له هذا المقام، ولكني أذكر على سبيل التمثيل أن بريطانيا كانت قد عرضت على الصهيونيين في سنة 1903 أن تسكنهم أفريقيا الشرقية فأبوا هذا كل الإباء، وروت مترجمة اللورد بلفور - صاحب الوعد المشهور - أنه سأل الدكتور وايزمن (وهو بولندي الأصل) في سنة 1905 عن السبب في رفض الصهيونيين أن يرحلوا إلى أفريقية الشرقية، فكان رد الدكتور وايزمن أن سأل بلفور:

(هل تقبل باريس بديلا من لندن؟)

فقال بلفور: (ولكن لندن بلدي؟)

قال وايزمن: (وكذلك القدس!)

وفي سنة 1915 اقترح الصهيونيون على الحكومة البريطانية أن تعطيهم فلسطين على أن

ص: 1

تكون تحت الحماية البريطانية، ولم تكن الحرب قد دارت دائرتها على الترك، وكان الإنجليز من ناحية أخرى يشفقون أن يأخذوا بهذا الاقتراح مخافة أن يغضب فرنسا ويثير أطماع الدول الأخرى. فكتب الدكتور وايزمن إلى اللورد بلفور يقول له ما معناها إنه كانت بريطانيا لا تطمئن إلى وجود دولة غيرها في فلسطين، ولا تريد أن تبسط عليها حمايتها، فإنها ستضطر إلى اتخاذ الحيطة خارج فلسطين، وهذا الاحتياط ليس أيسر كلفة من تولى الحماية. ومن أجل هذا يقترح الدكتور وايزمن أن يستولي اليهود على فلسطين فيقوموا لبريطانيا مقام الحارس!

فالغاية لم تكن خافية على أحد، ولا كانت مكتومة أو مجهولة.

وينبغي أن يقال هنا، إن هذه المباحثات بين الإنجليز والصهيونيين كانت تدور في الوقت الذي كان السير هنري ماكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر في أثناء الحرب العالمية الأولى بكاتب المغفور له الملك حسين (وكان لا يزال الشريف حسين) بمكة. وقد انتهت المكاتبات بينهما بأن تعهدت بريطانيا بمساعدة العرب على الاستقلال والاعتراف لهم به من حدود تركيا إلى المحيط الهندي، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسط والأحمر إلى حدود إيران والخليج الفارسي، واستثنت بريطانيا ساحل لبنان إرضاء لفرنسا. ولكن فلسطين لم تكن مستثناة، بل كانت داخله في البلاد التي تعهدت بريطانيا بالاعتراف باستقلال العرب بها ومساعدتهم على الفوز به. وكان ذلك كله في سنة 1915 أيضاً وهذه المكاتبات التي انتهت إلى الإتقان، وقام العرب بثورتهم المشهورة على أثرها، تعد معاهدة بلا مراء

ويعلل بعض الإنجليز هذا التناقض في سياسية بريطانيا بأن وزراء إنجلترا كان بعضهم لا يدري بما يفعله البعض الآخر. وهو تعليل لا يقبل. لأنهم في الوقت نفسه كانوا يفاضلون الفرنسيين بواسطة لجنة (سايكس - بيكو) المشهورة، وقد جاءت هذه اللجنة الثنائية إلى مصر، وكان المندوب السامي البريطاني في القاهرة على علم بما تصنع وعلى اتصال بها

وهذا التناقض هو الذي اضطر الإنجليز إلى الاكتفاء في وعد بلفور (بإنشاء وطن قومي للصهيونيين) في (فلسطين) والاختصار على ذلك حتى تتهيأ الوسيلة لإجابة الصهيونيين إلى ما يبغون، وهو إنشاء دولة لهم في فلسطين تكون لهم دون العرب. وكل ما قام به

ص: 2

الصهيونيون في فلسطين بعلم الإنجليز وموافقتهم لم يكن إلا تمهيداً لقيام هذه الدولة.

وقد تنبه العرب وأدركوا مبلغ الخطر عليهم، ولست أعني عرب فلسطين فانهم كانوا يدركون هذا الخطر من أول يوم، وقد قاوموه وكافحوه بكل ما يدخل في الطاقة، وإنما أعني عرب البلاد الأخرى المحيطة بهم، فقد كان بعضهم أحسن إدراكا للخطر العام، من بعض، وكان كل فر يق منهم في بلاده مشغولا بقضيتها الخاصة، فالشام ولبنان في نضال مع الفرنسيين والعراق ومصر في مع نضال الإنجليز، وفلسطين المجاهدة واقفة وحدها لا تلقى من العون إلا أيسره، ولا يجود عليها أشقاءها إلا بالعطف على الأكثر، وإلا بقليل من العون لا يغني

أما الآن فتعتقد أن الخطر أصبح واضحا لا خفاء به. والفضل لعرب فلسطين في إيقاظ النفوس وتفتيح العيون على ما هو حائق بها، وما هي صائرة إليه لا محالة إذا لم يخف إخوانها إلى نجدتها. كما أن لهم الفضل أيضاً في التنبيه إلى الخطر على البلدان العربية الأخرى فليس يخفى الآن على أحد أن قيام دولة صهيونية في فلسطين يؤدي إلى ما يأتي: -

أولا - تفقد الجامعة العربية قيمتها، لأن فلسطين قلب البلاد العربية وقطب الرحى منها، فإذا ضاعت فلسطين ضعف الأمل في مكان التعاون الوثيق بين البلاد العربية على نحو يثمر الثمرة المنشودة

ثانيا - هذه الدولة الصهيونية تهدد كل بلد عربي مجاور لفلسطين، بل تهدد الشرق الأوسط كله. والصهيونيون أنفسهم يجهرون بأن الشرق الأوسط بأجمعه (مجال حيوي لهم) وسلوكهم قوامه (العنصرية) ولن يكون إلا بابا إلى النزاع

ثالثا - أقامت الصهيونية في فلسطين صناعات قد تثبت أو لا تثبت على المزاحمة الأجنبية، ولكنها على كل حال أضخم شابا وأوسع نطاقا من أن تكون فلسطين وحدها هي المقصودة بها. وقد اغتنم الصهيونيون فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأجنبية فغزوا بإنتاجهم الصناعي أسواق الشرق كله، حتى كادت مصنوعاتهم تغرق هذه الأسواق وتقتل الصناعات المحلية. ويلاحظ - على الأقل في مصر - أنهم يسعون لسيطرة على صناعاتنا؛ لشراء أسهم المصانع إذا تيسر لهم ذلك، وبالضغط الذي يتسنى لهم - حتى إذا

ص: 3

لم يشتروا الأسهم - بفضل ما لهم من التحكم في الأسواق المالية والتجارية. ومن المشاهد المحسوس الملموس أن كل عمل تجاري له قيمة يخفق إذا لم يكن عن طريقهم، أو لم تكن لهم يد فيه. فإذا قامت لهم دولة في فلسطين، فلا شك في أن مركز الثقل المالي سيكون في تل أبيب، وأن بلاد العرب جميعا ستقع تحت السيطرة الاقتصادية الصهيونية، بل الاستبعاد الاقتصادي

وقد حاولوا أن يسيطروا على صحف مصر ويتحكموا فيها، واتخذوا (الإعلانات) وسيلة إلى ذلك، ولكنهم أخفقوا في هذا، فلجئوا إلى إصدار الصحف وتأليف شركات النشر وفي مرجوهم أن يصعدوا من هذا الباب إلى التحكم في الأقلام، أي في الرأي العام. ولكن أملهم في النجاح هنا، بعد اليقظة العامة، عسير جداً

ص: 4

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 18 -

ج19 ص 252: البحتري

ومشيت مشية خاشع متواضع

لله لا يزهو ولا يتكبر

قلت: في ديوانه وفي كثير من كتب الأدب (يزهى).

في الصحاح: (للعرب أحرف لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول به وإن كان بمعنى الفاعل، مثل قولهم: زهى الرجل، وعني بالأمر، ونتجت الشاة والناقة وأشباهها. فإذا أمرت منه قلت: لتزه يا رجل، وكذلك الأمر من كل فعل لم يسم فاعله لأنك إذا أمرت منه فإنما تأمر في التحصيل غير الذي تخاطبه أن يوقع به، وأمر الغائب لا يكون إلا باللام كقولك: ليقيم زيد، وفيه لغة أخرى حكاها ابن دريد: زها يزهو زهوا أي تكبر، ومنه قولهم: ما أزهاه، وليس هذا من زهي، لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه. وقلت لأعرابي من بني سليم: ما معنى زهى الرجل؟ قال: أعجب بنفسه، فقلت: أتقول: زها إذا افتخر؟ فقال: أما نحن فلا نتكلم به). والبيت من قصيدة جيدة مطلعها:

أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر

وألام من كمد عليك وأعذر

وقد روى ابن خلكان منها سبعة عشر بيتا (فيها البيت المذكور) ثم قال: (وهذا هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قيادة، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده. وليس فيه من الحشو شئ بل جمعيه نخب).

قال الصاحب بن عباد في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي): (جرى حديث أبي عبادة البحتري وهو - يعني ابن العميد - يوفيه حقه الذي استوجبه لجزالة لفظه، وبشاشة نسجه، وغزارة طبعه، وحلاوة شعره. وقال في أثناء هذا المجلس: ما علمت أن في طبع البحتري تكلفا إلى أن قرأت قصيدته في صفة الإيوان (صنت نفسي عما يدنس نفس).

قلت: إن العربية لتحمد الله كثيرا أن كان في طبع البحتري تكلف - كما يقول الأستاذ الرئيس - حتى ينظم شاعرنا هذه القصيدة البارعة الباهرة العبقرية. ولو لم تتجل صفة

ص: 5

الإيوان في الديوان لخلا من درة يتيمة.

وأبو عبادة ثالث ثلاثة يرى ابن الأثير صاحب (المثل السائر) أنهم أشعر العرب، قال:

(والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولا وآخراً. ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون وهم: أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي، فان هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان طبعة الشعراء).

ووصف الثلاثة فقال في البحتري:

(وأما أبو عبادة البحتري فانه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأورد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينما يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق. وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه؟ فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري. ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فان أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربة إلى الإفهام).

وقد نسب قول المتنبي الذي تفضل بإيراده ابن الأثير إلى أبي العلاء. جاء في (وفيات الأعيان): (ويقال: إنه قيل: لأبي العلاء أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان، وإنما الشاعر البحتري).

وإنه ليستحيل أيما استحالة أن تفلت من الأحمدين هذه الفلتة، أو أن يتحرك لسانهما بها في المنام، وإنه كلام حاكه أديب، ومشى هذا المقول، هذا النجل مجهول النجل في الورى ذا نسبتني إن المتنبي ما كان يرى غير نفسه، وكان زهوه لا يعد الشعراء السابقين. وإلا قائلين صغيرين مبشرين بنبي في الشعر يأتي من بعدهم اسمه (أحمد)

هو في شعره نبي ولكن

ظهرت معجزاته في المعاني

وما تسع الأزمان علمي بأمرها

ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي!

وتعظيم أبي العلاء العجيب لأبي الطيب ثابت مشهور. جاء في (أوج التحري):

(وكان أبو العلاء يفضل أبا الطيب المتنبي على غيره من الشعراء كأبي تمام والبحتري وابن الرومي وغيرهم، وإذا ذكر أحدا منهم أو أورد له شيئا يقول: قال أبو تمام، قال

ص: 6

البحتري، قال ابن الرومي، وإذا أورد شيئا لأبي الطيب قال: قال: الشاعر):

ولم يكتف أبو العلاء بأن يقصر هذا الوصف على سميه بل ظلم الناس من أجله، قال ابن خلكان:

(يقال: إن أبا العلاء كان إذا سمع شعر ابن هاني يقول: ما أشبهه إلا برحى تطحن قرونا لأجل القعقعة التي في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ، ولعمري ما أنصفه في هذا المقال، وما حمله على هذا إلا فرط تعصبه للمتنبي. . . وليس في المغاربة من هو في طبقته لا من تقدميهم ولا من متأخر يهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه).

وإذا أجل نابغة الأدب العربي الطائيين، وقال فيهما في درعية:

مثل وشى (الوليد) لانت وإن كانت (م)

من الصنع مثل وشي (حبيب)

فابن الحسين عند المعري في مرتبة لا يقاعده فيها أحد.

وإذا قال أبو تمام وأبو الطيب أمثالا وحكما كما يقول البحتري (وما نرويه هو نموذج من كثير):

لولا التباين في الطبائع لم يقم

بنيان هذا العالم المجبول

ولا تقل أمم شتى ولا فرق

فالأرض من تربة والناس من رجل

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت

إلى الفضل حتى عد ألف بواحد

تطلب الأكثر في الدنيا وقد

نبلغ الحاجة فيها بالأقل

ومن يعرف الأيام لا ير خفضها

نعيما ولا يعدد تصرفها بلوى

صعوبة الرزء تلفى من توقعه

مستقبلا، وانقضاء الرزء أن يقعا

ينال الفتى ما لم يؤمل، وربما

أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر

ومن الحسرة والحسران أن

يحبط الأجر على طول العمل

إن المشيَّع لا يبير عدوه

حتى يكون مشيع الأصحاب

أرى الحلم بؤسي في المعيشة للفتى

ولا عيش إلا ما حباك به الجهل

واليأس إحدى الراحتين ولن ترى

تعبا كظن الخائب المكدود

ص: 7

إن التنازع في الرئاسة زلة

لا تستقال، وذلة لم تنصر!

