الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 651
- بتاريخ: 24 - 12 - 1945
معرفة الطريق.
. .
للأستاذ عباس محمود العقاد
قد يصل المرء إلى المعرفة الجوهرية عرضاً، وهي التي نسميها هنا معرفة الطريق
وقد احتاجت معرفة الطريق في عصرنا هذا إلى شئ من الإنصاف بعد أن جار عليها الناقدون كل الجور، وزعموا أن النظرة العرضية لا تؤدي إلى معرفة يعتد بها على الإطلاق
وفي اعتقادنا أن تاريخ المذاهب الفكرية كلها إنما هو تاريخ جور واعتدال، أو تاريخ إجحاف وإنصاف، أو تاريخ تجاوز للحد ورجوع إليه، وقد يكون الرجوع إلى ما دون الحد بكثير أو قليل، فيحتاج الفكر إلى رجعة أخرى ليستقر على الحد الصحيح
أفرط الناس في الإيمان بالمنطق، ثم أفرطوا في الإيمان بالسماع، ثم أفرطوا في الإيمان بالعلوم التجريبية، ثم جمعوا بين المنطق والسماع والعلوم التجريبية في تقديرات علم النفس الحديث، ثم لعلهم يعودون كرة أخرى إلى حدود المنطق السليم، ولكن لا وراء الحدود في هذه المرة ولا أمام الحدود، بل على سواء الحد الصحيح
ومن الأراجيح الفكرية التي تجاوزت الحد جيئة وذهوباً أرجوحة الكلام في مشاهدات السائحين، أو تعليقات الناظرين إلى الأمم من عرض الطريق؛ فقد أنكرناها وغلونا في إنكارها كأن النظرات العارضة لا تميز أمة من أمة ولا مدينة من مدينة، وكأنها لا تطلب لذاتها في بعض الأحيان للدلالة على حكم المفاجأة الأولى، وكثيراً ما تكون المفاجأة الأولى هي المميز الواضح بين الناظرين كما تكون هي المميز الواضح بين المنظورات
كان (فيليب جويدالا) الأديب الأسباني أصلا والإنجليزي نشأة يعبر بالقاهرة، فسألته: أتنوي أن تكتب شيئاً عن رحلتك؟ فقال ضاحكا: لا أظن أن أيامي القصيرة في هذه الرحلة تكفي لتأليف الكتب في موضوعها. ثم قال: لعلي أنا السائح الوحيد الذي قضى في روسيا نحو أسبوع، ولم يخرج منها بموضوع كتاب.
ومراد الأديب بما قال أن يسخر من عجلة المؤلفين في الحكم على الشعوب التي يعبرون بلادها ولا يطيلون المقام بين أهلها، وهو على حق في هذه السخرية إذا كان الموضوع الذي يتصدى له أولئك المؤلفون العابرون مما يحتاج إلى إطالة الدرس وكثرة المراجع
والأسانيد، ولكن السخرية جائرة على أولئك المؤلفين إذا كان همهم الأكبر تسجيل ما شاهدوه وما أحسوه ووقع هذه المشاهدات في أذهانهم ومخيلاتهم للوهلة الأولى، فإننا نخسر كثيراً من حقائق المشاهدات إذا أهملنا منها الجانب الذي يفاجئنا بآثاره النفسية، ولو تغير حكمنا عليها بعد ذلك، لأن الآثار التي تتغير هي أيضاً صورة من صور الدلالة، ولون من ألوان الشعور والتفكير.
خطر لي هذا الخاطر وأنا أستمع اسماً من الأسماء تغلب فيه النسبة إلى بلد من البلاد المصرية.
فرجعت بي الذاكرة إلى العهد الذي كانت النسبة الإقليمية تغلب فيه على معظم الأسماء إن لم تغلب على جميع الأسماء.
فكنا نسمع مثلا أسماء: علي الجرجاوي، وحسن الأسيوطي، ومحمد الشرقاوي، وأحمد الفيومي، وحسين المنياوي، وموسى الشندويلي، ومحمود الدمنهوري، وكثيراً من أشباه هذه الأسماء المنسوبة إلى الأقاليم.
ثم عبرت فترة على الديار المصرية قلت فيها الأسماء المنسوبة، ثم أوشكت أن تزول.
ألا يدل مجرد الاستماع إلى أسماء هذين الجيلين على تاريخ الوطنية المصرية منذ خمسين أو ستين سنة؟ ألا يفهم منه أن المصريين قد شعروا بوطن عام تنطوي فيه الأقاليم بعد أن كانت أوطانهم في رأيهم هي تلك الأقاليم التي حجبت عنهم النظر إلى (الوطن العام).
وتسمع بين الأسماء اسم البحيري والشرقاوي ولا تسمع اسم الغرباوي أو الغربي منسوباً إلى إقليم الغربية، بل ينسب الناس أبناء هذا الإقليم إلى بلادهم: كالطنطاوي والدسوقي والمحلاوي والسنطاوي، وغيرها من المنسوبات إلى بلاد الغربية وقراها. فهل من العجلة أن يفهم من ذلك أن التقسيمات الإدارية لم تكن مما يحفل به المصريون في عهدهم الغابر، وإن أسماء الحكومة غير أسماء الشعب في لغة الجماهير؟ ألا يلاحظ من هذا أن الموقع هو المقصود من نسبة البحيري والشرقاوي وليس هو الاسم المصطلح عليه في دفاتر الحكومة عند تقسيم المديريات؟
ويحضرني لهذه المناسبة ما لاحظته على الأسماء العربية في بلاد السودان
ففي هذه البلاد يكثر اسم: أبو بكر وعمر وعثمان، ويوجد اسم مروان والزبير ومعاوية
وشرحبيل، ويقل اسم علي وحسن وحسين وجعفر وزين العابدين، ويحدث ذلك الآن غير متعمد وغير ملحوظ، ولكنه في بداية أمره كان متعمداً ولا شك لكثرة المهاجرين إلى السودان من الأمويين بعد زوال الدولة الأموية، وكثرة المهاجرين إليه من العباسيين بعد ظهور الفاطميين. أما في مصر حيث أقام الفاطميون زمناً طويلا، فليس أشيع بين الأسماء العربية الإسلامية من اسم الحسن والحسين وعلي وسائر الأسماء العلوية، وقس على ذلك أسماء المسلمين في إيران وبعض الأقاليم العراقية والهندية؛ فإن أسماء الخلفاء فيها - ما عدا اسم علي - من أندر الأسماء.
وندع الأسماء ونستمع إلى نداء الباعة، أو ننظر إلى زفة الجهاز والشوار، أو نقرأ بعض العناوين على أبواب الدكاكين والأماكن العمومية.
فماذا نفهم من (العبد اللاوي شيلة جمل)، حين ترى أن المنادي بهذا النداء السخيف يحمل في يديه وحجره عشراً من هذا العبد اللاوي الذي ينوء الجمل بواحدة منه؟
وماذا تفهم من اللحاف الذي يحمل وحده على مركبة، أو الكراسي القليلة التي تحمل على مركبة أخرى حين تعلم أن البيت كله ينقل بعد ذلك على مركبة واحدة تتسع لحمولة عشر مركبات من هذا القبيل؟
ألا تفهم من هذا وذاك ولعاً بالمظاهر الكاذبة يبلغ حد الجنون؟ ألا يصدق وصف الجنون على هذا الولع، لأنه يطلب المظهر، ولو لم ينخدع به أحد من الناس؟
إن الولع بالمظهر الخادع فيه بعض العقل أو بعض الذكاء. أما الولع بالمظهر الذي لا يخدع أحداً ولا يخطر على بال الآدمي أنه قابل للخديعة والأنخداع، فأصدق ما يوصف به أنه ضرب من الجنون، وأنه يدل على نقص في إدراك الحقائق وتصورها، لا يستقيم عليه حال.
وليس في وسعنا أن نعيد هنا أسماء الأماكن العامة أو عناوين الدكاكين كما نقرأها ويقرأها من يشاء، لأننا نمس بها أناساً من الأحياء لا نعني ذواتهم بما نقول، فنكتفي من ذكرها بالإشارة إلى مرادفها، أو ما يدل على مثل معناها ومثل ما تشتمل عليه من المتناقضات والأعاجيب
فماذا تفهم إذا عبرت الطريق فرأيت مدرسة للبنات تدعى مدرسة الانشراح، وحانة تدعى
حانة الحكمة؟ وماذا تفهم إذا قرأت (جزار الخيرات) وحانوت السلامة؟
أمثال هذه العناوين تدل على كثير، وهي على هذا لا تحتاج إلى أكثر من لفتة في الطريق.
وإذا نزلت بمدينة إسلامية في شهر رمضان فلم تر مسلماً واحداً يحمل سيجارة يدخنها، ورأيت في كل شارع مشهود خمس حانات، فماذا تفهم من حقيقة الإيمان وحقيقة الأخلاق ونصيبها من الصدق والصراحة في تلك المدينة؟ وماذا تفهم إذا مررت فيها بمائة مسجد ولم تجد فيها جميعاً ما يملأ عشرة مساجد؟
إنك لتفهم من هذه النظرات العرضية ما يستحق أن يفهم على الأقل وأن يلاحظ وأن يتجاوز الملاحظة إلى التسجيل.
فإذا كان هذا الفهم مما يتغير بعد النظرة الأولى، فذلك من دواعي الحرص عليه لا من دواعي إهماله وصرف النظر عنه، كما يحرص على كل ملاحظة إنسانية يخاف عليها من الزوال السريع.
لقد ظلمنا (معرفة الطريق)، وأفرطنا في الانحناء عليها، فوجب أن نعود بها إلى حد من القصد والإنصاف، لأننا محتاجون إلى سرعة الملاحظة، ومحتاجون إلى سرعة الاستدلال، ومحتاجون إلى تسجيل الأطوار المتعاقبة للحقيقة الواحدة في حالة المفاجأة وحالة الروية والمراجعة.
أما إذا قيل إن هذه المعرفة التي تسميها بمعرفة الطريق قد تسمعنا ما لا يستحق السماع وتسجل لنا ما لا يستحق التسجيل فالخطب هنا يسير وموضع الفصل فيه غير بعيد، لأننا خلقاء أن نذكر دائماً أن النظر الذي لا يرى من النظرة الأولى ما يستحق أن يقال: لن ينفعنا بشيء ذي بال بعد التمحيص الطويل والتنقيب الكثير.
عباس محمود العقاد
من التاريخ الإسلامي:
عشية وضحاها
للأستاذ علي الطنطاوي
هبطت ليلة الثلاثاء (15 رجب 484هـ) على قصر الملك الشاعر، وهو لا يزال على العهد به مُذْ عشرين عاماً، سابحا في النور، رافلا في حلل النعيم، ولا يزال أهله سادرين في أفراحهم، واثقين بدهرهم، مطمئنين إلى سعدهم، ولم يخفهم ما رأوا البارحة من طلائع الفاجعة ونذرها، إذ أطبقت سحبها سوداً متراكبات ترتجس بالرعد، وتنبجس بالبرد، وتعزف رياحها الهوج العاتيات. . . لأنهم كانوا على يقين من زوالها، وكانوا يرجون من بعدها صباحا طلقاً، ضاحك الطلعة ساجع الطير مزهر الروض.
كذلك عودتهم الأيام حين غمرتهم بنعمها، وأفاضت عليهم متعها، ولم تمسك عنهم خيراً يطمع فيه عاشق ولا شاعر ولا ماجد شريف. وكان للملك من نفسه الكبيرة جيش إذا افتقد الجيش، وكان عظيم الثقة بها والاعتماد بعد الله عليها، وكان فذاً قد جعلته خلائقه وما ورثه الجدود، بطلا في الأبطال، فلم تنل من حماسته هذه الأحداث التي كرّت عليه فجأة بعد ما طال أنسه بالدعة، وبعد ما نام عنه الدهر فطالت نومته، وأضفى عليه ثوب السعادة فامتدت سعادته.
وكان قد نزل به في يومه ما لو نزل بملك غيره لطارت نفسه شعاعاً، فحار وسُقط في يده فلم يعرف له مضطرباً. أو أنصدع قلبه وانخلع فؤاده فخضع واستسلم، ولكن المعتمد بن عباد لم يكن ليذل ولا ليجزع، بل أحتمل هذه الشدائد صابراً عليها، معداً العدة لدفعها.
لقد تجمعت عليه في يومه بلايا ثلاث كانت كالحلقات في سلسلة أسره: أنقلب عليه حليفه القوي أمير المسلمين ابن تاشفين الذي أعانه على حرب الأسبان، وجاءته الأخبار عنه أنه قطع المجاز أمس بالخميس العرمرم لم يعده هذه المرة للأسبان، ولم يسقه ليذودهم به عن الوطن الإسلامي، وإنما أعده لحرب ابن عباد، وساقه عليه ليزيله به عن عرشه، ويقتلعه من كرسيه. ولقد أذكى ابن تاشفين حمية جنده، بأن أراهم في هذا الزحف قربة إلى الله، وأنه في سبيله، وأنه ما أراد به إلا عز الإسلام بحطم هذه العروش الصغيرة، وهذه الممالك المزورة:
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت له بالإتاوة، وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة (الأندلس) إلا ولاية في دولة المسلمين. . .
بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواه وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمح العدو فيهم، (المعتمد) الذي كان بالأمس الداني صديقهم وحليفهم وكان مُضيفَهم، وكانوا يتغنون بما رأوا من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال.
ثم أن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الأسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين، وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لما بلغهم زحف أميرهم، وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل يؤثرونها على مواقعة الأسبان ومروا يطحنون في طريقهم الأرباط والقرى، ويأخذونها أخذ الفجاءة، ويدعسون مآثر العمران ويحطمون الجنان، وجابوا في هذه الكرة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، ورباً حالية بالزهر، وضياعاً عامره ممرغة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلوها بلاقع، فكأنما مرت عليها ريح سَموم محرقة لا تبقي ولا تذر!
وكانت ثالثة الأثافي، هذه الثورة التي قدح زنادها، ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد، اشبيلية دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضري، وحكمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده، وكرم طبعه، إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحباءهم حباء الجواد المحسن!
لم يحفل الملك وقطان قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجئ ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع. . .
وأوى الملك إلى سريره بعد ما صرم أكثر ليله يعدّ قوته ويقيم مسالحه، وكان يؤنسه أن يستمع في هدأة الليل إلى هذا الهتاف البعيد، وإلى صليل الأبواق، وهزيم الطبول، وهو يطرز حواشي السكون في هذا الليل الساجي، إنهم جنده الذين خاضوا معه لجج القتال المر، وشاركوه جنى النصر الحلو، على أبواب قرطبة دار الصيد الأعزة من بني أمية يوم فتحت له أبواب قرطبة، وفي (الزلاقة) يوم ساق (الأذفونش) فيالقه وجيوشه، ليمحو بزعمه الإسلام من الأندلس فمحى جيشه، ولولا المعتمد وجنده ما هزم الأذفونش، ولكان المرابطون هم أصحاب الهزيمة يوم الزلاقة. . .
