الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 65
- بتاريخ: 01 - 10 - 1934
الأزمة والغلاء!
مضت أربعة اعوام، وريح الأزمة الاقتصادية العالمية تهب على مصر بقوة، تضاعفها وتذكيها الظروف المحلية، وملايين الزراع والفلاحين يرون جهودهم وآمالهم تذهب هباء، ومحاصيلهم تباع بأبخس الاثمان، والدين يرهقهم، والحاجة تنذرهم بشرالعواقب، وباقي الطبقات تشاطرهم هذا البؤس الاقتصادي. ولما كانت الحياة الاقتصادية كلها متصلة النواحي، وكان الإنتاج والاستهلاك مرتبطين أشد الارتباط، فقد اضطر الناس إلى الاقتصاد بحكم الضرورة والنزول على أحكام الأزمة؛ وكان في هبوط نفقات العيش بعض التنفس، ولا سيما للطبقات الفقيرة، ولكن الضيق لبث مع ذلك يرهق كل الطبقات.
وإذا كانت الأزمات الاقتصادية محنا شعبية عامة تعانيها جميع الطبقات، فإنها تغدو في كثير من الأحيان ميداناً لنشاط بعض المستغلين الذين لا ذمة لهم، والذين لا تزدهر ثرواتهم إلا في أيام المحنة والضيق. وكذلك وقع خلل الأزمة الأخيرة، فقد ظهر المستغلون في الميدان، فظهر المصطنع في حاجات العيش الضرورية، وهي التي تشتري من المزارع والفلاح بأبخس الأثمان، وصرخ الناس غير مرة، ولكن ماذا يجدي الصراخ والحكومة لا تعنى بأمر المستغلين والمضاربين؟
واشتدت وطأة الغلاء منذ أسابيع، وظهرت بنوع خاص في أثمان الخبز - قوت الشعب - واللحم، والزبد، وغيرها من ضرورات العيش، وضج الناس ولا سيما الطبقات الفقيرة من هذا العنت الذي لا تبرره ظروف الأزمة، ولا يتناسب مع نتائجها، واتجهوا ببصرهم إلى الحكومة لكي تتدخل لحمايتهم وإنقاذهم من شره المضاربين والمستغلين. خصوصاً وأن هذا الارتفاع الطارئ في أثمان الحبوب، وهو الذي ترتبت عليه هذه الموجة من الغلاء، لم يرتفع إلا بعد أن خرج معظم المحصول من يد المزارع والفلاح، فلن يفيد منه سوى القليل.
فماذا فعلت الحكومة؟ قررت أن تشتري ربع مليون أردب من القمح الأسترالي لتستدرك - على ما صرح به رئيس الوزراء - النقص في المحصول المحلي، ولتنذر بذلك الضاربين والمستغلين بأنها سوف تضرب على يدهم إذا لم يقفوا عند حد الاعتدال.
ومن حق الشعب أن يتطلع في مثل هذا المأزق إلى حكومته، والحكومات في جميع الأمم المتمدينة تضطلع بمهمة محاربة الغلاء المصطنع أو الحقيقي، وتسن لذلك القوانين الرادعة إذا اقتضى الأمر، وكثير من الحكومات والبلديات يتولى الإشراف على تموين الشعب،
فيحدد وزن الخبز ونوعه وأثمانه، ويتخذ غير ذلك من الإجراءات الكفيلة بالضرب على أيدي المحتكرين والمستغلين؛ وإذا فليس علينا لوم إذا نحن تطلعنا إلى الحكومة لتتخذ ما يجب من الوسائل لحماية المستهلكين ومكافحة الغلاء، ولحفظ التوازن المعقول بين ما يجنيه المزارع من محصوله، وما يقتضيه التاجر من المستهلك ثمناً لوساطته. وليس من وسائل الحماية الناجعة أن تستورد الحكومة مقداراً محدوداً من القمح الأجنبي على نحو ما قررت، ولكن الوسيلة الأولى هي أن تخفض الرسوم الجمركية على الحبوب الأجنبية، وهى التي رفعت في وقت كانت فيه وفرة المحصول المحلي تبعث إلى هبوطالأثمان هبوطاً شديداً.
لتتخذ الحكومة هذه الخطوة وغيرها مما تراه ضرورياً لدرء كارثة جديدة تنذر ملايين الفقراء بالجوع، ولا يستفيد منها سوى قلة من المحتكرين والوسطاء، على أن هنالك عاملاً آخر لم يتوفر لدينا بعد، ذلك هو المقاومة الشعبية، فمن الواجب أن نعود أنفسنا هذه المقاومة التي لابد منها في مثل هذه الظروف. ولو أن الجمهور يعني بالحرص على حقوقه الشعبية، لكانت المقاومة الفردية والشعبية في مثل هذه الأحوال خير وسيلة للحماية. ولو عني كل فرد بأن يقتصد حيثما وجب الاقتصاد، وأن يحرم نفسه بعض الكماليات وقت الضرورة، وأن يجرب جميع الوسائل الممكنة لمقاومة طغيان المحتكر، وإنقاص منسوب الاستهلاك، لكانت حاجته إلى حماية الحكومة في مثل هذه الظروف اقل بكثير مما نشهد اليوم، إذ لا حول لجمهورنا ولا قوة إلا أن تنجده الحكومة، وإذا أجابته فإنها لا تستطيع أن تذهب معه دائما إلى حيث يريد
وهذا ظرف يستطيع الجمهور فيه أن يبدي إلى جانب ما يمكن أن تقوم به الحكومة شيئاً من المقاومة الفردية الحكيمة، فإذا استطاع أن يفعل فانه يبرهن على حيويته، وعلى أنه حريص على حقوقه، وأنه لا يذعن لنير المؤتمرين به من رهط المستغلين والمستفيدين الذين يعملون على سلبه دون أفة، ويبرهن أخيراً على أنه ليس عالة مطلقة على حكومته في جميع شئونه ومرافقه.
عدو الديمقراطية
للأستاذ احمد أمين
لندع الديمقراطية السياسية، فلها نظرياتها ولها رجالها، ولها نزاعها الحار بين دعاتها وأعدائها.
ولنتكلم في الديمقراطية الاجتماعية وأعدائها - فاكبر مظاهر الديمقراطية الاجتماعية الاشتراك في مرافق الحياة من غير أن تتميز طبقة من طبقة، فإذا رأيت في القطار درجة أولى وثانية وثالثة فهذا مظهر أرستقراطي، وإذا رأيت ذلك في عربات الترام والسيارات العامة والسينما والتمثيل فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت أحياء يعنى فيها بالكنس والرش والنور وأحياء لا يعنى فيها هذه العناية. فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت في المآتم والأفراح كراسي ضخمة مذهبة، وأخرى عادية ساذجة، وقوما يستقبلهم آل الميت وال العرس بالحفاوة فيجلسونهم في الصدر، وآخرين يستقبلون في غير حفاوة فيجلسون في الذيل فهذا أيضاً مظهر من مظاهر الأرستقراطية - وإذا رأيت في قاعات المحاضرات أماكن حجزت لكبار المدعوين، وأخرى حقاً مشاعاً للدهماء. فهذا كذلك مظهر من مظاهر الأرستقراطية وإذا رأيت الحجاب على الأبواب يفتحونها لمن نزل من سيارة، ويغلقونها في وجه ذي الجلباب الأزرق. فذلك نوع من الأرستقراطية. وإذا رأيت مقهى إفرنجيا فيه فنجان القهوة بخمسة قروش أو تزيد. ومقهى بلديا فيه فنجان القهوة بخمسة مليمات أو تنقص، فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، ولا استرسل في ذلك، فلعلك - يا صاحبي - فهمت مظاهر الأرستقراطية والديمقراطية، وعلمت انك في كل خطوة تخطوها ترى هذه المظاهر في أشكالها المختلفة، وألوانها المتعددة.
وهناك دعاة يدعون إلى هذه الديمقراطية الاجتماعية، كما أن هناك دعاة يدعون إلى الديمقراطية السياسية، ولهم على ذلك حجج وبراهين.
ولكن لعل أعدى أعدا الديمقراطية واهم طعنة توجه إلى دعاتها، وأقوى حجة يتسلح بها دعاة الأرستقراطية شئ واحد هو (الوساخة) أو (القذارة) أو ما شئت فسمه. فاكثر تصرفات الأرستقراطيين وأشباههم، عذرهم فيها طلب النظافة والترفع عن الوساخة.
قد يركب راكب الدرجة الأولى في القطار أو الترام أو السيارات طلبا للوجاهة وخشية أن يراه الناس بين جمهور الفقراء أو نحو ذلك نحو ذلك من أعذار كلها سخيفة، ولكن عذراً واحدا يصح أن يقام له وزن، وهو وساخة ركاب الدرجة الثالثة والخوف من أذاهم ومن عدواهم.
وقد يتطلب بعض الناس أغلى مطعم وأغلى مقهى حبا في الظهور ورغبة في الجاه، وطلبا لمخالطة العظماء، ولكن العذر الصحيح انه ينشد النظافة في هذا المطعم وهذا المقهى، ويفر من قذارة المطاعم الرخيصة والمقاهي الرخيصة.
فلوعني الناس بالنظافة، وكان من لبس لبس نظيفا، ومن فتح مطعما أو مقهى عنى بنظافته، وكان الفرق بين لبس الغنى والفقير ليس فرقا في الكيف، فالكل نظيف، وإنما هو فرق في النوع والكم، لانهارت الأرستقراطية الاجتماعية في كثير من نواحيها، ولما تقززت أوساط الناس وخيارهم من أن يخالطوا الفقراء في مأكلهم ومشربهم ومركبهم، ولسلحوا الديمقراطية بسلاح قوي متين، ولهذا ترى الأمم التي عنيت بالنظافة والتزمتما في صغيرها وكبيرها، وفي فقرها وغناها قد أفسحت الطريق أمام محبي المساواة ودعاة الديمقراطية. وتراهم وقد قضوا على اختلاف الدرجات في السيارات العامة، وقل منهم من يركب الدرجة الأولى في القطار، وقل من يتطلب أفخم مطعم وأغلى مقهى، علماً منهم بأن الكل نظيف والكل مريح، وأن الذين يركبون بجوارهم أو يجلسون بجانبهم لا يؤذونهم بمنظرهم ولا برائحتهم ولا بأي شيء فيهم، إنما تتميز هذه الطبقات بوضوح وجلاء، في مرافق الحياة الاجتماعية حيث تفشو القذارة.
إن عقلاء الناس يحتملون الديمقراطية الاجتماعية بل يعشقونها، ولكن إذا وصل الأمر إلى احتمال عدوى مرض، أو آلمت أنوفهم رائحة كريهة، أو آلم عيونهم منظر بغيض، سهل عليهم بيع الديمقراطية للأرستقراطية.
لو جرى الأمر على المعقول لكان المسلم من انظف الناس في العالم، فقد ربطت صلواته الخمس بالوضوء، وفرض عليه الاستحمام في أو قات، وكان أول باب من أبواب فقهه باب الطهارة.
واغتبط إذ اسمع وصف (ابن سعيد) لمسلمي الأندلس فيقول: (انهم أشد خلق الله اعتناء
بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائماً، ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها).
ويؤلمني اشد الأم ما ذكره أبن سعيد نفسه، وقد زار القاهرة، وركب منها حماراً إلى الفسطاط يقول (فأثار الحمار من الغبار الأسود ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعانيت ما كرهت، وقلت:
لقيت بمصر اشد البوار
…
ركوب الحمار وكحل الغبار
أِلمَ من منظر الفسطاط، وقال انه رأى شوارعها غير مستقيمة، ورأى حول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، ورأى البياعين يبيعون في مسجد عمرو، والناس يأكلون فيه، ورأى في زوايا المسجد العنكبوت، قد عظمة نسجه في السقوف والأركان والحيطان ورأى حيطانه مكتوباً عليها بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتابة فقراء العامة الخ. . .
آلمني هذا الوصف لمصر، ولو زارها اليوم لما عثر بحماره، ولأقلته سيارة فخمة من باب زويلة إلى الفسطاط في أرض معبدة ممهدة، لا تثير غباراً ولا تدنس ثياباً، ولرأى مسجد عمرو نظيفاً، لا يأكل فيه أكل، ولا يكتب على حيطانه كاتب.
ولكن هل كان يعدل عن حكمه القاسي في مقارنته بين أهل مصر وأهل الأندلس في النظافة؟ ذلك ما أشك فيه كل الشك. لست ادري لمَ لمْ يلتفت الدعاة إلى هذا الأمر في الأمة، فيدعون ويلحون في الدعوة إلى النظافة، ويضعون الخطط الدقيقة لها، فأنها خير وسيلة للتقريب بين طبقات الأمة، فلا يأنف بعد مثقف أن يجلس مع غير المثقفين، ولا متعلم أن يجالس غير المتعلمين، وفي هذا الاختلاط نشر للثقافة، ودعوة للآداب العامة، وغلبة للعنصر المهذب.
يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف، والأمر يتوقف على تعويد النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وانما النظافة أن تلبس نظيفاً ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفاً ولو أحقر الطعام.
هذه بديهيات أولية، ولكنا مع الأسف مضطرون أن نقولها.
لعل الأمر في العلماء والأدباء على نحو ما بينا في الماديات، فالذي يفرق بين عالم أرستقراطي وعالم ديمقراطي، وأديب أرستقراطي وأديب ديمقراطي، هو نظافة آراء الأولين وأفكارهم وأسلوبهم، وعكس ذلك في الآخرين - ولو التزم كل العلماء والأدباء نظافة نظرياتهم، ونظافة كتابتهم مهما اختلفت في النوع والقيمة لانهارت الأرستقراطية العلمية والأدبية أيضاً، ولكان الكل سواء.
أحمد أمين
كلمة وكليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
نحن من التنظير بين المدنيتين الأوربية والإسلامية، كأننا بازاء جوادين أحدهما مخلى له الطريق إلى غايته، والأخر يُضرب وجهُه مرةً ويصرف بالعوائق مرة؛ ومع ذلك يقابل بينهما في السابق! لو حكم الشرق أوربا لظهر جوادها حماراً
أربعة آلاف كلمة في الثرثرة، اقل من أربع كلمات في الحكمة
لا تغضب من حماقة امرأة تحبها، ولا تغضبي من حماقة رجل تحبينه، وإلا فأين تدسُ الحياةُ سُمها إلا في ألذ أطعمتها؟
يموت الحيُ شيئاً فشيئاً؛ وحين لا يبقى فيه ما يموت، يقال مات. . .
قضت الحياة أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات لا لمن يضربها.
غلَبَ رجل على امرأة كانت تهواه وجعل يباهي بما صنع، فقلت له: يا هذا إن من السخرية أن تزعم انك تعبت في فتح باب مفتوح. . .
حق الإرادة؛ هي في الذكور مذ كرة، وفي الإناث مؤنثة؛ فعند ما يغلب سحر الحقيقة التي في الرجل على الحقيقة التي في المرأة تلتمس المرأة إرادتها لتعوذ بها فلا تجدها إلا صورة. . فإذا امتنعت كانت في صورة امتناع على استجابة، وإذا غضبت كانت في صورة غضب على رضى. ولهذا ما يكره بعضهن الحجاب فانه يذكرهن تأنيث الإرادة ويُبعدهن ويحذًِرهن؛ ويا شؤمَ من إذا نجت من ذلك الخطر نجت كارهة. .
هناك حب يسمو ولا يزال يسمو؛ إذ يكون المحبوب فيه مع المحب كالتًرجمان مع السائح؛ ذلك حب بعض الشعراء لبعض الأجسام المترجمة.
تكون الأمانيُّ مرةً كَسْبُ أفكارنا ومرة لصوصية أفكارنا!. . .
ينفُر الإنسان من الكلمة التي تحكمه، ولكنه في الحب لا يبحث إلا عن الكلمة التي تحكمه.
من خُلقَ بطلاً فل عجب أن توجِد له الأقدار دائماً من كل ما حوله مادة حرب، مائةٌ من مائةٌ في التوكل على الله تكون مائةً من مائة في النجاح؛ ولكن تسعة وتسعين من المائة في التوكل لا تكون إلا خيبة محققة.
هل أستطيع أيتها الجميلة السوداء أن أقول في وصف خديك انهما في حمرة الورد؟ فلماذا
تغضبين إذا قلت انهما في التماع الزيتون الأسود. .؟ وأنت أيتها الحسناء المتكبرة السخيفة! لماذا تغضبين إذا رأيت في قلبك الزيتون ولم أر الورد؟
في بعض أحوال الحب، تكون العواطف المحبة لك في الباطن هي المعادية لك في الظاهر.
لا يسعد أحد بشعور غيره؛ وطبيعي أن يكون هذا هو الذي يجعل السعادة ممكنة في الناس؛ ولكن العجيب انه هو الذي يجعلها غير ممكنة، إذ لا يريد كل إنسان لنفسه إلا شعور غيره.
الناس يزاحمون في الدنيا لأجسامهم، فأما بؤس وأما سعادة، والحكماء والمحبون يزاحمون لأرواحهم، فأما بؤسان وأما سعادتان ما أظرفها كانت وابلغها حين قالت لي: ألا تنظر ثانياً فتفهم ثالثاً. .؟
يخيل إلى والله أن قلب المرأة امرأة معها؛ فأما أن تأخذها نكبتين أو معونتين.
فلسفتي أن الكبرياء على المتكبرين هو أعلى التواضع.
مصادفة التعس حظاً تحتاج في اتفاقها إلى مصادفة تجئ بها
تستطيع أن تقول في كل نابغة عظيم: انه أذكى البلداء. .
فان كذبك الناس لم يكذبك هو.
المودًَة القوية تتحمل العتاب والمحاسبة لتثبت أنها قوية
الحب يُخرج من نفسك شخصا غيرك، والبغض يخرج من هذا الشخص غيره. فتحب بنفسين وتبغض بثلاث.
إن رضى المحب قال في الحبيب احسن ما يعرف، وما لا يعرف؛ وان غضب قال فيه أسوأ ما يعرف، وما لا يعرف، وما لا يمكن أن يعرف
إذا رأيت كبراء قوم همُهم عيشهم؛ فاعلم أنها أمة مأكولة. فلو شهرت السيف الماضي لقاتل بروح مِلعقة. . ولو رعدت بالأسطول الجبار لصلصل كآنية المطبخ. . .
لم تعد التربية في كل أمة تربية للناس ولكن للمطامع؛ فما يكبر جيل إلا كبرت معه الحرب. . .
يراد من التجمل الصناعي حين تبالغ فيه المرأة أن يخف فيثقل؛ ويراد من الجمال الطبيعي أن يخف فيزداد خفة. . .
من النساء من إذا رايتها حسبت روحها زجاجة ملئت عطراً؛ ومنهن من إذا رايتها حسبت
روحها ملئت زيت خروع. . .
أول فلسفة الشريعة في الزواج انه حصرُ المعاني البهيمية من كل رجل وامرأة في الرجل والمرأة بذاتيهما. فاخر فلسفة الشريعة في الزواج انه إذا عم وانتظم تراجعت بهيمية العالم فصغرت وصغرت حتى تكون كأنها في اثنين فقط. . .
إذا سألت السياسي الداهية فسكت عن الجواب فقد قال لك قولا
من لا يملك على الأرض شيئاً يملك على الأقل أن يفرح وان يحزن. . .
مات واصبح كأن لم يوجد، ومع ذلك فقد وجد، ومع ذلك فكأن لم يوجد. إن خرج من هذا التركيب المنطقي معنى يثبت في الفهم، كان للحياة في الفهم معنى ثابت. . .
أيا غاضباً من صر وف القضا
…
بنفسك تَعْنُفُ لا بالقدَرْ
ويا ضارباً صخرةً بالعَصَا
…
ضربت العصا أم ضربت الحجر؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
صفحة من التاريخ
روح مصر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
دع من شاء يتغنى بفرنسا وما في فرنسا، ودع من شاء يتغنى بإنجلترة وما في انجلترة؛ دع هؤلاء جميعا يعنفون مصر وما في مصر وينكرون ماضيها، فما نحن منهم في شئ. وليس في الأمر علينا من مضاضة إلا ألم الساعة نشعر به كلما وقعت أعيننا عفوا أو قصدا على كلمة لبعض هؤلاء؛ حتى إذا مرت الساعة لم يبق من اثر لكلمتهم إلا كما يبقى من اثر قول الولد العاق في نفوس أهله، فان الحب يغلب الكراهة، وسعة صدر الوالد لا يدوم معها الغل ولا تبقى عليها الحفيظة. ثم لن تكون إلا أعوام فتنضج العقول الفجة، ويتسع الأفق الضيق، ويغزر المحيط الضحل، فيعود هؤلاء جميعاً إلى تقديس مصر ومعرفة روحها، وإعطائها ما يجب لها من الإجلال.
وأما نحن فما بنا ولله الحمد غير مصر وحب مصر، والإعجاب بها والإشفاق عليها: نعجب بما فيها من جليل، ونشفق على ما بها من عليل أو ضعيف. ليس في القلب نحوها موضع لغير عاطفتي الحب والإشفاق. هذه كلمة نفرج بها عن النفس مما تحسه، إذ كثر في هذه الأيام حديث الزراية بمصر من قوم لا نجد في نفوسنا ميلاً إلا للدعاء لهم بالتوفيق إلى ما هو خير من ذلك واكرم.