ما أضعف الإنسان لو همة

في نبله أو قوة في لبه

وهل خلا الدهر أولاه وآخره

من قائم بهدى مذ كُوِّن البشر

والعقل من صيغة وتجربة

شكلان مولوده ومكتسبه

قدره مرتفع عن حظه

لا يرعكَ الحظ لم يؤخذ بحق

ليس يحلو وجودك الشيء تبغيه (م) التماسا حتى يعز طلابه

يعرف السيف بالضريبة يلقاها (م) بنبي عن الصديق امتحانه

لا أحفل المرء أو تقدمه

شتى خلال، أشفها أدبه

ولست أعتد للفتى حسبا

حتى يرى في فعاله حسبه

وما سفه السفيه وإن تعدى

بأنجع فيك من حلم الحليم

متى أحفظت ذا كرم تخطى

إليك ببعض أفعال اللئيم

وأرى الإملاق أحجى بالفتى

من ثراء يطّيبه بالملق

وأصوب رأي في الصنيعة ردُّها

إلى رجل يغنى غناء رجال

لنا في الدهر آمال طوال

ترجيها وأعمار قصار

والشعر لمح تكفي إشارته

وليس بالهذر طولت خطبه

إذا قال أبو تمام والمتنبي مثل هذه الأبيات الحكمية البحترية فهل يقال: (أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري) وليس حبيب بن أوس وأحمد بن الحسين مثل صالح بن عبد القدوس في إكثاره في شعره من الأمثال (التي لو نثرها في شعره وجعل يبنها فصولا من كلامه لسبق أهل زمانه) كما قال الملك الأديب عبد الله بن المعتز في كتابه (البديع).

ويظهر مما نقل إلينا من أقوال المتقدمين في حبيب والمتنبي أن أكثرهم وفيهم ابن الأثير نفسه فارقوا الدنيا ولم يعرفوا هذين الشاعرين، فليست براعة حبيب في أنه (غير مدافع عن مقام الأغراب الذي برز فيه على الإضراب) وليست فضيلة المتنبي في أنه (حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال) كما يقول ابن الأثير فيهما.

وللرضي هذا القول الموجز في شعر الثلاثة:

ص: 8

(سئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر، وأما المتنبي فقائد عسكر) وقد روي القول في (المثل السائر).

وللشيخ قول في حبيب في (رسالة الغفران) وهو (كان صاحب طريقة مبتدعة ومعان كاللؤلؤ متتبعة، يستخرجها من غامض بحار، ويفض عنها المستغلق من المحار).

وقال القاضي الفاضل في المتنبي، وقد روى قوله ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم):(إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس).

ومن أغرب ما يذكر في هذا المقام ما سطره ابن خلدون في الجزء الأول من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر. . .) وهو المعروف بمقدمة ابن خلدون:

(كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية - يعني الشعر - يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شئ! لأنهما لم يجريا على أساليب العرب. . .).

وقد نعيت في مقالتي (المتنبي) على ابن خلدون وعلى شيوخه إفلاتهم هذا القول أو أفتلاتهم، ومما قلت:

كلام هؤلاء الشيوخ (شفاهم الله، وشفى ناقل قولهم معهم) ليس بشيء إلا شيئا لا يعبأ به، فأساليب العرب متنوعة مختلفة، وليس هناك أسلوب واحد، ولكل قبيل طريقة، وللبدوي بلاغة، وللحضري بلاغة، وللإقليم أو المكان وللخليقة والمزاج أثر وسلطان، ولكل قرن زي ولحن، و (أحسن الكلام ما شاكل الزمان).

والدنيا في تبدل مستمر (وأحوال العالم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر)، ولكل نابغة نهج معلوم. فتنكب المتنبي عما تنكب عنه، وسلوكه السبيل الذي سلكه ما ضاراه بل ظاهراه في إبداعه ونبوغه، وكان ذلك على هذه اللغة من نعم الله.

وقد جاءنا في هذا الوقت العالم الفاضل (دكتور محمد كامل حسين أستاذ جراحة العظام بكلية الطب) بآراء في ابن الحسين وشعره في مقالة عنوانها (التعقيد في شعر المتنبي) في مجلة: (الكاتب المصري) الغراء.

ص: 9

ونحن لا نجادله لكننا نسائله (إن على (عالمنا) أن نسأله)؟،

ألا يرى دكتور محمد - وقد عاود التفكير في بحثه - أن سبب التعقيد في شعر المتنبي - وكثير منه هو في قرزمته - لم يكن ما فسر

وأن من أسبابه كون الرجل مولدا (قد تعلم العربية تعلمنا أباها في هذا الزمن) لا جاهليا أو إسلاميا يلهم تأليف القول إلهاما وأنه ما كان يفكر في القافية ليبني عليها البيت كدأب حبيب، وأن كبرياءه كانت تأخذ ما يجي في بعض الأوقات فلا يعني بتقويمه، وأنه كان يستعجل في النظم، وقد أشار ابن جني في (الخصائص) ص 332 إلى هذه السرعة. ثم إن المعاني الجديدة ليست كالمعاني المتعاورة المعهودة سهلة التبيين، وانظر إلى ابن خلدون حين كتب وابن المقفع لما نقل. وإني لأتذكر أن العلامة الدكتور طه حسين بك شبه في أحد مباحثه كلام ابن المقفع بكلام العربانيين (الفرنج المستشرقين) لاضطرابه واختلال نظامه. وعذر عبد الله وعبد الرحمن عند المنصفين ظاهر مبين.

هل يرى دكتور محمد أن مئات من الأبيات المعقدة والمهلهلة في طائفة من قصائد المتنبي - لا بضعة الأبيات التي أوردها أمثلة - يذهبن حسنات المقصدات ذوات الألوف من الأبيات المحكمة المحققة؟

وإذا استبشع صورة هذا البيت في قصيدة، والأذواق تختلف:

قد سودت شجر الجبال شعورهم

فكأن فيه مسفة الغربان

فهل يستملح هذه الصورة في القصيدة عنها:

في جحفل ستر العيون غباره

فكأنما يبصرون بالآذان

ألا يرى الدكتور محمد أن السيفيات والكافوريات والعضديات قد اشتملن على معان متنوعة، ومقاصد مختلفة، وتجلى فيهن خيال صالح، ووعين صورا رائعة للقارئين، وأنه لم تسلم من العيوب قصائد يقدرها لشاعر من الشعراء أكثر من سلامتها. لنأخذ تلك القصائد ولنترك ما نظم الرجل من قبلها وإن كان تاليه يجد فيه شيئا عظيما باهرا.

ماذا يعزو دكتور محمد بقوله: (فإعجابنا شعر المتنبي إعجاب عقلي محض أو بعبارة أخرى إعجاب بالصياغة) فان هاتين الجملتين متعادلتان لا تلتقيان. وإن قصد بالصياغة ما بعينه مغزى الكلمة في هذا لباب فإعجاب العرب بشاعرهم لم يجئ من صوب صياغته، ولو

ص: 10

حاول أن يسير في تلك الطريق المتعبة لعاصاه مزاجه، ولن يضع منه عندنا أنه لم يكن ذا صياغة. وإذا أعجبنا بقول حبيب الصائغ:

ما ترى الأحساب بيضا وضحا

إلا بحيث ترى المنايا سودا

أيما إعجاب. فقد تقبلنا قول المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

خير تقبل، ومعنى البيت واحد. والصياغة البارعة المحيرة عند الغواص الصواغ في الأول، والطبيعية البليغة الفصيحة مع المحلق في سماء القول في الثاني.

يقول الدكتور محمد: (وهو من حيث الشعر العربي قد يكون عظيما ولكنه من حيث الشعر إطلاقا لا يمكن أن يكون ذا خطر).

فمن أصحاب هذا الشعر من العرب أو العجم في مذهبه؟

ما قوله في شكسبير شاعر الإنجليز؟

ما قوله في غوته شاعر الجرمان؟

ما فضيلة هذين الشاعرين عنده؟

هل لدكتور محمد أن يروي لنا نموذجا أو نتفة من خير ما قال غوته أو من خير ما قال شكسبير أو من خير ما قال شاعر من أرباب (الشعر إطلاقاً)؟

دكتور محمد كامل حسين قد ظاهر في الفضل بين الدرعين، وقد استبد بمنقبتين، فنحن نستهدي علمه وأدبه ونستفتي غير متمثلين بما قال الصاحب للقاضي الجرجاني صاحب (الوساطة بين المتنبي وخصومه):

إذا نحن سلمنا لك العلم كله

فدع هذه الألفاظ تنظم شدورها

وأقول في ختام هذا الحديث المختصر:

لو لم يكن - يا شيوخ ابن خلدون - أحمد الأول وأحمد الثاني اللذان (ليسا من الشعر في شئ) كما لفتتم قولكم لخسر الأدب العربي أيما خسران. وإذا استغنى الإنكليز عن شكسبيرهم - وكارليل يقول (لا غنى لنا عن شكسبير) - واستغنى الجرمان عن غوته، وغوته - كما رووا - نبيهم في الأدب، كلامه قرآنهم، فالعربيون محتاجون كل المحتاجين إلى أبي الطيب وإلى أبي العلاء. ولن يزهدهم فيهما مزهدون، ولن يلفتهم عنهما لافتون،

ص: 11

وكلما تقدم العربيون وعلموا، ازدادوا علما (قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (وقل: رب زدني علما) عرفوا من فضائل الأحمدين وسائر شعرائهم وأدبائهم وعلمائهم ما كانوا يجهلون، وإنهم - وكتابهم القرآن وقائدهم محمد (صلى الإله على محمد) - لماشون في هذا الوجود اليقدمية فلن يتقهقروا، ولا يقفون

ص: 12

‌أين أنت يا مصطفى كامل؟!

رد عار 4 فبراير بمثل ما رددت عار دنشواي

للأستاذ سيد قطب

(إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعي لتأليف وزارة. فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث).

(لورد كيلرن 4 فبراير سنة 1942)

هذه المجلة ليست مجلة حزب من الأحزاب، إنما هي مجلة المثقفين من المصريين خاصة ومن العرب عامة؛ فهي بهذا ترتفع على الأحزاب، وتتوجه بجهودها إلى معنى أخلد وأسمى

وهذا القلم ليس لحزب من الأحزاب، فقد بات صاحبه لا يرى في الأحزاب إلا أقزاماً بعد ما خلا الميدان من كل جبار؛ فهو بهذا يتوجه إلى وجه مصر الخالد وهي أخلد وأسمى.

لقد أميط اللثام منذ أسبوعين عن أشنع مأساة لقيتها مصر في تاريخها القديم والحديث، المأساة التي داست كرامة كل فرد، ومست شرف كل مواطن، وأذلت كبرياء كل كريم، ومرغت في الوحل تاريخ المصريين. . .

المأساة التي كشفت الستار عن الضمير البريطاني فإذا هو ضمير لا يصح الارتكان إليه، ولا تجوز الثقة به ولا يؤمن التعاقد معه، لأن الأقوياء يستطيعون في لحظة واحدة أن ينقضوا كل ما أبرموا، وذلك الضمير هادئ مستريح!!

ولا أحب أن أسترسل في التنديد بهذه المأساة، فسرد حوادثها وحده يكفي، وهو أشنع وأدمى من كل تعليق

وهاهو ذا نقلا عن (أخبار اليوم)؟

(في يوم 4 فبراير سنة 1942 اعتدى الإنجليز على استقلال مصر أشنع اعتداء، فأحطت الدبابات الإنجليزية بقصر عابدين وصوبت إليه مدافعها، وحوصر قصر الملك فاروق بألوف الجنود البريطانيين وهم في ملابس الميدان. . وتقدمت دبابة إنجليزية فحطمت الباب الملكي ودخلت حرم القصر. . ودخلت وراءها سيارة تحمل اللورد كيلرن السفير البريطاني، والجنرال ستون قائد القوات البريطانية في مصر

(حدث كل هذا في الساعة التاسعة مساء في الظلام الدامس لأن الجرائم عادة لا ترتكب إلا

ص: 13

في الظلام

(ووقفت سيارة السفير البريطاني أمام الباب الملكي، ونزل منها السفير وقائد القوات البريطانية يتقدمهما ثمانية ضباط يحملون المسدسات في أيديهم

(وتقدم رجل التشريفات يسألهم: إلى أين هم ذاهبون؟ فدفعه السفير البريطاني بيده وقال له:

- أنا أعرف طريقي!

(وفي هذا الوقت هجم الجنود البريطانيون على حراس قصر عابدين فجردوهم من السلاح، وحاصروا القشلاق الملكي، وأراد أحد الحراس أن يقاوم القوة بالقوة، فتكاثر حوله الجنود الإنجليز وأصيب بكسر في يده أثناء المقاومة

(وفي هذا الوقت نفسه كان الجنود الإنجليز قد حاصروا جميع ثكنات الجيش المصر، وصوبوا إليها المدافع، واستعدت الطائرات البريطانية لنسف جميع ثكنات الجيش المصري إذا هو قاوم!

(وحاصر الجنود الإنجليز كذلك مراكز البوليس. . . وقطعوا جميع الأسلاك التليفونية الموصلة إلى القصر الملكي!! وحاصروا أيضاً محطة الإذاعة!

(كل هذا لكي لا يعرف الشعب في ماذا يجري في قصر ملكة!)

هذا هو الوصف المادي المحسوس للمأساة. يفور له الدم في العروق، وتهتاج له الأعصاب في الأجسام، وينبض له كل قلب بالنقمة والغضب والحماس. . .

فكيف تلقته الصحافة الحزبية في مصر الممثلة للأحزاب المصرية في عصر الأقزام؟ راحت الصحف الوزارية تتهم النحاس باشا بالخيانة الوطنية، دون أن تمس السادة الإنجليز إلا في حذر ومن وراء ستار!

