الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 652
- بتاريخ: 31 - 12 - 1945
مقاطعة الصهيونية.
. .
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قررت جامعة الدول العربية مقاطعة الصهيونية، أو إنتاجها على الأصح، وكان القرار بالإجماع، وليس للجامعة أداة تنفيذية، وإنما أداتها الحكومات الداخلة فيها، فكل حكومة تنفذ قرار الجامعة، بوسائلها الخاصة، التي تسمح بها قوانينها ونظمها وأحوالها، والوسائل ميسرة وعديدة، منها على سبيل المثال الحواجز الجمركية التي يمكن أن تقام في وجه الصادرات الصهيونية من فلسطين لمنعها من دخول البلاد العربية؛ ومنها كذلك منع إصدار المواد اللازمة للصناعات الصهيونية، إلى فلسطين، مثل الرمل من سورية، فإنه يدخل في صناعة الزجاج ولا غنى بها عنه؛ ولا خسارة على سورية من هذا المنع، لأنه يسعها أن تصدره إلى مصر، وفيها كما هو معلوم، صناعة عظيمة للزجاج، ومثل الأبقار العراقية التي يستوردها الصهيونيون، وينتفعون بلحمها وجلودها، فإن بمصر حاجة إليها، الخ الخ.
والأمر، كما قلنا مرة من قبل، في هذا الموضع من الرسالة، يحتاج إلى تنظيم - تنظيم أمر المقاطعة، وتنظيم التعاون بين الدول العربية لسد النقص وتعويض الخسارة، في البداية.
ونقول (في البداية) لأن الإنتاج الصهيوني كان قد غزا الأسواق العربية مغتنماً فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأوربية أو قلتها، وشراء مادة من السوق أيسر مطلباً من صنعها، ولكن الحرب وضعت أوزارها، وزالت الصعوبات التي كانت مقتضيات الحرب قد أقامتها في طريق التبادل التجاري بين البلاد العربية، ففي وسع كل بلد أن يستورد من البلاد الأخرى ما ينقصه ويحتاج إليه، للاستهلاك أو للصناعة، وأحر بهذا أن يساعد على قيام صناعات شتى كانت متعذرة في أيام الحرب، وفي هذا خير كثير للبلاد العربية، حتى بغض النظر عن الصهيونية ومكافحتها، وإنها لفرصة ينبغي أن تغتنم، فإن في كل بلد من بلادنا العربية موارد وخيرات عظيمة، وقد لا تكون كل دولة من دولنا قادرة بمفردها على استغلال هذه الموارد الطبيعية على خير وجه، ولكن الأمر يكون أيسر وأقرب منالا إذا تعاونت على ذلك فيما بينها، فتفوز بالحُسنيين: تكفي نفسها حاجاتها وتمنع أن تضطر إلى وَكْل هذا الاستغلال للأجانب الذين يخرجون بالخير كله، ولا يخرج أهل البلاد بأكثر من أجرة الأجير.
وهذا الاستغلال يقتضي تأليف الشركات القوية مالياً وفنياً، وليس يعوز بلادنا العربية المال، ولكنه قد يعوزها الفن أو الخبرة إلى حد ما، ولا ضير من الاستعانة بخبراء من أوربة أو أمريكا حتى يوجد من العرب من يحل محلهم ويقوم مقامهم، أو يغني غناءهم. ومن السهل أن تحفظ كثرة الأسهم في كل شركة تؤلف لمثل هذا الغرض للبلد الذي يراد استثمار مورد من موارده، حتى لا يكون هناك غبن على أحد، وحتى لا يستأثر بلد دون آخر بالخير كله والربح أجمعه
وهذا أمر يطول، لأنه يستوجب درساً دقيقاً، وتدبيرا محكماً، ومن أجل هذا ينبغي الشروع فيه من الآن، ليتسنى أن تؤتي ثمرته بأسرع ما يمكن، قبل أن تعود الأحوال التجارية العالمية إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وحينئذ يخشى أن تغرق الواردات الأجنبية أسواقنا، وتهجم علينا رءوس الأموال الأجنبية، فتستولي على الميدان قبل أن نستطيع أن نضع فيه قدماً.
وقد زعم الصهيونيون أن المقاطعة لن تنجح، وتحدث بهذا أحد الأمريكيين من أنصارهم المخدوعين بالدعاية الصهيونية، ولعله لا يعرف أين موقع فلسطين من الأرض، وردنا على ذلك أن الصهيونية حديثة في الشرق العربي، وقد طرأت عليه بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لها ولا لصناعاتها قبل ذلك وجود، وكانت البلاد العربية قاطبة تعيش في رغد وخفض، ولم تكن تشعر أن بها حاجة إلى هذه الصناعات الصهيونية. والذي كان من قبل لا يتعذر أن يكون من بعد.
وإذا كانت الصهيونية تنتج بعض ما لا تنتجه بلادنا، أو ما يتيسر لها إنتاجه، فإنه ليس بمعدوم النظير في العالم، وقد انتهت الحرب ففي وسع البلاد استيراد ما هو خير من المصانع الغربية. وعلى أن ما استطاعه الصهيونيون لا يتعذر مثله في مصر والشام والعراق، وما نظن بأمريكا التي تسرف في تأييد الصهيونية، وبريطانيا التي لا يعدم فيها القوم أنصاراً لقضيتهم الظالمة، إلا أنهما يسرهما أن يقبل العرب على إنتاجهما ويزهدوا فيما يعرضه الصهيونيون. ونحسب أن هذا من البدائه التي لا تحتاج إلى بيان.
والمقاطعة كما قلنا مراراً، هي أمضى سلاح في مكافحة الصهيونية، وذلك لأسباب:
الأول: أنه لا فلاح لدولة يسبق قيامَها الخرابُ الاقتصادي، فإذا تبين الصهيونيون أن
المقاطعة تنتهي بهم إلى الخراب، فلا شك في أنهم سينفضون أيديهم من أمر هذه الدولة المقضي عليها. ولقد كان شر ما حاق بهم في ألمانيا على عهد هتلر أنه اضطرهم أن يعيش بعضهم على بعض، وحرّم عليهم أن تكون لهم صلة ما بالشعب الألماني، فلم يطيقوا هذا. وراحوا يثيرون على هتلر ثائرة العالم كله. وإذا نجحت المقاطعة فسيؤول بهم الحال إلى مثل هذا. وما جاءوا إلى فلسطين ليعيش بعضهم على بعض، بل ليعيشوا على العرب جميعاً
الثاني: أن الصناعات التي أقاموها في فلسطين مقصود بها أن تغزو أسواق الشرق الأوسط الذي صرح زعماؤهم في المؤتمر الصهيوني بلندن أنه مجال حيوي لهم. فالمقاطعة مؤداها أن تبور هذه الصناعات.
الثالث: أن هذه الصناعات الصهيونية باهظة التكاليف، وخسارة القوم محققة لا شك فيها، ولكنهم احتملوا الخسارة، وراحوا يسدون العجز من التبرعات التي ترد عليهم في كل عام من أقطار الأرض جميعاً - حتى من مصر فأن لهم فيها وكالات أو هيئات تخدم الصهيونية سراً لا جهراً. وقد فضحها الله وكشف سترها يوم ذهب محام يهودي من مصر إلى تل أبيب وخطب هناك ودعا إلى محاربة قيام الجامعة العربية في لندن، ونشرت صحف الصهيونيين هذه الخطبة أو خلاصتها ونقلتها جريدة الدفاع وقرأتها، فنبهت إلى هذا واحتججت عليه فاضطر المحامي أن ينفي أنه قال هذا.
والصهيونيون يصبرون على هذه الخسارة وفي مرجوهم أن ينجح سعيهم فتقوم دولتهم وتفتح الأسواق في وجهها وحينئذ يتسنى أن تثبت الصناعات على قاعدة اقتصادية سليمة. ولا نحتاج أن نقول أن المقاطعة تحول دون ذلك.
غير أن المقاطعة لا ينبغي أن يقتصر الأمر فيها على ما تتخذه الحكومات من التدابير، فإن على الأمة العربية واجب المساعدة، والتعاون بين الحكومة والشعب هو الذي يحقق الغاية ويكفل النجاح. وقد نضطر من جراء ذلك إلى الصبر إلى حين على نقص بعض المواد، ولكنا تعودنا هذا الصبر ووطنا أنفسنا عليه في سنوات الحرب، وما زلنا صابرين، فلن يضيرنا أن نصبر ونتشدد سنة أخرى أو بعض سنة، وعلى أننا لن نُحرم شيئاً جوهرياً أو له قيمة كبيرة، فإن كل ما يصنعه الصهيونيون في فلسطين مما يسهل الاستغناء عنه.
وقد استبشرت بنزول المرأة العربية في فلسطين وسورية إلى الميدان، فإن عليها المعول في نجاح المقاطعة الشعبية، فعسى أن تقتدي بها المرأة العربية في كل بلد آخر. والله الموفق.
إبراهيم عبد القادر المازني
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 21 -
ج 4 ص259: أحمد بن محمد الخطابي:
تسامح ولا تستوف حقك كله
…
وأبق ولم يستقص قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
قلت: (وأبق ولم يستق قط كريم) كما روت اليتيمة والوفيات، وفي هذه (فسامح) وقد يكون قبله شيء.
ج 16 ص 143:
وأبدلتني بالشطاط ألحنا
…
وكنت كالصعدة تحت السنان
قلت: (وأبدلتني بالشطاط انحنا) أي انحناء فقصر ضرورة. وهو من قصيدة لعوف بن محلم الخزاعي رواها أبو علي في أماليه (ج 1ص50) وفيها البيت المشهور:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
قال أبو علي: (وكان سبب هذه القصيدة أن عوفا دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عليه عبد الله فلم يسمع، فأعلم بذلك، فزعموا أنه أرتجل هذه القصيدة ارتجالا فأنشده:
يا ابن الذي دان له المشرقان
…
طر وقد دان له المغربان)
وقد جاء في (إرشاد الأريب): (فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة). . .
في اللغة هو ما قال اللسان: (حنا الشيء حنواً وحنيا وحناه: عطفه، والانحناء الفعل اللازم وكذلك التحني، وقال في رجل في ظهره انحناء: إن فيه لحناية يهودية وفيه حناية يهودية أي الحناء) وما قالته النهاية: (إياك والحنة والاقعاء يعني في الصلاة وهو أن يطأطئ رأسه ويقوس ظهره من حنيت الشيء إذا عطفته).
وفي اللغة (التحاني) وهذه لم تذكرها المعجمات التي نعرفها وقد وردت في بيت في مقطوعة في (الكامل):
قصر الليالي خطوه فتدانى
…
وحنون قائم صلبه فتحاني
وجاء في اللسان: الحنو كل شيء فيه اعوجاج أو شبه الاعوجاج كعظم الحجاج واللحى والضلع والقف والحقف ومنعرج الوادي والجمع أحناء وحُني وحِنى.
وقد نقل القاموس ما قال اللسان وزاد بعد قوله والضلع: (والحني) وأورد شارحه هذه اللفظة. فهل زادها ناسخون أو هي الحشي بالشين لا بالنون. . .؟ والحشا ما اضطمث عليه الضلوع كما في الصحاح. والحشي الخصر ومنه قولهم: لطيف الحشى، هضم الحشى كما في التاج. . .
ج 8 ص 78:
أدل فأكرم به من مدل
…
ومن ظالم لدمي مستحل
إذا ما تعزز قابلته
…
بذل وذلك جهد المقل
وأسلمت خدي له خاضعا
…
ولولا ملاحته لم أذل
قلت: أغلب الظن أن الشاعر قال: (مدْل ومستحلْ الخ) من الضرب المحذوف، وهو كما ضبط في الكتاب من الضرب الصحيح. والمحذوف هنا ألطف، والآذن شاهدة. . .
و (الجهد) قيلت في فتح جيمه وضمها أقوال كثيرة أورد التاج جلها، ثم قال: والكلام في هذا المحل طويل الذيل ولكن اقتصرنا على هذا القدر لئلا يمل منه. . . وفي النهاية:. . . فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير. . . ومن المضموم حديث الصدقة أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، أي قدر ما يحتمله حال القليل المال.
قلت: فَجهد البلاء، وجُهد المقل. والشعر للقاضي أبي حازم قاله في حداثته في امرأته، وكان أبو حازم - كما ذكر ياقوت - شديد التقشف والورع.
ج 16ص 245:. . . حدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إليّ الصوفي المعروف بالصواف يسألني عن بيت حسان ابن ثابت وهو:
فمن يهجو رسول الله منكم
…
ويمدحه وينصره سواء
وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعا فأجبته. . . فهذا يا سيدي جهد المقل، وغير مرجو قطع المدى من الكل، فليعذرني سيدي - قبل الله معاذيره - من المرفوع الثالث عشر فانه لعمري قد استكن واستتر حتى لا أعرف له عينا. . .
قلت: (الكل) بفتح الكاف وهو مثل الكليل، وللكل في هذه اللغة معان كثيرة منها اليتيم قال:
أكون لمال الكل قبل شبابه
…
إذا كان عظم الكل غير شديد
والثقيل الروح من الناس، والذي هو عيال وثقل (وهو كل على مولاه) كما في اللسان. وفي اللسان والتاج: ورأس الكل بالفتح رئيس اليهود، نقله ابن بري عن ابن خالويه.
