الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 654
- بتاريخ: 14 - 01 - 1946
عاهل الجزيرة العظيم!
من بوادي نجد منبت العَرار والخزامَي، ومهب الصبا ومسرى النعامى، فاحت عطور الإسلام والعروبة من جديد، وباحت الرمال الصامتة بسرها المكنون منذ بعيد؛ وهبّت نفحات الرسول على آل الشيخ وآل سعود فجددوا ما رثَ من حبل الدين، وجمعوا ما شتَ من شمل العرب؛ وتهيأت الفرصة مرة أخرى لشريعة الله لترى الناس كيف بسطت ظلال السلام والوئام والأمن على أشد بقاع الأرض ضلالة وجهالة وفتنة؛ وتجلت في طويل العمر عبد العزيز فضائل العرب الأصلية: فمثل شاعريتها في رهافة حسه، وأريحيتها في سماحة نفسه، وحميتها في صرامة بأسه؛ فهو في دينه النقي الخالص، وفي خلقه السري الصريح، دليل ناهض على أن الجزيرة العربية لم تعقم بعد أنصار الدعوة وأبطال الفتوح. ولا يضيرها أن تتباعد فترات الإنجاب مادامت تنجب في القرن الأول ابن الخطاب، وفي القرن الأخير ابن السعود!
والملك عبد العزيز كالخليفة عمر من القادة المصطفين الذين صنعهم الله على عينه، وأمدهم بسلط ووعونه، ليؤيدوا رسالة أو يجددوا دعوة أو يوحدوا أمة. وقد اصطفاه الله من آل سعود ليكشف على يديه ما ادخر في هذه الأرض المقدسة المجهولة من ثراء وقوة، وليعود العرب بنعمة الله عليهم وعليه أمة واحدة ذات عزة وسطوة. والعرب والمسلمون على اختلاف المذاهب، وتباين الأجناس، وتنائي الديار، يولون وجوههم كل يوم خمس مرات شطر المملكة السعودية، لأنها صلتهم بالسماء، ورابطتهم في الأرض، ومنارتهم في الحياة!
وابن السعود هو ملك الوطن المشترك، وإمام القبلة الجامعة؛ لذلك أوتي محابَّ القلوب وطواعية النفوس، فله في صدر كل عربي مكانة، وفي عنق كل مسلم ذمة!
ولقد كان استقباله في مصر يوم الخميس الماضي تعبيراً شعبياً قوياً عن هذه المعاني التي تجول في كل خاطر وتتمثل في كل ذهن: كان استقبالا رائعاً لم تشهد الكنانة مثله لزعيم أو فاتح؛ لأن العواطف التي حشدت هذه الألوف المؤلفة في طريق الموكب الملكي على أطورة الشوارع وطنوف العمائر، وفي أفواه الأزقة ونوافذ البيوت، كانت شيئاً آخر غير الفضول الذي يسوق الناس في مثل هذا اليوم ليشهدوا ضخامة الحشد وفخامة الجند وروعة السلطان: إنما كان استقبالا روحياً طبيعياً فيه الحب والإعجاب، وفيه التجلة والقداسة، وفيه معنى أسمى من كل أولئك وهو شعور كل مصري بأنه يستقبل فرعاً من أصله، وعزيزاً
من أهله.
فعلى الرحب والسعة يا مجدد التوحيد والوحدة، ومقيم ملكه الأشم علي الحمية والنجدة! وعلى الرحب والسعة يا حامي الحرمين، وثمال القريتين، وباعث الجزيرة الهامدة إلى عصر جديد سعيد يقوم فيه أمر الله على سيف علي ومصحف عثمان ودرة عمر وعزيمة الصديق!
أحمد حسن الزيات
فلسطين.
. .!
للأستاذ عمر الدسوقي
وإن تعجب فعجب لأمريكا القوية العالمة كيف عمى عليها فلم تتبين الحق الأبلج الوضاء كأنه الصبح المشرق، من الباطل الخبيث المعتم كأنه قطع الليل البهيم:
حق فلسطين العربية المجاهدة، وفي يمينها سفر يسطع بالكفاح المجيد، والتاريخ العتيد، والتراث التليد، والحجج الدامغة؛ ومن ورائها جمهرة بنيها تلهج بلسان عربي مبين، وتتقد حماسة، وتشتعل وطنية في الدفاع عن الوطن الغالي، متحدية في شمم وكبرياء مال اليهود وجيش الإنجليز.
وباطل الصهيونية المدلسة الغاشمة، ولا تملك من برهان تقنع به بعض الأمم إلا المال تشتري به ضمائر الساسة، وتسخر به أقلام الكتاب، وتفتن به أرباب الصحف، وتسيطر به على الأسواق، وتزخرف به الدعايات المزورة.
من كان يظن أن أمريكا تناصر البهتان في ابشع صوره، وقد دوت صرختها في أرجاء المعمورة، يوم أن نزلت إلى ساح الوغى تملأ البر جيوشاً، والبحر أساطيل، والسماء أسراباً، وحشدت العلم والمال، وأرخصت العزيز، والتفتت إلى العالم تنبئه أنها ستصرع الباطل ودولته، والبغي وصولته، وأنها درء الضعيف المهضوم الحق، وكفيلة الحريات بشتى أنواعها، وأنها تنشد للعالم سعادة ورفاهية وحياة مديدة في رخاء وبلهنية.
أكان ذلك خداع المحتاج، ونفاق المضطر؟ أضحي بألوف الألوف من الشباب الغض، وروعت الأسر الآمنة، والمدن الوادعة، وضربت الأرض العامرة الممرعة، ودكت المصانع المزدهرة اليانعة، وقوضت أركان المدنية وبلبلت أفكار الإنسانية وزلزلت مبادئها من القواعد، في سبيل قضية ملفقة، ودفاعاً عن النهم، ونصرة للباطل في مسوح الحق؟!
يا للعار!!
إن هذا الحكم الجائر على فلسطين العربية الذي افتتح به نواب أمريكا وشيوخها عهد السلم، لأكبر وصمة للمدنية الغربية وأنصع دليل على الضمائر المعتلة، والموازين المختلة، والمواثيق الكاذبة، والأيمان الحانثة.
ومن عجب أنهم يصدرونه حفاظاً على ضمائرهم أن تلوث وعهودهم أن تدنس! فأي باطل
وأي إفك!!
فيم التحكيم، وقد صدر الحكم؟ إنه أمر بُيت بليل، وقد وضحت سرائر القوم وما يضمرونه من سوء، ويدبرونه من مكيدة!
ليست فلسطين صنيعة لبعض أرباب الملايين في أمريكا حتى توهب لأفاقي الأرض ومن لفظتهم ديارهم من اليهود.
إن العرب وحدهم هم أولو الشأن في فلسطين، مهما ظاهر الباطل من قوي وأيده من جاه، وعاضده من ضغط سياسي وأدبي ومادي.
الكلمة في فلسطين للعرب، والحكم لهم دون سواهم، فإن شاءوا تحطمت قوى الباطل وعظموته على صفاة إيمانهم وشجاعتهم وصبرهم، وإن شاءوا استناموا للوعود المعسولة، والمماطلات الكاذبة، والأساليب الملتوية الدنيئة؛ فضاعوا وضاعت ديارهم كلها لا فرق بين فلسطين وغيرها.
إن الأمم التي تريد الحياة العزيزة الحرة لا يضيرها ما يبيته لها الأعداء، وما يحكمون به عليها، ما دام الإيمان يملأ جوانح قلوب أبنائها، وما دامت عزائمهم مبرمة، وأمورهم محكمة، وكلمتهم واحدة.
أمريكا تريد أن تتخلص من اليهود الذين ينافسون أبناءها ويسدون عليهم سبل العيش، ويسيطرون على تجارتها، وصحافتها ومسارحها، وخيالتها، وشركاتها، شأنهم في هذا شأن إخوانهم في كل بقاع الأرض؛ وتدعي أمريكا أنها حزينة تذوب من الأسى والحسرة لهؤلاء اليهود المشردين في خرائب أوربا؛ وأنها لن تهدأ حتى تجد لهم مأوى - لا في سهول أمريكا الخصبة الغنية، ومدنها العامرة الفتية، ولكن - في أرض فلسطين الجرداء وعلى ضفاف البحر الميت. فأي إفك وأي زور!!
لتقل أمريكا ما تشاء، فالكلمة الأخيرة للعرب، وهم يؤثرون الفناء بالقنابل الذرية أو بغيرها، عن أن يجعلوا من فلسطين أندلساً أخرى تغتصب من بين أيديهم وهم ينظرون. لو حدث هذا - لا قدر الله - فقل على الجنس العربي العفاء، ولن يكون ذلك ما دام في العرب أنفاس تتردد وقلوب تنبض.
أول سلاح للمقاومة هو المقاطعة التجارية، وقد وضع السلاح في أيدي الشعوب العربية،
وهو سلاح فعال قتال؛ لأن اليهود من عباد المال، وقديما حينما أغواهم الشيطان، فضلوا عن عبادة الرحمن، اتخذوا لهم عجلا من ذهب يعبدونه من دون الله. ولا يزالون حتى اليوم يقدسونه ويؤلهونه.
ولكن الأمر يتطلب منا جداً، حكومات وشعوبأً، فالسلع الصهيونية قد غمرت الأسواق مدة الحرب، واليهود يسيطرون على التجارة: فهم الوسطاء، وهم كبار المستوردين، وهم أثرياء التجار، ولن ننجح في المقاطعة إلا إذا منعت الحكومات استيراد سلعهم، وتيقظت الشعوب، ورفضت في أنفة وحمية أن تعامل اليهود أو تشتري منهم. إني لا أخشى على أهل الشام إخفاقهم في المقاطعة فهم رجال ذوو دربة وجرأة في التجارة، وجلد على الأسفار، يستطيعون بما رزقوا من موهبة عملية أن يرحلوا إلى أوربا ويغشوا أسواقها ويجلبوا منها السلع المتباينة، ويقضوا على الوساطة اليهودية، والاستيراد اليهودي، فيربحوا ربحاً مزدوجاً في المال وفي الوطنية، ويضربوا اليهود ضربتين مادية ومعنوية.
ولكني أخشى على المصريين، فالوساطة اليهودية في كل السلع تسيطر على أسواقهم، ولم نر منهم من شمَر، وغامر وسافر وأتصل بالمصانع والمتاجر الكبرى في بلاد الغرب؛ فأكتسب تجربة ومالا، وقضى على عدو يمتص دمه ويعرق لحمه، ويلقي له بالفضلات والنفايات بعد أن يشبع ويبشم.
إن اليهود بعضهم لبعض ظهير، ونحن إن لم نقاطع السلع اليهودية والوساطة اليهودية نكون قد جرحنا العدو ولم نقتله. فهل نرى من شبابنا الناهض وتجارنا الذين أثروا مدة الحرب شجاعة وإقداماً؛ فيجددوا في طرق التجارة المصرية؟. وهل نجد عند الشعوب العربية حماسة ويقظة تجعلهم دائماً حريصين على استعمال سلاح المقاطعة الفتاك حتى تُدحر الصهيونية؟
يستطيع اليهود بأموالهم العظيمة، وبعطف إخوانهم الأثرياء عليهم في كل بقاع الأرض، أن يشيدوا المصانع في فيافي فلسطين إذا عجزوا عن زرعها، وأسسوا المدن التي تزخر ببني جنسهم إذا لم يستطيعوا تأسيس القرى والضياع، فإذا أردنا أن ندك تلك المصانع ونهدم تلك المدن، ونجعل فلسطين عليهم بلقًعاً جديباً يضيق بهم فيأكل بعضهم بعضاً أو يخلونه ويرحلون؛ فعلينا بالمقاطعة وتنظيمها حتى يحسوا بها قريباً، ويعلموا أنا أمم جادة لا هازلة،
وأنا نريد الحياة ونتقن الكفاح، وأنا في غنى عنهم، وعما يتشدقون به من إصلاح لأرض فلسطين وزيادة في ثروتها.
أيها العرب! الكلمة لكم! والأمر خطير!
اذكروا ضحاياكم، وقراكم، وأرضكم، وتاريخكم!
اذكروا أنكم إن تقاعستم شرد إخوانكم، ونكبتم في أموالكم، واستولى عليكم اليهود، وصرتم لهم أجراء، وعبيداً أذلاء!!
اذكروا أن الجامعة العربية - تلك الأنشودة القوية، والأمنية الحلوة التي طالما ترنمنا بها هي التي تشهر سلاح المقاطعة وهي تخوض تلك المعركة، فإما نصر بعده مجد مؤثل، وإما إخفاق يتبدد به هذا الحلم الجميل - لا قدر الله.
عمر الدسوقي
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 22 -
ج 5 ص 245:
فمهلا فلي في الأرض عن منزل العلا
…
مسار إذا أخرجتني ومسارب
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي
…
وقسري فإن الرأي عنك لعازب
قلت: إذا أحرجتني:
ج 10ص208: ومن جيد شعره (شعر أبي زبيد الطائي):
إن نيل الحياة غير سعود
…
وضلال تأميل نيل الخلود
علل المرء بالأماني ويضحي
…
غرضاً للمنون نصباً لعود
كل يوم ترميه منها برشق
…
فمصيب أوصال غير بعيد
كل ميت قد اغتفرت فلا واجع
…
من والد ومن مولود
قلت: (علل المرء بالرجاء ويضحي
…
غرضاً للمنون نصب العود)
(فمصيب أوصاف غير بعيد) في اللسان: صاف السهم عن الهدف يصيف صيفاً: عدل بمعنى ضاف.
(فلا أجزع من والد ولا مولود).
في (الشعر والشعراء) لابن قتيبة: وعلى هذه القصيدة احتذى ابن مناذر في مرثية عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي.
في (الكامل): ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر فانه كان رجلا عالماً مقدماً شاعراً مفلقاً وخطيباً مصقعاً وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته. ولا يزال قد رمى في شعره بالمثل السائر والمعنى اللطيف واللفظ الفخم الجليل والقول المتسق النبيل. وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي منها ما اخترنا. قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة وكان من أجمل الفتيان وأدبهم وأظرفهم.
وروى أبو العباس من القصيدة تسعة وثلاثين بيتاً. منها:
حين تمت آدابه وتردى
…
برداء من الشباب جديد
وسقاه ماء الشبيبة فاهتز
…
اهتزاز الغصن الندي الأملود
وسمت نحوه العيون وما كان
…
عليه لزائد من مزيد
ما درى نعشه ولا حاملوه
…
ما على النعش من عفاف وجود!
في (الأغاني): لما قال أبن مناذر:
ولئن كنت لم أمت من جوى الحزن
…
عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمن مأتماً كنجوم الليل
…
زهراً يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحري
…
عليه وللفؤاد العميد!
قالت أم عبد المجيد: والله لأبرن قسمه، فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواريه مأتماً عليه، وقامت تصيح عليه:(واي ويه! واي ويه!) فيقال: إنها أول من فعل ذلك وقاله في الإسلام.