وراحت الصحف النحاسية تتهم الوزارتين بالتلفيق والتزوير، وتنتحل للسادة الإنجليز كل عذر في موقفهم هذا الغشوم. فهم قوم في حرب حياة أو موت، وهم يريدون الاطمئنان إلى أنهم لن يطعنوا في ظهورهم، وهم قوم محرجون، معذورون فيما صنعوا، مبرئون فيما يصنعون!

وا سوأتاه!

أين أنت يا مصطفى كامل؟!

ص: 14

أين أنت لتعلم هؤلاء وهؤلاء كيف يردون العار الذي لطخ جبين الوطن في يوم 4 فبراير؛ كما رددت الظلم الذي حاق بمصر في يوم دنشواي؟!

لقد يكون مفهوماً بعض الشيء أن تقف الصحف النحاسية هذا الموقف من الحلفاء الذين أرسلوا للملك بهذا الإنذار. . . أما غير مفهوم، فهم موقف الصحافة الوزارية على العموم!

إنهم يحرصون فيما يقال على صفاء الجو بيننا وبين السادة الإنجليز ونحن على أبواب المفاوضات أو المحادثات!

أية مفاوضات وأية محادثات، ما دام هؤلاء السادة يملكون في كل يوم وفي كل وقت أن يرسل (سفيرهم) - لا معتمدهم ولا مندوبهم السامي - بإنذار إلى (الملك) يقول فيه:(إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن هيّان ابن بيان قد دعي لتأليف وزارة فإن الملك يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث) ثم يحضر بعد ساعات بدبابته فيحطم باب الملك كما حطمه في يوم 4 فبراير لتنفيذ هذا الإنذار. ثم يجد من (هيّان ابن بيان) كل قبول؟!

وبعد هذا كله، وبعد أن تنشر أخبار المأساة يبقى السفير البريطاني سفيراً في بلاط هذا الملك الذي حطم باب قصره بالدبابات؟!

إن المعتمد الإنجليزي لم يبق بعد حادثة دنشواي في مصر، وهي أهون ألف مرة من حادث 4 فبراير. وهذا هو الفرق الحاسم بين الأمس واليوم. والمعتمد الإنجليزي إذ ذاك هو لورد كرومر أحد بناة الإمبراطورية كما يصفه تاريخ الاستعمار الغشوم.

وا سوأتاه

أين أنت يا مصطفى كامل؟

أين أنت لتعلِّم زعماء اليوم كيف يردون العار الذي لطخ جبين الوطن في يوم 4 فبراير، كما رددت الظلم الذي حاق بمصر في يوم دنشواي؟

لقد كان مصطفى كامل طليق اليد واللسان لأن أبهة الحكم لم تكن تداعب خياله، ولأن الجمة الحكم لم تكن تلجم بيانه. ولأنه لم يكن يؤمن بضمير أحد ولا يثق إلا بمصر الخالدة على الأزمان.

أما اليوم فنحن نثق بالضمير البريطاني فنعاهده، ونؤمن بالشرف البريطاني فنركن إليه!

أيها المصريون. . . أيها العرب أجمعين. . .

ص: 15

إن مأساة 4 فبراير هي مأساة الضمير البريطاني. ومأساة الثقة العمياء بهذا الضمير.

أيها المصريون. . . أيها العرب أجمعين. . . إن مأساة 4 فبراير يجب أن تنقش بحروف من نار لتبقى في قلوب الأبناء والأحفاد تذكرهم بمأساة الضمير البريطاني، ومأساة الثقة العمياء في هذا الضمير.

وهذا ما يجب أن تكتبه الصحف عامة ولو أغضبت جميع الأحزاب في عصر الأقزام!!!

سيد قطب

ص: 16

‌تطور الاتجاه نحو وحدة عالمية

لصاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

فلما نشبت الحرب العالمية الأولى واضطربت المواصلات بين الدول والشعوب شعر سكان العالم جميعاً بما أصابهم من الضيق والعوز في مأكلهم وملبسهم وسائر حاجياتهم وظهر لكل إنسان أن شعوب العالم مرتبطة وأنها تتبادل الحاجيات بحكم الترابط الاقتصادي الذي نشأ بسبب اختراع الآلات الصناعية وسهولة المواصلات، وفي هذا الوقت الذي كان فيه العالم يرسل كل ما عنده من الاحتياطي من الرجال والعتاد في أتون الحرب ثبت عند الرئيس ولسون تفكير جديد بضرورة التعاون بين الشعوب، فبعث في 8 يناير سنة 1918 برسالة إلى الكونجرس الأمريكي تتضمن شروط الصلح التي قضى فيها على كل فكرة في تقسيم الغنائم أو فرض الغرامات أو ضم المستعمرات أو غير ذلك مما كان معروفا قبل هذه الحرب، كما أشار إلى إلغاء الحواجز الجمركية وتقرير حرية التجارة وحرية البحار وحق الأمم في تقرير مصيرها ووضع نظام دولي في صورة عصبة الأمم لفض كل خلاف.

وإذا كان ناقدو الرئيس ولسون قالوا عنه إنه خيالي فإننا نعتقد أنه أول من جرؤ أن يعلن حقيقة التطور في العالم الذي أصبح وحدة اقتصادية عالمية والذي يجب أن يكون نظامه على أساس من التعاون المتبادل لا السيطرة والسيادة، وأن كل خطأ الرئيس ولسون إن كان هناك خطأ آت من أنه فهم حقيقة الواقع بينما كان غيره لا يزال معتصما بأهداف النظم القديمة والتي أصبحت لا تلائم تطور العالم في الوقت الحاضر.

وعلى أي حال فإذا كانت عصبة الأمم وهي وليدة الحرب الماضية قد قيدت بقيود جعلتها عديمة الجدوى فإنها كانت أشبه شئ ببذور ألقيت على أرض بكر لابد أن تثمر عاجلاً أو آجلاً. ففي عام 1919 انتهز بعض رجال العمل في أمريكا اتصالهم برجال الأعمال من الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين وغيرهم واتفقوا على إنشاء غرفة تجارية دولية. كذلك أدخل في معاهدة فرساي في الباب الثالث عشر نظام إنشاء مكتب العمل الدولي.

ولا ريب أن هاتين المنشأتين وهما تبحثان عن العلاقات التجارية بين الدول وعن نظام العمل وقوانين العمال في جميع البلاد مع ما فيها من نقص وعيوب إنما هما على أي حال

ص: 17

دليل قاطع على التطور الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى نحو الوحدة الاقتصادية العالمية.

غير أن هذا الاتجاه نحو الوحدة العالمية قد ظهر بوضوح أثناء الحرب العالمية الأخيرة وبعدها، فلقد شاهدنا والحرب الأخيرة ناشبة أظفارها أن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والمستر تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يصدران ميثاق الأطلنطي في 14 أغسطس سنة 1941 ونقرأ في البند الرابع والخامس منه أنهما سيجتهدان في تمتع كافة الدول كبيرة كانت أو صغيرة غالبة أو مغلوبة في الحصول على التجارة والمواد الخام العالمية اللازمة لرخائها الاقتصادي، وأنهما يرغبان في تحقيق أتم التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية وذلك بغية ضمان الوصول إلى مستوى أفضل في العمل والتقدم الاقتصادي والأمن الاجتماعي وأنهما يأملان في وضع سلم يمكن جميع الشعوب من الحياة في مأمن داخل حدودها ويبعث الطمأنينة لكافة الناس في العالم أجمع حتى يعيشون عيشة راضية بعيدة عن الخوف والعوز، ومن الميثاق الأطلنطي هذا يمكننا أن نستنتج أمرين جديرين بالعناية أولهما: أن مهمة الحكومات قد تخطت واجباتها المعروفة من قبل إلى واجبات جديدة وهي العمل على أن يعيش الناس بغير خوف ولا عوز، ومن هنا ظهرت الحريات الأربع. وثانيهما أن ميثاق الأطلنطي الذي انظم إليه بعد ذلك الأمم المتحدة الأخرى دليل آخر على تطور الاتجاه نحو الوحدة الاقتصادية العالمية. وأن الواجب أن يوضع للعالم نظام يحقق التعاون بين كافة الأمم في الميادين الاقتصادية.

وإننا نشاهد كذلك غير هذا الميثاق مؤتمرات دولية تجتمع بين آن وآخر وكلها ترمي إلى التعاون العالمي بين جميع الشعوب في نواح مختلفة من الحياة العامة. كمؤتمر التغذية وكمؤتمر النقد وغيرهما وكلها تدل على اتجاه الفكر دائما نحو الوحدة العالمية ومن الدلائل على هذا التطور أو التوجيه نحو اعتبار العالم وحدة لا انفصام لها مشروع التعمير للأمم المتحدة والذي أنشأ إدارة من تلك الأمم ترمي إلى تنظيم أعمال المساعدة والتعمير التي تسدى إلى البلاد التي تخربت بسبب الحرب الأخيرة، ويحسن بي في هذا المقام أن أشير إلى ما صرح به المغفور له الرئيس روزفلت في 17 ديسمبر سنة 1940 أمام الصحفيين حيث قال ما معناه: افرضوا أن النار أشعلت في منزل جاري وأنني أملك طلمبة ماء يمكن

ص: 18

استخدامها في إطفاء هذا الحريق فإن واجبي الأول أن أعطي تلك الطلمبة في الحال دون أن أساوم هذا الجار فيما يدفعه لي من ثمن أو أجرة لأن تلك المساومة ليست هي أساس واجبي وإنما واجبي أن أتعاون مع جاري في إطفاء هذا الحريق.

ضرب المغفور له الرئيس روزفلت هذا المثل عند وضع قانون الإعارة والتأجير، وإذا كان الغرض من هذا القانون هو الوصول إلى النصر النهائي فإن المثل الذي ضرب من أجله يدل على رابطة المصالح وعلى ضرورة التعاون حتى لا تمتد النار من جار إلى جار، فإذا صح هذا بالنسبة لأفراد الجيران المقيمين في قرية واحدة أفلا يكون الأجدر بالدول والممالك أن يوجد بينهم هذا التعاون وقد ارتبطت مصالحهم الاقتصادية وأصبح كل منهم لا يستطيع الاستغناء عن غيره بسبب الترابط الاقتصادي الذي جاء تبعاً للتخصص في كل منها.

هذا التطور الذي حدث في الإنسانية منذ أكثر من قرن من الزمان بسبب تقدم العلم واختراع الآلات.

إن قادة الشعوب والأمم يدركون اليوم حقيقة التطور الذي وصل إليه العالم في عصرنا الحاضر وأنهم يعملون لإيجاد أداة دولية تستخدم في ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية. للشعوب جميعها وإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب وأن تعيش جميع الأمم في سلام وحسن جوار. ولقد ساعد على توجيه هذا التفكير ما قاساه العالم من الويلات في الحرب الأخيرة وما قد يقاسيه في المستقبل من الأهوال بسبب ما اكتشفه العلم من آلات التخريب والدمار كالقنبلة الذرية وما سيكتشف في المستقبل من أشعة الموت وغيرها.

وهاهو ذا آخر تصريح جديد للرئيس ترومان يذيعه على الملأ بالراديو في 27 أكتوبر سنة 1945 من واشنجتون ويبين فيه تفصيل القواعد التي تقوم عليها السياسة الخارجية للولايات المتحدة فيقول إننا لن نوافق على تغييرات أو تعديلات إقليمية في أي مكان في العالم تربطنا به علاقات ودية إلا إذا كانت هذه التغيرات مطابقة لرغبات الشعوب التي يهمها الأمر، وأننا نعتقد أن من حق جميع الشعوب المستعدة للحكم الذاتي أن يسمح لها بأن تختار بحرية نظام الحكم فيها وهذا ينطبق على أوربا وآسيا وأفريقيا مثل ما ينطبق على نصف الكرة الغربي، وأننا نؤمن بأن من حق الأمم كافة التمتع بحرية البحار وأن جميع الأمم متساوية في الاتجار والحصول على ما في العالم من مواد أولية، وإننا نعتقد أن

ص: 19

التعاون الاقتصادي الكامل بين جميع الأمم كبيرها وصغيرها ضروري للنهوض بأوضاع المعيشة في أرجاء العالم كافة ولتحقيق التحرر من الخوف والعوز والفاقة، وإننا نعزز حرية القول والرأي وحرية العبادة في كافة البلاد، وإننا مقتنعون بأن صيانة السلم بين الأمم تستلزم وجود هيئة للأمم المتحدة لها أن تستخدم القوة عند الاقتضاء لتستخلص السلم، ولا ريب أن أقوال الرئيس ترومان هي توجيه لتاريخ الإنسانية كما لا ريب عندنا أن الأحداث العالمية تدلنا على اتجاه الفكر الإنساني نحو توطيد العلاقات الطيبة نحو الوحدة العالمية، كما نعتقد أنه لا يعوق هذا التفكير والتوجيه غير ما تأصل في النفوس وتركز في العقول من النظم البالية المؤسسة على الأنانية والمزاحمة بين أمم العالم قبل أن تقوى الروابط بينها وقبل أن يتم تطور هذا الترابط الاقتصادي الحاضر.

لهذا نرى الإنسانية اليوم في مفترق الطريق بين النظم القديمة والتطور الحديث في حياة الأمم.

وكذلك نرى بعض العيوب في ميثاق الأمم المتحدة الذي تم وضعه في سان فرنسيسكو بتاريخ 26 يونية سنة 1945 ومحكمة العدل الدولية. غير أن هذه العيوب لا تحجب عنا إدراك الخطوات الواسعة في توجيه الدول المتعاقدة نحو الوحدة العالمية وضرورة تأمين الشعوب وسلامتها.

