الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 653
- بتاريخ: 07 - 01 - 1946
أوربا والإسلام
شيّع الناس بالأمس عاماً قالوا إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عاماً يقولون إنه بداية السلم. وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمةً أعقبها عمى، وإلا ظلماً سيعقبه دمار! حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية وللعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينهما وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض، والتعصب للجنس، والتطلع إلى السيادة إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل. ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه (الأطلسي)، واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهِمَ ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح يتنزلون في كلُّ ليلة بالهدى والحق على روزفلت وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطون ولندن وموسكو، ليدرءوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق؛ فأقامت مصر من حريتها وثروتها وسلامتها في (العلمين) سداً دون القناة، وحجزت تركية بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتاد إلى روسيا؛ ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقت أجراس النصر في كنائس أخرى!
ثم تمت المعجزة وصُرع الجبارون ووقف الأنبياء الثلاثة، على رؤوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود؛ وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه القدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنتهك؛ وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير؛ وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد: هو استعمار الشرق واستعباد أهله!
أذن برح الجفاء وانفضح الرياء وعادت أوربا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام!
هذه إيران المسلمة، ضمن استقلالها الأقطاب الثلاثة، حتى إذا جد الجد تركوها تضطرب
في حلق الدب ثم خلصوا نجيا إلى فريسة أخرى!
وهذه تركية المسلمة، واعدوها وعاهدوها يوم كانت النازية الغازية تحوّم على ضفاف الدردنيل؛ وهم اليوم يخلونها وجهاً لوجه أمام هذا الدب نفسه يطرق عليها الباب طرقاً عنيفاً مخيفاً ليعيد على سمعها قصة الذئب والحمل!
وهذه إندونيسيا المسلمة، آمنت بالإنجيل الأطلسي وقررت أن تعيش في ديارها سيدة حرة؛ ولكن أصحاب الإنجيل أنفسهم هم الذين يقولون لها اليوم بلسان النار: هولندا أوربية، وإندونيسيا آسيوية، ونظرية الأجناس، هي القانون النافذ على جميع الناس!
وهذه سورية ولبنان العربيتان، أقر باستقلالهما ديجول، وضمن هذا الإقرار تشرشل، ثم خرجت فرنسا من الهزيمة إلى الغنيمة، وأختلف الطامعان فخاس المضمون بعهده، وبرّ الضامن بوعده. ثم قيل أنهما اتفقا! واتفاقهما لن يكون على أي حال قائماً على ميثاق الحريات الأربع!
وهذه فلسطين العربية، يفرضون عليها أن تؤوي في رقعتها الضيقة، الشريد والطريد والفوضوي واللص، وفي أملاكهم سعة، وفي أقواتهم فضل؛ ولكنهم يضحون بوطن العرب، لعجل السامري الذهب، ويتخلصون من الجراثيم، بتصديرها إلى أورشليم!
وهذه أفريقية العربية، يسمعون أن ديجول أخا (جان دارك) قد جالف على أهلها الخوف والجوع، ثم انفرد هو بمطاردة الأحرار حتى ضاقت بهم السجون والمقابر، ولا يقولون له: حسبك! لأن السفاكين أوربيون يؤمنون بعيسى، والضحايا أفريقيون يؤمنون بعيسى ومحمد!
بل هذه هي الأرض كلها أمامك، تستطيع أن تنفضها قطعة قطعة، فهل تجد العيون تتشوف، والأفواه تتحلب، والأطماع تتصارع، إلا على ديار الإسلام وأقطار العروبة؟ فبأي وقع خُمس البشرية في هذه العبودية المهلكة، وهو الخُمس الذي أنبثق منه النور وعُرف به الله وكرُم فيه الإنسان؟ ليس للثلاثمائة مليون من العرب والمسلمين من ذنب يستوجبون به هذا الاستعمار المتسلط إلا الضعف. وما الضعف إلا جريدة الاستعمار نفسه. فلو كان المستعمر الأوربي صادق الحجة حين قال: إننا نتولى شؤون الشرق لنقوي الضعيف ونعلم الجاهل وندفع المتخلف، لوجد من العرب سنداً قوياً لحضارته، ومن الإسلام نوراً هادياً لعقله؛ ولكنه ورث الخوف من الإسلام عن القرون الوسطى، فهو يسايره من بعد، ويعامله
على حذر. وإذا عذرنا قسوس العصور المظلمة فيما افتروا عن جهالة، فما عذر الذين كشفوا الطاقة الذرية إذا جمدوا على الضلال القديم وكتاب الله مقروء ودستور الإسلام قائم؟!
لقد فشلت مذاهبهم الاجتماعية كلها، فلم تستطع أن تخلص جوهر الإنسان من نزعات الجاهلية الأولى؛ فلم يبقِ إلا أن يجربوا المذهب الإسلامي ولو على سبيل الاقتباس أو القياس.
لا نريد أن نقول لهم: أسلموا لتحكموا، وتعلَّموا لتعلموا، فإن هذه الدعوة يعتاقها عن الغاية القريبة عوائق من العصبية والوارثة والتقاليد والعادة؛ ولكنا نقول لهم: تصوروا نظاماً واحداً يصلح لكل زمان ومكان، ويقطع أسباب النزاع بين الإنسان والإنسان: يوحد الله ولا يشرك به أحداً من خلقه؛ ويقدس جميع الشرائع التي أنزلها الله ولا يفرق بين أحد من رسله؛ ويؤاخي بين الناس كافة في الروح والعقيدة لا في الجنس والوطن: ويسوي بين الأخوة أجمعين في الحقوق والواجبات فلا يميز طبقة عن طبقة ولا جنساً عن جنس ولا لوناً على لون؛ ويجعل للفقير حقاً معلوماً في مال الغني يؤديه إليه طوعاً أو كرهاً ليستقيم ميزان العدالة في المجتمع، ويجعل الحكم شورى بين ذوي الرأي فلا يحكم بأمره طاغٍ، ولا يصر على غيّه مستبد؛ ويحرر العقل والنفس والروح فلا يقيّد النظر ولا يحصر الفكر ولا يقبل التقليد ولا يرضى العبودية؛ ويأمر معتقديه بالإقساط والبر لمن خالفوهم في الدين وعارضوهم في الرأي؛ ويوحد الدين والدنيا ليجعل للضمير السلطان القاهر في المعاملة، وللإيمان الأثر الفعّال في السلوك. وجملة القول فيه أنه النظام الذي يحقق الوحدة الإنسانية فلا يعترف بالعصبية ولا بالجنسية ولا بالوطنية، وإنما يجعل الأخوّة في الإيمان، والتفاضل بالإحسان، والتعامل على البر والتقوى. فإذا تصورتم هذا النظام، فقد تصورتم الإسلام. وإذا أخذتم به فقد أطمئن العالم المضطرب وأستقر السلام المزعزع. ولا يعنينا بعد ذلك أن تطلقوا عليه لفظاً يونانياً أو لاتينياً ما دمتم تسلمون وجوهكم إلى الله، وتسلمون قيادكم لمحمد!
أحمد حسن الزيات
الجامعة العربية حركة طبيعية
للأستاذ محمود العقاد
قيل في الغرب - وردد بعض الشرقيين هذا القول - إن الجامعة العربية حركة مصطنعة تديرها بعض الدول الأجنبية لأغراضها السياسية في الوقت الحاضر، وإنها تستطيع أن تبطلها كما استطاعت أن تختلقها متى فرغت من حاجتها إليها.
والذي نريد أن نقرره قبل بيان الحقيقة في هذه الأقاويل أن الحركات العالمية، أو الحركات القومية، لا يخلقها تدبير مصطنع على الإطلاق، وأنها توجد بأسبابها الكامنة فيها وتتجه إلى غاياتها الموافقة لتكوينها، فلا تستطيع قوة في الأرض أن تظهرها وهي خافية، أو تتجه بها إلى غاية لا توافقها ولا تلائم مصالح ذويها.
والحركة العربية قامت في نشأتها الحديثة على الرغم من السياسة الأوربية ولم تقم باختيارها وتدبيرها، وعادت إلى التجمع والوحدة بين الحربين العالمتين؛ لأنها لا بد أن تعود بعد تلك القومة الأولى.
فمنذ أوائل القرن التاسع عشر سُئِل إبراهيم باشا وهو يناضل الدولة العثمانية: إلى أين تنتهي فتوحاته؟ فقال: إلى حيث لا يوجد من يتكلم العربية. يريد بذلك أن ينشئ دولة عربية محضاً، ولا يريد أن يتجاوزها إلى بلاد أخرى.
وحوالي هذا الوقت كان محمد بن عبد الوهاب في نجد يعلن ثورة على الحكومة العثمانية، ويجمع القبائل في جزيرة العرب لتوحيد كلمتها، والاتجاه بها إلى وجهة الاستقلال، عن السيطرة الخارجية.
ولم تكن جزيرة العرب يومئذ تعترف بشيء من السلطان الأجنبي غير السيادة الإسمية والرقابة البعيدة التي لا تعترض لشؤونها الداخلية، فكان أمراء نجد والكويت والحجاز واليمن يأخذون وقلما يعطون في علاقتهم بالدولة العثمانية، وكانوا على استقلالهم الذي تعودوه منذ القدم في حواضر الصحراء وبواديها، ولا سيما البوادي التي تحجم عنها جنود الدولة ولا تنفذ إليها بغير إذن من أبنائها.
أما في سورية ولبنان فقد رحبت جمهرة الشعب بحركات الوحدة مع الأمم العربية الأخرى وكانت على اتصال دائم بوادي النيل والجزيرة، وكانت علاقة أمرائها بمحمد علي الكبير
على ما يعلم المطلعون على تاريخ ذلك الحين.
وفي كلُّ هذا كانت السياسة الأوربية تقف من حركات العرب موقف المقاومة والتثبيط، لأنها عملت على بقاء الأمم العربية في حوزة الدولة العثمانية، محرومة جهد المستطاع من حقوق السيادة والاستقلال.
ولم تفلح هذه المقاومة إلا ريثما استجدت تلك الأمم نشاطها وتحفزت مرة أخرى للوثوب إلى غايتها.
فقامت في مصر حركة المطالبة بمصر للمصريين، وقامت في السودان حركة (التُرُك) كما كانوا يسمون الأجانب أجمعين، وقامت في بلاد العرب دعوة واحدة إلى الاستقلال، ولكنها كانت تمتحن من آونة إلى أخرى بمحنة المنافسة بين زعماء العشائر وأمراء الأقاليم، ودخل السوريون واللبنانيون والعراقيون في حزب تركيا الفتاة؛ لأنه الحزب الذي كان يمنيهم بالحكومة (اللامركزية) أي حكومة العرب في بلادهم، كما يشاءون، وبمن يشاءون.
وفي هذا الدور أيضاً في من أدوار القضية العربية كانت لسياسة الأوربية تخذل العرب أو تمنعهم أن يبلغوا من الاستقلال غاية ما يقدرون عليه.
ثم نشبت حرب الأمم قبل ثلاثين سنة فتحركت الجامعة العربية من جديد، تارة على هدى وتارة على ضلال، فتسابقت دول أوربا إلى كسب الأنصار من أمم العرب التي استقلت أو طمحت إلى الاستقلال، وانتهت الحرب والأمم العربية جمعاء متفقة على المطالبة على الحرية والمناداة باسم العروبة في جامعة تتوافر لأعضائها حقوق الاستقلال.
وعلى ما كان من موقف أوربا في المقاومة والتثبيط كانت لها فلتات هنا وفلتات هناك تبدر منها حيناً بعد حين؛ في سبيل التشجيع والإغراء.
فكان الإنجليز مثلاً يشجعون المناداة بمصر للمصريين لأنها تفصل مصر عن الدولة العثمانية، ولكنهم يثبطونها من جهة أخرى لأنها ثورة صريحة على الاحتلال البريطاني، وما عسى أن يتطور إليه من بسط الحماية البريطانية في صورة من صورها الكثيرة.
وكان الفرنسيون ينشئون المدارس في البلاد السورية، كما ينشئون بها المطابع والمجامع لنشر كتب العرب وثقافة العرب وإحياء التراث العربي القديم، سعياً إلى الفصل بين العرب والدولة العثمانية لا سعياً إلى استقلالهم عن جميع الطامعين، وفي طليعتهم الفرنسيون.
وكان الألمان يقابلون هذا بالتقرب إلى (الجامعة الإسلامية) لأنها تشمل التقرب من الترك والعرب على السواء، ولكنهم كانوا يطمحون من وراء هذه الجامعة إلى بلاد العرب في طريقهم إلى الهند والأقطار الآسيوية، ويدفعون السلطان عبد الحميد إلى مد خطوط المواصلات في أنحاء سورية والجزيرة تحقيقاً لأحلامهم التي تتلخص في صيحتهم (من برلين إلى بغداد) ثم إلى الهند من هذه الطريق.
فالسياسة الأوربية قد وجدت حركة قائمة فاستفادت منها تارة بالمقاومة وتارة بالتشجيع.
أما أنها تخلقها خلقاً فذلك مخالف للواقع ومخالف لفحوى التاريخ، وهو على هذا وذلك مستحيل.
واليوم تدخل (الجامعة العربية) في طور جديد بفضل كيانها القديم لا بفضل السياسة المصطنعة أو التدبير الخارجي من جانب الإنجليز أو جانب الأمريكيين.
وقد تكون للإنجليز مصلحة في مصادقتها ورغبة في التفاهم بينهم وبينها، ولكنهم يجدون مثل هذه المصلحة في التفاؤل بينهم وبين الإغريق أو التفاهم بينهم وبين الإيطاليين، فلا يقول قائل أنهم خلقوا القومية الإغريقية أو خلقوا القومية الإيطالية، أو أنهم قادرون على تجاهل القوميتين وإحباط ما ترميان إليه إذا تحولت السياسة من خطة إلى خطة في المستقبل القريب، أو المستقبل البعيد.
وكل ما يعنينا أن التفاهم بين الجامعة العربية وكائن من كان من أصدقائها والراغبين في مصادقتها لا ينتهي إلى ضرر يحيق بالاستقلال أو يحيق بالمصالح الجوهرية، أو يتجه بها إلى غير الوجهة التي يرضاها أبناء الجامعة لأوطانهم، ولأوطان العروبة على الإجمال.
ومتى وثقنا من ذلك فنحن الغانمون باتفاق المصالح بيننا وبين الإنجليز وغير الإنجليز، بل نحن خلقاء أن نزيد من هذا الاتفاق في المصالح والسياسات لأننا لا نحب أن نصطدم بسياسة غيرنا تسنى لنا أن نعامله على وفاق.
إن الجامعة العربية حركة طبيعية من قديم الزمن وهي طبيعية في هذا الزمن على التخصيص، لأن العصر الحاضر ينادي باحترام حقوق الأوطان، وأبناء العروبة يذودون عن أوطانهم وينشدون لها نعمة الحرية الكاملة، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون في الجوار وأبناء العروبة متجاورون محتاجون إلى التعاون فيما بينهم على المرافق المشتركة
وهي أكثر من أن تنحصر في مرافق الماضي أو مرافق الحاضر أو مرافق المستقبل على انفراد، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون الشامل في المسائل العالمية الكبرى، ونحن نستطيع أن نعين ولا نكره أن نعان ولا نستغني عن المعونة بحال.
وحسب الجامعة العربية أنها عمل ينفع أبناءه ولا يضر غيره - وقد ينفعهم في كثير من الأحوال - ليستحق البقاء ويستحق السهر عليه من ذويه ويستحق الصداقة ممن يعمل في العالم الجديد عمل البصراء والعارفين.
عباس محمود العقاد
ضربات معول
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب
في العام الخامس من الهجرة تألّب الشرك على التوحيد، وائتمر الباطل بالحق، وكاد الشر للخير. تقاسم رؤوس الضلالة ليغزون المدينة وليقتلُنّ هذه الجماعة الناشئة، وليبطلُن تلك الدعوة الجديدة.
مشى يهود خيبر إلى قادة قريش، وحرضوا القبائل الضاربة غربيّ نجد وشرقيّ خيبر، قبائلَ غطفان. فاجتمعت كلمة هؤلاء وهؤلاء على غزو المدينة والبطش بالمسلمين.
ورأى المسلمون أنهم لا قِبل لهم بهذه الأحزاب، لا يستطيعون دفع قريش وغطفان وألفافهما، لا قِبل لهم بهذه الجموع الحاشدة من قيس عيلان وقريش ومن انحاز إليهم، هذه الجموع التي قال فيها حُييّ بن أخطب أحد زعماء اليهود الذين ألّبوا الناس على المسلمين، حين جاء إلى كعب بن أسد القرظي رئيس بني قريظة وهم بقية اليهود في المدينة فقال له يحرضه على نقض عهد المسلمين:
(ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وببحر طامٍ. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من روما، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذَنب نَقَمَي إلى جانب أُحُد؛ قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمد ومنْ معهُ).
أهمّ المسلمين هؤلاء الأعداء، فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق يصد الجيوش عن المدينة. فخطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع المخافة من المدينة. وذلكم شماليها حيث يطمع العدو في دخولها. وأما الجوانب الأخرى فكانت ممتنعة على الغُزاة بجبالها ونخيلها. خط الرسول الخندق من أُجُم الشيخين إلى المذاد وقطّعه بين الصحابة أربعين ذراعاً لكل عشرة رجال. وجدّ المسلمون ليفرغوا من الخندق قبل أن يداهمهم العدو. والرسول يشرف عليهم ويشاركهم أحياناً في عملهم وارتجازهم.
- 2 -
وبينما عشرة من الصحب يحفرون قسمهم من الخندق لقّوا صخرة قاسية أثرت في معاولهم
ولم تؤثر فيها المعاول. وكرهوا أن يعدلوا عنها فيحيدوا عن ما خطّه الرسول لهم. فقالوا لسلمان الفارسي أحد هؤلاء العشرة أصعد فأنظر ماذا يأمر رسول الله. فرقي سلمان فقال:
(يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا. خرجت صخرة بيضاء من الخندق مَروْة فكسرت حديدنا وشقّت علينا حتى ما نُحيك فيها قليلاً أو كثيراً. فمُرنا فيها بأمرك فأنا لا نحب أن نجاوز خطك).