ج15ص185:
فاسلم على الدهر شديد القوى
…
ذا مرة ما شد كف بنان
قلت: (ما شد كفاً بنان) في التاج: قال شيخنا هي (الكف) مؤنثة وتذكيرها غلط غير معروف وإن جوزه بعض تأويلا، وقال بعض: هي لغة قليلة. فالصواب أنه لا يعرف، وما ورد حملوه على التأويل، ولم يتعرض المصنف (صاحب القاموس) لذلك قصوراً أو بناء على شهرته أو على أن الأعضاء المزدوجة كلها مؤنثة. وفي اللسان: الكف: اليد أنثى، وفي التهذيب: والعرب تقول: هذه كف واحدة. وفيه: البنان الأصابع وقيل: أطرافها واحدتها بنانة. وفي الصحاح: ويقال: بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يوحد ويذكر.
ج10ص86: قال (أبو القاسم الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي):
لي كلما أبتسم النهار تعلة
…
بمحدّث ما شاء قلبي شأنه
فإذا الدجى وافى وأقبل جنحه
…
فهناك يدري الهم أين مكانه
وجاء في شرح (ما شاء قلبي شأنه): يريد أن حاله لا تتخطى ما أشاء.
قلت: (بمحدث ما شأن قلبي شأنه) بتخفيف شأنه ضرورة.
الوزير المغربي هذا هو الذي بعث إليه أبو العلاء برسالة (المنيح) وأولها (إن كان للآداب
أطال الله بقاء سيدنا نسيم يتضوع، وللذكاء نار تشرق وتلمع، فقد فغمنا على بعد الدار أرج أدبه، ومحا الليل عنا ذكاؤه بتلهبه) وبرسالة (الاغريض) (لما أنفذ إليه مختصر إصلاح المنطق الذي ألفه وفيها وصف المختصر) وأولها:(بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكِ أيتها الحكمة المغربية والألفاظ العربية، أي هواء رقاكِ، وأي غيث سقاكِ).
قال العلامة الدكتور عبد الوهاب عزام في مبحثه (لزوم ما لا يلزم متى نظم وكيف نظم ورتب):
(كان أبو القاسم المغربي الوزير ممن أقام بالمعرة، وكان يواد المعري ويراسله، وكان المعري يحفظ له ولأبيه من قبل أياديه، فلما توفى رثاه بأبيات مثبتة في اللزوميات، ولا أعرف رثاء لغيره أو مدحاً صريحاً) وروى العميد اللزومية وهي سبعة أبيات ثم قال: (وهذا الوزير توفى سنة 418. فهذه القطعة نظمت في هذه السنة).
قلت: ورد في ختامها هذا البيت:
إن يخط الذنب اليسير حفيظاك
…
فكم من فضيلة محا يه
وإني أرى أن البيت يشير إلى شيء لم يذكر في (إرشاد الأريب) ولا في (وفيات الأعيان) ولم يشر إليه. وفي شرح النهج لأبن أبي الحديد حديث عن الوزير المغربي فيه ما ليس في ذينك الكتابين، ومنه تعرف تلك الإشارة. وأن يذكر (الشيخ) ذنب الرجل - وإن صغره وقال بعده ما قال - براعة منه وإنصاف بأعلامه أن هناك مأثماً. وقل:(إنه كان حوبا كبيرا).
قال ابن أبي الحديد: حدثني أبو جعفر يحي بن محمد بن زيد العلوي نقيب البصرة قال: لما قدم أبو القاسم علي بن الحسين المغربي من مصر إلى بغداد استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بوية وهو يومئذ سلطان الحضرة وأمير الأمراء بها والقادر خليفة. ففسدت الحال بينه وبين القادر، واتفق لأبي القاسم المغربي أعداء سود أوحشوا القادر منه، وأوهموه أنه مع شرف الدولة في القبض عليه وخلعه من الخلافة، فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح، وأوصل القول فيه والشكوى منه، ونسبه إلى الرفض وسب السلف وإلى كفران النعمة وأنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه إليه. قال النقيب أبو جعفر (رحمه الله تعالى) فأما الرفض فنعم، وأما إحسان الحاكم إليه فلا، كان الحاكم قتل أباه وعمه وأخاً من إخوته،
وأفلت منه أبو القاسم بجريمة الذقن، ولو ظفر به لألحقه بهم. وكان أبو القاسم المغربي ينسب في الأزد ويتعصب لقحطان على عدنان وللأنصار على قريش، وكان غالياً في ذلك مع تشيعه. وكان أديباً فاضلاً شاعراً مترسلا وكثير الفنون عالماً. وانحدر مع شرف الدولة إلى واسط فاتفق أن حصل بيد القادر كتاب بخطه شبه مجموع. . . أتحفه به من كان يشنأ أبا القاسم ويريد كيده، فوجد القادر في ذلك المجموع قصيدة من شعره فيها تعصب شديد للأنصار على المهاجرين حتى خرج إلى نوع من الإلحاد والزندقة لإفراط غلوه، وفيها تصريح بالرفض مع ذلك، فوجدها القادر تمرة الغراب، وأبرزها إلى ديوان الخلافة فقرئ المجموع والقصيدة بمحضر من أعيان الناس من الأشراف والقضاة والمعدلين والفقهاء، ويشهد أكثرهم أنه خطه وأنهم يعرفونه كما يعرفون وجهه، وأمر بمكاتبة شرف الدولة بذلك، فإلى أن وصل الكتاب إلى شرف الدولة بما جرى اتصل الخبر بأبي القاسم فهرب ليلا. . . وكنت برهة أسأل النقيب أبا جعفر عن القصيدة وهو يدافعني بها حتى أملاها علي بعد حين، وقد أوردت هنا بعضها لأني لم أستجز ولم أستحل إيرادها على وجهها.
وروى أبن أبي الحديد من القصيدة سبعة وعشرين بيتاً. ثم قال: فهذه الأبيات هي نظيف القصيدة التقطناها وحذفنا الفاحش، وفي الملتقط المذكور أيضاً ما لا يجوز. . .
قلت: أجتزئ برواية هذا البيت من النظيف الملتقط. . .:
والفضل ليس بنافع أربابه
…
إلا بمسعدة من الأقدار
ج16ص303:. . . فإن من سلك الجدد أمن العثار، وسلم من سالِم النقع المثار.
وجاء في الشرح: المثار: المهاج المتطاير في الهواء.
قلت: وسلم من سالم النقع المثار. وقد فسر المثار بالمهاج. والذي جاء في اللغة في هذا المعنى هو ما ذكره الأساس: (هاج الغبار، وهاجه وهيجه) فهو مهيج ومهيّج، وهاج يتعدى ولا يتعدى. و (أهاجه أيبسه) كما في القاموس، وفي اللسان:(أهاجت الريح النبت أيبسته) ومثل ذلك في التاج. وفي (الضياء) للشيخ اليازجي: (ويقولون: أهاجه الغضب، والصواب في ذلك التجريد).
ج10ص90: وكان سبب تقدمه ونواله الأمارة.
وجاء في الشرح: النوال العطاء واستعمله هنا بمعنى النيل.
قلت: يقول العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلته الضياء (س1ص385): ويقولون: هو يسعى لنوال بغيته، وإنما النوال بمعنى العطاء أي الشيء الذي يعطى وليس بمصدر لنال، والصواب لنيل بغيته.
ويقول العلامة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (شوقي أو صداقة أربعين سنة) ص56:. . . وكان - يعني الشيخ اليازجي - يمنع أن يقال (نوال) بمعنى (نيل) ولا يرضى لها تخريجاً. ولو قرأ - وأظنه من شعر الحماسة:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
…
ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
لعلم أنه لم يكن على صواب فيما ذهب إليه.
قلت: البيت في مقطوعة بديعة مما اختار حبيب، وبعده:
أرى الناس يخشون السنين وإنما
…
سنيّ التي أخشى صر وف احتمالك
لئن ساء ني أن نلتني بمساءة
…
لقد سرني أني خطرت ببالك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا
…
ورقراق عيني رهبة من زيالك
ج16ص202: (من قصيدة في وصف هرة):
ثم قلدتها لخوفي عليها
…
ودعات ترد شر العُيون
وإذا ما وترتها كشفت لي
…
عن جراب ليست متاع العيون
وجاء في الشرح يريد بالجراب ما تخرج منه براثينها حين المغاضبة.
قلت: (العيون) الأولى بفتح العين. في اللسان: رجل معيان وعيون شديد الاصابة بالعين والجمع عين (بضمتين) وعين (بكسر العين) وما أعنيه! وذكر الأساس الكلمتين وأضاف إليهما العيّان. و (الجراب) هو (الحراب) بالحاء
ج15ص220:
وخُرْق رحيب الباع لو نيط طوله
…
بعروة عمر لم تكد تتصرم
وجاء في الشرح: الخرق الصحراء وصفها بالسعة والطول حتى أنها لو نيطت بعمر فإن العمر يتصرم وهي لا تكاد تتصرم.
قلت: الخرق - بفتح الخاء - القفر والأرض الواسعة كما في القاموس.
(بعروة عمر لم يكد يتصرم) أي لو نيط طول هذا القفر بعروة عمر لم يكد هذا العمر
يتصرم
ج4ص180:. . . ولا يعرف فتيلا من وثير، ولا يؤلف بين كلمتين في تعبير.
وجاء في الشرح: الفتيل: السحاة التي بشق النواة، يقال ما أغنى عنه فتيلا أي شيئاً تافهاً مثل الفتيل. الوثير: الوطىء اللين من الفراش.
قلت (ما يعرف قبيلا من دبير) ذكره الميداني في (مجمع الأمثال) وأورد اللسان له أكثر من عشرة تفاسير. . . منها: لا يعرف الأمر مقبلاً ولا مدبرا. . . وقيل: ما يعرف نسب أمه من نسب أبيه. . . وقيل: القبيل القطن والدبير الكتان. . . وقال المفضل: القبيل فوز القدح في القمار والدبير خيبة القدح. . .
ج19ص528: البحتري:
وكأن اللقاء أولُ من أمس
…
ووشك الفراق أول أمس
قلت: (أول من أمس) و (أولَ أمس) و (أول أمس) في الصحاح: تقول ما رايته منذ أمس فأن لم تره يوماً قبل أمس قلت ما رأيته مذ أول من أمس فإن لم تره مذ يومين قبل مذ يومين قبل أمس قلت ما رأيته مذ أول من أول من أمس ولم تجاوز ذلك. في التاج أمس جمعه آمس وأُموس وآماس، قال:
مرت بنا من أول أموس
…
تميس فينا مشية العروس
والنسبة إلى أمس إمسي على غير القياس وهو الأفصح.
نسيت أن أروي من قبل بيتاً للبحتري في أمثاله وحكمه يحتاج إلى التمثيل به كثيراً، والبيت هو هذا:
ليس الذي يعطيك تالد ماله
…
مثل الذي يعطيك مال الناس
حكومة النساء لدى الخلفاء من بني العباس
للأستاذ صلاح الدين المنجد
يقول (دوفيل) في كتابه عن الإمبراطورة (جوز فين)، إن من النساء من أوتين الميل إلى الحكم والرغبة فيه، رغم ما فيه من مشاق ومصاعب، لأنهن لا يرين في شيء من الأشياء مستحيلا. فتلك ظاهرة في طبعهن وغريزتهن. فهن يرغبن في الإحاطة بكل شيء علماً، وعرفان ما تحته وما فوقه، ليتممن النقص الذي فيهن. فهن يحكمن على عشاقهن؛ فإذا أخطأهن ما أملن، حكمن على أزواجهن وأولادهن ثم تعدين ذلك إلى حكم صواحبهن، فإذا وجدن المجال ذا سعة، وكن ممن يلوذ بالملوك والأمراء والوزراء، سولت لهن أنفسهن أن يحكمن الرعية ويدبرن أمورها.
أما حكمهن العشاق، فأمر لا ريب فيه، فهن في أغلب الأحايين، عابثات بالقلوب، لاعبات بالألباب. أما حكمهن الأزواج فأمر كثير الوقوع، وندر أن تجد امرأة لا تحكم زوجها. ولكن حكمهن العباد، وتصرفهن في الأمور، وتدبيرهن الملك قد تبدو مستحيلة لا تقع، بعيدة لا تنال. على أن لجاجة النساء لا توصف وإلحاحهن لا يدرك، ثم هن لا يعرفن المستحيل. وفي التاريخ الإسلامي ألوان من البرهانات، تدل على حكمهن. وسأسوق الأدلة من بدء العصر العباسي، إلى منتصف القرن الرابع الهجري.
وقبل أن أبدأ، أذكر أن الجاحظ قد لاحظ بعض هذا، فقال:(إنه لم يزل للملوك إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين، ونساء يجلسن للناس) فيذللن ما صعب وينلن ما بعد. على أن سلطانهن، كان على قدر مبلغ سحرهن ونفوذ أثرهن، وتملكهن قلوب الخلفاء. وواضح أن تحكمهن يكون على قدر ضعف الخليفة ورقة عقله، وانقياده. ولذلك تجد أن بعضهم تركوا لهن الأمر كله، وأن بعضهم سايروهن مرة، وغاضبوهن مرة، وآخرون لم يحفلوا بهن أبداً.
فالسفاح، ابتعد عن النساء، فلم يرغب فيهن لملذاته بله استشاراته. وحاول خالد بن صفوان أنه يثير شهواته مرة بذكر الجواري وأو صافهن ليغريه بشرائهن، فلم يفلح. وكان يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علماً، ويختار أن يزداد جهلا. فسئل: ما تأويل ذلك؟ قال: تترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة فلا يزال يسمع سخفاً ويروي نقصاً.
على أن المنصور كان ألين منه، وأندى سمعاً للنساء. فقد تزوج ابنة منصور الحميرية، فشرطت عليه أن لا يتزوج ولا يتسرى إلا عن أمرها، ففعل. ولم يتعد سلطانها زوجها.
وبدأ سلطان المرأة يقوى مذ تولى المهدي الخلافة، وتزوج الخيزران. فقد كان لها سلطان على القصر، والندماء والحجاب والأطباء، تقرّب منهم من تشاء وتبعد من تشاء. ولقد أخذت مرة في مناكدة بختيشوع بن جورجيس الطبيب ومضاربته، وأثرت في المهدي، فلم ير بداً من إعادته إلى جند يسابور.
فلما ولي الخلافة الهادي زاد نفوذ الخيزران وتدخلها في شؤون الدولة. وقد كان الهادي يتناول المسكر، ويلعب ويلهو، ويركب حماراً فارهاً، ولا يقيم للخلافة أبهة ولا عظمة؛ فلا عجب ممن كان هذا شأنه إن وكل أمور الدولة كلها إلى أمه الخيزران. فقد كان كثير الطاعة لها يجيبها فيما تسأل من الحوائج. فكانت المواكب لا تخلو من بابها. وبلغ الأمر بها أن استولت على زمام الأمور. واستيقظ الهادي من غفوته أو غفلته، ورأى أن أمور الدولة بين يدي أمه. فكلمته ذات يوم في أمر، فلم يجد إلى إجابتها سبيلا فاعتل بعلة، فقالت لابد من إجابتي. قال لا أفعل. قالت: إذاً لا أسألك حاجة أبداً. قال إذاً والله لا أبالي، ولئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك). ثم أخذ يعنفها ويؤنبها ويقول لها:(ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك، إياك إياك أن تفتحي فاك في حاجة لمسلم ولا ذمي).