ويجمل بي قبل أن أترك هذا المنبر أن أشير إلى أنني لم أقصد بتوجيه الفكر نحو الوحدة الاقتصادية العالمية الرغبة في إيجاد إمبراطورية عالمية لأن تاريخ العالم يشهد بفشل كل محاولة نحو هذا الاتجاه فلم تنجح محاولة الإسكندر ولا الدولة الرومانية في إنشاء تلك الإمبراطورية العالمية فلكل شعب ثقافته ولغته وتاريخه، وإنما قصدنا بالترابط الاقتصادي أن نضع حدا بين السياسة والإقتصاد، فلكل شعب أي يختار شكل حكومته ولكنه يكون عضوا في النظام الدولي الذي يوضع على أساس أن العالم من تلك الناحية وحدة اقتصادية اجتماعية يجب أن توضع لها أداة تفض مشاكلها دون الالتجاء إلى القسر والقهر حتى يتم لسكان الأرض جميعاً السعادة والرفاهية في ظل التعاون بين الشعوب اقتصادياً ومالياً واجتماعياً. كما يجب أن نوجه جهودنا الفردية والجماعية ومشروعاتها نحو غاية واحدة هي الحياة القومية - فلا نقصر هذا المجهود على نيل الحرية الخارجية بل نرمي إلى تحرير

ص: 20

أفراد الأمة من القيود الداخلية وتوفير أكبر قسط من السعادة لها وإكمال حياة الأفراد في حدود العدل والنظام وأن يرتفع الناس بنفوسهم ويتغلبوا على شهواتهم لتزدهر الحضارة بسمو غاياتها والسلام.

محمد حافظ رمضان

ص: 21

‌على هامش المناظرة بين خلاف وقطب

العقيدة بين العقل والعاطفة

للأستاذ علي الطنطاوي

ذهبت مرة أزور أستاذنا (الزيات) في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبّ شئ إليّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقرب الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمها كل يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها. . . أقول إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شاباً أسمر اللون لطيفاً هادئاً تبدو عليه سيما المسالة والموادعة والإيناس، فقال لي إني أعرفك بالأستاذ سيد قطب، وأحلف أني شدهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشاب أي إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أتخيل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقيناً بأن من الخطأ البين أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضل فأهدى إلى كتابه (التصوير الفني في القرآن).

لأني لم أتخيل سيد قطب إلا مقارعاً محارباً، ولم أعرفه إلا كاتباً مجادلا مناضلا، يهاجم مهاجماً ومدافعاً ومحايدا. . . وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحاً والله جديداً، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه، وشعرت عند قرأته بمثل ما شعرت به عند قراءة (دفاع عن البلاغة) للسيد الزيات، وجربت أن أكتب عنهما فما استطعت، إكباراً لهما وإعظاماً لشأنهما، وكذلك الأثر الأدبي إذا هبط إلى قرارة الفساد أو سما إلى ذروة الجودة، أعجز النقاد وابتلاهم في الكتابة عنه بأصعب التكاليف، فأنا أقر بالعجز عن نقد هذين الكتابين، وعن نقد (شعر. . .) بشر فارس أو أبحاث سلامة موسى، لأن من تحصيل الحاصل أن تقول للجيد لا شك فيه، هو جيد، وأن تقول للفاسد المتفق عليه هو فاسد، لأنك كالذي يقول للشمس أنت مضيئة، والليل أنت مظلم!

وكتب عنه أخي وصدي الأستاذ عبد المنعم خلاف صاحب الكتاب العبقري (أومن بالإنسان)، ورد الأستاذ وكانت هذه المناظرة التي رأيت أن أدخل نفسي فيها لأقول كلمة على (هامشها. . .)، وهذه هي المرة الثانية أتطفل فيها على مناظرات الأستاذ قطب، ولكن

ص: 22

ليطمئن القراء فما هي كالأولى ولا هي منها في شيء، وأنا في هذه المرة مؤيد له وقد كنت في الأولى عليه، وهذه مناظرة هادئة باسمة، وقد كانت تلك معركة صاخبة مجلجلة كالحة الوجه عابسة، وأنا أعرف الآن الأستاذ قطب وكنت أتخيله تخيلا، والأستاذ خلاف أخي حقيقة، والأستاذ قطب رفيقي في دار العلوم سنة 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الفلسطيني الذي نشر ذلك في الرسالة إبان المعركة الأولى (معركة الرافعي والعقاد)، فأنا لست إذن غريباً عن المتناظرين.

لخص الأستاذ قطب الخلاف بينه وبين الأستاذ خلاف، في كلمات هي أنه (هل من الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة، وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود)؟ وأجاب عليها بالنفي.

وأنا أجيب كذلك بالنفي، ولكني أمهد لذلك بتحديد معنى الذهن أو العقل (كما أفهمه أنا)، ومعنى العاطفة، وهذه طريقة علمائنا في الجدل، إذ ربما اختلف اثنان، وما اختلافهما في الحقيقة إلا على معاني الألفاظ، فكل يريد بها شيئاً، وليس بينهما لفظ جامع يرجعان إليه، ويستقران من بعد عليه.

وأعترف بأن هذا التحديد لا يمكن أن يكون تاماً، ولا نستطيع أن نضع لكل من العقل والعاطفة التعريف الجامع المانع، أو (الحد) الذي يريده أهل المنطق، لأن مدلول كل لفظ يدخل في مدلول الآخر، فهما كدائرتين متقاطعتين، ففي كل قسم متميز مختص بها، ولكن فيها قسما لا يدري أهو منها أم هو من الأخرى، ثم إنه لا يصدق التشبيه ولا يكمل إلا إذا تصورت في الدائرتين حركة دائمة كحركة المد والجزر، فهما لا تسكنان أبداً.

على أن الأمم كلها قديماً وحديثا قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقر العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب، أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الألوان والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلا، فتراءى لي أن منشأه، وأن الإنسان الأول لما بدأ يصنع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عل يه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطراب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير

ص: 23

أحس بألم من رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحب، والله أعلم!

ولما سمعت البشرية ووضع علم النفس، وأقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنية على المحاكمة، والحياة الفاعلة المتعمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيوات حدوداً تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا وليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقلا لا عاطفة معه إنما نسمي كلا بالغالب عليه والظاهر فيه، فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية - واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنهها لا تخلو من محاكمة - خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذني لأنه جميل، وهذا قد لذني، فهذا جميل.

وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار. وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة تعتمد على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، وأعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطراً في نفسها، وأثراً في حياة صاحبها، وليعرض كل قارئ أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيره، ووجد أنه قل أن يعمل عملا، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.

ولا بد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟ أما فأطل العقل وأريد به القضايا العقلية المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد العقل، ومن هنا نقول مثلا إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً أو صحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، والاختلاف الذهنيين في القضية الواحدة، مع ادعاء كل منها أن حكم العقل معه.

ولا بد أيضاً من التفريق بين خير العواطف وشريرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العدوان، والحب الموصل إلى الرذيلة

ص: 24

عاطفة شر.

ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممددة مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث!

الإيمان محله القلب لأنه أكبر من أن تتسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن له حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام (إذ ذكر القضاء فأمسكوا) أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد علي الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوكا يجدها، قال، أوجدت ذلك؟ قال، نعم، قال، استعد بالله. ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها - وهاك الفيلسوف الأكبر كانت يؤلف كتاباً برأسه هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل علم ميتافيزيك) علم ما وراء الطبيعة، وجرى على ذلك إمام الفلاسفة الوضعيين أوغست كونت.

فالعقل إذن قاصر حكمه على ما يدرك بالحس، وليس عنده إلا مجموعة تجاربه الحسية، فإذا جاوزها كان كالعدم، وحسب العقل هواناً في المجردات، أنه ينكر أقدس شيئين في الوجود ولا يستطيع أن يفهمهما: الحب والإيمان.

سل العقل، ما الحب؟ ينبئك بأنه جنونّ وما الفرق عند العقل بين ليلى ولبنى وسلمى وأي امرأة أخرى، ما دامت الغاية عنده الحمل والولد وبقاء النسل؟ ومن يقدم في الحرب على الموت، هل كان يقدم لو نزعت الحماسة من نفسه وهي عاطفة وتركته لعقله ولما يحسن العقل من محاكمات جافة؟ هل يجود لولا هزة الأريحية جواد بنوال؟ هل يقبل إنسان على تضحية أو بذل لولا العاطفة؟ هل يعرف العقل إلا المنفعة؟ لقد أحسن التعبير عن العقل المتنبي حين قال:

الجود يفقر والإقدام قتال

سيقول قائل، إن أساس الإيمان، الاعتقاد بوجوده الله، فهل هو غريب عن العقل؟ لا، إن

ص: 25

الاعتقاد بوجود الله من بديهيات العقل، فلا يعيش عقل بلا اعتقاد بإله كما يقول (دور كيم)، والإنسان بهذا المعنى حيوان ذو دين، ذلك لأن تجارب العقل ومحسسات الحواس التي يستند في حكمه أليها، توصل حتما إلى الاعتقاد بوجد إله، وسواء كان منشأ هذا الاعتقاد الخوف أو التطلع إلى المجهول، كما هو مبين في كتب الميتافيزيك، فلا شك في أنه بديهي، أما ما عداه من شعب الإيمان وأركانه، كمعرفة صفات الله، والإيمان بالمغيبات، والقضاء والقدر، فلا يستطيع العقل أن يقيم الدليل على نقضها ولكنه لا يستطيع أبداً فهمها، ولا أظنني بحاجة إلى بيان الفرق بين الاعتقاد بوجود شئ وبين فهمه ومعرفة حقيقية، هذا وليس من مصلحة الدين ولا المتدينين أن تخلي بين العقل وما يجب الإيمان به، بل المصلحة بالاطمئنان العاطفي والتصديق القلبي وما يعقبه من اللذة والاطمئنان.

وهؤلاء العلماء المتكلمون الذين كانوا من رأى الأستاذ خلاف والذين حاولوا أن يجعلوا الإيمان إيمان عقل، عادوا كلهم وأنابوا واعترفوا بأن الإيمان بالقلب، هذا (ابن رشد) وناهيك به، عاد فقال في تهافت التهافت (الذي يرد به على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة): لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات شيئاً يعتد به. وهذا (الآمدى) وقف في المسائل الكبار وحار، (الغزالي) انتهى إلى التصوف والتسليم، وهذا (الفخر الرازي) قال بعد تلك المؤلفات الطوال:

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سمى العالمين ظلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن، أقرأ في الإثبات، والرحمن على العرش استوى، واقرأ في النفي ليس كمثله شئ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)

انتهى كلامه. . . وكلامي!

وعلى الأخوين الكريمين خلاف وقطب تحيتي وسلامي.

علي الطنطاوي

ص: 26

‌من محاسن التشريع الإسلامي

للأستاذ حسن أحمد الخطيب

- 8 -

تتبعه بواعث العمل ونية العامل

لا يقتصر التشريع الإسلامي في أحكامه على أعمال الإنسان الظاهرة، وارتباطها بغيره، ولا يكتفي بأثر التشريع الدنيوي، ولا بالحكم المنصوص عليه في القانون الواجب التطبيق في الظاهر

كما هو الشأن في القوانين الوضعية عامة - بل يتتبع بواعث العمل ونية العامل، فيحكم عليه حكما أخروياً، يناسب النبات، والبواعث الباطنية من مثوبة، أو عقوبة أخروية، وهذا شأن التشريع الكامل الذي يقصد إلى الإصلاح الحقيقي المؤدي إلى إصلاح القلوب. وتهذيب النفوس، فتجري المعاملات بين الناس على أساس صالح من مراعاة العدل والحق.

إنه بذلك يجعل الإنسان - في كل ما يصدر منه - تحت رقابتين: الخشية من الله والضمير، ثم الخشية من أحكام القانون؛ ولتوضيح ذلك نذكر - على سبيل المثال - أن عقد الزواج له حكمان إذا وقع مستوفياً أركانه وشروطه:

أحدهما: أثره المترتب عليه، وهي تلك الحقوق والواجبات التي تثبت لكل من الزوجين على الآخر.

وثانيهما: وصفه الشرعي الذي يرجع إلى نية العاقد، والباعث له على الزواج، قد يكون هذا الزواج حراماً، يعاقب المتزوج عليه في الآخرة إذا تيقن ظلمه لزوجته، أو نوى بزواجه الإساءة إليها، أو قرباها، لأن الزواج إنما شرع لتحصين النفس وبقاء النسل، وتحصيل الثواب، وهو بالجور يرتكب المحرمات فتفوت المصلحة التي من أجلها شرع الزواج لرجحان المفاسد الناجمة من الجور عليها. وقد يكون فرضاً، يثاب فاعله، ويعاقب تاركه إذا كان الزوج مع قدرته على واجبات الزوجية يتيقن الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج، ويكون سنة مؤكدة حال الاعتدال، فيأثم بتركه، ويثاب إن نوى تحصيناً وولداً

أتساع باب التعزيز فيه

ص: 27

من أبين الدلائل، وأقوى الحجج، وأسطع الآيات على أن الشريعة الإسلامية سمحة موطأة الأكتاف، خصبة، أقرت حرية الرأي والاجتهاد في التشريع، ما روعيت أصوله، وتحققت دعائمه وشروطه - اتساع باب العقوبات وتعدد وجوه التعزير فيها: فإن العقوبات إن كان مقدرة من الشارع على الجرائم المجترحة سميت حدوداً، وهي التي وردت في التشريع القرآني في حد الزنا والقذف والسرقة وقطع الطريق.