قال راوي القصة عمرو بن عوف الُمزَنيّ:
فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق. ورقينا نحن التسعة على شقة الخندق. فأخذ رسول الله المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى كأن مصباحاً في جوف ليل مظلم. فكبّر رسول الله تكبير فتح. وكبّر المسلمون. ثم ضربها رسول الله الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف ليل مظلم، فكبّر رسول لله تكبير فتح وكبّر لمسلمون. ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاءت ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم. فكبّر رسول الله وكبّر المسلمون. ثم أخذ بيده سلمان فرقى. فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاً ما رأيته قط. فألتفت رسول الله إلى القوم، فقال هل رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله - بأبينا أنت وأمنا - قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبّر فنكبّر. ولا نرى شيئاً غير ذلك.
قال رسول الله: أما الأولى فقد أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى أسرى لثانية أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم؛ والثالثة أضاءت لي منها قصور صنعاء. وأبشروا يبلغهم النصر. وأبشروا يبلغهم النصر. وأبشروا يبلغهم النصر).
- 3 -
إن هذا الشيء عجاب: جماعة قليلة لم تستطع الدفع بأيديها وأسلحتها فاعتصمت بالخندق تتقى به عدوّاً أكثر عدداً وأعظم عُدّة؛ جماعة قليلة جاهدة يدهمها عدو حاقد محنق قد صمم على يستأصلها. وليس لهذه الجماعة ردء على الأرض ولا مدد. وهي تكدح لحفر الخندق وتكلّ أيديها فينزل قائدها يعينها ويواسيها، على حين أحاط بها الخوف (وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الخناجر وتظنون بالله الظنونا).
وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب! ما أعظمها دعوى، وما أعجبها أمنية!
كذلك قال الذين رأوا عدداً قليلاً من الناس يحفر أرضاً ليتقى عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معان كثيرة. قالوا:
(ألا تعجبون! يحدثكم ويُمنيّكم، ويعدكم الباطل. يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرُزوا).
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).
أجل من يرى هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها، عن التحدث بالفتح فتح المشرق والمغرب. إنها لإحدى الكُبَر.
- 4 -
لا لا. لم تكن في المدينة جماعة قليلة ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع لشر، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقابل الخورَ، والاجتماع يثبت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدّى الشك. كانت معان تقاتل معاني. وما ضّر المعنى الظافر في سنة الله قلةُ أنصاره على الأرض؛ ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرةُ سواده في الناس.
وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشاً وغطفان ويهود وحدهم بل كانوا يحادّون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها. لقد كان هذا الخندق فاصلاً بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقاً وليداً، وتاريخاً جديداً، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيروا في مواكب للجهالة والإثم والعدوان والظلم، ويحوطون أوثاناً من الحجر أو أصناماً من البشر.
وما كان العرب إلا العدوّ الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها فائتمر بها وعزم ليأخذنّ عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقنّ جمعها، ويبدّدن نظامها، ويبطلنّ دعوتها.
وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب، حرباً على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها، وما كان المشركون في حرب المسلمين إلا طلائع جيش للباطل جنوده أهل الأرض قاطبة. كذلكم كان هذا الخندق المحفور بين المسلمين وأعدائهم حدّاً بين عصر وعصر، وفاصلاً بين تاريخ وتاريخ.
ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود، وهم طلائع جيوش الأرض كلها، ولم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معان، أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة. دع العدد القيل، والعدد الكثير، وأنظر هذه المعاني تتقاتل، تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك. فانظر لأي هؤلاء العاقبة!
وهل كان المعول في يدّ رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقيات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم، إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدفع ما يصده. كانت هذه الضربات رموزاً لما وراءها من جهاد وجلاد، وكان هذا الضوء بياناً لما يتصل به من هدى، وكانت يمين الرسول العزمُ المصمم، وكان كلُّ خير وحق وفضيلة في النفس التي تبطش بهذه اليد.
كانت هذه المعاني كالشرارة الصغيرة تؤجج ما شاء الله من نار ونور، والآحاد في الأعداد تستوعب كلُّ ما يدركه العدّ، وكالفكرة الأولى تفتح للعقل طريقاً مديداً ومذهباً جديداً. وكحروف الهجاء تنتظم لغات العالم، وكقرص الشمس يغمر العالمِين نوراً.
- 5 -
كذلك سخر الذين سمعوا قصة محمد ومعوله، وعرفوا حديث القائد المحصور يبشر بفتح العالم! ولكن كثيراً من هؤلاء الساخرين عاشوا حتى سمعوا صدى هذه الضربات في اليرموك والقادسية وما تلاهما شرقاً وغرباً، وأبصروا برقها يصعق يزدجرد وهرقل وجنودهما، وكل جند للباطل على ظهر الأرض.
ورأوا المعاني التي مثلتها هذه الضربات وقد ثارت بالباطل غير رفيقة، وزلزلت الظلم غير مشفقة، وانتشرت في المشرق والمغرب كالسحاب مجلجلاً مضيئاً صاعقاً ممطراً منبتاً.
عاش الساخرون عشر سنين فرأوا جزيرة العرب تدين لصاحب المعول، ورأوا فارس والروم تخرّ لضرباته، والمشرق والمغرب يستضئ بهذه البرقيات. وعلموا يقيناً أن محمداً صدقهم حينما وعدهم فتح العالم وهو قائم في الخندق يحطم بمعوله الصخرة التي أعيت أصحابه.
عبد الوهاب عزام
من وراء حجاب
للأستاذ محمود محمد شاكر
أخي الأستاذ الزيات:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فقد أكرمتني ودعوتني لكتابة مقالتي لعدد الهجرة من الرسالة، فجعلتُ أماطل الساعات كعادتي حتى تضطرّني إلى مأزق أجد عنده مفراً من حمل القلم، والانكباب على الورق، وترك الزمن يعدو عليَّ وأنا قارٌّ في مكان لا يتغير وزمان لا يتحول. فلما قارب الوقت وأزفت الساعة، فزعت إلى ذلك الكتاب القديم الذي طال عهد (الرسالة) به، وهو (مذكرات عمر بن أبي ربيعة)، حملت الكتاب حريصاً عليه، ووضعته على المكتب بين يدي، وترفقت بصفحاته وأنا أقلبه كما يقلب العاشق المهجور تاريخاً مضى من آلام قلبه. ووقعت على ورقة حائلة اللون قد تخرّمها البِلى، وإذا فيها هذه الأبيات الثلاثة، لم ينل منها شيء، لا تزال ظاهرة السواد بينة المقاطع:
(فصروف الدهر في أطْباقه
…
خِلْفَةٌ فيها ارتفاع وانحدارُ
بينما الناس على عليائها
…
إذ هوَوْا في هوَّة منها فغاروا
إنما نعمة قوم مُتْعة
…
وحياة المرء ثوب مستعارُ).
لم أدرِ لِمَ نقل (عمر بن أبي ربيعة) هذه الأبيات في مذكراته، فإنها قائمة وحدها ليس قبلها ولا بعدها شيء يدل على ما أراد من ذكرها، فجعلت أدوار الأوراق لعلي أبلغ مبلغاً من توُّهم خبرها الذي سيقت من أجله، وجعل معناها يداور قلبي ويساوره حتى كفَّت يدي عن الحركة، وسكن بصري على مكانها، وأحسست كأن القدر قد نام في ظلالها كالمارد الثمل طرحه طغيان السكر حيث استقر، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمل هذه الحياة المتكررة المتطاولة الدائبة، منذ عهد أبينا الشيخ آدم رحمه الله إلى يوم الناس هذا. فآنست فترة تأخذني، ثم نعسة تنعشاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عَقَلتُ.
وإذا أنا أفضي من غمرتي إلى ميدان فسيح أخضر الجوانب متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسن ما رأيت من مسجد بناءً وبهاءً، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه. فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى
رأيت جموعاً غفيرة من الخلق يستقبلون الباب خارجين، في ثياب بيض وعمائم بيض كأنها غمائم تزجّيه الرياح. فوقفت وسألت أول من لقيت: ما الذي جمع الناس؟ قال: إنه الشيخ أيها الفتى. قلت: فمن الشيخ يرحمك الله؟ قال: غريب والله، إنه الشيخ أبو جعفر الطبري إمام أهل السُنّة، وشيخ المفسرين، وعمدة المحدثين، وثقة المؤرخين، ردّ الله غربتك يا فتى. قلت له: جزاك الله خيراً ورضى عنك وأرضاك، أتراني أدركه الساعة؟ قال: هو رهين هذا المسجد لا يبرحه، فادخل تلقه.
ولم أزل أحتال للدخول وأمواج الناس تتقاذفني عن الباب حتى كدت أيأس من لقاء الشيخ، وظننت أني لو بقيت دهراً لم تنقطع هذه الأمواج المتدفقة من باب المسجد. وظللت أزاحم حتى بلغ مني الجهد، وانتهيت إلى صحن المسجد وقد انفضّ جمع الناس، ولم يبقِ فيه غيري. وجعلت أسير وأتلفت وأنظر في مقصورة بعد مقصورة، حتى رأيت بصيصاً من ضوء في مقصورة بعيدة، فلما وافيتها، وكانت الشمس قد آذنت بغروب، رأيت مسرجة معلقة وحجرة واسعة، وآلافاً مؤلفة من الكتب قد غطت الجدران. فاستأذنت ثم سلمت فلم أسمع مجيباً، فدخلت، وإذا في جانب منها شيخ ضافي اللحية أبيضها جميل الوجه، قد اتكأ وأخذته سنة من نوم، وقد مالت عمامته عن جبين يلمع كأنه سُنَّة مصقولة من ذهب، وبين يديه كتب وأوراق مبعثرة أو مركومة ومحابر وأقلام.
سرقت الخطو حتى قمت بين يدي هذا الشيخ النائم، ثم جلست وجعلت أقدم ثم أحجم أريد أن أمسك شيئاً من ورقه لأقرأه، ثم عزمت فأخذت ما وقعت عليه يدي، فإذا هو تتمة تاريخ أبي جعفر الطبري الذي كان سماه (تاريخ الأمم والملوك)، وكان الجزء الذي فيه يبدأ من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة (سنة 1365 هجرية الموافق لسنة 1946م)، فانطلقت أقرأ تاريخ هذا الزمن وما بعده. وعسير أن أنقل لك كلُّ ما قرأت، فسأختار لك منها نتفاً تغنى، كما كتبها الإمام أبو جعفر، وبعضها منقولة بتمامه، وبعضهما اختصرت منه حتى لا أطيل عليك. قال أبو جعفر:
(ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من إجماع المجلسين الأمريكيين على فتح أبواب فلسطين لشذّاذ المهاجرين
من اليهود. وكتب إليَّ السُّدى، وهو مقيم هناك في أمريكا، أن موقف الرئيس ترومان الذي كان ادَّعاهُ من إيثار العقل على الهوى في هذا الأمر، إنما كان حيلة مخبوءة أراد بها أن يغرر بالبلاد العربية والإسلامية، ثم يفاجئها بحقيقته. وهو في ذلك إنما يعمل للظفر بمعونة اليهود في الانتخاب الآتي للرياسة. ولما كان هواه هو الذي يُصرّفه، فقد علم أنه طامع في الرياسة حريص عليها، وأن اليهود في أمريكا هم أهل المال، أي أهل السلطان، أي هم الأنصار الذي إذا خذلوه فقد ضاع. قال السدّي: وقد سمعت بعض أهل العقل والرأي في أمريكا يستنكرون ما كان منه ومن قرار مجلسيه، ويرون أن الديمقراطية اليوم قد صارت كلمة يراد بها التدليس على عقول البشر، ليبلغ بها القوي مأربه من الضعيف المغرور بهذه الرقية الساحرة التي يدندنون بها في الآذان. وقد أخبرني الثقة أن الرئيس ترومان قد أوحى إليه بعض بطانة السوء أن العرب والمسلمين قومٌ أهل غفلة، وأن دينهم يأمرهم بالصبر ويلح فيه، فهم لا يلبثون أن يستكينوا للأمر إذا وقع، ولا يجدون في أنفسهم قوة على تغييره أو الانتفاض عليه، وأن الزمن إذا تطاول عليهم في شيء ألفوه ولم ينكروه. فإذا دام دخول اليهود فلسطين، وبقى الأمر مسنداً إلى الدولة المنتدبة (وهي بريطانيا)، وانفسح لحمقى اليهود مجال الدعوى والعمل والتبجح، وألح على العرب دائماً إجماع الدنيا كلها (أي الديمقراطية) بأن الدولة اليهودية في فلسطين حقيقة ينبغي أن تكون وأن تتم كما أراد الله، فيومئذ يلقى العرب السَّلم، ولا يزالون مختلفين حتى ينشأ نشئهم على إلف شيء قد صبر عليه آباؤه، فلا يكون لأحد منهم أدنى همة في تغيير ما أراد الله أن يكون، مما صبر عليه آباؤهم وأسلافهم - وهم عند العرب والمسلمين - أهلُ القدوة.
وفي هذه السنة كتب إليَّ السُّدّي أيضاً يقول أنه لقي أحد كبار الدعاة من اليهود، وكان لا يعرفه، فحدثه عن أمر اليهود في فلسطين، فقال له الداعي اليهودي: لا تُرَع، فنحن لا بدّ منتهون إلى ما أردنا، رضى العرب أم أبوْا. وما ظنُّك بقوم كالعرب خير الحياة عندهم النساء، وقد قال نبيهم:(حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلتْ قُرَّة عيني في الصلاة)، ولقد سلطنا عليهم بنات صهيون، وهن من تعلم جمالاً ورقة، وأبداناً تجري الحياة فيها كأنها نبع صافٍ يتفجر من صفاة شفافة كالبلَّور. وهن بنات صهيون دلال وفتنة، وعطر يساور القلوب فيسكرها ويذهلها ثم يغرقها في لذة يضن المرء بنفسه أن يصحو من
خمارها أو نشوتها، منصرفاً عن أمر الدنيا كله لا عن الصلاة وحدها التي جعلت قرة لعين نبيهم. فهن في فلسطين، وهن في الشام، وهن في مصر والعراق وتونس والجزائر ومراكش، ولولا تلك البقعة العصية التي لا نزال نخشى بأسها على ضعفها وقلتها وفقرها - أعني الحجاز وما جاوره - لقلت لك: لقد قضينا على هذه العرب، وعلى هذا الدين الدخيل الذي سرق منا التوحيد وادّعاه لنفسه. . .
(ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
فمن ذلك ما كان من اجتماع ملوك العرب وأمرائهم ووزرائهم بعد الحج من السنة التي قبلها، اجتمعوا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرَّ قرارهم على أن يعلنوا للناس جميعاً وينذرهم بما رأوا وبما أجمعوا عليه:
الأول: أن ميثاق الأطلسي ومواثيق الدول الكبرى كلها تغرير بالضعفاء وتلاعب بعقولهم.
الثاني: أن فلسطين ستجاهد، ومن ورائها بلاد العرب والمسلمين جميعاً تظاهرها بالمال والولد.
الثالث: أن الفتك والغدر والاغتيال ليس من شيمة العرب ولا من دين المسلمين، وأن حوادث الاغتيال الشنيعة المنكرة التي اقترفها اليهود ينبغي أن تقابل بالصدق والصراحة لا بالغيلة والغدر.
الرابع: أن الأمم العربية والإسلامية تعلم أن ليس لديها اليوم من السلاح ما يكفي لقتال الأمم المعتدية التي تظاهر اليهود بالمال والسلاح، ولكنها ستقف كلها على بكرة أبيها صفاً واحداً تقاتل بما تصل إليه يدها من مقاطعة ومنابذة وكبرياء. وأنها تفعل ذلك ما استطاعت، ولكنها لن تظلم يهودياً ولا نصرانياً ولا أحداً من أهل الأديان، ولن تضطهد بريئاً ولا لاجئاً، وأنها لن تقنع بشيء بعد اليوم إلا بجلاء المعتدين والمستعمرين من بلادها، وجلاء اليهود عن أرض فلسطين، ومن شاء أن يبقى فيها من يهود، فله ما لنا وعليه ما علينا.
الخامس: أن الأمم العربية والإسلامية قد عزمت على أن تبدأ منذ هذا اليوم في انتخاب مجلس عام تمثّل فيه جميعاً، وهذا المجلس هو الذي سيضع الدستور العام للدول العربية والإسلامية، حتى إذا تمَّ وحّدت هذه الدول سياستها الداخلية والخارجية، وصارت يداً واحدة
في العمل، لتقاوم بذلك اتحاد الأمم الديمقراطية الغربية، التي لم تزل تريد أن تجعل الشرق سوقاً وأهله عبيداً.
(ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
ففيها أراد اليهود في بعض البلاد العربية أن يظاهروا إخوانهم في فلسطين، فأجمعوا على جعل يوم السبت كله منذ الصباح يوم عطلة فأغلقوا دكاكينهم، ورفعوا عليها أعلام لدولة الصهيونية المجترئة، واجتمعوا في بِيَعهم وجمعوا مالاً كثيراً بلغ العشرين مليوناً من الجنيهات لمساعدة المصانع التي كادت تغلق أبوابها من جرَّاء المقاطعة التامة التي أحسنت الأمم العربية توجيهها وتدبيرها.
ومما كان من ذلك في هذه السنة اجتماع المؤتمر العام لنساء العرب في دمشق، وقد قرّرن أن تعود المرأة إلى بيتها عاملة على إنشاء جيل من البنين والبنات لم تفسده الشهوة التي استبدت بالناس في تقليد ذلك الفجور القبيح الذي عملت اليهود على نشره في بلادهنّ من زينةٍ وتبرجٍ ورقص وتحلُّل من أخلاق السلف، وذلك لكثرة ما وقع من حوادث هدمت بيوتاً عزيزة وأسراً كريمة، وأفضت إلى ضروب من المآسي لم يطق أحد عليها صبراً.