وكانت الخيزران من ذوات الأثرة. وهذا النوع من النساء لا يبالي بما يفعل في سبيل إرضاء الأثرة والأنانية وبسط النفوذ. ولقد كانت ترغب في الأمر والنهي والحكم. فوقف الهادي - بعد أن اتسع الخرق - ليسترد سلطانه. فلما ضايقها الأمر، وآنست من ابنها معارضة وقوة، وآلمها أن يذهب سلطانها، وترد المواكب عن بابها، أرادت أن تنتقم منه، فدست إليه جواري من جواريها، غطين وجهه وجلسن فوقه، فقتلنه. كل ذلك ليعود الأمر إليها وحدها كما كان. وقد تم لها ما أرادت وتدفقت عليها الأموال، حتى بلغت غلتها قبيل موتها مائة ألف ألف، وستين ألف درهم. وقد قدر أحدهم أن هذا المبلغ يعادل نصف خراج المملكة العباسية آنئذ وثلثبي غلة رو كفلر في أوائل هذا القرن.
فلما ولي هارون الخلافة كانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحي بن خالد يعرض عليها ويصدر عن رأيها. وكان الرشيد لا يعصي لها أمراً. وقد ذكر الطبري أن الرشيد لما عاد من دفنها، دعا الفضل بن الربيع وقال له: وحق المهدي، إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي، فأطيع أمرها.
أما بعد مقتل البرامكة فقد استبد الرشيد برأيه، حتى إن ظئره أم جعفر - وكانت قد أرضعته وربته - دخلت عليه أيام النكبة، فتلقاها وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها. فقالت يا أمير المؤمنين: أيعدو علينا الزمان ويجفونا، خوفاً لك، الأعوان، وقد ربيتك في حجري وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري. . . ثم أخذت تستشفعه في يحيى والفضل، فلم يسمع لها ولم يرق لكلامها.
ولم يكن لزبيدة من الأمر، زمن الرشيد ما كان للخيزران وإن كانت هي أيضاً ذات سلطان. وكانت تهب وتصل وتعطي وتستشفع، ولكنها ما كانت لتتدخل في شؤون الدولة. ولعل ذلك راجع إلى البرامكة الذين استولوا على الأمور كلها.
وفي الحقبة الممتدة بين خلافة المأمون والمعتضد، نلاحظ تدخل القيان من مسمعات ومغنيات وشو اعر في أمور الدولة. ونلاحظ عظيم سطوتهن عند الخلفاء. فكن يستشفعن ويقربن ويولين ويبعدن. وإن كان بعض هذا قد حدث زمن الرشيد أيضاً. فقد كان كلفاً بذات الخال فحلف لها يوماً أن لا تسأله شياً إلا قضاه، فسألته أن يولِّي رجلا يحبها، الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك وكتب عهده به وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته. ولعله أجابها إلى ما سألت ليخلو له الجو. . .
ويذكر الأصبهاني أن إبراهيم بن المدبر، لما سجن، سألت عريب - وما أدراك ما عريب! - الخليفة في إخراجه، فوعدها بما تحب، ثم أطلقه.
وكانت القيان ذوات السلطان، يتعصبن لطائفة سياسية، ويشايعن مذهباً، ويقضين حوائج أهله عند أولي الأمر. وقد ذكر أبن المعتز أن فضلا الشاعرة - وكانت في نهاية الجمال والكمال والفصاحة وجودة الشعر - كانت تتشيع، وتتعصب لهذه العصابة من الناس، وتقضي حوائجهم بجاهها ومنزلتها عند الملوك والأشراف.
وغضب الواثق مرة على إسحاق الموصلي، فرضته عليه فريدة جاريته، وكانت فريدة
أثيرة عند الواثق حظية لديه.
وإذا تتبعنا أخبار هؤلاء النساء والقيان، نجد أنهن، حوالي سنة 300هـ، أصبحن ذوات سلطان كبير. ويذهب آدم متز إلى أنهن كن يطالبن بالحق في المهام الكبيرة - وما أشبه الليلة بالبارحة - لأن أبن بسام الشاعر يقول:
ما للنساء وللكتا
…
به والعمالة والخطابة
هذا لنا، ولهن منا
…
أن يبتن. . .
على أن القرن الرابع قد أمتاز بالقهرمانات؛ فقد كان لهن الأمر كله، وكن يعملن الأعمال الكبار؛ يعزلن الوزراء ويولين الولاة، ويجلسن للمظالم. وقد ذهبن إلى أبعد من هذا وذاك، فكن يقضين بين الناس. فأم موسى القهرمانة هي التي أوصلت أبا الحسين بن أبي البغل إلى الوزارة، فكان لا يخرج عن أمرها وكانت تجلس أخاً لها عند القصر، فيلقاه الناس وأصحاب الحوائج فيأخذ رقاعهم وشكاواهم وقصصهم إليها.
وهي التي أغرت المقتدر بالله والسيدة أمه، بعلي بن عيسى بن داو ود في وزارته (سنة 304) فقبض عليه وأودع السجن.
وهي التي كانت تزيد في أرزاق الخدم وتنقص منها.
والسبب في تدخل هؤلاء القهرمانات في أمور الدولة، ضعف المقتدر. فقد كان مشهوراً بالتدبر بآراء النساء. وكانت السيدة والدته وخاطف، ودستنبويه، أم ولد المعتضد، يدبرن الأمر لصغره. ثم ظل تدخلهن جارياً. وهكذا انتقلت الحكومة في أيامه، في بغداد، من الرجال إلى النساء.
وفي سنة (306هـ)، صار الأمر والنهي لحرم الخليفة - المقتدر دائماً - ولنسائه. وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر قهرمانة لها تعرف (بمثل) أن تجلس للمظالم بالتربة التي بنتها بالرصافة، وأن تنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها.
وقبضت أم المقتدر على زمام الأمر. وامتد سلطانها على كل شيء حتى إنها كانت تراقب - لحذرها - ما كان يقرأه أبناؤها. وقد ذكر الصولي انه كان يوماً عند الراضي يقرأ عليه شيئاً من شعر بشار، وبين يدي الراضي كتب لغة وكتب أخبار، إذ جاء خدم من خدم السيدة
جدته، وهي شغب أم المقتدر، فأخذوا جميع ما بين أيديهما من الكتب، فجعلوه في منديل أبيض كان معهم ومضوا. فاغتاظ الراضي. فسكن منه أستاذه، وأفهمه أنهم أردوا أن يمتحنوا الكتب. ولما مضت ساعتان أو نحو ذلك ردوا الكتب بحالها، فقال لهم الراضي: قولوا لمن أمركم بهذا: قد رأيت هذه الكتب، وإنما هي حديث وفقه وشعر ولغة وأخبار وكتب العلماء. وليست من كتبكم التي تبالغون فيها مثل عجائب البحر، وحديث سندباد، والسنور والفأر.
وظل المقتدر على عرش الخلافة زهاء خمسة وعشرين عاماً، والنساء من حوله يحكمن.
ومن الطرافة أن نذكر هنا أن المعتضد كان قد تنبأ لابنه المقتدر بأن النساء سيستولين عليه. حدث صافي الحرمي مولي المعتضد قال: مشيت يوماً بين يدي المعتضد، وهو يريد دور الحرم فلما بلغ باب (شفـ) أم المقتدر، وقف يتسمع ويتطلع من خلل الستر فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها وهو جالس، وحواليه مقدار عشر وصائف من أقرانه في السن، وبين يديه طبق فيه عنقود عنب في وقت لا يوجد فيه العنب، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الوصائف كلهن على الدور، حتى إذا بلغ الدور إليه أكل عنبة واحدة، حتى فني العنقود، والمعتضد يتميز غيظاً. فاهتم ورجع، فسألته فقال: والله يا صافي لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم، فإن في قتله صلاحاً للأمة. فقلت يا مولاي حاشاه، أي شيء عمله؟ أعيذك بالله من اللعين إبليس. فقال ويحك، أنا أبصر بما أقول. أنا رجل قد سست الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأعلم أن الناس بعدي لا يختارون غير ولدي، وسيجلسون ابني علياً (يعني المكتفي)، وما أظن عمره يطول للعلة التي به (يعني الخنازير التي كانت في حلقه) فيتلف عن قريب، ولا يرى الناس إخراجها عن ولدي، فلا يجدون بعده أكبر من جعفر (يعني المقتدر) فيجلسونه وهو صبي، وله من الطبع في السخاء هذا الذي رأيت فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، ويقسم ما جمعه من الأموال كما قسم العنب.
وكانت الصورة كما قال المعتضد بعينها.
وفي عهد المقتدر اشتد سلطان امرأة أخرى يقال لها (زيدان) وكان لها طبيب خاص بها، هو عيسى البغدادي، يحمل الرقاع بين الوزراء وربما حملها إليها لتعرض ذلك على
الخليفة.
وقد استطاعت زيدان هذه أن تتمكن من جواهر المقتدر وأن تأخذ سبحة لم ير مثلها، كان يضرب بها المثل، فيقال سبحة زيدان. وكانت قيمتها ثلاثمائة ألف دينار. واستطاعت أن تجعل دارها سجناً. فقد سجن عندها علي بن عيسى بن داود بعد وزارته، ومن قبله وكل بابن الفرات عندها، كما سلم إليها الأمر الحسين بن حمدان أيضاً
وثمة خليفة آخر لعبت به النساء، هو المستكفي. فقد كان عبداً لحسن الشيرازية. وكانت هذه قد سفرت بينه وبين توزون القائد التركي، واستطاعت أن يكون خليفة، وتولت أيضاً سمل المتقي بيد غلامها السندي.
وأصبحت بعد ذلك تستبد بالمستكفي، وتتولى عرض الغلمان والحجاب في قصر الخليفة، في مجلس يقال له الحوذان. فانخرقت الهيبة بهذه المرأة، وذهبت الرسوم التي كانت للخلافة، وصارت الدار طريقاً لكل من يراها.
ويتضح من هذا، ما كان عليه خلفاء بني العباس، حتى منتصف القرن الرابع، وما كان من أثر النساء فيهم، وما أدى إليه تدخلهن في الأمور، من انخراق الهيبة، وضياع الأمور، وانتشار الفوضى. وهذه نتائج طبيعية محتومة لمن يولي أمره امرأة ويدعها تفعل ما تشاء.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 11 -
برّه بأهل الذمة:
من مزايا الشريعة الإسلامية، ومظاهر برّها، وشواهد فضلها، ودلائل إنعامها وخيرها، ومن آي تسامحها - كفالتها لأهل الذمة ورحمتها بهم، ورعايتها لهم، ودفع الظلم والأذى عنهم، فإنهم متى أعطوا الجزية - وجب تأمينهم، وحمايتهم،، والدفاع عنهم، وتوفير الحرية لهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم مالا يطيقون كالمسلمين، وينسمون أهل الذمة، لأن هذه الحقوق ثبتت لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما الجزية التي تفرض عليهم فليس فيها مشقة، ولا عنت، كما أنها لم تجب عليهم اعتسافاً وتحكما، فهي قدر يسير من المال، لا يفرض إلا على الرجل الحر القادر على الكسب: فلا جزية على صبي، ولا على امرأة، ولا على فقير غير معتمل، كما أنها لا تجب على أهل الصوامع، وهي عند الحنفية ثمانية وأربعون درهما على الغني كل سنة، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثنا عشر على الفقير؛ وعند الشافعي أقلها، وهو دينار، وأكثرها غير محدود، وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: ليس لهم قدر معين، وإنما هو متروك لاجتهاد الإمام.
واختلف العلماء في سبب أخذها منهم، وأقرب الآراء، وأولاها بالترجيح ما رآه العالم المحقق السيد محمد رشيد رضا، من أنها واجبة للدفاع عنهم وحمايتهم من الاعتداء عليهم، كما يفهم من سيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة، وأعدلهم في تنفيذها، فمن ذلك ما كتبه خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا، حينما دخل الفرات:(هذا كتاب من خالد ابن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني أعاهدكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا)، وذكر البلاذري في فتوح البلدان، والأزدي في فتوح الشام - أن الصحابة رضوان الله عليهم
ردّوا ما أخذوه من أهل حمص من الجزية، حين اضطروا إلى تركهم لحضور وقعة اليرموك لعجزهم عن الدفاع عنهم في ذلك الوقت، فعجب أهل حمص نصاراهم ويهودهم أشد العجب من ردّ الفاتحين أموالهم إليهم.
ذلك، وقد أوصي الإسلام بأهل الذمة خيراً، أوصى ببرهم، والإحسان إليهم، وحرم ظلمهم، أو أخذ شي منهم بغير حق، كما أنه لم ينه المسلمين عن معاملة مخالفيهم في الدين - بالقسط والبر، وإن لم يكونوا أهل ذمة إذا لم يقع منهم عدوان ولا بغي، قال الله تعالى:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم - أن تولوهم - ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، وروى داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم - أن رسول الله قال:(من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجة يوم القيامة).
وجاء في كتاب لعمر بن الخطاب أرسله لعمرو بن العاص عامله على مصر (وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال: (استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)، ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله وعليه وسلم:(من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) فأحذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصما، فإنه من خاصمه فالله خصمه).
وجاء في كتاب آخر أرسله عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ابن الجراح قوله في شأن أهل الذمة (وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحقها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم).
أدرك المسلمون الأولون من هذه النصوص وغيرها، ومن تعاليم الإسلام وسمو مبادئه - مدى رحمة الإسلام وعطفه على مخالفيه من الذمة والكتاب - ما استقاموا على الطريقة، ونأوا عن الإثم والعدوان - فلم يعرف عنهم اضطهاد لهم في دينهم، ولا حرمان لهم من حقوقهم، واستخدمهم الخلفاء الأمويون والعباسيون في ترتيب دواوين الخراج، وترجمة علوم اليونان، وقربوا النابغين منهم، واعتمدوا عليهم في شفاء عللهم، بل عدهم المسلمون
عضواً في هيئتهم الاجتماعية، يحافظون عليه، كما يحافظون على أنفسهم، وساسوهم بالعدل والرفق، وأشركوهم معهم في مرافق الدولة، وكان شعارهم - حيال أهل الذمة - (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهي سياسة عادلة رحيمة، جعلت المؤرخ الاجتماعي جوستاف لوبون يقول: ما رأيت فاتحاً أعدل، ولا أرحم من العرب.
(للبحث بقية)
حسن أحمد الخطيب
حول تعقيب
الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو ريه
لما أجمعت النية على نشر كتاب عن (حياة الحديث المحمدي) بعد أن جمعت مواده وهيأت فصوله - قدرت أن هذا الكتاب ستضيق به صدور الذين يكرهون التحقيق في البحث، والاجتهاد في الفهم، والحرية في الفكر؛ ولا يرون العلم إلا فيما أخذوه عن شيوخهم تلقيناً، والاستمساك بما وجدوا عليه آباءهم غثاً كان أو سميناً.