ج 15ص 26: قال أبو حيان في كتاب أخلاق الوزيرين من تصنيفه: طلع ابن عباد عليّ يوماً في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كأدنى به، فلما أبصرته قمت قائماً فصاح بحلق مشقوق: أقعد فالوراقون أخس من أن يقوموا لنا؛ فهممت بكلام فقال لي الزعفراني الشاعر: أسكت فالرجل رقيع، فغلب عليّ الضحك واستحال الغيظ تعجباً من خفته وسخفه. . .!
وجاء بالشرح: كأده بالشيء: كلفه به.
قلت: كأدنى به، وكاد أراده بسوء والكيد المضرة كما في التاج، فأد فعل لازم ومضارع يكاد كادا، وتكاد الشيء تكلفه، وتكده الأمر وتكأده شق عليه. والدليل على أن أبا حيان قصد الكيد ما رواه ياقوت في أخباره من أقواله:
. . . وأما حديثي معه (مع ابن عباد) فأنني حين وصلت إليه قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان. فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان، فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟
قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف. فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسية سفها على ما قيل لي. ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب، فقلت: أنا سامع مطيع. ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم فان الوِراقة لم تكن ببغداد كاسدة. فنمى إليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاد تنكراً
قلت: استقبل الصاحب من أبي حيان شيطاناً مريداً، وعالماً بحراً عبقرياً، وأديباً عجيباً جاحظا، ولئيما وخبيثاً، عيناه تقذفان بالشرر، وحرفوشاً فأبصر مشهداً مهولا روعه أيما ترويع. وإن أبا حيان لخليق جد خليق بأن يكون خير جليس للوزير العالم الأديب وخير معلم ومثقف وأنيس، ولكن (كيف الحياة مع الحيات في سفط) أني يُخالط أفعوان يتلظَّى من
السم، وعقرب لا تني تلسع، ولُقَّاعة: حاضر الجواب مقرطس، ومكهرب. وقد أبى ابن عباد أن يدفع شراً خاله وخافه بالتي هي أحسن، والتي هي أكرم فلزَّ أبا حيان ليذله - وهو الأديب الأعظم - بواقيه، وكاده بالنسخ. وما كان التوحيدي المنشئ المبدع للنسخ أو الوراقة. وإني لأقول: إذا كان الشعراء في القديم ثلاثة أعني حبيباً والوليد وأحمد فالكاتبون في القديم ثلاثة: الجاحظ والريحاني وأبو حيان. وأبو العلا أحمد أمة وحده. . .
ج19 ص 287:
برّح بي أن علوم الورى
…
اثنان ما إن لهما من مزيدِ
حقيقة يعجز تحصيلها
…
وباطل تحصيله لا يفيدُ
وجاء في الشرح: في نفح الطيب: قسمان. يلاحظ أن في هذا البيت (الثاني) إقواء.
قلت: الروي ساكن (مزيدْ، لا يفيدْ) فلا إقواء.
والرواية في النفح: قسمان ما إن فيهما من مزيد. والشعر لابن الوقْشي القاضي الأديب والفيلسوف الأريب كما يقول (نفح الطيب).
ج3 ص 229:
ذريني إنما خطئي وصوبي
…
علي وإنما أنفقت مالي
قلت: روى اللسان البيت راسماً ما منفصلة وقال: وان ما كذا منفصلة.
في كتاب (أدب الكتاب) للأمام الصولي وقد عنى بتصحيحه وتعليق حواشيه العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري:
يكتبون أحب (أن لا) تفعل كذا بألف ونون وتكون (لا) مقطوعة، وهو أجود. . . ومنهم من يكتب بألف ولام موصولة لأن النون تدغم في اللام إذا نطق بها. . . و (كلما) إذا أردت بها الجزاء كقولك: كلما فعلت فعلتُ كتبتها حرفاً واحداً لأنها أداة، وإذا أردت بها معنى الذي كقولك: كل ما فعلت فصواب فاقطع (كل) من (ما) وكذلك (إنما وكأنما ولكنها) إذا أردت بهن الأدوات فاجعلها حرفاً واحداً، وإذا أردت بمعنى (ما) الذي فاقطع. . . (ص258).
ج9 ص61: الحسن بن علي المصري الملقب بالقاضي المهذب:
ولما أبان البين سر صدورنا
…
وأمكن فيها الأعين النجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت
…
دروعا من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت
…
لعيني عما في الظمائر عيناها
بدت صورة في هيكل فلو أننا
…
ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طربا صغنا القريض وإنما
…
جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
وليالي كانت في ظلام شبيبتي
…
سراي وفي ليل الذوائب مسراها
وجاء في شرح البيت الثاني: أي لأن البكاء ينافي الصبر فهو يضعف من قوته ويوهنها، والإنسان مهما كان جلدا يصبر على كل نوائب الدهر ما عدا فرقة أحبائه.
نحن قوم تذؤبنا الحدق النجل (م)
…
على أننا نذيب الحديد
وقال آخر:
جزعت للحب والحمى صبرت لها
…
إني لأعجب من صبري ومن جزعي
هذا وفي رأيي أن الأصل في نزعناها اذرعناها. وجاء في شرح البيت الأخير: بياض بالأصل بعد وليلة، وقبل ظلام
قلت: (وأمكن منها الأعين النجل مرماها) في التاج: مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته منه فتمكن واستمكن إذا ظفر به والاسم من كل ذلك المكانة، ويقال: أمكنني الأمر ولا يقال: أنا أمكنه بمعنى أستطيعه، ويقال: لا يمكنك الصعود إلى هذا الجبل، ولا يقال: أنت تمكن الصعود إليه.
وليس (من الصبر الجميل) نعتا للدروع، والجار متعلق بالفعل (نزعناها) يعني أن هذه الدموع، هذه الدروع انتزعناها أخذناها من الصبر الجميل، وقد قيل في فضيلة الدمع:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة
…
من الوجد أو يشفي نجي البلابل
والشطر الأول في البيت الأخير هو عندي: (وليلة أسرى في ظلام شبيبتي) وهو معطوف على شيء قبله، وقد يكون الأصل (ليالي أسرى الخ).
ج12 ص23:
أن يعجل الموت يحمله على وضح
…
لجب موارده ملوكه ذُلل
قلت: لحب - بالحاء - في القاموس: للحب الطريق الواضح كاللاحب. وذلل - بضم اللامين - في اللسان: طريق ذليل من طرق ذلل، وسبيل ذلول وسبل ذلل.
ج1 ص75: قال أبو تمام:
إن يكُد مطَّرِف الإخاء فإننا
…
نسري ونغدو في إخاء تالد
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا
…
أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
…
عذب تحدر من غمام واحد
وجاء في الشرح: وتروى (من زلال بارد) وهي الأفق. قلت: (إن يكد مطرف الإخاء) بفتح الراء أي مستحدثة واطرف الشيء استحدثه، ورواية الديوان (أو يفترق نسب) و (نسب وأدب) متوائمان و (من غمام واحد) هي الرواية.
والأبيات من قصيدة يقولها حبيب في صديقه علي بن الجهم و (كان علي شاعراً فصيحاً مطبوعاً) كما قال أبو الفرج، ومن مشهور شعره لاميته في صلبة. . . وداليته في حبسه، وعند أبي الفرج أنها (أحسن شعره) وقد رواها في أغانيه (ج10 ص208، 213) ولعل الرائية المشهورة (عيون المها) في المتوكل ولم يذكر أبو الفرج منها شيئا ولم يشر إليها، وهي ثلاثة وعشرون بيتاً، جلها غزل، وفيها يقول:
فقالت: كوني بالقوافي سوائرا=يرُدن بنا مصر أو يصدرن عن مصر
فقلت: أسأت الظن بي لست شاعراً=وإن كان أحيانا يجيش به صدري
للشعر أتباع كثير ولم أكن
…
له تابعاً في حال عسر ولا يسر
ولكن إحسان الخليفة جعفر
…
دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فسار مسير الشمس في كل بلدة
…
وهب هبوب الريح في البر والبحر
في القسم 19 - (الشميذ) وهي الشميذر و (الفحير) وهي الغمير و (فإذا) وهي (فإذن). وفي إحدى مقالاتي: (في العقد) في القسم 6 في الرسالة 405 أوردت قول صاحب (الاقتضاب) وهو يرى - كما يرى المبرد - أن تكتب بالنون على كل حال حتى لا يشبه (إذا) التي هي ظرف فيقع اللبس بينهما، ويقول إن نون (إذن)(إنما هي أصل من نفس الكلمة) فإذن لن تكتب (إذن) إلا بالنون. . .
أمي.
. .!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
ترجع ذاكرتي الآن سبعا وثلاثين سنة وأنا في ساعة من ساعات الذكرى إلى الصورة الأولى من وجه باسم يطالعني مع الصبح كل يوم يوقظني من النوم، ويهدهدني في فراش الطفولة بكلمات مقصوصة مضغوطة في تنغيم قليل وتمطيط ومعابثة، فلا ألبث أن أستيقظ لذلك الوجه الراعي الواحد الذي ما كنت أعرف غيره بعد في دنياي يومئذ.
تلك هي الإلتماعة الأولى التي أدركت بها وجودي وابتدأت روحي على نورها الضئيل تدخل رحاب الدنيا وتستفيق من ذهول الطفولة.
وتلك هي الصورة الأولى للدنيا في نفسي: وجه صبيح باسم راحم يطالعني مع نور الصبح الندي الجميل، ويعابثني بيد رحيمة رفيقة. . .
وكذلك تدخل الدنيا إلى وعي الطفولة في إطار من الحب والرحمة والحنان والابتسام. . .
وكذلك كانت الأمومة السفير الأول من الله للنفس البشرية يرسله إلى الوافد المولود يرحب به على عتبات الوجود، ثم يدخل به في ترحاب داخل العتبات. . ألم يقل (أنا الرحمن وأنت الرحم).
ومازال هذا الوجه يرعاني بعينيه حتى أغمضتهما بيدي الإغماضة الأخيرة في مساء الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة الماضي، بعد أن انطفأ فيهما نور الحياة، فوضعت ذلك الوجه في ذلك القبر الذي ضرحنا له فيه.
ومنذ أن شببت عن الطوق ومضيت في طريقي إلى الاكتمال وبلوغ الأشد، ومضت هي في طريقها إلى الذبول والأفول تيقظت لهذا اليقظة الكبرى وأدركتها بالفكرة كما أدركتها قبل بالإلهام، وعرفت موضعها مني وموضعي منها كروح انبثقت من روحها وجسم كون من جسمها وصار حبي إياها ينمو ويشتعل بذلك اللهيب الأبيض الدافئ اللذيذ الذي ينضج القلب ويهيئه للحب الأكبر الذي تعمر أسراره جوانب الكون الجميل.
صار حُبيها أوسع محراب أقف فيه لأشهد منه الكون في أروع صورة من صوره ذات التهاويل والتعاجيب! وكنت أحس حركة قلبي حين يكون في جوارها فأستلمه بكفي من فرط الشعور به وشدة الحركة فيه. . . أقول حقاً أيها القارئ ولا ألعب بألفاظ!
وقد أتيح لي من إدراك أمي بفكري الكامل ما لم يتح لي من إدراك أبي رحمه الله، فقد توفي منذ سبعة عشر عاماً، قبل أن يدخل على من إرهاف الحس وتوفز الشعور بالحياة وعجبها ما دخل! ولذلك اكتفيت من رثائه يومئذ بدموع يوحدها مع أنه كصورة من أحق صور العلماء بالتسجيل والبيان لعمق روحه وفكره - وحسبك من رجل كان يستحي من نفسه!
أما أمي فقد أنسأ الله لي في أجلها حتى أدركتها الإدراك الكامل، فكانت منبعاً فياضاً من ينابيع الشعر في نفسي. وقد كتبت عنها مرات خطراتي اليومية، وأدركت منها أن الأمومة هي منبع الخير والرحمة والحب والبر الذي في الدنيا وليس الخير كما يتوهم (نيتشه) فلسفة الضعف ووسيلة الضعفاء والعبيد إلى خديعة الأقوياء والسادة ليتوقوا به بطشهم ونكالهم، وإنما الخير والبر والرحمة هي فيض الأمومة على أبنائها في أسرتها الصغيرة ومن الأسرة الصغيرة انتقل ذلك الفيض إلى الأسرة البشرية الكبيرة في الأمة والأمم.
فلولا الأم لاستمر اقتتال الأخوة على الطعام والمقتنيات كما يقتتلون ويتنازعون أول دخولهم الحياة، ولكنها لا تزال توصي الأخ بأخيه وتحببه فيه وتربط ما بينهما حتى يشبا ويجدا طعم الدم الواحد في قلبيهما ويذكرا الجذع الواحد الذي تفرعا منه، ثم يتسع معنى الرحم بتفرع الأسرة حتى تصير قبيلة ثم أمة وهكذا.
فليس منبع الخير هو الضعف كما يفلسف (نيتشه) نبي النازية الكاذب الذي تأثرت الهتلرية وإضرابها بفلسفته وصدرت عنها في حرب البطن وخيلاء القوة، وإنما منبعها قوة الأمومة الصبور الحاملة أمانتها في جلد ورضا وغبطة ورحمة، وأعظم بها أمانة! لأنها أثقل تبعة وأعظم رسالة!
كتبت عن أمي في سجل خطراتي في 13 - 8 - 1939:
(هذه أمي! هذه أمي العجوز الجليلة، تكلمني وأنا لا أستمع لأحاديثها لأني مشغول بالتفكير فيها وعلاقتي بها، ونهايتها. . .