وفيها أيضاً أجمعت الصحف العربية والهندية والإسلامية والتركية والفارسية مقاطعة الإعلان اليهودي. وكل صحيفة تخالف هذا الإجماعُ يمحى أسمها وأسم رئيس تحريرها ومحرّريها من سجل نقابة الصحافة، ولا تفسح لأحد منهم فرصة حتى يعمل في صحيفة أخرى بعد هذه المخالفة.
(ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث
اشتعلت نيران الحروب في الشرق كله، واجتمع رؤساء الدول العربية والإسلامية في مكة المكرمة ووحّدُوا قيادة الجيوش العربية، ولكن لم يلبث سفير بريطانيا في مصر وسفير أمريكا أن أرسلا برقية إلى المجتمعين في مكة يطلبون وقف الحركات الحربية التي سموها (ثورة)، ورغبوا إلى ملوك العرب ووزرائهم أن يتمهّلوا حتى يصدر تصريح مشترك من
الدولتين الكبيرتين، على شريطة أن تمتنع البلاد العربية من متابعة السياسة الروسية التي تتظاهر بمؤازرة العرب والمسلمين.
وبعد أيام صدر هذا التصريح، وهو ينص على أن للعرب ما أرادوا من وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وعلى العرب أن يتولوا بأنفسهم مفاوضة يهود فلسطين على السياسة التي يريدونها، وأن بريطانيا وأمريكا، لن تتدخَّلا في الخلاف الناشب بين الفريقين، وأن الدولتين الكبيرتين ستمنعان كلُّ مساعدة ترسل من بلادهما إلى فلسطين. من مال أو سلاح. . .
(ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
تمَّ استخدام الذَّرة وانفلاقها في كلُّ شيء، وحدث في زراعة البلاد انقلاب عظيم، إذ أصبح من اليسير استنبات نبات الصيف في الشتاء، ونبات الشتاء في الصيف. وقد بدأ ملوك العرب أعظم عمل في التاريخ، وهو استخدام أسلوب جديد يحوّل الرمال العاقرة إلى أرض خصب وافرة الزَّرع، وقد نفَّذ هذا في جزء كبير من صحراء جزيرة العرب. أما في مصر والسودان، فقد تمَّ توزيعُ ماء النيل وضبطه حتى لا يضيع من مائه إلا أقل قدر، وبذلك أتيح لمصر أن تُنشئ ثلاثة فروع جديدة شقَّتها في الصحراء الشرقية حتى أفضت إلى بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصار ما بينها أرضاً مريعة ذات خصب. وبذلك سيتاح لمصر أن يبلغ عدد سكانها أربعين مليوناً من الأنفس في أقل من عشرين سنة.
ومما كان من ذلك نهضة عامة في سياسة البلاد العربية، جعلت الرأي العام العالمي يناصر القضية العربية مناصرة تامة في أكثر بقاع الأرض. . .
(ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
كثرت حوادث الاغتيال والفتك في كثير من البلاد العربية والأجنبية، وقُتل من العرب وأنصار العرب من سائر الأمم خلق كثير، واستفحل الشرّ استفحالاً عظيماً، حتى ثارت الصحف الإنجليزية والأمريكية وطالبت حكوماتها بإعلان قرار واحد بأن الرأي العام
والسياسة العامة في سبيل السلام تقتضي أن تُبذل النصرة الكاملة للعرب وللقضية العربية، وأن تتعاون الدول على ردَّ العدوان الصهيوني الذي صار طغياناً شديداً في جميع بلاد الأرض، وأنه ينبغي على الدول جميعاً أن تضحي في سبيل ذلك بكثير من المصالح المالية، وهي قيود اليهودية التي جعلت كلُّ الأمم ترسف في أغلالها. . .
(ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة بعد الألف)
ذكر ما كان فيها من الأحداث:
كتب إلى السُّدي يقول: إن أمريكا قد قررت إجلاء اليهود من أرضها كلها، وأن تستصفى أموالهم، ولا يبقى فيها إلا علماء اليهود وحدهم إن شاءوا. ومن المنتظر أن تفعل بريطانيا وسواها من الدول مثل ما فعلت أمريكا.
وفيها ثار العمال اليهود في فلسطين على أصحاب المصانع اليهودية، وذلك من جرّاء بوار أكثر التجارة اليهودية التي نهكتها المقاطعة العامة في بلاد العرب والمسلمين، ولقلة الأجور، ولكن الحكومة اليهودية ضبطت الأمر وبذلت الأموال، وجنَّدت جيوشاً عظيمة العدد والعدد. وحدثت أحداث عظيمة في أكثر بقاع الأرض. حتى وقع التنابذ بين الدول الكبيرة التي لا يزال لليهود فيها سلطان عظيم.
وأخوف ما يُخاف أن تقع في هذه السنة حرب عالمية تستخدم فيها جميع الأسلحة الجديدة التي يخشى أن تكون على العالم دماراً وخراباً.
واستيقظ الشيخ من غفوته، ونظر إليَّ نظرة المتعجب، وقال من أنت؟ وما تفعل؟ فانتبهت فزعاً، وإذا أنا أقرأ في تفسير الشيخ أبي جعفر الطبري تفسير قوله تعالى:(وقالتِ اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ غُلَّتُ أيديهمْ ولُعنوُا بما قالوا، بلْ يداهُ مبسُوطتان يُنفقُ كيف يشاءُ، وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليكَ طُغياناً وكفراً، وألقيْنا بينهمُ العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامةِ كلما أوقُدوا ناراً للحربِ أطفأها اللهُ، ويسعون في الأرضِ فساداً واللهُ لا يُحبُّ المفْسِدِين).
محمود محمد شاكر
التيارات الفكرية العالمية والأزهر
للأستاذ محمد فريد وجدي
كتب الله للجامعة الأزهرية أن تكون مثابة علمية للعالم الإسلامي كله، تشدّ إليها الرحال من جميع أقطار الأرض لتستمد الشعوب الإسلامية من ينبوعها النمير علماً وحكمة؛ وهي مكانة تجب المحافظة عليها مهما كلفتنا من الأموال والجهود. وأنت ترى أن الأمم تتنافس في سبيل نشر ثقافتها في بقاع الأرض منفقة في هذا السبيل مالاً جماً لا يعود عليها من ورائه في الظاهر شيء غير علاقات أدبية، ولكن هذه الأمم التي تعرف كيف تستفيد الثروة والمجد.
حرص المسلمون بدافع قوي من دينهم من لدن أن قامت لهم دولة، على أن يكون قوامها العلم والحكمة، فقرب ولاة أمورهم العلماء، ومكنوهم من تقوية بناء جماعتهم، وأمدوهم بكل الوسائل الممكنة لإقامة الجامعات، وتأسيس المكتبات، وترجمة المؤلفات؛ فكان طلاب العلم يجدون بين أيديهم من المدرسين والكتب ما لا يحتاجون معه إلى المزيد. وكان مما حرص عليه أولئك المدرسون ليحفظوا للإسلام سلطانه على العقول، أن يجمعوا كلُّ ما وجهه الملاحدة والمضللون إلى العقائد من تشكيكات وشبهات، وأن ينقدوها نقداً تحليلياً لا يدع في قلوب الطلاب حاجة للمزيد على قدر ما سمحت معارفهم به من تلك الأزمان.
ونحن اليوم في القرن العشرين، وقد تطورت فيه العقلية الإنسانية بتطور المعارف، وتعاقب الحوادث، تطوراً بعيد المدى بحيث ما كان يقنعها من العلم والحكمة قبل قرنين أو ثلاثة قرون لا ينقع لها غلة اليوم. فقد حدثت فيها أحداث اجتماعية، وتعارضت فيها مصالح طائفية، وتناقضت أساليب اقتصادية، وتصادمت عقائد دينية، وتفجرت بين كلُّ هذه المجريات المتعاكسة، ينابيع لنظريات جديدة لم يكن للعالم عهد بها، وقد تناولتها الفلسفة الأوربية شرحاً ونقداً، وتصويباً ودحضاً، ولا تزال الخصومات المذهبية قائمة إلى اليوم. وقد تسربت إلينا تيارات هذه المنازعات الفكرية، وأخذت في التأثير علينا كما أثرت على سوانا، ولكن مع هذا الفارق العظيم، وهو أنها تعتبر أهم مواضيع الحوار عندهم، ومسدول عليها حجب الكتمان عندنا، ولكنها مع هذا الكتمان الشديد تعمل عملها في الخفاء فتوجه النفوس وجهات شتى، ولا تجد النفوس الحيرى ما يستقر بها على قرار علمي مكين. أفلا
تعذر إن خبطت في دياجيها خبط العشواء، وقمشت حشواً رثاً من النظريات من هنا وهناك، ولا يجعل لها مذهباً مقرراً تعمل عليه، ولا غاية معينة تسعى لتحقيقها؟
جاء الإسلام ليؤسس ديناً للبشرية يستوعب الأديان عامة، ومجتمعاً عالمياً يسع الناس كافة، ووضع لذلك أصولاً أولية، وقرر له مبادئ كلية، وانطلق الآخذون الأولون به يحققون أغراضه هذه، فجالوا في أكناف الأرض نحو ثمانين سنة نشروا لواءه فيها على نحو ربع الكرة الأرضية، وأبلغوا دعوتهم إلى من لم يصلوا إليهم، وثبتوا في مواقفهم ثبات الرواسي، مستعينين على ذلك باقتباس كلُّ ما صادفوه من خير لدى من احتكوا بهم من الشعوب. ونحن اليوم ننزع لا إلى مثل ما عملوا، فهذا ما لا سبيل إليه، ولكن إلى الاحتفاظ بما حصلوا، فكيف يكون ذلك بغير اتباع السنة التي جروا عليها؟
أنهم كما قلنا عملوا على حفظ العقيدة الإسلامية، والدفاع عن طريقتهم الاجتماعية، بكل ما أوتوه من نشاط في العقل، وسعة في الصدر، حتى إنهم لم يتورعوا عن نقل الكفر الصراح والرد عليه، وأباحوا في سبيل الوصول إلى لباب المعارف، أن يتعلم المسلمون كلُّ ما يمكن تعلمه حتى السحر مع تحريمهم العمل به؛ فهل نضن نحن بأنفسنا على ما لم يضنوا بنفوسهم عليه، فنظل على أسلوبنا في تجاهل المؤثرات التي تنصب علينا حتى تزداد تغلغلاً في قلوب نابتتنا، وتسوقهم إلى الخروج عن حظيرتنا، قانعين بأن ما ينشر من إبطال فعلها في الجرائد والمجلات يكفي لدرء شرها عن العقول؟
إن الأزهر الذي أرادت العناية الإلهية أن تجعله مثابة علمية للمسلمين لا يزال يعنى بالمؤلفات نفسها التي كان يعنى بها آباؤنا الأولون لحياطة الدين من شبهات المشككين، ومذاهب المضللين؛ ولكن أين ما كان عليه المتكلمون في ذلك العهد مما عليه خلفاؤهم اليوم؟ وماذا كنت قائلاً حين تعلم أن أكثر ما يعنى به الأزهر من دفع الشبهات والاستنكارات قد أنقرض أهله منذ قرون، وحلت محلها مذاهب ونظريات تحتاج للفهم الدقيق، ويحتاج دحضها أو تعديلها للنظر البعيد، والعلم الغزير؟
كان آباؤنا الأولون يعنون بعلم الكلام لمجرد دحض الشبهات عن الدين، ونحن نطالب بوجوب تقرير دراسة التيارات الفكرية العالمية في الأزهر لا لهذه الغاية فحسب، ولكن لمقصد لا يقل عنها قيمة، وهو لما لدراسة هذه التيارات الفكرية من الأثر العظيم في رفع
مستوى النظر والتفكير، وتوسيع مجال الفهم للشؤون الإنسانية، وهو ما يجب أن يكون عليه رجال الدين الذي جعل العلم أساسه الركين.
إن مهمة الإسلام لم تنته بعد، وإن ما علينا وعلى الأجيال الآتية أن نعمله يحتاج لتفكير طويل، وجهد عظيم. فإذا كان آباؤنا قد قاموا بما استطاعوا أن يعملوه في سبيله في طفولة البشرية، فعلينا له واجب خطير في عهد العلم والفلسفة الطبيعية، ولا سبيل لنا إلى القيام بهذا الواجب ونحن في غفلة عما ينشأ في العالم من آراء، وما يعترك فيه من مبادئ وأصول، وما يسقط ويقوم من مذاهب ونظريات.
محمد فريد وجدي
درس في التفسير على طريقة التصوير
للأستاذ سيد قطبّ
يتجه الباحثون في الأدب العربي إلى أن الشعر قد ضعف في أوائل العهد الإسلامي ضعفاً ظاهراً بالقياس إلى الشعر الجاهلي. ويعزون هذا الضعف الظاهر إلى أسباب كثيرة؛ أولها اشتغال المسلمين بالعقيدة الدينية الجديدة، ومحاربة الدين الجديد لكثير من ملابسات الحياة الجاهلية التي كانت تثير الشاعرية - وفي مقدمتها العصبيات القبلية والعائلية - ويضيف بعضهم إلى هذه الأسباب أن القرآن حارب الشعر (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترِ أنهم في كلُّ وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون)، وأنه كان لهذا أثره في نفوس الشعراء المسلمين.
وأنا أعتقد أن هناك مبالغة في قيمة هذه الأسباب وتأثيرها في الشعر العربي؛ كما أن هناك إغفالاً لسبب أساسي آخر كامن في نسج القرآن ذاته.
أعتقد أن الجمال الفني في القرآن كان من القوة والضخامة بحيث بده الحس العربي بمفاجأة عنيفة، وكان وحده كافياً لتغذية مشاعر العرب وإشباع الحاسة الفنية في نفوسهم بزاد أجمل من زاد الشعر الذي عرفوه وأقوى.
كان فيه من سمات الشعر الفنية ومن طلاقة النثر التعبيرية مزاج يجعله نسقاً خاصاً أعلى مما تبلغ إليه آفاقهم الشعرية، بل أعلى مما تتطلع إليه حاستهم الفنية، فامتلأت مشاعرهم به امتلاءها بالعقيدة ذاتها، وأحسوا له وقع السحر في نفوسهم، واستوى في ذلك السحر المؤمنون به والكافرون (كما فصلت ذلك على سعة في كتاب التصوير الفني).
وهذا الجمال الفني في تعبير القرآن كان عنصره الأول هو (التصوير) ومواجهة الحس البشري بما يروعه من الصور والمشاهد، وبما يستجيشه من الهيئات والظلالّ. وقد كان القرآن أغنى - بما لا يقاس - من الشعر العربي كله بهذه الصور والظلال، في مستوى رفيع من التناسق يبلغ حد الإعجاز.
وحينما وفقت إلى إخراج كتاب (التصوير الفني في القرآن) - وقد حوى عدد الهجرة الماضي من الرسالة فصلاً منه - لم أكن أريد بإخراجه مجرد عرض طائفة من الصور الفنية الجميلة من القرآن؛ إنما كانت نيتي الكبرى أن يتوجه البحث في جمال التعبير
القرآني كله هذا الاتجاه، وأن ننظر إلى هذا الجمال الخالد من زاوية أخرى غير الزاوية البلاغية المعهودة، القائمة على أساس المعاني والألفاظ.
وحين ننظر إلى القرآن من هذه الزاوية الجديدة تبدو لنا بدائع من الجمال الفني لم تكن تخطر على البال. ويبدو لنا أن هذا الكتاب الخالد يخاطب الحس الإنساني غالباً من حيث تخاطبه الصورة الفنية، والمشهد المتحرك، والموسيقى التصويرية؛ وأنه يعتمد كثيراً على الظلال النفسية التي تلقيها الصور والمشاهد والإيقاعات في الحس الإنساني، فتحركه، وتفتحه، وتجعله أشد ما يكون استعداداً لتلقي العقيدة الدينية؛ وبخاصة الجانب الغيبي منها - وهو جانب أصيل في كلُّ عقيدة، وله في النفس الإنسانية مكانه الذي لا يملؤه سواه - وإذا كان في كلُّ عقيدة دينية قسط أصيل من الفن كما أعتقد، وكما يبدو من الدراسات المقارنة للأديان، فقد تكفل القرآن بتحقيق هذا القسط الفني، دون أن يخل بنصوع العقيدة وبساطتها، ذلك أنه حققه في طريقة التعبير، بينما كثير من الديانات الأخرى حققه في صلب العقيدة.
وإذا نحن تجاوزنا الديانات الوثنية لأنها خارجة من الحساب هنا، واقتصرنا على الديانة الموسوية والديانة المسيحية، فإننا نجد القسط الفني في العقيدةالموسوية كامناً في الأساطير التي تزحم العهد القديم وتتخذ لها طابعاً فنياً يكاد يكون طليقاً. أما في الديانة المسيحية فقد تكفل بهذا الجانب مأساة المسيح ذاتها - على حسب ما ترويه الأناجيل والرسائل في العهد الجديد - وحتى لو نظرنا إليها في صلب القرآن، فإننا نجد القسط الفني كاملاً في تضاعيفها منذ مولد عيسى إلى رفعه.
أما العقيدة الإسلامية فقد ظلت بسيطة واضحة، وتكفل التعبير القرآني وحده - عن طريق التصوير - بتحقيق الجانب الفني في هذه العقيدة بما يناسب وضوحها ونصاعتها.
قصدت - إذن - في كتاب (التصوير الفني) إلى أن يتجه البحث في الجمال القرآني، هذا الاتجاه. . . واليوم في عدد الهجرة من الرسالة أحب أن أعرض نموذجاً كاملاً لتفسير (سورة الحاقة) على هذا الأساس. والله المستعان. . .
سورة الحاقة من السور المكية، وهي في جملتها تتولى بسط قضيتين غيبيتين من قضايا العقيدة الإسلامية، بينهما ارتباط وثيق.