وأغفى الملك وهو يداعب ذكرى ذلك الظفر، ويطوي سمعه على ضجيج جيشة الذي يحبه ويعتز به، ويود لو أن هذا الجيش قصر عزمه وبأسه على قتال الأسبان، ولم يسئ إلى البطولة بحربه الأخوان المسلمين. . . ورأى الملك في منامه كأن هذا النشيد المدوي الذي نام عليه قد قوى واستفاض حتى رجعت أصلاد أشبيلية صليله وعزيفه، وعظم إرعاد تلك الطبول حتى أوشك أن يهز سريره بين جدران قصره، وخالطه صراخ وضوضاة، ففتح عينيه وأفاق مرتجفا، وأصاخ فسرعان ما أدرك: إنه العدو قد طرق المدينة، إنهم فرسان البربر الذين قلبوا له ظهور المجان، فتخلوا عن ثغورهم حيال الأسبان وأقبلوا عليه إقبال الذئاب الكواسر. . . ألئك هم الذين كانت تؤنسه أصواتهم، فيطوي عليها سمعه حين ينام!
وتلفت حوله فلم يجد إلا حرس القصر، وما كان حرس القصر رجال حرب، ولا فرسان ضراب؛ وأحس بالخطر، ورأى أنه قد كاد يفقد كل شئ. ولكنه لم يفقد الشرف ولا الشجاعة ولا النبل:
إن يسلب القوم العدى
…
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
…
لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطباع أيس
…
لب الشرف الرفيع
ولا يزال سيفه في يده، فخرج به وما عليه إلا غلالة رقيقة، لم يمهلوه حتى يلبس لامته ويدرع:
وبرزت ليس سوى القميص
…
عن الحشا شئ دفوع
وأراد حرسه وأهله أن يجنبوه هذا الهلاك الأكيد، وأن يحسنوا له الموادعة حتى تنكسر حدة
الهجوم، وتمكن البادرة:
قالوا الخضوع سياسة
…
فليبد منك لهم خضوع
فأبت له مروءته وحميته، ونفس تعاف العار حتى كأنما هو الكفر يوم الروع، أو دونه الكفر، ورأيت له ذكريات النصر ومواريث الجدود. . .
وألذ من طعم الخضوع
…
على فمي السم النقيع
أمن الموت يفر وقد كان يتعشقه ويطلبه ويسعى إليه، ولا يفكر إذا خرج للقائه في أهل ولا ولد:
ما سرت قط إلى القتال
…
وكان من أملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم
…
والأصل تتبعه الفروع
ولكنه كان يريده موتاً شريفاً نقياً، كالفتاة المكنونة في الحجاب، لم تدنسها نظرات الإثم ولم تعلق بجمالها الريب، وكان يهوى لقاءه في الملحمة الحمراء، فيلحقه فيفر منه ويتأبى عليه!. . . أما هذا الموت الذي يقبل عليه في غرفته إقبال اللص، ويلقاه في ضيق الدهاليز لا في رحب الميدان، وفي سدفة الليل لا في سفر النهار، ويريده في غلالة الشاعر لا في درع البطل، فهو لا يطلبه ولا يحبه بل لقد أحنقه ذلك عليه، وملأ صدره غيظاً منه، وكراهاً له، حتى نذر لئن واجه الموت هذه الليلة ليقتلن الموت! ولئن هو لم يقتل الموت، فلقد أحيا لمملكته الحياة، ولقد وفى نذره فرد هذه الغاشية التي اقتحمت عليه حصنه، على حين غفلة من أهله، كما يرد الهزبر الذئاب عن غابه.
وضوّأ النهار أشبيلية، وهي مقسمة الفؤاد بين فرح بالنصر، وجزع من الخطر، وكان جند الملك الأشاوس قد وقفوا للدفاع عنها، لا يفتئون كلما سمعوا همسة ريح، أو هدير نهر، أو صفير طائر، أو نبأة خفية بين الأرض والسماء، ويثبون إلى سيوفهم، يتطلعون أبداً إلى الطرق من فرط تشوقهم للقاء هذا الخصم المغير الذي كان بالأمس الحليف النصير فإذا لم يروا أحداً رجعوا إلى مسالحهم يقظين مرتقبين، وكانت الحصون حول البلد، وفي أطراف المملكة، محشوداً فيها الجند من كل كمي كأن قلبه من ثباته جلمد الصفا، وكان في أكبرها وأمنعها، شبلا ذلك الأسد، وفرعاً تلك الدوحة الكريمة الباسقة، الراضي بالله والمعتدّ بالله، ولدا المعتمد ابن عباد. . .
وكان عصر ذلك اليوم وأهل أشبيلية لا يزالون يتغنون بمأثرة الملك الفارس، وقد فترت يقظة الجند حين توالى الأمان واطمأنوا إلى بُعد العدو. فاستراحوا قليلا بعد هذه الليلة الجاهدة؛ في تلك الساعة صرخ النذير كما ينفخ في الصور فتجمع العسكر المكدود على عجل، وصدمتهم فرسان البربر من جهة البر ومن الوادي صدمة تحط الصخر من ذراه، ولكنهم وجدوا المعتمد أثبت من الصخر وأيقظ من الصقر، فارتدوا بعدما فعلوا بالمدينة فعل الزلزال واستراحت أشبيلية أياماً، ثم جاء يوم الواقعة!
وفي يوم الأحد 20 رجب سنة 484هـ ارتجت أشبيلية بأضخم جيش وطئ ثراها، جيش أمير المسلمين ابن تاشفين، الذي حشد له من غطارفة المرابطين كل بطل غشمشم، ويقوده أبن أخيه كبش القوم وفارسهم سير بن أبي بكر، وجمع له فيه من قبائل البربر جناً مقاتلة كأنهم من طول ما ألفوا الخيل قد ولدوا على ظهورها، بعدة لهم ضخمة وعديد، فسدوا مطلع الشمس، وحطوا على البلد حط الجراد، وطوقوه تطويق القيد، وانضم إليهم فرسان الثغور، ثم أطبقوا على ابن عباد كالسيل الأتي الدفاع. . .
أثار المعتمد في نفوس جنده حميتهم وكبرياءهم، وأنشدهم أبرع أناشيد البطولة، ولون لهم الموت بأجمل الألوان، وعرض عليهم تحاسين المجد وتهاويله، فثبتوا وجاءوا من فنون القتال بأعجبها وأشرفها، وناضل الملك البطل حتى لم يبق مناضل، وضارب حتى تحطمت في يده السيوف، ودافع حتى استنفذ آخر نقطة من القوة البشرية التي أودعها الله فيه، ثم سقط مغسلا بدماء جراحه، وتحطم السد فانطلق السيل. . . ونفضت قصور الملك عن غيدها وكنوزها، فعادت أطلالا. . . وهوى الصرح الذي أقامه على النيل والحزم والكرم الغر البهاليل بنو عباد.
إن البطل الحق لا يستهويه الظفر حتى يستخفه، ولا تعزه الهزيمة حتى تسحقه، بل يتلقاها بعزم جلد وفؤاد ثابت، وكذلك فعل المعتمد فلم تذل نفسه ولم يضرع ولم يتهافت. بل تلقى قضاء الله تلقي المؤمن. . . وكتب إلى ولديه يستنزلهما من حصنيهما حين قسره الغالبون فلم يجد إلا ذاك، وكتبت السيدة الكبرى أمهما، وكانا في حصنين أمنع من النجم. تهاوت الحصون وهما ثابتان. . . ولكن ماذا ينفع حصنان وقد باد الملك وماد العرش وساد المرابطون. . . فلما أطاعا ونزلا قتل الراضي على باب حصنه، واستصفى مال أخيه
وترك على شر حال، ثم اقتيد المعتمد وأهله مجردين من الأموال، مقيدين بالقيود الثقال، ليلقوا ما قدر عليهم في صحراء المغرب.
كان إذا خرج موكب المعتمد أطلت عليه كل فتاة في حمص تختزن صورته لتزين بها أجمل رؤاها، وأحلى أحلامها، وتطلع إليه كل شاب ينقش رسمه على شغاف قلبه ليجعله مثلا له في المعالي، وملأ عينه منه كل أندلسي لأنهم كانوا يحسون أنه عز لهم وفخر، وأنه حبيب إلى قلب كل أندلسي، وإن عاد مظفراً قاموا على طريقه يرشقونه بأجمل أزهار الجنة. أما اليوم فقد خرجوا بغير ورد ولا زهر. خرجوا وما أعدوا إلا عيوناً تبكي لو استطاعت بدل الدمع دماً، وقلوباً تفديه بحبّاتها لو كان يمكن الفداء، وجرى النهر ذلك اليوم متطامناً خافت الخرير، لا يصخب ولا يهدر، كأنه هو الآخر قد أحس بالألم:
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا
…
من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
وكانوا ساكتين قد عقدت الذهلة ألسنتهم، وأمسكت الأحزان وسيوف المرابطين أفواههم، حتى الأطفال لم يكن فيهم من يبكي أو يصرخ، حتى إذا قدمت بنات الملك الأسير يجرهن جند من البرابرة جر الشياه إلى المسلخ، وقد:
حط القناع فلم تستر مخدرة
…
ومزقت أوجه تمزيق أبراد
أوجه تزرى بالأقمار، وأجسام ألطف من الياسمين الغض، وأرق من شعاع البدر على البحيرة الصافية في ليلة غرام. ثم طلع الملك لا تاج على رأسه، ولا سيف في يده، ولا لواء يخفق على هامته، ولا جند من حوله يفدونه بالأرواح ويبذلون دونه حر الدماء؛ بل حوله جند من البربر، وفي يديه قيود ثقال، وما عليه إلا أطمار - تفجرت الأحزان مدامع، وانشقت القلوب صرخات، وتحركوا لنصرة الملك، ولكن البربر كانوا خلالهم ومن فوقهم ومن تحتهم. . .
حان الوداع فضجت كل صارخة
…
وصارخ من مفداة ومن فادي
ووضعوا الملك في السفينة، ومن حوله نساؤه وبناته مقرونات بالحبال، مطرقات كاسرات الطرف تلوح قطرات دموعهن في ضياء الشمس كاللآلى:
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا
…
سيقوا على نسق في حبل مقتاد
ورفع الملك رأسه ونظر إلى جنده، وأنتزع من آلامه ابتسامة لاحت على شفتيه كما تلوح
خيوط الشمس لحظة خلال السحاب في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر. فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً، وفك أسيراً، وأجاز شاعراً، وفعل بها المكرمات؛ أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق و. .
سارت سفائنهم والنوح يتبعها
…
كأنها إبل يحدو بها الحادي
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد ابن عباد. . . أفي عشية وضحاها، يطمس كتاب كله مجد وكرم ألف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا، فهرعوا (يثبتون) إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن، وأقام فيها النبل. فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارهم علماً يخفق، ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها وصوح زهرها، والدور قد هدمت جدرانها وهدت أركانها، وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة؛ قد محي نقشها وطمس زخرفها وعشش فيها البلى. . . هنالك علموا أنها قد وقعت الواقعة وكان ما قدر الله أن يكون:
عرينة دخلتها النائبات على
…
أسود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها
…
فاليوم لا عاكف فيها ولا بادي
فمن المعفاة تعمهم جدواه؟ من للجيران تحميهم بواتره وتحييهم عطاياه؟ من للفرسان الغطاريف يقودهم إلى النصر حين يخفي على الدليل سبيل النصر؟
لقد ذهب من كان لهم. . . فيا مَنْ يقصد الملك الشاعر، إنه لم يبق هنا ملك، أنها قد خلت منه داره، وبعد مزاره:
يا ضيف، أقفر بيت المكرمات فخذ
…
في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه
…
خف القطين وجف الزرع في الوادي
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت
…
تختال في عدد منها وإعداد
ألقِِ السلاح وخلّ المشرفي فقد
…
أصبحت في لهوات الضيغم العادي
ضلت سبيل الندى يا ابن السبيل فسر
…
لغير قصد فما يهديك من هادي
كذلك ذهب الملك الشاعر البطل الذي كان في ملوكيته وفنه ونبله، تمثالا للإنسان الذي كانت تتمنى كل حامل في الأندلس أن تلده، وكل ناشئ متطلع إلى العلا أن يكونه.
الملك: الذي كان زمانه كله فجراً رخيٌّا ناعماً، وأيامه كلها ربيعاً بهياً باسماً
الشاعر: الذي كان شعره لحن كل قلب مدلَّه بالجمال، مفتون بالفن
البطل: الذي بنى لقومه مفاخر في السناء ومآثر. وكذلك ألقى الستار (بين عشية وضحاها) على ملحمة فخمة فيها أجمل شاهد الهوى والشباب والبطولة والظفر والسماحة والكرم والشعر والطرب والغنى والترف، ورفع عن مأساة من أفجع المآسي التي (عرضت) على مسرح الكون
علي الطنطاوي
وجوب التثبت في المباحث العلمية قبل النقد
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
اطلعت على كلمة في العدد 649 من الرسالة، لحضرة الأستاذ الحقوقي البغدادي الذي لم يشأ أن يعرب عن اسمه الكريم، ولكني - مع ذلك وقبل الرد عليها - أود لو يتقبل مني الأستاذ تحيتي وشكري وثنائي عليه، لتتبعه ما نشرته في الرسالة الغراء، ولأنه أتاح لي معاودة البحث مرة أخرى، فخرجت أشد إيماناً، وأرسخ يقيناً بصحة ما أنكره من بحثي السابق، كما قيض لي في كلمتي هذه ذكر بعض الكتب الفقهية، وكتب التفسير والحديث وتسجيل المراجع العلمية الصحيحة التي اعتمدت عليها.
اعترض الأستاذ في كلمته قضية، ذكرتها في محاسن التشريع الإسلامي، على أنها دليل على مراعاة الشريعة الإسلامية المساواة في تكاليفها وأحكامها، كما سقت قضايا وأدلة أخرى على تلك المزية.
والقضية التي اعترضها الحقوقي فأنكرها هي: أن الربيّع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها، فطلب أهل الجارية القصاص، فأمر رسول الله به، فجاء أخو الربيع أنس بن النضر، وكان من خاصة الصحابة، فقال يا رسول الله: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيّع، فقال رسول الله: كتاب الله القصاص، فلم يزل أنس يقول لرسول الله، حتى جاء أهل الجارية راضين بدفع الأرش، فقضى رسول الله به).
وظاهر من سياقة هذه القصة (في مبحث المساواة في التكاليف والأحكام) أنها إنما سيقت هي ونظائرها للاستدلال على أن الأحكام الشرعية تطبق على جميع أفراد المسلمين بلا تمييز، فلا تسقطها صلة بعظيم، ولا تتبدل بشفاعة ولا وساطة من كبير أو ولي حميم، وإن كان أنس بن النضر الذي هو من خاصة الصحابة، وله قدم صدق في نصرة الإسلام، والجهاد في سبيل إعلاء كلمته، كما يؤخذ منها أن الحكم في مثل هذه القضية ليس متعيناً في القصاص إلا إذا استمسك به المجني عليه أو ولي الدم، أما في حالة العفو أو الرضا بالأرش أو الدية فإنه لا يحكم بالقصاص (وسيأتي إثبات ذلك).