ما أبسطها قضية إذا نظرت إلى سطوح الأشياء بدون تفكر في الأسس والنسب التي قامت عليها! وهي أم ككل الأمهات الكثيرات، والدات الحيوان والأنسان، لا تستحق الشعر والفلسفة، ولا تستلزم أكثر من السعي عليها والطاعة لها والبر بها كما يحدث الدين. . . ولكنها عند الفكر محراب مسحور لا تستطيع أن تفلت من بين يديه إلا بخيال وخبال!
أننا عْمُىُ الأفكار، نمر على أشياء الله بالنظرة الخاطفة والخطرة العابرة بدون أن نؤدي صلاة الفكر.
ووالله! إني حين أجرد أمي من معنى الأمومة الشائع وألبسها ثوب الطبيعة، أشعر لها بشعور هو أعظم وأجل من الحب المبذول للأمهات. . . ولقد أورثني البعد عنها ثلاث سنين، وأنا بالعراق، الفكر كمعنى مجرد من ملابسات المادة. . . وإذا نظرت إليها وتذكرت أن في صدرها وحدة أعظم مكان يحفظ لي الحب الفدائي الرحيم، وأنه المكان الوحيد الذي نجا من أن يكون فيه شر لي، أحسست الدموع تطفر إلى عيني حادرة في غفلة منها هي. . . بل أحسست أن رحمة الله تنظر إلى من عينيها، وأنه لا بد من سجود!
فإذا حدثتني عن شيء من تاريخها وتاريخ أبي معها وتاريخي في دمها ونفسها وآمالها وفصالي منها واعتمادي عليها. . . انهدم كل كياني الفكري حينذاك، وشعرت بدوار من الحيرة والدهشة لإخراج الله رب الحياة لهذه العجائب والحيوات، وأمسكت بيديها، وهي لا تدري السر، وقبلتهما؛ لأني لا أستطيع أن أصنع في أبراد غلتي وإحساسي بها غير ذلك!
كلا! لن تذهب هذه المعاني العلوية إلى التراب أيها المجانين الملحدون المنكرون لبعث!
لابد أن تحيا هذه المعاني ونحيا لها لندركها في دار الشرح والتفسير لكل ألغاز الحياة!
كلا! لن يضرب الله بين قلبي وقلبها وقلب أبي ويفضل بيننا إلى الأبد، فلا نرى ونحس تلك العجائب التي في عالم القلوب!
إنه تبذير أن تضيع هذه المعاني الكريمة بدون رجعة، وما كان الله من المبذرين!
لو علمت أنه لا لقاء بين الأحباء الذاهبين لظللت عاكفاً على قبريهما أخاطب سر قلبيهما كما يخاطب الوثني الأصنام.
إننا سائرون إلى الله نافخ روحه في أجسامنا ومشوقنا إلى أسراره. . .
وما أجمل أن أنهي حالتي الوجدانية هذه بالصلاة مع والدتي لله مصدر وجودنا، ومنه وإليه مصيرنا!
(إن حياتها تدبر، وحياتي تقبل. وإنني صرت أكبر منها حجما وأكثر علماً. إن بريق عينيها ينطفئ وأسنانها تتساقط وشعرها يشتعل شيباً وجلدها يتجعد، وهيكلها يضعف. . . والحيات تسترد آلاتها منها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إنها لا تدرك هذه المعاني التي أدركها.
والحمد لله على الجهل في هذا الموضع! والويل لي حين أبلغ مبلغها من العمر بفكري وشعري!
إنها صورة الطبيعة وتلخيص أعمالها. وإن الطبيعة امرأة! تلد وتدور دورتها الأبدية ولكنها تتجدد! أما بنات حواء فذاهبات إلى غير رجعة في رحاب هذه الطبيعة التي نراها.
ولكن الإنسان المؤمن حينما يرفع بصره إلى الله الحي الدائم الحياة، القوى الدائم القوة ينسى فناءه وفناء أبويه، بل يرحب بذلك الفناء في سبيل الرجوع إلى مصدر الحياة والقرب منه والعيش معه حياة الدوام!
ما أروحك على القلوب أيتها الكلمة التي يتمثل فيها كل العجز الإنساني: إنا لله! وأنا إليه راجعون!
من وجهها عرفت الأزل، ومن وجهي عرفت هي الأبد! كانت صلتي الباقية بماضي في أصلاب آبائي، وظللت وفياً لعشها كبيضة عقيم أو كفرخ عاجز الجناحين).
هكذا كتبت عنها وكنت أستلمها وأستوحي وجودها. . . وهاهو ذا وجهها يطالعني بعد موتها مغمض العينين ينظر لي من فوق سرير الموت ومن أعماق ظلمات القبر، فأشعر لمفارقتها أن حياتي انشطرت أو أني كغصن غاب عنه جذعه الذي يربطه بالأرض ويمده من إمداد المجهول.
ما هو كفاء رحمة قلبك لي وقلبي لك من الألفاظ يا أماه! أي لفظ وأي فكر يترجم عن السر الذي بيني وبينك! إنه الأمومة والبنوة! إنه كل منابع الرحمة والبر والإخلاص. . . أإلى النسيان والفناء ذلك كله؟ كذبوا يا ذات الفداء والتضحية. . . لقد ورثتماني: أنت وأبي الحياة والإيمان فأديتما واجبكما كاملا غير منقوص:
وكنت مثالا للأمومة الفطرية المعقولة الملهمة التي لا تفسد ولا تدلل لعطف عكسي. . . ومثالا للعمل الدائب، والشركة الأمينة، والعشرة المنصفة والسهر الدائم على ما استخلفت عليه. . .
لا تأويل عندك يصرفك عن الواجب ويقعدك عنه مهما كانت المشقة فيه.
براءة فطرة وصدق وتصديق وإلهام نافذ لمواقف الخلق السليم. . .
ثقافة شعبية أمية من القرية والمدينة، فيها التجربة والحكمة والمثل، وتتوجها خلاصة من
الروح الديني العميق الفطري وإقبال دائم على الله في جميع الظروف.
كان تأثيرها فيّ تأثير الروح في الروح بالسلوك والصراحة والصرامة في مواضع الجد، أما تأثير أبي فكان تأثير التوجيه الصامت والأدب الحي والقلم الجليل والوجه الوقور.
حين قرأت في أذنها بعد ما فاضت روحها ما حضرني من القرآن والدعاء. . . وحين ألصقت يدي بعد وفاتها بخديها الباردتين اللذين سرت فيهما برودة الموت في منتصف ليلة الوفاة كما كنت أفعل دائماً وهي في الحياة. . .
وحين نزلت قبرها وضرحتها فيه كما كانت الوصاة بجوار قبر أبي، وجلست بين القبرين. . .
وحين أمر بسريرها خالياً من جسدها الذي كان ملء نفسي وفكري. . .
وحين أرى ثيابها يعمرها شبحها، وأتذكرها تمر بالمنزل حجرة حجرة كطيف رحمة. . .
وحين أقرأ مدونة محفوظات أمثالها وحكمها الكثيرة العجيبة التي كانت تستشهد بها كأحسن منطق في منطق العامية المصرية نقلا عن عمتها الحاجة (شركس) الصالحة التي لم تنجب وكان همها العبادة والتوجيه لشابات العائلة.
وحين أرى البقية القليلة من لداوتها وصديقاتها اللائى من طراز كاد يفنى. . .
بل حين أرى عجوزاً مثلها في أي مكان. . .
حين هذا كله شعرت وأشعر أنها خلفت لقلبي ذخيرة قيمة من الحزن الثمين الذين يقتات منه في أزمات القحط الروحي.
عبد المنعم خلاف
العلم والشعر في الوقت الحاضر
بقلم هـ. وادنجتون
كان المستر جيوفري جريجس رئيس تحرير جريدة ذات مكانة عظمى بين الجرائد التي تنشر الشعر الحديث، ومن أشهر من صنف منتخبات شعرية حاول أن يصور بها الحركة الرومنسية التي بلغت أوج ازدهارها في بدء القرن الماضي في زمن وردزورث وكولريدج. ومما يثير دهشة المطلع على هذا الكتاب أن يجد إلى جانب المقتبسات من الشعراء والرسامين بضعة مقتبسات من مؤلفات كبار رجال العلم في ذلك العصر، مثل السير همفري دافي؛ ولكن المطلع لا يلبث أن يدرك أن جريجسن محق في عمله هذا. ذلك أن الحركة الرومانسية في أوجها كان لها تأثير شامل تخلل كل شيء حتى إنه ليمكن لمح أثرها في رجال العلم أنفسهم، أو على الأقل حين يقل خضوعهم للنزعة العلمية المدققة المتشددة. وأنا أريد في مقالي هذا أن أقرر أن القضية قد انعكست في يومنا هذا: أن العلم هو الآن صاحب النفوذ الأعظم والسيطرة الغالبة على تفكيرنا وأنه يصبغ الشعر العصري بصبغة خاصة متميزة.
ولعله يجدر. بي أن أقرر من البداية بكل وضوح أنني لست أدعي أنه كلما ازدادت المسحة العلمية للشعر كان الشعر أجود. فان أهم واجب على الشاعر هو أن يكون شاعرا جيدا، أما كونه شديد الحساسية بالشعور الغالب في عصره فهذا أمر ثانوي وإن لم يعن ذلك أنه أمر غير ذي بال. فالواقع أنه من السهل على الأديب أن يكون (عصريا) إلى حد يجعل من المستبعد خلوده؛ فالشعر المبالغ في العلمية في يومنا هذا من الراجح أنه سينسى سريعا كما نسي الشعر المبالغ في الرومانسية من مائة عام خلت. فأما ما أدعيه فهو أن معظم الشعراء اليوم سواء منهم الرديئون والمجيدون يطلعوننا في شعرهم على وجهة نظر تخلف وجهة العصور السابقة، يحق للمرء أن يعتبرها شديدة التأثر بالعلم. وفي زمان عمت فيه الفوضى والانحلال مثل العشرين عاما الأخيرة لا شك أن المرء يتمنى أن يلمح أية علامة تنبئ باقتران الفن والعلم، تينك الحركتين العظيمتين من حركات النشاط الإنساني، وأنه يشجع مثل هذه العلامة حين يتوسمها.
من السهل بطبيعته الحال العثور على أمثلة للأخيلة العلمية يستعملها الشعراء المحدثون.
وأحيانا - وإن لم يكن ذلك دائما - تكون المادة العلمية قد نسجت نسجا بارعا في فكرة القصيدة كلها، ومثل ذلك التشبيه المشهور لاليوت
(حين يتمدد المساء على صفحة السماء كمريض خدر ومدد على منضدة).
ولكن هذه التأثيرات للعلم تافهة نسبيا. فليس يهم كون لغة الشعر وخياله علميين أو غير علميين، بل أهم من هذا بكثير أن نتساءل ماذا يفكر الشعراء وماذا يحسون عن العالم. ولكن على المرء هنا أن يحذر ويحتاط: فالشعراء لا يدلون دائما بتقرير جلي عن موقفهم من العلم حين يُعَنْوَنُ علماً، بل هم يعبرون عن موقفهم من مختلف حركات النشاط في العالم اليوم، وقبل أن نقرر ما موقفهم من العلم، يلزمنا أن نقرر ما هو الشيء الذي نعتبره اليوم علما.
تلك مسألة خطيرة. فالواقع أن مفهوم العلم قد طرأ عليه تبدل سريع. كان يتصور أنه في المحل الأول دراسة عارضة تحليلية للعالم، ولكنه مع ذلك شيء ليس يحاول تفسير الأشياء فحسب، بل يحاول أيضاً تأويلها (أي تفسيرها بتفسير يلغيها). وهكذا قابل الشعراء بحماسة وترحيب الانتصارات الأولى للعلم التحليلي. فأليك بيتي بوب المشهورين:
(ظلت الطبيعة وقوانينها محجوبة في ظلام الليل، حتى قال الله: ليكن نيوتن، فانقلب الكل نورا!)
ولكن ما جاءت الحرب الماضية حتى كانت تلك الحماسة قد تبخرت. فوجدنا ييتس يصف موقف العقل وصفا صريحا جليا بأنه:
(عقل يدك كل شيء دكا، حقود ذو ضغن ومرارة، منطقي صارم، ما حدث قط أنه أطل من عيني قديس، ولا من عيني سكير).
وهذا الاحتجاج ضد غطرسة الذهن، ضد محاولة الاستعاضة عن الحياة وخضمها الغزير الغني بفروض وتصورات تجريدية، هو من أهم التقريرات الشعرية وأعمها في الوقت الحاضر. فالشعراء يكادون يجمعون على أن هذا الموقف المادي الآلي المغرور بنفسه هو المسئول عن انهيار حضارتنا انهيارا مدمرا يرونه جميعا رأي العين.
فحين بدأ أودن إحدى قصائده بهذا البيت:
(هرباً من المنفذين المخبولين المحلوقي الشعر).
واضح أنه كان يعني أنه يفضل الشعراء المتهدلي الشعر على الخبراء المتحذلقين الوقورين المتأنقي الهندام. وهذا الاحتجاج - كما كان منتظرا - قد عبر عنه تعبيرا بالغ القسوة في بعض القصائد التي كتبت بعد أن كشفت هذه الحرب القناع عن فظائع العالم الحاضر بكامل بشاعتها. فأليك قصيدة داي لويس المسماة (تقرير):
(الآن في مواجهة التدمير، في مواجهة المرأة مزقت إربا فلم يعد يستبان لها هيئة، مزقها الزجاج المتطاير، والطائرة المقاتلة تدور كأنما أصابها الدوخة والدوار.