أولاهما: قضية البعث والقيامة؛ والثانية قضية الوحي وأمانة التبليغ. فلننظر كيف عرضت
هاتين القضيتين الكبيرتين، ومن أي منافذ النفس الإنسانية سلكت بهما إلى مستقر اليقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحاقّة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة؟ كذَّبتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة. فأمّا ثمودُ فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريحٍ صَرْصرٍ عاتية، سخَّرها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍُ حُسُوماً، فترى القومَ فيها صَرْعى كأنهم أعجازُ نَخْلٍ خاوية - فهلْ ترى لهم من باقية؟ - وجاءَ فرعونُ ومَنْ قبله والمؤْتَفِكَاتُ بالخاطئة، فعصوا رسول ربِّهم فأخذهم أخذةً رابيةً. إنّا لما طغى الماءُ حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكِرةً وتعيها أُذنٌ واعية. فإذا نُفِخَ في الصُّورِ نفخةٌ واحدة، وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دكَّةً واحدة، فيومئِذٍ وقعتِ الواقعةُ، وانشقَّتِ السماءُ فهي يومئذٍ واهية).
الحاقة: القيامة. وهو يختار هذا اللفظ من الناحية المعنوية لما يسبقه من ذكر التكذيب بها من عاد وثمود. . . فهي الحاقة التي تحق، والتي تقع لأحقيتها بالوقوع، إحقاقاً للعدل الإلهي، وتقريراً للجزاء مع الخير والشر كما سيجيء في السورة بعد قليل.
وهو يختار هذا اللفظ من الناحية التصويرية لأن له جرساً خاصاً، هو أشبه شئ برفع الثقل ثم استقراره استقراراً مكيناً رفعه في مدة الحاء بالألف، واستقراره في تشديد القاف بعدها والانتهاء بالتاء المربوطة التي يوقف عليها بالهاء الساكنة. والجرس في ألفاظ القرآن وعباراته يشترك في تصوير المعنى وإيقاعه في الحس.
وهنا ينتهي الحديث في لفظ (الحاقة) لننظر في محيط أوسع إلى السياق الكامل:
الجو كله في هذه الآيات جو تهويل وترويع، وتعظيم وتضخيم، يوقع في الحس الشعور بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة، وبضآلة الكائن الإنساني بالقياس إلى هذه القدرة من جهة أخرى. والألفاظ بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب، وبدلالة التركيب كله، تشترك في خلق هذا الجو وتصويره: فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة لا خبر لها في الظاهر: (الحاقة) ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام لماهية هذا الحدث العظيم (الحاقة)؟ ثم يزيد هذا الاستهوال والاستعظام بالتجهيل وإخراج المسألة عن حدود الإدراك: (وما أدراك ما الحاقة؟) ثم يدعك فلا يجيب على هذا السؤال. يدعك واقفاً أمام هذا الأمر المستعظم المستهول الذي لا تدريه ولا يمكن أن تدريه. يدعك لحظة مفعم الحس بالاستهوال
والاستعظام، ليدور بك هنيهة حول الموضوع، ما دامت مواجهته غير مستطاعة!
(كذبت ثمود وعاد بالقارعة)!
إنك لا تدري ما الحاقة. . . فهي القارعة!. . .
أحسست وقعها في حسك، وقرعها في نفسك!. . . إن عاداً وثمود كذبوا بهذه القارعة! فماذا كان؟ (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. . .) والطاغية - على ما في أسمها من سورة الطغيان عليهم وغرمهم وتغطيتهم - وكذلك الريح الصرصر العاتية، كلتاهما أخف من القارعة، ولكن لعلهما تُقربان إلى حسك هذه القارعة، فهما من جنسها ونوعها. وهكذا قضى على عاد وثمود في هذه الدنيا، قضى عليهما بطرف من تلك الحاقة ومن هذه القارعة، فإذا عجز إدراكك وهو عاجز - عن تصور الحاقة، فإليك نموذجاً مصغراً منها في الصيحة الطاغية وفي الريح العاتية، فهما من مشاهدات هذه الحياة الدنيا، وإن نضح اسمهما ووصفهما هولاً! هولاً تنقله إلى حسّك هذه الصورة المروّعة: صورة العاصفة مزمجرة مدوية سبع ليال وثمانية أيام؛ وصورة القوم فيها (صرعى كأنهم إعجاز نخل خاوية) وإنك لتراهم الآن فالصورة حاضرة - (فترى القوم فيها صرعى. . .) - (فهل ترى لهم من باقية)؟ كلا لا باقية ولا أثر؛ فلتتعظ إذن وتعتبر، وليخشع حسك للهول، ولتتفتح نفسك للإيمان بالغيب المجهول.
ثم إليك مشهداً آخر لعله يقرب إلى حسك روعة الحاقة وهول القارعة. إن فرعون ومن قبله وقُرى قوم لوط المعروفة قد جاءوا بالفعلة الخاطئة. . . جاءوا بها فكأنما هي شيء محسوس أو كائن حي يُجاء به، فهي شاخصة محسوسة حين ارتكبوها. (فعصوا رسول ربهم)، وهم رسل متعددون ولكنهم بمثابة الرسول الواحد، فجميعهم يحمل رسالة واحدة من عند إله واحد - (فأخذهم أخذة رابيه) والأخذة هنا (رابية) ليتم التناسق بينها وبين (الطاغية) فكلاهما تربى وتطغى، وتغطى وتغمر. والتناسق في المناظر ملحوظ في اللوحة الكبرى.
وما دمنا بصدد استعراض المشاهد الهائلة، والروائع الغامرة، فمشهد الطوفان إذاً يتسق مع هذا الاستعراض كلُّ الاتساق؛ (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) لتكون هذه الحادثة عبرة تذكرونها وتعيها الآذان الواعية.
والآن وقد استعد الحس البشري المحدود لتصور هول الحاقة غير المحدود. الآن وقد تهيأ الحس باستعراض هذه الصور المروعة الطاغية الرابية الغامرة. . . فقد آن الأوان لاستكمال العرض، وتهيأ الموقف للوثبة الكبرى:(فإذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدة، وحملت الأرض والجبالُ فدكتا دكه واحدة، فيومئذ وقعت الواقعة، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وننظر في اللوحة الكبرى التي تجمع هذه المشاهد جميعاً. فماذا نرى؟
نرى نوعاً من التناسق الفني العجيب بين الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية والدكّة الواحدة والواقعة. . . تناسق اللفظ والجرس، وتناسق الوقع في الحس، وتناسق الحجم والقوة، في ضخامة الحادثة وروعتها، وتناسق المناظر التي تخيَّل للحس أنها جميعاً ثائرة فائرة طاغية غامرة، تذرع الحس طولاً وعرضاً، وتملؤه هولاً وروعاً، وتهزه من أعماقه هزاً.
ولن يجد مصور بارع اتساقاً أعظم من اتساق الصيحة الباغية الطاغية، والريح الصرصر العاتية، والأخذة القوية الرابية، والطوفان الطاغي تخوض غماره الجارية، والنفخة الهائلة الواحدة، والدكة المحطمة الواحدة، وبين وقعةِ الواقعة، والسماء المنشقة الواهية. . . إنها كلها من لون واحد وحجم واحد ونغمة واحدة، وكلها تؤلف اللوحة الكبرى، وترسم الجو العام الذي أراده القرآن.
وكأنما العاصفة تهدأ، والسكون يخيم، لحظة ليبدأ استعراض جديد، فيه هول، ولكنه هول ساكن رابض، بعد ما سكن الهول الهائج المائج:
(والمَلَكُ على أرجائها؛ ويحمل عرشَ ربك فوقهم يومئذ ثمانية. يومئذ تُعرَضون لا تخْفَى منكم خافية: فأما من أُوتيَ كتابَه بيمينه، فيقول: هَاؤمُ اقرءُوا كتابِيَهْ، إني ظننتُ أني مُلاقٍ حسابيهْ. فهو في عيشة راضية، في جنةٍ عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أُوتيَ كتابه بشماله، فيقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيهْ، ولم أدرِ ما حسابيهْ، يا ليتها كانت القاضية. ما أغنى عني ماليهْ، هلك عنِّي سلطانيهْ. . . خذوه فَغُلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، ثم في سلسلةٍ ذرعُها سبعون ذراعاً فاسْلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحُضُّ على طعام المسكين، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلا من غسْلِينٍ لا يأكله إلا الخاطئون).
ها نحن أولاء نشهد العرض. نشهده مجسّما مخيَّلا في أشد المواضع التي يحرص الإسلام على التجريد فيها والتنزيه. ولكن طريقة التعبير بالتصوير تختار التجسيم في هذا الموضع أيضاً لمجرد إثارة الحس وإشراك الخيال والتأثر الوجداني الحار. . .
فهنا السماء قد انشقت فهي واهنة واهية، وهنا الملائكة موزعون على أرجائها، في هذا الاستعراض الإلهي العظيم، وهُنا العرش - عرش ربك - يظلل الجميع في وقار رهيب، يحمله حملته وهم ثمانية. . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منهم، فالجرس الموسيقي لثمانية يتسق مع جرس الفاصلة كلها، والمقصود ليس حقيقة العدد ولكن تنسيق المشهد وتكثير المعدود. . . هُنا مجلس قضاء تم فيه الحشد، فليبدأ الاستعراض؛ حيث لا تخفى خافية في الحس أو الضمير.
وتكملة للعرض المجسم ينقسم المعرضون ويكون هناك كتاب يؤتى باليمين وكتاب يؤتى بالشمال. (فأما من أوتي كتابه بيمينه) فما تسعه الساحة من الاطمئنان والمباهاة: (فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه) لقد ظننت لشدة خوفي من القارعة (أني ملاقٍ حسابيه) فإذا أنا ألقي الغفران والنعيم! ثم ليلقِ صاحبنا السعيد جزاءه الطيب على مشهد من النظارة جميعاً: (فهو في عيشة راضية. في جنةٍ عالية قطوفها دانية) وليلقِ التكريم المعنوي كما لقي التكريم الحسي، فها نحن أولاء نسمع من عليين:(كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) فذلك التكريم حق لكم بما أسلفتم من صالحات.
وننظر في الجانب الآخر من الساحة لنرى ذلك الذي أوتي كتابه بشماله: لقد أدركته الحسرة، وركبته الندامة، فلنسمعه يتوجع توجعاً طويلاً وقد ثبت المشهد كأنه لا يتحرك:(يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية. وما أغني عني مالية، هلك عني سلطانيه. . .) ولكن ما باله هكذا لا ينوي مغادرة الموقف، ولا ينوي كذلك السكوت عن التفجع؟ لقد طال استعراضه ليتحقق التأثر الوجداني بتأوه الندم وتفجع الحسرة. فإذا تم هذا العرض فهنا نسمع الأمر العلويّ الذي لا يرد، فلنكتم أنفاسنا ولنستمع! (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صَلُّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه) هنا كلُّ شيء مفصل مطوّل، فمن الجمال الفني، ومن التأثير الوجداني، ومن الغرض الديني، ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة. وهنا يشترك جرس الكلمات وإيقاع العبارات مع السلسلة
التي (ذرعها سبعون ذراعاً) - وذراع واحدة تكفي! - يشترك هذا كله في إطالة الموقف أمام النظارة وفي حسهم أيضاً، ليتم التناسق بين المشهد المعروض والتأثر المطلوب.
ثم لا تقف المسألة عند الأمر العلوي الذي لا يرد بسحبه في عنف من موقفه، بعد أن أطال التفجع والندم؛ إنما هو يلقي التقريع والتشنيع، فيكشف جرمه على أعين النظارة جميعاً:(إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين) فماذا يكون الجزاء المرتقب بعد السحب والغل، إن كلُّ من في ساحة العرض سيعلمون:(فليس له اليوم ها هُنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون) فهو معذب الحس في طعامه، معذب الروح في نبذه (فليس له اليوم ها هُنا حميم) ليتم جحيم الجسم والروح!
وإذا يبلغ التأثر الوجداني هنا ذروته بعد هذا الاستعراض الحي للبشرية في يوم الهول العظيم، يوم الحاقة القارعة. . . في هذا الأوان الذي تتفتح فيه منافذ النفس جميعاً للإيمان، لا تكون هناك حاجة للتوكيد والقسم والإيمان.
(فلا أقسمُ بما تُبصرون وما لا تُبصرون. إنّه لقول رسولٍ كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلاً ما تَذَكّرُون. تَنزيلٌ من رب العالمين).
لا أقسم. ثم التعميم والتهويل. بما تبصرون وهو كثير. وما لا تبصرون وإنه لأكثر، وإن علمكم كله لقاصر. . . لا أقسم. فالأمر حقيقة: (إنه لقول رسول كريم، هذا القرآن الذي تسمعون أرسل به من عند الله. فما هو بقول شاعر - وإنّ كنتم لا تؤمنون إلا قليلاً - وما هو بقول كاهن - وإن كنتم لا تريدون أن تفكروا في الأمر، وتتعظوا بالتذكر.
ثم يتابع التأكيد المؤثر في الحس والقلب، الموحي بصحة ما ينقل الرسول عن ربه من قرآن ودين، وذلك بتصوير محمد صورة المبلّغ الأمين، ولو أنه خان أمانته ما عصمه من الله عاصم، وللاقى أشد ما يلقاه المبلّغ الخائن، في حسم جازم، لا شفيع فيه ولا نصير.
(ولو تقوَّلَ علينا بعض الأقاويل، لأخذْنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين).
وبهذه الصورة الحسية، صورة الأخذ الشديد باليمين ثم قطع العِرْق الذي يودي قطعه بالحياة، حيث لا يحجزه أحد منهم من هذا المصير المخيف. . . بهذه الصورة الحسية يؤثر في وجدانهم تأثيراً عميقاً شديداً، وهذا الوجدان متفتح من قبل للتأثر. . . وهنا - وعلى
ضوء هذه الصورة المؤثرة - يعاود التوكيد واليقين ثم التهديد الذي يتسق مع التهديد السابق لرسوله الأمين!
(وإنه لتذكِرةٌ للمتقين. وأنا لنعلمُ أن منكم مكذَّبين) ولكن هذا التكذيب لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً وسيكون وباله على أصحابه (وإنه لحسرةٌ على الكافرين، وإنه لحقُّ اليقين).
ثم يدع القوم سكارى من التأثر، غارقين في التصور والتذكر، ليلتفت إلى النبي الكريم مخاطباً له في أمر وتقرير:(فسبح باسم ربك العظيم).
وهكذا يبدأ بالتصوير الاستعراضي الفني، لينتهي منه إلى التأثير الوجداني القوي، فإلى الإيمان العميق القلبي. وتلك طريقة القرآن غالباً في مخاطبة الحس الإنساني، وهي أقوم طريق وأقرب طريق.