ولنعد إلى الماضي نقلب فيه صفحة من صفحات تاريخ مصر، لنرى أن روحها كان أبداً روح الكريم الأبي، ولو علا تلك الصفحة صدا القدم، أو غشاء الوهم.
لا حاجة بنا إلى أن نعود إلى أيام الفراعنة، أو إلى أيام مجد الدول الإسلامية التي كان فيها لمصر ذلك الروح المتوثب القوي، بل نعود إلى أيام القرن الثامن عشر الذي يصفه بعض المؤرخين بالظلمة والانحطاط، ولم يتورعوا أن يتهموه بأقسى التهم وأشنعها، وتعدوا فيه الوصف الشنيع إلى السب المقذع حتى في التسمية، فلا يعرفونه إلا باسم (عصر المماليك) كأننا بهم يعيرون حكامه بأنهم كانوا في أول أمرهم يشترون بالمال. وأنا إذا عدنا إلى ذلك العصر لم نجدروح مصر خفيا، بل نراه واضحا مجلواً على عهده من الكرم والأباء: لئن كان حكام مصر الأسبقون يشترون فيأول حياتهم بالمال، فقد كانوا رجالأ طالما ذادوا عن
حوض مصر، وحملوا ذمارها. ولقد كانوا يفاخرون بمصريتهم ويعتزون بها، ويسمون أنفسهم منتسبين إليها، فكانوا يعرفون أنفسهم باسم (الأمراء المصريون) وما أجدرنا نحن اليوم أن نسميهم بذلك الاسم ونتجنب تلك منذ أيام إبراهيم ورضوان، ومن جاء بعدهما مثل علي بك الكبير ومحمد بك أبى الذهب. وشهد أهل مصر في أيام هذين الحاكمين الضعيفين تغيرا في نظام الحكم ونمط السياسة، وأخذت شوكة الدولة تتجه نحو جوانب الناس تخزهم وتؤذيهم وتفسد عليهم أحوال حياتهم، وما كان عهدهم بشوكة الدولة أن تكون أداة أذى لهم. فان الأمراء المصريين كانوا منذ القدم إذا تشاحنوا كان تشاحنهم فيما بينهم، وإذا اعتدى بعضهم فإنما كان يعتدي على بعض، وإذا غصبوا مالا أو سفكوا دما فإنما كان الحزب الغالب منهم يغصب مال الحزب المغلوب، ويسفك المنتصرون منهم دماء اتباع الحزب المخذول. وقديما تشاحن الأحزاب على الحكم وتنافسوا على السلطة، وما كان بأهل مصر باس من ذلك، إذ كانوا في كل هذه الحركات بمعزل عن الأذى. دماؤهم محفوظة، وأموالهم محرمة، وأعراضهم مقدسة؛ وأما منذ تولى أمر الحكم إبراهيم ومراد، فقد تغيرت الحال، وخرقت الحدود، وإذا بجنود الدولة تعسف بالناس، وتنتهك حرماتهم، فلم يرضهم ذلك، بل احتجوا وشكوا، ثم تحركوا واضطربوا، وكان اضطرابهم ذلك، قبل أن يتحرك شعب فرنسا في ثورته الكبرى بنحو أربع سنوات.
قال صاحب (عجائب الآثار) في حوادث سنة مائتين وألف للهجرة: أي في سنة ألف وسبع مائة وخمسة التسمية الجائرة التي رددها من قبل أعداء مصر ظلماً منهم وعدوانا. فقد ألصقت بهم هذه التسمية منذ أطلقها عليهم فرنجة الحملة الفرنسية الذين جاءوا إلى مصر لينزعوها من أيديهم ويحلوا محلهم في حكم البلاد، فكانوا يحاولون في كل مناسبة أن يشهروا بهم ويحملوا عليهم، بغية أن يفسدوا عليهم قلوب أهل مصر. ولهذا حبب إليهم أن يسموهم باسم (المماليك) وان ينعتوهم بأشنع النعوت، ويتهموه بأبشع التهم.
أما نحن فما أحرانا أن ننظر لأنفسنا بأعين مجردة عن الهوى، وان ننظر إلى صفحة تاريخهم بغير حقد ولا كراهة، فما كانوا بأهل لذلك، وما كان حكمهم إلا كسائر حكم الدول التي تعاقبت على مصر في مختلف العصور. فلقد تعاقب في عهدهم حكم العدل والظلم، وأختلف في زمانهم زهو النصر، وذلة القهر - وأي عصر في التاريخ قد خلا من مثل هذا
التقلب والاختلاف؟ وكان شعب مصر في مدتهم يزن الدولة، فيرى ما فيها من حسنة وسيئة، فإذا رأى الحسنة غالبة، غفره السيئة في سبيلها، وهو في ذلك مثل سائر الشعوب المتمدينة المستقرة، لا تستخفهالحوادث إلى العنف ضناً بالسلام والطمأنينة،
غير أن ذلك الشعب الوديع كان يرى أحيانا من الحكام من لا يستحق عطفه ولا إجلاله، فكان عند ذلك يرفض الاعتداء بإباء العازم على عدم الاستكانة. وما اكثر الآيات الدالة على هذا لمن أراد النظر لنفسه، ومن لم يتلق وحيه عن أساطير الكارهين الكاشحين.
ولي أمر الحكم في مصر في أواخر القرن الثامن عشر أميران من اضعف من ولي أمر الحكم فيها، وهما مراد وابراهيم. فكان حكمهما في مصر أشبه شئ بالمرض يعتري جسم الشاب الناشئ؛ وتهدم في أيامهما ما بناه أكابر الأمراء السالفين قبلهم وثمانين للميلاد ما يأتي:
(وفي صبيحة (يوم الجمعة) ثارت جماعة من أهالي الحسينية بسبب ما حصل في أمسه من حسين بك (تابع مراد بك) وحضروا إلى الجامع الأزهر ومعهم طبول. والتف عليهم جماعة من أوباش العامة والجعيدية، وبأيديهم نبابيت ومساوق، وذهبوا إلى الشيخ الدردير، فونسهم وساعدهم بالكلام وقال لهم: أنا معكم، فخرجوا من نواحي الجامع وقفلوا أبوابه، وصعد منهم طائفة على أعلى المنارات يصيحون ويضربون بالطبول، وانتشروا بالأسواق في حالة منكرة، وأغلقوا الحوانيت، وقال لهم الشيخ الدردير:(في غد نجمع أهالي الأطراف والحاران وبولاق مصر القديمة، واركب معهم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم) فلما كان بعد المغرب حضر سليم اغا مستحفظان، ومحمد كتخدا ارنؤد الجلفي كتخدا إبراهيم بك وجلسوا في الغورية، ثم ذهبوا إلى الشيخ الدردير وتكلموا معه، وخافوا من تضاعف الحالة، وقالوا للشيخ:(أ. كتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون) واتفقوا على ذلك وقرأوا الفاتحة وانصرفوا، وركب الشيخ في صبحها إلى إبراهيمبك أرسل إلى حسين بك فأحضره بالمجلس وكلمه في ذلك. .) ولم يقف الأمر عند حدود القاهرة، بل اشترك أهل الأقاليم في ذلك، فلم تمض السنة نفسها حتى تحركت مدينة طنطا في أيام مولد وليها المشهور السيد البدوي، وكان الشيخ الدردير على راس الحركة هذه المرة أيضاً.
قال صاحب تاريخ (عجائب الآثار):
(فذهبوا (أي أهل طنطا) إلى الشيخ الدردير، وكان هناك بقصد الزيارة، وشكوا إليه ما حل بهم، فأمر الشيخ بعض اتباعه بالذهاب إلى (الكاشف الظالم) فامتنع الجماعة من مخاطبة ذلك الكاشف، فركب الشيخ بنفسه وتبعه جماعة كثيرة من العامة، فلما وصل إلى خيمة كتخدا الكاشف دعاه فحضر إليه والشيخ راكب على بغلته، فكلمه ووبخه وقال له:(انتم ما تخافون من الله) ففي أثناء كلام الشيخ لكتخدا الكاشف هجم على الكتخدا رجل من عامة الناس وضربه بنبوت، فلما عاين خدامه ضرب سيدهم هجموا على العامة بنبابيتهم وعصيهم، وقبضوا على السيد احمد الضاني تابع الشيخ وضربوه عدة نبابيت، وهاجت الناس على بعضهم، ووقع النهب في الخيم وفي البلد، فنهبت عدة دكاكين، وأسرع الشيخ بالرجوع إلى محله. . . ثم حضر كاشف المنوفية وهو من جماعة إبراهيم بك الكبير وحضر إلى كاشف الغربية وأخذوا وحضر به إلى الشيخ، واخذوا بخاطره وصالحوه ونادوا بالأمان. . . ولما رجع الشيخ الدردير إلى منزله حضر إليه إبراهيم بك الوالي واخذ بخاطره أيضاً، وكذلك إبراهيم بك الكبير، وكتخدا الجاويشية.)
غير أن الحوادث السياسية التي وقعت في ذلك الوقت حالت دون استمرار سعى أهل مصر نحو إصلاح نظام الحكم بأنفسهم، وذلك أن السلطان أرسل عند ذلك جيشاً لمعاقبة المفسدين في زعمه. فانخدع أهل مصر وتركوا ما كانوا فيه من مسعى ظناً منهم أن السلطان كفيل لهم بإزالة المظالم وإصلاح الأمور. وبقى جيش السلطان في مصر قليلاً، ثم دعته الدواعي إلى مغادرة البلاد فعاد الأمر إلى ما كان عليه من عبث مراد واتباعه، وعاد الناس يفكرون في الدفاع عن أنفسهم والتحرك لإزالة العسف، وأضحت مصر والجو فيها مكفهر، والقلوب غير مستقرة، والشعب متحفز، وأهل الدولة في وجل وترقب.
قال صاحب (عجائب الآثار) في وصف هذه الأيام:
(وركب إبراهيم بك الكبير في ذلك اليوم وذهب إلى الشيخ البكري وعيد عليه، ثم إلى الشيخ العروسي، والشيخ الدردير، وصار يحكي لهم، وتصاغر في نفسه جداً، وأوصاهم على المحافظة وكف الرعية عن أمر يحدثونه أو قومة أو حركة في مثل هذا الوقت، فانه كان يخاف جداً.)
ثم أراد الله مرة أخرى أن يحول دون تمام تلك النهضة، إذ لم تلبث البلاد أن شهدت طلائع الحملة الفرنسية، فكان في تلك الحملة المشئومة آخر قضاء على حركة مصر في القرن الثامن عشر.
أمن الحق أن يقول قائل مع هذا إن أهل مصر ظلوا منذ القدم على الاستكانة والخضوع للمظالم؟
محمد فريد أبو حديد
حركات الشباب
خواصها وأثرها في بناء أوربا الجديد
للأستاذ محمد عبد الله عنان
من أهم الظواهر التي يمتاز بها المجتمع الأوربي الجديد، أن الشباب يقوم في بنائه وتوجيهه بأعظم قسط؛ وقد هلكت زهرة الشباب الأوربي القديم في الحرب، وخلفها شباب جديد حائر يتخبط في غمار المتاعب والأزمات العديدة التي خلفتها الحرب؛ ولكن الحركات والانقلابات السياسية العنيفة التي تمخض عنها العهد الجديد أفسحت للشباب مجالاً كبيراً للعمل، وأسبغت عليه كثيراً من النفوذ والسلطان، وخصته في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد بأعظم قسط. ويلاحظ أن هذا التطور قد بدأ في أواخر الحرب ذاتها؛ حيث قامت الثورة البلشفية في روسيا وحطمت صرح المجتمع القديم كله، ولبثت منذ قيامها تعمل بجد ومثابرة على خلق جيل جديد وشباب جديد يضطرم بالمبادئ والمثل الجديدة ويكون لها في المستقبل عماداً وسياجاً، ثم قامت الثورة الفاشستية في إيطاليا بعد نهاية الحرب بأعوام قلائل، وأدركت ما للشباب من أهمية في بناء المستقبل، فأقبلت عليه واجتهدت في حشده وتنظيمه وتدريبه، وطبعته بطابعها القوي فاصبح من طلائعها وجندها المخلصين؛ وأخيراً قامت الثورة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا (الثورة الهتلرية) وكان قوامها منذ البداية ذلك الشباب البائس الذي دفعته خيبة الأمل إلى أحضان التطرف والى لواء أولئك الذين يعدونه بالعمل ورفاهة العيش في ظل دولة جديدة يكون الشباب فيها كل شيء؛ ويستأثر بكل شيء، وفي تركيا الكمالية يشغل الشباب في المجتمع التركي الجديد اعظم مكانة، ويعلق عليه زعماء الثورة الكمالية اعظم الآمال، وقد حذت الثورة التركية حذو الثورة البلشفية والثورة الفاشستية في حشد الشباب وتدريبه وطبعه بالمبادئ والمثل الجديدة، وفي معظم الأمم الأوربية الأخرى مثل إسبانيا وفرنسا وبولونيا يجتمع الشباب حول المثل الجديدة، ويحاول أن يشق طريقه إلى بناء دولة جديدة ومجتمع جديد يكون له فيهما ما يطمح إليه من السلطان والنفوذ. وحتى في إنكلترا التي عرف شعبها بالروية والاتزان إزاء الآراء والتطورات الجديدة يبدي الشباب الإنكليزي ميلاً كبيراً إلى التطور، ولا يأبى تأييد الشيوعية والفاشستية إلى حد ما.
ونلاحظ أيضاً أن الشباب اشد ما يكون تطوراً ونفوذاً في بناء الدولة الجديدة والمجتمع الجديد في ظل حركات الطغيان، كالبلشفية والفاشستية والوطنية الاشتراكية الألمانية. ذلك أن هذه النظم الطاغية تقوم على القوة والعنف وتحتاج أولاً إلى السواعد الفتية توازنها وتحقق لها ما شاءت من ضروب العنف والإرهاب، فإذا ما استقرت بفضل هذه السواعد القوية والأذهان الملتهبة الطامحة، اضطرت أن تفسح لها مجال النشاط والعمل تحت إشرافها ووحيها، وان توليها من النفوذ والمكانة ما يحقق بعض أطماعها، على أنها لأتقنع بحشد الشباب الناضج المكتمل، لأنها لا تأمن تطوره وانقلابه، فتعمد إلى الشباب الفتى تبث إليه تعاليمها، وتدربه على أساليبها؛ ولا تفر الأحداث والأطفال، لأنها ترى فيهم أجيالاً متعاقبة من الشباب الذي ترى أن تخلد زعامتها على يده؛ ولذلك نراها تخضع نظم التعليم والتربية لصولتها، وتطارد حرية التفكير والرأي بكل ما وسعت من ضروب العنف والشدة حتى لا تفضح مثلها ووسائلها، وحتى لا يلقى الشباب الذي تستعبده وتذله لغاياتها من النور والضياء ما يهديه إلى الحقيقة ويدفعه إلى تحطيم ذلك النير الوحشي الذي تضعه في أعناقه. وتلجأ هذه الحكومات الطاغية دائما إلى حشد الشباب في جماعات شبه عسكرية، تحت أسماء وصفات مختلفة، وتعنى عناية خاصة بتنمية الميول العسكرية والرياضية في نفسه، لتعوده أولاً على الطاعة العمياء، ثم لتحكم قيادته وتوجيهه بواسطة رياسة متدرجة مباشرة؛ وقد استطاعت الفاشستية الإيطالية أن تحشد حولها بهذه الوسيلة ملايين الشباب والأحداث، وحذت حذوها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا فجندت الملايين باسم فرق الهجوم والحرس الأسمر، وجيش العمل، والشباب الهتلري وغيرها. ويتخذ الطغيان، الوطنية والغايات القومية ستارا لهذه الحركات؛ وقد يحقق بالفعل كثيرا من الغايات القومية المحلية أو القريبة المدى، ولكنه يعمل دائما بروح حزبي عميق، ويؤثر المبادئ والغايات الحزبية على غيرها، ويخضع الدولة لسلطان الحزبية، كما فعلت الفاشستية في إيطاليا والهتلرية في ألمانيا.
وتثير حركات الشباب اليوم في أوربا كثيرا من الاهتمام، ولا سيما بعد أن أصبحت عماد انقلابات خطيرة في نظم القارة ومجتمعاتها القديمة، وأضحت عاملا قويا في حياة أوربا السياسية. هل توجد بين حركات الشباب في مختلف البلدان خواص مشتركة؟ وما هي هذه
الخواص المميزة وما علاقتها بالتطور الاجتماعي والسياسي في كل بلد؟ وهل تحفز الشباب في جميع البلدان آمال وغايات مشتركة؟ هذه الأسئلة وما إليها تثير كثيرا من البحث والجدل. وقد ظهرت في الأعوام الأخيرة عدة كتب ومباحث هامة بأقلام جماعة من كبار الباحثين والساسة عن حركات الشباب الأوربية وخواصها وآثارها، ومن اشهر هذه الدراسات وأحدثها كتاب بقلم الكاتب الفرنسي ايليا ايرنبور عنوانه (اليوم الثاني من أيام الخلق) وفيه يدرس حركات الشباب في روسيا السوفيتية، ويستعرض خواصها وتطوراتها بطريقةروائية، وفي رأيه إن الشباب الروسي إنما هو شعب جديد، يفيض بمادة جديدة تستنفد اليوم في مرحلة التوطيد الاشتراكي، كل قواه بملء الحرية؛ وان الماركسية (الشيوعية) قد انسابت إلى دمه، واصبح يتذوق الأوضاع التي تقررها، وأنها قد أسبغت عليه بالأخص صفتين: الأولى عاطفة التضامن البشري الذي دعا إليه من قبل سولوسييف، وتولستوي، ودستويفسكي؛ والثانية هي الثقة التي لا حد لها بالعقل والمنطق وما يترتب عليهما من الطموح المستمر إلى النور، واستعمال القوة المفكرة، ونبذ الخرافات القديمة. ومن هذه الدراسات أيضاً كتاب الدكتور جريندل عن حركات الشباب الألماني وعنوانه:(رسالة الجيل الفتي) وقد ظهر قبل قيام الطغيان الهتلري في ألمانيا، ولكنه لا يزال مرجعا في موضوعه. ويصف الدكتور جريندل الشباب الألماني بأنه (وطني) يخاصم الشيوعية اشد الخصومة، وانه يطمح إلى إقامة (اشتراكية ألمانية) تضع حدا لمساوئ النظام الرأسمالي وتقضي على الشيوعية أتم قضاء، وتوفق بين مصالح جميع الطبقات والأفراد. ويمتاز الشباب الألماني بصفة خاصة، هي انه يعتبر نفسه ذا قيمة في نفسه، ولا يكتفي بان يعتبر ذخر المستقبل كما هو الشان في معظم الامم؛ فليس الشباب في نظره حالة نضوج ينتهي عملها بعد حين، ولكنها حالة نضوج تام تترك ورائها كل الأجيال السالفة والقادمة، وهي ذات قيمة في نفسها تتمتع بأعظم الخلال؛ وإذا كان الشباب يتكون في الأمم الأخرى على مثل الرجل الناضج، فانه يرى في ألمانيا أنه أتم نضوجاً وأوفر قيمة من الرجل الكامل. وليس أدل على ذلك من (حركة الشباب) الألمانية الشهيرة التي استطاعت أن تنشئ ثقافة شباب حق لها كل مميزاتها، ولها مثلها الأعلى الخاص؛ ومن المعروف أن الطموح الألماني إلى المثل الأعلى، الذي غدا منذ الفيلسوف (كانت) ظاهرة الحياة العقلية الألمانية،
هو مصدر هذه النزعة التي تدفع الشباب الألماني إلى الأمام، فهو يتقدم في سبيله لا يقعده شيً من الاعتبارات العملية التي تسحق الرجل الناضج، وهو لا يعبأ بالمصاعب الخارجية، بل يتحرى الغايات البعيدة دون النظر إلى الحقائق، وهذا الطموح الحر إلى المثل الأعلى هو الذي خلق الشباب الألماني.
هذا عن الدراسة الخاصة لحركات الشباب، وقد صدرت كتب وبحوث عديدة عن الفاشستية وأثرها في تكوين الشباب الإيطالي. وهناك بحوث عامة عن حركات الشباب الأوربي، منها كتاب لرنيه دبوي والكساندر مرك عنوانه (أوربا الفتاة) وكتاب لارنوداندييه عنوانه (الثورة المحتومة) وكلها تدور حول تنظيم أوربا الجديد من الوجهتين السياسية والاجتماعية، وحول تطور المجتمع الأوربي القديم، وفشل الديمقراطية في حشد الشباب، وخصومة الشباب للنظم الرأسمالية والشيوعية معا. وسر هذه النزعة نحو النظم الاقتصادية القائمة، هو أن معظم شباب ما بعد الحرب من اسر فقيرة ومتوسطة؛ وهو يشعر بأنه ضحية إغراق النظم الرأسمالية في استثمار الطبقات العاملة، ويشهد من جهة أخرى أخطار الشيوعية ووسائلها المخربة، فهو يرغب عن النظامين، ويطمح إلى نوع من الاشتراكية المعتدلة؛ وأحياناً يرى مثله الأعلى في الفاشستية، وأحياناً في الاشتراكية الوطنية؛ غير أن الفاشستية والاشتراكية الوطنية لم تتمخضا بعد عن مثل هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي ينشده الشباب. ومن الغريب أن هذه الحركات الطاغية قد استطاعت أن تستعبد هذا الشباب الطموح المتوثب وأحيانا بالوعود الخلابة، أحياناً بالمنح المتواضعة في ميدان الكسب والعمل، ولكنها تعمد بنوع خاص إلى كسبه بالملق، فتصوره دائما بأنه كل شي في حياة البلاد، وانه صاحب السلطان المطلق في شئونها، وتمنحه من اجل ذلك بعض المناصب الرئيسية، ثم تسيره من ورائها وفق مشيتها، مصوره إياه بأنه هو الذي يقود نفسه بنفسه، على يد زعمائه الشبان.