أما إذا كانت غير مقدرة فهي التي تسمى تعزيراً، فهو تأديب بعقوبة غير مقدرة من الشرع، ويجب بارتكاب معصية من المعاصي التي لا حد لها، كشهادة الزور، وإيذاء مسلم أو ذمي بقول أو فعل، ومنه سب المحصن بغير الزنا، والنظر إلى الأجنبية والخلوة بها، وسرقة ما لا قطع فيه.

وتقدير العقوبات على المعاصي والمحرمات. أو ترك الواجبات التي لم يرد في النصوص الشرعية عقوبة معينة لها - يرجع إلى اجتهاد الأئمة وأولي الأمر في كل زمان ومكان، وتختلف باختلاف أحوال الجرائم، وكبرها وصغرها، وبحسب حال المذنب نفسه، ولذلك كان التعزيز من أوسع الأبواب في الشريعة الإسلامية، واختلف المجتهدون فيه، وفي تحديد عقوباته اختلافاً كثيراً.

والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلام، ومنه ما يكون بالحبس، ومنه ما يكون بالنفي عن الوطن، ومنه ما يكون بالضرب، وقد يكون بالقتل إذا لم تندفع المفسدة إلا به مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما يجوز قتل الجاسوس المسلم إذا اقتضت المصلحة قتله على رأي مالك وبعض أصحاب أحمد، واختاره ابن عقيل، ومثل ذلك التعزير بالعقوبات المالية: فإنه مشروع في مواطن مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي، وجاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه بذلك من مواضع، منها أخذه شطر مال مانع الزكاة، ولإضعافه الغرم على سارق مالا قطع فيه، ومثل تحريق عليّ المكان الذي تباع فيه الخمر، وتحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية - قال ابن رشد في كتاب البيان: لصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبر أو عسل، أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك، فقد قال مالك في المدونة إن عمر بن الخطاب كان

ص: 28

يطرح اللبن المغشوش في الأرض تأديباً لصاحبه، وقد روى عن مالك أن المستحسن عنده أن يتصدق به إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع الفقراء بإعطائهم إياه ولا يهراق.

ولأن التعزير راجع إلى اجتهاد الفقهاء - اختلفوا فيه على أقوال أربعة:

الأول: أنه لا يزاد فيه على عشرة أسواط، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد وغيره.

الثاني: أنه لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود: إما أربعين. وإما ثمانين، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد

الثالث: أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية قدر الحد فيها، فلا يبلغ بالتعزير على النظر والمباشرة حد الزنا، ولا على السرقة من غير حرز حد القطع، ولا على الشتم بدون القذف - حد القذف. وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي.

الرابع: أنه بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجهد فيه ولي الأمر، ويبدو لنا أنه أعدل الأقوال، وأولاها بالقبول

ومع سعة التشريع الإسلامي ومرونته، وتركه تقدير العقوبات على الجرائم للاجتهاد بحسب المصلحة، واختلاف الأزمنة والأحوال - فيما عدا الحدود - تجرأ بعض الولاة والحكام. وكثير من الحكومات الإسلامية في عصور مختلفة، وفي عصرنا هذا على وضع القوانين مقتبسة ومأخوذة من القوانين الأوربية متوهمين أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس، ولا بسياسة الأمة، فتعدوا حدود الله وخالفوه في كثير من أحكامه وأوامره، وهو خطأ - لعمر الحق - عظيم، فإن الله تعالى أوجب على الحكام القيام بالقسط مع مراعاة ما بينه من كليات الشريعة، ومبادئها وأصولها، فحكمه دائر مع الحق، والحق دائر مع حكمه أين كان، وبأي دليل صحيح كان، كما قال ابن قيم الجوزية، فليتدبر هذا أولو الأمر من الحكومات والعلماء. وليعلموا أن الشريعة الإسلامية تسع كل ما يقر العدالة، وينشر ظلالها على الناس، فوجب جعلها الدعامة الأولى، والأساس الأول في تشريع القوانين، مدنية كانت أو جنائية من غير أن نحظر في الأحكام الاجتهادية الاقتباس من القوانين الحديثة. مما يناسب أحوالنا وأخلاقنا، ولا يخالف أصول شريعتنا. والله الموفق للسداد، والهادي إلى سبيل الرشاد

ص: 29

(يتبع)

حسن أحمد الخطيب

ص: 30

‌الحرب الخاطفة في الحروب النبوية

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

يتردد في الحروب الحديثة أسم (الحرب الخاطفة). على أنها مما ابتكره قواد هذا العصر في أساليب الحرب. واخترعوه في نظام القتال، فهي منقبة من مناقبهم، ومفخرة لهم لم يسبقهم أحد إليها، وليس هذا من الحق في شيء، لأن نبينا الأعظم محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي ابتدع هذا النظام في القتال، وكان عنده سنة متبعة في حروبه، وتقليداً يأخذ به في الهجوم على أعدائه، لأن هذا النوع من الحرب لا يكون إلا في الحروب الهجومية، فهي التي يمكن أن يؤخذ فيها العدو على غرة، وأن يقتحم عليه داره قبل أن يستعد للقتال، فيستولي عليه الدهش، ويأخذه الرعب والخوف، ولا يكلف الجيش المهاجم عناء في القتال، ولا تضحية في الجنود، ولا يشتري النصر فيه بالثمن الفادح، ولا ينال بالدماء الغزيرة، فتشابك الفرح فيه بالحزن، ويعكر صفوه الثمن الفادح الذي اشترى به.

والحرب تتبعها حروب، فإذا لم يقتصد القائد في دماء جنوده وإذا لم يختر الأسلوب الذي يشتري فيه النصر بأقل ثمن، وإذا جازف بدماء جنوده ولم يحسب للمستقبل، لا يلبث أن يأتي عليه يوم تنهك فيه قواه، ويخسر ما ربحه من النصر في حروبه.

ولهذا كله آثر النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الحروب، حرصاً على أصحابه أن تستأصلهم تلك الحروب المتوالية، وكانوا بين أعدائهم كقطرة في بحر، وكان لهم أباً رحيماً، وصاحباً رؤوفاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُمْ حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) ولم يكن بالقائد الذي يرى أن يأمر فيطاع، وينظر إلى جنده نظرة الرئيس إلى المرؤوس، ولا نظرة الأب الرحيم إلى أبنائه، والصاحب الرؤوف إلى أصحابه.

ولا غرو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبتدع هذا النوع من الحرب، لأنه كان يجمع العظمة كلها في شخصه الكريم، فكان الرسول الأعظم بين الرسل عليهم الصلاة والسلام، والقائد الأعظم بين قادة الجيوش، والبطل الأعظم بين أبطال الحروب، والمصلح الأعظم بين رجال الإصلاح، والمشرع الأعظم بين رجال التشريع، بلغ الغاية في كل نواحي العظمة ولم يصل إلى درجته فيها عظيم من العظماء.

وهذه كانت سنته في حروبه كما ذكرها أصحاب السير، ذكروا أنه كان إذا أراد غزوة وَرَّى

ص: 31

بغيرها، فيقول مثلا إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك

وكان يقول: الحرب خدعة.

وكان له عيون وأرصاد بين أعدائه يأتون بأخبارهم أولا بأول، فإذا بدرت منهم بادرة حرب كان خبرها عنده قبل أن يتهيئوا لها، وإذا بجيشه قد أتاهم من حيث لا يشعرون، وأحاط بهم من كل ناحية، وكان يستحب القتال أول النهار وهم لا يزالون في غفلتهم فإذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، فيأوي السكان إلى منازلهم، ويأخذهم أيضاً في هدوئهم وغفلتهم.

وتلك هي الحرب الخاطفة بعينها، وذلك هو أسلوبها الآن في الحروب الحديثة، وأسلوب المفاجأة، ومداهمة بلاد العدو وهو في غفلة، وإخفاء مقصد الجيش الهاجم حتى يصل إليه قبل أن يعلمه أحد، والتهويل في قوته حتى يملأ الرعب منه كل نفس، ويأخذ الخوف منه قلوب الأعداء.

ومن أظهر الحرب الخاطفة في الحروب النبوية حرب الفتح الأعظم، وهو فتح مكة موطن المسجد الحرام، فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها بحرب خاطفة يباغتها فيها مباغتة، ويدركها قبل أن تحشد له الجيوش، وتجمع له حلفاءها من القبائل، فيستو لي عليها من غير أن يقيم فيها حرباً، أو يسفك فيه دماً من أصحابه أو من أهلها، لأنها بلد مقدس لا يحل فيها سفك الدم إلا بقدر الضرورة، وفيها الكعبة، والمسجد الحرام، والحرب إذا اشتدت قد تصيبها بتخريب أو ضرر.

فتجهز النبي صلى الله عليه وسلم للسفر، ولم يخبر أحداً بقصده إلا أبا بكر رضي الله عنه، ووضع حراساً على رؤوس الطرق الموصلة إلى مكة، ي سألون من يسافر فيها عن مقصده وغايته مبالغة في الاحتياط، وقد كان لأهل مكة جواسيس وأنصار في المدينة من المنافقين، فوضع الحراس على تلك الطرق حتى لا يمكن أحداً منهم أن ينقل خبر الاستعداد لهم، فلم يكن يؤذن بالسفر فيها إلا لمن يوثق فيه من المؤمنين المخلصين، ومن لا يرى أنه جاسوس إذا سافر فيها واصل السفر إلى مكة، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم عمر عنه مراقباً على أولئك الحراس، يتعهدهم وقتا بعد وقت، حتى يقوموا بحراستهم على أكمل

ص: 32

وجه، ولا يغفلوا عنها أو يتساهلوا فيها، وقد اختير عمر لذلك لما عرف عنه من شدة واليقظة، والإتيان بتلك الحراسة في غاية ما يكون من الدقة.

وقد قام الحراس بما عهد إليهم خير قيام، ولم يمكن أحداً من جواسيس قريش في المدينة أن يفلت منها إلى مكة، الهم إلا جاسوسة واحدة كانت جارية لحاطب بن أبي بلتعة؛ وكان من المؤمنين المخلصين، ولكنه كان له أهل ومال بمكة، فأراد أن يتقرب إلى أهلها ليحافظوا على ماله ووالده فكتب إليهم كتاباً يخبرهم فيه باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم للغزو، وأنه ربما يقصدهم به وقد أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأمر تلك الجاسوسة، فانتدب لها ثلاثة من كبار أصحابه اهتماماً بأمرها، ليدركوها قبل أن تصل إلى مكة، وهم: علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، والمقداد ابن الأسود، فانطلقوا مسرعين حتى أدركوها بروضة حاح، وقاموا بتفتيشها حتى عثروا على ذلك الكتاب في عفاصها، فرجعوا بها إلى المدينة، وقضوا على هذه المحاولة التي أفلتت من تلك الحراسة.

وتم تجهيز الجيش الذي أعده النبي صلى اله عليه وسلم لفتح مكة ولم يعلم أحد ماذا أعد له، وكان عدده عشرة آلاف، ثم سار به حتى وصل مر الظهران، فأمر بإيقاد عشرة آلاف نار، مبالغة في تهويل أمره، وإلقاء للرعب في قلب من يراه ليلاً، وكانت قريش قد بلغها أن محمداً زاحف بجيش عظيم لا تدري وجهته، فأرسلت أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون خبر ذلك الجيش، فلما وصلوا مر الظهران ورأوا تلك النيران قال أبو سفيان: ما هذا؟ لكأنها نيران عرفة: فقال بديل بن ورقاء: هي نيران بني عمرو. فقال أبو سفيان: بنو عمرو أقل من ذلك.

ثم رآهم نفر من حراس المسلمين فأتوابهم النبي صلى الله ليه وسلم فاسلم أبو سفيان، وقد أوقفه عند خطم الجبل، وجعل الجيش يمر عليه كتيبة بعد كتيبة، ليرى عظمته وقوته وحسن نظامه، وينظر من اجتمع فيه من القبائل التي لا تحصى ولا تعد، ويجهز أهل مكة بما رأى من ذلك، فيملأ الرعب قلوبهم ولا يجدوا فائدة في مقاومة ذلك الجيش، ثم قسم الجيش إلى قسمين، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أسفل مكة من كدى، ودخل هو آمن من أعلاها من كداء، ولم يشعر أهل مكة إلا وجيش المسلمين يحيط بهم من كل جانب، وأصوات الأمان تتجاوب من هنا وهناك: من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل

ص: 33

المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ويسمع أهل مكة أصوات الأمان فتأخذ بهم إلى الاستسلام، ويدخلون دروهم فيغلقونها عليهم، ومن لا يدخل داره يدخل المسجد أو دار أبي سفيان، وتفتح مكة عاصمة الحجاز في لحظات، ولا يذهب في فتحها إلا ما لا يذكر من الدماء، وما كان أحد يظن بعد تلك الحروب الطويلة أن تفتح بهذه السهولة، ولكنها الحرب الخاطفة التي ابتدعها النبي صلى الله عليه وسلم.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 34

‌على ضوء الفلسفة

الأفعال الإنسانية

للأستاذ زكريا إبراهيم

من الحقائق المسلم بها أن الإنسان مضطرب إلى أن يعمل

وهو إذ يعمل، ينتشر فيما حوله بتأثير أفعاله. فنحن لا نستطيع أن نتحرك، أو أن نتنفس، أو أن نحيا، أو أن نفكر، دون أن نسجل طابعنا في الخارج. ومن المشاهد أن جو الفردية هو بطبيعته محدود ضيق النطاق. فكل فعل يصدر عن الإنسان لا يلبث أن يصبح هو نفسه كائناً حياً له طابعه الخاص الذي يدل على حياة شخصية معينة. ولهذا فإن ثمة إشعاعاً ذاتياً يسم بطابعه الخاص كل حركات الشخص وأقواله، فالفعل يعبر عن فردية صاحبه، أي عن ذاتيته الخاصة، لأنه عبارة عن نية الشخص وهي في سبيل التحقق

ومن مظاهر النشاط الإنساني تلك الرغبة الملحة التي يجدها الناس، في أن يؤثروا بأفعالهم في الآخرين، فتطبع كل منهم صورته في الآخرين، ويسمهم بطابعه الذاتي، وبذلك يحيا مع الآخرين بحيث يكونون له شهوداً وشركاء ومعاونين ومقلدين. وليس الفعل عبارة عن عمل خاص يتصل بصاحبه فحسب، وإنما هو عمل كلي يتصل بالآخرين جميعاً. وتتمثل هذه الصلة في التأثير الذي يحدثه العمل الواحد في نفوس الآخرين بعد أن يتحقق في الخارج؛ وهذا هو ما يعطي الأفعال الإنسانية كل قيمتها، لأن هذه الأفعال هي عبارة عن نيات متجسدة، وقيم أخلاقية متحققة، ومثل عليا متجسمة؛ وهي تقوم بدور المؤثر الفعال في المجتمع، لأن الأفراد يستطيعون أن يفهموا معنى تلك الأفعال، ومن المحتمل أن يقعوا تحت تأثيرها.