حول محور الطيار المسجون فيها والجماهير المحتشدة تصفق، والمجاعة تنشب مخالبها منذرة بالموت، وإعلانات الألم القتال تلطخ عناوين الصحف ولوحات الحيطان، في مواجهة الوليد مات حرقا وقارب السفينة المحطمة تتلاطمه الأمواج الشامخة.
بينما تتخبط المجاديف بضعف كالخنفساء المقلوبة على ظهرها، الآن، أكثر من أي زمان مضى، حين يبدو الإنسان وكأنه ولد ليؤذي وكأن العالم المتلوي ألما جميعه لا يتسع لرغبته الشريرة، الآن حان لنا أن نقرر أن الناس هم الحب، نقرر ذلك في وجههم).
حقا إنه لا يجرؤ أحد أن ينكر أن هذا الشيء الوحشي الذي يحتج ضده الشعراء له علاقة ما بالعلم. ولكن من المؤكد أنه ليس المعنى الحق لكلمة (العلم). بل هو نوع من العلم الكاذب. هو موقف عقلي قبل بضعة من الافتراضات العلمية الأولى وسلم بها كأنها مبادئ يمكن استنباط الوجود بأجمعه منها ولذلك كان يسارع برفض كل ما تراءى تطبيقه مستحيلا على معياره الجاهز. ولكن هذا العمل هو أشد شيء بعدا عن العلم. فالعلم ليس طاقما من العقائد. حقا إن للعلم في كل زمن عددا معينا من الافتراضات يستطيع بها تفسير ما يحدث في العلم. ولكن إذا شرع رجل العلم يظن أن نظرياته تستطيع تفسير كل شيء، كان لزاما عليه أن يعلن إفلاسه العلمي، إذا لم يعد يبقى له شيء يقوم به. أما إذا أراد أن يستمر في الميدان العالمي فإنه يجب عليه أن يكون على استعداد للتسليم بأن هناك ظواهر لم يبلغها بحثه بعد، ومشاكل ليس يستطيع حلها بعد. لم يكن رجل العلم، بل كان (المنفذ المخبول المحلوق الشعر) الذي وصفه أودن، هو الذي قرأ نتفا من العلم البدائي، ثم حسب أنه قد ظفر بجميع الإجابات على جميع الأسئلة. فهو قرأ عن استكشاف داروين لحقيقة تطور الحيوان بواسطة الانتخاب الطبيعي والكفاح على المعيشة، ثم اتخذ هذا عذرا يبرر به أشد المنافسات حدة في
المجتمع البشري، وإن كان لم يسائل نفسه لم يحاول الإنسان أن يعيش كالحيوان.
أما العلم الحقيقي فهو بطبعه أعظم من هذا تواضعا وأكثر تقبلا، وإن كانت النهاية أكبر قوة. فالعقل ذو الموقف العلمي الصحيح يلزمه أن يكون على استعداد للاعتراف بوجود أي شيء يكتشف وهو لا يستطيع أن يرفض الأشياء لمجرد أنها لا تطبق على نظرياته المتحذلقة ولكن لا شك أن موقفه ليس موقفا سلبيا فحسب؛ فهو لا يقتصر على أن يدرك كل ما يمكن إدراكه في العالم بل يبذل أعظم جهده في أن يسيطر على الأشياء ويقبض على عنانها بتفهم الكيفية التي بها تعمل، وهذا مغزى إصراره على ضرورة التجربة والاختبار. ذلك أن المرء يستطيع أن يحصل على ما يبدو كأنه الفهم عن طريق التأمل الفكري المحض. ولكن هذا ليس فهما علميا، إذ أنه لا يؤدي إلى السيطرة على الأشياء التي تأمل فيها تأملا فكريا.
الموقف العلمي متقبل أيضا، ولكنه لا يقتصر على التقبل. هو يحاول ألا يهمل شيئاً، ولكنه إلى جانب ذلك يصر على أنه يجب ألا يقرأ في الشيء أكثر مما يحتويه ذلك الشيء، هو لا يرفض قبول الأشياء، ولكنه يحب أن يحصل عليها خالصة صافية، كما هي في حقيقة ذاتها، لا كرموز تحمل في طياتها خواطر مبهمة حالكة غير متميزة.
من السهل جدا أن يلحظ في كثير من شعراء اليوم تأثرهم بالنزعة العلمية التي تحاول أن تجرد الأشياء عن رموزها وأن تعتبرها كما هي في بساطتها وتنظر إليها بعين جديدة. ولقد وضح (أودن) هذه النقطة خير توضيح، وأودن هو أشد الشعراء المحدثين نزعة علمية واعية فهو يقول:
(الساعة الرملية تهمس إلى مخلب الأسد، وأبراج الساعة تنبئ الحدائق ليلا ونهارا، كم من أخطاء يصبر عليها الزمن، وما أشد خطأها إذ هي دائما مصيبة.
ولكن الزمن، مهما علت دقاته أو ضخمت: ومهما أسرع سيله المنحدر في الانصباب، فما حدث قط أنه ثنى الأسد عن وثبته ولا أنه زعزع ثقة الورد.
فهذه كما يبدو ليست تهتم إلا بالفوز: بينا نحن نتخير الكلمات لمجرد طنينها ونعتبر المسألة بحسب إشكالها وما ربح الزمن إلينا محببا. هل حدث قط أننا لم نفضل الطريق الملتوي على الطريق المستقيم الذي يقودنا مباشرة إلى حيث نحن؟
ونفس هذه النزعة التي تحاول أن تتناول الأشياء كما هي، لا تهمل شيئا، ولا ترى ما ليس يوجد، يمكن أن يلحظ تأثيرها على أغلب الشعراء المحدثين.
لكن نفرا من أحدث الشعراء، ممن أحرزوا مكانة وقدرا في السنوات الأخيرة، لم يقتصروا على ذلك، بل مضوا قدما في سعيهم نحو العلم. فمثلا داي لويس قد نقد كتاباته الفوضى الحالية أشد نقد وأمره، وقام بدور نبي العالم الجديد. وهو قلما حدد بجلاء ما يعتقد أنه أساس العالم الجديد، ولكنه حين يقوم بذلك يصرح باعتقاده أن هذا الأساس سيكون نفس الشيء الذي سمحنا له بأن يصير مصدر اضطرابنا الحالي، يقول:
(كم يكون عجيبا أن يبرز من اضطراب ربوة النمل وتخبطها نظام ملائكي تقوم دعامته على الحب، يستطيع مواجهة الخير والشر كليهما.
كم يكون أعجب من العجب لو أن الشيطان الذي نبعثه لنثأر لحقدنا وحزننا وضعفنا، أخذ بأيدينا كأنه الأمير المنقذ ورفعنا وقال: أنا أصفح).
أليس هذا اعترافا بأن العلم، الذي كثيرا ما وصفه داي لويس بأنه جرثومة عللنا، قد يكون فيه جرثومة خلاصنا أيضا؟
أما أودن فقد عبر عن هذه الفكرة تعبيرا أشد صراحة وجلاء. هذا ولعل أودن هو أعظم شعراء العقد المنصرم شأنا من كل الوجوه. فهو يقرر بجلاء تام أن العالم لن ينجو إلا حين تسيطر المعرفة على الإرادة الجامحة وتخضعها، وحين يحدث ذلك ففي اعتقاده أن كل النواحي المختلفة من طبيعة الإنسان ستنسجم إحداها مع الأخر في إكمال انسجام، قال:
(لابد أن تبكي كل عين على انفراد حتى تخلع (أنا أريد) من عرشها، ولكن من المستطاع طرد (أنا أريد) إذ ليس لها من البصيرة ما يحميها من هجمات (أنا أعرف)؛ بلى من المستطاع طرد (أنا أريد).
حينئذ تلتقي كل أنواع (أنا) وتنمو (إنني أنا) حتى تصير: (أنا أحب) و (أنا محروم) تصير: (أنا محبوب)؛ إذ ذاك تتلاقى كل أنواع (أنا) وتنمو.
حتى تخلع (أنا أريد) من عرشها لا بد أن تبكي كل عين على انفراد).
ولكن أودن لا تقتصر نزعته العلمية الحق على هذا، بل هو أحد الشعراء القلائل الذين يعرفون كنه العلم الحديث، والذين يدركون أنه ليس يقتصر على تتبع الجوهر الفرد في
رحلته العمياء بل يهتم أعظم اهتمام بالطبيعة السيكولوجية والاجتماعية لبني البشر. فأودن يدرك أن مشاكل العصر الأساسية هي مشاكل العلاقة بين الطبيعة البشرية وبي العالم المادي. هي مشاكل سيكولوجية واجتماعية من ناحية، وطبيعية وكيمياوية واصطلاحية من ناحية أخرى. هو في أحدث كتاب له، (رسالة العالم الجديد) يتناول بالبحث هذه المشاكل في قصيدة مذيلة بتعليقات كثيرة تحيل القارئ إلى كتابات كثير من رجال العلم بفروعه المتعددة. وتحليله النهائي للموقف مفرغ في قالب عبارات مستمدة من علم النفس الحديث مباشرة. وهو يقرر أن مشاكلنا راجعة في جوهرها إلى أن شخصيتنا (وهي القسم الذي يسميه علماء النفس الذات)، حين تبلغ المستوى الثقافي الأعلى، تشعر بعزلتها وتنسى الوشائج الاجتماعية التي تربطها بسائر الجنس البشري يقول:
(في الطبقات العليا من الذات، وفي قمم الخوف الشامخة تكون ذرات الخطأ العاصفة التي تهلك الراعي، ونكبتنا السياسية تهبط من شدة شعورها بذاتها).
ثم يسترسل فيقرر أن هذا الشعور بالوحدة لا مناص منه في الوقت الحاضر، فالانقلاب الاصطلاحي قد هدم قوالب المجتمع التقليدي التي كانت تجعل الناس يشعرون بأن لهم في المجموع الكلي مكانا وأنهم منه جزء قال:
(مهما صممنا على أن نتصرف فان تصميمنا لا بد أن يسلم بهذه الحقيقة: إن الآلة قد حطمت اليوم التقاليد المحلية التي كنا نستمتع بها، وإنها قد أحلت محل روابط الدم والملة رابطة الفرد بذاته، وأرغمت الجميع على أن يعترفوا بأن الوحدة هي طبيعة الإنسان الحق).
ولكنه يسترسل فيقرر أن هذا لا يجعل من المستحيل تكوين نظام اجتماعي جديد. بل هو يقول:
(كل اتحاد حق فهو إنما يبدأ بالشعور بالاختلاف، فللكل حاجات يريدون تقضيتها، ولدى كل فرد قوة يتطوع بها).
فهو يفسر هذه المفارقة: بأنه حين يدرك الإنسان أنه في وحدة بنفسه فحينذاك فقط يستطيع فهم الرابطة الحقة التي تربطه بسائر الناس، وهي أن كلا يشارك الآخرين في الشعور بالعزلة. وأما الوسيلة التي يقترحها للوصول إلى هذا الإدراك، أو للتقدم من الشعور بالعزلة
إلى إدراك الاتحاد، فهي (الاعتراف المطلق بخطايانا). وهذا يشبه أشد الشبه الطريقة التي يستعملها رجال التحليل السيكولوجي للتغلب على العزلة العاطفية للذات وللتوفيق بينها وبين الأقسام الأخرى من الشخصية. والراجح أن أودن - كما يتضح من الحجج التي يقتبسها في تعليقاته على القصيدة - كان يدرك تمام الإدراك مقدار التشابه بين نصيحة والنصيحة التي يدلي بها العلم، بل هو حين يختتم علاجه للمسألة، ويبتهل إلى الروح التي يأمل منها خلاص الإنسان، يستعمل كلمة (العلم)، كوصف لها. فهو يخاطبها قائلا:
(أيتها المخلوقة الخرافية المختفية في أشجار الأرز، والتي لا توصلنا إليها أية رقية سحرية، الطفولة البيضاء تمضي كالآلهة المتنهدة في خلال الأجمات المخضرة لا تؤذيها براءتك اللعوب، لكي تستثير محبوبك الصادق لينسجم معها يا حمامة العلم والنور).
(عن مجلة وورلد ريفيو)
هـ. وادنجتون
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 10 -
جعله العرف قاعدة وأساساً للتشريع
من مزايا الشريعة الإسلامية ومحاسنها أنها جعلت العرف أساساً من أسس التشريع إذا لم يخالف
نصاً صريحاً - على ما سنبين - حتى جعل الفقهاء الإسلاميون العرف والعادة قاعدة من قواعدهم، بنوا عليها كثيراً من أحكام الفروع الفقهية، وجرت على ألسنتهم في عبارات مختلفة لفظاً، متقاربة مآلا ومعنى، فقالوا:(العادة مُحَكَّمة، والمعروف كالمشروط، والمعروف عرفا كالمشروط شرطاً)، وفي المبسوط (الثابت بالمعروف كالثابت بالنص)، وفي الجزء الثاني من رد المختار للعلامة ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار
…
لذا عليه الحكم قد يُدار
وفي الجزء الخامس منه في مبحث تحديد سن البلوغ للغلام والجارية: (العادة إحدى الحجج الشرعية فيما لا نص فيه)،
وإنما تعتبر العادة والعرف مرجعاً تبنى عليه الأحكام بشروط ثلاثة:
الأول - ألا يخالف العرف نصاً صريحاً.