ومن الحق أن نقول إن هذه الحركات الطاغية - الفاشستية والوطنية الاشتراكية والكمالية - كان لها مع ذلك في تكوين الشباب من بعض النواحي الخلقية والقومية آثار حسنة، تدعو أحياناً إلى الإعجاب، فهي فضلا عن العناية بتكوينه من الوجهة الرياضية والعسكرية، والسهر بذلك على رعايته الجسمية والصحية، تعني عناية خاصة بصقل رجولته وتقوية
خلاله ومبادئه الأخلاقية، وتعويده على الحياة الخشنة العملية، وتدريبه على احتمال المشاق، والاعتماد على النفس، فهي تنشئه من هذه الناحية نشأة إسبارطية حسنة؛ وأما من الوجهة القومية فان لها كل الفضل في جعله جنديا متحمسا من جنود الوطن، فهي تحشده باسم الوطن أولاً وتذكي في نفسه حب الوطن وكل ما يتصل به، تاريخه وماضيه، ومدينته، وربوعه، وخواصه، ثم تبعث إليه حب المثل القومية التي تجيش بها الزعامة السياسية وتدخره لتحقيقها، وتذكي في نفسه العزة القومية إلى أقصى حدودها؛ وتحميه من أخطار المبادئ الشيوعية والثورية الهدامة، أو بعبارة أخرى تتخذه درعا لحمايتها منها. ولا يستطيع منصف أن ينكر ما لهذه التربية الأخلاقية والقومية من المزايا البديعة. على أن هذه الحركات تذهب أحياناً إلى حدود بعيدة، وتركب متن الإغراق في تصوير العواطف والغايات القومية، ففي ألمانيا مثلا تبث الاشتراكية الوطنية في نفوس الشباب نزعة قومية مغرقة تذهب إلى حد الأحقاد الجنسية؛ وشعار الاشتراكية الوطنية (الهتلرية) في هذه الناحية أن الجنس الألماني هو خير الأجناس البشرية، وانه يتفوق عليها جميعا بمواهبه وخواصه، وتستتر الوطنية الاشتراكية وراء التفرقة بين الأجناس الآرية والسامية، وتعلم الشباب والشعب الألماني جميعا أن الجنس الآري (ويجب أن نقرا دائما الجنس الألماني) هو اجدر الأجناس بإنشاء المدنيات، وان الشعوب السامية والآسيوية كلها شعوب هدامة للحضارة يجب أن تستعبد وان تستغل لمصلحة المدنية الآرية والجنس الآري؛ وتنظر الشبيبة الألمانية اليوم إلى جميع أمم العالم من عل وتتوغل في الأحلام المغرقة، وكان من آثار هذه المبادئ المغرقة التي تبثها زعامة محدثة متطرفة لا تتمتع بشي من المواهب الممتازة أن وقعت تلك الحوادث والمناظر الدموية المثيرة في ألمانيا باسم خصومة السامية ومطاردة اليهودية؛ ومن الأسف أن هذه المبادئ المغرقة تهيمن اليوم على الثقافة الألمانية كلها. وقد شهدنا بأنفسنا آثار الفاشستية في إيطاليا واثار الثورة الكمالية في تركيا، فأما في إيطاليا فان الفاشستية تغذي العاطفة القومية بقوة، ولكن في نوع من الرزانة وحسن التوجيه. وقد تحمل الشبيبة الإيطالية بعيدا في كبريائها وأحلامها، بل تذهب أحياناً إلى حد التعصب والخشونة. ولكنها لم تذهب قط إلى تلك الحدود المغرقة التي انتهت إليها الوطنية الاشتراكية في ألمانيا. وتتجه الشبيبة الإيطالية اليوم ببصرها إلى ماضي إيطاليا المجيد،
إلى مجد روما ومجد القياصرة، فتتصور بعث الدولة الرومانية بكثير من حدودها وأملاكها القديمة، وتتجه أيضا إلى إحياء الفضائل والخلال الرومانية القديمة؛ وهي اليوم افضل مما كانت عليه بكثير من حيث الأخلاق والهمم والثقافة. وأما في تركيا فان العاطفة القومية تبلغ بالشباب حد التعصب الأعمى، ومع أن الشبيبة التركية لا تتمتع بدرجة محترمة من التعليم والثقافة، فإنها مع ذلك شديدةالكبرياء والغطرسة تتصور أنها سيدة الشباب في العالم كله، وأنها على حداثة عهدها بالمدنية الأوربية وضالة ثقافتها تضارع أرقى شباب أوربا ذكاء وثقافة ومدنية، وليس هذا بغريب في بلد يدعي زعماؤه انه هو مهد الحضارات البشرية، وان لغته (أي التركية) هي اصل اللغات البشرية، ويحسبون أن ما اسبغ على تركيا الجمهورية في أعوامها القلائل من قشور المدنية الأوربية يكفي لوضعها إلى جانب اعظم الأمم رقيا وحضارة.
هذا وأما عن حركات الشباب في الأمم الإسلامية والعربية فلا نستطيع أن نبسط القول، ومن الأسف انه لم تنتظم في أممنا الإسلامية والعربية حركات منظمة قوية من الشبيبة. نعم قام الشباب في مصر وفي البلدان العربية بحركات متقطعة، واشتركوا في الحركات القومية، وكان لهم فيها يوم قيامها اكبر الأثر. ولكن هذا العمل القومي لم يكن منظما ولا مستمرا، ولم تدعمه من الناحية الأخرى تلك المزايا القومية والأخلاقية التي ننشدها. ومن الأسف أيضاً أن شباب الشرق يتأثر من آن لآخر بنزعات الشبيبة الأوربية، فيحاول أن يقلدها تقليدا أعمى. مثال ذلك ما أذيع من أن شباب بعض البلدان العربية يحاول أن يقتبس من مبادئ الحركة الهتلرية، مع أن الحركة الهتلرية هي من اشد الحركات الحديثة نزعة إلى الاستعمار، وابلغها عداوة للحرية، واشدها احتقارا للأمم الشرقية؛ فمن الواجب على شبابنا أن يسترشد في حركاته وأمانيه بالظروف المحلية والغايات القومية قبل كل شي، ومن الواجب أن يعمل ولكن في روية واستنارة؛ ومن الواجب أن يسترشد دائما بمحن الوطن وماضيه المجيد في تغذية العاطفة القومية، وأن يكون شعاره العمل الرزين المنظم في سبيل الأماني القومية.
محمد عبد الله عنان المحامي
الناي السحرية
للأستاذ بشير الشريقي المحامي
حين قدم موزار (1756 - 1791) الناي السحرية للجمهور لم تلق ما تستحق من نجاح. ويقال إن مدير الجوقة الموسيقية لأول مرة ظهرت فيها الناي السحرية، وبعد أن هدأت عاصفة التهليل، تسلل إلى موزار وكان يشرف على الإخراج، وقبل يده، فربت موزار على رأسه، لنا أن نذهب من ذلك إلى أن المدير قد فهم ما عنته الموسيقى، وان موزار أدرك أن المدير قد فهمها. كلاهما لم يستطع وضعها في كلمات رواية غنائية وهي في الواقع لم تكن مثبتة في كلمات؛ وما كانت كلمات الرواية الغنائية لتحول دون إدراك المعاني الموسيقية لو لم يتساءل النظارة عن معاني تلك الكلمات. لقد نجحت الناي السحرية بعد موت موزار؛ وسبب هذا النجاح ولا شك أن النظارة لم يعودوا يتساءلون عن معاني كلمات الرواية وأدركوا شيئا من معاني الموسيقى.
كلمات الناي السحرية هي عناوين لموضوعات ضخمة، ونحن نمر خلالها بسرعة إلى موسيقى بابا كينو الواضحة، ولكنا سوف نضيع ذلك الوضوح إن نحن سعينا إليه عن طريق الكلمات أو نشدنا موضوع الرواية في هذه الكلمات. إن حوادث الرواية ليس لها ارتباط بالكلمات بعضها ببعض، كما أن منطق الرواية كله في الموسيقى التي تخلق عالما تقع فيه الحوادث عفوا، عالما تصدر فيه النغمة عن أختها أو تنعكس عنها كما تنعكس قوى الطبيعة أو أفكار الرجل؛ هذا العالم هو الكون كما يراه موزار، والرواية بكاملها هي إيضاح لأيمانه الخاص. وعلى هذا فهي بذاتها عمل ديني وان كانت سليمة مما نجده في الدين من مسائل مبهمة وورع جبان. لقد عاش موزار في هذا العالم أشبه ما يكون بملك همه أن يضحك، ولكن بلا أذى ولا حقد، همه أن يضحك من شقاء بني الإنسان، وشر المصائب ما يضحك. وكان يعطف حتى على الفجار (انهم أطفال خبثاء يمكن لمن عنده سر السحر أن يجعل منه أهل خير وصلاح) وفي الناي السحرية يعمل السحر، انه يعمل في الناي نفسها، وفي قيثار بابا كينو. عند موزار سر الموسيقى، وقد بلغ من جهل العالم بحكمته أن حسبه مجرد شحاذ يعزف بأنغامه في الشوارع؛ وبعد جيل اصبح الناس يذكرونه كلما ذكروا الأنغام، وأصبح الشعب ينظر إليه كما ينظر إلى سوسن الحقل؛ ولا تزال الناي السحرية
إلى اليوم اكثر من رواية غنائية عادية ذات أنغام وأسلوب بسيط قديم، يمكنك أن تتمتع بها على كل حال إذا لم تقف إزائها موقف المتهيب؛ يمكنك أن تنعم بها كما تنعم (بهملت) تلك الرواية المشجية؛ وهي مثل (هملت) تحوي معاني دقيقة بعيدة، معاني لا تدركها أفهامنا. إن بابا كينو صورة مجازية؛ ولكنها من اعظم الصور في جميع روايات العالم؛ انه كل شخص كما كان (هملت)، وإذا كنا نملك مهارة معرفة أنفسنا وجد فيه كلا منافسه؛ وبكلمة أخرى انه ذلك العامل المستولي علينا والذي نحبه في أنفسنا ونحتقره في الآخرين؛ انه ذلك العامل الذي لا نعترف به للحظه، إلا وهو عامل الخوف والاعتزاز والكذب.
قدم موزار اغانيه لسارسترو وبابا كينو، حتى إذا أخذا في الغناء أحسسنا كانا نشاركهما غناءهما، وأي غناء؟! غناء ليس فوق مقدرة فهمنا ولا سرورنا؛ غناء الملاك الذي تعلم لساننا الأرضي وادخل عليه الإصلاح أقام بذلك سماء على الأرض؛ سماء لا تبعد عنا ولا تصعب علينا؛ سماء من غابة مقفرة نقدر فيها أن نضحك بقدر ما نقدر ان نغني؛ سماء تضحك فيها الملائكة منا وتضحك معنا؛ وفي هذا الفردوس الذي خلقه لنا موزار سرعان ما يتحول جلال الموسيقى إلى هزل، وسرعان ما تعود الموسيقى إلى جلالها، وهذا التبدل يظهر دائما طبيعيا. ذلك هو عقل موزار الذي رماه الشعب بالطيش لسبب واحد هو انه وقد أوجد في سمائه مكانا لكل شي لم يوجد مكانا لمجد سليمان المتبذل، أو للعنف والبشاعة والبلادة، لا يوجد في الفن أبداً ما هو اعمق أو اجمل من أصول موسيقى سارسترو. لقد بلغ من وضوح عقيدة موزار أنها تبدو وكأنها ليست بعقيدة وإنما هي مجرد بهاء، مثلها في ذلك مثل القديسين الحقيقيين الذين يبدو عليهم انهم ليسوا من أهل الصلاح بل من أهل الفتون.
وهنالك من الناس من لا يجد في جمال موزار فنا، وسبب ذلك أن جماله جمال حق. هم يحسبون انه احتال على هذا الجمال احتيالا؛ انهم ينشدون صرير الجهود، وينشدون الأنانية؛ لقد بلغ من نقاء جهوده ومن كثرتها أن حسبوها رخيصة لا ترضي إلا العوام.
يصعب علينا أن نشاهد الناي السحرية تمثل تمثيلا مرضيا على مسرح اليوم، ولكنا برغم ذلك سنسر ولا ريب من أي تمثيل لهذه الرواية التي حوت روح الموسيقى، والتي يمكن للمرء أن يرى منها كيف تكون الناي السحرية؛ لقد بلغ من رقة موسيقاها ورقة أنغامها أنها تقدر أن تجدد موسيقى هذه الأيام المسرحية الغريبة.
يمكننا أن نصف تامينو وبانينا كما نصف احسن صور في مجمع فني، وان نتخذ كلا منهما مثالا لأبطال الروايات الغنائية وبطلاتها في كل عصر ومصر، بلى قد لا تنتسب ثيابهما لعالم الحقيقة أو الفن، وقد تعرض نماذج مصطنعة ومنمقة، ولكن الموسيقى تلطف من ذلك وتساعد كل شخص على أن يقوم بدوره احسن قيام. من الواضح أن موسيقى الناي السحرية تجلب السرور وتوافق أولئك الذين ينشدونها فإذا بهم كأنهم يقومون بعمل ديني اكثر مما لو كانوا يقومون بعمل مسرحي، وانك اكثر ما تشعر بذلك عند انسجام الأنغام حينما يتراءى لك أن ريح الفردوس تهب على جميع المغنين فيتمايلون لها تمايل الأزهار بالرغم من ثيابهم الكثيفة. ولكن الناي السحرية مفتقرة إلى عالم متجانس في النظر كما هو متجانس في السمع حتى تظهر بمظهر كامل مرض، ولهذا فنحن أحوج ما نكون لفترة إصلاح تتناول كل عاداتنا المسرحية؛ نضرب لذلك مثلا سارسترو، انه يعيش بين مناظر مصرية، على حين إن هذا العالم المصري لا يناسب الموسيقى وهو يعني لدينا أعاجيب القاعة المصرية، ولكن هنالك عالما مفردا يناسب الموسيقى كل المناسبة، عالما تستطيع أن تمر فيه من العبث إلى الجمال مرورا طبيعيا؛ وفيه تكاد تكون جميع الصور متناسبة وواضحة، ذلك العالم هو العالم الصيني كما عرفناه في الفن الصيني حيث يوجد في هذا الفن الخيال الروحي والهزل البهي؛ حيث يوجد في هذا الفن مزيج من طفولة وقداسة يوحي إلى العين ما تحويه موسيقى موزار إلى الأذن؛ وفي الفن الصيني فقط يقدر بابا كينو أن يكون قديسا: في ذلك العالم فقط تعيش روح موزار بضحكتها وحكمتها، وكأنها في بيتها؛ في هذا العالم تساوت الأزهار وجميع الحيوانات في الخطر مع جنس الإنسان، في هذا العالم يظهر الأفعى والثعبان وكأن كلا منهما مصنوع من ورق مقوى؛ في هذا العالم لا يظهر السحر انه مجرد تعاويذ؛ في هذا العالم يمكن للمرء أن يقع على مناظر طبيعية وصور جميلة؛ وفيه لا يكون سارسترو ساحرا مسرحيا بل كاهنا كنسيا.
في الحق إن الفن الصيني هو عالم الناي السحرية حيث تتدلى الأجراس الفضية من كل شجرة مزهرة، وتزدحم الحدائق بالبلابل الساحرة؛ هو عالم الحماسة والتأمل، حيث يجلس الحكيم في السرادق في ضوء القمر، ويبتسم ابتسام عاشق، وحيث يبتسم العشاق كالحكماء. . حيث يوحي كل شي للعين ما توحيه موسيقى موزار للأذن. وفي العالم الصيني يمكننا أن
نتجنب كل تشدق في الغزل الشهواني اعتاد أن يلفظ به المسرح الحديث؛ كما يمكننا أن نخضع أنانية أوربا الثقيلة للشرق المنكر لذاته.
لقد تمرس موزار بالألم، ولكنه لم ينغمس في؛ انه يعني بجمال العالم اكثر مما يعنى بجمال نفسه؛ عنده أن الشر من عمل الشياطين الذين تقدر الموسيقى على طرد أرواحهم.
لقد كان موزار اورفيوس هذا العالم الذي يستطيع إن نحن أصغينا إليه أن يذلل الحيوانية الكامنة فينا جميعا؛ ومع ذلك فان أقصى وقاره ومنتهى سر جماله إنما هو في رحمته التي وسعت كل شي؛ وهو حين يترحم علينا أو على نفسه لا يأخذه البكاء، بليطلب إلينا أن نجفف دموعنا وان نكون من الصالحين، وان نصغي لنايه السحرية.
وهذا الحنان الذي ينبعث من أصواته خلال الناي السحرية يبعث في الناي السحرية جمالاً وهزة وعجبا، لا يمكن أن تبعثها أية عاطفة إنسانية. سارسترو ليس بساحر، إن هو إلا قسيس، لأن فيه حكمة الرحمة المحببة، ولأنه خصص مكانا في فردوسه لبابا كينو ابن الطبيعة يلهو فيه مع صاحبته بابا كينا. مرت ببابا كينو وهو في فردوس سارسترو الموحش لحظة فكر فيها أن يشنق نفسه، لأنه لم يجد من يشاطره الحب، ولكنه لا يكاد يضع حبل المشنقة على عنقه حتى تسمع في الموسيقى قهقهة تنبئك انه يتململ من حبل المشنقة؛ ولكن سرعان ما تقدم إليه بابا كيناوسرعان ما يعود إلى الفردوس انسه، ويأخذ الاثنان في غناء دورهما في نهاية الرواية.
نحن على يقين بان عدالة الناي السحرية قضت ببراءة ملكة الليل؛ والزنجي البشع وجميع معاونيه؛ لم يعاقب منهم احد؛ لقد شقوا لغير ما سبب؛ فجاءوا نادمين مستغفرين؛ وهكذا تنتصر الناي السحرية على شرورهم وشقاواتهم، فتدق الأجراس الفضية من كل شجرة؛ وتغني البلابل غناء يخلب الألباب، ويبتسم الحكماء والمحبون ابتسامة الأطفال، فتدخل ابتساماتهم دخولا طبيعيا في دين موزار المقدس؛ هذا الدين المهيب الذي تالف فيه الابتسام والعبوس، ولم يتنافرا تنافرهما على الأرض.
بشير الشريقي المحامي
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة
للأستاذ عبد العزيز البشري
لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ اكثر ما يتكئ في فنه على الخيال. أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية. نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته. ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الإفهام. ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.
وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ اكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما غلا، ومهما حلق وارتفع، ومهما استحدث واخترع، ومهما لون من الألوان وشكل من الأشكال - فانه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة. مبتدئ لابد بها، منته لا مفر في الغاية أيليها. فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعارة في كل ما سَّوى وفي كل ما صوَّر وشكًّل ولوَّن.
وذلك بان الإنسان مهما رزق من شدة العقل وأوتي من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئاً لم يقع عليه حسه. وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، والى إدراك الحيوان. فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربة لا اكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر. بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كفَّ من أول مولده في محبس لما قدَّر أن دنياه شي غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.
لك الحق بعد هذا الكلام أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس. فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟
لقد توجه، بادئ الرأي، هذا السؤال، على انك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما دون
جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أو باستظهارها، أو باستكشافها، أو نحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها. أما الخيال فانه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.
فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما غلا فيها صاحبها واطرف، ومهماابعد بها عما طالعة الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة. ولست أصيب مثلاً لتوضيح هذا الكلام احسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي (المستحيل الوقوعي) بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق. فذلك وان كان غير واقع بالفعل، إلا أنه مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود. والبحر كائن والزئبق كائن. وكل سعى الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.
كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة، مُعطٍّ، أما العالم، في الجملة، فاخذ: الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق، والتلفيقبينهما، وإفراغها في غير صورها، وتلوينها بغير ألوانها. أما العالم فابلغ جهده في تلقي الحقائق. فإذا كان فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلى عليه من مكنون الأسرار.
ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه اكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب اكثر النقدة إلى انه ليس شعراً ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة، وان كان مقفى موزوناً. ولقد عرفت اثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها، وطبعها على غير صورها الواقعة. لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابة الحكيم شعراً، ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعراً:(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ). (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، إن هُوَ إلا ذِكرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ) يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار من أن القران شعر، على معنى انه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم بأنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار:(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).