وللفعل الواحد قدرة غير محدودة على الانتشار، على الرغم من أن ثمة أفعالا قد تبدو لنا تافهة لا معنى لها. فلو ضربنا صفحاً عن تلك الأفعال التي لا تدخل ضمن ما يعمله الإنسان في سبيل تحقيق غايته، وأمكننا أن نقول: إنه لا يمكن أن يوجد فعل إنساني بمعنى الكلمة هو عديم القيمة بالنسبة إلينا.

وما عمله الإنسان بنفسه، أو بالاشتراك مع غيره، لا يمكن أن يكون خاصاً به وحده، أو بمن شاركه وحده؛ وإنما هو عمل خاص بالجميع، بل إنه - منذ لحظة تحققه - موجه

ص: 35

للجميع، فنطاقه واسع، وهو للأفراد الآخرين، كما هو بالنسبة إلى صاحبه تماماً. ومعنى هذا أننا لا نعمل أبداً لنفوسنا فحسب، فضلا عن أننا لا يمكن أن نعمل بمفردنا فحسب. ونحن لا نستطيع، بل على الأحرى لا نريد، أن نحتبس حياتنا داخل ذواتنا، ولذلك فإننا نعمل، عملنا لا يتم إلا بمعانة الآخرين، كما أنه لا يتحقق إلا في الخارج، أعني في وسط يضم كثيراً من الأفراد الذين يستطيعون أن يتأثروا بذلك العمل.

والفعل الواحد يقدم للآخرين أفكارنا، فهو أداة للترابط الاجتماعي، وهو روح الحياة الجمعية. وليس في استطاعة الفرد أن يعتزل وينطوي على نفسه، بل هو مضطر إلى الاتصال بالآخرين، وأفعاله تكون الوسط الذي تنشأ فيه وتصدر عنه أفعال أخرى كثيرة. ففي تربة أفعالنا، تنبت نيات أخرى كثيرة، وتزهر أفعال جديدة متنوعة!

ومن الخطأ أن نتصور أن من الممكن أن يخطئ الفرد الواحد دون أن يسيء إلى الآخرين؛ فإن كل فعل من أفعالنا يمتد في دوائر لا نهاية لها، ولا بد أن تستتبعه نتيجة تلحق بالآخرين. بل أن الفعل الواحد كثيراً ما يكون نقطة تحول في التاريخ كله! فعلى الإنسان إذن أن يعمل، وكأنما هو يتحكم في العالم بأجمعه، ويوجهه التوجيه الخاص الذي يريده هو! وقد يتقبل الآخرين أدنى منحة تقدم لهم، أو أقل فكرة تعرضها عليهم، فالفعل الواحد - مهما بدا يسيراً - قد تترتب عليه نتائج لا تخطر لنا على بال.

وليس من الضروري أن يشعر الإنسان بكل النتائج التي يمكن أن تترتب على فعله، أو كل المعاني الكامنة في هذا الفعل، بل قد تترتب على الفعل الواحد نتائج عظيمة، دون أن تكون لدى الإنسان فكرة واضحة عن ذلك. ولهذا فإن من الواجب أن نتخذ الحيطة في كل عمل نعمله، أو كل قول نقوله، لأن أدنى خطأ نقع فيه، قد يؤثر تأثيرا سيئاً في حياة الآخرين. وليس أخطر من مهمة أولئك الذين يتصدون للتربية والتعليم، لأن مسئوليتهم خطيرة في كل ما يقولونه، وما كان يمكن أن يقولوه، وما لم يقولوه حين كان من الواجب أن يقولوه! وكل نقطة غامضة كثيراً ما تكون مثاراً لكثير من التأويلات الفاسدة والآراء الخاطئة، والتطبيقات الكاذبة.

وما دامت الأفكار تنفذ إلى الإنسان من الخارج، فلا بد أن تتعرض لخطر التشويه أو التحريف أو سوء الفهم. أما إذا أدخلت تلك الأفكار في تيار الحياة نفسها، أعني إذا جعلناها

ص: 36

تنبع من الأعماق الباطنة التي تتكون فيها الحقائق الشخصية اليقينية، فإنها تصبح عندئذ أفكاراً حية حقيقية.

ومن الضروري أن يكون تأثير المدرس (مثلا) تأثيراً خفياً يسري في نفوس التلاميذ دون أن يشعروا بذلك. فالفعل الحقيقي هو الذي يتحقق دون أن يشعر به الآخرون شعوراً مباشراً. ولا بد من اتخاذ الحيطة في هذا الفعل، حتى إذ كنا على ثقة مما نقوله، وكل ما نعمله، لا بد من أن نحترس، حتى إذا اعتقدنا أننا على حق. وليس أشق من فن (التطعيم العقلي) على كل من يمارس مهنة الفعل والتأثير

والفعل الحقيقي هو الذي يتم في صمت، إن التربية لهي مدينة في تأثيرها وقوتها إلى ذلك الإيحاء الصامت الذي يمارسه المدرس، فيوجه به التلميذ التوجيه الذي يريده، في الوقت الذي يعتقد فيه التلميذ أن أفكاره إنما هي وليدة تفكيره الخاص، وأن أفعاله إنما هي نابعة من ذات نفسه! ولكن ما أعظم مسؤولية المدرس إذا أساء استعمال سلطته، فأدخل في عقل التلميذ أفكاراً غير ناضجة، أو أوحى إليه بأفعال غير مثمرة!

أما المثل الأعلى للمدرس، فهو أن يعرف كيف يجعل نفسه سلبيا خالصاً، فيختفي هو وراء الستار، لكي يكتشف الطفل بنفسه ما يتعلمه، وبذلك يكون المدرس تلميذاً لتلميذه!

زكريا إبراهيم

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية

ص: 37

‌رأى جديدة في

حمادة الراوية

للأستاذ السيد يعقوب بكر

4 -

رواية حماد

(أ) اشتهاره بكثرة الحفظ والرواية

اشتهر حماد بكثرة حفظه وروايته. حتى لقد سمى حمادا الراوية. ونحن لا نظن انه سُمَّى هكذا تمييزاً له من معاصريه: حماد عجرد وحماد بن االزبرقان، فقد كان يمكن أن يُسمَّى حماد ابن ميسرة. وفي الأغاني (ج5 ص 165) أن الهيثم بن عدى قال: ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد. وجاء في خزانة الأدب (ج4 ص 129) وفي غيرها من كتب الطبقات أنه كان من أعلم الناس بكلام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها.

وترد كثرة حفظه أخبار كثيرة. ففي الأغاني (مرة في ص 164 - 165، ومرة أخرى في ص174)، وفي معجم الأدباء (ج4 ص 137)، وفي وفيات الأعيان (ص 240 ط باريس)، وفي خزانة الأدب (ص 129)، وفي تحفة المجالس ونزهة الجالس للسيوطي (ص)، أن الوليد بن يزيد قال لحماد: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك حماد الراوية؟ قال: لأني أروى لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف بأنك لا تعرفهم ولا سمعت بهم، ثم لا أنشد شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من المحدث. قال: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية. قال سأمتحنك. وأمره الوليد بالإنشاد، فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استخلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه؛ فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر بمائة ألف درهم.

وفي الأغاني (ص 164) أن مروان بن أبي حفصة الشاعر قال: دخلت أنا وطُريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده كلما انشد شاعراً وقف الوليد ابن يزيد على بيت

ص: 38

من شعره وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر؛ فقلت: من هذا؟ فقالوا حماد الراوية.

ويقول أبو الفرج (ص 173): (قال حماد الراوية: أرسل إلى أمير الكوفة فقال لي: قد أتانا كتاب أمير المؤمنين الوليد ابن يزيد يأمرني بحملك. فحملت، فقدمت عليه وهو في الصيد، فلما رجع أذن لي، فدخلت عليه وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه. فقال لي: أنت حماد الراوية؟ فقلت له: إن الناس ليقولون ذلك. قال. فما بلغ من روايتك؟ قلت: أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها: بانت سعاد. فقال: إنها لرواية). وواضح أن هذه القصة وقعت قبل تلك القصة التي كانت لحماد مع الوليد أيضاً، والتي تقدم ذكرها. قد قدمنا تلك القصة على هذه لاشتهارها وورودها في معظم كتب الطبقات فقد كان حماد إذن مشهوراً بكثرة الحفظ والرواية. وهي شهرة هو جدير بها وحقيق. فليس عهدنا بالمعاصرين أن يتزيدوا على المرء بالفضل والسبق، وإنما عهدنا بهم أن يحطوا من قدره ويهونوا من أمره.

(ب) جمعه المعلقات السبع ورواية معظم شعر امرئ القيس

في نزهة الألباء للأنباري (ص 43) وفي معجم الأدباء (ص140)، وفي وفيات الأعيان (ص240) أن أبا جعفر أحمد ابن محمد النحاس ذكر أن السبع الطوال من جمع حماد الراوية؛ وفي نزهة الأباء ومعجم الأدباء وحدهما أنه لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة.

أما أن العرب الجاهليين لم يختاروا المعلقات ولم يفضلوها على غيرها من الشعر، فهذا ما لا نستطيع الأخذ به. ذلك لأننا لا نرى مانعاً من ذلك. فالعرب الجاهليون قوم شغلوا بالشعر، فقالوه، ورووه، وأقاموا الأسواق لإنشاده ونقده. وقوم هذا شغلهم بالشعر لا يصعب عليهم تفضيل بعضه على بعضه واختيار بعضه دون سائره.

فالمعلقات إذن قد تكون من اختيار العرب القدماء. وهو ما لا يراه ابن النحاس النحوي المصري. ويؤيدنا في رأينا هذا ما يقوله ابن النحاس نفسه من أن حماد الراوية. لما رأى قلة من يعنون بالشعر، جمع هذه القصائد السبعة. وحث الناس على درسها، وقال لهم: هذه هي المشهورات. ولفظ المشهورات هنا هو بيت القصيد. فهو يدل على أن القصائد السبع

ص: 39

كانت، قبل أن يجمعها حماد، مفضلة على غيرها، وهو فضل يرجع في أغلب الظن إلى اختيار العرب الجاهليين إياها.

وأما أن العرب الجاهليين لم يعلقوا القصائد السبع على الكعبة، فهو ما نوافق ابن النحاس عليه. فقد بيننا في الفصل السابق من هذا البحث كيف أن الكتابة العربية قبل الإسلام لم تكن صالحة لأن تدون بها الأشعار. ونقول هنا (مستندين إلى ما يقوله المرحوم الأستاذ طه أحمد إبراهيم في كتابه تاريخ النقد الأدبي عند العرب ص 23) إن ابن عبد ربه، وهو أندلسي من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، أول من ذكر تلك القصة، قصة تعليق القصائد السبع على الكعبة؛ وإن إغفال المشارقة قبله هذه القصة كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ والمبرد، وكتبهم من أمهات كتب الأدب، تجريح لها وإغراء برفضها.

فخلاصة رأينا هي أن المعلقات السبع من اختيار العرب القدماء في أغلب الظن، وأن حماداً هو الذي جمعها بعضها إلى بعض وجعل منها جملة معروفة، وأن تسميتها بالمعلقات لا تعني أنها علقت على الكعبة أو في داخل الكعبة.

فإذا سئلنا عن معنى كلمة المعلقات، أجبنا أنها تدل على الجودة والنفاسة، وأنها هنا على المجاز لا على الحقيقة. ومثلها في هذا كلمة السموط التي تطلق أيضاً على السبع الطوال. وهذا الإطلاق المجازي في غير حاجة إلى الشرح. وقد تكون كلمتا المعلقات والسموط من إطلاق العرب القدماء كما قد تكونان من إطلاق حماد، كما يرى نولدكه في كتابه ? (ص22). ويرى هيار (ص9) وتشارلز ليال في كتابه:(المقدمة، ص45) أن كلمة المعلقات من إطلاق حماد. ثم إن للسبع الطوال اسماً آخر هو المذهبات، قد يكون من إطلاق القدماء، وقد يكون من إطلاق حماد. وواضح أن القصة لتي يذكرها ابن عبد ربه من أن العرب كتبوا السبع الطوال بماء الذهب في نسيج من صنع أقباط مصر وعلقوها بأستار الكعبة، واضح أن هذه القصة إنما نشأت من تسمية هذه السبع الطوال بالمعلقات أو المذهبات، ثم أخذ هذه التسمية على وجهها الحقيقي لا المجازي.