الثاني - أن يكون العرف عاماً، فالحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، كتعارف أهل بلد واحد، أو تعارف خواص أهل جهة دون عامتها، فإن التعارف لا يثبت بهذا القدر، وقيل يثبت به، ولكن المعول عليه عدم اعتبار العرف الخاص، وإن أفتى بعضهم باعتباره.
الثالث - إذا اطردت العادة وغلبت.
ولكثرة الفروع والأحكام التي بنيت على تلك القاعدة - نجتزئ بذكر الأمثلة:
1 -
ألفاظ الواقفين نبتني على عرفهم، وكذا لفظ الناذر والحالف.
2 -
قال بعض الفقهاء في حد الماء الجاري: هو ما يعده العرف جاريا.
3 -
وقالوا في الحيض والنفاس إذا زاد الدم على أكثر مدة الحيض أو النفاس - ترد المرأة
إلى أيام عدتها.
4 -
وأجازوا استئجار الظئر بطعامها وكسوتها على المستأجر وإن كان مجهولا للعرف.
5 -
ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه أهل المدينة في الدعاوى، فقد جعلوها على ثلاث مراتب:
الأولى - دعوى يشهد لها العرف بأنها تشبه أن تكون حقاً، وهذه تسمع من مدعيها، وله إقامة البينة، أو استحلاف المدعى عليه:
الثانية - ما يشهد العرف بأنها لا تشبه ذلك، وإلا أنه لا يقتضي بكذبها - كما إذا ادعى شخص على رجل ولا معرفة بينهما البتة، وأنه أقرضه أو باعه شيئاً بثمن في ذمته إلى أجل - فهذه الدعوى تسمع، ولمدعيها أن يقيم البينة، ولكنهم قالوا إنه لا يملك استحلاف المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبين المدعى عليه.
الثالثة - دعوى يقضي العرف بكذبها، فلا تسمع، ولهذه أمثلة كثيرة، منها أن تأتي المرأة بعد سنين متطاولة، تدعي على زوجها أنه لم يكسها في شتاء ولا صيف، ولا أنفق عليها شيئاً فهذه الدعوى لا تسمع، لتكذيب العرف العادة بها، ولا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، وكان الزوج موسراً
6 -
يقبل قول الوصي فيما ينفقه على اليتيم إذا ادعى ما يقتضيه العرف، فإذا ادعى أكثر من ذلك لم يقبل قوله.
7 -
قال أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة يحكم ببلوغ الغلام والجارية إذا بلغا خمس عشرة سنة - عند عدم ظهور إمارات البلوغ - وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعللوا ذلك بأنه العادة الغالبة على أهل زمانهم.
والأصل في وضع هذا الأساس وتقرير تلك القاعدة قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)؛ قال العلائي لم أجده مرفوعاً، وإنما هو من قول عبد الله ابن مسعود، فقد روى عنه الإمام أحمد وغيره:(إن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد خير قلوب العباد، فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعده، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح)، وقال شهاب الدين القافي: إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقه بانتقالها، ومن جهل المفتي جموده على المنصوص في
الكتب غير ملتفت إلى تغيير العرف.
هذا وإنك لتدهش حقاً حينما تطلع على كثرة المسائل الفقهية، والأحكام التشريعية التي بناها علماء التشريع الإسلامي على العرف والعادة، إذ اعتبروهما أساساً من أسس التشريع بالشروط التي أسلفناها، ولكن لا يلبث دهشك أن يزول إذا علمت أن القانون الصالح هو الذي تراعى فيه أحوال الأمة الاجتماعية والاقتصادية، وعاداتها العامة، على ألا يكون في ذلك إقرار مفسدة، أو تعطيل مصلحة، ومن جهة أخرى، فان النزع من العادة الظاهرة، وإقصاء الناس عن العرف العام - في غير حاجة ولا ضرورة - فيه حرج لهم، ولا شك أن أصلح الشرائع، وأجدرها بالبقاء ما روعي فيها اليسر، وانتفى منها الحرج والعسر، وذلك ما تحقق في شريعة الإسلام.
(يتبع)
حسن أحمد الخطيب
في الأدب الإنكليزي
ماثيو أرنولد
بقلم الأستاذ خيري حماد
- 3 -
وقد كتب عنه فتش قائلا (لقد نظر نحو المجتمع الإنكليزي فرأى الأغنياء يسعون في جمع المادة وكنزها فيقومون بمختلف الأعمال للحصول على هذه الأمنية ورأى الطبقة المتوسطة تتدانى فتصبح مبتذلة محتقرة، والطبقة العامة تنحط فتصبح بمستوى الوحوش والحيوانات).
وكانت الطبقة الوسطى موضع حملاته ومسقط إهانته وازدرائه وقد أطلق عليهم الفلسطينيين خفضاً من شأنهم وإنزالا من أمرهم. وقد وصفهم:
(هم محصورو التفكير، تطغي عليهم روح التحامل والتفرض فيهملون أمور الدين والعقائد ويتمسكون بأفكار تدل على صغر عقولهم وضآلة قوة التمييز فيهم. فلا يستهويهم الجمال بذلك الشعور القوي المندفع؛ بل يحسون احساسات خالية من المنطق وحسن التمييز. أخلاقهم منحطة وعواطفهم مبتذلة).
ولم تكن هذه الأفكار صادرة عن قلة اختبار أو عدم حنكة؛ كان مبعثها التجربة فلقد اختط أرنولد لنفسه خطة جعلته يختلط بهذه الطبقة ويمتزج بها امتزاجاً ساعده على تفهم عقليتها. فالفلسفتين في رأيه هو ذلك الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم الآداب ولا يستسيغها ذوقه فهو يتظاهر باطلاعه على معظم الأمور بينما هو في الحقيقة على جانب عظيم من الجهل لا يشغله إلا حضور حفلات الشاي وسمر الأصدقاء والخلان.
إن هذا التحليل الفلسفي الذي نراه في كتابات أرنولد لأخلاق شعبه لعلى جانب عظيم من الصحة والصدق، ولكن هذه الدراسة وهذا التحليل لم يكونا في يوم ما تامين؛ فهو لم يفهم حقيقة الطبقة الوسطى وأهميتها في المجتمع البشري، ناهيك عن جهله لديانتهم وعقائدهم، فقد نسي أو تناسى أنهم مصدر الحياة وينبوع في النشاط في كيان الأمة، فدولاب الأعمال في أيديهم وحركة التجارة والصناعة لا تخرج عن دائرتهم.
كان أرنولد يمقت لقب البروفسور ولقب الفيلسوف ولكنه في الحقيقة كان فيلسوفاً بأتم ما يقدمه هذا الاسم من معان وصفات. وهذه الفلسفة التي نراها في مؤلفاته هي فلسفة ابتداعية ابتكرها من نفسه ولم ينقلها عن سابقيه كبار الفلاسفة أمثال ابيقور وسقراط وغيرهما؛ فقد أحب دراسة تاريخ الأديان، واطلع على أسس الديانة المسيحية وعقائد اليهودية الجديدة وحاول أن يمزج هذه العقائد ببعضها فيخرج لشعبه فلسفة دينية جديدة ويكون لهم فكراً حديثاً عن حقيقة الأديان وغاياتها.
وفي كتابه: (الثقافة والفوضى) نرى عقائده الفلسفية ظاهرة تمام الظهور ونظامه الفلسفي واضحاً أتم الوضوح؛ فالثقافة في رأيه هي التطور في سبيل الكمال، وتفهم كل ما يحيط بنا من حقائق وظواهر طبيعية وغير طبيعية مما يؤثر في كياننا الشخصي والعلمي. وما هي في الحقيقة إلا الإطلاع على أحسن ما فكر به العلماء والعقلاء من رجالات الأمم ونابهي أمرها. وفي هذا الكتاب نراها يسجل عقيدته المحبوبة التي أطلق عليها لقب (العذوبة والضوء)
وقد اقتبس أرنولد هذا التعبير من الكتاب الشهير جوناثان سوفت ولكنه اختلف عن سوفت بكونه عني به شيئاً يخالف تمام المخالفة ما عناه سوفت من قبل، فقد جعله اسماً لشيء أرقى وأسمى بكثير مما عناه سآلفه. فالثقافة تشمل نوعين يكمل أحدهما الآخر وهما المعرفة والطبع. وما النتيجة المتوخاة منهما إلا إنفاذ أمر الله وتحقيق إرادته مصحوبين بتحكيم العقل، وسعة الإدراك.
وكان للثقافة في رأيه أوجه عدة، فلم تكن لتختصر في الإحساس العلمي بل تتعداه إلى الميل الغريزي نحو العمل والمساعدة والسعي إلى ما فيه الخير العام. وكل هذه الأوجه مفيد ونافع من حيث أنه ينطوي على الرغبة في إزالة الهفوات البشرية وفي تنقية صفحة المجتمع بإزالة آثار التعاسة والبؤس منه. وما هي في الحقيقة إلا السعي في ترك العالم ومغادرته أكثر سعادة وأعظم شأناً من الحالة التي وجدناه فيها عند بداءة أمرنا.
ولم تكن الثقافة في نظره يوماً ما وليدة حب الاستطلاع والفضول بل حب الكمال وعدم النقصان. فما هي إلا دراسة الفرد لأحوال مجتمعه، ومحاولة سد كل نقص يجد، وفيه تندفع في طريقها تحفزها المعرفة ويقودها الشعور الأخلاقي الاجتماعي للسعي إلى ما فيه خير
الناس والإنسانية.
ومعظم أفكاره الفلسفية تتلخص في الفقرة التالية التي كتبها (الثقافة تتطلع إلى مرمى أبعد مما يتطلع إليه الإنسان العادي. فهي تكره الحقد ويدفعها شعور عظيم واحد هو شعور الجمال والضياء. وهنالك دافع أشد من هذا وأقوى، هو تنفيذهما وإحداث أثر ظاهر في الكيان الإنساني. وهي لا تنفك دائبة على العمل حتى ننتهي من إصلاح أنفسنا وتكيفها بشكل تام كامل. وإن تطور بعض الناس الأخلاقي الناتج عن تأثير (العذوبة والضياء) لغير كاف ما لم يسد هذا الشعور جميع طبقات المجتمع فيحدث الأثر المتوخي والنتيجة المقصودة).
ونرى أرنولد دائم الحض للناس على العمل لإظهار الأفكار الحقيقية والجمال الطبيعي، والعذوبة الغريزية والضوء الفطري. وأن من الواجب على الأفراد المستنيرين تغذية عقول الشعب وتثقيفهم الثقافة الضرورية. وما عظام الرجال في رأيه إلا أولئك الذين يستطيعون توزيع المعرفة والأفكار السامية على عقول أبناء جلدتهم وبني وطنهم من شتى الطبقات ومختلف الرتب والمناصب والذين جربوا بكل قواهم أن يرهف والثقافة الخشنة الصعبة المراس فيجعلوا منها أداة سامية، أداة عاملة لرفع مستوى التفكير والمعرفة الإنسانيين، ولخلق (العذوبة والضوء) اللذين يتوخاهما العالم ويحتاج إليهما.
لقد حاولنا في الفقرات السالفة أن نجمع بعض الأفكار التي أدرجها أرنولد في مؤلفاته ونحللها تحليلا فلسفياً معقولاً. ولقد يتراءى لنا أن فلسفته كلها تنحصر في هذه العقائد التي ذكرتها مع أنها في الحقيقة تكون قسما أعظم وأكثر اتساعا. وقد فضلت أن أبحث في فلسفته الدينية بحثاً خاصاً، فأرجأت تحليلها إلى الصفحات التالية.
(يتبع)
خيري حماد
رأي جديد في:
حماد الراوية
للأستاذ السيد يعقوب بكر
- 6 -
(تتمة)
وأما قصة حماد مع الطرماح بن حكيم، فقد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة. فنحن لا نملك تصديقها أو تكذيبها. ولكننا نضع بين يدي القارئ ما يقوله الجاحظ (البيان والتبيين، ج1 ص54) في الطرماح بن حكيم: (ولم ير الناس أعجب حالا من الكميت عدنانياً عصبياً، وكان الطرماح قحطانياً عصبياً. . . وكان الكميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطرماح لأهل الشام. . .). ومعنى ما يقوله الجاحظ أن الطرماح كان يتعصب على أهل الكوفة وكان حماد كوفيّاً.
وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُردة وذي الرمّة فلا تنصّ على أن حماداً ادعى الشعر لنفسه، وهو الشعر الذي مدح به بلال بل إنها تذكر أن حماداً نسبه إلى بعض شعراء الجاهلية. وهو شعر لا يرويه غير حماد، وكان يستطيع نسبته إلى نفسه لو أراد. وليس بغريب أن يمدح حماد بلال بن أبي بردة بشعر لم يقله
وأما قصة حماد مع بلال بن أبي بُرْدة حين أنشده قصيدة الحطيئة، فقد لا تدل على انتحال حماد. ويؤيد هذا ما يقوله صاحب الأغاني معقباً على هذه القصة (ج 2 ص51):(وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشاً للغزو. . فوصله أبو موسى، فكتب إليه عمر رضي الله عنه يلومه على ذلك، فكتب إليه: إني اشتريت عرضي منه بها، فكتب إليه عمر: إن كان هذا هكذا وإنما فديت عرضك من لسانه ولم تعطه للمدح والفخر، فقد أحسنت). ونجد كلاماً قريباً من هذا في الأغاني أيضاً (ج 11ص 29). هذا إلى أنه لا يصح من مثل بلال بن أبي بردة ما تنسبه إليه القصة من أنه قال: ولكن دعها تذهب في الناس؛ فهو حفيد أبي موسى الأشعري، وهو قاض وأمير. يقول الجاحظ في البيان والتبيين (ج1 ص238): (وولى منبر البصرة أربعة
من القضاة، فكانوا قضاء أمراء: بلال. وسوار، وعبيد الله، وأحمد بن رباح. وكان بلال قاضياً بن قاض بن قاض، وقال رؤية:
فأنت يا ابن القاضيين قاض
…
معتزم على الطريق ماض
وأخيراً نصل إلى الخبرين اللذين يوردهما السيوطي في المزهر. وأول هذين الخبرين ما يرويه أبو عمرو بن سعيد بن وهب الثقفي من أنه سأل حماد أن يملي علية قصيدة لأخواله بني سعد بن مالك، فأملى عليه حماد شعراً نسبه إلى طرفة وهو لأعشى همدان. والخبر الثاني ما يرويه سعيد بن هريم البرجمي عمن يثق به من أن أعرابياً أنشد حماداً قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي، فاختلفت الأقوال في قائلها، فقال حماد: اجعلوها لطرفة. وكلا الخبرين في المزهر وحده، لم نقف
عليه في كتاب آخر. هذا إلى أن السيوطي متأخر. وفي هذا كله تجريح لكلا الخبرين. وقد يبدو لنا الخبر الأول صحيحاً حين نعلم أن حماداً بكريّ الولاء، وأن طرفة شاعر بكريّ، وأن حماداً لهذا قد ينسب إليه ما لم يقله. ولكننا نعود فنسأل: ماذا حدا بأبي عمرو بن سعيد، وخؤولته في بني سعد ابن مالك المتحدرين من بكر بن وائل، إلى أن يفضح أمر حماد صديقه وشريكه في هوى بكر، وإلى ألا يسكت عليه حين ينسب شعراً إلى طرفة، وهو بكري، بل من بني سعد بن مالك؟ ثم إننا نعود فنسأل أيضاً: كيف ينسب حماد إلى طرفة شعراً يعرف أبو عمرو بن سعيد وغير أبي عمرو بن سعيد أنه لأعشى همدان؟ وهل هذه هي حال حماد، الذي كان يخفي انتحاله، فيما يقول المفضل الضبي إلا على العالم الناقد؟
وأما الخبر الثاني فقد يبدو صحيحا أيضاً؛ لأن حماداً، وهو بكري الهوى؛ نسب ما رواه الأعرابي إلى طرفة دون غيره وهو شاعر بكري. ولكننا نقول إن سعيد بن هريم البرجمي لم يصرح باسم من حدثه هذا الحديث، وفي هذا تجريح لروايته. ونقول أيضاً إن سياق القصة يوحي بأن القوم كانوا مختلفين فيمن يمكن أن يقول هذا الشعر من الشعراء الجاهليين، وأن حمادا حين جعل الشعر لطرفة كان يرى أن هذا الشعر يتفق ومذهب طرفة. فالقصة إذن، إذ صحت، لا تدل على انتحال حماد أصلا، ولكن تدل على نوع من التحقيق كان يقوم به حماد ومن معه، نوع من التحقيق يتناول مذاهب الشعراء الأقدمين وأساليبهم في صوغ الشعر لينتهي من ذلك إلى نسبة ما رواه الأعرابي إلى من قد يصح
صدوره عنه.
3 -
تمحيص رواية ابن عبد ربه
يذكر ابن عبد ربه أن حماداً كان يقول: ما من شاعر إلا قد حققت في شعره أبياتاً فجازت عنه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قط غير بيت وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
…
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وأقول: هذه رواية لم ترد إلا في كتاب ابن عبد ربه؛ وما كان أجدرها، إن كانت صحيحة، أن ترد في غيره من الكتب، ولا سيما كتب المشارق. ثم أقول: وهناك رواية أخرى تقول إن أبا عمرو بن العلاء هو الذي وضع ذلك البيت على الأعشى، وإن شهد على نفسه بذلك. فهنا إذن روايتان، تعارض كل منهما الأخرى.
فقد محصنا إذن تلك الأقوال والأخبار التي توردها كتب القدماء في صدد انتحال حماد، وانتهينا إلى أنها تقوم دليلا على أن حماداً كان بالغ الانتحال وكنا قدمنا لهذا التمحيص بأدلة عقلية ونقلية توحي بأن حماداً لم يكن بالغ الانتحال كذلك. وهكذا يكون قد استقام لنا التدليل على رأينا في انتحال حماد، من أنه لم يبلغ ذلك المدى الذي تصفه لنا كتب القدماء؛ ومن أن ما صح منه كان صدى لحال الرواية في عصر حماد واستجابة لنوازعها، فإن حماداً لم يكن مشغوفاً بالانتحال عاكفاً عليه جاعلا له همه وقصده.
6 -
ما سر التحامل على حماد:
قدمنا في صدد الكلام عن حياة حماد أنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً. ونقول هنا إن هذا بعض ما دعا القدماء إلى الشك في روايته، وإلى اتهامه بالانتحال. يقول السيوطي في المزهر (ج 1ص19):(ويؤخذ من هذا أن العربي الذي يحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة، بخلاف راوي الأشعار واللغات). ومعنى هذا أن راوي الأشعار واللغات يجب أن يكون عدلاً، وإلا رفضت روايته. وحماد لم يكن عدلاً، لأنه كان ماجناً فاسقاً مستهتراً.
وأما تحامل المعاصرين له عليه، وطعنهم في روايته، فهما مظهر من مظاهر الحسد والغيرة. فقد كان كثير الرواية، بل كان أحفظ الجميع، وكان لا يسأل عن شيء إلا عرفه. فلم يجد معاصروه مطعنا في روايته من نقص وقصور، ولم يمكنهم اتهامه بقلة الرواية؛
فزعموا أن روايته غير صحيحة. وأنا أحب أن أنبه إلى أن هذه حال المتعاصرين من العلماء في كل الأزمان والأقطار. والشواهد على هذا كثيرة في أيامنا هذه. فقد ينفس الناس على أديب عبقريته، فيرمونه بالكفر والمروق، وقد ينفسون على كاتب إنتاجه الكثير، فيزعمون أنه إنما ينقل عن الغربيين. هذا وذاك نسمعه في عصرنا هذا، وهو عصر مثل باقي العصور، حاله حالها وناسه ناسها. واستمعْ إلى السيوطي وهو يقول (ج 2ص204):(وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه (الكلام عن الأصمعي) كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيّد). فهذه حال أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي، وهي حال ككل الأحوال، لها نظائر في كل العصور.
7 -
خاتمة
هذه هو حماد كما طالعنا به البحث الطويل، وهذا هو رأيي فيه وفي روايته. وهو دون ريب من اعظم رجال الرواية العربية، ولا سيما رواية الشعر. ولئن كان قد طال الطعن عليه وعلى روايته، فقد آن لنا أن نحييه ونحيّي روايته.
ولكني لا أترك القلم قبل أن أهدي هذا البحث إلى أستاذي الجليل الدكتور طه حسين بك، وقبل أن أسأله رأيه في مقدماته ونتائجه. وأنا أرجو أن يكون رأيه فيّ حسناً؟ إني إذاً لسعيدُ.
السيد يعقوب بكر
5 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
الشعوبية والمجوسية - المجوسية وأطوارها بالإجمال -
زرادشت وماني ومزدك - انتشار المذاهب قبل الإسلام وبعده
إلى عهد المهدي.
بينا فيما تقدم بعض أسباب الشعوبية التي كانت تدفع الفرس إلى كره العرب والسعي إلى أطراح حكمهم ودينهم، وأشرنا إلى بعض مظاهر هذه الشعوبية ومنها كثرة انتفاضات الفرس على العرب طلباً للاستقلال ببلادهم ودينهم ونظمهم مما يدعونا إلى أن نسمي الحروب التي جرت بين الفريقين من جراء هذه الانتفاضات حروباً استقلالية، لأن الاستقلال هو الهدف الذي كان يرمي إليه الفرس من جراء هذه الانتفاضات، وأشرنا إلى بعض ما كان من سعي الفرس بطريق غير طريق القوة المباشر لكيد العرب وهدم سلطانهم السياسي والديني، ومن ذلك محافظتهم على كل ما هو فارسي يصلح للفخر على العرب به عند المفاخرة.
ولم يكن همنا في ذلك كله أن نفصل الكلام في الشعوبية وأسبابها ونتائجها جميعا بل الكشف عن العلاقة بين الشعوبية وبعض مظاهرها حتى لا تكن الزندقة التي نعتقد أنها أحد هذه المظاهر بدعة غريبة عن الشيوعية، ولم نقل ما قلناه آنفاً من الكلام في مظاهرها إلا لبيان أن الزندقة ليست المظهر الوحيد لها بل هي أحد مظاهرها، فكما حاول الفرس كيد العرب بكل الوسائل التي أشرنا إليها، والتي حال ضيق المقام عن الإشارة المفصلة إليها قبل - كذلك حافظوا على ديانتهم القديمة (المجوسية) ولهذه المحافظة أسباب: منها أنها أرض لنفوسهم من المحافظة على كثير من مفاخر فارس القديمة التي فاخروا بها العرب، وأرضى لعقولهم لأن ديانتهم أقرب إليها من الإسلام، فإن المجوسية قد نبتت في البيئة التي نبتوا فيها فهي منهم ولمهم، أما الإسلام فإنه بالرغم من أنه دين عام جاء للعرب والفرس وغيرهم - لم تستطيع عقولهم أن تألفه كما ألفت المجوسية. ومن هذه الأسباب أن
المجوسية كانت صلة قوية من الصلات التي تقفهم كتلة واحدة أمام السيل العربي المتدفق على بلادهم والذي قضى على استقلالهم ومملكتهم ونظمهم، وجاء بدين يحاول هدم عقائدهم. ومنها أن المجوسية سلاح خفي فالمحافظة عليها محافظة على سلاح أفتك بالإسلام والعرب وسلطانهم من كثير من الأسلحة التي جربوها فنجحوا حيناً وفشلوا أحياناً، ولم يكن خافياً على دهاتهم ورؤسائهم أثر هذه الديانة من حيث هي صلة قوية بين الفرس ولا من حيث هي سلاح.
ولم يكن من الممكن أن تمحي هذه العقيدة من قلوب معتنقيها وعقولهم وهي منهم بمجرد إكراههم على تركها، بل لم يكن ذلك ممكناً حتى لمن دخلوا في الإسلام مخلصين له لآن النفس البشرية بحكم تكوينها تأبى أن يمحى منها عقيدة محواً تاماً لتحل محلها أخرى حلولا تاماً كما هي عليه في صورتها الأولى، بل المجرب والمشاهد والمستطاع أن تتقارب العقيدتان وتتداخلا على حساب كل منهما حتى تنسجما في النفس البشرية بعض الانسجام وهذا مع الإخلاص وعلى أفضل حل مستطاع. والأكثر ألا تتغير من العقيدة القديمة إلا العناوين فتبقى كما هي، ولا يدخل في النفس من العقيدة الجديدة شيء بالرغم من التمسك بعناوينها في الظاهر. وإذن فكيف بمن دخلوا في الإسلام خوفاً أو طمعاً بل كيف بمن استطاعوا أن يؤدوا الجزية للفاتحين مع البقاء على دينهم؟ ذلك لأن المجوس حين فتح فارس اعتبروا كأنهم أهل كتاب، وإن لم يكونوا من الكتابيين: اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل - وهؤلاء الكتابيون هم الذين نص القرآن على أخذ الجزية منهم إذا أرادوا البقاء على دينهم، ومع ذلك فقد سن القواد الذين فتحوا بلادهم سنة أهل الكتاب بهم حسب رأى الخليفة لأن كتابهم الذي سنذكره بعد قليل - وإن يكن غير منزل من السماء كما رأى المسلمون - يشبه الكتب السماوية، ومن أجل ذلك فرضت الجزية على من شاء البقاء على مجوسيته واستطاع دفعها أو أعفى منها لسبب من أسباب الإعفاء. فكانت هذه المعاملة من أسباب بقاء المجوسية يضاف إلى عوامل بقائها التي أشرنا إليها من قبل.
وقد بقيت مذاهب المجوسية التي سنتكلم فيها بعد قليل قائمة بعد الفتح الإسلامي لفارس زمناً طويلا، فكانت بيوت النيران التي يعظمها المجوس تتقد فيها النيران ولها خدمها وسدنتها في فارس تحت حكم العربي الإسلامي، وحسبنا مثلا خالد بن برمك وهو من أكبر
دعاة الدولة العباسية وزعمائها والمشاركين في قيامها وقد استوزره الخليفة العباسي السفاح (132 - 136هـ) بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال أول وزير في الإسلام كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان خالد هذا كما قال الخضري بك (من مجوس بلغ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران فكان برمك وبنوه سدنة له)(محاضراته في الدولة العباسية ص 111).