بيد أن الأستاذ اعترض هذه القصة السابقة، وأنكر حصولها وهو في كل ما أتى به في كلمته لم يتعد وجهين اثنين لإثبات رأيه: الأول أن القضية المذكورة (قضية الربيّع)
مدسوسة في ثنايا قضايا التشريع وهي عنه جد بعيد.
الثاني - أن القصاص من حقوق الله، وليس من حقوق العبد، ورتب على ذلك نتيجتين: الأولى أنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقط حقاً من حقوق الله. الثانية أن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني.
ردنا على الوجه الأول
يقول الأستاذ الحقوقي (إن القضية مدسوسة في ثنايا قضايا التشريع وهي عنه جد بعيدة)، ويكتفي بهذا النفي والإنكار، فلا يقيم دليلا عقلياً ولا نقلياً على ما يقول، ولا يذكر مرجعاً علمياً واحداً يوافقه على هذا الزعم، فهو في إنكاره هذا لا يجري على الأسلوب العلمي، ولا على مقتضى قوانين البحث والمناظرة، أما نحن فنسوق له هاهنا حديثاً صحيحاً مروياً في أكثر أمهات كتب الحديث، هو الذي اعتمدنا عليه في تلخيص القضية التي قال عنها إنها مدسوسة، والقصة التي جحد صحتها. جاء في الجزء السابع من كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني ص 20: باب القصاص في كسر السن، عن أنس أن الربيّع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر يا رسول الله: أتكسر ثنية الربيّع، لا والذي بعثك بالحق لا تُكْسَرُ ثنيتها، فقال رسول الله: يا أنس، كتاب الله القصاص. فرضي القوم فعفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي)، هذا الحديث الذي رواه البخاري، وذكر في كثير من كتب الحديث الصحيحة - هو الذي أستندنا إليه في ذكر قضية الربيع؛ فإذا أصرّ الأستاذ الحقوقي على أنها مدسوسة بعد هذا البيان فليتبع في نفيها الطريقة العلمية والتدليل المقبول - إن استطاع - بأن يوجه إلى الحديث الذي رواها نقداً داخلياً موجهاً إلى متنه، أو نقداً خارجياً موجهاً إلى رواته، أو يذكر لنا على الأقل رأياً، ولو لرجل واحد من أهل التعديل والتجريح يطعن في صحته.
ردنا على الوجه الثاني
هنا كان عجبنا أشد، فإن الذي يعرض لتقرير قاعدة شرعية ليرتب عليها أحكاماً - ينبغي
أن يتثبت ويتحرى، ويرجع إلى كتب الفقه الإسلامي، وهي كثيرة في مختلف المذاهب.
يقول الأستاذ: إن القصاص - كما هو معلوم - من حقوق الله وليس من حقوق العبد، وحينئذ فليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضعه، كما أن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني.
شُدهت لهذه القاعدة، ولما ترتب عليها من النتيجتين، وغلب على ظني أن الأستاذ الحقوقي يقرر القاعدة التي بني عليها القانون الجنائي الفرنسي. وبعض القوانين الغربية. وأو أنه متأثر بها، فأراد أن يطبقها على ما قررته الشريعة الإسلامية، فنأى عن الحقيقة، وأخطأه التوفيق:
فإننا إذا رجعنا إلى كتب الفقه الإسلامي، وإلى القرآن الحكيم الذي هو الأصل الأول لتلك الشريعة، وإلى الأحاديث الصحيحة - أتضح لنا ثبوت هاتين الحقيقتين
الحقيقة الأولى - أن القصاص من الحقوق التي غلب فيها حق العبد - كما صرح بذلك علماء الحنفية، وليس كما قال الأستاذ الحقوقي إنه (ليس من حقوق العبد) - جاء في الجزء الرابع من حاشية العلامة ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار في فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ص 328 من كتاب القضاء (أن المحكوم به أربعة أقسام: حق الله المحض، كحد الزنى أو الخمر، وحق العبد المحض هو ظاهر، وما فيه الحقان وغلب فيه حق الله تعالى، كحد القذف أو السرقة، أو غلب فيه حق العبد كالقصاص، والتعزيز)، نقل ذلك ابن عابدين عن الرسالة المشهورة في فقه الحنفية المسماة الفواكه البدرية لبدر الدين محمد الشهير بابن الغرس
الحقيقة الثانية - أن حق العفو المسقط للقصاص - في الحالات التي يجب فيها القصاص. سواء أكان ذلك في النفس أم في الجراحات والأطراف - مقرر في الشريعة الإسلامية لمن له حق القصاص سواء أكان بلا مقابل، أم مقابل الدية أو الأرش، هذا الحق ثابت بالكتاب الكريم، وبالحديث الصحيح، كما أنه منصوص عليه صراحة في كتب فقهاء الإسلام:
(1)
قال تعالى في سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة)، فحق العفو عن القصاص ثابت بقوله جل
شأنه: (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) قال جار الله الزمخشري في كتابه الكشاف عند تفسير هذه الآية (هذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعا، يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بالا يعنف به ولا يطاله إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان بالا يمطله ولا يبخسه، (ذلك) الحكم المذكور من العفو والدية (تخفيف من ربكم ورحمة) لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة حرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو، وخيرت هذه الأمة (يقصد الأمة الإسلامية) بين الثلاث: القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا) 1هـ، ومثل ذلك في سائر كتب التفسير
(ب) ورد في الجزء الثاني عشر من فتح الباري بشرح صحيح البخاري ص 175 عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر الآية، فمن عفى له من أخيه شئ، قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال فاتباع بالمعروف أن يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان. وورد الجزء السابع من نيل الأوطار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من قتل له قتيل فهو بين النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل) رواه الجماعة، لكن لفظ الترمذي: إما يعفو وإما أن يقتل) 1هـ.
وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصيب بدم أن خبل، والخيل الجراح؛ فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فان أراد فخذوا على يديه) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(ج) أما النصوص الفقهية التي وردت في كتب الشريعة الإسلامية في هذا الشأن فإنها تجل عن الحصر، منها ما جاء في الدر المختار ورد المحتار في كتاب الجنايات، عند ذكر الفروق بين القصاص والحد:(يصح عفو القصاص لا الحد) وجاء في موضع آخر في مبحث الجنايات: (ويسقط القود بموت القاتل لفوات المحل، وبعفو الأولياء، وبصلحهم على مال ولو قليلا،. . . إلى آخره).
وجاء في بداية المجتهد لأبن رشد القرطبي في كتاب القصاص: قال مالك لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره:
ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى).
أفبعد هذه النصوص الصريحة في أن القصاص يغلب فيه حق العبد، وأنه يسقط عن الجاني - العفو أو أخذ الدية - يصح أن يقال إن القصاص ليس من حقوق العبد، وأنه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بسقوطه إذا اختار أولياء الدم أو المجني عليه أخذ الدية أو العفو؟!! وهل يجوز أن يقال: إن رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني بعد ما سقناه من نصوص الكتاب والأحاديث، وآراء علماء الفقه والتشريع الإسلامي؟!!
لقد كنا ننتظر حقا من الأستاذ الحقوقي - قبل أن يعترض - أن يبحث الموضوع في مصادره الإسلامية، ومراجعه الفقهية، وأن يعرف الفرق الذي لحظه فقهاء الإسلام بين القصاص والقطع في السرقة، فإن الأول يغلب فيه حق العبد؛ أما الثاني وهو وجوب قطع اليد في السرقة بعد ثبوتها، فإنه حق الله تعالى، ولذا لا يملك المسروق منه العفو بعد وجوب القطع ولا يورث عنه، كما أنه لا يملك الخصومة بدعوى الحد وإثباته مجرد عن طلب المال.
هذه كلمة توخيت فيها الاعتدال والنصفة في البحث، والأمانة في النقل، لا أبتغي بها سوى إحقاق الحق، والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسن أحمد الخطيب
العزاوي
للدكتور جواد علي
سيبلغ صديقي الأستاذ المحامي عباس العزاوي في هذا العام من العمر الخامسة والخمسين، وإذا ذكر العزاوي في العراق ذكرت الكتب والمكتبات والمخطوطات. فالأستاذ هاو معروف من هواة الكتب القديمة ومن هواة الخطوط، وقد جمع في بيته مجموعة ثمينة من الخطوط القديمة وهو يحدثك عنها وعن صاحبها وبائعها وكيف وصلت إليه، وميزات الخط الفلاني وعلاقته بالخطوط الباقية حديثاً تدرك من خلال مبلغ حب هذا العالم لكنوز الأجداد الأقدمين.
وهو لا يريد من وراء ذلك مكسباً لأنه لا يتاجر بالكتب ولا بالخطوط ولا بالمخطوطات، وهو لا يبتغي من وراء ذلك أجراً لأنه ليس بحاجة إلى هذا الأجر. ولا هو في حاجة إلى أحد. ثم هو لا يتبجح بمجموعته الثمينة شأن أغلب أصحاب الكتب والمكتبات والنوادر. يعرضون ما يجمعونه على الناس ليقال عنهم إنهم من أصحاب التحف والنوادر والجاه العريق.
والعزاوي من أبعد الناس عن التبجح والظهور فهو لا يعاشر إلا بطانة معروفة من الأدباء هي حاشيته وخاصته وجماعته وهي تعد؛ ولا يرافق إلا ابنه (فاضل) من مكتبه إلى مقهى (بلقيس) على شارع أبي نؤاس حيث يجلس قرابة ساعة ثم يعود مع ابنه إلى البيت.
وقد كان يصاحبه أخوه المرحوم المحامي (علي غالب العزاوي) إلى أكثر الأماكن، وكان أصدقاؤهما يقولون (ما أحب الأخوة) فقد كانا مضرب الأمثال في الأخوة حقاً، ولكن الجناة أبوا إلا أن يفرقوا بين الأخ وأخيه فقتلوا (علياً) على قضية خسيسة من حطام الدنيا وفرقوا بين عباس وعلي.
وهو لا يعاشر الآن إلا صديقاً واحداً لازمه منذ عرف الحياة وهذا الصديق هو (الكتب والعلم) ونادراً ما تراه وهو بغير كتاب. والكتاب المحبوب إليه (كتاب التاريخ) وأحب كتب التاريخ إليه على ما أعتقد هي كتب التاريخ النادرة ولا سيما الكتب التي تبحث عن الفترة المظلمة السوداء (فترة العراق بين أحتلالين) وهي فترة مجهولة موحشة تبتدئ بسقوط بغداد على أيدي الغزاة المغول وتنتهي باحتلال الإنكليز لبغداد عام 1917 للميلاد.
وإذا ما حدثك العزاوي عن هذه الفترة وتبسط معك في الموضوع وسرد لك حوادث الدويلات التركية وأسماء الأمراء الذين حكموا العراق في هذه المدة الطويلة من مغول وأتراك وإيرانيين فمماليك، فأنا على يقين من أنك ستخرج وتقول: ما هذه الطلاسم والتعاويذ، ولابد لك من الاستعانة بقاموس أو مفتاح يحل لك رموز هذه الشفرة المعقدة التي لا يعرفها إلا القليل من أصحاب هذا العلم.
ولد الأستاذ عباس العزاوي في سنة 1308 للهجرة (1891م) في البادية بين مضارب عشيرة العَزَّة، وقد قتل والده محمد الثامي وهو لا يزال بعد طفل صغير. والعزة قبيلة عربية شهيرة انتشرت في ألوية عديدة من ألوية العراق لاسيما في لواء ديالى. وترجع في الأصل إلى عشائر حمير من عرب الجنوب وتنتمي إلى قبيلة (زبيد الأصغر) المنتشرة في بلاد ما بين النهرين والتي تفرعت إلى عدة فروع، وتنتمي العزة إلى جدها الأعلى (عزيز) وبه تسمت فقيل لها (أعزة) جمع عزيز ثم (عزة) بالتخفيف.
جئ بالعزاوي سنة 1311 للهجرة (1894م) إلى بغداد فاستقر في هذه المدينة وبها نشأ وترعرع وتثقف. وأتم التحصيل الابتدائي والرشدي على عهد العثمانيين. ثم عكف على دراسة العلوم الشرعية واللسانية على الطريقة العلمية المعروفة في ذلك الوقت فدرس في جامع الخلفاء، وهو من بقايا جامع الخلفاء العباسيين على المرحوم عبد الرزاق الأعظمي ودرس في نفس الوقت في (مدرسة مرجان العلمية) وهي مدرسة أمين الدين مرجان صاحب الجامع الشهير المعروف (بجامع مرجان) والخان المعروف باسمه أيضاً، وقد أسست هذه المدرسة على مثال المدرسة النظامية المعروفة في عهد العباسيين ببغداد. وكان أستاذ المدرسة المرجانية هو المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي وهو من أسرة الألوسيين الأسرة العلمية المعروفة ببغداد. ودرس في مدرسة الحيدرخانة (المدرسة الداودية) على العالم الشهير المرحوم السيد محمود شكري الألوسي صاحب التصانيف الشهيرة في علوم الدين واللسان. وصاحب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) وهو الكتاب الذي نال عليه الجائزة من المستشرقين الإسكاندنافيين.
وعرفت الأسرة الألوسية بالميل إلى الطريقة السلفية وبالأخذ بمبادئ الدين على طريقة السلف. فتأثر العزاوي على ما حدثني به بهذه الطريقة فمال وما زال يميل إليها. وكان
المرحوم الحاج علي علاء الدين الألوسي هو مرشده ودليله إليها. وكان رحمه الله يشير عليه وعلى أمثاله بأن يكونوا أحراراً في اختيار المذهب الذي يريدونه وباتباع الطريقة التي يرون فيها صلاحهم على شرط أن يلجوا البيوت من أبوابها، ومعنى ذلك النظر في أقوال أصحاب المذاهب وما خلفوه رأساً، فإذا أرادوا مذهب الشافعي في الفقه نظروا في كتاب (الأم) المنسوب إليه. وهكذا. وعلى هذا فإذا أرادوا الدين الصحيح فعليهم بالقرآن ففيه الهدى والفرقان وهو المرجع والأصل. وقد وجد أن طريقة السلف هي أقرب الطرق إلى نفسه وأحبها إليه فاختارها طريقة له.
وقد أجازه المرحوم الحاج علي الآلوسي بالإجازة العلمية في 6 جمادي الأولى من سنة 1338 للهجرة (1920م) وتتصل إجازة الآلوسيين بإجازات علماء الشام، وعلى ذلك اتصلت إجازة المترجم بسلسلة إجازات علماء الشام. ودخل بعدئذ مدرسة الحقوق وتخرج منها في سنة 1339 للهجرة (1921م) ومارس المحاماة ومازال يمارسها حتى الآن.