(يخَيَّلُ إليْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى). إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ). (إِنْ هُوَ إلا ذِكْرٌ وَقُرْءانٌ مُبينٌ). وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المُعلِمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.
ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق. إنما الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صوراً طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، او تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.
ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعاً من النفس، هي أدقها حبكاً، واحكمها سبكاً، حتى إذا طالعتها التبست عليك بالحقيقة، أو إنها لتكاد. وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.
وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح. قال المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه. وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة. ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع لرأينا كذلك أن أعذب الشعر اصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر. فأعذب الشعر في الواقع هو الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.
ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا. وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، أعنى به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء، تسلكها دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة. فإذا واتته قدرة النظم، فاداها كما
أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال، ودقة الذوق، وحسن الأداء.
والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك، وقد يغمز كبدك، لان الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل مترقرق.
وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وان كانت خيالاً في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة. وكيف لا يكون لها في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت لأدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه.
أرجو أن يكون قد صح عندك الآن إن أعذب الشعر، من هذه الناحية، اصدقه لا أكذبه.
الصناعة الشعرية
ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال. فانه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد ساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فان الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة اشد وابلغ. وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر، على العموم، لا يشعر شيئاً ولا ينفذ حسه إلى شيء. فيبعث خيالة من مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشى متعثراً هاهنا وهاهنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث وقعت. حتى إذا لاح له شبحها شكها ولو لم يتبين شخصها. ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما حسبه مما يلابسها. ويطبع من هذه الامشاج صورة شعرية (والسلام)، صورة لا الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالألف لها، أو ذكا حسه بها.
وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على ارفق تعبير. بل انه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات. بل انه كثيراً ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفي معارف وجهها على ناظمها فكيف بقارئيه؟
وعلى عيني أن أقول إن شيئاً من هذا يقع في بعض ما نقرؤه من شعر هذه الأيام!.
ودعنا من الحديث الآن حتى نفرغ من شان القديم. وخبرني بعيشك أي شيء هذا الذي ساقه علماء البلاغة شاهداً على حسن التعليل!.
لو لم تكن نيةُ الجوزاء خِدمتَه
…
لما رأيتَ عليها عِقد منتطق
وقول الآخر في هذا الباب أيضا. ً
لم تحكِ نائِلكَ السحابُ وإنِّما
…
حُمَّت به فَصبِيها الرُّحضاءُ
اللهم افكان من السائغ في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا إنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ممدوحه؟
وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرين في السحاب وهي تهمي، لم تشعره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحمى، فلم يكن ما تسح به إلا من عرقها!
اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ، وهذا وهذا من الخيال الفسل السخيف!.
وبعد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قرض الشعر في الجملة، إلى أحد شيئين: إما لان الناظم لا طبع له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال تصيداً ويصنعه صنعاً، ليجئ بنحو ما يجئ به الشعراء، وأما للرغبة في شدة المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيسف الشاعر ويسخف، ويأتي بمثل هذا الهذيان الذي أتى به ذانك الشاعران. إلى أن طبيعة هذه الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح: والحمد لله الذي عفى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه. والنظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبى سلمى في مدح هرم بن سنان ووصف كرمه، وكيف، على انه غلا في ذلك اشد الغلو، أتى لهذا الكرم بصورة قوية مسبوكة سائغة.
قد احدث المبتغون الخير من هرم
…
والسالكون إلى أبوابه طرقاً
من يلق يوماً على علاته هرما
…
يلق السماحة منه والندى خلقاً
وذلك لان يوماً ممدوحه كان جواداً حقاً، وانه هو تأثير بشدة جودهحقاً، وهو إلى هذا شاعر فحل، خصب الذهن سري الخيال، فلم يتعمل ولم يتعسف، بل لقد أنتضح شعره بالصورة التي جادت بها شاعر يته فجاءت، على إمعانها في الغلو، سائغة مسبوكة لا نشوز فيها على
الأذواق. وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، وبين الخيال المصنوع.
ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث. وللذوق محله غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر. ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن طال بنا الكلام. فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.
عبد العزيز البشيري
بين فن التاريخ وفن الحرب
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
يعد خالد بن الوليد من اكبر قادة العرب في عهد الفتوح الأولى، وهو بلا منازع من أفذاذ الرجال الذين حالفهم النصر ووأيدهم الظفر في الممامع والحروب بلا استثناء.
ولم يذكر قط له التاريخ وقعة خسر فيها المعركة وهو قائدها، حتى في معركة موته التي وقعت في السنة الثانية للهجرة في شرقي الأردن بين الطفيلة والكرك، أنقذ خالد المسلمين ببطولته وإقدامه، برغم تفوق الأعداء الأكيد وموت الذين تولوا القيادة على التعاقب عملا بوصايا الرسول. وفي غزوة أُحد كان خالد يقود خيالة قريش فبقى في الميمنة يشاغل ربيئة المسلمين الموفدة لحماية الميسرة بالهجوم عليها من حين إلى آخر، ويراقب سير القتال بين المسلمين وقريش إلى أن رأى ربيئة المسلمين تركت موقعها وسارعت للاشتراك في الغنيمة. فهجم بخيالته ملتفا وراء المسلمين وقاطعا عليهم خط الرجعة، فقلب نصر المسلمين إلى انكسار انتهى إلى انهزام المسلمين وجرح الرسول.
قلنا من الوقائع التي اشترك فيها خالد بن الوليد في عهد إشراكه وإسلامه أن تلك الوقائع جميعا انتهت إلى النصر المبين.
ومما لا شك فيه أن خالدا من اقدر قواد العرب على القيادة. فجدير بالضباط أن يدرسوا حركاته إن في حروب الردة أو في فتح العراق أو فتح سوريه. ومن الواضح انهم سيطلعون على الأسس القويمة التي كان يسير عليها ويرون فيها تنفيذ مبادئ الحرب التي لا تزال مرعيه حتى يومنا هذا.
ولقد قال خالد قبل وفاته انه شهد مائه زحف أو زهاءها، وما في بدنه موضع شبر إلا وفيه
ضربة أو طعنة. ولا نبالغ إذا قلنا انه خرج من تلك الزحوف بأجمعها غالبا منصورا.
1 -
مصادر البحث:
من العسير جدا البحث في أخبار الفتوح الأولى بحثا يمكننا من الاطلاع على الخطط العسكرية والأسباب التي أدت إلى وضعها والنتائج التي أسفرت عنها الحركات. ذلك لان القصاصين أو مدوني السير والمغازي أو مؤرخي الفتوح ليسوا من أبناء الجيل الفاتح، فقد دونوا الأخبار بالسماع أو نقلاً بالإسناد. وقد نراهم غير متفقين في تدوينهم الأخبار على التاريخ والمكان اللذين وقعت فيهما المعركة، ولا على مقدار القوة التي اشتركت فيها، ومن المعارك ما لم يتفق المؤرخون على زمن وقوعها. والحقيقة أن التاريخ العسكري يثبت المعارك التي جرت قبل الميلاد بمقدماتها ونتائجها وتفاصيلها، وقد يستخرج منها الباحث الأسس الحربية دون عناء.
فالمعارك التي نشبت بين الجيش المكدوني بقيادة الاسكندر والجيش الفارسي في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد تم تدوينها بصورة اقرب إلى الصحة من الوقائع التي نحن بصددها.
أما المعارك التي جرت بين الجيوش الرومانية وجيوش الأقوام المهاجرة، والقتال الذي نشب بين القياصرة والقواد المطالبين بالعرش، فأخبارها مفصلة في كتب التاريخ إلى حد أن الباحث فيها لا يرى مشقة في استقصاء الحوادث.
فمعركة (كانية) التي نشبت سنة 216 قبل الميلاد بين الجيش القرطاجي بقيادة هنبال والجيش الروماني، كانت ولا تزال مثالا ينسج القادة العظام على منواله تعبئة الجيش في ميدان المعركة، وهي بلا منازع معركة نموذجية تتوق نفس كل قائد إلى تقليدها.
والسبب في تدوين أخبار هذه المعارك تدوينا صحيحا مع أنها نشبت قبل الفتوح العربية بعدة قرون، هو أن المؤخرين الذين اثبتوا أخبارها إما أنهم اشتركوا فيها فعلا، وأما انهم قادوها بأنفسهم، وأما انهم عاشوا في زمن وقوعها.
فالقائد زينوفون اليوناني الذي قاد العشرة الآلاف من بلاد بابل إلى اليونان راجعاً بهم إلى بلاده سجل حوادث تلك الرجعة في كتابه (الزحف) (اناباسيس وهذا الكتاب لا يزال مرجعا ثقة للباحثين العسكريين. وكذلك سجل يوليوس قيصر أخبار فتوحه في بلاد جرمانية
في كتاب (الحروب الغالية).
أما المؤرخون العرب الأولون فلم يدونوا أخبار الغزوات النبوية وحروب الردة والفتوح التي تمت في النصف الأول من القرن الهجري إلا بعد انقضاء جيلين على اقل تقدير.
وأول من جمع الوثائق الباحثة في الغزوات والفتوح الأولى عروة بن الزبير المتوفى سنة 94 هجرية. فان عروة جمع تلك الوثائق في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان - أي بعد وفاة الرسول بستين سنة، ودونها دون إسناد. ويلى عروة في التدوين ابن اسحق المتوفى سنة 151 هجرية مقتبسا معلوماته من عروة. أما ابن هشام المؤرخ للسير النبوية فاستقى أخباره من ابن اسحق، مع انه توفي بعده بقرن ونصف قرن - أي سنة 312هـ. ويأتي بعده ابن سعد الواقدي الباحث في حروب الردة والمدون للمفتوح العربية في العراق وفي سورية، وتوفي سنة 230هـ، بعد أن عاش 62 سنة. ويليه المؤرخ المشهور الطبري وهو بلا منازع أول مؤرخ عربي اثبت الأخبار التاريخية بطريقة علمية. وتوفي سنة 310هـ بعد الفتوح العربية الأولى بقرنين ونصف قرن على اقل تقدير.
والحقيقة أن كتاب تاريخ الطبري هو العمدة في استقصاء أخبار الفتوح العربية وهو المرجع الأول والأخير. وهكذا يتضح لك أن رواة الفتوح أو مؤرخيها لم يشتركوا في وقائع الفتوح أو انهم لم يعاصروا أولئك الفاتحين، بل انهم دونوا أخبارها سماعا أو نقلا بعد مرور مدة غير يسيرة على الفتوح. وكان لزاما أن تأتى الأخبار ناقصة ومشوشة ومتناقضة. حتى أمسى الباحث فيها لا يهتدي إلى استنباط بعض الحقائق إلا بشق النفس. والذي يزيد البحث إشكالا كثرة الرواة الذين استند إليهم المؤرخون في تدوين الأخبار. وأنت تراهم يسخون برواية غثها ويبخلون بسميها.
وثمة تناقض بين أخبار الرواة المنتمين إلى الديوان الحجازي والرواة المنتمين إلى الديوان العراقي. وكذلك نجد تناقضا في الروايات التي ينقلها المضري والربيعي واليماني والقيسي، لان كلا من هؤلاء حاول أن ينسب مفخرة الوقعة إلى قبيلته وقد يكون غير مشترك فيها.
2 -
دار الحركات
إن الساحة التي جرت فيها الحركات تمتد من سواحل البحر الأحمر في الحجاز وتنتهي في ارض الدهناء التي تفصل مقاطعة الحسا ومقاطعتي العارض والسدير، وهذه الساحة تتناول
شمالي الحجاز وجبل شمر وبلاد نجد.
والأرض التي تتكون منها هذه الساحة صحراوية الوصف على العموم، والمياه فيها قليلة، والغابات لا اثر لها فيها، وتتخللها واحات نبتت فيها أشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة. وقد تكونت في المنخفضان التي تتصرف إليها مياه الأمطار بسهولة حيث تكثر الآبار الضحلة، وتقطع الوديان هذه الساحة، وتكاد تبدأ جميعا من هضبة نجد المرتفعة فتجري في جهات مختلفة، ويصب بعضها في البحر الأحمر والبعض الآخر في خليج فارس أو في جهة الربع الخالي. والوديان يابسة على العموم وهي ضيقة ووعرة عند اجتيازها المناطق الجبلية وعريضة سهلة عند مرورها بالبادية.
وينبت في بعض أنحائها شجر الأثل والشوك والطلح وغير ذلك من الأشجار التي تتحمل العطش، وعندما تنزل الأمطار تجري إليها المياه من كل جانب فتغطي الوديان سيول المياه الجارفة الجارية بسرعة، وتصب أما في البحر وأما في الانفدة الرملية.
والجبال في المنطقة التي جرت فيها الحركات قليلة. وهي لا تتعدى سلسلة طويق في نجد تمتد من الشمال إلى الجنوب في جبلين متوازيين، ويشرف الجبل الغربي على الانفدة الغربية بين نجد والحجاز. ويشرف الجبل الشرقي على رمال الدهناء الواقعة بين خليج فارس ونجد. والسلسلة جرداء، لا نبت فيها ولا ماء. وفي القسم الجنوبي من منطقة العارض يفصل وادي حنيفة هذين الجبلين أحدهما عن الآخر، فيجري أولا من الشمال إلى الجنوب بعد أن تصب فيه عدة شعب من الشرق والغرب، وفي جنوبي الرياض يغير مجراه إلى الجنوب الشرقي فيصب في رمال الاحقاف.
وما عدا سلسلة طويق نجد سلسلتين أخريين في منطقة جبل شمر وهما جبل اجا وجبل سلمى، وهما موازيان يفصل أحدهما عن الآخر وادي العش. ويمتد كلا الجبلين من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. وجبل اجر باتصاله بالجبال المنفردة الواقعة في جنوب غربية يكون سلسلة طويلة تمتد إلى حرة خيبر في الحجاز.
والسلسلتان حجريتان ارتفاعهما من 50. إلى 180. متر. والجبال المتفرقة التي تتشعب من هاتين السلسلتين تحيط بها الكثبان الرملية. والبادية الواقعة بين الحجاز وسلسلة طويق متكونة من هضبة مرتفعة يتفاوت ارتفاعها من 100. متر إلى 150. متر، ويكتنفها بعض
الروابي الحجرية المنفردة. وهذه الهضبة تنفصل عن هضبة جبل شمر بوادي الرمة الذي يبدأ من حرة خيبر، ويجري من الغرب إلى الشرق، وبعد ان يسقى بآبار منطقة القصيم الغنية يغير جهته إلى الشمال الشرقي إلى أن يصب في ارض السواد بجوار البصرة.
والوادي هنا اخطر الوديان الواقعة في دار الحركات، وهو يفتح خطوط الحركات بين الحجاز ونجد. وعندما تقطع الوديان وشعابها السلاسل الجبلية تكون العقبات المضائق والمنعطفات التي تنساب فيها الطرق.
والساحة مملوءة بالانفدة الرملية، والكثير منها يتجه من الشمال إلى الجنوب، أو من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقى، لذلك تعترض الوديان الطرق الممتدة من الغرب إلى الشرق.
ومن جملة العوارض التي تتصف بها دار الحركات الحرات، وهي الأراضي البركانية التي تكتنفها الحجارة الخامدة. وهذه الحرات واقعة إلى شرقي الحجاز، وأخطرها حرة خيبر الواقعة في شمالي المدينة مسافة بضع مراحل.
والبقاع الأهلة بالسكان في هذه الساحة هي الواحات في بطن الوديان أو في الأرض المنخفضة التي انصرفت إلى بطنها مياه الأمطار، وأخطرها واحة المدينة في وسط وادي الحمض، ثم واحة بريدة وعنيزة في وسط وادي الرمة. وواحات العارض الممتدة على طوار وادي حنيفة، ثم واحات السدير وواحة خبير وواحات جبل شمر.
وتمتد الطرق في الوديان للاستفادة من المياه المتراكمة فيها في زمن الأمطار من الآبار المحفورة على طوارها. وهذه الطرق تبدا من المدينة، ومنها ما يتجه شمالا، فبعد أن يمر بخيبر يمتد إلى وسط جبل شمر سالكا السفوح الجنوبية لسلسلة اجا، ومنها ما يتجه نحو الشمال الشرقي إلى أن يهبط إلى وادي الرمة فيسلكه حتى يصل إلى واحات نجد الغنية. ولا سبيل إلى السير على خارج الطرق لوعورة الأرض وندرة الماء فيها.
يتبع
طه الهاشمي
2 - الشريف الإدريسي
يضع اقدم وأصح خريطة جغرافية للدنيا القديمة
للأستاذ محمد عبد الله ماضي
عضو بعثة تخليد الإمام محمد عبدة بألمانيا
7 -
الإدريسي يضع خريطة بناء على نظريته السابقة.
وبناء على نظرية الإدريسي التي شرحناها وضع خريطته العالمية هذه، فهي تمثل القسم المعمور من الكرة الأرضية وهو القسم الشمالي منها كما قدمنا. هذا القسم يشمل القارات الثلاثة: أفريقية الشمالية في الجهة اليمنى العليا (الجنوب الغربي)، أوربا في الجهة اليمنى السفلى (الشمال الغربي) يفصل بينهما بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط)، واسيا في النصف الشرقي تشمل جميع الجهة اليسرى. وأمريكا طبعا لم تكن عرفت بعد، وكذلك هذا التقسيم إلى القارات الثلاث لم يكن معروفا لدى العرب على الإطلاق، وإنما كانوا يقسمون الكرة الأرضية إلى الأقاليم السبعة من الجنوب إلى الشمال، ثم كل إقليم إلى عشرة أقسام من الغرب إلى الشرق، وفوق هذا كانوا يقسمونها إلى الدول والممالك التي كانت معروفة في ذلك الوقت.
8 -
الأقاليم السبعة وخطوط العرض.
والأقاليم السبعة كانت عند قدماء اليونان عبارة عن خطوط أفقية تبتدئ من خط الاستواء نحو الشمال وتحدد النقط التي تتم فيها زيادة النهار نصف ساعة على طوله في المنطقة السابقة من جهة الجنوب، ثم استعمل العرب الأقاليم وأرادوا منها المناطق التي تقع بين هذه الخطوط، وتلك المناطق لم تكن متساوية عندهم. أما الإدريسي فانه أراد من الأقاليم السبعة التي قسم خريطته إليها هذهالمناطق التي كانت معروفة عند العرب، ولكنها عنده متساوية المقدار إذا استثنينا الإقليم الأول الذي يمتد إلى درجة 23 شمال خط الاستواء؛ فالأقاليم الستة الباقية يشمل كل منها ست درجات من درجات العرض، وعليه فالإقليم الثاني من 24 - 29، والثالث من 30 - 35 والرابع من 36 - 41، والخامس من 42 - 47، والسادس من 48 - 53، والسابع من 54 - 59. ولما كانت نظرية الإدريسي إن
المسكون من جهة الشمال هو لغاية درجة 63 فقط، لان المنطقة التي تقع بعد ذلك شديدة البرودة ومغمورة بالثلوج فهي غير صالحة للسكنى والعمران. لما كانت هذه نظريته أضاف إلى الإقليم السابع الذي ينتهي بدرجة 59 أربع درجات أخرى من جهة الشمال من 60 - 63 وبذلك يتم الجزء المعمور من الأرض. ومما يذكر للإدريسي بالإعجاب والفخر انه حاول بتقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة إثبات درجات العرض وتحديدها، وانه افلح في محاولته هذه إلى حد بعيد يجعل علماء الاختصاص في الوقت الحديث يطأطئون الرأس له إعجابا وتقديرا. أبتدأ الإدريسي بإثبات درجات العرض من درجة 28 إلى درجة 63 على التوالي، والدرجات التي أثبتها توافق الدرجات الحقيقية تمام الموافقة في جميع البحار وفي معظم اليابسة حيث توفرت لديه الأسباب أمكنه إجراء المقاييس الصحيحة؛ وفي بعض جهات قليلة من اليابسة حيث لم تتم لديه الأسباب تختلف الدرجات التي أثبتها عن الدرجات الحقيقية اختلافا بسيطا. فمثلا وضع الإدريسي مدينة (كلمار) ببلاد السويد عند درجة 56 ، 3 وهي تقع عند درجة 56 ، 5، وجعل الدانيمرك ابتداء من 54 ، 5 إلى 58 والصحيح أنها من درجة 54 إلى 57 ، 5، وجعل إنكلترا من 52 - 58 بدلا من 50 - 58 ، 5، وهذا طبعا فرق بسيط في جهات قليلة دعا إلى ارتكابه عدم توفر الأسباب كما تقدمنا، ولم تنقصه عناية الإدريسي ودقته. أضاف الإدريسي إلى القسم الشمالي من الكرة الأرضية جزءا بسيطا من القسم الجنوبي إلى درجة 16 جنوب خط الاستواء، هذا الجزء الذي تقع فيه منابع النيل، وبين عليه منابع النيل بشكل واضح يدل على مقدار براعته العلمية، ومد الساحل الشرقي لأفريقيا نحو الشرق وجعله حدا للمحيط الهندي من جهة الجنوب، وطبعا لم يلق هذا الجزء عناية الإدريسي لخلوه من السكان وعدم صلاحيته لذلك طبقا لنظريته التي شرحناها. كذلك لم يثبت الإدريسي درجات العرض إلى درجة 28 شمال خط الاستواء، وإنما اكتفى بوضع أرقام بجانب أسماء البلاد التي تقع في هذه المنطقة. ولما كانت هذه الأرقام لا تتطابق مع درجات العرض للبلاد الموضوعة بجوارها وإنما تختلف عنها اختلافا كبيرا فإننا نستطيع أن نفهم السر في أن العلامة الإدريسي لم يثبت هنا درجات العرض متوالية كما فعل بعد تلك المنطقة، بل اكتفى بوضع الأرقام التي وصلت إليه في مواضعها كما اخبر بها.