وقد وقع ما قدرت، فلم تكد تبدو في أفق (الرسالة) لمعة عن هذا الكتاب حتى انبعث (حشوي) في إحدى صحف العوام ينضح علينا من رضاع ملكته سباً وشتما وسفاهاً، فلم نعره التفاتاً، لأن المناقشة بين العلماء لا تكون إلا بعلم وبرهان؛ أما الفحش والسفه والسباب، فهي أداة الجاهل الذي أعوزته الحجة واستعصى عليه الدليل، ولا يصح أن يتخذ الجهول في البحث قريناً.
ولما قرأت في العدد 642 من (الرسالة) كلمة الأستاذ محمد محمود أبو شهبه رأيتها تنزع إلى الحق وتطلبه، وهي وإن كانت قد حملت بعض مآخذ - تجاوزنا عنها - تستحق العناية، وتستأهل الرد:
1 -
قلت في كلمتي التي نشرتها بالرسالة: إني وجدت بعد البحث والتنقيب أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه. فجاء الأستاذ أبو شهبة يسأل عن مبعث هذا الحكم، وبعد أن يسلم بأن من الأحاديث ما روى على المعنى قال:(ومن الأحاديث ما (اتفقت) الروايات على لفظها! وإن لم تصل إلى درجة المتواتر، ومن الأحاديث ما لا يشك متذوق للبلاغة أنها من كلام أفصح العرب). كأنه يقول: إن هناك أحاديث كثيرة (معروفة) قد جاءت على كمال صياغتها كما نطق الرسول بها، فبدت تحمل مزايا نظمها واتساقها وأسرار بلاغتها، وخصائص ألفاظها ومعانيها.
ونحن لو سلمنا جدلا بأن هناك أحاديث - قد اتفقت الرواة على لفظها لأنا لم نقف على إحصاء صحيح لها، فإنه لا يصح اعتبارها ولا الاستشهاد بها ما دامت - كما يقول هو عنها - لم تصل إلى درجة المتواتر، ذلك بأنه ما دام شرط التواتر لم يتحقق لها فإنها
تصبح في حكم الآحاد الذي لا يعطي إلا الظن، والظن سواء أكان في اللفظ أم في المعنى لا يغني من الحق شيئاً.
ومن هنا كان استشهادنا بكلمة الشاطئ وقولنا: إنه لا يكاد يوجد حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، وقد سبقنا إلى هذا القول ابن الصلاح فقال في المتواتر:(إنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروي من أهل الحديث أعياه تطلبه).
على أنا نزيد الأمر توكيداً فنسوق بعض ما قاله أئمة النحو في سبب عدم إثبات القواعد النحوية بألفاظ الحديث، لأنها لم تتواتر عن النبي.
قال السيوطي في الاقتراح: وأما كلامه صلى الله عليه وسلم، فيستدل منه بما يثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، وإنما يوجد في الأحاديث القصار على قلقة أيضاً، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ. . . ومن ثم أنكروا علي ابن مالك إثباته القواعد النحوية بألفاظ الواردة في الحديث.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل: قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب: كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر والخليل، وسيبوبه منأئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن مبارك الأحمر، وهشاماً الضرير من أئمة الكوفيين، لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرين من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس. . .) وقد قالوا: (إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بأن ذلك لفظ الرسول إذ لو وثقوا بذلك لجري مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية، وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم تنقل بتلك الألفاظ جميعها نحو ما روى في قوله:(زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك، خذها بما معك)، وغير ذلك من الألفاظالواردة في هذه القصة،
فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ،، بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولاسيما مع تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ، فبعيد جداً لاسيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى!
الثاني: إنه وقع اللحن كثيراً فيما روى من الأحاديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، ونعلم قطعا من غير شك أن رسول الله كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها. . .
وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً، فإنه من تغيرات الرواة لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد.
ومن قول الشاطبي في شرحه على ألفية ابن مالك:
(. . . إن النحاة يستشهدون بكلام سفهاء العرب وأجلافهم وبأشعارهم التي فيها الخني والفحش ولا يستشهدون بالحديث. ثم روى عن أبي حاتم عن الجرمي أنه أتاه أبو عبيده معمر بن المثنى بشيء من كتابه في تفسير غريب القرآن الكريم قال: فقلت له عمن أخذت هذا يا أبا عبيده، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ فقال: هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم! فإن شئت فخذ وإن شئت فدع. . . ثم قال: ولا أعرف لابن مالك سلفاً إلا ابن خروف.
نجتزئ بما نقلناه من أقوال هؤلاء الأئمة، لأن الكلام في ذلك يطول:
2 -
عرض الأستاذ لقولنا إن المعاني قد ظلت تتوالد، والألفاظ تختلف باختلاف الرواة. فاتفق معنا في اختلاف الألفاظ وتباين الأساليب، وخالفنا في توالد المعاني. . . ونحن لا نتوسع بالرد عليه في ذلك، لأن فيما أوردناه من كلام أئمة النحو واللغة غناء، فقد أثبتوا أن الرواة قد زادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ، ولحنوا وأخرجوا لفظ الحديث
عن القياس العربي، فإذا لم يكن في ذلك كله توالد للمعاني، فمن أي شيء إذن يكون هذا التوالد؟!
ويقول الأستاذ: إنه كان يحب منا (أن نقرأ في كتب الرجال، وبخاصة الصحابة والتابعين، لنعرف ما خص الله به هؤلاء القوم من حافظة قوية وذاكرة وقادة.
وما كان يحبه الأستاذ منا قد قمنا به، بل زدنا عليه، فقد أبعدنا النجعة في مطارح البحث، حتى انتهينا إلى منطقة وجدنا فيها أن الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث، بل كانوا ينهون الناس عنها. ومما ألفيناه من أسباب ذلك أنهم كانوا يخشون أن تخونهم هذه الحافظة (القوية) فيروون الحديث على غير ما نطق به النبي فيبدو وقد أصابه التحريف أو الزيادة أو النقصان! وهم لم يكونوا يروون ما يروون عند سماعه ولا بعد سماعه بقليل، وإنما كانوا يفعلون في المناسبات، وقد لا تتهيأ هذه المناسبات إلا بعد سنين طويلة، فكان كل صحابي يروي ما يجدوه في ذهنه من معنى الحديث الذي سمعه من النبي (ص) أو من أحد أصحابه أو من التابعين، إذا لم تكن رواية الصحابة موقوفة على ما يسمعونه من النبي فحسب، فيعبر عنه بألفاظ من عنده ومن هنا جاءت رواية الحديث الواحد بألفاظ مختلفة.
وإلى الأستاذ بعض الأمثلة مما عثرنا عليه في بحثنا:
جمع أبو بكر الصديق الناس بعد وفاة نبيهم وقال لهم: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. ونسي عمر حديث تيمم الجنب، وعلى أن عماراً قد ذكره به فإنه لم يذكره!
وقال عمران بن حصين: والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويتحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمكم أنهم كانوا يغلطون وأنهم ما كانوا يتعمدون!
وقيل لزيد بن أرقم حدثنا عن رسول الله فقال: كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد. وكان عبد الله بن مسعود - وهو من هو - يتغير عند ذكر الحديث عن رسول الله، وتنتفخ أوداجه ويسيل عرقه وتدمع عيناه ويقول، أو قريبا من هذا! أو نحو هذا، أو شبه هذا. كل
ذلك خوفا من الزيادة والنقصان أو السهو والنسيان. وسأل مالك بن دينار ميمون الكردي أن يحدث عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه فقال: كان أبي لا يحدثنا عن النبي مخافة أن يزيد أو ينقص!
ولهذه الأخبار نظائر كثيرة أوردنا طائفة صالحة منها في كتابنا.
وعلى أن الأستاذ قد اعترف بأن رواية الحديث بالمعنى كان لها ضرر من الناحيتين اللغوية والبلاغية فأنه قد منع أن يكون لها ضرر من الناحية الدينية. ونحن نعجب أن يخفي على مثله هذا الأمر وهو مشهور بين الفقهاء جميعاً.
وإذا كان الكلام في ذلك يطول فإنا نحيل الأستاذ إلى ما كتبه العلامة نجم الدين الطوخي في آخر كتابه (صفة المفتي) وإن أبى إلا أن يرى أمثلة على ذلك من بعض الأحاديث ليعرف ما جرى فيها من خلاف بين الفقهاء - ولا شيء أضر من الخلاف - بسبب رواية الحديث بالمعنى؛ فليرجع إلى حديث استفتاح الصلاة بسورة الفاتحة، وإلى الحديث الذي أوردناه من قبل وهو (زوجتكها بما معك).
3 -
تكلم الأستاذ عن الحديث الذي قلنا إنهم استجازوا به وضع الحديث وهو: إذا لم تحلوا حراماً ولم تحرموا حلالا - وأصبتم المعنى - فلا بأس. فقال: وهذا الحديث بعضه لا يدل على الوضع! وإن في قوله وأصبتم المعنى ما يدل على أن الحديث قيل تجوزاً للرواية بالمعنى!
ولم يقل أحد إن بعض هذا الحديث صحيح، وبعضه الآخر موضوع! وإنما ذكر الجوزقاني وابن الجوزي أنه موضوع. ولو أن هذه العبارة التي قضى الأستاذ بصحتها كانت معروفة للصحابة لمنعت من تحرج من تحرج منهم من رواية الحديث! ولرفعت ذلك الخلاف الكبير الذي وقع بين العلماء في جواز رواية الحديث بالمعنى وعدم جوازها.
على أنه قد وردت أحاديث صحيحة تقطع بأنه صلوات الله عليه ما كان يريد إلا أن تروى أحاديثه على حقيقة لفظها مهما تحري الراوي في إصابة معانيها، ولم يكن ليشدد في عدم استبدال لفظ بلفظ فحسب وإنما كان يضرب عليه، فقد روى أصحاب السنن هذا الحديث: نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع). وهذا الحديث القولي قد أيده النبي بسنة عملية؛ فقد روى البخاري وغيره عن البراء بن عازب أن رسول
الله علمه دعاءً يقوله عند ما يأتي مضجعه، ومن هذا الدعاء:(آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فقال البراء يستذكر ما علمه النبي (وبرسولك الذي أرسلت) فقال له النبي (وبنبيك الذي أرسلت) وفي بعض الروايات فطعن في صدره ورده إلى الرواية الصحيحة. ومعلوم أن اللفظ الذي جاء به البراء يؤدي المعنى وأكثر، فهو بهذا قد أصاب المعنى ولكن النبي لا يريد ممن يروى عنه إلا أن ينقل كما سمع.
4 -
ويقول الأستاذ عن كلمة (معتمدا) التي جاءت في بعض روايات حديث من كذب على: إن القاعدة عند المحدثين أنه إذا تعارضت الروايات رجح الأكثر والأقوى، وهنا ترجح رواية ذكر اللفظ ويحمل المطلق على المقيد!!
ولا نطل القول في مناقشة هذه القاعدة ولا في طلب الدليل على هذا الأكثر والأقوى!! وإنما نقول إن علماء الحديث قد جعلوا للترجيح اعتبارات متعددة، منها اعتبار الإسناد، ومنها اعتبار المدلول وغير ذلك. وقالوا في اعتبار الإسناد إن رواية أحد كبار الخلفاء ترجح على غيرها، وكذلك ترجح رواية من كان فقيهاً ومن كان أكثر مخالطة للنبي الخ ورواية هذا الحديث بغير كلمة (معتمدا) قد نالت كل اعتبارات الترجيح فقد رواها ثلاثة من الخلفاء الراشدين وهم كبار فقهاء الصحابة وأكثر مخالطة للنبي، والزبير بن العوام - وهو من هو يؤيد روايتهم ورواية غيرهم من كبار الصحابة ويقسم بأن النبي لم يقل هذه الكلمة، وفي سنن ابن ماجه عن الليث بن سعد عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك قال رسول الله من كذب عليّ - حسبته قال معتمداً فليتبوأ مقعده من النار. ورسالة الشافعي التي هي الأصل الأول لعلم الأصول ومؤلفها أقرب إلى معين السنة الصافي قد ورد فيها هذا الحديث بصيغ كثيرة لم يأت في واحدة منها كلمة (معتمدا). وابن قتيبة الذي قالوا إنه لأهل السنة كالجاحظ للمعتزلة لم يوردها في كتابه (تأويل مختلف الحديث) الذي دافع فيه عن رجال الحديث إلا بغير هذه الكلمة. على أن الأقرب إلى العقل السليم والأشبه بخلق النبي العظيم أن تكون الرواية التي جاءت بغير هذا اللفظ هي الصحيحة، والتي يطمئن بها القلب؛ لأن الكذب هو الكذب.
5 -
ذكرنا في كلمتنا أن تدوين الحديث قد تقلب في أدوار أربعة، فكان في أول أمره مشوباً بغيره من أقوال الصحابة في التفسير وغيره من مسائل دينية أو طرق أدبية الخ مما كانوا
يعنون بجمعه وتدوينه على طريقة العصر الذي وقع فيه التدوين من غير ترتيب ولا نظام إلى أن جاءت طبقة ابن جريج الخ) فقال الأستاذ من أين وصلنا إلى ذلك! ونحن نذكر له بأن كل من درس تاريخ التدوين في الإسلام وبخاصة في عصر بني أمية يعرف ما عرفنا ويصل إلى ما إليه وصلنا، وإذا أراد أن يقف على (طفولة التدوين الإسلامي) فليرجع إلى مظانه، ولكي لا نشق عليه بكثرة البحث في المصادر الكثيرة نحيله إلى أدنى المصادر عليه: الجزء الثاني من كتاب ضحى الإسلام للأستاذ الكبير أحمد أمين بك. والجزء الثالث من تاريخ التمدن الإسلامي لجو رجي زيدان بك.
6 -
قال الأستاذ في أول مقاله إنه تتبع الحقائق التي وصلت إليها فوجد أن فيها ما يجافي الحقيقة! ولم يكن مبنياً على دراسة عميقة!. راجعة إلى مصادر الحديث الأصلية!! ولا يؤاخذنا الأستاذ بما نصارحه به من أنه قد تعجل في الحكم وأسرع في القضاء، ذلك بأنه لم يقرأ الكتاب كله ولا درس مواده وفصوله، ولا عرف مراجعه وأسانيده، وكل الذي رآه منه إنما هو (لمعة ضئيلة عنه) وقد كان عليه إذا آثر الحق والعدل أن يستأني في الحكم ويتمهل في إبداء الرأي حتى يطلع على ذلك كله ثم يصدر بعد ذلك حكمه.
7 -
وفي ختام مقالته جاءت عبارة غريبة لا أدري كيف أرسلها، ذلك أنه يقول، إن مما يحتاج إليه عالم الحديث (الرحلة في سبيله إلى من أحاط به خبراً!!).