فدراسة العزاوي إذاً دراسة علمية حقوقية وقد ساعده مسلكه العلمي على تفهم كثير من المشاكل التي تتعرض لها مهنة المحاماة. فكان يغرف من معين الفقه الإسلامي ليستفيد منه في الفقه العراقي الحديث. وبرز في الفقهين وامتاز على الأخص في النواحي التي يلتقي فيها الفقه بالقانون. وتتبع نقاط الخلاف فيما بين الفقهاء ودرس مذاهب قدماء الفقهاء وآرائهم في الجدل الفقهي مثل آراء ابن أبي ليلى الفقيه الشهير وابن شبرمة. واستفاد من هذه الدراسة الفقهية كثيراً.
واستفاد من حياة المحاماة كثيراً، فباعتباره محامياً يراجع المحاكم أينما كانت أضطر إلى زيارة أكثر الألوية العراقية وعلى التعرف إلى مختلف طبقات الناس، وعلى بحث مختلف المشاكل التي تتصل بالفقه والقانون فكان ينتهز هذه الفرصة ليرضي بها ميوله العلمية. وكان يغزو الأسواق ليشتري منها النسخ الخطية ويتجسس على أصحاب المكاتب ليتعرف المخطوطات النادرة التي لا يقدرها أصحابها فيبادر هو إليها لتكون في مكتبته الأمينة وفي بيت أمين يحافظ على هذه الودائع الثمينة.
وكانت مكتبة المرحوم السيد نعمان خير الدين الألوسي هي التي حببت إليه الفكرة إنشاء خزانة علمية تكون فردوساً للكتب فصار يقتني الكتب على نحو ما ذكرت. وصار يضيف
إليها الصيد النادر من خارج بغداد. ثم لم يكتف بهذا بل دفعه هذا الهيام بالكتب على زيارة مكتبات الشام ثم مكتبات الآستانة، ثم لم يكتف بكل ذلك بل طلب المزيد وهو في العلم نهم فذهب إلى بروسية فالنمسا ليستنسخ أو ليأمر بأخذ صور فوتوغرافية لبعض النسخ الخطية النادرة المحتكرة في خزانات كتب تلك البلاد.
فتجمعت على مرور الأيام في بيت الأستاذ أوابد الكتب ومختلف المخطوطات، ثم أضاف إلى هذا القديم شيئاً من الحديث الغض الذي يخرجه المستشرقون في الغرب وأبناء العالم الإسلامي في بلاد العروبة وفي بلاد الإسلام فتكونت لديه مكتبة ثمينة حرص على حياتها كل الحرص وتعهدها وما يزال يتعهدها بالتغذية والنظافة والرعاية أكثر من رعايته لنفسه، وهي عنده بمثابة ولده (فاضل) لها نفس حقوق الولد وزيادة، يخدمها الأب والابن والأم. ولا أدري منزلة هذه الكتب من قلب (أم فاضل) فقديماً كانت الكتب والمكتبات أشد وقعاً على قلوب الزوجات من (الضرائر) ولعلها هي كذلك في نفوس السيدات المتزوجات على الرغم من ثقافة (ستّات) القرن العشرين.
وأخذ العزاوي العالم يفاجئ العراق بمؤلفاته وأكثرها في تاريخ العراق وهي مؤلفات تشهد لصاحبها بسعة العلم وطول الباع وقدرته على الصبر والأناة سلك فيها مسلك علماء الخلافة العباسية. ولست بمبالغ إذا قلت عنه إنه يمثل دور مؤرخي العباسيين في القرن العشرين. وكتابه (العراق بين احتلالين) وهو سجل جامع لحوادث العراق ويقع في أثني عشر مجلداً ويشمل حوادث المغول وتاريخ الجلائريين ثم التركمان ثم حوادث الدولة العثمانية وحروبها مع الإيرانيين فتاريخ المماليك المعروفين بالكولات ففترة ما بين علي رضا باشا ومدحت باشا فأيام مدحت باشا فالمشروطية وهو كتاب ضخم مرتب على السنين، وقد طبعت الأجزاء الثلاثة الأولى منه بين 1935 و1939 للميلاد، وهو خير ترجمان عن علم الأستاذ.
وللعزاوي كتب أخرى مثل كتابه تاريخ اليزيدية وقد طبع في سنة 1935 وسيطبعه مرة أخرى بعد أن أضاف إليه زيادات وتنقيحات جديدة. وقد نال التفات صاحب الجلالة المغفور له الملك غازي الأول. ويسكن اليزيدية في شمال العراق في لواء الموصل وهم جد حريصين على ألا تتسرب عقائدهم إلى الخارج، وعقائدهم على ما يظهر مزيج من
مختلف العقائد والأديان. ومثل كتاب (عشائر العراق) وقد طبع الجزء الأول منه وكتاب تاريخ الخط العربي، وللأستاذ ولع خاص بهذا الموضوع وعنده مجموعة ثمينة من خطوط الخطاطين.
وللمترجم به مؤلفات أخرى مثل كتاب (تاريخ الموسيقى العربية) في عهد المغول والتركمان والعهود التالية لها. وكتاب (التعريف بالمؤرخين من تاريخ ظهور المغول إلى اليوم). وكتاب (الكاكائية في العراق) وهم نحلة من الغلاة وكتاب (تاريخ الفيليه) وهم من الأكراد، وكتاب (المعاهد الخيرية في العراق) ويبحث عن الجوامع والمدارس والتكايا، وكتاب (الأسر العلمية في العراق) ثم (كتاب الإجازات العلمية).
واتصل الأستاذ أثناء بحوثه هذه بمذاهب الأدب وبالأدباء وتعرف على أدبهم وطرقهم الخاصة في الكتابة والنظم، وقد دفعه ذلك إلى التأليف في الأدب فألف (تاريخ الأدب التركي في العراق) و (تاريخ الأدب الفارسي في العراق) و (التاريخ العلمي والأدبي) وهو كتاب يبحث في تاريخ العلوم والأدب عند العرب.
هذه هي أسماء الكتب التي ألفها العزاوي حتى الآن، وقد نشر بعض الكتب الخطية القديمة مثل كتاب (منتخب الدر المختار في علماء العراق) وهو ذيل لكتاب (تاريخ ابن النجار) انتخبه التقي الفاسيّ المكيّ وقد طبعه ببغداد سنة 1938، ورسالة ابن حسّول في تفضيل الأتراك على سائر الأجناد، وقد قدم العزاوي لها مقدمة وترجمها الأستاذ التركي محمد شرف الدين رئيس الشؤون الدينية في الجمهورية التركية ونشرها في مجلة (بلله تن) التركية بأنقرة ثم نشرها بصورة مفردة بالقسطنطية.
هذا عدا ما نشره في المجلات العراقية المختلفة ومازال ينشر في مختلف المجلات، وهو الآن عضو في (نادي القلم العراقي) وهو نادي أدبي ببغداد يضم نخبة من الكتاب العراقيين رئيسه معالي الأستاذ الكبير الشاعر العربي الفحل الشيخ رضا الشبيبي رئيس مجلس النواب سابقاً ووزير المعارف في عدة وزارات. وهو محفل يجتمع أعضاؤه بين الحين والحين في بيت عضو من الأعضاء بالتناوب فيتسامرون ويتباحثون ويأكلون ويجمعون بين العلم والأكل، ولذلك سماه بعضهم (نادي اللقم) على سبيل النكتة والمزاح.
وقد انتخبه أصحاب (إسلام ترك أنسكلوبيديسي) أي (دائرة المعارف الإسلامية التركية)
عضواً مراسلا، وانتخبه (المجمع العلمي العربي) بدمشق عضواً مراسلا أيضاً.
وهو الآن عضو في (لجنة الترجمة والتأليف والنشر العراقية) الرسمية وهي لجنة عراقية حكومية رأسمالها حكومي وأعضاؤها من العراقيين المشهورين بالتتبع والبحث لغرض ترجمة الكتب الأوربية الممتازة وتشجيع التأليف وإحياء التراث العربي القديم.
وبعد، فالمحامي عباس العزاوي من أولئك النفر الذين لا يزالون على سنة العراقيين يؤلفون ويكتبون ويقرءون. فمن واجبي أن أكتب عنه.
(بغداد)
جواد علي
الصهيوني الأول
(مهداة إلى الأقلام النبيلة المجندة لنصرة فلسطين)
للأستاذ سعيد الأفغاني
بات العرب في مشارق الأرض ومغاربها في هم مقيم مقعد من خطر الصهيونية بفلسطين، ومن كفر ساسة الإنجليز والأمريكان بالضمير والإنسانية. ولقد حق لهم ذلك فإن في أرث غريزتهم التاريخية - من حيث لا يشعرون - علم ما تكن الصهيونية من قوة على الشر، وعبقرية في تهديم مثل الخير والحق وما تستتبع من شرور آخذ بعضها بحجز بعض، وبعض هذا كاف في تبرير عمهم وفزعهم.
وجميع الباحثين في تاريخ هذا الجرثوم الخبيث يردون نشأته إلى القرن الثامن عشر، لا يرقون إلى ما قبل ذلك؛ فما قول القارئ الكريم إذا عرف أن العرب بلوا بفتك هذا الدار منذ أربعة عشر قرناً؟ وأن عبقريته الهدامة فعلت فيهم فعلها الخبيث وبقوا يعانون آثارها السرطانية في وحدتهم الدينية والقومية حتى يوم الناس هذا
وظاهر أني عينت أعظم مأساتين في تاريخ المسلمين: مقتل عثمان وحرب الجمل، وأكثر المؤرخين يوزعون التبعة بين بعض الزعماء غافلين عن روح الشر وبطل الفتنة، والقليل منهم ممن انتبه إلى عامل الحقيقي جعل له نصيبا ثانويا في تأريث الشر. أما إنا فقد خرجت من يجئ بيقين لا يعدله يقين إلى أنه كان في الفتنتين جميعا عامل أولى واحد هو هذا الصهيوني الأول، وإليك البيان منتزعا من كتاب أعده عن (عائشة والسياسة) بعد ذكر الحوادث المعروفة.
في مأساة عثمان
رأيت من الخير قبل أن أنتقل إلى مآتي السيدة عائشة بعد عثمان أن أنبه إلى سبب هام أعزم إليه تبعه هذه المأساة، مأساة عثمان التي ذهبت ضحيتها وحدة المسلمين فلم يجتمعوا بعدها قط. أودع أيام عثمان مقرراً: أن ما بذكر المؤرخون من التبعات على بعض الصحابة كعلي وطلحة والزبير وعائشة. هو - بعد التمحيص - من التبعات الثانوية. أما أقوى الأسباب التي أرثت الشغب وهاجت الاضطراب وبذرت الشرور وأوقدت الفتنة؛ فهو
مؤامرة واسعة منظمة محكمة، سهر عليها أبالسة خبيرون، وسددوا خطاها وتعهدها في جميع الأقطار حتى آتت ثمرها. ولم تلق هذه المؤامرة من عامة المؤرخين ما تستحق من التوضيح والاهتمام
وأنا أجزم أن الأسباب التي يذكرونها كلها، والتبعات التي يوزعونها بين من ذكرت ومن لم أذكر. . . لن تقوى مجتمعه على أن تسامي هذا السبب الهام الذي أشرت إليه؛ بل أجزم أنها جميعاً عناصر (ثانوية) لم تكن لتنتج شيئاً لولا هذا الجو الذي هيأه إبليس هذه المؤامرة عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء. وأبعد من هذا، أني أومن أشد الإيمان بأنه لو لم يسكن شئ قط من هذه المساعي التي يذكرونها، لكان عمل ابن السوداء وحده كافياً في بلوغ النتيجة المشؤومة نفسها.
عبد الله بن سبأ يهودي من صنعاء أمه سوداء، تظاهر بالإسلام على عهد عثمان، ثم اندفع متنقلا في البلدان الإسلامية باذراً الضلالات والشرور في هذا المجتمع السليم. وهو رجل على غاية الذكاء وصدق الفراسة والنظر البعيد والحيلة الواسعة، والنفاذ إلى نفسية الجماهير، أقطع أنه أحد أبطال جمعية سرية مخيفة غايتها تقويض الدولة الإسلامية والقضاء على الإسلام وأكاد أظن أن هذه الجمعية تعمل (لحساب) دولة أجنبية. هي دولة الروم التي انتزع منها المسلمون لسنوات قريبة قطرين كبيرين واسعين غنيين: مصر والشام
والغريب الذي لم أقض منه عجباً نشاط هذا الرجل قد اتسع لتعهد ميادين مختلة هي الميدان الديني، والميدان السياسي، والميدان الحربي.
لقد أراد نسف العقيدة الإسلامية من أساسها حين اختلف للمسلمين عقيدتين غريبتين: الرجعة والوصاية. وقد حفظ لنا الطبري بعض نصوص تعاليمه، فمنها:
(العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، فقبل ذلك منه ووضع لهم الرجعة فذاعت في المجتمع. ثم قال لهم بعد ذلك:(إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. . ومحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء).
ثم أنتقل خطوة بعد هذا التمهيد؛ فجمع بين إفساد الميدان الديني والسياسي في إذاعة قوله:
(فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول لله ووثب على وصي رسول الله وتناول أمر الأمة).
ثم قال بعد ذلك لأتباعه: (إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر). وهكذا دخلت تعاليم هذا المفسد الذكي قلوب الناس إذ تلطف لهم؛ فجاء من الجهة التي تحن لها قلوبهم، وتهواها أهواؤهم.
لقد طاف الأقطار العربية قطراً قطراً، بدأ بالحجاز باثاً ضلالته، ثم انعطف إلى الشام والشام يومئذ بصير بأمره معاوية بن أبي سفيان، الذي فطن إلى خطره فأبعده؛ إلا أنه على حذره أصابه رشاش من إفساده. والطبري يزعم أن ابن السوداء (لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر).
والصحيح أنه قدر، وزرع، وحرك على معاوية صحابياً جليلاً أذعن عامة الشاميين لأقواله حتى أضطر معاوية الداهية الحليم إلى أن يطلب من الخليفة عثمان إخراجه من الشام، ذلك هو أبو ذر الغفاري وحادثه معروف مشهور، وهذا الطبري نفسه يتولى قص الحادث:
(لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال (يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: (المال مال الله، ألا إن كل شئ لله!!) كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين؟ فأتى أبو ذر معاوية فقال له: (ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟) قال معاوية: (يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، المال مال الله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟؟) قال أبو ذر (فلا تقله). . . ثم كان ما كان من تأليب أبي ذر الأغنياء على الفقراء وخوف معاوية على الشام منه ومن دعوته ثم نفيه منها.
أني لشديد الإعجاب بذكاء ابن السوداء وصدق فراسته، وإحكام دراسته لنفسيات الناس، لقد عرف الخبيث من يختار من الشام فيخدعه بالله، ولقد وفق التوفيق كله بهذه المقالة التي فصلها على مزاج أبي ذر، فلم يكد يلقيها حتى طار بها أبو ذر فحط على معاوية. وهذا هو فن ابن السوداء الذي أنجح مساعيه؛ فهم جيد للناس وأمزجتهم ونفوسهم، و (استخبارات صادقة منظمة) انتفع بها أعظم الانتفاع في إحكام خطط الشر، واستغلال حسن لغفلة المسلمين عن نواياه، وخداع ماكر لهم عن دينهم وسلامة دولتهم.