9 -
التقسيم الثاني (تقسيم كل من الأقاليم السبعة إلى عشرة
أقسام).
وبعد هذا قسم الإدريسي كلا من الأقاليم السبعة إلى عشرة أقسام متساوية من جهة الغرب إلى جهة الشرق، فالإقليم الأول يبتدئ من القسم الأول غربا إلى العاشر شرقا، والثاني من الحادي عشر إلى العشرين، وهكذا إلى الإقليم السابع الذي يبتدئ بالحادي والستين وينتهي بالسبعين. وعليه فأول الأقسام السبعين يوجد في الجهة العليا من الغرب، وآخرها في الجهة السفلى من الشرق. بحث الأستاذ (ميللر) هذا التقسيم الثاني فتبين له كما ذكر أن الإدريسي لم يرد به إثبات درجات الطول، وان الباحث لخريطته والقارئ لكتابه نزهة المشتاق لا يستطيع اخذ ذلك منهما، فضلا عن أن هذا التقسيم يختلف اختلافا كبيرا عن درجات الطول. لهذا أريد أنا هنا أن افرض أن الإدريسي اتخذ هذا التقسيم الثاني تسهيلا للقيام بالمهمة ورسم الخريطة لا غير.
10 -
البحار السبعة.
وبعد هذا نريد أن نتكلم على البحار السبعة التي ضمنها الإدريسي خريطته، وهي شي آخر غير البحر المحيط أو بحر الظلمات الذي يحيط بالكرة الأرضية.
(1)
البحر الشامي أو الرومي (البحر الأبيض المتوسط) الذي يتفرع من بحر الظلمات الغربي ويمتد نحو الشرق.
(2)
خليج البندقية (بحر الادرياتيك).
(3)
خليج النطاس (البحر الأسود) وهذان يتفرعان من بحر الروم.
(4)
البحر القزويني أو بحر الخزر وهو بحر داخلي غير متصل بالمحيط الأعظم.
(5)
بحر الهند (المحيط الهندي) وهو يحتوي على ثلثمائة جزيرة يستمد ماءه من بحر الظلمات الشرقي.
(6)
البحر الفارسي.
(7)
بحر السويس أو بحر القلزم (البحر الأحمر) وكل من هذين يتفرع من بحر الهند.
11 -
الإدريسي يسير في وصفه للكرة الأرضية بناء على
التقسيم الثاني.
هذه البحار السبعة تخترق الأقاليم السبعة بحسب مواقعها، ولقد وصفها الإدريسي وصفا مسهبا دقيقا ووصف جزرها والبلاد التي تقع عليها إلى غير ذلك في كتابه نزهة المشتاق عند كلامه على الأقاليم السبعين التي شرحناها في التقسيم الثاني. فانه اتخذ في طريقة وصفه للكرة الأرضية أن أبتدأ بوصف القسم الأول من الإقليم الأول متدرجا نحو الشرق إلى العاشر، ثم عاد إلى القسم الأول من الإقليم الثاني متدرجا إلى العشرين، وهكذا سار في طريقه إلى أن تم الكلام على القسم الأخير من الكرة وهو القسم السبعون، وعند كلامه عن كل قسم منها حدده وبين موقعه، وتكلم عن مدنه وجباله وبحاره وأنهاره وعن كل ما يحتويه من ماء ويابس، وعن الدول التي تشغله وعن سكانه وجنسياتهم وعاداتهم وعما يعيش فيه من حيوان وما ينبت فيه من نبات، مبينا كثيرا من خواص ذلك. طبيعية وطبية إلى آخر ما ضمنه نزهة المشتاق من الشرح المسهب والملاحظات الدقيقة.
12 -
مصير المائدة الفضية واثر خريطة الإدريسي الذي
تركته في علم الجغرافيا ورسم الخرط.
شرحنا كيف وضع الإدريسي خريطته وكيف ألف شرحها، ولقد تم حفر المائدة الفضية ورسم الخريطة وتأليف الكتاب ونشرهما واختيار الأسماء لهما بأمر رجار الثاني في يناير سنة 1154 كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وبعد إتمام هذا العمل الجليل بستة أسابيع عاجلت المنية رجار الثاني، ولكن ولله الحمد بعد أن استراح ضميره ووصل إلى حل ما استعصى عليه السنين الطوال، وبعد أن قدم للعالم والعلم على يد الإدريسي خدمة من اجل الخدمات في التاريخ، ولعله يشوق القراء الآن أن يعلموا مصير المائدة الفضية وماذا فعل الله بها وان كان مصيرا يوجب الأسف ويثير العبرة، ففي سنة 116. ميلادية بعد وفاة رجار الثاني بست سنوات وفي عهد ابنه (فلهلم) هاجم الثوار القصر الملكي واقتحموه وكان أشنع أعمالهم التي لم تكن موجهة إلى الأسرة النورمانية فقط، وإنما قد ارتكبت - علم الثوار أو لم يعلموا - ضد العلم والعالم اجمع. كان أشنع هذه الأعمال انهم كسروا هذه المائدة واقتسموها فيما بينهم وما هي حقا إلا ثورة، والثورات لا عقل لها، تم هذا الجرم على
مرأى ومسمع من الإدريسي الذي بذل مع مليكه من الجهد ما استغرق السنين الطوال وما كلفهما كثيرا من التضحيات، حتى ابرزا عملهما القيم للوجود، والذي كان يستطيع اكثر من غيره أن يقدر قيمة عمله العلمي والفني. لم يبق بعد هذا إلا خريطة الحائط وخريطة الكتاب الموزعة في السبعين قطعة التي هي أقسام الأقاليم السبعين كما ذكرنا. انتشرت هذه الخريطة فيما بعد اشد الانتشار وأعمه، وتركت أثرا واضحا في المؤلفات والخرائط الجغرافية التالية لهذا العصر في الشرق والغرب، وظلت مع شرحها مئات السنين المرجع الوحيد لعلماء الجغرافيا من العرب والافرنج، ومعينهم الذي يستمدون منه معلوماتهم. ولقد ذكر الأستاذ ميللر بعض أسماء المؤلفات التي يظهر فيها اثر خريطة الإدريسي وكتابه بوضوح عند أول نظرة، منها كتاب الجغرافيا لابن زيد المولود بغرناطة سنة 1214 والمتوفى بتونس سنة 1274 ومنها خرائط مارينو زانوتو التي وضعها (بطرس فيسكونتي في سنة 1318 - 1320م. والتي انتشرت في جميع أنحاء أوروبة. إلى آخر ما عدد من أسماء المؤلفين والمؤلفات التي قد يكون لنا أن نكتفي منها بما ذكرنا.
يتبع
محمد عبد الله ماضي
في الأدب الدرامي
8 -
الرواية المسرحية في الفن والتاريخ
بقلم احمد حسن الزيات
تحليل موجز لأشهر المآسي
(فدر موضوعها أسطورة من أساطير الإغريق في عهد الحروب الطروادية، وأهم أشخاصها تيزيه بن ايجيه ملك أثينا وفدر امرأة تيزيه وبنت مينوس، وهيبوليت بن تيزيه من انتيوب ملكة الامازون، واريسي أميرة من أميرات اثينا، وتيرامين مشير هيبوليت، واونون مرضعة فدر ونجيتها. وقد وقعت حوادثها في تريزين إحدى مدن (بيلوبونيز) وملخصها أن فدر امرأة تيزيه تبوح إلى مرضعتها (اونون) بهواها الدخيل وحبها المضمر لهيبوليت بن زوجها، ويستفيض الخبر في الناس فجأة أن تيزيه قتل في أثناء رحلته، فهتبل هذه الفرصة فدر، وتعلن إلى هيبوليت غرامها، فيقابل إعلانها بالدهش والإباء، ويظل مخلصا لحبيبته ايريس. ثم يعلمون أن الملك حي وانه قدم المدينة، فتياس فدر من هيبوليت، ويتسعر قلبها بالغيرة، ويمضها الندم ووخز الضمير. فتخجل من لقاء الملك وتفر من وجهه، وتظن ان هيبوليت سيفضي إلى أبيه بما كان منها فتترك اونون تؤلف المكيدة له، وتدبر الوقيعة به، فتهمه عند أبيه بمراودة سيدتها عن نفسها فيثور ثائر الملك فينفي ابنه، ويكله إلى غضب (نبتون). ويستيقظ ضمير فدر، فتنفجر باللعنة والعقوبة على مرضعتها الأثيمة، ويرجع تيرامين فيقص على الملك في أسلوب بليغ مؤثر جموح الجوادين بمركبة هيبوليت، وموته تلك الميتة الشنيعة. فيجزع الملك، وتقوم الأدلة على براءة ابنه مما اقترف به، فيتضاعف الحزن ويجل الخطب، فيذهب إلى فدر يسألها جلية الامر، فتعترف له بخيانتها، وقد كانت من قبل قد شربت سما فيفعل في جسمها، ولا تلبث أن تلفظ نفسها على المسرح.
مآسي فولتير
اشهر مآسي فولتير اثنتان وهما: (زيير) وميروب:
(زيير موضوعها ذكرى من ذكريات الحروب الصليبية، وقعت حادثتها لفتاة مسيحية
أخذها أحد فرسان المسلمين في سبيه منذ طفولتها فرباها أراد أن يتزوج منها، ولكنها عرفت أباها وأخاها وهي على وشك الزفاف فأغرياها بالتنصر، وهذه المأساة مكتوبة على مثال عطيل لشكسبير. أما أهم أشخاصها فهم: اورسمان وهو سوداني من سكان أورشليم وخطيب زيير، ولوزينيان أحد أمراء أورشليم وابنته زيير وابنه نير ستان، وثلاثتهم من أسرى صلاح الدين، وشاتيليون فارس فرنسي، وفاطمة جارية من جواري السوداني، وقد وقعت هذه المأساة في أورشليم.
ففي الفصل الأول:
تبوح زيير لفاطمة بسر زواجها المقبل من السوداني. فتذكرها الجارية أنها مسيحية. وكان نيرستان قبل ذلك قد نال الأذن من مولاه اورسمان ان يذهب إلى فرنسا ليأتي بالفداء له ولعشرة من الأسرى. فيعود ويطلب من اوزسمان فك رقبة زيير وفاطمة وعشرة فرسان من الأسرى. فتفعل هذه الأريحية في نفس الأمير، فيمنحه مائة أسير ليس فيهم زيير ولا لوزينيان.
وفي الفصل الثاني:
تريد زيير أن تقضي نيرستان حق الشكر على مروءته وفضله، فتحمل اورسمان على إطلاق سراح لوزينيان. فيتحرر هذا، ولكنه يعرف ابنته زيير بصليب قد احتفظت به، وابنه نيرستان بأثر جرح فيه. ويأخذه المقيم المقعد من الهم والحزن حين يعلم أن ابنته مسلمة، ولكن زيير ترتمي في أحضان أبيها، وتعده أن تتنصر.
وفي الفصل الثالث:
يلقى نيرستان اخته، وينعى إليها لوزينيان أباها، ويحضها على أن تجعل باعتناق النصرانية. فتوافقه على ذلك، وتقسم له أنها لن تتزوج من اورسمان. ويأتي هذا بعد قليل يطلبها إلى المسجد ليعقد عليها، فتستمهله ريثما تدبر وسيلة للهرب.
وفي الفصل الرابع:
يمهلها اورسمان يوما للاستعداد للزواج. وفي غضون تلك المهلة يرسل نيرستان كتابا إلى أخته، يرشدها فيه إلى طريق الهرب، ويدلها على باب سري تنجو منه، فيقع هذا الكتاب
في يد اورسمان، فيظن أن نيرستان يزاحمه في حب زيير وهو يحاول الفرار بها. فيعد الوسائل للقبض عليه.
الفصل الخامس:
وفي جنح الليل البهيم تتسلل زيير إلى المكان الذي دلها أخوها عليه، وتناديه فلا يجيبها غير اورسمان بطعنة نجلاء بخنجره، ويسحب نيرستان في المسرح إلى موضع الجثة، فيصيح الأخ المنكود: واأختاه!! فيعرف اورسمان خطأه، ويعتلج في صدره الندم واليأس فينتحر.
يأخذون على هذه القطعة فقدان اللون المحلي منها في دوري زيير واورسمان. فقد يخيل إلى من يسمع تلك العواطف التي اكناها وشرحاها انهما من المختلفين إلى أندية السمر الأوربي في القرن الثامن عشر، فضلا عن انه جعل ذلك الأمير الكريم الحليم الوديع ينتقل فجأة إلى جنون الغضب لرؤيته رسالة لم يتحقق ما فيها.
(ميروب موضوعها استيلاء ايجسط بن ملك مسينا على العرش، ومدارها على انتصار الحب. واهم أشخاصها:
ميروب أرملة كريسفونت ملك نسينا، وولدهما ايجسط، وبوليفونت قاتل الملك، ونرباس خادم كريسفونت الخ. وقد وقعت حوادث هذه المأساة في مسينا.
الفصل الأول:
قبل خمسة عشر عاما من ابتداء المأساة قتل كريسفونت هو وولدان من أولاده في ثورة. أما ايجسط ثالث بنيه فقد أنقذه من المذبحة نرباس خادم أبيه، ونجا به في بلد غريب، وكان القاتل هو بوليفونت؛ ةقد استطاع أن يكتم سر الجريمة خمس عشرة سنة، فيبدأ الفصل بتحريض إحدى الوصيفات ميروب على المطالبة بحقها في العرش، وهي تتربص قدوم ولدها الغائب، ولكن الشعب يصمم على انتخاب ملك، ويفاضل الآن بينهما وبين بوليفونت. ويوهم بوليفونت الشعب انه المنتقم للملك، فيفضلونه وينصبونه عليهم ملكا. ويريد هو أن يجعل تملكه شرعيا فيحاول الاقتران بميروب فترفض وتطالب بحق ولدها، فيرسل طغمة من السفاكين يبحثون عن ايجسط ليقتلوه.
الفصل الثاني:
وفي أثناء ذلك يقدم إلى المدينة شاب فيتهم بقتل ايجسط ويساق إلى قصر الملك، وتسمع بأمره نيروب فتشفق أن يكون ابنها فترغب في ان تراه وتسأله هي بنفسها، فيجيب الفتى على أسئلتها في طهارة قلب وسلامة ضمير، فتأبى أن تحكم عليه. ومع ذلك تستفيض الإشاعة في الناس ان ايجسط قد قتل، وان قاتله هو ذلك الشاب الغريب. وأقوى الأدلة على حدوث القتل منه أن سلاح القتيل معه، فيستولي الهم واليأس على الملكة.
الفصل الثالث:
تعزم الملكة الرأي على الشاب، وتحرص على أن تقتله بيدها انتقاما لولدها وإطفاء لكبدها. وبينما هي ترفع يدها بالضربة القاضية عليه يقبل نرباس لحسن - الحظ في الوقت المناسب فيمنع الضربة، ويفشي لها سر هذا الغريب، ويخبرها ان القاتل الحقيقي لزوجها هو بوليفونت.
الفصل الرابع:
يدهش بوليفونت ان المتهم لا يزال حيا يرزق، ويرتاب في أمر هذا الغلام، ويرى ميروب مقبلة فيأمر حراسه أن يضربوا الساعة عنق هذا الغريب، فيضيق ذرع ميروب وتعييها الحيلة ويغلبها الجزع، فتصيح بالجند: ويحكم أيها البرابرة، كفوا انه ابني!
الفصل الخامس:
يقبل بوليفونت أن يبقى على الولد إذا رضيت أمه أن تكون له زوجة. ولا ترى الأم بداً من الخضوع لقاتل زوجها إبقاء على ولدها، ويذهب الناس جميعا إلى الهيكل ليحتفلوا بعقد الزواج، ويأخذ الناس فيما هم فيه، ويتقدم ايجسط إلى الهيكل يريد أن يقسم يمين الطاعة للملك، فيأخذ مدية القربان ويطعن بها بوليفونت طعنة نجلاء فيصرعه، ويهتف الشعب بعد تردد قليل لملكه وابن ملكه.
يأخذون على هذه القطعة الرائعة، بعد الإمكان في بعض الحوادث، فيسألون كيف يقتل بوليفونت الملك، ثم يسير سمعه بالناس خمسة عشر عاما بأنه المنتقم له؟ وكيف يتهم الفتى القادم إلى مسينا بقتل ايجسط وهو نفسه ايجسط؟ ولماذا تريد ميروب أن تقتل بيدها هذا
الغلام؟! والجاذبية مع قوتها لم تسر نامية، فان الخطر الذي حاق بايجسط ساعة أن همت أمه بقتله في ختام الفصل الثالث أقوى من الخطر الذي يهدده في الحل.
وكان في النية أن نختار نماذج من مآسي شكسبير إلا أن ما اخترناه لغيره قد كثر حتى حبسنا طويلا عن الموضوع، فلنكتف بما شاع له في مصر من ملخص ومترجم، ولنأخذه فيما نحن بسبيله.
يتبع
(الزيات)
2 - مصطفى كمال سيرة حياته
للكاتب الإنجليزي ارمسترونج
تلخيص وتعليق خنفي غالي
وفي ذلك الحين لم يكن يسمع في موناستير سوى صفير الرصاص ودوي المدافع، ولم يكن يرى فيها سوى جحافل الجيوش المتأهبة لمقاتلة اليونان الذين استولوا على كريد، وكان الجو يضطرب بإشاعة الحرب واقتراب ساعة الخطر على الإمبراطورية، وأخذت نسور أوربا تتأهب للانقضاض على الجثة محاولا كل منها أن يظفر بنصيب الأسد. أما في داخل الإمبراطورية فهناك فقر مدقع، وبؤس ملح، وحكم فاسد، واستبداد خانق، أضحت معه حياة الأتراك حلما مروعا وكابوسا ثقيلا، إذ سلب السلطان عبد الحميد الأتراك أمنهم وحريتهم، فنشر عيونه في كل مكان، وألقى بالأتراك في أعماق السجون. فعم الذعر وساد القلق كل الناس، ونادى الشبان بالإصلاح، واضطرمت النفوس بالثورة، ولا سيما في بلاد البلقان حيث يوجد مستودع البارود على وشك الاشتعال عاجلا أو آجلا وكان الشاب مصطفى قد هضم كل الأفكار الحديثة الشائعة في أوربا في ذلك الحين وتشبع بها فخالطت لحمه ودمه، فكان إذا تأمل حالة وطنه وما يقاسيه من ألوان العسف والإرهاق إلى مرجل قلبه ومني نفسه أن يكون على راس ثورة تقتلع الاستبداد من اساسه، ويكون هو بطلها البارز وسيدها المطاع، وهكذا تتجلى عظمة بطلنا في حساسية نفسه الكبيرة التي تأبى أن يطمئن له بال أو يهدئ له ضمير حتى يتحقق مثله الأعلى وغرضه الأسمى في الحياة.
وفي أيام العطلة كان يذهب إلى سالونيك لزيارة أمه، ولكنه كان ينأى جهد استطاعته عن الحياة المنزلية، وظل الصفاء بينهما حتى تزوجت، أنكر عليها الزواج ولم يرتح إليه وصارحها بهذا، فتشاجرا وحل بينهما بعض الجفاء.
وقد تعلم إبان إقامته في سالونيك مبادئ اللغة الفرنسية بمعونة الرهبان الدومنيكان، فتعرف إلى شاب يكبره قليلا يدعى فتحي كان حييا أنيس المحضر، وكانا يقران معا في شغف شديد أدب روسو وفولتير وبعض الكتاب الفرنسيين كما قرأ كتب استوارت مل وهبز في الاقتصاد، وكان بطلنا لا ينئ عن حث الطلبة على إنقاذ الوطن من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية كما كان يكتب وينظم القصائد النارية متغنيا بجمال الحرية،
وصاحبه التوفيق في مدرسة موناستير كما صاحبه من قبل في مدرسة سالونيكا، وكتب أساتذته عنه انه (شاب متقد الذكاء عسير النفس تستحيل مخالطته) وبعد أن أتم دراسته أرسل إلى المدرسة الحربية بالأستانة برتبة ملازم ثان، وهناك انغمس في حياة الإثم والفجور من لعب القمار ومخالطة النساء، ولم يعرف عنه انه احب إحداهن ذلك الحب الأفلاطوني النبيل، بل كان يقبل عليهن إقبال النحل على الزهرة يمتص رحيقها ويتركها ذاوية ذابلة، وقد انصرف فجأة عن هذه الحياة واقبل على عمله بجد ونشاط، ووفق فيه توفيقا بالغا يعزى قبل كل شي إلى تعويله على نفسه واعتماده على مجهوده، وقد جاز كل امتحاناته بتفوق باهر، ورقي إلى رتبة كبتن سنة 1905، وكان يمزج السياسة بعمله دائما، وقد ألفى نفسه في الاستانه بين ضباط صغار يقاربونه في السن ويضطرمون بالثورة على استبداد الخليفة وتدخل الدول الأجنبية. وكان أساتذتهم بالمدرسة يعطفون عليهم ويتغاضون عما يفعلون، ولكن لا يجرؤون على قيادتهم ومظاهرتهم.