وإني ولا مراء في الحق لم أكد أفهم ما هي هذه الرحلة التي يحتاج إليها علم الحديث في هذا العصر! وكذلك لم أعرف إلى أي الأقطار تكون؟ ومن هم أولئك الذين قد أحاطوا بعلم الحديث خبراً حتى نرحل إليهم ونأخذ عنهم!
أني لم أكد أعرف من ذلك كله شيئاً، وإنما الذي أعلمه أن طلاب الحديث في القرون الأولى هم الذين كانوا يحتاجون إلى الرحلة ليتلقوا الأحاديث من أفواه الرجال إذ كانت سلسلة الرواية في هذه القرون متصلة، والحفاظ يومئذ هم أوعية الحديث لا يوجد إلا عندهم ولا يؤخذ إلا عنهم، أما الآن وقد انقصمت هذه السلسلة بتدوين الحديث وأصبحت الكتب هي المراجع الصحيحة للحديث - وهي من كل طالب على حبل الذراع - فإن هذه الرحلة قد صارت لا حاجة إليها ولا غناء فيها. على أن عهد الحفظ نفسه قد انقطع أثره منذ قرون، حتى قالوا إنه قد ختم بالحافظ ابن حجر، وانقضى على أثره عهد المحدثين.
وإذا كان الأستاذ أبو شهبه لا يرضي إلا بالرحلة فإني قد قمت بما يرضيه ورحلت في سبيل تصنيف هذا الكتاب إلى جميع الأقطار وقضيت في هذه الرحلة سنين طويلة اختلفت فيها إلى مئات من العلماء والمحدثين والأصوليين والمؤرخين ومن إليهم ممن يؤخذ عنهم ويستفاد منهم لكي يأخذ كتابي حظه من التمحيص والتدقيق وقد اصطنعت في سبيل التلقي عنهم الصبر والأناة حتى ظفرت منهم بما أرجو أن يكون عملي به موفقاً صالحاً إن شاء الله، وما آمل أن يجد فيه كل من ينشد العلم والحق ما يحبه ويرضاه.
محمود أبو ريه
الملجأ الإسلامي الأول في عهد النبوة
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لله أنت يا رسول الله يا سيد المصلحين وإمام المشرعين، لقد مضى على أتباعك المسلمين قرون طويلة مظلمة حجبت عنهم محاسن شريعتك، وجعلتهم ينظرون إليها فيها وعلى أبصارهم غشاوة من الجهل، فتبدلت أوضاعها عندهم، وانحرفت عن سبلها المستقيمة إلى سبل معوجة، وصار كل شيء صالح فيها إلى فساد، وكل نظام جميل فيها إلى اختلال، وكل مظهر نشاط فيها إلى كسل وخمول، والإسلام دين إصلاح ونظام، ولابد لنا في نهضتنا الحاضرة من أن نرجع به إلى عهد نهضته، حتى لا يعوق المسلمين عن النهوض عائق من ناحية دينهم، وتسير فينا النهضة الدينية إلى جانب النهضة المدنية، متعاونتين في الوصول بنا إلى الإصلاح المنشود.
وها نحن أولاء نعالج الآن مشكلة السُّولة عن أوضاع ديننا معالجة مدنية، ونضع في ذلك الأوامر تلو الأوامر، والنواهي تلو النواهي، فلا يفيد في ذلك علاج، ولا ينقطع السُّولة عن هذه الحرفة الدنيئة، لأنا نقتصر في ذلك على علاجها من ناحية القانون الوضعي، ولا نحاول علاجها من ناحية الشرع السماوي، ليعلم الناس أن دينهم لا يبيح لهم هذه الحرفة الدنيئة، فكيف السُّولة عن تعاطيها، ويكف الذين يتصدقون عليهم أيديهم عنهم.
لقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحرفة وشدد في الوعيد عليها، ومدح الذين يتعففون عن سؤال الناس. ومما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس. وقوله أيضاً: لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وقد عالج الإسلام هذه المشكلة بعد منعه لها معالجة إيجابية، لأنه لا يصح أن يمنع المحتاجين من السؤال ويتركهم يتضورون جوعاً، أو يشقون في الحياة بجانب غيرهم من أهلها، فسنَّ الصدقة وفرض الزكاة على الأغنياء، وجعل من وظيفة الحكومة جمع الزكاة من أهلها، وصرفها على من يستحقها من الفقراء ونحوهم، فوقاهم بذلك ذل السؤال، وحفظ لهم كرامتهم، لأنهم لا يأخذونها من الحكومة امتنانا، وإنما يأخذونها حقاً تتقاضاه لهم من
الأغنياء، وتقوم فيه بوظيفة الوسيط بينهم.
ولما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة منعهم المشركون أموالهم في مكة، فأصابهم من ضيق العيش في المدينة ما أصابهم، وعانى كثير منهم من شدة الفقر ما عانى، وهم أبناء سادة قريش وأشرافها، ولا تسمح لهم عزتهم وكرامتهم أن يمدوا أيديهم إلى الناس بالسؤال، فأنشأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم ملجأ يجمع بينهم، واختار له مكاناً متواضعاً بمسجد المدينة، وكان موضعاً مظللاً من ذلك المسجد، فسماه من أجل ذلك صفةً، واشتهر أهله بين أصحابه بأهل الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل من مهاجري قريش، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فآواهم النبيصلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، وكان بهذا أول ملجأ اتخذ للفقراء في الإسلام.
وكان لهذا الملجأ نظامه فيمن يدخله من الفقراء، فكان لا يدخله منهم إلا الفقير الذي لا يستطيع ضرباً في الأرض للكسب، فلا يجد من كسبه ما يغنيه عن قبول الصدقة في هذا الملجأ من المسجد، وقد جاء هذا الشرط في وصف الله تعالى لفقراء هذا الملجأ في الآية - 273 - من سورة البقرة (للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافاً، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
وكان من نظامه أن جعل مدرسة لأولئك الفقراء، وكان مدرسة ليلية يتعلمون فيها القرآن وغيره من العلوم، لأن لهم عملا آخر سيأتي بيانه بالنهار، وبذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أول من جعل من الملاجئ مدارس، لتكون دور علم وتعليم، وينتفع الناس بها في دينهم ودنياهم، ولا يذهب ما يتصدقون به عليها سدى.
وكان من نظامه أن جعل لهم عملا بالنهار ينفقون منه على أنفسهم، ولا يكلهم إلى الصدقة التي يتصدق بها عليهم، لأنها لم تكن مورداً دائما، بل كان من عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسى، ولأن الإسلام دين عمل وجهاد، فلا يرضى لفريق من أهله أن يقعد عن العمل، ويتكل على ما يتصدق به عليه الناس. فكانوا يخرجون بالنهار فيجمعون النوى، ثم يرضخونه ويبيعونه لأصحاب الجمال.
وكان من نظامه أن جعل منهم جنداً للمسلمين، فكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل غزوة يغزوها بنفسه، فيكون شأنهم في ذلك شأن كل مسلم، ولا ينقطعون إلى ملجئهم كما ينقطع الرهبان إلى صوامعهم.
ولقد قام هذا الملجأ يؤدي عمله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تولى الخلافة أبو بكر رضي عنه فأبقاه على حاله التي كان عليها، ثم تولى بعده عمر رضي الله عنه، فاتسعت في عهده الفتوح، وفتحت للمسلمين خزائن الفرس والروم، وصارت أسباب الغنى سهلة وميسرة، فأمر رضى الله عنه بإغلاق هذا الملجأ، وأمر أهله أن يسلكوا تلك السبل الميسرة للغنى، لأنه لا يرضى بالفقر إلا أهل الخمول والكسل، والدنيا دار جهاد وعمل.
ومن ينظر إلى نظام هذا الملأ يجد أنه هو النظام الذي تأخذ به الأمم الحديثة في ملاجئها، لأنه هو النظام الذي يتفق وأسباب المدينة التي تأخذ بها، ولكن المسلمين حين انحرفوا عن دينهم بعد ضعفهم، تغير نظرهم إلى هذا الملجأ كما تغير نظرهم إلى غيره من أمور دينهم، فاتخذوا أساسا لما أنشئوا في تلك القرون المظلمة مما سموه تكايا وخانقاه، وأخذ أهلها من الصوفية يتمسحون بأهل ذلك الملجأ، ويزعمون أن اسمهم مشتق من الصفة التي كانوا يأوون إليها، على بعد ما بين اسمها واسمهم، وعلى بعد ما كان من نظام أهلها ونظامهم، وعلى انه كان نظاماً زال بزوال سببه، ولم يرضه عمر رضي الله عنه لأهله؛ ومثل عمر يؤخذ الدين عنه.
عبد المتعال الصعيدي
الحياة الأدبية في الحجاز
تتمة النهضة السعودية
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
الخطابة:
لقيت الخطابة عناية فائقة من أدباء الحجاز في العهد الأخير، فسلكت طريقها إلى النهوض ووجدت في المجتمعات والأندية تشجيعا دفع بها إلى الأمام ولكنها مع ذلك لا تزال عند الحجازيين متأخرة عن الكتابة لأنها لا تروج إلا في الرجّات العنيفة التي تساق إليها الشعوب ولا تنمو إلا في ظل الخلافات المذهبية والسياسية، والحجاز - كما يعلم الناس جميعاً - آمن هادئ لا تتوزعه القلاقل ولا تثور به الخلافات، ثم إنه بعيد عن التحزب والحزبية ولا يعرف معنى المنافرات والمذاهب السياسية وهي تؤجج نيران الخطابة وتبعث فيها القوة والحياة.
ولعل الذي بعثفي الخطابة الحجازية بعض الحياة في العهد الأخير إنما هو نشاط الشبان ومساعدة أولى الأمر من الساسة وقادة الفكر؛ فهم يهتمون بالأندية الأدبية التي تقام في المدن الكبيرة ويولونها من عطفهم وعنايتهم ويمهدون لها السبيل لأداء مهمتها على الوجه الأكمل، فسمو الأمير فيصل والشيخ محمد سرور الصبان وغيرهما لهم أياد محمودة في تشجيع القائمين بها، فهم يشعرونهم دائماً بالعطف والتكريم؛ ولهذا نرى هذه النوادي جادة ناشطة، ونرى القائمين بها يحددون يوماً من أيام الأسبوع يجتمعون فيه حيث يستمعون إلى خطبة جيدة أو محاضرة قيمة حتى إذا ما انتهى القائل علقوا على كلامه بالنقد أو الإعجاب.
وليس في الحجاز من ألوان الخطابة غير خطب المحافل والخطب الدينية، ولعل أولهما أرقى من الثانية؛ إذ تقال في مناسبات التكريم وفي المحافل التي تكثر في الحجاز في موسم الحج وفي المدارس في المناسبات الكثيرة.
والخطب الدينية في الحجاز أقل من خطب المحافل؛ فلا تكاد تعدو خطب المساجد. ويظهر أن الحالة الدينية هناك لا تدعو إلى هذا اللون من الخطب: فالناس هناك منصرفون إلى العبادة، بعيدون عن الانغماس في الشهوات، وإنما يلقى هذا النوع من الخطابة رواجاً في
المجتمعات التي يحيد الناس فيها عن جادة الصواب فيجد الوعاظ عندئذ مجالا لدعوتهم ومحلا لعظاتهم، فلا يكاد الزائر يسمع هناك إلا الخطب التي تلقى في الحرمين والمساجد الأخرى في الجمع والأعياد.
وقد كان الارتجال غير معروف إلى عهد قريب في الحجاز، ولكن العهد السعودي الذي شمل كل ناحية بالقوة خلق في الناشئين من الخطباء الاعتداد بالنفس فارتجلوا في المناسبات الاجتماعية خطبا لها مكانتها الأدبية.
ولا بد لي أن أشير هنا في هذه الكلمة إلى أثر (المذياع) في الخطابة، فهو - وإن توهم بعض الناس انه قليل الخطر - ذو أثر فعال في هذا الفن من الأدب، فقد كان في السنين الأخيرة حلقة الاتصال بين لهجات الشرقيين: في النطق والمواقف ومقاطع الكلام، ولهذا تجد المحدثين من خطباء الحجاز يتأثرون الخطباء المصريين في مواقفهم وطرائقهم، على حين تجد القدامى منهم يختلفون عنهم في الأداء واللهجة، وما ذلك إلا لأن الحديثين نشئوا يستمعون إلى خطباء مصر فقلدوهم وتأثروا خطاهم، ولم يستطيع القدامى مجاراتهم في هذا السبيل بعد أن سلخوا عهداً طويلاً وهم على طريقتهم الأولى.
الصحافة:
لم يكن للصحافة خطر كبير قبل العهد السعودي وإن صدر بعضها قبله، فلما كانت الحياة الجديدة في ظل جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، نشطت حركتها وأخذت تناضل في سبيل الأدب والإصلاح الاجتماعي، فكان يصدر منها إلى عهد قريب صوت الحجاز وأم القرى والمدينة المنورة وغيرها، وكان بجانب هذه الجرائد بعض المجلات التي تتناول الموضوعات العلمية والأدبية كمجلة المنهل لصاحبها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وقد قرأت حديثا في كتاب (ماذا في الحجاز) للأستاذ محمد أحمد جمال أن هذه الصحف قد عطلت بسبب غلاء الورق ولم يبق منها إلا جريدة (أم القرى) وهي لسان حال الحكومة السعودية.
وكانت هذه الجرائد والمجلات مع اجتهاد أصحابها المحمود وعنايتهم المشكورة لا تزال بادئة ناشئة: فالجرائد لا تصدر إلا كل أسبوع أو نصف أسبوع والمجلات لا تصدر إلا كل شهر.
وكان الحجازيون يدركون هذا الضعف فيها ويودون لو تنهض فتساير زميلاتها في الأقطار العربية، وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الحميد عنبر: (من حسنات العهد السعودي هذه الروح الصحافية القوية التي نراها في أطراف البلاد، فقد شجعت حكومة جلالة الملك عبد العزيز الصحافة في الحجاز وأعطت امتيازات لعدة جرائد ومجلات صدر منها البعض وتوقف، وبعضها لا يزال يصدر حتى الآن، ومنها ما أعطى امتيازه ولم يصدر حتى الآن. ونحن نسأل لِمَ لم يصدر ما أعطى امتيازه؟ ولِمَ توقف عن الصدور ما كان صادراً؟
ذلك لأن الصحافة لم تستقر لدينا على أساس قوي وأنها في حاجة إلى تنظيم، كما أنها في حاجة إلى صحافيين مدربين يستطيعون قيادة الجماهير، وغرس المبادئ الوطنية والأخلاق الرفيعة في نفوسهم).
ويرى الأستاذ محمد جمال كذلك: أن في الحجاز تربة صالحة للصحافة ولكن ينقصها رجال الصحافة الماهرون.
ويبدو لي أن الصحافة في الحجاز لا تسمو إلى المنزلة التي نرجوها لها إلا إذا توافر لديها المال الكثير الذي تؤمن به حياتها وتقوي نواحيها المختلفة؛ فيكون لها بعد ذلك مراسلون في الأقطار المختلفة يوافونها بأخبار العالم، ويشترك في توجيهها طبقة متمرنة من صحافيي العرب في الأقطار الأخرى حتى تشتد وتقوي، وعندئذ نأمل لها الفوق والرواج؛ فالتشجيع الحكومي قائم، ولم يبق إلا العمل مع الأخذ بالأسباب.