سيد قطب
ذو الجناحين
للأستاذ محمود الخفيف
(إلى كلُّ مؤمن تهون عليه روحه في سبيل الله)
لذكرى شهادته أطرب
…
وإني بها الساجع المطرب
ألوذُ بها في سواد الخطوب
…
فيؤنس روحيَ ومض لها
كما يؤنس المدلجَ الكوكب
كمىٌّ أبُوَّته هاشم
…
يشع الهدى وجهه الباسم
إذا الهول ضجت به حومة
…
فكالسهم وثبته في الصفوف
وكالسيف عزم له صارم
أخوه عليٌّ إمام الهدى
…
وخير السيوف غداة الفدا
شبيه به جعفر في حجاه
…
ويشبهه إذ يهز الحسام
لضرب وإذ يتحدى الردى
أتى الروم آلافهم تزحف
…
بمؤتة واد بهم يرجف
تضيق الأباطح عن سيلهم
…
فلا العين أولَهم تستبين
ولا الوهم آخرهم يعرف
خضم ترامى بهم زاخر
…
يغطى الضحى نَقْعُهُ الثائر
إذا أحصت العين آلافَهُم
…
رأت حولها مائة أو تزيد
يَعِجُّ بهم مَوجُه الحادِرُ
دخان هناك ونقع هنا
…
وبرْق لهم يبرق الأعْيُنا
وخيل تحمحم مهتاجة
…
وَبِيضٌ يَظلَّلُ إيماضها
مُثارُ الغُبار وسُمرُ القنا
دَنَت من مُخيَّم جند العرب
…
جياد من الروم رُعْنُ الخبب
جياد تلألأ ديباجها
…
فوارسها يلبسون الحديد
على سُرُجٍ وُشِّيَتْ بالذِّهبْ
تداعوا إلى الضرب إذ أحدقوا
…
بِجَمع يكاد بهم يُغرَقُ
بجيش من البيد لم يدَّرع=بغير اليقين ولا رَاعَهُ
نُضَارٌ يَرَاهُ وإستِبْرقُ
قليل العديد ضئيل الخطر
…
وما في الصحاري له من وزر
عجاف من الجوع خيل لهم
…
مئات ثلاثون قد هدَّهم
على قلة الزاد طول السفر
قليل ولكنهم في اللقا
…
كثير إذا اضطرم الملتقى
شداد وإن لم يجروا الحديد
…
خفاف إلى الموت إن أقبلوا
ثقال إذا دخلوا مأزقا
تأمَّر زيد وأعلى اللَّواَء
…
أميرْ من السيف أقوى مضاء
له البدء حتى إذا ما هوى
…
فجعفر للجيش بعدُ الأمير
يعيد اللقاء ويحيى الرجاء
مشى بهم الفارس الأروع
…
له الجيش من كَفِّهِ أطوع
هم المؤمنون الذين اشتروا
…
بأرواحهم جنة مالهم
وراء الخلود بها مطمع
تداعى الرجال فسوَّى الصفوفا
…
وشدَّ بهم ليخوضوا الحتوفا
فكاثره الروم إذا غاظهم
…
من القلة البارزين لهم
حفاظ به يدفعون الألوفا
وراحت بهم ترجف الراجفة
…
رُعُودُ المنَايا بها قاصفة
وخَفُّوا يبيعون أرواحهم
…
فكم زلزلوا من صفوف العدو
وكم حَسروا لُجَّة جارفهْ
وسارَ ابنُ حارثةٍ مُعْجَلَا
…
فكان الشَّهيدَ بها الأوَّلا
ألحتْ عليهِ غلاظ السُّيوفِ
…
وكم وثْبَةٍ هدَّها سيْفُهُ
وحيداً، وكمْ فَارسٍ جنْدَلا
وأقدمَ من بعده جعفرُ
…
غَضُوباً كما وثبَ القَسْوَرُ
تلاطمَ موْجُ الرَّدى حوْلهُ
…
وُجنَّ جنونُ الوغَى إذ جرَى
على الأرضِ ذائِبُها الأحمرُ
وقلَّتْ بها القِلَّةُ الصابرة
…
رَحى الموْتِ جدَّت بهم دائره
على الأرض من حولهم ظلمة
…
غبار ورعد وبرق هنا
ومن ها هنا كرَّةٌ سافرة
وخاض الوغى الفارس المُعْلَمُ
…
يسربله - نقعها والدم
بيمناهُ رايتها جعفرٌ
…
يثور به عِرقُهُ الهاشميُّ
كما نَفِرَ القَسْوَرُ الضَّيْغَم
تحدَّى الحتوفَ وأهوالها
…
وقد هاجت الحرب أبطالها
وما زُلزلَ القِلةُ المؤمنونَ
…
وإن غصَّ بالأكثرين الفضاء
وزلزلتِ الأرضُ زلزَالها
تنقَّل في حرَّها جاهداً
…
صبوراً لِلأَوائها صامدا
إلى أنْ تصَدَّى له فاتكٌ
…
فأهوى على يده ضارباً
بِسيفٍ أطنَّ بهِ السَّاعِدا
تماسكَ للخطب لم يجزعِ
…
وكرَّ الكمِيُّ ولم يرجعِ
بيسراه رايته، واليمين
…
على الأرض ساعدها فِلْذَةٌ
تموت، من البطل الأرْوَعِ
وظلتْ بقيَّتها نازفةْ
…
وقد صخبت حوله العاصفة
فلله وثبته إذ يفورُ
…
دم قد سقى الأرض منه
ومن كَثبٍ كثرةٌ زاحفة
مضى مُنْهكاً يتلقى الرماحا
…
وصمم ليس يخاف اجتياحا
تراه ورايته في الشمال
…
كنسر يَجر الجناحَ المهيضَ
ويرفع كما يطير جناحا
وفتيان صدقٍ مضوا حوله
…
وقد رقَّ كل فؤادٍ له
يذودون عن بطل نازفٍ
…
يقل المثيل له في الرجال
وما فاقة فارس قبله
جليدٌ مع النزف لا يستطارُ
…
وفي وجهه للحمام اصفرارُ
تسلَّلَ حتى دنا دارعٌ
…
فما زال يضرب حتى هَوت
من الليث بعد اليمين اليسار
فهلْ فزعَ الحرُّ واستسلما
…
ولم تُبقِ منه السيوف دما؟
تقدم محتضناً ممسكاً
…
بزنديه رايته في الصفوف
وظل الكميَّ بها المعلما
ترنح مما به الفارسُ
…
وما وهنَ الأسدُ العابسُ
وظلَّ على صهواتِ الخطوب
…
يلاقي الرَّدى فِلذةً فِلذةً
وما قلَّ عزمٌ له هاجسُ
وأسلم مهجته للظُّبا
…
كؤوسَ المنيَّة مُستعذبا
فيا هول مصرعه والسيوف
…
تهاوى على جسمه القَسوريِّ
وما يملك الليث أن يضربا
تكلم مُرتجزاً مُنشداً
…
(لدين الهدى قلَّ منى الفدا
ألا خسئ الكفر والكافرون
…
جزائي غداً جنة المتقين
وأعظم بجَنَّتِهم موردا)
تبسَّمَ للموت إذ أغمضا
…
على وجهه لمحات الرضا
فتى بات للمجد أنشودة
…
إذا ذَكَرَ المؤمنون الفداء
على الدهر ذكرٌ له أوْ مضا
تقشَّع من فوقه العِثْيَرُ
…
وآماق أصحابه تُمْطِرُ
جراح ثمانون في جسمه
…
ومن عَضُدَيه نجيعٌ يسيل
ومن عاتقيه دم يقطر
بقيَّة ليثٍ رَدَاه استبقْ
…
وجسمٌ بتلك الفيافي مِزَقْ
تجاوز في البأس جهد الخيال
…
وأبلى بَلَاَء امرئ صادق
وأين له الند فيما صدق
نَعَاهُ النبيُّ وفي قلبه
…
بكاءٌ عليه وبشر به
وصلى عليه الرسول الكريم
…
وقال وفي مقلتيه الدموع
لمن علم الرزء من صحبه:
(هنيئاً له نفسه الراضية
…
بجنات عدن غدت ثاوية
سيبدلك الله بالساعدين
…
جناحين يا ابن أبي طالب
فتسبح في الجنة العالية)
وزاد الرسول: (كأني أرى
…
هناك الشهيد الفتى النيَّرا
ففي جنة الخلد رهط يطير
…
ملائكة بينهم جعفر
يهز الجناحين مستبشرا)
شهيد فؤادي له يطرب
…
وأني به الشاعر المطرب
أُجَدِّدُ ذكراه مُستوحياً
…
فيملأ قلبي وحيٌ لها
يضيء كما بزغ الكوكب
الخفيف
مُثل عُليا في سيرة الرسول (ص)
للأستاذ محمد محمد المدني
يحتفظ التاريخ لكثير من العباقرة والعظماء بسير مفصلة أو مجملة تطالع الناس منها مثلٌ تحتذي في العلم أو الشجاعة أو الصبر أو التضحية أو الإيثار أو التفاني أو نحو ذلك من خصال العظمة أو صفات الشرف. ولهذه المُثل تأثيرات في النفوس، وتوجيهات للقلوب، تتفاوت ويختلف مداها تبعاً لقيمها الخاصة، واختلاف مصادرها ومواردها، وتفاوت وجوه النظر إليها.
ولا يعرف التاريخ سيرة هي أزكى أصولاً، وأطيب فروعاً، وأدنى قطوفاً، وأحفل بالثمار، وأملأ بالمُثل العليا، وأكبر تأثيراً في النفوس، وأصبر على البحث والدرس، وأثبت على اختلاف النظر، وأبقى على وجه الزمان، من سيرة نبي الإسلام (محمد صلى الله عليه وسلم:
فصول متلاحقة، وصفحات مشرقة، وصور رائعة، ومعان كلما زدتها نظراً تجلّت لك منها نواح متجددة تزيدك إيماناً، وتزيدك نوراً، وتفتح أمام عينيك آفاقاً واسعة لا يكاد ينتهي مداها. ولم يكن ذلك لأن (محمداً) صلى الله عليه وسلم (عظيم) أو (عبقري) فما كانت العظمة ولا العبقرية من الصفات التي يحدّد بها فضل الله على نبي اصطفاه وصنعه على عينه، ورعاه وربّاه، وأدّبه فأحسن تأديبه، وأكرمه برسالته، وأمده بوحيه، وإنما كان ذلك لأن (محمداً) رسول الله فحسب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
من بين المثل الكثيرة التي تطالعنا من خلال السيرة المحمدية الطاهرة ثلاثة مثل يقف المرء أمامها معجباً بها مأخوذاً بعظمتها وجلالها كما يقف الناظر أمام صورة رائعة ذات معنى قد أحتفل بها رسامُها وأودعها فنه وذوقه وما وهبه الله من قدرة على الإبداع والإتقان، ثلاثة مُثُل يصوَّر كلُّ واحد منهما أسمى ما يتصوره البشر من الكمال، وأنبل ما يتطلع إليه الناس من النبل، ولا أذكر أني مررت بمثل منها إلا وقفت عنده وقفة تطول أو تقصر، ولكنها تهز قلبي هزاً، وتحلَّق بي في جو من الصفاء الروحي، والنعيم الفكري، لا أحسبني قادراً على وصفه.
وإليكم أيها القراء الكرام هذا المثل الثلاثة:
1 -
هذا يوم من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاه (بالطائف) تلك البقعة الخصبة الغنية بكرومها وبساتينها وفاكهتها الكثيرة: جاء إلى هذه البلدة، وقد احتوته مكة، وضاقت عليه بما رحبت، ولم يألُه المشركون فيها إيذاء واضطهاداً، وقد مات نصيراه: أبو طالب وخديجة، وتجرّأ عليه بعدهما من لم يكن يتجرّأ عليه في حياتهما. جاء إلى هذه البلدة وحيداً فريداً يلتمس النصرة من ثقيف لدينه ودعوته، ويستعين بهم على أهل مكة الذين أذاقوه وأصحابه الويل بضع سنين. يا لجلال الإيمان! ويا لحرارة الإخلاص! رجل واحد يقدم على بلدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يؤمن بدعوته أحد، وهو حلف ضنى، ونضو أذى، وموضع اضطهاد من قومه وإعنات، وقد سارت بذكرى مساءا تهم إليه الركبان، ولكنه مع ذلك يقدم على هذه البلدة مستهيناً بما في ذلك الإقدام من أخطار، لأنه قد فني في دعوته، وأخلص نفسه لربه، فلم يعد يثنيه خطر، ولا يرهبه غرر! فكيف استقبلته (الطائف)؟ كيف استقبلته هذه البلدة الطيبة ذات الجو الهادئ الصافي، الذي من شأنه أن يهذب النفوس، ويعطف القلوب، ويثير نوازع الكرم وبواعث النخوة والنجدة؟ كيف استقبلت هذا الداعي الكريم الذي تتفجر من لسانه الحكمة، وتبدو على قسمات وجهه علائم الصدق والإخلاص؟
لقد (عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها وأشرافها، وهم أخوة ثلاثة، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً؟ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم).
وتمثل، عليه السلام، قومه، وقد علموا برد ثقيف إياه، فكره ما يكون من شماتتهم به وانبعاثهم في إيذائه، فقال للذين ردوه: أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. ولكنهم (أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليهم الناس، فكان يمشي بين سماطين منهم، فكلما نقل قدماً رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، فإذا أذلقته، الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون. . . وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فكلما انصرف عنه من كان يتبعه من السفهاء
اتجه ببصره إلى السماء ودعا ربه قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي! إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي! ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!).
شكا إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، لا تبرّماً بما لقي، ولا تهرّباً مما حمل ولكنه يريد للدعوة نجاحاً عاجلاً، ونصراً سريعاً، ويرى الناس وقد تنكروا لها في شخصه فامنعوا بها تنكيلًا وحرباً لا فرق في ذلك بين المشركين في شعاب مكة، والمشركين في سهول الطائف، فكأنما تواصى الجميع على وأد هذه الدعوة والحيلولة بينها وبين الحياة، ولذلك قال: إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ فإلقاء هذا المعنى في روع النبي صلى الله عليه وسلم، وإجراؤه على لسانه في دعائه لربه كان إيذاناً بأن أمر الدعوة سيتجه بعد اليوم وجهة أخرى، وسيهيئ الله له من القلوب المستعدة ما يكون كفيلاً بتقدمه ونجاحه، وهذه سنة الله في خلقه: أن يأتي الفرج بعد الشدة، والنور بعد الظلمة. وقد كان ذلك فعلاً فلم يطل الأمر بدعوة الإسلام حتى هيأ الله لها قلوب الأنصار في يثرب، واستبدل بالمعاندين المصرّين قوماً آخرين.
وما أعظم هذه الكلمة الطيبة التي يقولها (محمد) لربه في مناجاته إياه (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي!) تلك مرتبة الرضا والفناء في الحب، والاستهانة بكل ما سواه من أهوال الدنيا.
هذا مثل التضحية، والإخلاص للفكرة، والإقدام في سبيلها على الخطر، والفناء وإنكار الذات!
2 -
ومثل آخر يضربه للمؤمنين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه، هو مثل السياسة الرشيدة الحكيمة، المستندة إلى المحبة، القائمة على الإخلاص:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم عطاياه السمحة وكان فيهم من قومه أبو سفيان وأبنه معاوية وغيرهما ممن أسلموا بعد فتح مكة، وجد الأنصار بعض
الشيء من ذلك، وضاقت له صدورهم، وكأنهم نظروا إلى هؤلاء الذين كانوا بالأمس أعداءهم، والذين أذاقوا رسول الله وأذاقوهم ألوان العذاب وقد أصبحوا فيما يوم وليلة يتمتعون بهذا العطف النبوي الكريم حتى ليزيد حظهم عند القسم على حظوظ السابقين من المؤمنين، فلم تتضح عندهم الحكمة في هذا الصنيع، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتساءلون، وقال قائل منهم لصاحبه (لقد لقي رسول الله قومه!) يريد أن عاطفته لقومه وعشيرته قد غلبته حتى أنسته سابقة الأنصار، وفضل الأنصار.
كان من الممكن أن تستشري هذه الموجدة في نفوس الأنصار، وكان من الممكن أن تغذيها الطبيعة البشرية بغذائها حتى يستفحل داؤها، وكان من الممكن - على الزمن - أن تمرض هذه القلوب الصافية المؤمنة التي تلقت الإسلام غضاً فتعهدته حتى نما وترعرع وأظهره الله وأتم به النعمة. كان من الممكن أن يكون ذلك كله لو كان أحد ما مكان (محمد) ولو كانت بيئة ما غير بيئة الإيمان والحب والثقة. ولكن الله ألهم سعد بن عبادة الأنصاري أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قالة الأنصار، فلما سمعها بادر بجمعهم وقال لهم: يا معشر الأنصار. ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى. الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لُعَاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلكت الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!
فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمته تأثر بها الأنصار حتى بكوا وقالوا: رضينا برسول الله قِسما وحظاً؟
هذه هي السياسة الرشيدة التي تستل ما في النفوس من موجدة، وتتلافى بوادر الشر فتحسمه قبل أن يتفاقم. وإن هذا الكلام الذي ألقاه النبي في الأنصار ليحتاج إلى عالم قدير
من علماء النفس ليبين لنا مدى انطباقه على الأسلوب العلمي الحديث لطب النفوس.
3 -
والمثل الثالث - وياله من مثل - هو آية العدل والتسوية وعدم المحاباة، وإيثار الله على كلُّ ما سواه: ذلك أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وناصره ومجيره من أعدائه، على الخلاف بينهما في الدين، لما مات، كأن المسلمين ترقبوا أن يستغفر له الرسول وأن يؤذن لهم في أن يستغفروا له، إعظاماً لشأن أبي طالب، ووفاء لصنيعه مع النبي وتسلية لأبنائه وقرابته وفيهم عليّ، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد هم بذلك أو فعله فنزل قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إنّ إبراهيم لأواه حليم).
بذلك وضع الأمر في نصابه، وتبين للمؤمنين أن لا محاباة ولا قرابة ولا صهر أمام الحق، وأن العلاقة الوحيدة التي تجب رعايتها والاعتداد بها هي علاقة الإيمان فحسب.
ولقد كان هذا الأمر كافياً لزلزلة النفوس في هذه البيئة العربية التي تعنى بالقرابات، وتهتم بالعصبيات، ولا سيما في شأن أبي طالب شيخ قريش، وأبى عليّ، وأخي العباس، وعم محمد، ولكن القوم قبل كلُّ شيء مؤمنون قد امتلأت نفوسهم بحب الله، فما على الرسول إلا البلاغ، وما عليهمإلا الرضا والامتثال!
من لنا بأن نجتلي هذه المُثل العليا وأمثالها في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لتكون لنا نوراً وهدى في هذه الظلمات التي يتخبط فيها الناس.
اللهم إنا نسألك التوفيق.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
شراء المعاني من أسواق الرحمات
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
في موسم الحج الماضي، ومع روح العربية الحديثة وقلبها المخلص وفكرها الملهم وأمنيها الأول عبد الرحمان عزام بك، رحت أبتاع لنفسي معاني من أرض محمد، صلى الله عليه وسلم، مع ذلك الركب الإنساني العظم الذي يقصد كلُّ عام أسواق الرحمات، يسافر لها من كلُّ صوب عبر البحر والصحارى والجبال، ويخرج لها بائعاً كلُّ شئ إلا قلبه، مودعاً كلُّ عزيز من أهله وماله ووطنه.
وكيف لا أخرج إلى تلك الأسواق وقد رأيت الكساد والبوار والخسار تضرب كلُّ تجارة في أسواق العالم غير هذه السوق التي عرف تجارتها وأرباحها قصادها وروادها فقصدوها على بعد الدار وقلة الزاد؟
لقد أقبلوا بأجسامهم من كل صوب نحو مركز الدائرة الذي يسافرون إليه بالروح كل يوم خمس مرات.
إنها أرباح من المعاني التي لا تنفد والطمأنينة والسلام النفسي يدفع لها هذا الركب ما يجمع أفراده من حطام الدنيا وما يدخرونه ينقلونه عن طيبة خاطر راضية نفوسهم بالمشقات والصعاب. . .
إنهم يشقون الجسد ويبذلون المادة لإراحة الروح ونشدان السلام وطلب الحسنى أمام ديان الخلائق. . .
ذهبوا يعرضون نفوسهم وقلوبهم في تجرد وحفاء وشعاثة في أسواق الرحمات لعل الله يشتريها منهم ويمسح عنها أوضار الإثم. يلوذون بالمطهر الأول الذي جعله الله أول بيت وضع للناس لتزكية النفس وتأهيلها للدنو منه والعلو إليه بعد الهبوط من جنة السماء. . . يطوفون حوله في ابتهال وتبتل وفناء وسط الإنسانية الشقية التي دمرتها الآلام. . . ويطيعونه طاعة مبصرة وعمياء في كلُّ ما فرضه عليهم في تلك الرحلة. . . ويتنقلون بين يديه في مجال الطبيعة، يصلّون له في هياكلها ملبين في الأسحار والإصباح والظهيرة والضحى والأصائل. . .