وكان لهؤلاء الضباط بالمدرسة جمعية تدعى جمعية الوطن تلقي الخطب وتذيع النشرات مهاجمه فيها نظام الحكم وأخلاق الموظفين واستبداد الخليفة ورياء رجال الدين، بل لم يخل الدين نفسه من مطاعنها لحيلولته - كما كانوا يعتقدون - دون التقدم والارتقاء، فضلا عن فساد النظم المؤسسة عليه، وقد تعاهد أعضاؤها على تقويض حكومة الخليفة واستبدالها بحكومة دستورية، وإنقاذ الناس من كابوس رجال الدين، وتحرير المرأة من عبوديتها. والواقع أن تركيا في ذلك الحين كانت تحتضر، وما كانت الحياة لتعود إليها إلا إذا لقحت بدم نقي جديد، وقد انخرط الشاب مصطفى في سلك أعضائها، واخذ يكتب في نشرتها مقالات نارية وشعرا ملتهبا، ويلقى في اجتماعاتها خطبا لاذعة، ولكن السلطان عبد الحميد لم تكن لتخفى عليه خافيه، فعلم بأمر الجمعية من جواسيسه المنبثين في كل مكان، وجزع جزعا شديدا إذا رأى فيها نواة عمل سينتهي بثل عرشه. فخاطب أحد أعوانه المدعو إسماعيل حقي، وتحدث هذا بشأنها إلى ناظر المدرسة الحربية بالاستانة، فحرم الناظر عقد اجتماعاتها، ولكن لم يفت هذا في عضد أعضائها الثائرين، فاخذوا يعقدون اجتماعاتها في الخارج، وأضحت إحدى تلك الجمعيات السرية المنتشرة في الأستانة تعمل على هدم الظلم ومحو آثاره.
وبعد أن جاز مصطفى الامتحان بمدرسة الأستانة أستأجر غرفة لتكون مكتبا للجمعية تطبع فيه نشراتها، وكان الأعضاء يجتمعون في منازل خاصة يأتون إليها خفية يترقبون، وقد ارتاح بطلنا إلى هذه الحياة لتأصل حب المغامرة في نفسه واستقراره في طبعه، واخذ يتعلم أساليب الجمعيات الثورية ونظمها، ولكن عيون عبد الحميد لم تال جهدا في مراقبة هذه الجمعية وتضييق الخناق عليها ليفاجئوا الأعضاء متلبسين بالجريمة، ولم يكن هذا بالعسير عليهم، إذ كان الأعضاء ينقصهم الدراية بأساليب هذه الجمعيات، وان لم تعوزهم الحماسة والشجاعة.
واستطاع أحد الجواسيس أن يتسلل إلى الجمعية ويتصل بها، وازدادت على توالي الأيام ثقة الأعضاء به واعتمادهم عليه، فتمت خديعته لهم وجازت حيلته عليهم؛ وبينما هميقسمون قسم الجمعية في يوم من الأيام إذا برجال البوليس السري يفاجئونهم ويقبضون عليهم، فزج مصطفى وسائر الأعضاء في السجن الأحمر بالاستانة، وكان بطلنا من بينهم مثار الريب والمخاوف، واعتبر في عداد الخطرين على النظم القائمة، فعزل عن زملائه في مكان قصي، وتراءى له المستقبل مظلما قاتما، إذ لو بدا لعبد الحميد انه نظير خطر عليه لاختفى من الحياة كما اختفى أمثاله من قبل كوميض البرق.
وقد راع الأم الحنون مصير ابنها، فأسرعت يحدوها الأمل والخوف لزيارته، فأبوا عليها ذلك ولم يسمحوا لها إلا بإرسال بعض النقود إليه، ومضت على حاله هذه أسابيع نقل بعدها إلى (زنزانة) ضيقة مظلمة قذرة لا ينفذ إليه فيها إلا قبس ضئيل من النور من كوة صغيرة، فاثر هذا السجن الموحش في نفسه ابلغ تأثير، وزاد خلقه غلظة ووحشية.
وفي يوم من الأيام اقتيد من غير إنذار إلى مكتب رجل من رجال العهد القديم ومن أنصار عبد الحميد المقربين هو إسماعيل حقي باشا، فاخذ الرجل يديم النظر في ملامحه، ثم قال له: (لقد أظهرت مقدرة فائقة وكفاءة ممتازة، وأمامك مستقبل باهر ينتظرك في خدمة صاحب الجلالة، ولكنك من جهة أخرى شنت نفسك ولوثت شرفك الحربي، فخالطت أسوأ الخلان، وأخذتم تقامرون وتشربون وتختلفون إلى الأمكنة الموبوءة، أشنع هذا واشد نكراً انك نكثت عهد الإخلاص لمليكك، فزججت بنفسك في موج السياسة، وظاهرت الدعاية الخائنة ضده، وحرضت زملائك على احتذاء مثالك، والاقتداء بك، ولكن جلالة الخليفة قد
وسعتك رحمته وشملتك رعايته ومغفرته إذ رآك شابا احمق، لعلك قد انقدت لهواك من غير تبصر أو تقدير للعواقب، فاختارك للذهاب مع فرقة الفرسان إلى دمشق، ويتوقف مستقبلك على ما يعلم من مسلكك، ولكن عليك أن نتجنب هذا الحمق وتتوفر على أداء واجباتك الجندية، وخذ لنفسك الحذر فانك لن تحظى بفرصة أخرى)
وفي نفس الليلة رحل في سفينة إلى سوريا بدون أن يسمح له بروية أمه أو أصدقائه، وبلغ بيروت بعد سفر شاق، فامتطى جواده وعبر به جبال لبنان حتى انضم إلى الفرقة في دمشق فوجدها تتأهب للزحف على الدروز المقيمين بجنوب دمشق والذين كانوا دائمي الثورة على الدولة العلمية، وقد كانت هذه الغزوة أول تجربة لنشاطه ولكنها لم تكن ترضى الجندي النظاميإذ كانت بلاد الدروز عبارة عن جبال مجدبة تتقاطع مع وديان ضيقة عميقة لا ماء فيها ولا طريق معبد، وكان الدروز قوما أقوياء الشكيمة صعاب المراس دارسين كل شبر من ارضهم، ومضت الأيام بين الفريقين في كفاح غير مثمر، إذ لم يستطع الأتراك الظفر بأعدائهم، فاحرقوا قراهم ودمروا حقولهم وعادوا القهقرى إلى دمشق لهجوم فصل الشتاء ببرده القارس وجوه المكفهر المظلم، وهناك اخذ بطلنا الثائر يعد العدة لإنشاء فرع لجمعية الوطن، ولم تغير الأيام السود التي قضاها في سجن الأستانة منه شيئا، ولم تضعف نفسه القوية، ولم تلن قناته الصلبة، ولم ترد قلبه الكبير عن غرضه، إذ كان مصطفى ثائرا على كل شيء: على الدين والناس والنظم والتقاليد، ولم يكن لشيء ما في نفسه حرمة أو قداسة، ولكنه كان يجمع إلى حماسة الشباب حذر الشيوخ ونظرهم البعيد، وكان قد هجر الأدب لما وجده مدعاة للشك، مجلبة للتردد موجبا للخطأ لما بين الحكمة النظرية والحكمة العملية من تناقض، واقبل على درس أساليب الثورة ووسائلها، وقد وجد التربة صالحة للبذر. فصغار الضباط مضطرمون بالسخط، ورؤساؤهم يعطفون عليهم ويميلون إليهم، وقد وجد مصطفى من بينهم زميلاً قديما له، فاتخذ منه نصيرا ومعيناً له في عمله، وسرعان ما اشتد ساعد الجمعية وتكاثر عدد أعضائها، واخذ بطلنا يشعر بمكانته وخطره، ولكن سرعان ما فطن إلى خطئه وعاد إلى صوابه، فعلم أن أهل البلاد ليسوا متهيئين لقبول دعوته، وان كان ضباط الحامية التركية متأهبين لتلبيتها وإبرازها إلى حيز العمل.
وقد أرسل إليه أصدقاؤه يخبرونه بان البلقان هي مهد الفتن والقلاقل، وان عليه أن يسعى
لنقله إلى سالونيك ليضمن نجاح حركته وانتشار دعوته، فاعتزم تنفيذ ما أشاروا به عليه، سواء أجابته الحكومة إلى طلبه أم أبته عليه، وكان صاحب شرطة يافا عضواً بجمعية الوطن، فاتفق معه على كتمان وجهته، وحصل على الجازة بضعة أيام رحل خلالها إلى يافا وأبدل اسمه واتخذ له لباساً مستعاراً، فاستطاع أن يعبر البحر منها إلى أثينا، ثم إلى سالونيك حيث ألفى السخط والقلق يساوران كل النفوس، وهناك اعتكف في منزل أمه، ووجد أن الجو صالحاً لإبلاغ رسالته، إذ كانت سالونيك قلب الحركة ومهد الثورة، فاخذ يتعرف بمعونة أمه وأخته إلى صغار الضباط من زملائه القدماء، وطلب نقله إلى سالونيك ليتسنى له الإشراف على تنفيذ خطته، ولكنه قبل أن يخطو خطوة أخرى صدرت من الأستانة الأوامر بالقبض عليه فعمل حكمدار سالونيك على خلاصه، فنبهه إلى الخطر المحدق به واخبره أن أمر القبض سينفذ بعد يومين، وعليه أن يتأهب للرحيل، فعاد مصطفى بطريق البحر إلى يافا وكانت أوامر القبض عليه قد سبقته اليها، ولكن لحسن طالعه قيض الله له كبير الشرطة في يافا، وكان عضوا بجمعية الوطن، مهد له سبيل الفرار إلى غزة، وأراد أن يحكم الحيلة لتجوز على حكومة الأستانة، فكتب إليها يطلب أن تزوده بتعليمات أوضح وأدق عن مصطفى كمال، ويقول إن ما وصل إليه منها فيه كثير من الخطأ، لان مصطفى كمال كان طوال المدة السابقة مقيما في غزة، ولم يبرحها إلى سالونيك، وصادق على مفيد لطفي الضابط بغزة.
وهنا تظهر حكمة بطلنا ونظره البعيد. فقد رأى انه لو وقع في يد عيون الخليفة مرة اخرى، لما رأى نور الحياة بعد ذلك لحظة واحدة، فاعتزل الحياة العامة زهاء عام، ليزيل ما أحاط به من ريب وشكوك، واقبل على عمله بجد ونشاط، حتى لفت أنظار رؤسائه إليه، فاعجبوا به واثنوا عليه قائلين. انه لا يعنى بغير واجبه، وهو يؤديه على اكمل وجه، وأتم شكل، فأحسنت به حكومة الأستانة الظن، ورجحت أن جواسيس سالونيك قد ظلموه باعتباره في عداد الخطرين، ولكن خيال سالونيك لم يبرح راس بطلنا، وأنى له ذلك وفيها نذير الثورة التي يريد مصطفى أن يكون بطلها الذي يشار إليه بالبنان، وبينما هو غارق في تفكيره وتدبيره إذا به يتسلم أمر النقل إلى سالونيك وهو يكاد أن يكون له من المكذبين.
يتبع
حنفي غالي
إلى النهر الغاضب
للأستاذ محمود الخفيف
غضبتَ فسهدتَ أجفانها
…
وزاد هياجك أحزانها
وقد أنِستْك لطيف الأناة
…
ضحوك الأسرة ّفتانها
جميل الوفاء شهى الصفاء
…
عريق السماحة هتانها
وفاؤك عيد يعم البلاد
…
ويغمر بالخير أركانها
تهز الحقول على جانبيك
…
ويملأ فيضُك غدرانها
وتذكر مصرُ إذا ما خطرت
…
وسال نضارُك، سودانها
فأنت لمصر وريد الحياة
…
ولم تر غيرك شريانها
حليم عليك سماة الجلال
…
تقابل بالبشر قربانها
وتلقى برفقك في المهرجان
…
وجوه البلاد وأعيانها
تود الرياض على شاطئيك
…
لو انك تسمع شكرانها
وتهفو الخمائل شوقا إليك
…
فتنشر حولك أغضانها
تردد مصر أناشيدها
…
وتبدأ باسمك ألحانها
ويطربها منك حلو الخرير
…
فترهف للسمع آذانها
فتلقي إليها حديث القرون
…
وتحفز للمجد غلمانها
وما نسيت مصر هذا الحديث
…
ولا صرفت عنه تحنانها
تجهم وجهك بعد الصفاء
…
وروع باسُك سكانها
لبست الجفاء على غرة
…
فالم غدرك وجدانها
تركت الكنانة في غمرة
…
يهدد سيلك بلدانها
كأنك جيش تخطى الحدود
…
وانذر بالموت قطانها
تقيم السدود على ضفتيك
…
وتحشد حولك فتيانها
تراقب موجك في حسرة
…
تجدد للنفس أشجانها
ولم أر مثل جفاء القلوب
…
تفيأت من قبل رضوانها
ولا كالإساءة من راحة
…
تعود كفُّك إحسانها
ترفق بمصر فقد نالها
…
خطوب تزلزل بنيانها
توالت عليها عجاف السنين
…
وأعمى التنابذُ رُعيانها
وذاق بنوها بأوطانهم
…
صنوف العذاب وألوانها
ألم تر كيف دهاها الكساد
…
وكاد يدمر عمرانها
وكيف توقف فيها النماء
…
وأخرجت الأرض ديدانها
فأضحى فتاها كسير الجناح
…
كئيب الملامح خزيانها
وجاس الغريب خلال الديار
…
قوي المخالب يقظانها
ألم يكف يا نيل هذا الشقاء
…
فجئت تضاعف خسرانها؟
تحيرت يا نيل ماذا دهاك
…
وأوحى لنفسك طغيانها
اساءك من مصر هذا السكون
…
فقمت تحرك شبانها؟
وأوغر صدرك يأسُ البلاد
…
فجئت تجدد إيمانها؟
ورحت تكذب ظن الدخيل
…
وتوقظ للجد أعوانها
تحركُ وحدك في أمة
…
أذل التفرق وحدانها
بلوت بنفسك ماضي البلاد
…
وأدركت بالأمس سلطانها
وكيف تناهي إليها النبوغ
…
فراحت تعلم جيرانها
تَلَقى من الوغى شتى الفنون
…
وترفع في الأرض ميزانها
تدب الحياة على جانبيها
…
فتشعر بالعز ولدانها
على البر تحشد أجنادها
…
وفي البحر تنصر ربانها
تذكرت (أحمس) يزجي الصفوف
…
ويدعو إلى النصر فرسانها
و (رمسيس) يخطر في جنده
…
فخور المواكب مزدانها
وانست في مصر عهد الرشاد
…
قد شمل العدل أركانها
تَلَقَّى الرسالة في غبطة
…
ولو كره الروم إعلانها
تسير إلى الحق منقادة
…
إليه وتخلع بهتانها
وتمسي من الأمن في جنة
…
وقد كرهت قبلُ حرمانها
أسفت لحاضرها المستكين
…
وأنكرت يا نيل خذلانها
كرهت هدوءك في أمة
…
أطاعت إلى اللهو شيطانها
فجن جنونك يا ابن السماء
…
وقمت تنبه وسنانها
ألا فلتقر فقد بايعتك
…
وسوف تقدم برهانها
ستحذو مثالك في فعلها
…
وتجعل عهدك قرانها
ستنفض عنها غبار القرون
…
وتنزع يا نيل أكفانها
محمود الخفيف
مدينة الأحرار
للأستاذ محمد محمود جلال
الله أكبر (يا جنيف)
…
فوق الجمال (دم خفيفْ)
طُهِّرت كالجنات من
…
لغو ومن هم مطيفْ
وخلوت للأحرار إلا
…
من نسيم أو حفيفْ
يلقى الربيعَ بك المُش
…
رَّد بعد إعنات الخريفْ
كم صنتِ عزة أنفس
…
ووقيتها ورد الحتوفْ
فوقفت سداً مانعاً
…
دون العواصف والصروفْ
فيك التقيت بنخبة
…
هم عدة الشرق المنيفْ
وغنمت أمتع جلسة
…
في (بارك لجْرَنجَ) الرفيفْ
يذر الفؤاد مردداً
…
(الله أكبر ياجنيفْ)
بين الشهرة والخلود
لأميل لدفيج
تلخيص محمد أمين حسونة
خطر يبالي ذات شتاء أن أمضى شطراً طويلاً منه في منطقة الألب لاستمتع بدفء الجبال، فكان مما استرعى اهتمامي في منطقة التيرول، تلك الكنيسة الفخمة التي اشتهرت منذ القرون الوسطى بأثرية ناقوسها وروعته، فلما مر بخاطري زيارته، صعدت إلى القبة لأشبع العين من فتنته، وهناك تملكتني الدهشة والعجب، إذ كانوا يعلقون صورة (شيللر) إلى جانب صورة القديسين الأبرار، كتذكار لمقطوعته الخالدة (نشيد الناقوس)!
فشللر الكاتب الملحد، عدو الكنيسة والكثلكة، يجعلون منه رمزاً للقداسة والخلود؟ ولكن لا عجب فقد تكون شهرته كشاعر مخلد لذكرى (الناقوس) هي التي حدت بهم إلى رفعه في مثل هذا الموضع الذي يرتكز عليه، وهكذا تكون الشهرة حامية للأغلاط. إننا نذكر جميعاً غلطة (كوك) المعروفة، وكيف دفعته إلى مصاف العظماء، وقذفت باسمه إلى أول قائمة المكتشفين الخالدين، ولو أن لعبته لم تكتشف إلا بعد مرور فترة طويلة!
إذن فالشهرة ليست بمعناها المعروف، هي (العظمة)، وقد لا تهدينا شهرة الرجل إلى تقدير مناحي عظمته في ثوبها الحقيقي، وإلا كان من حقنا أن نفاخر (بشارلي شابلن) عن (برجسون) وان نفضل (مستنجيت) على (مدام كوري). مع أننا كمؤرخين في عنقنا دين تجب تأديته للأجيال المقبلة، ذلك هو تصحيح الأخطاء التي تلابس أولئك الذين يستحوذون على الشهرة عن طريق المخادعة.
وقديماً ذكروا: ألا يجوز البتة إعلان كون الناس سعداء ما داموا أحياء! فإذا جاز لنا أن نحكم بان حياة الإنسان إن هي إلا رواية تمثل مشاهدها، ففي مكنة (فصل خامس) منها أن يطفئ أنوار فصول أربعة تقدمته، وفي ضوء هذه النظرية لا يمكننا الحكم على أعمال الرجال إلا بعد موتهم، ولا أن نخلع عليهم ثوب العظمة وهم أحياء، فمن المحتمل أن يأتي هذا الثوب فضفاضاً عليهم، أو يحدث في أواخر أيامهم ما يدفعهم إلى تشويه هذه الصفحات التي نكون قد ملائناها حمداً وثناء عليهم!
إن سرعة انتشار الأخبار تمكننا من معرفة أي رجل اشتهر في اقل من لمح البصر، فاسم
(ليندبرج) - قاهر الجو - عرفه في ليلة واحدة خمسمائة مليون شخص من أقاصي منشوريا إلى جنوب استراليا؛ كذلك كان أمر (كوك) حين انتحل لنفسه اكتشاف القطب الشمالي، ولو أن خدعته اكتشفت فيما بعد، ولكن بعد فوات الفرصة، وبعد أن رسخ اسمه في قلب كل إنسان كمكتشف عظيم!
إن الآلة التي تخرج لنا العظماء اليوم غيرها قبل خمسين عاماً مضت، فليس الرجل العسكري هو الذي ينال إعجاب أبناء هذا الجيل، وليس من حقنا تدوين اسمه في ثبت العظماء، كما فعل الاسكندر وقيصر ونابليون، كلا! فالشعوب أصبحت لا تتهافت على معرفة اسم القائد المنتظر في الميدان، لكنهم يتساءلون عن الآلة الجهنمية التي أحرزت التغلب، وخفقت فوق ربوعها بنود النصر. وخذ اسم المارشال هيندنبرج مثلا، فلا يتطرق إلى أذهاننا أن شهرة اسمه راجعة إلى عظمته الحربية وحدها، بل لذلك الاعتقاد السائد في النفوس، وهو اعتباره (أباً للشعب). والإعجاب اليوم لا ينال الجيوش الظافرة في ساحات الوغى، اكثر مما ينال ذلك (الجندي المجهول) الجامع لرفات الانتصار والانكسار.
إن شهرة كبار القواد الذين خاضوا غمار الحرب العظمى، وكان النصر حليفهم في المعارك الكبرى، قد تضاءلت حتى كادت تتلاشى؛ كذلك مال بلسودسكي ومصطفى كمال وموسوليني، فسوف يصبح اسم كل منهم خرافة سائدة في أفواه الأجيال المقبلة.