وأهم ما تعنى به الصحف الحجازية النواحي الاجتماعية والأدبية والأخبار المحلية وبعض ما تقتطفه من حوادث العالم نقلا عن الصحف الكبرى. ويمتاز أسلوبها بالهدوء والاتزان؛ فلا نجد فيها تلك الثورةالجامحة التي نجدها في صحف مصر نتيجة للخلافات الحزبية الكثيرة، فإذا كان هناك من حماس ففي بعض مقالات النقد الأدبي والإصلاح الاجتماعي.
(تم البحث)
أحمد أبو بكر إبراهيم
هذا العالم المتغير
(تصيب الذبحة الصدرية صفوة أبناء العالم، فكيف وفق
الأطباء المصريون إلى اكتشاف علاجها؟)
من وصفة بلدية: علاج للذبحة الصدرية
للأستاذ فوزي الشتوي
في حضرة عزرائيل - وصفة بلدية - جهل يقود العلم -
نجاح باهر - ونقدم العلاج أيضاً - عقبات
في حضرة عزرائيل:
جاءته الأزمة كما عرفها، فأوى إلى فراشه وقد نسى مهمته التي ارتدى من أجلها ملابسه، يرى زوجه وبينه يهرعون إليه بعقاقير الطبيب، فيتناول الجرعات في سكون، وهو يحس بتلك النغصة في صدره، ويشعر بحاجته الماسة إلى تنفس عميق، فلا يقوى على الزفير أو الشهيق، لأنهما يضاعفان الألم ويقربانه من عزرائيل وهو يطوف بفراشه. فيكتم الزفير ويمنع الشهيق إبقاء على سعادة أسرته، فأي مصير يحل بهم إن أتم عزرائيل مهمته في إحدى تلك الأزمات؟
ربما ينفذها في هذه الأزمة، وربما ينفذها في مرة تالية، وقد يهادنه مدة طويلة. ولكن أحمد بك كان يحس بجناحي ملك الموت تصفقان حوله كلما واتته أزمة الذبحة الصدرية، فيشفق على سعادة أسرته أكثر مما يشفق على نفسه!
وفي كل مرة كان ينظر إلى عقاقير الأطباء، فيعجب لعجزها، وتتولاه الدهشة لقصر يده ويد الطب عن إزالة غمته، واستقرار أمنة، ومستقبل عائلته. لم يدخر أحمد بك - كما حلا لي أن أسميه - وسعا في استشارات الأطباء والخضوع لوصاياهم، فقلل من نشاطه كما أمر، وداوم استعمال العقاقير، وهو يعرف أنها قد تأتيه بشر آخر، لأن الطب لم يعرف علاجاً أو مسكناً يهدئ العلة بغير أن يترك أثراً جديداً مؤذياً!
وهو يدرك تمام الإدراك أن العقاقير التي يتناولها تزيد ضربات قلبه وتضعفه، وتقلل ضغط
الدم، وتجهد عضلات القلب قبل أن تؤثر على الشرايين الناجية للقب، وتكسبها السعة اللازمة لمرور كميات الدم اللازمة للحياة. فالذبحة الصدرية علة تصيب هذه العضلات، فتجعلها تنقبض وتضيق وتمنع مرور كميات الدم اللازمة لتغذية القلب، فتعرقل مهمته.
وصفة بلدية:
وأحمد بك كسواه من الطبقة المثقفة النشطة القليلة الإيمان بالوصفات البلدية: قدمت إليه زوجه مغلي بذر الخلة مرات ليجرب، فنظر إليها ساخراً أن يفلح الجهلة فيما فشلت فيه علوم الطب. سمع أحاديثها، وقصص جيرانه ومعارفه مرات عن فائدة بذر الخلة في شفاء الذبحة الصدرية، فلم يصدق أن الطب عمى عن رؤيتها. وقالوا له: جرب، فلن تخسر شيئاً. فأجابهم وأقنع نفسه بأنه قد يأتي لنفسه بعلة جديدة قد تكون أقوى وألعن.
واستشار أطباءه، فرأى في عيونهم نظرات السخرية والاحتقار، وقرأ فيها إمارات اللوم، لأنه يقبل أقوال الجهلاء والعامة. ولكن العلة كانت شديدة الإلحاح، فلا يكاد ينفعل، أو يبذل جانباً من نشاطه حتى تفاجئه، فتأتيه في مكتبه، وفي الطريق، وفي بيته أيضاً. فخشي أن ينفذ ملك الموت مهمته في غفلة منه، ودفعته فظاعة الألم وحب الحياة لأن يجرب، ولا سيما أن كثيراً من معارفه يتعاطونها، فلم تحدث لهم من مضاعفات كما يتوهم.
وأخيراً، استسلم وأقبل على تناول مغلي بذور الخلة وهو يتجاهل طعمه الكريه، ويتحمله في صبر؛ فإذا العلة تهادنه، وإذا النغصات المؤلمة تبتعد عنه، فتقصي شبح عزرائيل واصطفاق جناحيه. واستمر بضعة أسابع، فاسترد حالته المعنوية، وأحس في وصفته البلدية بسر جهله الطب وأنكره، أو سخر منه!
جهل يقود العلم:
فقصد إلى طبيبه واثقاً من توفيقه، متوقعاً أن يسمع عبارات السخرية، وأن يرى نظرات اللوم. ولكن الطبيب لم يكن أقل دهشة منه لما رآه في حالته من تحسن ملموس، ولما وجده فيه من إيمان ويقين. ومن ثم بدأ الكشف العملي يزيح الستار عن عقار جديد وعلاج فعال للذبحة الصدرية التي تفتك بالصفوة المختارة من أبناء العالم كله. فهي لا تصيب في الغالب سوى الطبقة المفكرة الشديدة النشاط، والكثيرة الحساسية والإدراك.
واحتضن الكشف العلمي ثلاثة من أطباء كلية الطب وهم: الدكتور انرب أستاذ علم وظائف الأعضاء، والدكتور قناوي في الأمراض الباطنية، والدكتور شفيق برسوم من مدرسي علم وظائف الأعضاء أيضاً. وتكاتف ثلاثتهم لاستطلاع السر الجديد وإجراء أبحاثه وتجاربه منذ سنة ونصف، فاستخرجوا المادة الفعالة نقية خالصة من المواد الغريبة، وأطلقوا عليها اسم (الخلين).
واختبروا فعلها في الكلاب الضالة فيحقنونها بالبنج حتى تستغرق في رقادها العميق. وعندئذ يفتحون قفصها الصدري ويكشفون عن القلب والرئة، ثم يقيسون مقادير الدم الواردة إلى القلب عن طريق الشرايين التاجية، فإذا هي عادة تتراوح بين 30 إلى 40 سنتمتراً مكعباً في الدقيقة. ويحقنون الشرايين بمادة الخلين في جرعات تتراوح بين ملليمترين وعشرة ملليمترات، فإذا بالدم الوارد إلى القلب يتضاعف ثلاثة أمثاله في الحالات العادية، وإذا الشرايين تتسع ويستمر أثرها في الكلاب لمدة ثلاث ساعات.
نجاح باهر:
ولكن هذه النتيجة وحدها لا ترضى البحث العلمي الدقيق فأي أثر آخر يتركه الخلين على الأوعية التي يمر بها؟ وماذا يصيب القلب وعضلاته؟
واكتشف أطباؤنا نجاحاً باهراً، فإن الخلين لا يؤثر إلا على العضلات الملساء للشرايين التاجية، وهي العضلات التي تسبب الذبحة الصدرية. أما عضلات القلب كما يقول الدكتور قناوي فلا تتأثر. وكذلك القلب ذاته لا يتضخم، كما أن استخدام الخلين لا يؤدي إلي انخفاض ضغط الدم كما يحدث عند استخدام العقاقير الطبية المعروفة. وقد سجلت نتائج هذا البحث بالموجات الكهربائية مما يوضح تأثير العقار.
ومعنى هذا أن الطب وفق إلي عقار بالغ القدرة على اتقاء شر الذبحة الصدرية بدون أن يترك أثرا. أضف إلي ذلك أن تأثيره علي الإنسان يختلف عن تأثيره على الكلاب لأن مفعوله في الإنسان يتراوح بين 24إلى 48 ساعة تبعا لحالة المرض والمريض
وقد انتقل البحث فتناول الإنسان. ويعالج به الآن حوالي خمس وسبعين حالة أدي علاجها إلى نجاح باهر في 70 حالة. وكان نجاح خمس منها ضعيفا. ويرجع سبب ضعفها إلى تقدم المرض وإلى أن تصلب العضلات وصل إلى درجة التيبس نتيجة لكبر السن أو
اقتران الذبحة الصدرية بمرض السكر أو غيرهما من العوامل.
وتقدم العلاج أيضاً:
وتقدمت أبحاث العلاج أيضاً فأن الخلين مادة لا تستسيغ النفس مرارتها، فجرب استعماله في أقراص (برشام)، وفي حقن تعطى في الدم. والخلين لا يزيل المرض نهائيا ولكنه وقتي التأثير حتى الآن. ويتعاطى المريض مقادير منه تبعا لحالته. ولكن الأمل قوي في أن يصل البحث إلى العلاج النهائي؛ فقد لوحظ أن بعض الحالات شفيت نهائيا، واستغني المريض عن مواصلة العلاج. والمهم أن يوالي المريض استخدام الخلين حتى لا يصاب بنوبات الذبحة، حتى تستعيد العضلات حالتها الطبيعية بالتدريج.
ونوبات الذبحة الصدرية أو أزماتها تفاجئ مريضها في أوقات مختلفة، وتتراوح مدتها من نصف دقيقة إلى 20. وقد تصيبه مرة في اليوم، كما أنها قد تصيبه بضع مرات. وهي غالباً تحدث على أثر أي إجهاد سواء أكان عقليا أم جسمانياً.
وتكثر الإصابة بالذبحة الصدرية في الفترة التي نسميها منتصف العمر نتيجة لكسل بعض الغدد عن أداء وظيفتها مما يسبب تصلب الشرايين. وبرغم أن نسبتها كبيرة في مصر إذ تبلغ 50 % من المرضى من الطبقة النافعة، فإن مصر تعد أقل بلاد العالم في انتشار هذه المرض الذي يموت بفعله حوالي 20 % من مرضاه نتيجة لهبوط القلب أو انقباض العضلة.
أما في الخارج فالإصابة بالذبحة الصدرية شديدة الانتشار مما جعل اكتشاف العقار من المسائل العالمية فاهتمت به الدوائر العالمية، ونشرته كبريات الصحف الطبية، مرحبة باستخدامه كعلاج ناجح لمرض مستعص.
ويقدر العنصر الهام من بذر الخلة بنسبة 3 %، أما الباقي فشوائب وجد أن بعضها يترك أثراً ضاراً بالكلى.
عقبات:
ولم تمر فترات البحث حتى الآن سهلة لينة، بل اعترضته عقبتان كادت أولاهما توقف البحث في مراحله الأولى. فعندما أريد استخلاص مادة الخلين من بذر الخلة تحطم جهاز
التقطير. وواجه الأطباء معضلة إحضار جهاز آخر. وطريق الواردات ممنوعة أو مستحيلة. ولكنهم أقبلوا على صنع جهاز جديد، فاستعاضوا عن الزجاج بالمعادن، وأدخلوا عليها من التعديلات ما جعل الجهاز أصح استخداما، وأجدى نفعا من الأصلي.
وفي المرة التالية توصلوا إلى المادة التي يذاب فيها الخلين، ولكنها كانت قليلة وأوشكت على النفاد من القطر المصري كله؛ ولكن الحظ واتاهم فتطوع بعض مندوبي مصر إلى مؤتمر العدل الدولي لإحضارها من أمريكا، واشتروها فعلا. ولكنهم لاحظوا عند العودة أن الحقيبة التي تحملها ناقصة فأبرقوا إلى المحطات التي مروا بها حتى عثروا عليها وأعادوها لأصحابها وهم في المطار يستعدون لركوب الطائرة إلى مصر.
وهكذا قدمت مصر للعالم بحثا طبيا بالغ النفع لأنه يحتفظ للعالم أجمع بصحة صفوة أناسه ممن خبروا الحياة، ويساهمون في بناء المدينة بأكبر قسط. كما قدمت أيضاً لباحثينا مادة جديدة لأبحاث يانعة توارثناها مئات الأجيال في وصفاتنا البلدية التي طالما احتقرناها. ولو أنصف علماؤنا لاحتضنوها فلا يتركون منها واحدة حتى يثبت البحث العلمي الدقيق ضررها فما لاشك فيه أن شوائبها كثيرة وواجبهم تنقيتها.