والآن، وقد بسطنا رأينا في المعلقات: اختيارها، وجمعها، وتسميتها، نعود فنناقش مقالة بعض المستشرقين في اختيارها، ونبين ما تنطوي عليه من زيف وخطأ.

يقول نولدكه في بحث له عن المعلقات (الموسوعة البريطانية، المجلد 15): (لم يكن من

ص: 40

المتيسر للعرب القدماء إطلاقا أن يختاروا هذه القصائد السبع. وأكبر الظن أننا مدينون بهذا الاختيار لأحد العلماء المتأخرين. . . وقد كان حماد (الذي امتدت حياته في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن الثامن الميلادي) المتفرد في عصره بحفظ أغلب الشعر العربي. وكان عمله رواية الشعر. فاختيار الشعر مما يصح من رواية مثله من كل الوجوه. ثم إن هناك حقيقة أخرى يبدو أنها تؤيد جمع حماد المعلقات. فقد كان فارسي الأصل، ولكنه كان مولى لقبيلة بكر بن وائل العربية ونحن نظن أن هذا حدا بحماد إلى ألا يقتصر على ضم قصيدة لطرفة الشاعر المشهور، فضم قصيدة بكرى آخر، هو الحارث، الذي كان زعيما شهيرا، وإن لم يكن شاعرا مبرزا؛ وإنما ضم قصيدته لأنها تصلح لمعارضة قصيدة أخرى في المجموعة هي تلك الأبيات المشهورة التي قالها معاصره عمرو، زعيم قبيلة تغلب، منافسة أختها بكر. . .)

(يتبع)

السيد يعقوب بكر

ص: 41

‌رحيل.

. .

للأستاذ فريد عين شوكة

كرهتُ عجيجك يا (قاهرهْ)

وضقت بعيشتك القاترةْ

وشاه بعيني فيك الزحام

يزيد على الحشر في الآخرة

ملايين مائجةٌ بالنهار

وفي الليل صاخبةٌ ساهرة

تضيق بها سبلك الواسعات

وأبياتك الرحبة الزاخرة

صحبتك في الحرب حتى المدى

فكنت بك الصفقة الخاسرة

وعانيت فيك الغلاء العضوض

وذقت تباريحه القاسرة

وقاسيت فيك اضطراب المقام

فما فيك من كوّةٍ شاغرة

أروح هناك وأغدو هنا

كرحالة لم يُرح خاطرة

وألقي المتاعب في فُندُقٍ

تضيق به نفسي الحائرة

فأمضي إلى الريف عند المساء

وألقاك في الغدوة الباكرة

وكم ذقت فيك عذاب الطريق

وما فيه من نُوَبٍ كاشرة

أسير أحاذر من مصرعي

بصدمة سيارة سادرة

وأسعى كأني بها طائرٌ

تطارده الأنسر الكاسرة

وإما ركبت. . فإني على

شفا حفرة للردى فاغرة

فحيناً على جنبات الترام

وحيناً على سلم القاطرة

وطوراً بسيارة يحشرون

بها الناس كالسلع البائرة

إذا أحسنتْ عطّلتْ رَكْبها

وإن جمحت فهو في الحافرة

هي الحرب يا منيتي شوهت

محاسن أيامك الغابرة

أحالتك مثل لهيب اللظى

وقد كنت كالسرحة الناضرة

صبرنا لعلك عند السلام

تعودين فتانة ساحرة

فننعم في ظلك المشتهى

ونستاف أنسامك العاطرة

ولكنه. . . أمل ضائع

وأمنية نفرت ساخرة

فعذراً إذا ما رغبْتُ القرى

أريح بها مهجتي الثائرة

ص: 42

فلن تستقر لديك الحياة

وأنت عل الحالة الحاضرة

ص: 43

‌من صور الحياة

للدكتور عبد الجبار جومرد

ساءها أن بدا علي شحوب

وكسا جانب الشباب مشيب

وغضون تقاطعت بين عيني

كما لاح غامض مكتوب

عهدتني فتى طروباً وهل

يبقى على حالة شجٍ أو طروب

طوحت بي شواسع فإذا ما

جئت أهلي ظننت أني غريب

وبلوت الأيام حتى بدا من

أسهم الدهر في فؤادي ندوب

ربما أنت في ربيع شباب

شبت فيه وجرحتك الخطوب

مثلما تعبث الأعاصير بالزهر

فيذوي والغصن غض رطيب

كلما كنت مرهف الحس نا

بتك من البث والهموم ضروب

فالسعيد الذي يعيش بليداً

والرقيق المعذب المسلوب

وحياة الأديب حرب وفيها

قلما يربح الصراع الأديب

كم من الخالدين في صفحة ال

مجد قضى وهو بائس محروب

فإذا كان للزمان ذنوب

فمن الناس قد تجئ الذنوب

إنما الناس في الحياة وحوش

ضاريات والفاتك المرهوب

فكثير من النفوس وضيع

وقليل منها الرفيع النسيب

لا يغرنك مظهر من وجود

إنما ظاهر الوجود كذوب

فلقد سحر العيون جبين

تحته من شراسة الطبع ذيب

ولقد تبسم الشفاه وفي الصد

ر من اللؤم في الضلوع دبيب

قلما يصنع الجميل فتى ما

لم يكن في جميله مطلوب

لا تكن مسرعاً بحكمك في النا

س فما كل نائح منكوب

كم غني يشكو من الشح عدماً

وعديم فيه سماح وطيب

وكثيراً ما يعدم النوم مسرور

ويغفو في حزنه مكروب

وتخال الشوهاء حيناً ملاكاً

من جمال وحسنها مجذوب

منظر يضحك العيون ويبكيها

أساً لو سرها المحجوب

ص: 44

ينهب البعض لو أُتيح له البع

ض وكل من غيره منهوب

ملئوا جانب الطريق شباكا

حولها ألف مرصد منصوب

نصبوها وكلهم واقع فيها

ولم ينج مائق أو أريب

وأضافوا على الحقيقة ألواناً

فجاءت ووجها مقلوب

فالذي يحسن النفاق يسود

القوم وهو المكرم المحبوب

والذي يعشق الصراحة في

مسعاه يرتد خاسئاً ويخيب

أنت في الناس رابح إن ترفع

ت وإلا فخاسر مغلوب

ص: 45

‌البَريدُ الأدبيّ

الدين والوحي والإسلام

لمعالي مصطفى عبد الرزاق باشا

من المباحث الشائكة؛ الحساسة؛ التي تلقى في روع المتصدي للخوض في غمارها شيئاً كثيراً من التهيب والتوقير لما تنطوي عليه من دقة؛ وما يلابسها من الشعور بالقداسة نحوها؛ تلك التي تدور حول الدين والوحي والإسلام؛ وحسبك أنها الدعائم التي تنهض عليها الحياة الروحية للإنسانية؛ وقد وفق - الوزير الفيلسوف - في جلائها؛ والكشف عنها بهذا المنطق الرزين؛ الحصيف؛ وهذا الأسلوب المشرق الأخاذ؛ وهذا الإيجاز المركز؛ فهو يتناول الموضوع ويسلسله في كل الأطوار التي اجتازها؛ والمراحل التي قطعها؛ حتى يتسنى عرضه في مختلف الصور التي تبدي فيها؛ ثم يعقب بما يراه؛ فإذا أخذ في الكلام عن الدين عرض لك تحديد الدين وبيان أصله في نظر الفرنجة؛ ثم بداية الاهتمام بهذا المبحث؛ وصلة ذلك بتكون علم اللغات؛ ومعاني الكلمة الأوربية؛ ومذاهب علماء النفس والاجتماع في أصل الدين؛ ومناقشة التعاريف المختلفة للدين؛ ثم ينتقل إلى الدين في النظر الإسلامي؛ فيعرض لكلمة دين العربية؛ وأصل المادة؛ ومعانيها؛ ثم يعرض لها في لسان القرآن والشرع وعند الفلاسفة الإسلاميين؛ والفرق بين الدين والفلسفة؛ حتى إذا استوفى الكلام على الدين اتجه إلى الوحي: فبين معانيه في اللغة والقرآن والسنة؛ وعرض أهم النظريات في تفسير الوحي؛ فيعرض لمذاهب المتكلمين والفلاسفة والصوفية؛ ومذهب ابن خلدون؛ والوحي عند المسلمين في العصور الحديثة؛ ثم ينتهي بالإسلام؛ فيعرض للنظريات المختلفة في العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي لكلمة إسلام؛ ثم يستخلص الرأي الراجح في هذا الموضوع؛ بهذا الأسلوب العلمي الدقيق درس هذه النواحي دراسة متقنة جيدة؛ وببيانه الرصين أحكم صوغها؛ مما جعل القارئ يقبل على هذه الأبحاث الجافة في شوق، ويستمرئها في عذوبة.

محمد عبد الحليم أبو زيد

على هامش مؤتمر التعليم بالقاهرة:

ص: 46

في حديث الدكتور مشرفة دعوة حارة للسمو بالتعليم فوق الحزبية والأحزاب. وإذا تم هذا فسيكون حقاً من أهم العوامل التي تساعد على تحقيق الأهداف التعليمية.

لكن سمو التعليم فوق هذه التيارات السياسية أو الأحزاب السياسية معناه أن تسمو الجماعة التي تعني بهذه الشئون التعليمية.

وهذا يتصل بالناحية الاقتصادية اتصالا وثيقاً.

فالضغط الاقتصادي كثيراً ما يملي على الأفراد والجماعات نوعاً من السلوك والأخلاق.

ووضع البلاد السياسي الآن يتطلب إلى حد كبير مجهوداً غير عادي لتحسين الناحية الاقتصادية أو على الأصح لا يساعد على تحقيق الرغبة الصادقة في التحسين الاقتصادي المنشود. فالسمو بالتعليم فوق الحزبية أو التيارات السياسية مرتبط تماماً بالناحية الاقتصادية للبلاد.

فكلما اتسع نطاق الفقر عجزت الجماعة وخضعت تحت الضغط الاقتصادي لنوع من السلوك والأخلاق، واستطاعت الجماعات الحزبية أو السياسية أن تجد المقومين لهذه الأحزاب وهؤلاء هم المادة التي يرتقي عليها القادة السياسيون.

وإذاً فمن الناحية العملية أو الواقعية لا يبنى سمو التعليم إلا على سمو الاقتصاد في بلد ظروفها كظروف مصر الآن.

تقرير اللجنة:

وجاء في تقرير اللجنة أن هناك وسائل لتحقيق الأهداف التي منها خلق روح الاعتماد على النفس وما إلى ذلك.

ولكن إذا استطاعت المدارس أن تحقق هذا في محيطها مما يتصل بها مثل أوجه النشاط المدرسي المختلفة. فالطلبة أو التلاميذ يحيون في داخل دورهم العلمية مع أساتذتهم كمن يحيون في المدينة الفاضلة، ثم إذا ما خرجوا إلى المجتمع أو معترك الحياة، وجدوا مجتمعاً كبيراً لا يعرف هذه المدينة الفاضلة، بل ينكرها ويكفر بكل مبادئها.

فلم يكن بد من أن يسعى صاحبنا أو أصحابنا الطلاب لأن يلائموا بين أنفسهم وبين المجتمع الذي تفرض عليهم ضرورة الحياة الاتصال به.

ص: 47

لذلك أرى من الوسائل التي تساعد إلى حد ما على تحقيق الأهداف وتساعد على التوفيق بين المثل العليا المنشودة وبين الحياة الواقعية ما يأتي:

1 -

أن تتجه السياسة التعليمية إلى محاولة جعل التعليم أهلياً أكثر منه حكومياً مع قيام الالتزامات الحكومية التي لابد منها كما هو الشأن في بعض البلاد المتقدمة.

2 -

ألا تكون قبلة الطلاب أو المتخرجين الحكومة، وهذا لا يتحقق مطلقاً إلا إذا كثرت المشروعات وقامت المؤسسات المركزة وخضعت المؤسسات الأجنبية لما تتطلبه مصلحة البلاد.

إذاً لا يقع اللوم حقيقة على هؤلاء الذين أهملوا دروس الاعتماد على النفس وما إليها.

فالمسؤولية الاجتماعية موزعة وكل هيئة أو جماعة لها واجبها. فجماعة المعلمين إذا اعدوا الطلاب من جانب، لابد أن تكون الصلاحية في الحياة من جانب آخر.

فالشبان لم ينجحوا في أوربا أو غيرها لأن المدرسة قد وفقت في خلق روح الاعتماد على النفس والقدرة على التصرف في الحياة فحسب، ولكنهم نجحوا لهذا، ولأنهم وجدوا الصلاحية في الحياة.

فالهيئات الأخرى قد قامت بواجبها، ولأن المجتمع لم ينكر مبادئ فضلا عن الكفر بها.

فالبيئات الاجتماعية متشابهة متعاونة لا يهدم عمل بعضها البعض الآخر.

3 -

هذه الأندية السياسية البانية الهادمة، إذا رغب القادة من الساسة في أن يساهموا في بناء المجتمع من الناحية الخلقية، إلا تقبل هذه الأندية السياسية من الطلاب إلا هؤلاء الذين أكملوا دراستهم الثانوية واتصلوا بالمعاهد العالية، أو هؤلاء الذين عدلوا عن مواصلة الدراسة، فاتصلوا بالمجتمع اتصالا فعليا وكانا فيه من الأعضاء العاملين.

بيت السودان بالدقي

محمد أحمد باجي

ص: 48

‌الكُتُب

المسئولية والجزاء

للدكتور علي عبد الواحد وافي

بقلم الأستاذ سعيد زايد

أستاذنا الدكتور علي عبد الواحد وافي عميد علم الاجتماع في مصر بلا منازع، فهو قد درس مسائله دراسة وافية دقيقة تبين للمتأمل في كتبه القيمة والمستمع لمحاضراته في كلية الآداب.