ومن يحرز الشهرة إذن؟ إن رجال الألعاب الرياضية وأبطال الملاكمة ونجوم السينما هم وحدهم الذين يحرزون الشهرة دون غيرهم. أما الأولون فلأن الجماهير تساهم بقسط وافر في الشهرة التي يحرزونها عن طريق المراهنة في مبارياتهم؛ وأما نجوم السينما فيستولون على الشهرة بفضل الملابس الزاهية وإتقانهم الأدوار التي تتطلب المثل العليا في الحب والتضحية.
ولأنهم جميعاً يشغلون قلوب الجماهير ويستدرون عواطفهم في كل مناسبة، فملامحهم وصورهم وحياتهم الخاصة مطبوعة على صفحة كل قلب بفضل الصحافة المصورة التي تمهد لهم سبل الشهرة والدعاية فكاروزو مثلا اشتهر اكثر من غيره من المغنين السالفين بفضل اختراع (الفونوغراف) الذي خلد صوته.
إن مهمة المؤرخ دقيقة وعسيرة في هذا العصر فيجب ألا يعتمد على الشهرة وحدها في
جعلها مقياساً للعظمة، وإني باعتباري مؤرخاً لا يحق لي مطلقاً أن اخدع نفسه وقرائي بجعل الشهرة عظمة. إني لا أجد اليوم موسيقياً بعد (مولر)، وأذكر (ليبرمان) في أول قائمة الفنانين العالميين، وأسائلنفسي وقرائي عن (كاتب القرن الحالي) الذي يحق له إحراز هذا اللقب النبيل، والذي له الفضل في تربية ملكة الذوق لجيلنا الحاضر فلا أجد (برنارد شو)، كما كان (فولتير) كاتب القرن الثامن عشر، نعم إن هناك كتاباً يفوقون (شو) سواء في قوة الابتكار أو سلاسة الأسلوب ومتانة التعبير، واذكر منهم: ابتمان، وهمسون، ومان، ودانزيو، وبيراندللو، ورولان، ولويس، ولكن (شو) قد اثر بآرائه ومداعباته واستحواذه على لب القارئ اكثر من سواه.
وإذا خطر لنا أن نتكلم عن السياسة حق لنا أن نعترف بأن رجالها قد احتضروا واختفوا من الأفق سراعا: ويلسن، ولينين، وكليمنصو. أما (لويد جورج) فشيخ رجال السياسة الحاليين وأكثرهم دهاء، و (موسولينى) أخطرهم وأصغرهم سناً، ولكن إذا تحدثنا عنه كسياسي، أيحق لنا أن ننعته بالعظمة؟ كلا! في الحكم للمستقبل. وموسوليني يؤدي الآن دوره على خشبه المسرح، وقد انصبت الأنوار فجأة عليه من كل جانب فاخفت (الرتوش والمكياج) التي تخفي شخصيته الحقيقية، وتظهره أمام الجماهير في ثوبه الخيالي معبودا للشعب؛ انه لا يزال في الفصل الثاني من الرواية التي تمهد القيام بدور البطل فيها، وليس لأحد أن يتكهن إذا كانت الستار سيسدل عن تصفيق واعجاب، او عن استهزاء وسخرية!
وإذا ذكرت سياسي الجيل الحاضر، فإني أتحدث عن (فينزيلوس) اليوناني و (ما زاريك) التشيكي: فالأول سياسي محنك ورجل داهية، والثاني حلم بني وطنه لعشرين عاماً، كما أن زعماء المضطهدين - لسان حال الشعوب المظلومة - قد أحرزوا الإعجاب بمبادئهم الاشتراكية السامية، وضربوا احسن الأمثال لأممهم في التضحية، وأخص بالذكر منهم:(مكسويني) محافظ كورك الذي ذهب ضحية إخلاصه لمبدئه، و (غاندي) نجم الهند - بل الشرق - الوحيد.
أما رجال العلم والصناعة فقد كان الجيل الماضي حافلا بالكثير من شخصياتهم البارزة. أما جيلنا الحاضر فمفتقر إلى طائفة كبيرة منهم، فانه لا يوجد اليوم علماء للآثار القديمة جديرين بإحراز هذا اللقب الذي استخلصه لنفسه شامبليون، ولا مؤرخون يستطيعون ارواء
ظمأ المتعطشين إلى نظريات حديثة، ولا علماء في الاقتصاد والتشريع والفلك كعلماء القرن الماضي من الإنجليز أو الألمان.
إن عالمنا اليوم لا عمل له سوى الجمع بالنسبة للماضي، والتمهيد بالنسبة للمستقبل، ومع كل فهناك شخصيات برزت في بعض الصناعات التي كان العالم في اشد الافتقار إليها. فبركلند، وايد النرويجيان انتشلا شعوباً من المجاعات بإقدامهما على استخراج النتروجين من الهواء؛ و (هابر، وارنست، وارينوس) أول من أحدثوا نظريات جديدة بشان السوائل، كذلك (بور) الدنمركي و (بلانك) الألماني، والى جانبهما تأخذ (مدام كوري) مكانتها العلمية كامرأة واصلت البحث والدرس بعد موت بعلها بعشرين عاما.
أما علماء النفس فعلى رأسهم (فرويد) الذي أيقظت نظرياته الحديثة شعور ألوف المثقفين في العالم؛ ويجئ دور (اينشتين) شيخ علماء الحكمة الطبيعية الذي زحزحت نظرياته الرياضية الكثير من الاعتقادات العلمية التي كانت سائدة في أذهان علماء الأجيال الغابرة.
وهناك (مركوني) الإيطالي و (اركو)، والى جانبهما (اخوان رايت) و (فورد) والى جانبهم أبطال الصناعة الذين لهم الفضل في ابتكار اللاسلكي وبناء الجسور وحفر الترع وتشييد المنشآت الهندسية الحديثة كمحطات الكهرباء والخزانات والمصارف وناطحات السحاب.
ولكن أين هم هؤلاء الأبطال؟ من هم أساتذة الصناعة والفن اليوم؟ من يعرف منشئ جسر اليشون أو ارث الخامس أو خزان أسوان؟ من الصعب أن نعرف أسماء كل هؤلاء الأبطال، لان أعمال الشركات خيمت على جهود الأفراد، وجهود الأبطال قد اندمجت في أعمال الشركات. وعندما تنحدر الشمس إلى المغيب ونجد مكانها الأنوار الكهربائية المتلألئة، لمن نتوجه بالحمد على كل هذا؟ لمن الفضل في سر الاتصال بين الأمم بأسلاك التلغراف وفي نقل الرسم والصوت من مكان قصي فوق ثلوج سيبيريا إلى عبيد الكونغو مثلا؟ إن أحدا لم يستطع تذليل العلم وتسخيره في أغراض المجتمع وأفادته كما استطاع ذلك خالد الذكر (اديسون).
وهكذا نأتي في النهاية لنشيد بذكر اكبر عالم نظري إلى اعظم مخترع عملي، أولهما ألماني وهو عقل العالم الذي يميز به حقيقة الاشياء، وثانيهما أمريكي وهو عين العالم التي ترى بها الضوء، كلاهما نشأ فقيرا معدما، ليس مدينا لأحد ألا لعبقريته ونبوغه، هما (ايمانيس)
الذي وهب الثقافة وحرية الفكر للعالم، و (بروميسثيس) الذي اختطف النور من الآلهة ليهديه إلى البشرية هما:
انيشتين واديسون.
محمد أمين حسون
العلوم
2 -
بحث في اصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب
دبلوم عال في الجغرافية
استمر (بوشيه) برغم كل معارضة قامت في وجهه، ولم يتطرق إليه خمول أو تهاون، فنشر في عام 1847 كتابا عن اكتشافاته قوبل بالاستنكار، ونظر إليه الناس نظرتهم إلى مجنون. وظل على هذا الحال حتى أتى بعض العلماء الإنجليز يساعدونه عام 1858 فاختبروا صخوره وفحصوا ما وجده من عظام متحجرة، وظلوا يجادلونه ويجادلهم حتى اعترفوا وجاهروا - بعد التثبت والاقتناع - أن هذه الصخور من عمل الإنسان وتشكيله. وهكذا ثبت أن الإنسان كان موجودا في وادي نهر السدم بفرنسا عندما كان المدرج الموجود الآن على ارتفاع 10. قدم مكونا مجرى النهر في ذلك الوقت حيث كانت تعيش أنواع غريبة من الحيوانات؛ وبذا يفتتح العالم أول باب لتاريخ حياة الإنسان في المدرجات.
وعندما عاد العلماء الإنجليز إلى بلادهم وجدوا في مدرجات نهر التيمس نفس الصخور النارية او وعظاما متحجرة تماثل تمام التماثل تلك العظام التي وجدت في نهر السدم. وبذلك بدأ باستخدام حفريات الأنهار لمعرفة تاريخ الإنسان القديم منذ مائة عام تقريبا، ولكنها لم تتحول إلى فن صحيح ذي قواعد إلا في السنوات الأخيرة.
سبق لنا أن تتبعنا تاريخ الإنسان القديم مما وجده الباحثون في الكهوف، وسنحاول الآن أن نرى ما قد تكشف لنا عنه هذه المدرجات. وفي الشكل (2) ترى مثلا عاليا لتتابع المدرجات، ومن الطبقات السطحية للمدرجات السفلى نجد شواهد الكهوف نفسها ونفس الأدوات الحجرية عينها، بل وهياكل أنواع الحيوانات البائدة والعنصر الإنساني الذي كان سائدا في ذلك الوقت. تأتى بعد ذلك مدرجات احدث من الأولى تكونت في عصور متتابعة هي: سولتريان واورجنتيان وماجدالينان وموستريان وهو العصر الذي يقع قبل عصر الجليد مباشرة، وبدا نصل إلى عصر غمرت فيه الثلوج القارة الأوربية، وفي هذه الفترة يقع عصر أطلق علية اسم اشيوليان ومن عصر الموستريان حتى الآن تقع فترة يبلغ
طولها 4. ألف سنة. وليس هناك أدنى شك في انه كلما اتسع أفق العلم أمامنا وازدادت الأبحاث أمكننا تقسيم فترات ما قبل التاريخ إلى حلقات متتابعة - وفي هذه الفترة نجد أنواعا من فؤوس - صنعت من الصخر الناري، عليها اثر الصنع بل والاستعمال. وإذا أنعمنا النظر في المدرجات عدنا إلى البقايا القديمة للعصر المسمى شيليان وهو السابق المسمى اشيليان امتياز بزيادة دفء جوه عن جو العصر الجليدي. وفؤوس هذا العصر كبيرة نوعا ما عن فؤوس عصر الاشيليان. ونحن إذا قدرنا لها مدة ليسفيها مبالغة وهي 4. ألف سنة، فإننا نصل إلى فترة من فترات تطور الإنسان تبعد عنا بنحو 12. ألف سنة. ويأتي قبل عصر الشيليان عصر لا يسعنا لجهلنا به إلا أن نسميه ما قبل عصر الشيليان - وقد وجدت اثار تدل عليه على عمق 10. قدم في مدرجات نهر التيمس بإنجلترا، ومن هذه الفترة نصل إلى بدء عصر البلشتوسين
ولهذا العصر أهمية خاصة عند الباحث في تطور الانسان، اذ انه في فجر هذا العصر أخذت الحيوانات شكلها الحالي، وتطور الإنسان تطوره الأخير الذي جعل له من الخصائص ما يمتاز به اليوم من سائر المخلوقات. وبابتداء هذا العصر يمكن القول بان العالم الحي اخذ شكلا جديدا من مظاهر التطور الحديث، ولذلك فان علماء الحيوان يضعونه في المرتبة الأولى من فترة حديثة لتاريخ الإنسان أطلقوا عليها اسم كواترناري ولسنا نعرف متى بدأت هذه الفترة، ولو أن بعض العلماء قدر لها مليون سنة، إلا أننا لا نبالغ في التقدير إذا قلنا إن هذه الفترة بدأت من 200 ألف سنة.
ولحسن حظ التاريخ الحديث أن يصنع الإنسان الأول أدواته وأسلحته من الصخر الناري، لأنه قد مكننا من معرفة التاريخ وتتبع حركاته وأدواره حتى عصر البليستوسين بتتبع الآثار التي تركها لنا في أدواته وحاجاته. وقد وجد الباحثون القواعد التي قطعت وشكلت عليها الأدوات الصخرية، بل وجدوا عظاما من بقايا من قام بصنعها. إلا انه برغم الأبحاث المتتابعة لم يوجد إلا بقايا قردين ممن سكن أوربا في فترة البريشيليان: أحدهما سمي إنسان هيدلبرج، وكل ما وجد منه فكه الأسفل. وقد وجد في اسفل واد من أودية نهر الرين القديم مع عظام متحجرة من عظام نوع من الحيوان كان عائشا في أوربا في الفترة الأولى من عصر البليستوسين، وكان معاصراً لإنسان هيدلبرج. ولقد لوحظ أن الفك خشن كبير
واصلب من أي فك لأي عنصر من العناصر المعروفة؛ أما نظام أسنانه فانه يماثل تمام التماثل نظام أسنان القردة، إلا أن الأنياب الحادة البارزة في قرد الانسترويد قد انخفضت واستوت هنا مع باقي أسنان الفك عند إنسان هيدلبرج.
وأما القرد الآخر الذي كشف عنه ومر ذكره بك، فقد عرفنا عنه معلومات تزيد كثيرا عما نعرفه عن إنسان هيدلبرج، كان يسكن أوربا في عصر ما قبل الشيليان - وقد وجدت بقايا من عظامه المتحجرة في جهة بلتداون بإنجلترا، ولذلك سمى باسمها إنسان بلتداون ولنا من البراهين القوية ما يثبت ان هذه الجهة اقدم بكثير من الجهة التي وجد بها فك إنسان هيدلبرج. ولذلك فإننا نرجح ان يكون الحلقة الإنسانية التي سبقت إنسان هيدلبرج بما فيها من تطور. ويرجع فضل الكشف عن هذا الإنسان إلى الأستاذ شارلس داوسون الذي كان محاميا في ليوس ثم تفرغ لدراسة جيولوجية منطقة حيث وجد هذا الإنسان.
في عام 1908 قبل أن يموت ذلك الأستاذ مأسوفا عليه ممن قدر قيمة شفه ممر على طريق جديد قد رصف بنوع من الصخور النارية التي لم يكن قد رآها من قبل، ولكنه كان يعرف إن هذا النوع كان يستعمله الإنسان القديم في صنع أسلحته وأدواته، ولذلك اخذ يستعلم عن مصدر ذلك الصخر حتى علم انه يستورد من منخفض في وسط مزرعة على حدود ولما كان يتردد كثيرا على هذه الجهة فانه عقد أواصر الصداقة مع عمالها، وبمساعدتهم حصل بعد سنوات قلائل على لوح سميك من العظم اشتبه في أن يكون جزءا من جمجمة إنسان قديم. ولكنه لم يتمكن من الحصول على باقي الجمجمة إلا حوالي سنة 1911.
ثم قام بعد ذلك هو والسير ارثر سميث وودوارد بالحفر في هذه المنطقة، فوجدا بقايا أخرى من هيكل الرجل الذي وجدت جمجمته، ووجدا أيضاً هياكل متحجرة لحيوانات قديمة بائدة، وبقايا أدوات وأسلحة غالبها ينتسب إلى عصر ما قبل شيليان - ومنها ما يمت إلى عصر اقدم من ذلك وهو عصر
وأمكن بعد ذلك معرفة حجم الجمجمة وشكلها، وتخيل شكل لها قبل التحلل والتكسير، ثم بواسطة صب عجينه من المصيص داخلها أمكن معرفة حجم وشكل المخ الذي كان يسير سكان العالم الأول خلال صعاب الحياة. وقد لوحظ أن حجم مخ البلتداون يرتفع عن المستوى المقدر للأجناس المنحطة من العناصر الإنسانية، إلا انه من جهة أخرى يبتعد كل
البعد من مميزات الجنس الحديث.
أما تلافيف المخ فقد لوحظ أن هناك شبها كبيرا بينها وبين الإنسان بعكس إنسان النياندرتال الذي يشبه مخه مخ القرد. مع أن تكوين وجه إنسان البلتدون يقربه كثيرا من القردة.
وأما نصف الفك فهو عجيب حقا، لأنه قد وجد انه وتركيب السنان فيه يمتان إلى القردة تماما، وان شكل الأنياب عنده لا يختلف عن شكلها أبداً عند صغار القردة. وهذا الفك يشبه تمام الشبه فك الشمبانزي مع انه في إنسان هيدلبرج برغم كبر حجمه كبرا غير متناسب مع الإنسان الحديث، لا يختلف في شي كثير عن فك الإنسان العادي المعروف لدينا جميعا.
وبذلك نرى أن إنسان البلتدون يصل بنا إلى درجة أو عصر لم يكن قد تغير فيه شكل رأسه أو أسنانه عن شكلها عند القردة إلا قليلا، وبمعنى آخر أن التطور والارتقاء قد حدثا عنده في المخ وقوى التفكير، قبل أن يحدث في شكله العام وعلى الأخص شكل وجهه بفكه وأسنانه.
ونحن إذا خامرنا الظن أو الشك في نشأة النوع الإنساني، وجال بنا الحدس انه قد انحدر من عنصر أولي منحط يشبه القردة إن لم يكن منها بالذات، فانه يلزمنا أو يلزم من يقول بذلك البرهنة على صحة هذا الظن أو ذاك القول.
ولذلك نظن ظنا كافيا أن نقول تدليلا على صحة ذلك أن العلماء حينما كانوا يبحثون عن اصل الإنسان الجيولوجي قد وجدوا انه في منطقة بإنجلترا كان يعيش عنصر إنساني قديم جدا جمع في جسمه وعقله صنعة الإنسان المعروف، وفي وجهه وفكه شكل القردة وصنعتها.
وربما اعترض معترض علينا في ذلك بأنه ربما كان يسكن هذه المنطقة من إنجلترا نوع منحط من الإنسان وعنصر راق من القردة أو الشمبانزي، وان الجمجمة التي بنيت عليها الأبحاث، وجاءت هذه النظرية نتيجة لها، لم تكن جمجمة قرد واحد، بل مجموعة أو خليط من جمجمة إنسان وجمجمة قرد انحلتا واختلطا بعد التحلل!.
إلا لن ذلك الاعتراض يمكن الرد عليه بقولنا إن الأجزاء التي تجمعت وتكاملت أجزاؤها مكونة جمجمة كاملة تتكامل أجزاؤها تمام التكامل، وتتفق كلها في المقاييس المقدرة لها، كما أنها من نوع قد تحجر في وقت واحد، وهذا كله لا يمكن القول بأنه وليد المصادفة، وبذا
يثبت أن الجمجمة هي لفرد واحد هو إنسان البلتداون. وقد بلغ اهتمام السير ارثر سميث وودوارد بهذا العنصر الإنساني الجديد الشبيه بالقردة مبلغا كبيرا حتى انه اعتبره عنصرا إنسانياً لم يكن معروفا قبل اكتشاف بقاياه في وأطلق عليه اسم الإنسان الأول أو
يتبع
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافية
القصص
من الأدب التركي
المعلمة الصغيرة
ترجمة الآنسة الفاضلة (فتاة الفرات)
تتمة ما نشر في العدد الماضي
لم تكلمني حتى وصلنا إلى (سركه جي) حيث موقف الترام هناك فقالت:
هنا كنت انتظر يا سيدي، وفي كل يوم كنت اركب الترام هنا، ولا ادري كيف أخطأت في هذه الليلة وركبت الترام الذاهب عن (الجسر) لا اليه؟ ولا ادري كيف لم انتبه لذلك؟ كان السبب كما قلت يا سيدي الظلام الحالك والمطر الكثير الذي ادهشني، لو تدري يا سيدي كم انتظرت هنا تحت سيول الأمطار معرضة للهواء الذي يعصف بشدة، وكم لقيت من الانتظار، لقد ظننت أن غشاء اسود قد ستر عيني، لا اقدر أن اصف لك اضطرابي حينما علمت منك أنها آخر عربة تسير في الليل، آه لقد تأخرت كثيرا. - لقد كانت كأنها في حمية عن الكلام ثم تركتها فذهبت فيه مذهبا بعيدا وقالت:
- غريب جدا أن المصادفات في بعض الأحيان تظهر للمرء عجائبها وغرائبها كأنها تسخر منه، لقد فاتني القطار أيضا في (مقرى كوى) لذلك تأخرت حتى ذلك الوقت لأني انتظرت هناك طويلا، ولم يكن يخطر لي على بال أنى هنا سأركب في آخر عربة تسير في الليل وفي غير الجهة التي اقصدها.