فوزي الشتوي
في مآتم الأشواق
للأستاذ محمد العلائي
(إلى طه حسين، والمازني، والعقاد، والزيات، إلى الصديق سيد قطب، إلى هؤلاء أولا، إلى أدباء العربية ثانياً أقدم هذه اللوحة المشبوبة، وهي: مواقد أشواق تسامت بلهيبها أوهام الليل، وترامت على ضوئها مخاوف الرحيل، فباركتها بدعائي، وأحرقت فيها مواهبي، ثم تنفس الفجر فعصفت بقداستها سخرية اليقيقن، وأختنق شيطانها بأريج السلام. . . فسارعت إليها وأطفأتها بأقدامي):
تذكرتُ أيامي ودَارَ متاعبي
…
ومشرق أحلامي ومسرى مواهبي
تراءى لناالماضي ولاحت معاهدٌ
…
تمليت أوهامي بها وتجاربي
ومأساتُنا الأولى هناك تنزلت
…
عليّ بدار الشمس قبل الغياهبِ
وراحت توافيني بكل كريهةٍ
…
وتقذف ألوان القذى بمشاربي
وتفجر ما بين الضلوع تزيفها
…
لنغمة شادٍ أو لآهة نادبِ
لها كل يوم في الشروق مناحةٌ
…
وأوجع منها عند زحف المغاربِ
ظلام الضحى أبلى جديدي وعاقني
…
وبيّض في شرخ الشباب ذوائبي
وأطفأ مني القلب في ميعة الصبا
…
ويتم أفراحي وأذوَي رغائبي
وحجبني بين اللدِّاتِ فكلهم
…
لعوبٌ وهذا منزوٍ غير لاعبِ
وأخرج من أدنى القلوب محبتي
…
فأمي لا ترجو بقائي ولا أبي
وأشهدُ أني كنتُ نور عيونهم
…
وكنت عزيز الدار نجم الملاعبِ
ولكن أمراً والزمان أراده
…
فلست على أهل الزمان بعاتبِ
تناسيتُ إلا محنتي ومواجعاً
…
تُقَلِّبها الساعات بين جوانبي
ورحلتنا الأولى ويوم تضاحكت
…
أمامي أساريرُ المنى والمطالبِ
ولاح رجاءٌ واطمأنت مشيئتي
…
بطالعٍ يمن في جبين الكواكبِ
فأجمعت أمري لا أخاف على غدي
…
لقاء العوادي أو ركوب المصاعب
وخلفتُ أحباباً ورائي وأنفساً
…
يعزُّ عليها غربتي ومتاعبي
وتحنو على ضعفي وترحم جرأتي
…
وتخشى على حظي عثار المراكبِ
وقلت وداعاً وانتهجنا سبيلها
…
وسرنا بأرض الله ذات المناكبِ
وكانت ليالٍ ثم أشرف ركبنا
…
على شاطئ الصحراء مثوى العجائبِ
سلامٌ على دار المنايا وأهلها
…
من ابن سبيل أشعث الوجه شاحبِ
يروم الغنى فيها ويبغي كنوزها
…
ويرجو بها ظلا وضجعة لاغبِ
طلبتُ على جهل سواء سبيلها
…
وأُنسيت حظي والتفاف المشاعبِ
وكلفني ما لا يراد توهمي
…
وشفت أحاسيسي بروق المغايب
وأشربت حب الخير حتى أضلني
…
وشبَّه معوجاً بآخر لا حبِ
وغشَّى على عقلي فأكبرت تافها
…
وسُمْتُ البلايا رغبة في المكاسبِ
وران على نفسي صداها فعانقت
…
- لها الله - أمواج السراب المُكاذبِ
وخايلها يمُّ غرورٌ فأنزلت
…
بأتعس ثغر فيه أشأم قاربِ
أُسائل مَنْ حولي وليسوا نواطقا
…
وليسوا سوى أشباح غرقى رواسبِ
وتُؤذن بالرجعى نوايا عُبابه
…
وأين وما بالشط مرسى لراكبِ
أمامي سدود كالفضاء ومفزعي
…
إلى غُصص مشبوبة وكواربِ
وأفنى السُّري زادي ومائي ولم أجد
…
بها مستقراً واستدارت مذاهبي
وضاق بِوَعثاءِ الطريق تفكري
…
ومصَّت شعوري موبقات السباسبِ
وضمَّت على أدهى من اليأس أضلعي
…
وناءت بأثقالي ظهور النجائبِ
وأرَّقني خوف المصير ولم أعُد
…
أطيقُ الدياجي وارتجافَ المهاوبِ
فأخرجت من صخبي كريماً يودني
…
وذا بصرٍ يومَ الشدائد ثاقبِ
وملّكته أمري فكان دليلها
…
وسيرت ركبي خلفه غير ناكبِ
وسِرْتُ زماناً مغمض القلب سادراً
…
تُلِمُّ في الذكرى وأحدو ركائبي
وأخشع أحيانا أحيىِّ مقابراً
…
دفنت بها أهلي وبعض صواحبي
وأسمع للصحراء جُنَّت رياحها
…
وردَّت على الموتى نُواح الأقاربِ
وأهوى مع الآفاق جسما مفرغاً
…
وروحاً أتاه الموت من كل جانبِ
وبعد أعاجيب تراءت كنوزها
…
وراء ضباب كالدجى وسحائبِ
وأذَّن حادي الركب: لا هُمَّ نعمةًً
…
ونادى بيوم طافح البشر واهبِ
فصدقتُ مأخوذاً وجئتُ وصيدَها
…
أغالبُ خوفاً واندفاعةََ راغبِ
وأشعلت مصباحي فلما تكشفت
…
عرفت نصيبي عند بيض العواقبِ
ودرتُ كمغشىّ ٍ عليه وحينما
…
تمالكت أنفاسي ابتسمت لصاحبي
وقلت جزائي يوم خدَّر مسمعي
…
منجم سوءِ بالأماني الكواذبِ
وأيضاً جزائي يوم حمَّت بصيرتي
…
وملكت أمري خائباً وأبن خائبِ
فقال: مقاديرٌ ولما تنزلت
…
وقعتَ وخابَ الحزمُ يا أبن التجاربِ
وعدتُ كأن الأرض حولي مآتمٌ
…
وليس عليها غيرُ باكٍ وناعبِ
أصانع أبناء السبيل وأشتكى
…
تعثر أقدامي ورعشة غاربي
أراودُ يأسي والقضاءُ كخاتم
…
وأسبحُ في بحر مخيف وناضبِ
أباعدُ عن نفسي حقيقة رجعتي
…
وأجبر بلواها بشتى العصائب ِ
وأحكي رؤاها في مضاجع ذابل
…
ينام على جنبين صادِ وساغبِ
ومرّ بما أبكى رحيلا مُرزءاً
…
جنيت الردى منه وشوك المجادبِ
ولاحت على مرمى العيون مواطني
…
تحيةَ وشتاقٍ وفرحة آيبِ
هي الجنة الأولى وفيها منازلٌ
…
تنسمتُ أهلي بينها وحبائبي
وفاح شذاها من بعيدٍ فهزني
…
وذكّرني عهد الصِّبا ومآربي
وهاج زماناً كالربيع فشاقني
…
ترنح آصالي بها ومغاربي
وأنهارها تحت الظلال جوارياً
…
وفلكي عليها بين طافٍ وراسبِ
تموج بما فيها كأن غصونها
…
على شغب ما بين راضٍ وغاضبِ
هي الجنة الأولى وتحت سمائها
…
رأينا تباشير المنى والشبائبِ
مجالان هذا للشراب وللندى
…
وذاك لأفراح الهوى والكواعبِ
وقلبان في صدري أروح بجامد
…
وأغدو بمنساب الإرادة ذائبِ
يفزعني مسُّ اليقين ولونه
…
وأومن مسحوراً بما هو رائبي
أميل مع الأهواء وسنان حالماً
…
مكانٌ ينادي وآخر جاذبي
وقلت سأنسى في رُباها مَهالكاً
…
أضلَّت صوابي واستباحت مضاربي
ولكن دخلناها فيا بؤس جنتي
…
ويا بؤس إيماني وبؤس مثاوبي
هي الجنةُ الأولى ولستُ بتائه
…
فهذى مغانيها وتلك ملاعبي
رجعنا إليها بعدهمّ وغُربة
…
وبعد ملمّات أشبن ذوائبي
وهأنا فيها لا ضميري ضاحك
…
ولا أملي بين الرياض بواثبِ
على بابها الميمون ظلُّ كآبةٍ
…
وفي الساحة الكبرى عبيرُ النوائبِ
وأشهى جناها ليس فيه مذاقهُ
…
وكوثرها - لا كان - جمُّ الشوائبِ
وأشجارها الموتى غصون تهدَّلت
…
وكانت عناقيد الثمار الأطايبِ
وأزهارها صفرٌ عليها مَذَلةٌٌ
…
وأطيارها مبحوحة كالنوادبِ
وما كان منها دافقاً رُدَّ ماؤه
…
وصاخبها أمسى وليس بصاخبِ
مرابعها جفَّت وراحت أجادبا
…
وكانت مزاراً للحيا والسواكبِ
خمائلها محزونةٌ وسماؤها
…
تميلُ بأشباه النجوم الغواربِ
ومالت أعاليها وزارت رُبوعها
…
عواصف شتى بين ساف وحاصبِ
تحوَّل عنها أهلها وتناوحَت
…
بأبهى مجاليها ظِماءُ النواعبِ
وجوهٌ كأحداث الزمان مخيفةٌ
…
أطلت عليها من قصور خواربِ
وتلك التي بالأمس كنا نُريدها
…
ونسأل عنها كلَّ آتٍ وذاهبِ
هي الجنة الأولى وكنتُ أمامها
…
أحس بأن الكون بين جوانبي
وأشهدُ آفاقاً كباراً وعالماً
…
عرفتُ به قلبي وأولى عجائبي
ونادمتُ أشواقي هناك مواسماً
…
أجِدُّ وألهو بالظنون اللواعبِ
وأرسلتُ أحلامي وراء غُيُوبه
…
أخاف وأرجو مُبهمات العواقبِ
وفي النفس أهواء وفيها مواجد
…
وفيها تهاويلٌ سدَدْن مذاهبي
وفيها تسابيحٌ لعرش أظلَّني
…
وفكَّ قيودي واستفزَّ مواهبي
وألهمني حتى كأني مُنَوَّمٌ
…
أزال حجاب السرعن كل غائبِ
وأنطقني حتى لخْلتُ أضالعي
…
ستعلن أسراري وتُفشي مآربي
وأسكتَني حتى تجمَّد خاطري
…
وماتت بأعراقِ اللسان غرائبي
وغيَّر حالاتي وصفَّى مشاعري
…
أحس كمخدور وأهذي كشاربِ
وأغرى بأسباب الحياة نوازعي
…
وحرَّكَ أوهامي وأذكى رغائبي
ونضَّر أجوائي فأضحت خمائلاً
…
يفوح شذاها من صبا وجنائبِ
وتحظى بما دون القليل مطامعي
…
فتُشرق آمالي وتصفو مشاربي
وأصبح والدنيا بصدري مباهج
…
وأمسى وأفلاك الزمان مواكبي
هي الجنة الأولى وبات نسيمها
…
روائح أنقاضٍ ورجعَ منادبِ
معالمها ليست كأمس وإن هفت
…
عليها ظلال من أمان ذواهبِ
وأمست خلاءً غير ماض يعودها
…
وريح كأنفاس الخطوب الأشايبِ
سلامٌ عليها يوم كانت رياضُها
…
مشارقَ أفراحٍ وقبلةَ راهبِ
سلامٌ عليها يوم أطفئ نورها
…
وغشَّى زواياها نسيج العناكبِ
تعلمت من هذا الزمان ولم أكن
…
لأعلم لولا واصبٌ بعد واصبِ
هضمنا الليالي واعتصرنا بلاءها
…
وعريت أجسادَ المنى والنوائبِ
وقلبت في جدِّ الحياة وهزلها
…
وما عفت إلا مائعات المصائبِ
وساجلت أقداري وكانت مريرة
…
فعدت بما شاءت سليباً كسالبِ
وأدهى من الحالين سِلْمٌ تنالها
…
بوجدان مغلوب وبسمة غالبِ
وملت إلى ظلِّ السلام فأطمعت
…
سماحة إغضائي ضعاف الثعالبِ
وأبلغ رُزءٍ أن تكون فريسةًً
…
لأفواه ما ليست ذوات مخالبِ
وقاويت دهري فاستحاني ضميره
…
ولما يحذرني طريق المعاطبِ
وباصرته فازورَّ عني حنانه
…
وألقى رزاياه حيال مساربي
حياةٌ وليست بالقليل وإنما
…
يقلل منها كل أعزل هاربِ
خِضَمٌّ من اللذات يلعن موجه
…
لفيف من الغرقى ضعاف المناكبِ
هي الكأس يحلو مُرُّها لمعاقر
…
ويجزع منها كلُّ غر مُجانبِ
كرهنا على عجز ولم نر غيرها
…
وعند بلوغ اليأس خلق المعايبِ
حياةٌ وموتٌ ليس بعدُ حقيقةٌ
…
وليس سوى هذين معنى لحاسبِ
رسائلُ شتى والضمير مغيَّبُ
…
وإغراءُ مطلوب وشهوة طالبِ
ومُعتركٌ والحظ يعرف أهلهُ
…
وأنات مغصوب وتعليل غاصبِ
نصيبي مقدور فما اخترت موطني
…
وما اخترت أمي قبل ذاك ولا أبى
حبيب إليَّ العيش رغم توجعي
…
ورغم شعورٍ بالفجيعة ناصبِ
ورغم انطوائي لا أضاحك غايةًً
…
ولا أمنحُ الدنيا بشاشة راغبِ
أصَمُّ وفي أذنيَّ وقرٌ وإنني
…
لتحرق سمعي هامسات المغايبِ
وأبكم لا أُفضىَ وأَنَّى لمنطقي
…
وأسمى نواديهم صريرُ جنادبِ
بأنفسهم عَوْراتُ سوءٍ تردُّني
…
وتخْجلُ وجداني فأغضى كهائبِ
وأرحمهم مما تكنُّ صدورُهم
…
وأرثى لأبناء الأذى والعقاربِ
وأصغرت ما يرجون حتى زمانهم
…
ودنيا غوانيهم وعُليا المراتبِ
وأوصدت باب المجد لما تكشفت
…
أمامي أربابُ العُلا والمناصبِ
وأسأمني دهرٌ يَمُرُّ عجيبُه
…
وأعجبُ منه ماثلٌ في تجاربي
(القاهرة)
محمد العلائي
البريد الأدبي
عزها. . .
أقول - ومن أصعب الأشياء توضيح الواضح - أن الشاعر شبه خفقان قلبه الوجاب بارتجاف القطاة المسكينة وقد عزها الشرك (أي غلبها وقهرها) شبه حالة قلبه بحالتها (وقت مغلبة الشرك إياها) فاضطرابها الشديد هذا وتلك المجاذبة إنما هما من تلك الغلبة لا من الغر ولا من الجر؛ فما ارتعشت حين غرت وما كان ذلك الاضطراب العظيم لما جرت، ولكن تتابع اضطرابها حين استمكن الشرك منها وغلبها وقهرها ورامت الإفلات منه. وإنه لينادى على أن اللفظة (عز) لا غيرها هو ما جاء بعدها:(فباتت تجاذبه وقد علق أو غلق الجناح) ولو لم يكن هذا الحرف المروى ما كان أبو العباس أعلن في (كاملة) تلك الشهادة: (قد قال الشعراء قبله وبعده فلم يبلغوا هذا المقدار) وبلفظة يقوى ويسمو بيت وبلفظة يهوى. ورحم الله قائل الشعر ورواته، أبا تمام، وأبا العباس، وأبا الفرج وغيرهم، وشارحيه أبا زكرياء التبريزي وأبا علي المرصفي وغيرهما ممن لم تصل إلينا شروحهم. ورحم مخالف من شعر، ومن روى، ومن شرح الأديب العبقري (الرافعي)، وهم العبقريين يشذون ويخالفون، وحيهل بخلافهم وشذوذهم! ويا طول حزن العربية ومجلتها على حجة الأدب وأديب العربية حقا (مصطفى صادق الرافعي)، ومد الله في عمر الأديب العالم الباحث الأستاذ الشيخ محمود أبو ريه المصري المسلم الكريم المفضل.
السهمي
إلى الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق:
الآن، وقد سكنت تلك العجاجة واستنارت الشبهة بعد ذلك للناس وصرح الحق عن محضة - يحق لكل من ينشد الإصلاح أن يتوجه إلى جليل مقامك ليفضي إليه بما يريد.
تعلم - يا سيدي الجليل - أن الأزهر ظل قروناً معتسفاً في طريقه، مكبلاً بجموده، قائما على طريق أبعدته عن أداء ما عليه؛ فهو في الدين لم يكشف بعد عن جليل أسراره لينشرها، ولم يبين عقائده الصحيحة التي جاء بها، ولم يستطيع أن يثبت أن أحكامه الصائبة تساير نظام الاجتماع في كل زمان ومكان. وفى الدنيا لم يشارك سائر الجامعات
العلمية في جميع أرجاء الأرض بقليل أو كثير فيما يتخذ من أسباب ونظم لإصلاح العمران. ولقد نهض أستاذك الإمام محمد عبده رحمه الله منذ أكثر من نصف قرن ليعمل على إصلاحه، ويجعل له مقاماً يعلو به فاصطلحت عليه قوتان تعارضانه وتصدان عن سبيله، أولاهما من كان بيدهم الأمر يومئذ، والأخرى المعوقون من الشيوخ الذين تراهم في كل زمان لا يعملون صالحاً، ولا يقبلون إصلاحاً، فقضى رحمه الله ولما يقض ما كان يحبه ويصبو إليه.