لقد جنى الروم من دسائس ابن السوداء خيراً كبيراً: إذ شغل القوى الإسلامية بعضها
ببعض فكسر شوكتها وشغلها عن الاندفاع في الفتوح، وما استتعبت بعد ذلك من شرور أخذ بعضها برقاب بعض أفظع وأشنع هولا ولو وقع ابن السوداء هذا لإنجلترا اليوم لاستغنت به في إفناء عدوها عن جيوش وأساطيل منظمات استخبارية تعج بالخبيرين الفنيين.
والظاهرة أن ابن السوداء سكر بهذا الظفر الذي لم يكن يتوقعه في الشام، فأتى أبا الدرداء، ففطن هذا لمكره فقال:(من أنت؟ أظنك والله يهوديا)، ثم انصرف عنه فأتى عبادة بن الصامت، فتعلق به عباده وسلمه إلى معاوية قائلا:(هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر).
(كان حكيم بن جبلة رجلا لصاً، إذا قفل الجيوش خلس عنهم، فيسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب إلى عامله عبد الله بن عامر: (أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً). فحبسه فكاد لا يستطيع أن يخرج منها).
على هذا الرجل المفسد الموتور الجرئ الناقم على عثمان، نزل عبد الله بن سبأ لما أتى البصرة. صار يجتمع إليه الناس ويبث إليهم تعاليمه الهدامة ومقالاته الثورية المفرقة، بلباقة، لا يصرح فيها بما ينم عن نواياه، وفشا أمره وقبل الناس ما يقول وعظموه وبلغ خبره الوالي عبد الله بن عامر. فأرسل إليه فسأله (ما أنت)؟ فأخبره:(أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك). فقال عبد الله: (ما يبلغني ذلك، اخرج عني) فخرج حتى أتى الكوفة، فأخرج منها، فاستقر بمصر وجعل يكاتب جماعاته في الأمصار ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم).
هكذا صار ابن السوداء بماله من (استخبارات وفروع) يتسقط الناقمين واحداً واحداً: ممن ناله عقوبة أو تأديب من عامل أو خليفة، أو ممن له طموح إلى منفعة لم يصل إليها. . . فجعلهم حزبه وبطانته وألف بينهم حتى صار له في كل بلد جماعة. فلما نظم هذه الفروع استقر بمصر بؤرة الناقمين، وألقى إلى جماعاته في الأقطار دستور العمل وخطة الدعاية التي تسبق الثورة، وإليكها كما حفظها الطبري:
(أنهظوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وأدعوهم إلى هذا الأمر).
فبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم،
واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه هؤلاء في أمصارهم هؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة (العاصمة) وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون ويسرون ما يبدون؛ فيقول أهل كل مصر:(إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء). . . إلا أهل المدينة فانهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا: (إنا لفي عافية مما فيه الناس).
وأحكمت هذه الجماعة أمرها ومؤامرتها، وأرسلت إلى الأمصار كتباً مزورة بما شاءوا من شكوى واستنجاد بأهل الأمصار، وتحريض لهم على الثورة والخلع.
لقد ملأ ابن السوداء البلاد نقمة وثورة وفساداً، وأصبحت الأقطار كلها هشيما يابساً ينتظر شرارة واحدة كان إرسالها أهون شئ على جمعياته. فلما قدمها التهمت الأخضر واليابس وأراقت الدماء وسالت جموع الثائرين من أهل الأمصار المختلفة على مدينة الرسول وكان ما يعرف كل قارئ من قتل الخليفة الشهيد على حال تبكي الصخر الأصم.
وهكذا قضى هذا الصهيوني الأول على حكم (المدينة) وحكومة (الراشدين) إلى يوم الدين
(للحديث صلة)
سعيد الأفغاني
القضايا الكبرى في الإسلام
قتل بني قريظة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
من المهم في عصرنا أن ندرس واقعة قتل بني قريظة درساً قضائياً، ليعلم الناس أن ما ارتكبه بنو قريظة يدخل في باب الخيانة العظمى للوطن، ويندرج في أشد أنواعها جناية، وأعظمها جرماً، وأن ما قضى به الإسلام من القتل في ذلك هو ما تقضي به شرائع العالم كلها. لا فرق في ذلك بين الشرائع القديمة والحديثة، ولا بين الشرائع السماوية والوضعية، وأن هذا الحكم هو حكم الإسلام في كل من يرتكب هذه الجناية، لا فرق في ذلك بين مسلم ويهودي ونصراني.
كان أهل المدينة ينقسمون قبل الإسلام إلى قسمين: أولهما من العرب اليمانية الذين هاجروا من اليمن بعد حادثة سيل العرم، وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء، وثانيهما من اليهود، وكانوا ثلاثة بطون: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وقد لبث الأوس والخزرج مع اليهود حيناً من الدهر يحيون الأرض الموات أو يزرعونها وهم في عسر شديد، وكان اليهود أرباب الأموال، فحدث نزاع وشجار بينهم وبين الأوس والخزرج، وقد انتهى ذلك بتغلب الأوس والخزرج على اليهود. ثم حدثت حروب بين الأوس والخزرج حالف فيها بنو النضير وبنو قريظة الأوس، وحالف بنو قينقاع الخزرج، ولم يكن اليهود فيما بينهم بأقل ظلماً وبغياً من العرب، بل كان بنو النضير يتعززون على بني قريظة مع أنهم كانوا في حلف واحد، فلم يكن بنو قريظة يساوون بني النضير في الحكم، ومن ذلك أن دية القتيل من بني قريظة كانت نصف دية القتيل من بني النضير، فكانت الدية من وسوق التمر لبني النضير أربعين ومائة وسق، وكانت لبني قريظة سبعين وسقاً.
فلما دخل الإسلام المدينة قضى على تلك الحروب والفروق، وسوى في حكمه بين أبناء ذلك الوطن، ولم يجعل فرقاً في حكمه بين المسلمين واليهود، ولا بين بطون اليهود الثلاثة، وقد شكا بنو قريظة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بينهم وبين بني النضير من الدماء قبل الإسلام، فأنصفهم منهم، وحكم بأن دم القرظي وفاء من دم النضيري، فكان بنو
قريظة أكثر انتفاعا بحكم المساواة الذي جاء به الإسلام، وكان جميل الإسلام عليهم أكثر من جميله على غيرهم.
وقد جمع الإسلام بين أبناء هذا الوطن من المسلمين واليهود بمعاهدة حفظت لكل فريق منهم حقه فيه، ولم تجعل لما بينهم من الخلاف في الدين أثراً في التفرقة بينهم، وقضت على كل فريق أن يقوم بالدفاع عن الفريق الآخر إذا قصده عدو، كما قضت عليهم جميعاً بحق الذب عن هذا الوطن إذا قصده فريق من الناس بأذى.
ولكن اليهود لم يلبثوا أن تنكروا لحق هذا الوطن عليهم، ولجميل الإسلام الذي بدلهم من الخوف أمناً، ومن الحرب والفوضى والاضطراب سلاماً ونظاماً واستقراراً، فأخذوا يكيدون للمسلمين، ويعملون على إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج، ليعودوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام ممن الحرب والخصام. ولما ضاق النبي صلى الله عليه وسلم بدسائسهم أجلى بني قينقاع في السنة الثانية من الهجرة، فذهبوا إلى أذرعات بالشام، ثم أجلى بني النضير في السنة الرابع من الهجرة، فنزل بعضهم بخبير، ونزل بعضهم بأذرعات.
ثم جاءت نوبة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة، فكان جرمها أشد، وكانت خيانتها لذلك الوطن أعظم، لأنها جاوزت تدبير الفتن الداخلية إلى ارتكاب الخيانة العظمى، وهي الانضمام إلى أعداء هذا الوطن وقت مهاجمتهم له، فلم يكتفوا بترك الواجب عليهم من الدفاع عنه مع المسلمين، بل انقلبوا عليهم مع أعدائهم من المشركين.
فإنه في السنة الخامسة من الهجرة ذهب جمع من بني النضير إلى مكة فقابلوا رؤساء قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، فقالوا لهم: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، وفي ذلك نزل قوله تعالى في الآية 51 من سورة النساء (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبْتِ والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا). .
ثم جمعوا جيشاً عظيما من العرب واليهود يبلغ أكثر من عشرة آلاف، وقصدوا المدينة بهذا الجمع الذي لا طاقة لها به، فلم يجد المسلمون إلا أن يحفروا حولها خندقاً ليساعدهم على الدفاع عنها، وقد استعاروا من بني قريظة آلات كثيرة من المساحي وغيرها، فاستعانوا بها
في حفره.
فلما بلغ جيش المشركين واليهود المدينة وجدوا حولها هذا الخندق، فضربوا حولها حصاراً شديدا، كان حي بني أخطب سيد بني النضير قد وعد قريشاً إذا أجابته أن يحمل بني قريظة على نقض عهد المسلمين، فطلب منه أبو سفيان بن حرب قائد جيش المشركين أن يقوم بوعده، فذهب إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة وقال له: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر، وببحرٍ طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنبِ نقمى إلى جانب أُحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.
فقال له كعب: جئني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شئ. ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه، فأني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
وهذه شهادة لها قيمتها من كعب سيد بني قريظة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محافظاً على عهده مع اليهود، ولم يحدث منه خروج عليه؛ ولكن حيي بن أخطب لم يزل بكعب حتى حمله على نقض ذلك العهد، بعد أن عاهده على أنه إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما يصيبه.
فانضم كعب بذلك إلى أعداء وطنه، ونسي هو وقومه جميل الإسلام عليهم، وأنهم كانوا أذلاء في هذا الوطن فرفعهم الإسلام وأعزهم. وقد وقع المسلمون بذلك في أكبر محنة، وزاد في محنتهم أن المنافقين من الأوس والخزرج رفعوا أيضاً رؤوسهم، وأخذوا يتفلتون من صفوف القتال إلى بيوتهم بأعذار واهية، ليُفتوا في عضد المسلمين، ويحملوهم على الفرار مثلهم، ولولا أن تدارك الله المسلمين بلطفه لقضت عليهم تلك الخيانة الآثمة، وتمكن أعداؤهم من استئصالهم، فقد قابل النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصون من المسلمين تلك الصدمة بشجاعة فائقة، وهدى الله بعض زعماء المشركين إلى الإسلام، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم إسلامه عنهم، ويعمل على تفريق كلمتهم، فعمل على ذلك حتى أوقع الخلف بينهم. وما هي إلا ليلة مظلمة أرسل الله فيها ريحاً شديدة باردة، فجعلت تكفأ قدورهم، وتطرح آنيتهم، فوقع في قلوبهم الرعب، وأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح، ويتنبه لذلك المسلمون.
وهنالك وقع بنو قريظة في شر ما فعلوا، وصاروا وحدهم أمام المسلمين الذين نقضوا عهدهم، فاجتمعوا بحصونهم وأغلقوها عليهم، وحاصرهم المسلمون فيها خمساً وعشرين ليلة، حتى ادركهم اليأس، وطلبوا أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم فلم يرض أيضاً، بل قال لرسلهم: لابد من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً. فلما رأوا أنه لابد لهم من النزول على حكمه فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِفُوا.
ثم جاء وقت النظر في قضيتهم، فقام بالدفاع عنهم رجال من حلفائهم من الأوس، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فلم يمكنهم أن ينكروا جنايتهم، ولكنهم طلبوا تخفيف الحكم عليهم، وقد فاتهم أن جناية بني قريظة ليست كجناية بني قينقاع، حتى يصح قياسهم، ويكون الحكم في الجنايتين واحداً.
لقد كانت جناية بني قينقاع محاولة الدس والتفريق بين المسلمين، فكان عقابهم أن ينفوا من بينهم اتقاء لشرهم، أما جناية بني قريظة فارتكاب الخيانة العظمى مع إخوانهم في الوطن، بالانضمام إلى الأعداء الذين يريدون استئصالهم والقضاء عليهم، فخانوا بذلك وطنهم أكبر خيانة، بل خانوا دينهم حينما آثروا أن ينضموا إلى المشركين على المسلمين، مع أن المسلمين أهل توحيد مثلهم، فهم بذلك ينصرون الشرك على التوحيد، ويساعدون الكفر على الإيمان، وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآيتين - 80، 81 - من سورة المائدة (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) أي موسى عليه السلام (ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون).
فلا يمكن بعد هذا كله أن تكون عقوبة بني قريظة كما طلب أولئك الذين تولوا الدفاع عنهم من رجال الأوس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من السياسة ألا يتولى هو الحكم عليهم، فقال لمن تولى الدفاع عنهم من حلفائهم: ألا يرضيكم أن يحكم عليهم رجل منكم. فقالوا: نعم. فأباح لهم أن يختاروا من يشاءون منهم للحكم عليهم، فاختاروا سيد الأوس سعد بن معاذ.
وكان سعد جريحاً من سهم أصيب به في غزوة الخندق، وقد أقام بخيمة في المسجد مُعَدَّة
لمعالجة الجرحى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي به، فحملوه على حماره إلى مجلس الحكم، وقد التف به جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبيِّ في مواليه. يعنون ما فعله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين مع بني قينقاع، فقال لهم سعد: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. ولما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه. فقاموا فأنزلوه وقالوا له: إن رسول الله قد ولاَّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم يا سعد.
فالتفت سعد إلى الجهة التي ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت. فقالوا: نعم.
ثم التفت إلى الجهة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وعلى من هنا كذلك. وهو غاضُّ طرفه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نعم. فقال سعد: فإني أحكم أن تقتل الرجال وتسبى النساء والذرية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد. ثم أمر بتنفيذ الحكم فيهم، فخرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق ضرب أعناقهم فيها ثم طمرهها عليهم، وكانوا نحو ستمائة رجل.
وهذا الحكم هو ما تقضي به كل الشرائع القديمة والحديثة فيمن يخون وطنه ويحارب قومه مع أعدائه، وهذه الجريمة من الخطورة بمكان عظيم في كل تلك الشرائع، فلا تأخذها رأفة بمن يرتكبها، بل تأخذه بأقصى ما يكون من العقوبة، وهو عقوبة القتل. وقد كان بنو قريظة يريدون استئصال المسلمين بمساعدة أولئك المشركين، فليجازوا قتلا بقتل، واستئصالا باستئصال. وقد جازاهم الإسلام بذلك كما يجازي كل من يرتكب مثل ما ارتكبوا ولو لم يكن يهودياً، لأنه لا يعرف في حكمه فرقاً بين مسلم ويهودي ونصراني، ولا ينظر في تشريعه إلا إلى الجناية في ذاتها، فيعطيها حكمها بقطع النظر عمن يرتكبها.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى رجال بني قريظة في ذلك كأسرى حرب، لأنه لم يفعل مع الأسرى في حروبه ما فعله معهم، وإنما نظر إليهم كمجرمين خانوا وطنهم، وانضموا إلى أعدائه في محاربته، فأجرى عليهم حكم وطنهم في هذه الخيانة، وكان أمرهم عنده أشد من أمر أسرى الحرب، لأن المحاربين يساقون بعدواتهم إلى حرب أعدائهم، وأما الخائنون لأوطانهم وعهودهم فلا عذر لهم في خيانتهم، ولا يستحقون من الرأفة ما يستحقه
أسرى الحرب ونحوهم.