وكان ذلك في أوائل القرن الثاني الهجري بل ظلت بيوت النيران قائمة في غير بلاد الفرس عند موت خالد بن برمك سنة 163هـ في خلافة المهدي الذي نتكلم في الزندقة على عهده، فقد كان على خليج القسطنطينية من بلاد الدولة الرومانية الشرقية يومئذ بيت نار كان قد بناه سابور الجنود بن أردشير حين نزل على الخليج وحاصر القسطنطينية في إحدى حروبه مع الروم، وقد اشترط عليهم بقاءه فبقى إلى خلافة المهدي (158 - 169هـ) الذي نتحدث بموضوع الزندقة في عهده. بل ما زالت عبادة النيران في الهند حتى القرن الثامن الهجري وكان عبادها يسمون (الإكنواطرية)، بل ما تزال في بمباي بالهند طائفة من المجوس يتمسكون بمجوسيتهم ونيرانهم حتى اليوم ويسمون (الفرسيين).
بل لقد تأدى بنا البحت إلى مكان لا مناص لنا فيه من السؤال عن المجوسية وعما إذا كان لها من أثر في تعاليم الزنادقة الذين ظهروا في عهد المهدي.
ليس من همنا هنا أن نتبسط في شرح المجوسية بل سنجعل القول فيها إجمالا، وسنقتصر في هذا الإجمال على التعاليم التي يمكن أن يكون لها بموضوعنا صلة. وأبادر فأنبه إلى أننا عاجزون عن فهم مدلول المجوسية بغير فهم أطوارها وفهم الرجال الذين تطورت على أيديهم، وإلا فإن معنى المجوسية يظل محوطا بكثير من الغموض والاضطراب، فالحق أن المجوسية إنما هي أطوارها، وهناك تعاليم مشتركة بين كل هذه الأطوار، ولكن هناك أيضاً تعاليم تختص بها بعض الأطوار دون بعض، فإذا أطلقنا المجوسية على التعاليم المشتركة دون غيرها أخرجنا عنها ما هو منها، وإذا أطلقناها على كل التعاليم عامة وخاصة أدخلنا فيها ما ليس منها أو وجدناها أمامنا مضطربة متناقضة في جملتها وتفصيلاتها.
كما أبادر فأنبه إلى أني غير مستريح إلى اعتبار المجوسية على اختلاف أطوارها ديانة من الديانات، لا لأنها غير سماوية ولا لأنها متناقضة، ولا لأني مسلم مضطر إلى عدم
الاعتراف بها، فقد أعترف بها كدين الصحابة الأولون وعاملوا أهلها كما عومل أصحاب الدينيين السماوية اليهودية والمسيحية، ولكني لا أستريح إلى اعتبارها ديانة لأن الديانات تكون خصيصة سامية، فموسى والمسيح ومحمد عليهم السلام الذين أرسلهم الله بأعظم الديانات السماوية كانوا ساميين، وهناك سبب آخر هو أن المجوسية على اختلاف أطوارها لم تستوفي معنى الديانة الكامل كما نفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها. وأقرب إلى الصواب في نظري أن ندعوها فلسفة أو نزعة عقلية أو نزعة فنية، فهي لا تهتم كالديانات بحل المشاكل الغيبية، ولا تتطلع إلى ما وراء الطبيعة وفوق العقول بل إنها تحصر اهتمامها حصراً في العالم الذي أمامها وتحاول أن تتعرفه من طريق الحواس، كي تخلص من ذلك إلى الامتزاج به والانغماس فيه، وهذه هي النزعة التي تسلطت على العقل الآري في كل العصور.
من طريف ما أذكر هنا أني قرأت في كتاب (في أصول الأدب) للزيات أن فولتير في روايته (زيير) مثل عقد زواج بين رجل وامرأة على الطريقة الإسلامية فوصف أنه كان بأحد المساجد، وقد تسرب اليأس إلى ذهن المؤلف المسيحي من أن العادة في الزواج عند المسيحيين أن يعقد في الكنائس فقاس المساجد عليها في عقود الزواج بين المسلمين وشبيه بهذا المؤلف وما تصور من ذهب من العرب إلى اعتبار المجوسية ديانة كالإسلام واليهودية والنصرانية قبله، ومن ثم وقعت أخطاء كثيرة في فهمها.
تنتمي الأمة الفارسية إلى الجنس الآري، وقد سكنت إيران وما حولها قبل الإسلام بقرون كثيرة، وبالرغم من أنا لا نرى كل ما ارتآه الفيلسوف الفرنسي رينان فمن الفروق الكثيرة بين العقل السامي والعقل الآري - لا نستطيع أن ننكر أن ثمة فروقاً بينهما. يرى الفيلسوف الهندي رابندرانات تاجور في كتابه (السدهانا) عند كلامه في أصول الفلسفة البرهمية القديمة أن الآريين القدماء عندما نزلوا الهند وجدوها مكشوفة بغاباتها وأنهارها وغدرانها، فكان من ذلك أن وجدوا أنفسهم جزء مًنها فحاولوا الامتزاج بها والاندماج فيها، وكان لذلك أثره في فلسفتهم وعقولهم وخيالهم وحضارتهم، وكذلك يقال في الآريين الذي نزلوا في إيران والذين يسمون الفرس أو الإيرانيين، فقد أحبوا الطبيعة وعبدوا قواها وحاولوا أن يندسوا فيها بفهمها على اعتبار انهم جزء منها وأنهم مثلها، والاتصال بها من
طريق الحواس؛ ومن ثم جاءت فلسفتهم حية لا تؤمن بغير الحواس، وتحرص على التثبت أكثر مما تحرص على الاعتقاد، وتحاول أن تقف منها على أنها جزء منها لا أنها شيء خارج عنها يجب أن تخضع له وتلقى قيادها إليه. ولأمر ما لم تنجح المذاهب المجوسية المختلفة في الانتشار بين العرب الساميين بالرغم مما كان للفرس من سلطان سياسي وأدبي ومالي عليهم، وبالرغم من الاختلاط بينهم قروناً عدة قبل الإسلام ولا سيما في العراق واليمن وبالرغم من أن العرب ظلوا يدينون بديانات وثنية أثناء هذا الاختلاط حتى جاء الإسلام.
إن كل ما ورد من مذاهب المجوسية ينبئ أول ما ينبئ عن أن الفرس الآريين عشقوا الطبيعة عشقاً قوياً، وأن هذا العشق القوي هو الذي دفعهم إلى تصورها على الهيئة التي عليها تصورها، والتعبير عنها على النمط الذي به عبروا عنها، وكان أعظم ما لفت أنظارهم الشمس، فقد رأوها أعظم الأشياء، ووجدوا لها من المنافع ما لم يجدوا لغيرها، فقدسوها وأسندوا إليها كثيراً من الصفات الإلهية، ومن أجلها عشقوا النور وعظموه وعبدوه وأسندوا أليه كل خير كما أسندوا إلى ضده الظلام كل شر، أوهم رمزوا بالنور إلى كل خير وبالظلام إلى كل شر، ونحن نعلم ان الرموز تنقلب بتطاول الزمن رسوماً وتقاليد جافة وتمحي منها صبغتها الفلسفية والفنية، وتقدس لذاتها ولم يفهم مدلولها، بل تقدس لذاتها ولو لم تحقق مدلولها المقصود في البدء، ويكون لها بعد جمودها الإجلاء وحدها دون المعاني المستترة وراءها، وهذا ما جرى ويجري في كل زمن على الفلسفيات والديانات والفنون ونحوها ولا سيما على أيدي عوامها، وكل إنسان يرى حتى في الحياة اليومية أمثلة لهذه الانتكاسات العقلية بين العامة بل الخاصة في كل صقع من الأرض.
ويظهر لي أن هذه العقائد والنزعات المجوسية أقدم عند الفرس من تاريخهم المعروف، فهناك فرقة من المجوس تسمى الكيو مرتية نسبة إلى كيو مرتْ ترى أن للعالم إلها قديماً خالقاً أضافوه إلى النور وسموه (يزدان) وهو يقارب الله عند غيرهم، وإلهاً مخلوقا - خلقه يزدان - أضافوه إلى الظلمة وسموه (أهرمن) وهو يقارب إبليس عند غيرهم، وقد نسبوا إلى الأول الحياة والحكمة وكل خير وبركة في العالم، كما نسبوا إلى الثاني الموت والفساد والجهل وكل شر وفتنة وضرر وإضرار.
ولتقديس الفرس النور بنوا بيوت النيران وعبدوها حتى قبل ظهور زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم، وسنتحدث به وبمذاهبه إجمالا إن شاء الله فيما سيلي، ونحن حقيقون قبل الكلام في مذهبه إن نقف هنا لنعلق على العرض السابق لما كان قبل زرداتش بما يمكن أن نفهم منه، وينبغي ألا نقف عند هذه العناوين التي تبدو لنا في الآراء المجوسية قبله بل تنطق إلى ما رواءها، وإلا كنا كالعوام وأشباهم ممن يقفون عند الظواهر دون التعمق إلى البواطن.
ينبغي أن نفهم من عرض ما قدمنا أن الفرس منذ القدم وحين نزعوا هذا المنزع كانوا أولا عشاقاً للطبيعة، وكانوا يؤمنون بتضاد الأشياء وتعاقبها، ورمزو لذلك بأشد ضدين بروزاً وتعاقباً في كل ما رأوا وهما النور والظلمة، فهذان الضدان أبرز من كل ضدين في الكون، وتعاقبهما أوضح من تعاقب كل ضدين، فهم لم يحاولوا التهجم على عالم الغيب المستور الذي لا تنزع عقولهم - وهم عشاق الطبيعة ومظاهرها المحسوسة إلى الضرب في آفاقه الغامضة، والاهتداء إلى مضامينه المستورة، ومن أجل ذلك نفضل ألا نسمي آثار المجوسية ديانة بل فلسفة لأنها نزعة عقلية بل نزعة فنية شعرية تعبر عن عشق مفرط للطبيعة واستجابة لآثارها وإعجاب بها وطرب لها عن فهم حيناً وعن غير فهم أحياناً، وهذا هو الأليق بالعقلية الفارسية الآرية
محمد خليفة التونسي
من أبلغ ما قيل في تكريم مؤلف العباسة:
ذكريات. . .
للأستاذ كامل كيلاني
كنا نسمر - أيها السادة - في حلوان - ذات ليلة - مع الصديق الكريم (جمال الدين أباظة بك) رضى الله عنه، في دار شاعرنا (عزيز باشا) أعز الله به دولة الأدب، قبيل نشوب هذه الحرب العالمية الطاحنة لا أعاد الله مثلها، على عالمنا الأرضي المنكوب.
ولم يكد يستقر بنا المقام حتى لمحنا أجزاء من كتاب الأغاني، على مكتب شاعرنا الموهوب.
فالتفت إلى صديقي جمال بك، وقلت له: أليس من العجيب أن الإنسان لا يكاد يفتح صفحة من صفحات هذه الكنوز الأدبية الخالدة، إلا وقعت عينه على درة من عيون البيان العالي تملأ نفسه روعة وسحراً!).
قلت هذا - أيها السادة - وأنا قليل الثقة بتوفقي إلى مفاجأته بجدية من روائع هذا الكتاب!
فما أكاد أعرف في كل من عرفت من أدبائنا المعاصرين أوسع منه إطلاعا على الأدب العربي: شعراً ونثراً، وقد كدت أقل:(والأدب الفرنسي) لولا فرط حرص على اصطناع الدقة وإسراف بالغ في توخي القصد والاعتدال حتى لا يقال: ولكن من أحب الشيء حابى
وهو - أعني جمال الدين - لقوة حافظته وسعة محفوظه، يكاد يستوعب الصفوة المختارة من طرائف الأدب العربي، لا سيما كتب الأغاني فهماً ودراية، وحفظاً ورواية.
وربما ذكرت له الطرفة المستملحة الغريبة فإذا به - لتثبته من حفظها وروايتها - أسبق من قارئها إلى تلاوتها.
ففتحت كتاب الأغاني - أيها السادة - لأقرأ - لصديقي جمال - أول ما تقع عليه عيناي.
فإذا بيتان من شعر قيس: شاعر الحب الخالد يتألقان في صفحة الكتب كما يتألق القمر في صفحة السماء، ليلة البدر أو ليلة السواء.
واليكم البيتين أو على الأصح إليكم الدرتين:
بكيت. نعم بكيت. وكل إلف
…
إذا بانت أليفته بكاها
وما كان التباعد عن تقالً
…
ولكنِ شقْوَةٌ بلغت مداها
فترنح صاحبي جمال وترنحت، وانتشى برحيق الفن وانتشيت. ورحنا نردد البيتين مأخوذين بفنهما الصادق وأسلوبهما الفاتن الذي يفيض سحراً وإبداعاً، ويلتهب وجداً والتياعاً
وقلت له فيما قلت: (ألا ترى في قوله: (شقوة بلغت مداها) قصة الحياة كلها مجلوة على إيجازها في ثلاثة ألفاظ! ألا ترى في هذه الألفاظ القليلة وجازة صادقة لمأساته الفاجعة في لبني؟ ألا ترى كيف تألفت منها صورة كاملة يكاد القلب يذوب لها أسى، وتفنى النفس حسرة على قائلها المبدع العظيم؟ أليست مأساة قيس ولبنى - على الحقيقة - شقوة بلغت مداها؟
وهنا دخل شاعرنا المحتفل به وقد سمع آخر الحوار فقال:
ما أصدق ما تقولان! فان في هذا الشطر وحده قصة كاملة تلخص مأساة قيس ولبناه، وتكاد تلخص كل قصة من قصص الحياة!