يصعدون الهضاب والجبال، ويهبطون الوديان والرحاب في استغراق وابتهاج وبكاء،
يبتغون إليه الوسيلة ويطرحون أجسامهم في مطارح الطبيعة أمام نظره العالي لعله يرحم ضعفهم وإخلاصهم ويمسح بيده الكريمة على قلوبهم.
يتعرضون لنفحاته من ظهيرة يوم عرفه، ويبيتون له بمزدلفة وينحرون ويتزكون له في منى. ويعزمون على ترك الشر في (شارع الشياطين!) يرجمونهم في فكاهة وجد وابتهاج. . . ثم يقبلون بعد ذلك إلى حياة المدن في أم القرى ويشهدون منافع لهم من التعارف والائتمار والاتجار. . .
ثم يرمون بأبصارهم إلى الشمال نحو مرقد الجسد المطهر الذي مدَّ ظلال رحمة الله على هذه الأمة المحرومة المعزولة ثم مدها على العالم وأوسع له في آفاق الروح. . .
وعند قدمي محمد صلى الله عليه وسلم اتخذت مجلسي أول قدومي عليه، وقد أغمضت عيني وفتحت خيالي يستحضر الصور التي شهدها التاريخ ووعتها ذاكرتي من حياته الشريفة وتعاليمه الهادية ووحيه العالي. وأحسست حين جلست أن العالم كله يجلس معي تحت قدمي هذه القمة البشرية التي لم تطاولها سماء أخرى. . . وأنني تحت ظلال أنضج ثمرة أدركت أسرار النوع البشري وصفوة معانيه ونهاية استعداده وحدود قواه. . . أخرجها رب الإنسانية ومكرمها من الأمة الوسط التي يلتقي فيها الشرق والغرب، وتتصل بزنوج الجنوب وبيض الشمال وصفر الشرق وحمر الغرب وتأخذ منهم جميعاً أحسن ما فيهم جميعاً. . .
وهذا هو قانون الله في جميع الأشياء: يجمع أسرار كلُّ شيء في مركزه و (عقدة) ثمرته. . .
فلتفهم هذه العربية الحديثة في نهضتها الجديدة لأداء رسالتها الثانية. أنا مؤمن عن طريق عقلي أكثر من إيماني عن طريق قلبي. ومع ذلك حين وجدتني أقترب من قبر (محمد) القطب الذي تدور بدورته روحي وتهتدي بإشعاعه نفسي أحسست قلبي يهتز ويختلج اختلاج الباكي ووجداني يطغي على عقلي فأحبذ تقبيل المقصورة الشريفة واستلامها وأخفف من منع الحراس للناس وأفلسف لهم أن الحب يدفع إلى أكثر من ذلك. . . ثم يستقر الأمر فأعود إلى القبر في هدوء الإجلال وسكينة الإعظام لهذا المقام أن يدور عنده همس لغط، أو يدنو منه مقترب بالجرأة والاقتحام كما يفعل العوام وأشباه العوام الذين لا
يملكون عقولاً وإنما يملكون قلوباً. . .
وشهدنا أول احتفال بالهجرة في دار الهجرة على الطريقة العصرية في التكية المصرية، وخطب فيه عزام (بك) خطبة من خطبه التي هي مزيج من الروح والسياسة والتجربة والعلم والتاريخ فكان صوته أول نغمة جديدة من بيان أهل هذا الزمان ترتفع في جو المدينة التي ولد فيها فجر المؤاخاة الكاملة بين الأوس والخزرج من الأنصار، وبين المهاجرين والأنصار، وبين المسلمين وأهل الكتاب والمسالمين من الجاهليين، في تلك المعاهدة الأولى التي لا يمكن أن يبني سلم عالي دائم إلا على مثلها وروحها الذي يؤمن بالإنسانية الواحدة وبالحرية والمساواة والعدالة في الوطن الواحد وفي الأوطان المختلفة ويأبى إلا أن يكون الدين لله.
ولِيَاذُ الزنوج والأجناس الملونة واعتزازهم بهذه المشاهد المقدسة التي تتجلى فيها المساواة المطلقة شيء عظيم! وخاصة في هذا العصر الذي جار فيه (الرجل الأبيض) واغتر بلونه، وبني على الفروق السطحية فلسفة ظالمة، استعبدت الأحرار، وأذلّت الكرامة الإنسانية، وأهدرت لباب القلوب، واعتزت بالقشور والجلود، وعاثت بالفساد في ديار الناس ولم تحاول محاولات جدية أن ترفع مستوى الحياة في بلاد الملونين ليلحقوا بالقافلة الإنسانية السريعة المراكب، بل على العكس أثقلت أرجل غيرها بالقيود وعوائق الفساد ليتخلفوا عنها ويحتاجوا إليها دائماً ويكونوا معها (حيوانات بشرية) لحمل أثقالها وجلب مغانمها.
ولكن رب البشرية بالمرصاد، فقد خرب ديار الطغاة، وجوعهم وأهلك حرثهم وعمرانهم ونسلهم، ووقفهم على هاوية الدمار التام ليتردوا فيها عما قريب إذا لم يراعوا أمانة الاستخلاف في الأرض ورعاية حرمات الناس وحقوقهم الطبيعية.
إن الأجناس المتخلفة تدرك بفطرتها ما في طبيعة المسلمين من رحمة بها واعتراف بحقوقها وغيرة على حرماتها وحب لتقدمها، ولذلك تقبل على الإسلام، وعلى شعيرة الحج بنوع خاص، لتشعر لأول مرة في هذا العصر بقيمة ذاتها، واكتمال حقوقها واعتراف الدنيا بإنسانيتها.
ومن يرى الإنسانية في ثيابها البسيطة، وحفائها وابتهالها حول الكعبة وبكائها لربها واصطفافها جميعاً على قدم المساواة، يبيع نفسه لخدمتها وإنصافها ومكافحة الطواغيت
والمظالم التي تهدر كرامتها، وتذل عزتها.
ولن أنسى ذلك الشيخ الأسود الذي وقف أمام باب الكعبة يبكي ويبلل لحيته ويجأر بالدعاء وينادي: اللهم أجمع قلوب المسلمين كما جمعت أجسامهم! ولا ذلك الهندي الساجد في نشيج ودموع بجوار مقام إبراهيم. . .
ولا تلك الزمرة من زنوج نيجريا في ثياب الإحرام البيضاء تتلو وراء المطوّف دعاءها في رطانة ولكنه ومع إتلاع الأعناق ومشية العزة والمسرة والشعور بالحضارة الروحية ولقاء قلوبهم مع قلوب غيرهم من الناس في ثقة ومحبة.
ولا تلك الأرتال السائرة على أقدامها على طريق مكة والمدينة أياماً وليالي تقصد زيارة المدينة، بعد أن جاءت من أعماق القارة السوداء (إفريقية)، والقارة العجوز (آسيا) يحدوها الحب، ويسوقها الإلهام إلى أرض التحرير والعتق من ظلمات الوثنيات والمثنويات والسحر الأسود والرهبة من القوي الجبارة المبهمة التي تطالعها من طلعات هاتين القارتين الغامضتين!
ويكفي أحدهم جوار الكعبة عاماً ليحصل علماً من جميع أجناس الأرض لم يكن ليجده عمره في دياره ولو عاش أبد الأبيد.
إن الحج نسك عجيب تفرد به الإسلام، وجعله مثاراً لعالم فني (سينمائي) ورمزي بجانب ماله من الآثار التعبدية والاجتماعية.
وكم ترك من آثار عميقة في حياة المسلمين وحياة الناس جميعاً وسير التاريخ العالمي إذ كان بمثابة الرياح التي تحمل البذور من مكان إلى مكان لتنتج خليطاً من الأنواع، فهو قد حمل الشخصية الإسلامية المتفرقة بافتراق البقاع على اللقاء في معهد واحد. وكما كان سبباً لاجتماع القبائل العربية في الجاهلية على معناها العام ووحدتها وعرض أمجادها في أسواق الدين والتجارة واللغة، كذلك يحمل العالم الإسلامي بأممه المختلفة على اللقاء الدائم في عصور التاريخ. فالعالم الإسلامي مدين له بجانب القرآن بوحدته الفريدة على مدى الأجيال.
وإنه لعمل عظيم في جذور الوحدة العربية والوحدة الإسلامية والوحدة العالمية.
عبد المنعم خلاف
معجزة الدهر
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
مرت المعجزات وبقيت معجزة واحدة خالدة هي القرآن.
والمعجزات هي براهين الأديان أنها من عند الله وليست من عند الإنسان. والأديان لا تكون شيئاً إن لم تكن من عند الله ويقم البرهان الناصع الساطع على أنها من عنده. فصدورها من الله ضمان هدايتها الإنسانية في كلُّ الظروف ما أطاعتها الإنسانية. ووضوح البرهان على أنها من عند الله ضمان استيقان الإنسان إياها وطاعته لها. وسواء أكان الدين خاصاً بأمة أم عاماً للبشر فالبرهان عليه ينبغي أن يكون عاماً يخضع له كلُّ عقل، لا خاصاً تخضع له بعض العقول. وليس يفي بهذا الشرط في البرهان على الدين الحق انه من عند الله إلا المعجزات.
والإنسانية الآن في حاجة إلى دين تخرج به من ورطاتها بعد أن كادت أن تهلك حين نسيت الدين. ولو أرادت البحث بعقلية علمية عن دين الفطرة - كما لا بد لها يوماً أن تبحث - فليس أمامها إلا أن تنظر في الأديان كظاهرة كونية. وفي الحق أنها ظاهرة من أكبر الظواهر الواقعية وأعظمها مظهراً وأثراً في حياة الإنسان. والواقع هو موضوع الدراسات العلمية أو هو موضوع العلم الطبيعي بشرط ألا يكون لهوى الإنسان دخل فيه، لأن الهوى والحق قلما يجتمعان. لذلك لم يجعل العلم التاريخ مجالاً لبحثه لأن الأهواء من عوامل التاريخ.
لكن هناك ظاهرة تاريخية هي أهم ظواهر التاريخ وأشبهها بالظواهر الطبيعية التي ليس للإنسان عليها سلطان وإن جرَت على أفراد من الناس. هي تلك ظاهرة النبوة وظهور الأنبياء. وهي في تاريخ البشرية أشبه ببعض الظواهر الفلكية النادرة المتجددة؛ ولو ضربنا لها مثلاً ظاهرة المذنَّبات لم نبعد. يظهر النبي في أفق البشرية من عصر لعصر. كما يدخل المذنب أفق الأرض بين حقبة من الزمن وحقبة، فيشغل به الناس ما لبث في أفقهم، ثم يذهب المذنَّب غير تارك أثراً ويبقى للنبي عظيم الأثر في الناس.
وظاهرة الأنبياء فيها كل ما في الظواهر الطبيعية الفلكية من مميزات. فهي من ناحية ظاهرة واحدة متجددة، فالنبي أشبه بالنبي من النجم بالنجم:
واحد من الناس يظهر فيهم على غير إعداد منهم، يتجرد من كلُّ ما يشغل الناس من إقبال على الدنيا واستمتاع بها، جاعلاً شغله الشاغل دعوة قومه إلى فاطر الفطرة وخالق الناس. ثم هو لا يدعوهم من عنده فيلتبس عليهم بالفلاسفة والحكماء الذين يكثرون في بعض العصور ولا يكاد يخلو منهم عصر، ولكن يدعوهم باسم الله الذي خلقهم، مؤكداً لهم أن مرسل إليهم من عند لله ربهم برسالة ليس له فيها إلا التبليغ. وسواء آمن به كثير أو آمن به قليل، فإنه هو يعمل في جميع الأحوال بما يدعو إليه من دين مهما شق العمل به على الناس. ويتحمل في سبيل تأدية الرسالة على وجهها ما يتحمل، لا يصرفه عن رسالته أذى أو إغراء. فهو يطلع على الناس طلوع نجم أو قمر أو شمس أو مذنَّب: يجري مجراه ولا يحيد قيد أنمله عن مسراه.
تلك ظاهرة تاريخية، ولكن فيها كلُّ ما في الظواهر الفلكية من صفات أساسية: فيها التجدد، وفيها رغم تجددها الاطراد؛ وفيها التجرد عن هوى البشرية ومشاغلها، وفيها التقيد بأوامر فاطر الفطرة سبحانه تقيد النجم في مشرقة ومغربه، وفيها الإشراق على الناس بهدى الله كما تشرق الشمس عليهم بالضياء.
وتصحب النبوة والرسالة عادةً ظاهرةٌ أخرى هي أشبه بما يشتغل به العلم من الظواهر نسميها معجزة ويسميها القرآن آية. وهي دليل دعوى النبي أو الرسول أنه نبي الله ورسوله؛ وهي حجة الله على من شهدها أو تواتر سماعه بها عمن شهدها. والمعجزات تشبه ظواهر الفطرة في أنها مما لا يقدر عليه الإنسان. كلها تشترك في هذا التفرد لتكون دليلاً عند من يعقل على أن الذي أجراها على يد الرسول هو الله فاطر الفطرة ومرسل الرسول.
والعلم أسرع إلى التسليم بمثل هذا الدليل أن ثبت إليه لديه وقوعه، لأن العلم أعرف وأبصر بعجز الإنسان عن خرق عادة الفطرة وسننها في الكون. فابتلاع العصا لِعصيّ السحرة وحبالهم، وإبراء الأكمة والأبرص في لحظة. وإحياء الموتى بكلمة - هذا وشبهه يعرف العلم ويعرف الناس أنه مما لا يقدر عليه البشر. فلو ثبت لدى العلم وقو عه في ظروفه لسلَّم العلم بدلالته.
لكن إذا قُدر أن يبحث العلم الأديان عن طريق بحث ظاهرة النبوة فسيجد أن العقبة في
سبيله هي أن معجزاتها قد مرت وانقضت فهو لا يجد سبيلاً إلى بحث شيء منها. إلا معجزة واحدة لرسول واحد على دين واحد: إلا القرآن، معجزة الإسلام على يد محمد بن عبد الله. لقد ذهبت المعجزات كلها وبقى، وتغيرت الكتب وحرفت ولم يتغير هو ولم يحرّف. وعلى أي حال فهو هنا معنا ومع العلم والعلماء لمن شاء أن يبحث أو يفحص. فلو قدر للإنسانية أن تفحص الأديان بعقلية علمية لما وجدت غير الإسلام يثبت للفحص العلمي، إذ ليس غير الإسلام دين بقيت معجزته إلى اليوم وتبقى إلى ما شاء الله لتكون موضوع بحث وامتحان وفحص، وليهتدي البشر بفحصها إلى الله، وليعلموا عن طريقها أن الإسلام هو دين الله فاطر الفطرة وخالق الناس: جعل كتابه عين معجزته ومعجزته عين كتابه ليكون حفظ الدين وحفظ معجزته أمراً واحداً سواء، ولتدوم حجة الله على الناس.
ودلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله لا من عند بشر أم تنبهر منه العقول إذا نظرت فيه علمية صادقة. ففيه أولاً التحدي: تحدي العرب وتحدي البشر أن يأتوا بسورة من مثله. وهذا التحدي وحده دليل عجيب على أنه ليس من عند محمد. فلو علم محمد من نفسه أنه قائله ما اجترأ وهو ما هو من العقل، وهم ما هم من الفصاحة، أن يتحدى العرب بل البشر أن يأتوا بمثله، ثم بعشر سور من مثله، ثم بسورة، ثم يجعل أقصر سورة لا تزيد على عشر كلمات!
فهذا من غير شك دليل عجيب. وأعجب منه عجز العرب خصومه - وقد كانوا جميعاً خصومه في الأول - أن يقبلوا هذا التحدي ويهدموا محمداً ودعوته بالإتيان بسورة من مثل سور القرآن القصار.
وعجزهم ذلك جاء مصدقاً لنبوءة تنبؤها لهم حين تحداهم أنهم لن يفعلوا. ولم يفعله أحد من البشر إلى الآن. فأعجب من كلمتين اثنتين - ولن تفعلوا - قامتا بصدقهما المستمر معجزة باقية على الزمن.
وعجز العرب والبشر عن سورة قصيرة من القرآن أمر غريب عجيب يجعل من القرآن الكريم ألف معجزة في معجزة، لأن القرآن قدر أقصر سوره آلافاً من المرات.
وسر هذا العجز نفس سر العجز البشر عن خلق شيء مما حولهم في الفطرة. فالقرآن والفطرة كلاهما من عند فاطر الفطرة بل هو دين الفطرة وكتابها. وقد جهد الإنسان قديماً
وحديثاً في الوقوف على سر إعجاز القرآن فلم يبلغوا من ذلك إلا قدر ما يغرف غارف من بحر وإن ظن ظان أنه قد بلغ. وليس إعجاز القرآن الناس هو كلُّ دلالة القرآن على أنه من عند الله.
ليت من يقوم بالقرآن وللقرآن يحفظه ويفحصه، ويجلو برهانه للناس من جديد. ليت المسلمين لم يشغلوا عن القرآن بكلام البشر، ولم يحاولوا أن يتأولوا حين يجدونه غير نازل على أهوائهم وعلى ما يظنونه المناسب للعصر الحديث. ليت في علماء الإسلام جماعات تلقوا صنوف العلم الطبيعي وتمكنوا من علوم القرآن ليجلوا للإنسانية القرآن على النمط العلمي الذي هو من نمط النظر القرآني وفيه للإنسانية في هذا العصر العلمي مقنع.
ليت المسلمين ينتبهون إلى هذا فيتداركوا ما فاتهم، ويعدوا للدعوة إلى الله والى القرآن عدتها. فالإنسانية في حاجة إلى دين الفطرة، وما المسلمون بأقل حاجة من الإنسانية إلى تبصير بالإسلام.
محمد أحمد الغمراوي
-
هجرة مُحمّد
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . في هذه الأيام التي ذاق فيها الأغنياء عضَّةَ المجاعة، والأقوياء ذِلّة الضراعة، ومشى داء الهمجية إلى ديار المتمدنين، وشمل الظلام مدائن النور، وهان الحق والعلم والفن، وعزَّ السيف وغلى الرغيف. . .