وقد كان في إمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم ويجيبهم إلى طلب الجلاء كما فعل مع بني النضير، وكما عفا عن حاطب بن أبي بلتعة في تجسسه لقريش، ولكنه لو أجلاهم لعادوا إليه محاربين مع جموع العرب واليهود كما حصل في غزوة الخندق، وأوقعوا المسلمين في محنة أشد من محنتها، ولا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين
عبد المتعال الصعيدي
رأي جديد في:
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 5 -
5 -
رأينا في مدى انتحال حماد
لنسبق المقدمات إلى النتائج، ولنُدْلِ برأينا الذي انتهينا إليه بعد البحث الطويل، لنعود فنؤيده بما سنؤيده به من الأدلة والبراهين.
هذا الرأي هو أن حماداً لم يبلغ من الانتحال ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء. ليس من شك في أنه انتحل بعض الأشعار، وكان في هذا متأثراً بحال الرواية في عصره، ولكنه لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همّه وقصده.
فأما تدليلنا على صحة هذا الرأي، فإنما نجعله قسمين: قسما نأتي فيه بأدلة عقلية ونقلية، وقسما نمحص فيه ما ذكرنا من تلك الأقوال والأخبار التي أوردها القدماء في صدد انتحال حماد.
القسم الأول
(1)
يقول القدماء إن حماداً كان شاعراً، وإنه كان شاعراً مجيداً؛ وإنه كان يصنع الأشعار، ويدسّها على الجاهليين، فتختلط بأشعارهم، ويصعب التمييز بين هذه وتلك. ونحن نرى أنه كان شاعراً، فقد قرأنا له طائفة من الأشعار؛ ولكننا لا نرى أنه كان شاعراً مجيداً، فإن أشعاره تميل إلى الغثاثة والركة؛ ولا نرى أنه يبلغ من جودة القول ما بلغه شعراء الجاهلية حتى تختلط أشعاره بأشعارهم.
يقول البغدادي (خزانة الأدب جـ4 ص 131): (وكتب حماد إلى بعض رؤساء الأشراف:
إنّ لي حاجةً فرأيُك فيها؟
…
لك نفسي فدًى من الأوصاب
وهي ليست مما يبلغها غير
…
ي ولا يستطيعها في كتاب
غير أني أقولها حين ألق
…
اك رويداً أُسرّها في حجاب
فكتب إليه الرجل: اكتب إلي بحاجتك، ولا تشهرني في شعرك. فكتب إليه حماد:
إنني عاشق لجبتك الدكناء عش
…
قاً قد حال دون الشراب
فأكسنيها فدتك نفسي وأهلي
…
أتباهى بها على الأصحاب
ولك الله والأمانة أن أجعل
…
ها عُمْرَها أمير ثيابي)
هذه صورة لشعر حماد يصفه القدماء بالجودة، ويرفعونه إلى طبقة الشعر الجاهلي. فهل ترى أن مثل هذا الشعر يتسامى إلى ما قاله قيس بن الحدادية في مديح أسد بن كُرْز، وزعم البعض أنه من صنع حماد؟
لا تعذليني سَلْمَ اليوَم وانتظري
…
أن يجمع اللهُ شملا طالما افترقا
إن شتت الدهر شملا بين جيرتكم
…
فطال في نعمة يا سلم ما اتفقا
وقد حللنا بقسرىّ أخي ثقة
…
كالبدر يجلو دجى الظلماء والأفقا
لا يُجبرُ الناسُ شيئاً هاضه أسدٌ
…
يوماً ولا يرتقون الدهر ما فتقا
كم من ثناءٍ عظيم قد تداركه
…
وقد تفاقمَ فيه الأمرُ وانخرقا
(2)
قدّمت في الفصل السابق أنه لم يصح عن حماد وضع في المعلقات، وهي أهم ما رواه. فإذا كانت المعلقات قد سلمت من وضعه وانتحاله، فلماذا لم يسلم سائر ما رواه؟ ولماذا لم ينتحل حماد المعلقات، وهو المشغوف بالانتحال العاكف عليه الجاعل له همّه وقصده؟
(3)
يقول أبو عمرو الشيباني، فيما رواه أبو الفرج (جـ5 ص165):(ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدّمه على نفسه، ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدّمه على نفسه). فما رأيك في رجل هذا رأي أبن العلاء فيه؟ وابن العلاء راوية ثقة، وأجد القراء السبعة. مرّ الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف عليه، فقال: لا إله إلا الله، لقد كادت العلماء أنّ يكونوا أرباباً، كل عزّ لم يؤكَّد بعلم فإلى ذُلْ يؤول. ما رأيك في رجل يقدمه ابن العلاء على نفسه؟ وهل تظن أن أبا عمروَ بن العلاء ممن يرتضون تقديم رجل منتحل كاذب بالغ في الانتحال والكذب؟
القسم الثاني
1 -
تمحيص أقوال القدماء في انتحال حماد:
فأما قول المفضل، وقول يونس بنَ حبيب، فإننا نقف منهما موقف الحذر. فقد كان المفضل معاصراً لحماد، وكذلك كان يونس ابن حبيب. والمرء لا ينصف معاصره، في أغلب الأحيان؛ ولا سيما إذا كانا من صناعة واحدة. بل إننا حين نقرأ قول المفضل: قد سُلِّط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبداً، ثم نقرأ قول من سأله: وكيف ذلك؟ يخطر ببالنا هذا السؤال: إذا كان حماد معروفاً في عصره بكثرة الانتحال، فلماذا سأل السائلُ المفضل واستفسره؟
وأما قول خلف وقول الأصمعي، فإننا نقف منهما موقف الارتياب، فقد كان معاصراً لحماد، وكذلك كان الأصمعي. ثم إنهما كانا بصريين؛ وما كان لبصريّ أن ينصف كوفيا كحماد، إلا إذا كان في خلال أبي عمرو بن العلاء. وليس هنا مكان الحديث عما كان بين الكوفة والبصرة، في مجال العلم والأدب، من تنابذ وتخاصم وصراع. هذا إلى أن خلف الأحمر كان منتحلا، ذاع ذلك عنه، واعترف هو به؛ وذلك أنه نسك في أخريات أيامه وترك الشعر والكلام، فخرج إلى أهل الكوفة، وعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس.
وأما ما ذكره السيوطي من قول أبي حاتم، فإننا نقف منه موقف الشك. ذلك لأننا لم نقف عليه إلا لدى السيوطي، وهو متأخر. هذا إلى أن أبا حاتم بصري، لا يؤخذ بقوله في حماد إن صح منه هذا القول.
وأما ما يقوله ابن سلام في حماد من أنه كان غير موثوق به، فقد سمعه من غيره، ولم يبنه على تجربته. وذلك لأنه لم يشهد أيام حماد، ولم يتقدم به الزمن ليرى كذبة وانتحاله. فقد سمع هذا إذاً من غيره، ثم دونه في كتابه، وهو يعلم أنه يتهم عالماً كوفياً. وكان ابن سلام من علماء البصرة.
2 -
تمحيص أخبار انتحاله
نبدأ بتمحيص قصة حماد مع الخليفة المهدي. فنعيد ما قلناه في صدد حياة حماد من أنه لم يدرك عصر المهدي في أغلب الظن، فقد توفي سنة 156هـ كما يقول ابن النديم، أو سنة 155هـ كما يقول ياقوت وابن خلكان، بينما أن المهدي تولى الخلافة سنة 158هـ. ونعيد ما قلناه من أن الرواية التي يشير إليها ابن خلكان إذ يقول (وقيل إنه توفي في خلافة
المهدي) غير صريحة النسبة، ولا تذكر تاريخاً معيناً مما يحدو بنا إلى رفضها. نعيد ما قلناه من أن حماداً لم يدرك عصر المهدي، ومن أن رواية ابن خلكان ضعيفة، لنصل من هذا إلى أن قصة حماد مع الخليفة المهدي قصة باطلة كاذبة، وإلى أنها إنما اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. اخترعت ولفقت في سبيل النيل من حماد، ورفع قدر المفضل. وإلا فما رأيك في قصة تنتظم ثلاثة فصول؟ فصلا يحادث فيه المهدي المفضل وحده؛ وفصلا يحادث فيه المهدي حماداً وحده؛ ثم فصلا كأنه خاتمة يخرج فيه حماد والمفضل معاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ويرجع فيه الخادم معهما فيقول: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعراً جيدا محدثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فما رأيك في قصة قد فصلت تفصيلا، ونسقت تنسيقاً، وقسمت فصولا؟ وما رأيك في كلام الخادم؟ ألا ترى أنه شبيه بكلام من يروج بضاعة في سوق؟ ثم ألا ترى أنه يفاضل بين رواية حماد ورواية المفضل في تفصيل ودقة كأنه ناقد خبير، لا خادم أجير؟ أظنك ترى بعد هذا أن هذه قصة باطلة كاذبة، فقد اخترعت اختراعاً ولفقت تلفيقاً. ثم إن الجاحظ في البيان والتبيين (ج 2 ص 202 - 203 ط السندوبي) يذكر رواية من شأنها تكذيب هذه القصة. يقول الجاحظ:(أبو الحسن قال: كان رجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي، فخلى سبيله وأكرمه وقرب مجلسه، فقال له يوماً: أنشدني قصيدة زهير التي أولها (لمن الديار بقُنَّة الحَجْر) وهي التي على الراء:
لمن الديار بقنة الحجر
…
أقوَيْنَ مذْ حِجَجٍ ومذْ دَهرِ
فأنشده، فقال المهدي: ذهب والله من يقول مثل هذا! قال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا! فغضب المهدي واستجهله ونحَّاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس). فأنت ترى من هذه الرواية أن المهدي يعلم مطلع القصيدة؛ وهو ما تقول القصة إن حماداً صنعه في حضرة المهدي، وأنه أقر بصنعه إياه بعد استحلافه.
السيد يعقوب بكر
من وحي المرأة
الورد الأحمر
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
هو الورد، لا يجلو النواظرَ كالورد
…
له حمرة القاني من الدم في الخدِ
أُطالع منه كلَّ حمراء غضة
…
ترفٌ بما ضمت من الماء والوقد
فتضحك لي الدنيا ويُسفر نورها
…
وينجاب عنها كل أدجن مُربدّ
ويسكر حسّي بالصبابة والصبا
…
وأستاف حولي مثل رائحة الخلد
كذلك كان الورد، والورد لم يزل
…
على عهده، ما حالَ وردٌ عن العهد
فيا تعسَ نفسي اليوم ما بالها انطوت
…
على سلوةٍ عنه وباتت على زهد
تُجانبه عيني، فما امتدّ لحظها
…
إلى باقةٍ إلا أشاحته عن قصد
أوسّع من حملاقها وهو مُغْرَق
…
أٌغيّض فيه الدمعَ منفرط العقد
وأنجو كأن الورد ألسنة اللظى
…
وبي مثل مس النار من شدة الوجد
هو الورد، إلا أنه اليومَ باقتي
…
إلى حبيَ الغالي المغيَّب في اللحد
إلى زوجتي بالحس والروح والحجى
…
وصنوىَ من دون النساء ومُعتدّي
أحجّ إليها أحمل الورد زاهياً
…
كما كنت أغشى دارها خاطبَ الود
وسيان في الحالْين وردٌ وباقة
…
ولكنّ هول الخطب في الخاطب المُهدي
فيا بُعْدَ بين الخاطبيْن: مؤمِّلٌ
…
سعيد، ومشؤوم الهوى عاثر الجد
وإني لأسعى كل حين لقبرها
…
على قدِمي رسْف المكبّل في القيد
أشُقّ على نفسي كما هان حسنها
…
وبات رهين الترب والحجر الصلد
وأكرمها أن أطرق القبر راكباً
…
وإن كنتُ مهدود القوى قاصر الجهد
وآبَى على الأهلين حمل تحيتي
…
فأحمل طول الدرب باقتها وحدي
إذا استشرفتْ عيني المقابرَ ثار بي
…
حنين، فَحَثْحَثْتُ الخُطى طائرَ الوخد
وأٌجهش كالمشتاق حان لقاؤه
…
لمن ذاق في أحضانها كجَنَي الشهد
وأٌفضي إلى المثَوى أضمّ رخامه
…
وأوسعه لثماً كمستقدح الزند
فيلقي رخامُ القبر ضمّيَ جافياً
…
صليباً، ويجزي حرَّ لثمَي بالبَرْد
وأنظر للورد الجنيَّ نثرتُه
…
هنا كدم القربان في المعبد العِدّ
فأرجو لو أن الرمز كان حقيقة
…
وأنى قربان الحبيبة لو يجدي
وألمس معنى الورد يُهدَى احمراره
…
لمعروقة الأجلاد شاحبة الجلد
فأبكي لها منزوفةً جفْ عودها
…
وما كان أجرَى الماء في عودها الملد
وأبكي لوردً كان في الخد واللَّمَى
…
وقد كان أندى الورد طراً على كبدي
تمر بي الساعات ما إن أحسّها
…
فهذا الحِمَى أَلغى الزمان على الحد
أُطيل مقامي عازبَ الرشد ذاهلا
…
فإن غربت شمس الضحى ثاب لي رشدي
فأمضِي وشمس الغرب حمراءٌ وردةٌ
…
وقد نَفَضَتْ فوق المقابر كالورد
عبد الرحمن صدقي
إلى موعد 31 ديسمبر سنة 1944
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
ليت يا موعد الحبيبة ما كن
…
تَ، ولا درتَ في حساب زماني!
أين من عطرتْ أُويقاتك الحل
…
وة في عالمي. . . وفي وجداني؟
أين من خلدتْ ثوانيكَ بالح
…
ب، وزانتْ إذا حللت مكاني؟
أين من كنت تُشهد القدر العم
…
لاق أنَّي بها نسيت كياني؟
وكأني على يديها. . . فؤاد
…
عارمِ النبض، دائب الخفقان!
أين يا موعد الحبيبة من كن
…
تَ بها تزدهي على الأزمان؟
كنت ألقاك زاهياً. . . يتباهى
…
كل آن أتي على كل آن!
كل وقت من الزمان تمنى
…
لو تريثتَ فيه بعض ثوان
كنت ألقاك وهي فيك عروس
…
صاغها الله من نسيج الحنان
تثمل الأرض من دبيب خطاها
…
وتموج الحياة بالألحان. . .!!
كنت ألقاك وهي فيك ملاك
…
بعثته السماء في إنسان!
يعبق الجو حولها بالمسرا
…
ت، وتطويك حافلا بالمعاني
كم تعجلتُ أن تمر الليالي
…
كي أُلاقي لديك من تهواني!
كيف لم تأت والحبيبة في حي
…
ن كما في اللقاء عودتماني؟!