ثم تلا البيتين في تأثر وإعجاب في صوت متهدج يكاد يجهش بالبكاء. وكأنما كان يقرأ في ألفاظها سطوراً من صحف الغيب:
(وللنفس حالات تريها كأنها
…
تُشاهد فيها كل غيب سَتشهد)
ودارت الأيام وألمت بشاعرنا المحبوب من الأحداث والخطوب: شقوة بلغت مداها.
فكأنها صهرت النار المتأججة منجما ذهبياً حافلا بأروع الكنوز، فأخرجت منه ما فيه من النفائس الغالية سبائك من النضار خالصة من كل شائبة.
وكم ألهبت الحوادث من مناجم فحمية أخرى فأحالتها رماداً تقذى بذرته العيون، وتتقزز لمنظره النفوس.
أيها السادة: لقد أصاب المثل القائل: (كل ما لم يقتلك فهو ينفعك) وصدق الكتاب الكريم (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) لقد كانت شقوة بلغت مداها. فأحالها الفن العالي: نعمة بلغت مداها.
(والنحل يجني المر من نورْ الربَّى
…
فيعود شُهدا في طريق رضابه)
كامل كيلاني
ألحاني السكري
للمرحوم أبي القاسم الشابي
قد سكرنا بحبنا واكتفينا
…
يا مدير الكؤوس فاصرف كؤوسك
واسكب الخمر للعصافير والنح
…
ل وخل الثرى يضم عروسك
ما لنا والكؤوس نطلب منها
…
نشوة والغرام سحر وسكر؟!
خلنا منك فالربيع لنا با
…
ق وهذا الفضاء كأس وخمر!
نحن نحيا كالطير في الأفق الس
…
اجي وكالنحل فوق غض الزهور
لا ترى غير فتنة العالم الحي
…
وأحلام قلبها المسحور
نحن نلهو تحت الظلال كطفلي
…
ن سعيدين في غرور الطفوله
وعلى الصخرة الجميلة في الوا
…
دي وبين المخاوف المجهوله
نحن نغدو بين المروج ونعدو
…
ونغني مع النسيم المغنى
ونناجي روح الطبيعة في الكو
…
ن ونصغي لقلبها المتغنى
نحن مثل الربيع نمشي على أر
…
ض من الزهر والرؤى والخيال
فوقها يرقص الغرام ويلهو
…
ويغني في نشوة ودلال
نحن نحيا في جنة من جنان الس
…
حر في عالم بعيد بعيد
نحن في عشنا المورد نتلو
…
سور الحب للشباب السعيد
قد تركنا الوجود للناس فليق
…
ضوا عليه الحياة كيف أرادوا
وذهبنا بلبه، وهو روح
…
وتركنا القشور، وهي جماد
قد سكرنا بحبنا واكتفينا
…
طفح الكأس فاذهبوا يا سقاةُ
نحن نحيا فلا نريد مزيدا
…
حسبنا ما منحتنا يا حياةُ
حسبنا زهونا الذي يتثنى
…
حسبنا كأسنا التي نترشف
إن في ثغرنا رحيقاً سماوي
…
اً وفي قلبنا ربيعاً مفوف
أيها الدهر أيها الزمن الجا
…
ري إلى غير وجهة وقرار
أيها الكون أيها الفلك الدو
…
ار بالفجر، والدجى، والنهار
أيها الموت. أيها القدر الأع
…
مى! قفوا حيث أنتم أو فسيروا
ودعونا هنا تغني لنا الأح
…
لام والحب والوجود الكبير
وإذا ما أبيتم فاحملونا
…
ولهيب الغرام في شفتينا
وزهور الحياة تعبق بالعط
…
ر وبالسحر والصبا في يدينا
ألوان.
. .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
من رسالة
أطفأتِ مصباحي وكنتُ أضأته
…
لكِ من لهيب مودتي وغرامي
أطفأتِ مصباحي وكنتُ رفعته
…
في معبدٍ للحب والأحلام
وهدمتِ محرابي وكنتُ أؤمه
…
والشوق ينبض في دمي وعظامي
إن الذي أغراكِ بالفأس التي
…
أعملْتِها. . . أغراكِ بالإعدام
إليها. . .
لمْ أقْوَ حتى على البكاءِ
…
يا فتنة الأرض والسماءِ
قد أعوزْتني دموع عيني
…
وثار بي ثائرُ العناءِ
واسوَدَّ في خاطري عزاءٌ
…
كم كنتُ ألقاهُ كالضياءِ
فاستمطِري الله لي شفاءً
…
مما تعالى على الشفاءِ
بُردَة السَّحر
نسجتْ يدُ السَحرِ الخفيةُ بردةً
…
حول السماء رقيقة ملساَء
مثل النعومةِ تُستشفُّ ولا تُرى. .
…
الفجر يزلِقُ فوقَها أضواَء
حاكَ السكونُ خيوطَها مطروحةً
…
فوق المدينةِ تنثرُ الأنداَء
إن مسَّها صوتٌ طوتها قبضة
…
في الغيب توقظ بعدها الأحياَء
البَريدُ الأدَبيَ
الانتحال:
جاء في بحث (حماد الراوية) في الرسالة (649) في ترجمة فصل عنوانه أن حماداً اشتهر بالانتحال، وإنما الذي اشتهر به حماد هو النَحْل، وهو أن ينْحَل الرجل شعره غيره وينسبه إليه، وأما الانتحال فهو أن يدعي لنفسه شعر غيره، وقد فشا هذا الخطأ واستفاض من يوم خرج كتاب (في الشعر الجاهلي) الذي تبدل أسمه بعد فصار (في الأدب الجاهلي)، ولم يكد يتبدل مسماه، كما فشت من يومئذ أخطاء أخرى. . .
علي الطنطاوي
الأمير خالد الجزائري:
من حق التاريخ علينا - وقد مضى على وفاة الأمير خالد الجزائري عشرة أعوام كعوامل - أن نذكره، فتاريخه تاريخ للحركة الوطنية في الجزائر: كان أصول الأمير شيوخ العلم في الجزائر، وكان جده السيد عبد القادر أميرها وبطلها المشهور، وقد جرى السليل على أعراق سلفه من الحمية الدينية والغيرة الوطنية والبطولة وثبات العزم وحب العلم والعلماء
حذق الفنون الحربية في أرقى كلياتها حتى أحرز أعلى شهاداتها ونال أرفع درجاتها، وتوفر على إتقان اللغة الفرنسية، حتى إنك لتخاله إذا خطب بها ميرابو خطيب الثورة الفرنسية، فأعانه ذلك في توجيه نهضة الجزائر الأدبية
قامت النهضة الجزائرية وتنبهت البلاد على حقوقها الطبيعية؛ ما كانت معالجة الأمور بهينة، ولا استخلاص الحقوق بيسير، ولا توجيه العواطف الملتهبة في الوجهة الصالحة ليمكن إلا للرجل العالم بمسالك تلك الشؤون، فاستطاع أن يعالج ذلك ويرسم الطريق فلم تكن إلا سنوات بين شد وجذب حتى بلغت الجزائر نهضتها.
كانت الجزائر في اضطرار إلى علمه وبصره وشجاعته وحسن تصريفه، حتى إذا ما كادت تصل إلى مبتغيها ومنتهى أملها، خشيت فرنسة مغبة ذلك عليها فنفوه. ولكن غيرته لم تفتر، فقام بما يجب عليه للإسلام والجزائر في غضون إقامته بمصر والشام
رحم الله الأمير خالداً، لقد كان حتى في - شيخوخته - تنبض الحيوية في حركاته، ويفيض
الشباب في كلماته، ويتأجج العزم في نظراته
والميزة التي كان يتفرد بها - برد الله مضجعه - قوة إيمانه وشجاعته، ومن مفاخره في ذلك أنه لما نشر أحد الإفرنج من ذوي الدخلة الخبيثة مقالة مس بها شأن النبي محمد عليه صلوات الله وسلامه، هب الأسد قائلا له: المبارزة! المبارزة! بالسلاح الذي تريده! غضبة بطل طار خبرها في الآفاق، وروتها الصحف والجماعات، فارتاع النذل وانهتك حجاب قلبه من الفزع، فأعلن اعتذاره واستغفاره، والأمير بهذا العمل يقف وحده في طليعة الغير على الإسلام.
وهو إلى ذلك متواضع قائم بواجباته الدينية، محافظ على لباسه الإسلامي العربي. عوض الله الإسلام منه خير عوض، واجزل له المثوبة.
محمد عارف الحسيني
إلى الأستاذ محمد عبود:
عرضت - أيها الأستاذ الفاضل - في كلمة لك نشرت بالعدد 650 من (الرسالة) إلى الحديث الذي نقله الأمير الجليل شكيب أرسلان في كتابه الارتسامات اللطاف من كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد عن الزبير، وهو (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، وإلى ما قاله وهب ابن جرير في حديثه عن الزبير (والله ما قال متعمداً)، وإن السيد رضا رحمه الله قد علق على هذه الرواية بأن الحديث متواتراً تواتراً صحيحاً بهذه الزيادة، وإن من رواها عن الزبير نفسه البخاري وغيره. وإن وهباً هذا قد تكلم فيه بعض رجال الجرح والتعديل، فقال فيه ابن حيان: إنه كان يخطئ، ثم طلبت مني - أيها الفاضل - أن أبين رأيي في هذا كله.
وإني بعد الذي كتبته رداً على الأستاذ أبي شهبة في هذا الموضوع مما قد ينفع بعضه في الإجابة عما تسألون، أذكر هنا كلمة صغيرة تكون تماماً على ما كتبنا.
إن رواية ابن سعد التي جاءت في الطبقات تتفق ورواية البخاري في نسخته المتداولة بين الناس في أن هذه الزيادة ليست فيهما. وإذا كان وهب بن جرير قد تكلم فيه بعض رجال الجرح والتعديل فانه قد ثبت في تاريخه أن أئمة كباراً قد أخذوا عنه، وأن ابن معين
والعجلي والنسائي وغيرهم قد وثقوه. على أن ابن حبان نفسه قد تكلموا فيه!
والذي يستوفي البحث في كتب الصحاح والسنن يجد أن هذا الحديث قد جاء بروايات كثيرة مختلفة منها حديث عمر وهو (من كذب علي فهو في النار) وحديث علي (لا تكذبواَ عليّ فانه من كذب عليّ فليلج النار) وحديث عثمان وقد قاله على المنبر وهو (لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر فانه لم يمنعني أن أحدثِ عن رسول الله (ص) ألا أكون من أوعى أصحابه ألا أني سمعته (ص) يقول (من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار) وحديث أبي هريرة وهو (من كذب علي متعمداً فليتبوا مقعده من النار) وغير ذلك أحاديث كثيرة حمل بعضها هذه الزيادة وجاء بعضها بغيرها، والروايات التي جاءت عن عمر وعلي وعثمان والزبير وغيرهم من كبار الصحابة قد ظهرت كلها بغير هذه الزيادة.
وأن ممن روى عن الزبير إنكاره لهذه الزيادة الدارقطني الذي قال فيه الحافظ بن حجر إنه كان حافظ عصره وروايته (واللَّه ما قال متعمداً وانتم تقولون متعمداً) وابن قتيبة الذي قال فيه الذهبي أنه صدوق. وقال فيه الخطيب، وكان ثقة ديناً وروايته (إنهم يزيدون فيه متعمداً والله ما سمعته قال متعمداً).
وقال الحاكم في المدخل (. . أن موعد الكاذب عليه في النار وقد شدد (ص) في ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار؛ تعمد الكذب أم لم يتعمد في قوله فيما رواه ابن عمر (أن الذي يكذب على يبني له بيت في النار) وقد زاد تشدداً بقوله فيما رواه عثمان بن عفان (من قال عليَ ما لم أقل فإنه إذا فعله غير متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى. ومن روايات هذا الحديث
(من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) قالوا وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف.
أما - تواتر - هذا الحديث سواء أكان بهذه الزيادة أم بغيرها، فانهم (لم يجُمعوا عليه) قال الحافظ بن حجر (ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه (جماعة) أنه متوتر ونازع بعض مشايخنا في ذلك لأن شرط التواتر، استواء طرفية وما بينهما في الكثرة، وليست موجود في كل طريق منها بمفردها.
ويتبين مما قاله ابن حجر من أطلق على هذا الحديث أنه متواتر إنما هم (جماعة) وليس ثم إجماع وأن هذه الجماعة لم تسلم من منازعة بعض شيوخه.
(المنصورة)
محمود أبو ريه
في قصيدة الغزالي
أتحفتنا الرسالة بقصائد ثلاث مما ألقاه شعراؤنا في حفل تكريم شاعر (العباسة) المبدع عزيز أباظة باشا. ومن بين هذه القصائد قصيدة الشاعر أحمد عبد المجيد الغزالي التي مطلعها:
طلعت بأفق العبقرية صاعداً
…
فأدركت مجديها طريفاً وتالداً
وهي في الحق قصيدة جيدة لعلها من عبقريات شاعرنا الغزالي، بيد أنه وقع في خطأ يسميه العروضيون (سناد التأسيس) في بيتين من قصيدته الجميلة إذ يقول:
كأن به في حلة الملك رافلا
…
يخب بدنيا ليس يدنو لها مدى
عوالم هذا العصر أنت وسعتها
…
بفنك لم تعجز لساناً ولا يدا
فتراه قد أهمل في هذين البيتين ألف التأسيس التي تراها في كلمة الروي (تالدا) والتي كررت في كل أبيات القصيدة خلا هذين البيتين. . .
ومني على الشاعر تحية وسلام.
محمد محمود رضوان