فسألتها:
- إذن أنت آتية من مقرى كوي؟
أخذت الكلفة ترتفع بيننا شيئا فشيئا لان وجودي بجانبها طول المسافة التي قطعناها أظهرها على حسن نيتي وجعل لي في قلب هذه الفتاة الشابة موقعا حسنا فأجابتني على سؤالي جواباً طويلا مفصلا، قالت:
اجل يا سيدي إني اذهب مرتين في الأسبوع إلى (مقرى كوي) لإعطاء درس خصوصي هناك لإحدى السيدات، اه يا سيدي! إن حياتي شقية جدا، محتم علي أن اشتغل من الصباح
حتى المساء في جميع أنحاء هذا البلد الكبير، تصور المسافات التي اقطعها كل يوم: ذهبت اليوم صباحا إلى (طرابية) وعدت منها إلى (مقرى كوي) وأنت تعلم تباعد هذه المسافات وتنائي بعضها عن بعض. على هذه الصورة يجب أن اشتغل في أربعة أطراف البلد؛ فإذا كان الصيف احتملت كل ذلك، لان النهار طويل أتمكن فيه من تأدية دروسي من غير كبير مشقة ولا عناء، أما في الشتاء فالمشقة فوق الطاقة وخاصة في مثل هذه الأيام عند شدة النوء وكلب الشتاء، لقد غلبني اليوم البكاء اكثر من مرة، ولا أتذكر أني تأخرت مثل هذه الليلة، وما الذي أقوله الآن في البيت لوالدي؟
وهنا انقطعت عن الكلام ولم تجسر على إتمام جملتها، لأنها فجأة شعرت بخجل من سردها تاريخ حياتها، ولما لم تجد في نفسها القوة على إتمام كلامها غيرت مجرى الكلام وقالت وهي تنفض ذراعها المبتلة من المطر.
- لقد ابتلت ثيابي.
فقلت لها:
- إن مظلتك صغيرة فاطويها وخذي مظلتي فهي تحفظك من المطر.
ولكنها لم تقبل وقالت:
- أشكرك يا سيدي! لا أود أن تبتل ثيابك اكثر مما ابتلت، ألا يكفي ما تحملت حتى الآن من اجلي؟
أردت أن أعود بها إلى الحديث عن حياتها فقلت لها.
- إذن لك والد فقط يا آنسة؟
- نعم يا سيدي. ثم قالت:
- أضننا قد بلغنا الجسر؟
وسكتت كأنها لا تريد أن تبحث عن شيء أبدا، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأنها كانت في حاجة إلى أن تتكلم عن نفسها وان تحدثني عن حياتها، اجل! بحاجة شديدة إلى ذلك، فقالت:
- فقدت والدتي منذ سنتين، ومنذ ذلك الوقت اضطررت إلى العمل الكثير. كانت والدتي في حياتها هي التي تشتغل لنا، فلما ماتت ورثت تلك الوظيفة عنها وانتقلت إلى بمرارتها والمها.
هل لك والدة يا سيدي؟
فأشرت لها برأسي أن نعم، على أنها ما كانت تنتظر مني جواباً، لأن سؤالها هذاكان مقدمة لما تريد أن تحدثني به فقالت:
- إن اكبر تغيير يطرأ على حياة المرء يبتدي من تاريخ وفاة امه، لقد كنت حتى وفاتها اجهل الحياة وما فيها، كنت في مدرسة داخلية لا اعرف من الحياة إلا قدر ما يقع عليه نظري بين جدرانها السامقة، لا اعرف شيئا ولا اعرف أحدا ابدا، فلما توفيت والدتي واضطررت إلى ترك المدرسة والبقاء في البيت علمت أنني اجهل كل شي حتى أبى، أما الآن فقد عرفت الحياة جيدا، واختبرت أبناء آدم ظواهرهم وبواطنهم. لقد علمت كل ذلك، ولم يكد يمضي على دخولي في معترك الحياة اكثر من شهر. ولكن من المؤلم جدا أن يقف المرء على تلك الحقائق دفعة واحدة لان أعصابه تتزلزل بتلك الصدمة. لقد وصلنا إلى (الجسر) يا سيدي. أشكرك شكرا جزيلا، وهذه عربة هنا تقلني إلى البيت.
وهنا تهيأت لوداعي، ولكني رأيت أن المصادفات قد وقفتني على قصة حياة مؤلمة، فكنت أفكر في وسيلة أمد بها مرافقة تلك الفتاة حتى البيت، فقلت لها.
كلا أيتها الآنسة، إني سأرافقك حتى الجانب الآخر من (الجسر) لأني عدلت عن الرجوع إلى بيتي في مثل هذه الساعة وسأبيت بفندق هناك، فلم تعارضني بل اكتفت بتلك الإيضاحات وسرنا نقطع (الجسر) ونحن ساكتان.
كنا نمشي معا على أحد جانبي الطريق، وكنا نلاقي مشقة شديدة في إمساك مظلتينا بسبب ذلك الهواء الشديد البليل الذي كان يعصف من أحد جانبينا فيبلل ذلك الجانب. وفي تلك الأثناء أدارت نظرها فيما حولها وقالت:
- نعم إن بقاء الفتاة الشابة كل حياتها محرومة من عطف الوالدة وحنانها مصيبة ليست تضارعها مصيبة.
ثم استأنفت كلامها فقالت:
هل تدري يا سيدي ما الذي يقلق فكري اكثر من كل شي بعد هذا التأخر؟
كانت مضطربة تماما واضطرابها يزداد شيئا فشيئا، كانت تشعر أنها في حاجة إلى أن تقص على الرجل الذي لا تعرفه ولا يعرفها الناحية التي خفيت من نواحي حياتها.
فسألها بسكون قائلا:
- ما هو أيتها الآنسة ذلك الذي يقلقك؟
قالت والدي!. ثم سكتت قليلا ثم قالت:
- أراني لا اقدر أن اصف لك والدي وصفا دقيقا، لا ادري كيف تنظر إلى فتاة تشكو إليك من والدها لأول مرة رأيتها فيها، ولكنك بمرافقتك لي حتى هذا المكان اثبت لي طيبة قلبك وصفاء نيتك، وانك بحسن تلك النية وبصفاء ذلك القلب ستدرك سلامة الأسباب التي ساقتني إلى تلك الشكاية، أليس كذلك يا سيدي؟.
كان الهواء يعصف بشدة، فلم نقدر أن نضبط مظلتينا ونقاوم الهواء الشديد فأغلقناهما وأخذنا نمشي غير مبالين بالمطر القليل الذي ينزل، بل خففنا السير لندرك وقتا كافيا للتكلم معا، وقد اقترب كلانا من الاخر، وكنا نسير متلاصقين بقلبينا وجسمينا كأننا قد تعارفنا منذ سنين لا منذ دقائق.
كانت هي في حاجة إلى أن تشكو إلى همومها، اجل! كانت في حاجة شديدة جدا إلى أن تنشر كل ما خفي من نواحي حياتها، وتبسطه أمام ذلك الرجل الذي ربما كان اجتماعها به مصادفة واتفاقا أول اجتماع وآخره، فقالت.
- اعلم يا سيدي أنى الليلة ككل ليلة ساجد والدي سكران طافحا، وحينما يراني يستقبلني بكلمات الشتم والتحقير، وفي بعض الأحيان. . . ولم تتم جملتها كأنها رأت أنها قد اعترفت لي بأكثر مما يجب، لذلك قطعت كلامها بسرعة وأتمت جملتها التي شرعت فيها بصورة أخرى، فقالت:
- لا أذكر أن والدي عمل يوما ما عملا مثمرا يعود عليه وعلينا بربح؛ كان في شبابه صاحب مقهى صغير في (بك اوغلى)، وكان يأتي بمغنيات في الشتاء إلى قهوته، وكانت والدتي إحدى أولئك المغنيات، اشتغلت عنده ثم تزوجها، وقد علمت هذه التفصيلات واحدة بعد أخرى مصادفة واتفاقا، ولا ادري كيف تم الاتفاق بين أبى وامي على الزواج الذي كنت ثمرته، ولكن ظهوري في الحياة كان سببا لأمراض كثيرة أصابت والدتي ومصائب أخرى اضطرتها إلى ترك العمل وأرغمت والدي على ترك المقهى. كانت والدتي موسيقية بارعة، فبعد أن تركت المسرح صارت معلمة تعطي النساء دروسا في الموسيقى؛ وأنا
اعرف والدتي وهي معلمة فقط، لم تكن تملك دقيقة من دقائق حياتها، بل كلها كانت رهن التعب والشقاء والتعليم والكدح في سبيل القوت، حتى اضطرت إلى وضعي في مدرسة داخلية، اخرج منها في الأسبوع مرة إلى البيت، أقول (البيت) وأنت تدرك بثاقب فكرك ما هو هذا البيت. كنا نسكن في غرفتين في الطابق الرابع من بناء كبير عال. كنت إذا جئتهما في يوم عطلة أو في يوم جمعة وجدتهما بعيدين عن الحياة العائلية كل البعد، فاهرب منهما إلى المدرسة. وكيف يكون البيت إذا كان لا يطبخ فيه الطعام، ولا تغسل فيه ثياب، ولا يعمل فيه شي مما يعمل في البيوت؟ كانت والدتي تشتغل بلا انقطاع لتحصيل القوت، وكان والدي بلا انقطاع يشرب الخمر، فهذان المخلوقان وان كانا متقاربين جسما يعيشان تحت سقف واحد، فقد كانا متباعدين كل البعد معني، وكنت أنا في سرور لأنني بعيدة عنهما، حتى أنى لم اكن أجد لهما في قلبي مكانا. استدعتني يوما مديرة المدرسة إليها وأخبرتني بوفاة والدتي ثم قالت:(ان المرء تصيبه في حياته مصائب جمة، فيجب أن يتلقاها بكل ثبات وصبر)، لم أجد في ذلك الوقت وفاة والدتي مصيبة كبيرة كما قالت المديرة، ولكني أصبحت احب والدتي بعد وفاتها، آه لو تعلم كم احبها الآن. . . . كم احبها!
سكتت هنا قليلا، وقد شعرت أن صدرها يعلو وينخفض من حسرة كامنة في أعماق قلبها، ثم قالت:
- منذ ذاك الوقت أصبحت الحياة على أضيق من سم الخياط. أخرجني والدي من المدرسة، واخذ يسوقني من مكان إلى مكان. اجل! اخذ يسوق فتاة في السادسة عشر من عمرها، لا تعرف من الحياة إلا ما رأته من نافذة المدرسة، إلى الأماكن التي كانت والدتها تعطي دروسا فيها لتقوم مقام أمها في تحصيل اللقمة! منذ ذاك الحين انتقلت إلى وظيفة السعي وراء كسب القوت. وأنا الآن أسعى بكل قواي وأعطي دروسا، وكل يوم اقطع مسافات شاسعة متعبة، فمن (طرابية) إلى (مغري كوي)، ومن (اسكدار) إلى (بك اوغلي)، ولكني لا ادري لماذا اشتغل هذا الشغل؟ ولماذا اسعي كل هذا السعي؟. . انهم يقولون لي (اشتغلي) وأنا اصدع بالأمر!. .
كنا على وشك الوصول إلى آخر (الجسر) فتراءت لنا أضواء (غلطة)، فرأيت من الواجب أن أقول لتلك الفتاة المسكينة كلمتين اسليها بهما، فقلت لها:
- لا تجزعي يا انسة، اصبري وتجلدي، فالصبر أقوى من يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. فهزت رأسها الصغير وقالت:
- الصبر يا سيدي؟ إن الإنسان أوجد لنفسه كلمات خداعه يخدع نفسه بها ليتحمل مصائب الحياة. وازداد اضطرابها فقالت:
هل تعلم يا سيدي ماذا ينتظرني في البيت بعد كل هذه الأتعاب وهذه المشقات من الصباح حتى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ إن والدي في مثل هذه الساعة يعود من الحانة يرسم في مشيته لام الف، فإذا دخل المنزل جلس في غرفته يتم ما فاته في الحانة انتظارا لي، وهو قد جعل لنفسه في البيت حانة صغيرة، فغرفته مملوءة بالزجاجات الفارغة والأقداح المكسورة والصحون القذرة، لو رأيت كل ذلك لدهشت، كثيرا ما سعيت لتكون غرفته نظيفة ولكني لم افلح، فعدلت عن ذلك الآن وصرفت همتي إلى ترتيب غرفتي الخاصة وتنظيفها، لله تلك الغرفة الصغيرة! انه صغيرة إلا أنني أجد فيها راحة كبيرة، انزوي فيها بعد عودتي من العمل ليلا وبعد أن اخذ قسطي من كلمات التحقير والشتم التي يستقبلني بها أبى إرضاء لنفسه وكسرا لحدته، هناك في غرفتي فقط افهم معنى الراحة وأفسح المجال لدموع عيني أن تسيل فأجد السعادة في ذلك البكاء، اغسل به قسما مما تراكم على قلبي من الهم والبؤس.
تقول المسكينة (فأجد السعادة)، حتى هذه الفتاة البائسة ترى أن في البكاء سعادة، وفي هذه اللحظة لو لم اخش أن ترتاب بي لأمسكت يدها وشددت عليها بكل قوتي مظهرا ما في قلبي من الرحمة لها والإشفاق عليها.
فقالت بعد صمت قصير:
- أنا على يقين أنني هذه الليلة لن اقدر على تهدئته، آه ليت شعري ما الذي سيكون لي منه؟
فقلت لها:
- ولكنك أيتها الآنسة تشتغلين لأجل والدك، أفلا يدرك تلك الحقيقة فيشكرك عليها؟
وقفت عن السير في الحال ورفعت وجهها إلى ونظرت في وجهي ولم تقل شيئا، إلا أنني أدركت في الحال مغزى نظرتها هذه وما تقصده منها، كانت تريد أن تقول بها لمخاطبها
الذي يدعي انه خبير بالحياة (أنت غر قليل التجربة) ثم خطر ببالي خاطر فجائي فقلت لها:
- أيتها الآنسة: إذا كانت مرافقتي لك حتى البيت وإعطائي الإيضاحات اللازمة لوالدك يفيدانك شيئا فاسمحي لي أن أرافقك حتى منزلك. فرددت قليلا ثم فكرت مليا وقالت - واكثر ظنها أن ذهابي معها سيخلصها من تحقير أبيها ويقلل من حدته -: - نعم يا سيدي اقبل لطفك هذا.
ثم أضافت إلى جملتها هذه قائلة:
- لقد اثر البرد في جسمك فهل لك في قدح من الشاي أقدمه إليك إذا انتهينا إلى البيت؟
ارتفعت الكلفة بيننا وأصبحنا صديقين. كنا في ذلك الحين نتجه نحو (غلطه قوله سي) فقالت:
أتراني لو لم تكن معي كنت اجسر على المرور وحدي من هذه الاماكن؟ ثم وقفت فجأة أمام دار كبيرة وقالت (هنا)
دخلنا إلى صحن الدار المفروش بأحجار المرمر ثم أخذنا نصعد الدرج الحلزوني، لا ادري كم صعدنا، ولكني شعرت بدوار في رأسي وضعفت رجلاي عن حملي لأننا كلما انتهينا من طابق وقفنا قليلا نستعيد قوانا للصعود إلى الطابق الذي فوقه. وقفت أخيرا وأنا أتتنفس بقوة، فقالت ضاحكة: لم يبقى درج نصعده!
فدخلنا في دهليز صغير فيه ضوء ضئيل ووقفنا أمام باب، فنظرت إلى وجهي ولم تجسر أن تطرق الباب فطرقته بظهر يدي فلم يجبني أحد؛ طرقته مرة ثانية فسمعت صوتا يشبه صوت حيوان وحشي، ثم سمعت وقع أقدام تخطو رويدا رويدا خطوات غير منتظمة، وشعرت باقتراب أنفاسه منا، وأخيراً فتح لنا الباب وعاد من غير أن ينظر إلى ما ورائه وفي قلبه من الغضب والسخط عواطف يخشى بأسها.
دخلنا في ممر ضيق ووقفنا أمام غرفتين متقابلتين إحداهما مفتوحة فدخلناها وعلمنا أن الرجل لم يتبين أننا شخصان إلا بعد دخولنا غرفته، فنظر إلي متحيرا بعينيه المحمرتين من تأثير الكحول فقلت له: إن ابنتك اليوم قد وقعت في خطأ.
كان عند كل كلمة القيها عليه في شرح موقف الفتاة وحالها ترتسم على وجهه المغطى بسحابه من البلاهة منشأها ذلك الإدمان ابتسامة خفيفة وترتخي أعصابه وتنحل
كنت وأنا اسرد له القصة، انظر إلى تلك السحنة البلهاء تارة، والى غرفته أخرى. كان غائر العينين بارز عظام الخدين قد رجل شعره بدهن اللوز ليلمع، وعلى وجهه مسحة شباب ميت قد أقامت ذلك الهرم المتصابي بقوة العلاج الذي كان يستعمله.
وكانت الغرفة قذرة ما تحويه هذه الكلمة من معنى، وكان كل ما فيها عبارة عن كراسي عتيقة مكسرة، ومنضدة صغيرة كمناضد المقاهي عليها مشمع اسود اللون، وزجاجات خمر ونبيذ فارغات، وصحون قذرة، ومصباح قد طار من زجاجة قطعة فجعل مكانها ورقة سيجارة وينشر ضياء ضئيلا كأنه أنين باك موجع، وفيها فراش إن صح أن يسمي مثله فراشا، حولت نظري المتألم عن كل هذه الأشياء وقلت له:
- لقد جئت بالآنسة إلى هنا وهاأنذا أسلمها إليك.
فلما سمع مني تلك الكلمة ظهر ما لم يكن في الحسبان: ذلك أن والد تلك الفتاة المسكينة السكير البغيض الذي أبتدأ حياته أجيرا في أماكن الريب في (غلطه) أمضى قسما منهما في مرقص أنشأه بنفسه، تقدم مني مشيرا إلى فتاته الطاهرة التي كانت تنتظر النتيجة، وقد تجلت عليه تماما إمارات البلة وقال:
- لقد ظهرت الحقيقة أيها السيد. . .
- ثم اقترب مني وقال وهو ينظر إلى نظرة مرتاب:
- يظهر أن الآنسة قد وقعت من نفسك. . .
فأدركت سوء نية ذلك الرجل. كم كانت يدي في تلك الدقيقة تود أن تصفع ذلك السكير! حولت نظري إلى ابنته فوجدت وجهها قد علاه الاحمرار، لأنها أدركت غاية والدها.
لله أنت أيتها المعلمة الصغيرة! أيتها المخلوقة التي تشتغلين من الصباح حتى المساء لإشباعوالدك، هل أنت حقا ابنة ذلك الرجل؟!
حولت وجهها عني فلم اشك أنها في تلك الدقيقة كانت تود لألمها من تلك المهانة التي لحقها في عصمتها وعفتها، والجرح الذي أصابها في كرامتها، أن تهرب من بين يدي وتذهب إلى حيث لا أراها فتبكي. . . وتبكي. . .
لم اجبه بشي ما، إن الرجل كان لا يزال ينظر إلى نظرة المرتاب، فأدركت أن من الواجب البعد عن ذلك المكان. وكأنه أدرك ما دار في خلدي، فعرض علي مستهزئا كأسا من
(الكونياك) فقلت:
- شكرا. ليس لدي من الوقت ما يتسع لذلك.
وسرت نحو الباب، فظهرت من الفتاة حركة تدل على أنها تود أن تخرج معي حتى الباب تودعني. لكنها لم تجسر على ذلك في بادئ الأمر، ثم أقدمت عليه وسارت ورائي. بقى والدها في غرفته يضحك ضحكا عاليا كأنه يعلن به ما قاله أولا:(يظهر أن الآنسة وقعت من نفسك!!)
تبعتني الفتاة حتى باب الدار وقلت بصوت وتخنقه العبرات:
- سيدي. . .
ثم اضطربت ولم تستطع أن تتم جملتها.
حينذاك أخذت يدها وهي في القفاز بكلتا يدي، وشددت عليها مظهرا ألمي على تلك الزهرة الناضرة التي نبتت في ذلك المكان الملوث، وحكم عليها أن تعيش فيه عيشة حقارة ومهانة وقلت لها:
- أيتها الآنسة: اكرر لك جملتي السابقة وأقول. إن الصبر أقوى ما يعتمد عليه المرء في طريق الحياة. لا أظن أننا نلتقي مرة أخرى، ولكن كوني على ثقة أنني دائما سأتمنى لك من صميم قلبي السعادة والهناء.
فانحدرت من عينيهادمعتان كبيرتان وسالتا على خديها ثم استقرتا على صدرها، أعلنت بهما شكرها لي.
ففررت من ذلك المحل، وكنت وأنا انزل الدرج أقول في نفسي:
(لقد وعدتها أن أتمنى لها دائما السعادة، ولكن أين منها السعادة؟!).
لعمري لو رايتها حين يبدي الربيع نواره، وينثر على بسط الزبرجد أزهاره، على عربة من تلك العربات الضخمة، التي يركبها صائدات القلوب وسالبات الجيوب وهي متجهة نحو (شيشلي) حيث تموت الفضيلة، وتحيا الرذيلة، تسلم على أحبابها بابتسامات غريبة وإشارات مريبة، لم اعجب لذلك بعد الذي رأيت من حالها مع أبيها.
ما أتعس تلك الفتاة الصغيرة! إنها بين شقاء ين: شقاء الحاضر بابيها المختبل، وشقاء المستقبل بشرفها المبتذل.
نزيلة بعلبك
فتاة الفرات