جئتَ تستمهل الدقائق سعياً
…
خشية أن تحل نهب الأوان
قيَّد الحرص أن تراها ثواني
…
ك، وأرخى لها عنان الثواني
فتحاملن. . كاسفات. . بطاء. .
…
وائدات في سيرهن أماني!
جئتَ يا موعد الحبيبة مربداً
…
كئيباً تفيض بالأحزان!
أنت إن كنتَ قد حللت، فماذا
…
عاقها أن تصير في أحضاني؟!
آه لو يرجع الزمان بك الآ
…
ن إلى ساعة وراء الزمان!!
ساعة أخدع انتظاري بها عن
…
قذفه باللهيب في أركاني
عقرب الساعة الذي قد تخطا
…
ك إلى ما تلاك في الدوران
كلما دق دقة في المسير ان
…
داح في مهجتي دوي الهوان
كيف يا موعد الحبيبة ولي
…
تَ، وألقيتني إلى أشجاني؟
كم تمنيتُ لو مضيتَ بعمري
…
ضمن أوقاتك الغوالي الحسان
وجمتْ حولي الأريكة في الرو
…
ض، وغامتْ بما ترى العينان!
وكأني بذلك المقعد الملتف بالعش
…
ب، أقاموه من لقى الأغصان
شاطر القلب في التياعي فأبكى
…
غردات الطيورْ. . . ثم بكاني!
وكأني به يسائلني عن
…
ها، ولكن سدى يجيب لساني
كيف يخلو من وجهها الأسمر العذ
…
ب ومن نور مقلتيها مكاني؟
هذه كعبتي. . . فأين التي أج
…
ثو أُصلي لحسنها الفتان
هذه جلستي. . . ولكن إلى من
…
بعدها، غير ذاهبات الأماني؟
أيها النسيم! أيها الأفق المخ
…
ضل بالسحب وهي دمع قان!
أيها الروض! أيها الطير فوقي!
…
أيها المَقعد الخضير الحاني!
كم سكرتم هنا بنجوى فؤادي
…
نا، فصرتم سكراً على الأكوان
كم وعيتم هنا. . . أغاريد روحي
…
نا الغريبين عن بني الإنسان!
كم ذهلنا هنا. . . عن الأبدان!
…
وعدمنا شعورنا بالزمان!
وامحتْ حولنا من النظر الشا
…
مل حتى شيات هذا المكان!
والتقيْنا في نشوة الحب روحاً
…
واحداً يستلذ شرع التفاني!
واحترقنا في قبلة. . . طهرتنا
…
ثم طارت بنا وراء الرعان
قبلة تمنح الخلود لحسي. . .!
…
وتريني ما لا ترى العينان!
كم طفونا روحين، ثم بلغنا
…
في لظاها قرارة البركان
أنا وحدي هنا. . . أُداهن أشوا
…
قيَ أن ترحم الفؤاد العاني
بي حنين إلى البكاء مرير
…
آه يا مقلتيّ لو تكِفان!
أيهذي الدموع. . يا قطرات الن
…
فس بالشوق والأسى والحنان!
أنقذيني! ترقرقي في جفوني!
…
أنت يا راحتي ويا سلواني!
عبد الرحمن الخميسي
الَبريدُ الأدبيّ
التموين في عام
معالي وزير التموين طه السباعي بك رجل عرفه الأدب قبل أن تعرفه الوزارة، ولقد كتب وترجم ما أهله لأن يكون في صفوة المختارة من أدبائنا وكتابنا، وإن الإنسان حين يتناول كتابه - أو بيانه كما يريد هو أن يسميه - الذي وضعه تحت عنوان (التموين في عام) ليعجب كيف تخضع هذه المعاني الرسمية الجافة لأسلوب الأدب الذي يحيل جفافها نضرة وجمالا.
وقد أهدى نسخة من بيانه ذاك إليّ، فكتبت إلى معاليه الأبيات الآتية:
يا وزير التموين، هذا كتاب
…
يمتع الحس والنهي أسلوبا
أنت أرسلته بياناً علياً
…
يشبه الزهر رونقاً وطيوبا
كل لفظ فيه أرق من الفج
…
ر، وأندى من النسيم هبوبا
صغته قادراً على الصوغ فذاً
…
ثم أرسلته بياناً عجيباً. .
العوضي الوكيل
إلى الدكتور إبراهيم ناجي
ذكرتم في كتابكم الأخير (كيف تفهم الناس)، وفي الفصل الخاص بدراسة نفسية الجماهير (أن الفرد ينحدر من أصول غطاها الطلاء الذي ندعوه المدنية وغشاها العشب الذي تدعوه الثقافة، ولكن هاته الأصول لم تمح آثارها ولن).
فهل من وجه للمقابلة بين الثقافة والعشب؟
فالعشب - كما نعلم جميعاً - لا يصلح لشيء فهل الثقافة كذلك؟ والعشب يطفو على سطح الماء، فهل تطفو الثقافة على سطح الحياة، أم تغوض في المرء وتتأصل؟
والعشب هش تذروه الريح، فهل الثقافة رخوة تزيلها العواصف؟ والعشب بقايا الحصاد، فهل الثقافة نفاية الحصاد الذهني؟ أترى حالف التوفيق الصديق في هذه المقابلة
وديع فلسطين
المعلقات
يكتب الأستاذ السيد يعقوب بكر عن حماد الراوية وقد عرض للمعلقات فوافق ابن النحاس النحوي المصري على أنها لم تعلق في الكعبة ولكنه خالفه في اختيار العرب لها، ورأى أن العرب هم الذين اختاروا هذه القصائد وفضلوها على غيرها. قال في العدد (648):(فالمعلقات إذاً قد تكون من اختيار العرب القدماء) ثم جاء في العدد (649) فجعل هذا الذي قد يكون أمراً محققاً، وأكد فيه ما ردده في العدد السابق فقال (واستقام لنا أن العرب القدماء هم الذين اختاروا المعلقات وفضلوها على غيرها). وهذه دعوى لا تقل في نظر الباحث في التاريخ الأدبي عن دعوى التعليق، فان الناظر في الأدب الجاهلي يستطيع أن يعرف من هذا - لو صح - الذوق الأدبي عند عرب الجاهلية ويستطيع إلى أي مدى كانوا يحكمون على الشعر وما هو مدار الفحولة في الشعر عندهم؟ ومن دراسة هذه المعلقات يتبين له النوع الذي كان يؤثره جمهور العرب على غيره وهكذا، فإذاً هذه دعوى لا يمر بها الدارس مراً ولا يلقيها على رُسَيْلاتها، بل لابد له أن يدعمها بالدليل، ويؤيدها بالبرهان، ونحن نرى أن الكاتب اعتصم بأمرين أولهما ما ذكر في قوله (ويؤيدنا في رأينا هذا ما يقوله ابن النحاس نفسه من أن حماداً الراوي لما رأى قلة من يعنون بالشعر، جمع هذه القصائد السبع، وحث الناس على درسها وقال لهم: هذه هي المشهورات، ولفظ المشهورات هنا هو بيت القصيد) وهو كما نرى - دليل واه ضعيف - فما أهون على حماد أن يكون زعم هذه الكلمة، ويؤيد هذا أنه قدمها للناس حين رأى منهم الزهد في الشعر. فمن المرجح حينئذ أن يقول لهم إن هذه القصائد كان يؤثرها العرب على غيرها، وكانت عندهم مشهورة ليحثهم بذلك على حفظها ودراستها، وكل ما يمكن أن يؤخذ من هذا أن حماداً نفسه كان يستجيد هذه القصائد، وأما ماعدا ذلك فيحتاج إلى دليل، فمن أين لنا مثلا الدليل على صدق حماد في هذه الدعوى؟
أما الأمر الثاني فما ذكره في قوله (فالعرب الجاهليون قوم قد شغلوا بالشعر فقالوه ورددوه وأقاموا الأسواق لإنشاده ونقده، وقوم هذا شغلهم بالشعر لا يصعب عليهم تفضيل بعضه على بعض واختيار بعضه دون سائره).
ونقول له نحن: وهو كذلك. نعم لا يصعب على العرب أن يفضلوا بعض الشعر على بعض، ولكن من أين لنا أن هذه هي القصائد التي فضلها العرب واختاروها؟ وإن هذا
الدليل لا ينتج لنا الدعوى. فهو دليل ناقص ومبتور. فاستقام لنا أن دعوى شهرة هذه القصائد وتفضيل العرب لها على غيرها دعوى لا دليل عليها.
ونحن ننتظر من هذا الباحث أو من غيره الحجة والبرهان على هذه النظرية أو على نقيضها حتى نرتب على ذلك نتائج صحيحة سليمة وهي نتائج على جانب كبير من الأهمية في قيمة النقد عند عرب الجاهلية.
بنباقادن الثانوية
علي جلال الدين شاهين
الكأس السابعة
أشرق علينا الأستاذ صلاح ذهني بمجموعة قصص جديدة يضمها اسم (الكأس السابعة). . . وقد كانت في الواقع كئوساً عذبة من الأدب القصصي أرشفنا إياها الأستاذ المؤلف. وقد قدم له بمقدمة خائفة تداهن الناقد وتقترب إلى القارئ في أسلوب متهكم بعض الأحيان جاد في الأحيان الأخرى، وكنت وأنا أقرأ هذه المقدمة أعتقد أن الأستاذ صلاح قدم إلينا شيئاً هو غير راض عنه. . . ولكن حين قرأت هذه المجموعة بدا لي أنه كان يتهكم في مقدمته جميعها. . . فهذه القصص التي أبرزها لا تحتاج إلى مداهنة أو زلفى فهي واضحة المغزى محكمة العقدة بارعة الحل، كل هذا في أسلوب طلي وعبارات مختارة.
وكم سرني أن الأستاذ صلاح قد سلسل حوادث قصصه في صميم مجتمعنا هذا، فجمع بهذا بين الفن الصافي والنقد البارع لما يدور حولنا، وهو بهذا يناقض القوم الذين اعتقدوا أن القصة فن رفيع لا يصح أن يسفل إلى المجتمع متناسين أن كاتب القصة نفسه من المجتمع يسفل إذا سفل ويعلو إذا يعلو. . . أثبت الأستاذ صلاح أن القصة لا تسمو على المجتمع وإنما هي من صميمه وواجبها فيه النقد والإصلاح لا التعالي والاستكبار.
ولكن لي على الأستاذ المؤلف نقيدة أرجو أن يوليها شيئا من التفاته، ذلك أنه كان ينهي القصة دائماً بالفاجعة ولا نستطيع أن نعيب عليه هذا في كثير من قصصه لأن حبكتها كانت تستدعي هذا. . . ولكن لِم لمْ يخلق لنا شخصية خيرة ممن لا يمكن أن ننكر وجودهم في المجتمع؟. . . فلو أوجد الأستاذ هذه الشخصية لاستطاعت أن تتلافى كثيراً من الفواجع
ولجعلتنا أيضاً نرنو إلى مستقبل للمجتمع تمحي فيه مساوئه ويرفرف عليه الخير، أما اليوم بعد أن قرأنا هذه القصص فلا يسعنا إلا أن نبتر الأمل في الإصلاح.
ولكن هذا المأخذ لا ينقص من روعة المجموعة شيئاً بل ولا يجوز لي أن أسميه مأخذاً فما هو إلا رأي أسوقه ألتمس له عند المؤلف تحقيقاً
ثروت أباظة
جمعية المؤلفين والملحنين
اجتمع لفيف كبير من المؤلفين والملحنين في الساعة الحادية عشرة صباحاً بنادي السينما بالقاهرة، وبعد أن تلا عليهم الأستاذ فريد غصن بعض أغراض جمعية المؤلفين والملحنين بباريس، رأى المجتمعون أن هذه الأغراض هي نفس الأغراض التي يسعون إلى تحقيقها، فقرروا تأليف هيئة منهم وممن ينضم إليهم في المستقبل للعمل على تحقيق هذه الأغراض بالتعاون مع تلك الجمعية على أن يكون المجتمعون أعضاء مؤسسين.
كما قرروا اختيار الأساتذة: أحمد رامي، وأحمد فؤاد شومان، وبديع خيري، وبيرم التونسي، وفريد غصن، وعبد الرحمن سامي، ومحمد عبد المنعم (أبو بثينة)، ومحمد شوكت التوني، ومصطفى عبد الرحمن، لوضع القانون الأساسي للهيئة واللائحة الداخلية، وتكييف وضعها القانوني في مصر بما يضمن انتفاعها بجهود الجمعية المركزية للمؤلفين والملحنين بباريس، على أن يقدموا تقريرهم في اجتماع تعقده الهيئة في يوم الجمعة 21 ديسمبر 1945.
القصص
من قصص الصين
الدمع. . .
للكاتب الصيني الكبير (به - شاو - كين)
ترجمة عبد الله ما - جي - كو
بحث رجل عن شئ أضاعه الناس في جميع بقاع الأرض التي تضيئها أنوار الشمس والقمر والنجوم، وجهد في البحث عنه تحت جذور الحشائش وفي الترع الناضبة وفي تراب الشوارع وفي كل جزء من الهواء الذي يأتيه، ولكن لم يجده في كل هذه، فتنفس تنفسا أبعد عمقا وأكثر حزنا من تنفس الغابة الكثيفة وقال، (أين الشيء الذي أريده؟ أين الشيء الذي أريده؟)
وجاء (الرجل المتفائل) وسأله قائلاً: (لماذا تبحث تحت جذور الحشائش، هل ضاع منك اللؤلؤ؟ ولماذا تبحث في الترع هل ضاع منك الزئبق؟ ولماذا تبحث في التراب، هل ضاع منك الدم؟ ولماذا تبحث في الهواء، هل ضاعت منك الرائحة الطيبة؟)
فهز الرجل رأسه وزفر قائلا: (كلا، لم تضع مني هذه الأشياء)
فرد عليه الرجل المتفائل: (أنت أحمق إذن، فان الإنسان لا يبحث هذا البحث المرهق ألا عن هذه الأشياء القيمة، وأرى أنه يجب عليك أن لا تتعب نفسك وتهلكها لأجل شئ لا قيمة له). قال المتفائل هذه الكلمات وقد ملأت الابتسامة وجهه وارتفع لحم خديه وتجعد الجلد الذي حول عينيه تجعدا عميقا، كما هي صفته التي تعودها كلما تكلم مع الناس.
وأجابه الرجل قائلا: (إن الشيء الذي أبحث عنه أهم من الأشياء التي ذكرتها، وإني قد بحثت عنه كل يوم وفي كل مكان فلم أجده! إني أبحث عن الدمع).