وجاء الإمام المراغي فكان كل ما رأيناه في عهده أن تحرك الأزهر (في مكانه) ولم يستطع الشيخ رحمه الله على كثير ما سعى أن يزحزحه أو يخطو به، - واليوم - يلقى أمر هذا المعهد العظيم على عاتقك والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى ما سيكون شأنه في عهدك، ويرقبون تحقيق ما يأملونه على يدك. وإنك اليوم للمرجو والمسئول بين يدي الله وأمام العالم الإسلامي عن إصلاح هذا المعهد وتقويم ما اعوج منه، فامض في هذا السبيل بقوة وعزم، واحشد لما تتخذ من ذرائع وما تبتغى من أسباب صادق العزم. ولا تن في ذلك فقد توافرت فيك - ولك - كل أسباب الإصلاح وعوامل النجاح. فأنت في نفسك من الفضل والعلم والكفاية بأعلى مناط العقد، وأمامك الفاروق يأخذ بيدك في الإصلاح إلى أقصى حد، ووراءك الصفوة المختارة من طلاب الأزهر وشيوخه - والأمة جميعا معهم - يؤيدونك في كل قصد، حتى يبلغ الأزهر مكانته اللائقة به بين جامعات الأمم، ويفاخر بحق بأنه كان أول جامعة شقت حجب الجهالة بين العرب والعجم.
أيها الأستاذ الجليل: لقد انشرحت صدور المسلمين جميعا بتوليك مقاليد أمور الأزهر وتمنوا أن يكون الله قد استجاب فيك دعوة أستاذك الإمام التي دعا بها قبل موته حيث قال:
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدا
…
رشيدا يضيء النهج والليل قاتم
يماثلني نطقاً وعلماً وحكمة
…
ويشبه متن السيف والسيف صارم
فحقق أيها الإمام المصلح رجاء المسلمين فيك، وانهض بما كان أستاذك سينهض به من قبل والله معينك وكافيك.
محمود أبو ريه
حول كلمة (تاجيك)
قرأت فيما أنا متصفح للرسالة الغراء مقالة: (العرب) للدكتور جواد علي فرأيتها بحثاً طيباً، وتحقيقاً شاملا، يشكر عليها الدكتور شكراً جزيلا.
وانتهت بي القراءة إلى فقرة من فقرات البحث يشرح فيها الدكتور لفظة وما طرأ عليها من تغير وتطور وكيف أطلقت على العرب إلى أن قال:
(ونقل الفرس هذه الكلمة بصورة محرفة تحريفاً يلائم لغتهم فقالوا (تاجيك) وو في العهد الأخير) مستنداً إلى مصدر.
وعلى أي حال نحن واجدون ههنا مجالا للتحقيق فنقول:
يطلق الفرس هذه الألفاظ الثلاثة (تَاْجِيْكْ) و (تَاوكْ) و (تِاويْ) على المغول الذين غزوا إيران فبغداد في القرن السابع الهجري، ويطلقونها أيضاً على بعض القبائل الشمالية في إيران فيقولون:(تُرْكِ تاجِيْكْ). وأما العرب فيعرفون عند الفرس بهذي اللفظة (تِاْزِي) ومعناها حرفياً (صحراوي) إذ أن لفظة (تَاْزْ) تعنى في اللغة الفارسية الأرض القفرة الخالية. ولما اشتهر العرب بأنهم قوم (صحراويون) أطلق عليهم الفرس هذه اللفظة بعد أن أضافوا إليها ياء النسبة فقالوا (تِاْزِي) فالمصدر الذي استند عليه الدكتور خاطئ بناءً على هذا البتة.
(نجف)
ح. م. ع
القصص
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 1 -
قرأ أربعة رجال من نزلاء مصر خبر الحفلة التي أزمع السوريون إقامتها لتكريم رئيس الوزراء الذي قدم مصر ليشترك في حفلة افتتاح جامعة الدول العربية، فطاب لكل واحد منهم مشاركة مواطنيه في هذا التكريم الدال على أن الاغتراب عن الوطن والانتساب إلى غيره لا يحدان من العاطفة الوطنية ولا يصدان عن الحدب على أبناء وطنهم الأول، بل على العكس، يوقظ حادث كهذا الكثير من خبايا الذكريات الكامنة الحبيبة إلى النفس، خصوصاً ذكريات الطفولة والمدرسة والصبى.
لعل الذين اشتركوا في حفلة تكريم الوزير السوري، كان وجدانهم يضطرب بهذا الشعور أو ما يقاربه من أحاسيس بريئة، إلا أربعة رجال أزعم أنهم اشتركوا في هذا الاحتفال بدافع يخالف تلك الدوافع، ولعلنا لو سألنا كل واحد من هؤلاء الأربعة عن السبب لعجز عن ذكره.
رأيتهم يدخلون قاعة الاحتفال واحداً إثر واحد كأنهم على ميعاد، ولاحظت أنه ما من واحد من أعضاء لجنة الاستقبال التفت إليهم أو خصهم بكلمة ترحيب.
أهرعت إليهم وحييتهم أطيب تحية وأجلستهم مجلساً حسناً.
ما كاد أولئك السادة يطمئنون في مجلسهم حتى التفت كل منهم إلى جليسه ثم صوبوا نظرهم إلى فكانت مفاجأة من أبهج مفاجآت العمر وأحلاها، وكان أبهج من ذلك وأحلى أننا نتعانق ونبكى.
كنا أصدقاء، ولعل كلمة الصداقة تعجز عن تصوير الروابط الدموية التي كونت صداقتنا، وقد فرقتنا حوادث جسام ابتدأت في مستهل هذا القرن، ولم ننج منها إلا عقب إخفاق الثورة الدرزية، ولياذنا بمصر هذا البلد الأمين.
كنا فتياناً أغرارا يوم اقتفينا إثر زعمائنا في مناصبة الدولة العثمانية العداء، وكنا في حمأة من الضلال يوم حاربنا الإنجليز في (كوت الإمارة) وعلى ضفاف قناة السويس مع الجند العثماني جنباً إلى جنب، وكنا في غمرة من الجهل يوم اقتادونا لننتظم في جيش الخلافة نقاتل الأتراك، وكنا في جنون مطبق يوم قاتلنا الفرنسيين في (ميسلون) على أبواب دمشق، ثم لم يدركنا الرشد إلا بعيد فشل آخر ثورة دموية، وكانت جبال الدروز ميدانا لآخر قتال اشتركنا فيه بعد حرب العصابات في (غوطة) دمشق.
مرت بذهني صور تلك الحادثات، وتذكرت أياما قضيناها في السجون، تارة مجتمعين وتارة متفرقين، أما الليلة، أي بعد مضى حوالي ثلاثين عاما، فقد جمعتنا مصادفة من مصادفات المناسبات لتكريم الوزير السوري الأول: الذي ساير ولا بد حياتنا الجهادية تلك التي فتحنا عليها أذهاننا قبل أن تفتح لأنوار المعرفة عقولنا.
هل يعرفنا الوزير؟ هل نعرف الوزير؟ من من شهود هذا الحفل الحاشد يعرفنا؟!!
أسئلة ألقتها عيوننا بالنظرات، وبالنظرات أجابت عنها، فتفاهمنا كما كنا نتفاهم على تنفيذ أمر خطير مدبر! فانسللنا من مكان الاجتماع متعاقبين ليضمنا مجلس هادئ نتكلم فيه على هوانا!!
استوينا في مقاعدنا بمقهى ندخن النارجيلة ونحتسي القهوة، نتكلم عن ماضينا وكيف قطعنا مرحلة الشباب في الثورات والتشرد والمحاكمات والسجون حتى وهنت عزائمنا، وكلت هممنا فصرنا لا نصلح إلا لِعَلْك حياتنا الماضية واجترار أحداثها.
قال أحدنا: (منذ أخفقت الثورة الدرزية بسبب اختصام زعمائها على الزعامة الكبرى، وعلى استئثار كل فئة من المتحزبين بالأموال التي كانت ترد من هنا ومن هناك باسم الثورة، انسللت من بين الصفوف ولذت بمصر أداوى جراحاً حملتها أوسمة لا تصدأ ولا تمجد حاملها؟!!
فأجابه أحدهم مازحاً: (ظننت والله أنك سبقتنا إلى العالم الآخر). فرد عليه بلهجة جدية قائلا: أتحسب وفاء مني أن أرحل وأترككم هنا؟
وقال آخر: لقيت السلامة في سكنى هذا البلد الذي لم يعرفنا أهله إلا عن طريق السياسة؛ فصرت أعمل، لا عمل المطمئن المستقر، بل عمل إنسان (على سفر). وبالرغم من هذا
القلق المعنوي، أسست تجارة، وبنيت أسرة، وتطورت ميولي الوطنية فصارت أِشبه بميول المشتاق لحبيب بعيد، واستوطنت مصر.
قال أحدهم يذكر صديقه بموقعة مع الفرنسيين وقعت لهما (برأس بعلبك)، وذكر آخر حادثة ثانية وقعت له يوم ثورة (حماه)، وذكر هذا واقعة جبال العلويين، وذاك حادثة (القنيطرة) وأخذوا يذكرون حوادث لثورات أشعلوها على الاستعمار الفرنسي.
قلت وقد كفوا عن اللغط: حقاً يا إخواني إن ذكرياتكم سجل لتاريخ حقبة من حياة سورية، وإن هاتيكم الذكريات ستبقى مكتومة في الصدور، أو مبعثرة على ألسنة الرواة، حتى تصادف مؤرخا غير مأجور على تلفيق تاريخ لسورية، والآن وقد جمعتنا المصادفة، هل لكم أن تذكروا أروع حادث وقع لكم في جهادكم وأخطر موقف وقفتموه؟
لم يدم صمتهم طويلا، فقد انبرى واحد منهم وقال:
- 2 -
لست أحسن التنميق ولا التزويق، إنما أقص الواقعة كما وقعت: أخذنا الأعداء على غرة، كانت أجنادهم في ذلك النهار عديدة، وكانوا لوفرتهم وتراصهم هدفاً لطلقات من بنادقنا لا تخطيء ولا تطيش. أخذتنا نشوة الإمعان في التقتيل، وعلى الأخص حين رأينا طرائدنا تتلوى وتتساقط. كنا نسرف في إطلاق الرصاص ونرمى رمى الواثق المطئمن، ولكني فطنت إلى نفاد ذخيرتى، وكانت صناديق الذخيرة يحملها إلينا في متاريسنا فتيان كتموا حماستهم من شدة سرورهم بالقتال والنصر. أخذت الشمس تزول وتنحدر، ولم أفطن إلى عطش أو جوع، وإنما فطنت إلى نفاد ذخيرتي، ولما التفت إلى زميل كان إلى جانبي لأستعير منه طلقات لبندقيتي، لقيته في حالة من التوتر والانفعال يعبر عنها بزغردات الظافر الناجي، ولكن نشوة الظفر تلك لم تطل إذ افتقد جعبة (الخرطوش) فإذا بجيوبه فارغة، فالتفت يطلب النجدة منى، ولم نلبث أن سمعنا خطوات إخواننا تقترب منا تطلب قذائف.
أنى لنا بذخيرة لا نعرف لها مستودعاً غير أكتافنا والصناديق ملقاة على الأرض فارغة أمامنا؟ أجمعنا على الإفلات من العدو الذي أدرك نفاد عتادنا فأخذ يتقدم بل يسرع في الدنو منا.
عمدنا إلى خيولنا، وكانت مربوطة في غيضة تبعد قليلا عن ميدان المعركة، وما كدنا نقطع بها البقعة الكثيفة الأشجار حتى تبين أن أسراباً من جند الأعداء تسرع من ناحيتين لتطويقنا. أطلقنا الأعنة لأفراسنا التي استثارتها صيحاتنا لننجو من الرصاص المصوب إلينا من الجانبين ومن الخلف وكان يتساقط علينا كالبرد.
ليس من المغالاة في شيء أن أقول لكم يا إخواني إن الخيول تنخو ككرام الرجال، وتنتشي إذا انتصرت كطبائع الناس. إن أنس لا أنس كيف كنت أتشبث بعرف فرسي كالطفل، وكيف ألصقت صدري بالسرج، تاركا لها العنان، وكيف تمهلت ثم التفتت، ثم أطلقت صهيلا تتحدى به اللاحقين بنا، وتندد بعجزهم عن إدراكنا، وأخذت تمشى الهوينا متبخترة كالغادة الهيفاء.
زال عنا خطر إحداق أعدائنا بنا، وأخذنا نفكر أين نبيت وماذا نأكل. قال أحدنا يمازحنا، ننام حيث تنام خيولنا، ولكن هل في وسعنا أن نأكل من زادها؟!
نبه مزاح صاحبنا معدنا فأخذنا نتلمسها، وبينما نحن نلاطف معدنا الخاوية، وإذ بأزيز طيارة يملأ الفضاء. نسينا الجوع كما نسيتنا معدنا، وفى هنيهة وجيزة، وبدافع من حب البقاء عمدنا إلى خيولنا؛ فأنمناها على جوانبها متباعدات، وانبطحنا بعيدين قليلاً عنها.
عجباً لتلك الأفراس كيف أدركت الخطر الداهم فاستنامت كأنها خائفة مثلنا، وكأن حب البقاء كان رائدها أيضا!
أخذت الطيارة تهبط كأنها فوقنا وتحوم حولنا. لقد كشفنا قائدها الخبيث، رأيتها ترتفع، ثم سمعت بأذني سكوت محركاتها، وسمعت أيضاً أزيز القنبلة في سقوطها وقد أدركت هدفها.
نزلت النازلة ورأيتها رأي العين تسقط على قيد أمتار منى، أحسست أنا الذي ما آمنت قط بغير قدرة الإنسان، أن كل ذرة من وجودي تهتف بقوة وضراعة تستنجد بخالق الإنسان، وقدرت أنى ورفاقي من الموت على طرفة عين.
انقضت الثواني والدقائق. لقد تفكك في غضونها كل عضو في مفاصلي إلا ذهني فقد بقى في يقظة يرتقب الموت المحتوم حين انفجار القنبلة. . .
القنبلة لم تنفجر! لم تنفجر القنبلة لأنها صادفت أرضاً رطبة!
آه. . . يا للأسف!! صرخة صرخها أحد المنصتين، وقد خرجت من أعماق صدره، وقد
أتبعها بقوله: (والله لو انفجرت تلك القنبلة الخائبة وجرحت فرساً من أفراسكم لجزعت عليها، ولكن الله سلم)!!!
(يتبع)
حبيب الزحلاوي