في أيام الحرب السود، ولياليه العوابس، تجتمعون آمنين مطمئنين، غير جائعين ولا مروّعين، فاحمدوا الله على نعمة السلام فلولا خطرها ما كانت تحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
يا سادة:
في المشرق والمغرب، من شواطئ الأطلنطي إلى سواحل الهادي، وفي القرية الخاملة والمدينة الآهلة، يجتمع هذه الليلة إخوان لكم مثل اجتماعكم، قد تناسوا الحرب وأهوالها، والغلاء والبلاء، والموت آتياً من الأرض ومنصبّا من السماء، ليحتفلوا في أيام الحيرة والخوف، بذكرى الهدى والأمان، ويهتفوا باسم من أدرك العالم حينما دهمه ليل، فأطلع عليه من نور الحق فجراً ساطعا، ليهتفوا باسم سيد العالم:(محمد). . .
يا سادة:
إن لكل أمة مواسم تجتمع فيها، وذكريات تحيْيها، وعظماء يمجدهم خطباؤها، ومآثر يفخر بها شعراؤها، ولكن الذكرى التي اجتمعنا لأجلها، لا تقاس بها الذكريات. . . إنها أجل منها وأعظم: إن الحادث الذي جئنا لتمجيده لا يشبه الحوادث، إنه أعز على التأريخ منها واكرم، إنه أسمى من كلُّ مأثرة فخرت بها أمة، وأعتز بها جيل، فإذا أردتم أن تروا فيم كان جلالها وسموّها، فدعوا هذا الحاضر لحظة، وأوغلوا معي في مسارب الماضي مرّوا بين القرون وتخطوا أعناق السنين، حتى تقفوا على القرون السابع الميلادي، وقد أهلّ على دنيا رثت فيها حضارة الأولين، ونسي الدين، وأضحت العبادات عادت، والعلم ترديداً بلا فهم، والفن تقليداً بلا تجديد، وأخذ الملوك الطغاة بمخانق الشعوب، ونخرت الفوضى عروش الطغاة، وسكت العلماء وهربوا إلى الصوامع، وأيس المصلحون واختبئوا في الأغوار، وأوشكت الإنسانية أن تتردى في هوة ما لها من قرار!
وهنالك وقد غلب اليأس، بعث الله الفرج على يد رجل، رجل واحد طلع من وسط الرمال المتسعرة الملتهبة التي يشوى عليها اللحم، لحم كل عاد يطأ ثراها، وعاتٍ يريد بالشر حماها، من القرية التي هجعت دهراً بين الحرّتين، لا يدري بها قيصر ولا يحفلها كسرى، من أرض الفطرة والحرية التي لم تبلغها أوضار المدينة، من حيث انبثقت الحياة البشرية أول مرة: من جزيرة العرب. . .
رجل واحد قام وحده لإصلاح الدنيا، قال لقريش سادة العرب: اتركي هذه السيادة، فالناس كلهم سواء، لا فضل إلا بالتقوى والأخلاق وبارع الخلال؛ وقال للعرب المشركين: حطموا هذه الأصنام، فأنها لا تضر ولا تنفع، واعبدوا الله الواحد الأحد؛ وصرخ بكسرى وقيصر: أن دعا هذا الجبروت الظالم، وهذه الربوبية الكاذبة، فما كان بعض البشر أرباب بعض، واتبعاني أجعل منكما عبدين لله صالحين!
فثارت به قريش، وقام علية العرب، وعاداه الملكان كسرى وقيصر، وأعلنت أقدس حرب وأعجبها: الحرب بين محمد وبين العالم كله، الحرب التي انتصر فيها (محمد) على الدنيا!
ولكن ما شأن الهجرة في ذلك؟ ليست الهجرة، يا سادة، انتقالاً من مكة إلى المدينة، وليست سفراً كالأسفار، ولكنها المرحلة الأولى من هذا الزحف المجيد للحملة التي جرّدها الله على الكفر والظلم والفحشاء والمنكر وجعل قائدها (محمداً)! إنها الخطوة الأولى من هذا الزحف الذي لم يقف ولم يتباطأ، حتى امتد من الهند إلى مراكش، ثم عبر البحر من هنا إلى الأندلس، ومن هناك إلى البلقان، ثم دخل في الزمان، واجتاز العصور، حتى انتظم أربعة عشر قرناً، وغمر نصف المعمور بالنور، ثمّ إنه سيمتد حتى يبلغ آخر الزمان، ويعم الأرض كلها. . . إن الهجرة هي الحلقة الأولى من سلسلة المعارك الظافرة الفاصلة التي خضناها دفاعاً عن الحق والعدل، والتي منها بدر والخندق والقادسية واليرموك، ونهاوند وجبل طارق، وعمورية والحدث، وحطين وعين جالوت والقسطنطينية، وطرابلس والغوطة، وجبل النار.
لقد مشى (محمد) ليزيح الظلام، ويحطم طواغيت الظلم حيثما قامت. . . وقريش الحمقاء تحسب أنه بعث لها وحدها، وأن مدى رسالته متسع هذا الوادي، وأنه هاجر خوفاً منها، لذلك بعثت رسلها ينفضون الأرض ليأتوا به ويرجعوه إليها. . .
يا لجهالة قريش، وياللغرور السيئ ما يصنع بأهله!
مه يا قريش الحمقاء، إنك لا تعرفين من هو (محمد)، ولا تدرين ما رسالته! مه يا قريش، دعيه يمر، إن في يثرب أنصاراً له ينتظرونه، إن وراء الرمال، في بلاد الظل والماء، شعوباً ترقب مجيء النبي، قد علقت به آمالها، ونفد في ترقبه صبرها! إن وراء القرن السابع أمماً لا تزال في أحشاء الغيب تنتظر النبي، فهل حسبت قريش أن في الغار رجلين اثنين؟ إن فيه أمل الدنيا، فيه رحمة اللهللعالمين، فيا لجهالة قريش حين تريد أن تمنع رحمة الله عن العالمين!
أتعرفون ماذا صنع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وجد العرب قبائل وبطوناً: لكل قبيلة عالم، ولكل بطن دين، آلهتهم شتى، وأربابهم أصنام، همهم سيف يجرد، أو جمل ينحر، يأكل بعضهم بعضاً: فبكر تحارب تغلباً، وعبس وذبيان، واليمن ومضر، لهم ملوك في مشارف الشام وأطراف العراق، ولكن ملوكهم خول لكسرى وقيصر، يقتلون إخوانهم في العروبة في سبيل الأجنبي!
وجد في مكة، وهي حاضرة العرب، ودارة قريش، بضعة عشر يقرأون ويكتبون، وسائر أهلها أميين، ووجد علماء العرب هم الكهان والشعراء، أولئك يسجعون فيهرفون بما لا يعرفون، وهؤلاء يشبّبون ويمدحون ويذمون!
أفبهؤلاء يصلح العلم الفاسد؟ إنه لموقف يؤيس العظيم، ولكن (محمداً) لا يعرف اليأس أبداً، ولا يعرفه أتباع (محمد)!
إنه يريد أن ينشئ من الأمة المشركة المتفرقة الجاهلة، أمة واحدة مؤمنة عالمة، فليصنع كما يصنع البنّاء: يضع الحجر على الحجر، فيكون جداراً، وكذلك فعل (محمد): بنى أمة صغيرة من ثلاثة، من رجل وامرأة وصبي، من أبي بكر وخديجة وعلي، فكانت نواة هذه الأمة الضخمة التي ملأت بعدُ الأرض، وكان أسلوباً يخلق احتذاؤه بكل مصلح. ثم صار المسلمون عشرة، ثمتموا أربعين، فخرجوا يعلنون الإسلام بمظاهرة لم تكن عظيمة بعددها ولا بأعلامها وهتافها، ولكنها عظيمة بغايتها ومعناها، عظيمة بأثرها، عظيمة بمن مشى فيها: محمد وأبو بكر وعمر وعلي وحمزة، أربعون لولا محمد لعاشوا ولماتوا منكرين مجهولين، فلما لامسوه وأخذوا من نوره، وسرت فيهم روح من عظمته، صاروا من أعلام
البشر، وصارت أسماؤهم مناراً للسالكين، فلما بلغوا ثلاثمائة، خاضوا المعركة الأولى في الدفاع عن الحق، معركة بدر، فلما بلغوا عشرة آلاف، فتحوا مكة، وطهروا الجزيرة العربية، فلما بلغوا مائة ألف فتحوا الأرض!
فتحوا الأرض، فلما انقادت لهم، فتحوا القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، فما عرفت هذه الدنيا أنبل منهم ولا أكرم، ولاأرأف ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم، ولا أجل ولا أعظم!
فإذا كان في العظماء من كشف مكروبات، فمحمد قد كشف أبطالاً، وأن يكن فيهم من داوى مريضاً، فمحمد قد داوى أمماً، وإن يكن فيهم من برع في الحرب وفي فن القتل، فمحمد كان فنه الأحياء والهدى، وإن يكن فيهم من ألّف قصصاً وروايات، فالذي صنعه محمد لو تخيله قاص أو أديب لكان أكبر الأدباء، فكيف بمن أقامه من الحس لا الوهم، والحقيقة لا الخيال؟ وإن يكن فيهم من أفضل على أمة، فمحمد قد أفضل على الناس كلهم، فما على الأرض أمة لم تستضيء بنور دعوته، ولم تقتطف من ثمار حضارته، ولم تنتفع في قضائها بشريعته، لولا (محمد) وقرأنه ما كانت حضارتنا، ولا علومنا، ولولا حضارتنا وعلومنا ما كانت حضارة الغرب، نحن حفظنا إرث فارس والروم واليونان، وصححناه وزدنا فيه وأفضنا عليه من نور القرآن. ثم علّمناه تلاميذنا من أهل أوربة، وأعطيناه في فلسطين لمن جاء يبغي لنا الموت، وحمل إلينا سيوفاً أحدّها التعصب وشحذها الجهل، فحملنا إليه الحضارة والعلم والحياة، وأريناه نُبل أتباع (محمد)!
أفبلغ بالناس أن ينسوا فضل (محمد) عليهم؟ إن ينس الناس فما نسى التاريخ، وإن تسكت الألسنة تروى الصحف ويتحدث الصخر: سلوا هذه القبة السامقة والسواعد التي أقامتها، سلوا هذه الأساطين والعلماء الذين استندوا إليها، سلوا هذا المنبر: كم صدع فوق أعواده بحق، وكم أعلن من مبدأ كريم، سلوا الظاهرية وما فيها من الكتب، سلوا النظامية والمستنصرية والأزهر، سلوا دجلة: كم ألقي فيه من نتاج أدمغتنا، سلوا الأندلس: كم أحرق فيها من ثمرات عقولنا، وما نقصت مكتبتنا بما أغرق وما أحرق، سلوا جامعات الغرب: ألم تعش على كتب ابن سينا وابن رشد والإدريسي والبيروني دهراً طويلاً؟ سلوا تلك البيض: هل جردت إلا دفاعاً عن الحق والفضيلة والمثل الأعلى؟ بل سلوا قلوبكم وما صنع فيها الإيمان، تروا أن هذا الإرث القليل الذي وصل إليها يثبت أن الإسلام هو أعظم شيء عرفه
هذا الوجود. . . إننا برغم ما صنع الدهر بنا وما صنعنا بأنفسنا حين أهملنا شريعتنا لا نزال نحتفظ بعزة المؤمن الذي يعلم أن الأجل محتوم، فلا يخاف أن يعاجله الموت إن صدع بحق أو خاطر في واجب، وأنه لا إله إلا الله، لا يضر ولا ينفع سواه، فلا يخاف مع الله أحداً، قم حيثما شئت من ديار العربية التي قبست من نور (محمد)، ثم ادع باسم الدين، وباسم العرض، ترِ كيف تقتحم الأهوال، وتستسهل الصعاب، بل ادع بذلك في بوادي نجد، وفيافي اليمامة، تلّبك رمالها وتنقلب فرساناً، إن لم تجد من الناس ملبياً!
لا تعجبوا، يا سادة، فإن من معجزات (محمد) أن جعل أتباع دينه كلهم (على رغم أنوفهم) أبطالاً!
إننا اجتمعنا في محبة (محمد)، ولكن منا من لا يعرف على حقيقته (محمداً)!
ولم يكن (محمد) عبقرياً فحسب، وأن آتاه كلُّ صفات العبقريين، ولم يكن نبياً فقط، وإن جعله الله خاتم النبيين، بل كان بشراً عظيماً أوحى إليه بدين عظيم، فهو - بشراً - أعظم البشر على الإطلاق: في كبر عقله، ونبل نفسه، في سمو خلاله، في أحاديثه وأقواله، في آثاره وأعماله، إنه ليس في العظماء، أو قل فيهم من عرفت حياته بدقائقها وتفاصيلها كمحمد، فانظروا أي خلق عظيم لم يتخلق به، أي موهبة لم يعطها، أي مكرمة لم ينلها؟ وهو - نبيّاً - أعظم الأنبياء على الإطلاق، جاءت الشرائع الماضية بأحكام تصلح لزمان واحد، وكانت شريعته قواعد وأسساً تستخرج منها الأحكام التي تصلح لكل زمان، شريعة عقل لا تخاف العقل ولا تجزع من اعتراضاته، بل تواجهه وتتحداه، وتدعوه إلى المناقشة مهما كان مدعاة، لما قالوا المقالة الشنعاء قال لهم:(أإله مع الله قل هاتوا برهانكم): تعالوا ناظرونا، نقرع دليلكم بدليلنا، وما نغلبكم إلا بقوة البرهان، شريعة تدعو إلى العلم النافع، رياضياً كان أو طبيعياً أو اجتماعياً، وترغب فيه وتحضّ عليه، شريعة جمعت ديناً وعبادة، وتشريعاً وسياسة، وأخلاقاً واجتماعاً! إن الدنيا بغير شريعة (محمد) جسم بلا روح، ولفظ بلا معنى!
فما بالنا نظلم الإسلام، ونظن به العصبية والجمود؟ ما بالنا نستحي به ونحسبه يعود بنا إلى الوراء، والإسلام مذ كان دين سماحة وعقل وتقدم؟ ألا لقد آن لنا أن نفهم الإسلام على وجهه، وأن نعرفه على حقيقته، ونأخذه من منابعه، لا من أفواه أشباه العلماء، ولا من أشباه
الكتب، وأن نعتز بالانتساب إليه، وأن نرفع الرأس فخراً، وأن نجعله أمامنا في حياتنا. . .
يا سادة! إننا طالما احتفلنا بهذه الذكرى ونحن محزونون متألمون، أدنى إلى اليأس وأبعد عن الأمل، فلنحتفل بها اليوم - ونحن فرحون مستبشرون - فقد بدا لنا النور، ودنت الأماني، ولاحت أعلام الوحدة ودقت طبولها، وقد طالما هجعنا ومرت بنا ليال حوالك طوال، فترت فيها الهمم، وخبت العقول، ولكن وقت النوم انقضى، وأذن مؤذن النهضة: حيّ على الفلاح. . . فنفضنا عن أنفسنا غبار الأحلام. . . ونهضنا!
لقد كتب على المسلمين أن يذلوا، ولكنها مرة واحدة، وقد مرت ولن تعود!
لقد انبلج الفجر، وانتهى الليل، وبدا نور النهضة، نور الاستقلال والوحدة، فاقسموا في هذا البيت الأطهر، في هذا اليوم الأنور، إنكم لن تناموا ولن تنوا ولن تضعفوا، فما ينال المجد نائم ولا وان ولا ضعيف!
إن (محمداً) علمنا معنى العزة والكرامة، وعرفنا قيمة العقل والعلم، وشرح لنا شريعة الإيمان والعدل والإحسان، فلنعد إلى ما شرع الله على لسان (محمد): نفتح في التاريخ صفحة مجد وسمو ونبل كالتي كتبها أجدادنا، ألا إنها كلمة صدق، إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ألا إنما أعز الله العرب بالإسلام، فإن ابتغوا العزة بغيره ذلوا.
فيا أيها الرئيس! أرفع راية القرآن، ثم ادعنا للعمل شيوخاً لهم عزيمة الشباب، وشباباً لهم حكمة الشيوخ، تجبك من جنود الحق جحافل، وصلت يوم القادسية واليرموك بأيام الغوطة ونابلس التي فيها جبل النار، اعمل للوحدة الكبرى، فإنها حياتنا لا حياة لنا إلا بها، أقمها على صخرة الإسلام الراسية، لا تعبث بها الزعازع، ولا تزلزلها الأعاصير!
إنك القائد الحكيم، ولكنها ضجت في العروق الدماء، وتلوّت قي الأغماد الصفائح، فانشر اللواء، وسُقِ الخميس لتعلم الإنس والجن، إنه لا يزال في عروقنا ذلك الدم الذي نضخ الأرض من بواية إلى الصين، وفي قلوبنا ذلك النور الذي أضاء الدنيا من مشرقها إلى المغرب، وفي سواعدنا ذلك العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، وفي أفواهنا ذلك النشيد الذي علا في كل مكان، فكانت تخشع له الرواسي وتطأطأ الشامخات: لا إله إلا الله. . . والله أكبر!
علي الطنطاوي
محمد والإنسانية
للأستاذ عمر الدسوقي
ظلت الإنسانية تتعثر في حلكة دامسة، منذ درجت على أديم هذه البسيطة، قروناً تتراجع بعيداً في أغوار الزمن السحيقة، لا ترى قبساً من نور يهديها الطريق في سدفة الظلام إلا غرائزها الفطرية التي نمت وفقاً للبيئة التي شب فيها الإنسان، والحياة التي أنتهجها لنفسه - حياة الأدغال والكهوف والصيد - وإلا لمحات من النور تلمع في الفينة بعد الفينة في أفق الإنسانية حينما يرسل الله نبياً من أنبيائه، لا يلبث بعده قومه أن يعودوا أدراجهم إلى أحضان الظلام.