ولما سمع الرجل المتفائل كلامه فتح فمه - كأنه غار عميق - ورفع رأسه إلى السماء يقهقه بلا انقطاع، وقال بعد حين: (الدمع! وهل للدمع أتعبت نفسك وجهدت في البحث عنه؟ إني لا تدمع عيناي دمعة واحدة ولا أعرف أين منبع الدمع من جسم الإنسان، وإنما رأيت بعض الحمقى تنزل الدموع من عيونهم، وسأخبرك عن الأمكنة التي تنزل دموعهم
فيها:
(أذهب إلى المحطات والمرافئ تجد هناك رجالا ونساء كأن قلوبهم قد ربط بعضها ببعض لا يضيعون لحظة من الزمن وإنما يتحادثون فيها ولو بتكلف، وإذا لم يتمكنوا من الكلام غابوا في أحلام هناك كأن البرهة تساوي زمنا طويلا لا نهاية له، وتر هناك أيضاً الأيدي في الأيدي، والأذرع بالأكتاف، والأفواه بالأفواه كأنها مشدودة ملتصقة لما تنفك بعد، فإذا اتفق أن تصفر الباخرة أو القاطرة، انقطعت المحادثات، واستيقظ الحالمون، وانفكت الأيدي والأذرع المشدودة وسالت الدموع من عيونهم سيلان الماء من الينبوع، وإني أرى هذه المناظر حقيرة مضحكة ولكن إذا ذهبت إلى هناك جدت الدمع بدون تعب ولا مشقة) وأجاب الرجل قائلا (لا أريد هذه الدموع، لأنها دموع الحب والغرام، وإنها كثيرة جداً يسهل على أن أجدها كنت أريدها لذهبت إلى المحطات والمرافئ منذ زمن).
وقال الرجل المتفائل: (إذ لم ترد هذه الدموع، فاذهب إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد تجد فيها أطفالا راقدين تعجبك وجوههم الحمراء الجميلة وشعورهم الصفراء الخفيفة وعيونهم السوداء المنيرة وتدعوك إلى رحمتهم والعطف عليهم، وتراهم يبكون فجأة بكاء شديدا ثم يقطعون البكاء بدون تكلف، ولا تكون دموعهم أكثر من دموع الرجال والنساء المذكورين، ولكنني أظن أنها تكفيك وتقنع أملك، فاذهب إلى هناك).
فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع أيضاً لآنها دموع الطفولة وهي موجودة في كل بيت يسهل على أن أجدها، ولو كنت أريدها لذهبت إلى أحجار الأمهات أو إلى المهاد باحثا فيها) قال الرجل المتفائل: (إذا أنت لم ترد هذه الدموع فاذهب إلى الملاهي ودور التمثيل تر على مسارحها رجالا ونساء يمثلون أحيانا روايات محزنة خيالية كأنها حقيقية ويقومون بأدوار مضحكة ومناظر محتقرة كموت زوج المرأة أو مصرع قائد الجيش، للدفاع عن بلاده أو حب الفتى والفتاة وتعذر اجتماعها أو غير ذلك وإذا مثلوا الرواية ووصلوا إلى أشد الأمور حزنا وأغمها بكوا بكاء شديدا ونز لت الدموع من عيونهم، ولا يهمنا أن تكون الرواية حقيقية أو كاذبة فع لى كل حال هم يبكون وستجد في عيونهم الدموع، فاذهب إلى الملاهي وابحث عن الدموع في مسارحها) فأجاب الرجل قائلا: (لا أريد هذه الدموع كذلك، لأنها دموع خيالية كاذبة ووجودهم لا اعتبار له في العالم، فلماذا أذهب إلى الملاهي؟) ولم
يستطع الرجل المتفائل أن يزيد على تلك الدموع المذكورة فنظر إلى الرجل فاتحاً عينيه، وبعد برهة سأله قائلا:(إذن، أي دمع تريد؟ لاني أعتقد أنه لا توجد في الدنيا إلا الدموع التي ذكرتها، فهل تعلم غيرها؟)
فأجاب الرجل قائلا: (نعم، علمت أن الدنيا دمعاً غير تلك الدموع، وأنا لا أبحث إلا عنه، وأصرح لك بأنه دمع العطف والرحمة لا غير)
فعجب الرجل المتفائل من كلام الرجل، وحدق بعينيه في وجهه، وهز رأسه هزة خفيفة وقال:(لعل هذا الدمع ليس موجوداً في الدنيا؟ دمع العطف والرحمة! لم أكن أسمع هذا الإسم الغريب، ولم أعرف من الذي ينزل من عينيه هذا الدمع، ولأي سبب ينزل، فإذا علمتهه فهل لك ان تخبرني عنه بالتفاصيل؟) فقال الرجل: (نعم، سأخبرك عنه بكل سرور:
إن دمع العطف والرحمة لا يسيل لشخص أو لشخصين فحسب بل يسيل للناس الكثيرين، إن صاحب هذا الدمع يذرفه من عينيه إذا رأى المأساة وتأثر قلبه تأثراً تاماً، وليس هو كدموع الأطفال لأنها طبيعية بغير تأثر. وإن الدمع يسيل للاخلاص والصدق ولا يوجد فيه شئ من الخيال والكذب. وأما شخص يسيل منه الدمع فإني لا أعرفه، وقد بحثت عنه في كل مكان ودققت النظر في عيون الناس، فلم أجد قطرة من هذا الدمع، ومن يدري لعله لم يكن موجوداً! وربما سقط وضاع من عيون الناس في مكان، وكل شئ إذا ضاع يمكن أن يوجد بالبحث عنه. وسأبحث عنه لعلي أجده وأرده إلى أصحابه، وما عثرت على الذين ينسكب من عيونهم هذا الدمع، ولكن عسى أن أجدهم خلال بحثي عنه)
ولم يصدق الرجل المتفائل كلامه، وهز رأسه هزات ثم قال:(لا أفهم كلامك، ولكن إذا كان هناك من يسيل من عينيه هذا الدمع، فإنه يكون أكثر حمقاً وأشد سفهاً من الذين ذكرتهم لك، فإن الإنسان أذكى وأعز من كل شئ، ويستحيل أن يبلغ هذا المبلغ من الحمق والسفه، لذلك لا أستطيع أن أصدقك).
ونظر الرجل إلى الرجل المتفائل نظرة عطف وإشفاق، ثم تنهد وقال بصوت رقيق:(وأنت أيضاً من الذين أضاعوا هذا الدمع! فيجب عليك أن تبحث عنه معي، فإذا وجدته استرددت الشئ الذي أضعته، فهل لك أن ترافقني؟)
ولم يرض الرجل المتفائل عن كلامه بالطبع وقال: (كيف ضاع مني هذا الدمع، إن عيني
لم تدمع دمعة واحدة، ولا أحب أن يسيل الدمع مني، ولا أرضى أن أعمل معك عملا لا فائدة فيه، لذلك سأذهب إلى حفلة الغناء والرقص أغني فيها غناء السرور وأرقص رقصة جميلة)
ولما رأى الرجل الباحث أن الرجل المتفائل لا يرضى أن يبحث معه عن الدمع فارقه واستمر في عمله، ووقف الرجل المتفائل يضحك من هذا الرجل ضحكاً عميقاً على حمقه وسفهه، ثم ذهب إلى مكان السرور، وشغل فيه باللهو والغناء
ولم يجد الرجل الدمع في تلك الأمكنة، فغير رأيه وذهب إلى مكان مزدحم بالناس بحثاً بينهم عن الدمع، فوقف بجانب شارع، وألفى السيارات تسير فيه أسرع من الريح، تأتيه فجأة وتروح لا يكاد يشعر بها، ورأى المارين في الشارع يضطربون اضطراباً شديداً، وينظرون تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف وهو خائفون من السيارت أن تمزق أبدانهم، ووجد البغال تجر العربات الكبية المحملة بالفحم هزيلة الأجسام كأن اللحم لا يوجد فيها، والعرق المتصبب منها بلل شعورها السوداء، وكلما خطت خطوة كادت تقع على الأرض فتجد قوتها في كل خطوة وتذهب بذهابها؛ وهكذا مشت إلى الأمام تغمض عيونها بعض إغماض، وأما سواقوها، فقد ملأ غبار الفحم وجوههم وجعلها سوداء فاحمة، وكأن عيونهم مغمضة، وأصبحت شفاههم حمراء مخيفة، ورأى الرجل من ناحية أخرى رجالا يجرون (العربات اليابانية) التي يركبها الناس يعدون كالخيل ويمسكون بأيديهم أذرع العربات، ويطوون أرجلهم في العدو حتى تكاد تصل إلى أعجازهم ويرفعون أعضادهم كما ترفع الطيور أجنحتها، وإذا اتفق أن هاجت الريح بالتراب وألقته في وجوههم فيدخل أنوفهم وأفواههم، يتنفسون بأصوات عالية خشنة كأنها البخار يخرج من أنابيبه ويتفصد العرق من وجوههم، ولا تسمح الظروف لهم أن يمسحوه عنهم، وإنما يسيل بنفسه إلى الأرض ويتلاشى في الرمل والتراب
فقال الرجل لنفسه: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكنه حين بحث عنه بحثاً دقيقاً لم يجد قطرة منه ونظر إلى سائقي السيارات والماشين والبغال وسائقي عربات الفحم وجارِّي العربات اليابانية والجالسين عليها فإذا عيونهم جامدة لا تبض بدمعة فغادر ذلك الشارع خائب الأمل.
وذهب إلى دار الأحتفالات الكبرى فوجد فيها الناس مزدحمين منهمكين في إعداد حفلة فخمة لإستقبال رجل عظيم، وسمعهم يتكلمون عن تاريخ هذا الرجل: فيقولون (خاض هذا الرجل العظيم غمار الحرب مرات كثيرة وهزمت بخططه جيوش العدو التي لا تحصى ولا تعد، وكانت كل جثة تستلقى على ظهرها أو تحبو على بطنها فوق المروج الواسعة وفي الترع والأوحال العميقة مصابة برصاصه وقنابله، وخربت الحقول وهدمت الحدائق وسكتت أصوات التلاميذ في المدارس ووقفت حركات الآلات في المصانع بمدافعه وطائراته، وأصبحت الأيدي مقطوعة والأرجل مكسورة وفقدت النساء أزواجهن والأمهات أبناءهن بقضائه وقدره وهو يمر الآن بهذا البلد بعد انتصاره في الحروب)
فقال الرجل: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن حي اقبل الرجل رأى على وجوه الناس علائم الاحترام ودلائل الفرح فقفزوا ورقصوا كأنهم جماعة الضفادع، وظلت اصوات هتافاتهم كالامواج تصخب ورموا قلاننسهم في وجه السماء تتراقص في الهواء،، وفي هذه الضوضاء وذلك الجنون دخل الرجل العظيم وتبعه الناس وافتتح الاحتفال، وراى الرجل انه لا يوجد على وجوه الناس إلا الابتسامة والبشاشة كأن عيوننهم لم تسل منها الدموع قط ولن تسيل منها أبدأ! فغادر تلك الدار صفر اليدين. وذهب الرجل إلى مصنع كبير فوجد رجالا ونساء كثيرين يعملو فيه وقد أصمت أصوات الاّلات اّذانهم وزكمت روائحها أوفهم، وما أكبر العجلات التي لا يستطيع الإنسان ان يحركها إلا يقوة كبير ورأى الرجل علامات الموت تدب على وجوههم من شحوب وهزال، ويحني بعضهم ظهره بجانب الآلات ياكل الطعام الخشن الردئ، وتقف بعض النساء يفكرون في أطفالهن الذين تركنهم في البيوت فربما بكوا بكاء شديدا إذا لم يجدوا امهاتهم، ولكن لا يمكن لهؤلاء الرجال والساء أن يضيعوا وقتا كبيرا بل يجب أن يأكلوا بسرعة، وعلى النساء أن يستيقظن من أحلام التفكير ويواصلن العمل. ولما غابت الشمس خرج العمال من المصنع ومروا بالسوق الليلية التي يطوف بها الرجال والنساء يبحثون عن السعادة والفرح؛ فدخل العمال في موج هؤلاء السعداء المزدحمين واختلطوا بهم.
وتبع الرجل هؤلاء العمال مفكراً قائلا: (لعل هنا دمع العطف والرحمة). ولكن هؤلاء الناس كماء النهر إذا دخله ماء آخر اختلطا وسار معاً بدون تأثر، وكذلك اختلط الناس في
السوق بالعمال الذين دخلوا بينهم ولم يتأثر بعضهم ببعض فحدق الرجل نظره في عيونهم فوجدها كأنها قعور الآبار الجافة لم تسل منها الدموع ولن تسيل، فغادر تلك السوق منقطع الرجاء.
ورأى الرجل أنه لم يجد دمع العطف والرحمة في الناس أيضاً فحزن حزناً شديداً ومشى في الطريق حتى وصل إلى قرية بغير قصد، ورأى كوخاً أمامه ميدان واسع وحوله بضع أشجار من الصفصاف تجعل أشعة الشمس أوراقها الخضراء جميلة رشيقة، ويظهر أن عند صاحب الكوخ ضيوفاً يعد لهم وليمة، وبدأت امرأته تذبح الدجاج وبجانبها قفص فيها بضع عشرة دجاجة، فأخذت المرأة دجاجة واحدة وأمسكت بيدها اليسرى جناحيها وعرف رأسها ونزعت بيدها اليمنى شعر عنقها ثم أخذت سكيناً وذبحتها، فحركت الدجاجة رجليها كأنها تريد أن تدافع عن حياتها ولكن لم تقدر فسال الدم من عنقها في طاسة صغيرة، فوضعتها المرأة على الأرض بعد انقطاع الدم، وتحركت الدجاجة على الأرض حركة خفيفة ولم تلبث أن أصبحت كومة من الريش من غير روح، وذبحت المرأة الدجاجة الثانية والثالثة كما ذبحت الأولى.
ولما ذبحت المرأة الدجاجة الخامسة خرج من الكوخ ولد ذو وجه أحمر وعينان سوداوان يتطلع بهما وسعى إلى المرأة فرأى أكواماً من الريش ودجاجاً في القفص، ووجد واحدة منها في يد المرأة منظرها يؤلم القلوب، فأسرع ليمسك بيد المرأة اليمنى وخرج البكاء المحزن من فمه وتدفقت من عينيه كتدفق الينبوع
ولا رأى الرجل الدموع لم يصدق أن عينيه تريانها حقيقة وظن أنه في سنة من النوم فإنها جزاء تعبه الغالي أتاه من غير حسبان، ولكنه دقق النظر فيها فوجدها حقيقية تسيل من عيني الولد قطرة قطرة كأنها درر لامعة، ففرح فرحاً شديداً كأنه وجد اللؤلؤ وصاح قائلا:(لم أكن أظن أنني أجدها هنا!) وتقدم إلى الولد ووقف أمامه ماداً يديه تحت عينيه، وبعد برهة ملأت دموع الولد كفيه.
فقال الرجل: (لقد وجدت الآن هذه الدموع التي أضاعها الناس! وإن من واجبي الآن أن أردها إليهم). فراح قاصدا إلى (الرجل المتفائل) يردها إليه أولا لأنه لم يصدق أنه أضاع هذه الدموع وطلب منه أن يحفظها ولا يضيعها مرة ثانية، ثم ذهب إلى مكان يهدي إلى كل
إنسان هذه الهدية القيمة التي لا مثيل لها عنده. فاستعدوا أيها القراء الكرام، لتأخذوا هديته؛ فربما جاءكم بها قريبا.
عبد الله ما - جي - كو