وعلم الإجماع الصحيح - وأقصد به التابع للمدرسة الاجتماعية الفرنسية - علم حديث في مصر لم يخلص بعد من التيارات المنازعة أو بمعنى أصح من المخالفين لمنهجه، وهم على وجه العموم يتبعون المدارس الإنجليزية والأمريكية، وتنحوا المدارس الأولى منحى بيولوجيا بينما تنحو الثانية منحى عمليا، وأغلب الظن أن معارضة المعارضين للمدرسة الفرنسية إنما ترجع إلى عدم الفهم الصحيح لأسس التي تضعها لعلم الاجتماع، ولسنا هنا في مقام سرد حججهم والرد عليها، ولكنا نحب أن نقول إنه من حسن الحظ أن قيض الله للمدرسة الفرنسية عالما فهم دقائق علمها وأخرجه لقراء العربية واضحا لا يحتاج إلى جهد كبير في الفهم، وسيأتي اليوم الذي يميز فيه الناس بين الخبيث والطيب، ويتحقق البقاء للإصلاح.

الكتاب الذي بين أيدينا أحد مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية، وموضوعه المسؤولية والجزاء، ويتكلم فيه الأستاذ عن الأسس التي تقوم عليها المسؤولية كلام عالم استوعب جميع الجزيئات فأتت أحكامه عامة شاملة لا يتطرق إليها النقص، وهو وإن أملى عليه تواضعه بأن يقول بأنه اعتمد كثيرا على مؤلف أستاذه فوكونية في المسؤولية إلا أن الأخير لم يدرس الناحية الإسلامية ولم يحاول بالتالي أن يتكلم عن مظاهر المسؤولية في المجتمعات الإسلامية، بينما ترى هذه الناحية لم تغب عن ذهن أستاذنا فأدخلها ضمن مؤلفه القيم، فموقفه يتلخص في أنه فهم منهج علم الاجتماع على يدي علماء المدرسة الفرنسية الاجتماعية فهما صحيحا. ثم استطاع أن يطبقه على دراسة أية ناحية من نواحي

ص: 49

المجتمعات المختلفة، وحبذا لو فهم جميع علمائنا الآخذين من الثقافة الغربية مناهج علومهم صحيحا ثم حاولوا بعد ذلك أن يدرسوا نواحي جديدة وهم مسلمين بأسس الدراسة الصحيحة، إذن لظهرت ذاتيتهم ورأينا مؤلفات تقف بجانب مؤلفات الغربيين في ميدان التفاخر لا كما نرى الآن صورا مشوهة من مؤلفات الغربيين نقول إن أستاذا قد استوعب جميع النواحي حين أراد أن يكتب مؤلفه. وتسلح بالمنهج الصحيح لعلم الاجتماع وهو منهج ذو شعبتين: الشعبة الأولى تتناول الظاهرة الاجتماعية من الناحية الوصفية فتبين تاريخها وتطورها وخصائصها وأشكالها، والشعبة الثانية تتناولها من الناحية التحليلية فتحاول على ضوء الدراسة الوصفية تحليل ما بها من حقائق، وتوازن هذه الحقائق بعضها ببعض إلى أن تصل إلى بيان دعائمها العامة، وبالتالي إلى كشف القوانين التي تخضع لها. فكشف القوانين هو غاية العالم، لقد التزم أستاذنا الدقة في تطبيق هذا المنهج في مؤلفه الذي بين أيدينا، فتكلم في الفصل الأول عن أهلية الشخص للمسؤولية فبين أنه ليس فقط الإنسان الحي العاقل الرشيد الذي لا يكون شخصا معنويا كما تقول بذلك قوانينا الحديثة؛ بل إن هناك مسؤولية لغير، فالمجتمع لا ينظر في تقدير الجزاء وأهلية الكائن نفسه، بل إلى الجريمة ومدى قوتها ومبلغ اعتدائها على نظمه الأساسية وأثرها في حياته العامة. وفي الفصل الثاني يتكلم عن الحالات المولدة المسؤولية، فبين أن المسؤولية لا يشترط فيها كما تقول القوانين الحديثة أن يرتكب الكائن جرما ماديا وأن يكون هذا الجرم المادي قد حدث عن قصد وإرادة. بل إن هناك مسؤولية تنشأ عن عمل نفسي بحت وأخرى عن عمل مادي بحت وثالثة عن عمل لم يقصده الكائن ولم يصدر عنه بالملابسة بل بالانتقال، ويخلص من هذا الفصل بحقيقتين: إحداهما أن المسؤولية الفعلية وما يترتب عليها من جزاء يتولدان عن حدوث ما يرى المجتمع أنه لا يصح حدوثه بقطع النظر عن الصورة التي حدث بها الجرم. والثانية أن المسؤولية الفعلية وما يترتب عليها من جزاء لا تقعان إلا على كائن يمت إلى الجريمة بصلة ما سواء قصدها وأحدثها، أو قصدها فقط ولم يحدثها، أو أحدثها ولم يقصدها أو انتقلت إليه من كائن يمت إليه بصلة ما. . . وفي الفصل الثالث يتكلم عن نظريات المسؤولية والجزاء ويناقشها، ولا يتسع المقام هنا لإعطاء صورة هذا النقاش ولكنا نحب أن نذكر أن أستاذنا قد فند القول بالنظريات الفلسفية والنظريات التاريخية وخلص من

ص: 50

ذلك إلى الدعائم الصحيحة للمسؤولية والجزاء وهي التي تكلم عنها في الفصل الرابع ويلخصها في أن سبب المسؤولية هو حدوث ما يرى المجتمع أنه لا يصح حدوثه، وأن العقوبة تتجه نحو الجريمة نفسها والمجتمع في إصابته للمجرم إنما يتجه نحو الجريمة نفسها وان الوظيفة الاجتماعية للمسؤولية والجزاء هو أن تصان حياة المجتمع وتظل حدوده بمأمن من الاعتداء، ولكل مجتمع منهجه الخاص في تحقيق هذه الوظيفة.

هذه خلاصة - لا أزعم أنها وافية - لفصول الكتاب، ولا أدعي أنها تغني عن قرأته، وضح لنا منها أن المسئول ليس الشخص الذي تعرفه قوانيننا الحديثة بأنه الحي العاقل. . . الخ بل إن بعض المجتمعات قد أوقع مسئولية على الجماد والحيوان الميت. . . الخ ولا غضاضة في ذلك فلسنا هنا بصدد أحكام قيمية ولكنا بصدد تسجيل ظواهر ارتضاها العقل الجمعي في وقت من الأوقات. فنظم المسؤولية والجزاء - كغيرها من النظم الاجتماعية - ليست من صنع الأفراد ولكنها (تنبعث من تلقاء نفسها من العقل الجمعي واتجاهاته وتخلقها طبيعة الاجتماع وظروف الحياة، وتتطور وفق نواميس عمرانية ثابتة لا تستطيع الأفراد سبيلاً إلى تغييرها أو تعديل ما تقضي به، وإن القادة والمشرعين ليسوا من هذه الناحية إلا مسجلين لاتجاهات مجتمعاتهم ومترجمين عن رغباتها وما هيئت له فإن انحرفوا في هذا السبيل كان نصيبهم الإخفاق المبين).

بقي سؤال وهو: هل القول بالعقل الجمعي يتضمن القول بالجبرية المطلقة وبذلك يتعذر الإصلاح؟ كلا إن (مجال الإصلاح في هذا النظام أوسع منه في أي نظام آخر) ولا شك أن إصلاحا يقوم على فهم لميول المجتمع ورغباته ويسير به سيرا حثيثا إلى الرقي لهو أنفع وأجدى من إصلاح جل همه التقليد ثم الارتجال بدون دراسة لعقليات المجتمع ويكون مصيره الفشل. فعلماء الاجتماع لا يقفون بعلمهم موقفا عقيما لا يقصدون به سوى الدراسة واستخلاص القوانين، بل إنهم في دراستهم هذه إنما يدعون عون القادة والمشرعين والمصلحين إلى التعمق في معرفة عقلية المجتمع وميوله ومقدار استعداده لتقبل الإصلاح وإلا ذهبت جهودهم أدراج الرياح

وبعد، فان كتاب المسؤولية والجزاء خليق بأن يقرأ وبأن يكون هدى وتبصره لمن يريدون الإصلاح المنتج.

ص: 51

سعيد زايد

ليسانسية في الفلسفة والاجتماع

ص: 52

‌خان الخليلي

للأستاذ نجيب محفوظ

بقلم السيدة وداد سكاكيني

من خصائص هوجو في قصصه أنه طويل النفس في إنشائها، مسترسل الوصف لشخوصها، أنه ليفيض في تصوير الشاعر كرنكوار أحد أبطال رواياته فلا تنتهي من وصفه بصفحات إذ يبدأ رسمه إلى أخمص قدميه، فذكرني بهذا الفن المسهب قصة جديدة للأديب الموهوب نجيب محفوظ، سماها (خان الخليلي) وقد عجبت لفن فتى اكتمل قبل الكهولة، إنه ليصف لنا أحمد عاكف بطل قصته، فيصوره من طرة طربوشه إلى كتابة العلية، وكان بقلمه تلاوين الرسامين. على أن القاص لا بد أن يوطد قلمه على مثل هذا الإمعان في التصوير والتحليل، لا سيما إذا كانت روايته تقع في نحو من خمسين فصلا، وكذلك كان هوجو في روايته البؤساء ونوتردام دوباري.

وقد كان من نهضة الفن القصصي في بلاد الغرب أن رأينا أدباء مبرزين في أثارهم التي كتبوها مستوحاة من آفاقنا وأساطيرنا، فأديب البؤساء الذي كتب (المشرقيات) له أنداد من قومه شغفوا بالقصص عن المشرق والشرقيين، فرومان دورجليس حين دار بلاد الشام أوحى إليه فنها العريق أن يكتب روايته المشهورة (قافلة بغير جمال) وقد غفل أدباؤنا عن هذا الفن الخصيب فبقيت أقلامهم مكفوفة عن ذخائرنا حتى يأتيها كاتب غربي فيثير كوامنها ويستخرج لآلئها، ولكن عزاني اليوم في زهادة أدباء العرب بفن بلادهم، أن رأيت مؤلف (خان الخليلي) وهو مصري صميم، تتكشف له مصر في عراقتها وشرقيتها عن مكامن فن أخاذ، فراح يغمس فيه قلمه، ويتطلع من خلاله إلى بلده فيصور أهل حي شعبي من أحياءها الخافقة بالناس، وكأن دروبه عروق تنبض بالإنسان في جسم القاهرة، فوصف القاص حياة موظف من هؤلاء الموظفين الذين لا يهنم هم إلا الغدو على عملهم الراتب، وتزجية الشهر استهدافاً للمرتب والدرجة، وفي تضاعيف القصة صور لنا حياة أسرة مصرية تركت سكنها القديم وجاءت خان الخليلي خشية الغارات الجوية التي أصابت القاهرة في هذه الحرب

كانت حياة بطل القصة وهو الموظف مثل بركة ماء بقيت هادئة إلى أن اضطربت من

ص: 53

تأثير الغارات ثم سكنت بعد تغيير السكن، وما لبثت أن ثارت بها عاصفة من عواصف الحياة التي لا تترك غصناً حتى تهزه ولا ورقة عليه حتى تسقطها، تلك عاصفة الحب، ولقد كان هذا الموظف كهلا خاملا، فاستحيا من هذا الحب، وهاهنا تظهر براعة القصص في تصوير العواطف المكبوتة التي كانت نائمة مخدرة في نفس أحمد عاكف حتى أطلت بترددها وقلقها حين عدا عليه في حبه أخوه رشدي فانتزع منه بمرحه ومغامرته تلك النبتة التي عاهد النفس على تعهدها بالإرواء.

وغدا هذا الأخ الطياش مصدوراً، فهو على مشارف الردى وقد ضاع من صدر عاكف كل تذمر وخشية منه لمزاحمته على حبه، وتضاءل وجده على الفتاة المحبوبة بوجده على المريض الذاوي، فهم يفديه بالروح وبذل العناية حتى قضى نحبه، فجثم الأسى على بيت عاكف بعد أن عصف الحب بالأخوين حيناً من الدهر، حتى احترقا به معاً واستقر الحداد بعبئه على الأبوين، ولم يكن أشقى لهذه الأسرة المنكوب من أن تبارح (خان الخليلي) وتلجأ إلى ضاحية من ضواحي القاهرة.

حببت هذه القصة إلى نفسي أن أزور (خان الخليلي) وأنا في مصر لأملأ العين من حي سيدنا الحسين، فأرى بالنظر ما توهمته بالخيال في قصة الأستاذ نجيب محفوظ الذي وصف مقاهي الحي البلدي ونداوته الشعبية وأسواقه وسكانه العاكفين على خبرهم اليومي، فجاءت قصته ذات روح مصرية خالصة بشخوصها وحوادثها، فاذكرني إحسان محفوظ لفنه الشرقي الممحوض إساءة بعض الأدباء بسطوهم على آثار غربية نحلوها أدبهم وزوروها، فبدت فيها طوابع أقاليمهم زائفة شافة عن تمرد فنها وقلقة، ولا على كاتب (خان الخليلي) أن يكون تعبيره في قصته سهلاً ليناً، فإن شخوصها يتحاورون، ومن التحذلق أن يجري على ألسنتهم أساليب البلاغة الإلزامية.

وبعد فهذا الأثر الطريف للأستاذ نجيب محفوظ ثمرة طيبة في فن القصة المعاصرة ومن قطوف لجنة النشر للجامعيين

القاهرة

وداد سكاكيني

ص: 54