أما العقل، ذلك النور الكامن في الإنسان، فكان يغط غطيطاً ثقيلاً، وإذا حاول اليقظة ردته غشاوة التقاليد، وكابوس الغرائز، وهبت عليه أعاصير الخرافات، فأطفأت الشعلة التي تجرأت أن تبرق في ذياك ألديجور المرعب.
نشأ الإنسان في هذا الظلام الروحي يقدّس كلُّ ما أعيته الحيلة في إدراك كنهه، وكل ما خشي سطوته وبأسه، يقدس الشمس مصدر الحرارة والضوء والحياة، والنهار، والرياح العاتية، والرعود القاصفة، والسيول الجارفة؛ ويقدم لها جميعاً القرابين حتى تهدأ ثائرتها، وترضى عنه فلا تعرقل سعيه في طلب القوت، وهو كلُّ مبتغاه، ولا تطرح بنسله، وهو كلُّ ما يحرص عليه.
نشأ الإنسان تستوعب قلبه الأثرة والمادة، والتعصب للجنس والقبيلة، التي يطمئن إلى حمايتها؛ ونشأ يمجد القوة والبطش.
وحاشاي أن أرجع إلى عهود الظلام فأسرد تاريخ الإنسانية الرهيب، تلك العهود التي نظن أنها مترامية في أعماق التاريخ أو ما قبل التاريخ، وما عهد الإنسان بها ببعيد؛ فعصور الحضارة منذ اكتشفت النار حتى اليوم تُعَدُّ شهوراً قليلة في عمر إنسان لا ينيف عن الخمسين؛ ولذلك كانتِ الحضارة في الإنسان غير أصيلة وهو دوماً نزاع إلى التحفظ والتمسك بأهداب التقاليد القديمة، سيان منها ما أستحسنه العقل الحر وما أستهجنه. ولذا أيضاً يخشى على الحضارة أن يعصف بها صراع هائل كالذي شهدنا في هذه السنوات الماضية فيرتد الإنسان ثانية إلى غياهب الظلمات.
أذكر هذا، وأذكر رسالة محمد عليه السلام، وكيف كانت حال الإنسان لعهدها: فمصابيح الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية قد أوشكت أن تنطفئ، وأخذ الناس يرجعون القهقري إلى غرائزهم وطباعهم؛ يتنازع العالم المعروف إذ ذلك دولتان قد استعرت بينهما نار الحرب، وتكالب الناس على المادة، فلا ترى إلا عقولاً ذاوية وقلوبا خاوية، ولذلك كانت رسالة محمد دفعاً قوياً إلى وضح النهار، وطالما ذكر القرآن الكريم العالم بهذا:
(قد جاءَكم من اللهِِ نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدى به اللهُ من أتَّبَع رضوانهَ سُبَلَ السلام، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم).
جاء محمد عليه السلام، يحرر الإنسانية من أغلال الجهل والفساد، ينبغي لها حياة هادئة وادعة، يغمرها نور الأيمان والعلم، ويعيش فيها الناس على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، في السراء والضراء، فحارب بشدة تلك النَعرات الجاهلية الغاشمة، والعصبيات القبلية الدميمة، وأعلن أن الناس سواء، فلا يفضل إنسان ما غيره من البشر بالجنس أو الدم أو القوة، ونادى ذلك النداء الذي يشع النور من كلماته:
(الناس سواسية كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية).
(الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب).
(لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى) وجاء القرآن مصدقاً لهذا حيث يقول:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
رأى محمد عليه السلام النفوس تغص بالجشع، والقلوب تجيش بالطمع، والأثرة تسيطر على العقول، فأستبد القوي بالضعيف لا يفكر المرء إلا بنفسه، ولو تقطعت الأرحام، وذوت صلات القربى، وأصبح بذلك الظلم والبغي والمنكر قانوناً يطبقه الغني والقوي، ويرضخ له الذليل والفقير، وما هذا لعمري سوى قانون الأدغال والغابات، فنادى الله تعالى في كتابه:
(إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون).
نظم محمد عليه السلام العلاقات الاجتماعية على أساس التعاون الوثيق بين الأفراد،
والمحبة والإخاء، فالسادة الذين يشمخون بأنوفهم كبراً، وتتنفج قلوبهم عنجهية، يجب أن يتطامنوا ويتواضعوا، وإلا فإنهم محرومون رضاء الله حيث آذوا عباده:
(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين). ويقول مرة أخرى:
(يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم).
أما هؤلاء الذين أدركوا معنى الإنسانية، وتجافوا عن الكبرياء، ورضى الله عنهم، فهم الذين قال فيهم القرآن:
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
ويجمع محمد عليه السلام قانون العلاقات الاجتماعية في حديثه الشريف (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه). ونرى القرآن يحد من غريزة العدوان، ودفع الشر بمثله فيقول:
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
ولم تُك هذه التعاليم مجرد آيات تتلى، وأحاديث تتردد، بل تشربتها قلوب العرب، أكلة الشيح والقيصوم، واتخذتها نبراساً تستضئ به؛ فملئوا الدنيا عدلاً وأمناً وحرية، فاستمع إلى أبي بكر يقول:
(إن القوي فيكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم عندي القوي حتى آخذ الحق له).
وأستمع لعمر بن الخطاب يقول:
(متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
ولا بدع فدين محمد عليه السلام ليس مجرد صلاة وعبادة؛ وإنما أساسه حسن المعاملة بين الناس، وشعور كل فرد بشخصيته وحريته في حدود القانون والمصلحة العامة، فيقول الله تعالى:
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل، والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا،
والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
ولم تكن الصدقات تفضلاً من ذوي اليسار على ذوي المتربة يؤدونها تارة، وينكرونها أخرى، بل كانت فرضاً محتوماً يخرجونه من أموالهم عيناً كانت أو عروضاً، ثابتة أو منقولة. (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين، وفي سبيل الله، وأبن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم).
وأصرح من هذا قوله تعالى:
(إن الإنسان خٌلِقَ هلوعاً، إذا مَسَّه الشرُ جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم).
ولما كان حب المادة متأصلاً في النفوس البشرية منذ كانت في عصور الظلام رأى محمد عليه السلام أن طالب المادة لا يشبع، وأن الروح لا بد لها من غذاء، ولقد كانت حياته هو نموذجاً لتغذيه الروح، وتجنب زخرف الحياة، ومع هذا فلم يحث القرآن الناس على ترك الدنيا؛ لأن الإسلام دينُ عملي يتمثل في الآية:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسِنُ كما أحَسنَ الله إليك)، ويتمثل في الأثر:(أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتكَ كأنك تموت غداً). وإنما كان القرآن يعقد تفاضلاً بين الحياة الدنيا والآخرة مخافة أن يطغي حب المادة على الروحانيات، ولهذا يقول تعالى:
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا) ويقول عز وجل: (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون).
ولما كان العقل قد طال ركوده نفخ محمد عليه السلام في تلك الجذور المطمورة حتى عادت شعلة ملتهبة، ولهذا كثر توجيهه الناس إلى التفكير فيما حولهم من بدائع المخلوقات حتى يحرك أذهانهم:(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
ولما كان العرب في عهده أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب حثهم على التعلم، رافعاً من شأن العلم
وأهله، وافتداؤه أسرى بدر بتعليم كلُّ منهم عشرة من أبناء المسلمين خير مثال عملي على ذلك، وقوله في الحديث:(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) كان أكبر حافز على اهتمام المسلمين بالعلوم، وأستمع إلى القرآن الكريم كيف يعظم العلماء ويوجه الفكر توجيهاً صحيحاً:
(ألم ترّ أن الله أنزل من السماء ماء، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيضُ وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور).
وهذا يفسر لنا تلك النهضة العربية الإسلامية التي ظهرت بعد بعثته، وشغف المسلمين بالفلسفة والعلوم العقلية التي أحيا المسلمون شعلتها وزادوا في سناها، وتلقفتها أوربا من أيديهم ساطعة منيرة.
ولم يك محمد عليه السلام متعصباً لدينه، ينكر الأديان قبله ويذمها، بل جعل شرط الإسلام الإيمان بما أتى به النبيون من قبل:
(قولوا آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).
ودين محمد لا يعرف التعصب بل يشمل الإنسانية كلها لا يفرق بين الأجناس ولا البلاد ولا الحدود: (وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).
هذه لمحات سريعة من بعض تعاليم الإسلام التي أخرجت الإنسانية من الظلمات إلى النور، فهل لنا بنفحة من نفحات محمد عليه السلام ترف على العالم فتهديه سبل السلام وقد أوشكت مآسيه أن تلقف كل ما بنى النور وشيد؟!
عمر الدسوقي.
موقفنا من الحضارة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير في الأوضاع والمرافق، فقد غزا جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، جسيمها وتافهها، ودخل في الطعام والشراب، في الترف والنعيم، في الحقل والبيت، في الحرب والسلم.
وأصبحنا لا نعيش إلا في أجواء من العلم، ولا نسير إلا على طريقة تحيط بنا الاكتشافات وتكتنفنا الاختراعات، فآثار العلم بادية في كل مكان وأصوله متغلغلة فيما جلّ من الشئون وما هان.
سرِّحْ الطرف وأنظر ما أخرجه العلم من مميزات ومعجزات في عالم الصناعة والآلات، تجد أن العلماء استغلوا الطبيعة والكيمياء والهندسة وما إليها فأتوا بالكهرباء وقالوا لها كوني نوراً فكانت، كوني ناراً، كوني حركة فكانت المحركات تسير في ركابها القاطرات والساريات والطائرات كما تدير الآلات، تعمل ما يعمله الإنسان بيديه وما لا يستطيع، ولكن بقوة وعزيمة ودقة قاربت حدود الكمال.
ثم أتى إلى الأمواج اللاسلكية وجعلها رهن إرادته، فإذا المستحيل ممكن واقع، وإذا الإنسان يملأ بها الأجواء تحمل له الأنباء والأخبار والصور. وأتجه العلماء إلى الإنسان وجسده فتمكن العلم من كشف بعض أسرار الحياة وقواعد الصحة وأسباب الأمراض ووسائل العلاج فتفنن في صنع الأدوية والأمصال واستخرج من العفن البنسلين والفينيسيلين فأتى بالعجب العجاب من فتك بالجراثيم والأمراض وإبادة آثارها وما تتحفه من آفات.
ولم يقف الغرب عند هذه الحدود، بل أقام الزراعة والفلاحة والاقتصاد والتجارة والتعليم والسياسة على أساس من العلم فدانت هذه لمآربه وغايته ونجم عن ذلك تقدم مادي لم يخطر على بال إنسان.
وجاء بعد ذلك إلى الشرق فدرسه وخبر أحواله، ورأى أن من حقه استعماره واستغلاله، كما يستغل الأرض ويستعمرها، وهكذا كان وهذا ما هو جارٍ الآن فإذا الشعوب كالحديد والنحاس تستغل لحساب الأمم ذات القوة والبأس، وتُسَخَّر لمصالحها وغاياتها، ذلك لأن الغرب سارٍ على مقتضى العلم يستخدمه في الحياة والعمران بينما الشرق بقي بعيداً فلم
يَسِرْ في حياته وفق العلم ولم يدرك بعد أن العلم هو الذي يدفع الأمم دفعاً في مضمار التقدم، وأن لا حياة لأمة تعيش بعيدة عن العلم، ولا كيان لشعب لا يؤسس حياته على العلم، فهو مفتاح النهوض وهو أُسُّ الارتقاء في معارج المجد والخلود.
هذا هو طابع المدنية الحديثة - طابع العلم - الذي دخل في صميم الحياة وانبثَّتْ حقائقه في شؤونها العملية منها وغير العملية.
هذا هو الوجه الحسن في الحضارة الحالية والجانب اللامع منها. ولكن مهلاً. . . هناك ناحية ضعف أدت إلى ما نراه في المدنية من إفلاس، ومن عدم ملاءمتها للحياة الهادئة القائمة على قواعد الخلق والروح والفضائل.
لقد أستغل العلماء العلم بعيداً عن قوى الروح والقلب، فأعلوا من شأن العقل والعلم علواً كبيراً، وحكموا العقل في القلب كما حكموا العلم في الدين فنتج عن ذلك ما نراه من فوضى خلقية وحروب طاحنة رهيبة، فاستأسدت الغرائز وأسرفت المطامع فإذا آلة العلم تتجه نحو التدمير والتخريب والفتك والتقتيل حتى أصبحت القوة مقياس تقدم الأمة وعظمتها، ولو تدخل القلب واتجهت آلة العلم نحو البناء والإثمار والخير والكمال لسمت المدنية وأرتفع شأن الإنسانية ولسار العلم في خدمة الحياة وإعلاء مقامها.
ومن هنا يتبين أن الأمم لا تصلح بالعلم بقدر ما تصلح بالقلب والأخلاق، أن التقدم الذي وصل إليه الإنسان - وقد توافرت فيه أسباب الرفاهية والرخاء - لم ينج الإنسانية من المصائب المحيطة بها ولا من الأهوال التي تنصب عليها.
هل قضى هذا التقدم على المشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع؟
الواقع المشاهد أن المدنية الحديثة قد زادت المشاكل تعقيداً والتواءً كما سلبت العالم راحة البال وطمأنينة النفس، ذلك لأن حكمة الإنسان قد قصرت عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية غير حاسبة حساباً للخلق العالي ومعاني الحق والواجب والمثل العليا.
والذي يخشاه كبار الفلاسفة أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم في أغراض الروح والخلق استمرت هذه القوى في اتجاهها نحو التدمير وهددت بزوال ما بقي من معالم الحضارة آثار الفكر والعقل.
وعندئذ يسكن العلم المصنع، ويطغي العلم على القلب، والماديات على المعنويات فتبقى
الحضارة على مشاكلها والناس في قلقهم والأفكار في اضطرابها وتتضاعف متاعب الإنسان وتزيد تعقيداً فلا يخرج من فوضى ألا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا راحة ولا أمان، ولا سلام ولا اطمئنان.
وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حد لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من الصعاب المحيطة به من كلُّ جانب يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلى من شأن المثل العليا والأخلاق الفاضلة كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين العلم والروح كما تلائم بين العقل والقلب. والحياة لا تكون آمنة يسودها رحمة وسلام إذا طغى العلم على الأرواح والأوضاع، بل إنها لا تكون نامية رائعة إذا لم تسر على وحي القلوب ولن يستطيع الإنسان أن يرد عن الحياة والآثام والشرور والمفاسد إذا حكَّم العلم وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال.
والعيش لا يصفو في جو مادي تفرغ فيه القلوب وتمتلأ به الجيوب، والأعصاب لا تهدأ وهي عرضة للنزعات التي تذكيها المادية! وهل لحياة قيمة بل هل يكون لها روعة إذا بعدت عن المعنويات وهزأت بالروحيات؟.
إن العلم قد وضع في أيدينا قوة عظيمة إذا لم نحطها بسياجمن الخلق والروح انقلب إلى قوة هدامة مدمرة وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظ هذه القوة ضمن هذا السياج لتجني منها الإنسانية قوى الخير والبناء والأثمار.
وعلى المفكرين والمعاهد أن يحاولوا المساهمة في هذا السبيل ويسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالاتهم بنفحات روحية وعلى أساس من الخلق متين.
يهمنا ألا يغتر النشء بهذه الحضارة وأن لا يسير وراءها دون روية وتمحيص، وأن لا يأخذوا بآراء القائلين بالسير مع المدنية والانغماس في ماديتها ونبذ التقاليد الشرقية والعربية وقطع كلُّصلة بالماضي.
يظن كثيرون من الشباب أن قطعة صغيرة من طائرة أو سيارة أفضل لنا من كلُّ ما ورثناه من خلق ومعنويات وتراث روحي خالد.
لقد شطَّ الفكر. انظروا إلى أوربا فعندها الاختراع وعندها الآلات، وعندما المصانع
والأدوات. . . انظروا ماذا حل بها؟ وكيف حالها في هذه الأيام؟ نظروا إلى العلم لكنهم لم يعبئوا بالقلب أو الروح.
نظروا إلى النجوم، لكنهم لم ينفذوا بصيرتهم إلى الله وراءها.
ماذا كانت النتيجة؟ كروب أحاطت بهم وحيرة انتابتهمفإذا هم في جحيم يتلظى وفي دنيا من نار ودخان.
لا كانت مدنية، ولا كان علم يقود العالم إلى هذا الدمار وإلى هذه الفوضى في الخلق والأوضاع.
ليس العلم كل شيء في هذا الوجود.
إن الأخلاق والمعنويات شئ عظيم في هذا الوجود. والإنسان لا يكون الرجل الذي ينشده الدين والفضيلة إلا إذا صح إيمانه بالله وحكم القلب على العقل والمعنويات على الماديات.
والمدنية لا تكون سامية فاضلة إلا إذا سيرت العلم مع القلب والعقل مع الإيمان واليقين.
إذا أيقن الإنسان أنه عماد أمته، به يرتفع شأنها وبه تقوى وتزداد حيويتها، إذا أيقن أن من وثبات مجدها ومن خفقات قلبها وأن أغزر الناس حياة أعماقهم تفكيراً وأنبلهم شعوراً واصلحهم عملاً. . . عندئذ فهو الجدير بالحياة الكريمة وحمل أمانيها وتبعاتها.
إن الجماعة إنما تصلح بالخلق والضمير لا بالعلم.
وإن النفوس لا تقوى إلا بتذليل الصعاب ومجابهة المتاعب والعقبات والأخطار، وإن من يقف أمواله وأيامه وجهوده على إمتاع نفسه لا يعرف الحياة لأنه لا يعرف الوطن.
وأخيراً إن العلم وحده نقمة وشقاء وهدم وتدمير.
وإن العلم لا يزكو ولا يثمر ولا يصبح أداة خير وبناء وإصلاح إلا على أساس من الروح والخلق العالي، وإن الرجل العظيم هو الذي يرشد بالمعرفة والعطف لا من يستفز بالتحكم والبطش وإن أعظم الجماعات أقواها قلباً وأحياها ضميراً.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان.