الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 655
- بتاريخ: 21 - 01 - 1946
في الحرم
للأستاذ عباس محمود العقاد
ركبنا البحر ونحن لا نعلم على التحقيق أين نلقي صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، لأن برنامج الرحلة لا يشير إلى المكان.
فمن الجائز أن يكون في جدة، لأنها الميناء الذي ينتقل منه جلالته إلى يخت المحروسة، ولجلالته قصر منيف في أراضها هو القصر المعروف بقصر خزام.
ومن الجائز أن يكون في مكة المكرمة، لأن اليخت يصل إلى جدة قبل سفر جلالته بيومين.
فإذا كان استقبال البعثة الملكية في جدة فلا عمرة ولا إحرام، وإذا كان الاستقبال في مكة المكرمة، فقد وجبت العمرة ووجب الإحرام.
ولكن كيف السبيل إلى الإحرام؟ وكيف السبيل إلى خلع المخيط في الشتاء، وإن كان الجو في مكة أدفأ من جو القاهرة بدرجات؟
إنني ألبس الصوف شتاء وصيفاً منذ خمس وعشرين سنة، وإذا صح أن (الصوفي) منسوب إلى الصوف، فليس على ظهر الأرض رجل أحق مني بهذه الصفة، فكيف سبيل إلى التحلل من هذه الصفة التي لصقت بالموصوف، فلا فكاك منها ولا فرار؟
جاءنا النبأ في عرض البحر بأن صاحب الجلالة عاهل الجزيرة العربية يستقبلنا في قصره العامر بمكة المكرمة، فنوينا الفدية، ونوى أصحابنا الإحرام، ولم يبق معي بملابسه غير الأستاذ عوض البحراوي بك وزير مصر المفوض في المملكة السعودية، لأن الإحرام لا يلزمه، وإنما يلزمه أن يطوف بالكعبة عند مغادرة مكة طواف الوداع
وقد خصصت الحكومة السعودية قصر (الكندرة) بجدة لتبديل الملابس قبل المسير إلى الحرم الشريف. وتولى الإشراف على راحة البعثة ومن معها صاحب المعالي الشيخ يوسف ياسين وزير الدولة، وصاحب العزة الأستاذ فؤاد شاكر مدير المطبوعات. فلما تهيأ أصحابنا للسفر تحرك الركب بالسيارات، فكان من نصيبي الركوب في سيارة الوزير المفوض عوض البحراوي بك، وهو رجل فاضل عرف أهل البلاد كما عرفه أهلها، فانعقدت بينه وبينهم صلات المودة والزمالة، وارتفعت بينهم الكلفة كل الارتفاع فيما عدا المراسم التي تقضي بها المعاملات الدولية، وقد عبر الطريق مرات فعلمت منه كل ما احتجت إلى علمه
من معالمها وأحوالها، ووصلت إلى مكة بزاد غير قليل من المعرفة العملية بالحجاز.
هذه جبال مكة
وهذا جبل حراء
بلغناه بعد ساعة ونصف ساعة من السير المعتدل في السيارة، ومررنا إليه بمناظر كثيرة نرى أمثالها في بلادنا، ولاسيما بلدي الذي نشأت فيه، وأعني به أسوان: جبال وبطاح ومراع يتخللها العشب في الأودية والسفوح، وبعض الجبال يليح لنا بألوان المعادن التي يحتويها، وبعض البطاح ينم على مجاري الماء في باطنه القريب
كل ذلك مألوف نرى أمثاله حيث نشأنا على مقربة من صحراء أسوان، أما الجديد كل الجدة على النظر وعلى النفس فهو غار حراء
هو قمة مرتفعة في جبل، كأنما بنيت بناء على شكل القبة المستطيلة إلى الأعلى، ولكنها عسيرة المرتقى لا يبلغها المصعد فيها إلا من شعاب وراء شعاب
أخبرني من صعدوه أنهم كانوا يعانون شديد العناء من وعورة مرتقاه، وأن القليل من الناس يصمد في صعوده إلى نهايته العليا، حيث كان الرسول عليه السلام يتنسك ويبتهل إلى الله
والحق أن الرؤية غير السماع
والحق أن ما يلمحه الناظر في نظرة خاطفة قد يعي الكاتب بوصفه في الصحف والأسفار
والحق أننا قرأنا ما قرأنا عن الجبل وعن الغار، ثم نظرنا إليهما، فعلمنا أن القراءة قد تركت الكثير من فراغ النفس لتملأه هذه النظرة العابرة في الطريق
مررنا به عابرين كما كان سكان البلاد يمرون به غادين رائحين في غفلة عن ذلك الرجل المفرد الذي يأوي إليه ويسكن إلى غاره.
كانوا في غفلة عن ذلك الرجل المتوحد في سبيل التوحيد، كما كان العالم كله في مثل تلك الغفلة وفي مثل تلك الظلمات
ولكنها كانت ساعات يرتبط بها تاريخ أحقاب ودهور، فلما انقضت مدتها لم يبق في الأرض المعمورة غافل عن ضيف ذلك الغار، أو جاهل بآثار تلك الساعات التي كان يقضيها فيه بالليل والنهار
وحسبك نظرة واحدة إلى الجبل ومرتقاه لتحيط بعض الإحاطة بتلك النوازع المرهوبة التي
كانت تنهض بالرسول في صباه إلى ذروة تلك القمة مرات بعد مرات وأياماً بعد أيام
كل مرة من تلك المرات تترجم لنا عن قوة تلك البواعث المحتدمة في نفسه الشريفة، وترينا كيف بلغت هذه البواعث المحتدمة أن تدفع بالعالم كله في طريق غير طريقه، وإلى غاية لم تكن له من قبل في حساب، فلولا لاعج من الشوق الإلهي ينهض بالروح والجسد نهضة لا تصبر عليها طبيعة البشر لما توالت تلك المصاعد ولا تعاقب ذلك العكوف
إن اللواعج التي حملت الرسول إلى مرتقى الغار هي السر الروحاني الذي استجاش العالم كله بعد ذلك في حركة دافقة تقتحم السدود وتخترق الأسوار والحدود
وكل أولئك كان في نشأته الأولى خاطراً في قلب الرجل وحيد يتفرد في سبيل التوحيد
وكل ذلك السيل الجارف إنما تجمع قطرات قطرات عند هذه القمة العالية
كل ذلك كان في هذا المكان
وعبرنا خاشعين مطرقين، وسكتنا لأن مهبط الوحي هنالك قد ألهمنا السكوت
مكان آخر عند الكعبة كان له في قلوبنا مثل هذا الخشوع ومثل هذا الرجوع مع الزمن إلى أيام الرسالة وأيام الجهاد
ذلك هو موقف الدعاء الذي كان الرسول عليه السلام يختار الوقوف فيه كلما طاف بالكعبة ودعى إلى الله.
أنت هنا لا ريب في مقام قام فيه ذلك الرسول الكريم، ذلك السر السرمدي الذي تتعلق به مقادير التاريخ ومصائر الأمم وضمائر بني الإنسان، ذلك الإنسان الذي يقترن اسمه في صلوات الألوف بعد الألوف باسم خالق الكون العظيم
أنت هنا تقف حيث وقف وتدعو حيث دعا وتنظر حيث نظر وتحوم بنفسك حيث حام في اليقظة لا في المنام
قيل لنا: هنا يستجاب الدعاء
قلنا نعم: هنا أخلق مكان أن يستجاب فيه دعاء، وألهم الله كلا من الواقفين معنا أن يدعو دعاءه وأن يستجمع في الدنيا والآخرة رجاءه، وساق إلى لساني هذه الدعوة فدعوت: اللهم ناولني ما أريد لي وللناس، واجعل الخير كل الخير فيما أريد لي وللناس وما بي منحاجة في الحياة إذا استجيب هذا الدعاء
منظر ثالث أخذني بجماله في جوار البيت الحرام، وهو منظر الحمام الآمن الوادع في ذلك المقام
لا يخشى ولا يفزع، بل يظل طوال نهاره في طواف على الأرض وطواف على الهواء
وأعجب ما سمعت ورأيت أنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادي ولا جماعات
وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره، فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور
أدب الناس في هذا المقام المهيب نعرف سره ونعرف مصدر الوحي منه إلى القلوب الآدمية
أما أدب الطير في هذا المقام فسره عند الله
وأمن الحمام يذكرني بأمن السائلين في جوار الكعبة وجوار المسجد الحرام
إنهم ليتدفعون حول الزائرين ولا يتجملون كما يتجمل الطير فيقطع بعضهم رزق بعض، ولا يدعون لمن يريد أن يعطى سبيل العطاء
وهم في أمان لا يهانون ولا يصيبهم الأذى من الشرطة في جوار البيت الذي يأمن فيه الخائفون
وحسن هذا اليم الله
حسن أن يأمن المساكين كل سطوة في حرم الأمان، وأحسن منه أن يجيئهم الوازع من القلوب والعقول لا من العصي والسياط
فإن كان في تهافت السائلين على صغائر الدنيا غضاضة، فإن في هذا الأمان لقداسة البيت العتيق، وإنه لمن القداسة أن يتعلم الإنسان كيف يجيب من يسألونه، وهو يدعو الله ويرجو أن يستجاب.
عباس محمود العقاد
حق تقرير المصير للأهل ليبيا وبرقة
للأستاذ أحمد رمزي
في أحد شهور عام 1911، روع العالم الإسلامي والعربي، بخبر اعتداء صارخ، قامت به إيطاليا، على القطر الطرابلسي، بغير إعلان حرب وبدون مسوّغ، ولم يكن هناك نزاع أو ما يشبه النزاع، بل هناك أمن وسلام، ولم يعلم الناس بأمر مفاوضة انقطعت أو أمر اختلاف على مبدأ أو رأي أو قاعدة مما تختلف عليه الأمم والشعوب فيتخذ ذريعة للحرب، بل لم يسمعوا بشيء أو بعض الشيء مما يحضر الأذهان لمثل هذا العدوان، وينبه العقول لمقدمه.
وإنما سيرت إيطاليا بوارجها وجحافلها، واستيقظ أهل مدن طرابلس وبنغازي ودرنة الآمنة، على أصوات المدافع وجللها المتفجرة، تقذف عليهم الحمم والموت في عقر دارهم. فيا لله! عندئذ وجمت النفوس - كنا صغاراً لا نعقل من الأمر شيئا، ولكننا لمسنا الألم والأسى، مرتسمين على وجوه الآباء والأهل والعشيرة والجيران، فحزنت قلوبنا لحزنهم وتألمنا لألمهم.
كنا صغاراً نلعب ونلهو - فتركنا اللهو وقاطعنا اللعب، وشعر كل منا، بأن ساعة فاصلة في حياته قد دقت، نعم كان وقع الاعتداء شاملاً، وكان الجرح عميقاً ليس من الجراح التي تبرأ وتلتئم وتنسى مع الزمن.
وسرت بين الناس موجة دافعة، من تلك الموجات التي تملأ النفوس والمشاعر، وتخفق لها القلوب، لرد العدوان وارتجت مصر من أقصاها، فمن كتب عليهم القتال من المجاهدين قاتلوا وقتلوا، ومن لم يقدر على تحمله جاد بالمال عن نفسه وبنيه. وأتى المجاهد أنور ومعه حفنة ممن باعوا أنفسهم في سبيل الله، وصمدت عرب طرابلس وعرب برقة وعلى رأسهم السيد أحمد السنوسي، ليكتبوا بدمائهم ملحمة من ملاحم الملثمين والموحدين في دفاعهم وجهادهم واستماتتهم عن أرض أندلس، فواجهوا الموت وعاينوا الهزيمة، كما لاح لهم الظفر والمجد، وقاتلوا وانتصروا واستشهدوا، وامتلأت أيديهم بالعتاد والسلاح وأسرى العدو.
وانتهت الحرب بقيام حرب أشد هولاً، هي حرب البلقان، فخفتت أصوات المجاهدين،
واتجهت الأنظار لمعارك في جبهة مقدونيا، وتسأل الناس عن المصير.
أما مقدونيا فرثاها شوقي بقوله:
يا أخت أندلس عليك سلام
…
هوت الخلافة عنك والإسلام
وأما ليبيا وبرقة فقد استحوذ عليهما الطليان، ورتل قائل بشعر قديم فقال:
أحقاً خبا من جو رُندة نورها
…
وقد كسفت بعد الشموس بدورها
وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت
…
منزلها ذات العلا وقصورها
أحقا خليلي أن رندة أقفرت
…
وأزعج عنها أهلها وعشيرتها
وهدت مبانيها وثلت عروشها
…
ودارت على قطب التفرق دورها
ترى للأسى أعلامها وهي خشع
…
ومنبرها مستبعد وسريرها
ومأمومها ساهي الحجى وإمامها
…
وزائرها في مأتم ومزورها
كلا لم تدم تلك المحنة، ولم تصبر على الضيم نفوس أبت إلا أن تعيش في ظلال الكرامة والعزة، وقامت الحرب العظمى الأولى سنة 1914، ودخلت إيطاليا الحرب، فارتجت البلاد، وغمرتها تكبيرة المجاهدين، والدعوة إلى الخلاص، وبدأت ملحمة جديدة من تلك الملاحم الخالدة في تاريخ العروبة، التي تقاتل فيها فئة كبيرة - فيأتيها النصر من عند الله.
لقد فرحت مصر وفرحنا بمعارك درنة، وعين زاره وغيرها، من التي منّ الله بها على المجاهدين والمرابطين وذوي البأس في قتال الطليان، وكان ذلك إبان الحرب التركية عامي 1911 - 1912. أما أيام الحرب العظمى فقد سار المجاهدون فيها من نصر إلى نصر، بل كان كل يوم يمر يأتي إليهم بنصر جديد من عند الله، ولم تمض 1915 إلا وقد زحزحوا الطليان عن برقة، واستعادوا فزّان، واقتحموا حصونهم ومعاقلهم واحداً بعد الآخر، واستحوذوا على أسلحتهم وسياراتهم وأسروا كتائبهم المرتزقة، من سود وحبش وغيرهم، وساقوا بأسلحة الطليان لقتال الطليان، وتلك والله مقدرة لأهل برقة وليبيا.
وتتبعوا المنهزمين وسدوا عليهم المنافذ والطرق، وفي يوم أصبحت العاصمة تحت أزيز رصاصهم، وغدا الساحل تحت سيطرتهم، فأتتهم المؤن والذخائر من حيث شاءوا.
فهل رأيتم دفعة كهذه الدفعة، أو قوة من المستضعفين يملؤها الأيمان والثقة في النفس والدعوة إلى الحق والقتال في سبيل الله، عملت في القرن العشرين عملاً يشبه هذا؟ إنها
اليم الله وقفة رائعة. . .
وانتهت الحرب العظمى الأولى سنة 1918، وتدخل الإنجليز بين الطليان وأهالي البلاد فاعترفوا بنظام ليبيا ومسراطة وأقروا إمارة برقة، ووقعوا المعاهدتين وضمنوا استقلال الداخل، وخيل للناس أن عهداً من الطمأنينة والأمن قد أشرق، كان هذا وإيطاليا تلبس لباس الديمقراطية وقتئذ.
وفي يوم من أيام موسوليني، بعد أن اغتصب الحكم في بلاده، عبث الثعلب المستأسد بمواثيق بلاده وضماناتها وقيودها، وحنث بالأيمان المأخوذة، وأثار حرباً ضروساً مهلكة، يحاول بأساليبها إبادة شعب بأسره، كانت تعليماته وقراراته وأوامره واضحة لا شبهه فيها، فليراجعها من يشاء، يجدها في كتبهم وما نشره قوادهم.
أمامنا ما كتبه فولبي عن عهده، وما أذاعه جراتزياني، وما خطه بادوليو، فليقرأ كل من يشك فيما نكتب أو تحدثه نفسه أننا ننطق عن الهوى.
وكان أمامهم شعب أبي، يرغب أن يحيا حياته على النحو الذي يريده هو، لا كما يريد الغير أن يكون عليه، قد صمم أن يعيش بغير أن تفرض عليه سيادة روما وسياطها شعب يأنف أن تبسط عليه شخصية غريبة عنه، غير الشخصية المنبثقة من روحه وإيمانه وتاريخه وكتاب الله، أمة لا ترضى بلغتها وثقافتها بديلاً ولو أعطيت الكون بأكمله، وهي لا تتراجع أن تدفع العدوان لديها من شجاعة وصبر ومجالدة.
قابل هذا الشعب، صدمة الخيانة بشجاعة نادرة، رأى الحرب تفرض عليه في دياره، فواجهها كما يواجهها كل مقاتل كريم كتبت عليه التضحية فقدم بنيه وأحفاده، ضُيق عليه الخناق بحصار من البر والبحر، فتحمل وصبر، أوذي في نفسه ومعاشه وماله ودكت بيوته، ولكن لم ينزل على حكم ظالميه، ولا طوى مطلباً من مطالبه، ولا تراجع عن مبدأ من مبادئه.
واتبعت إيطاليا سياسة العنف والتشريد، فلم ترع شيخاً ولا مقعداً ولا طفلاً ولا رضيعاً، خربت المنازل وأفنت قبائل، وحولت بقاعاً عامرة فجعلتها صعيداً جرداً.
وفي تلك الحقبة المظلمة، والعالم لا يعرف شيئاً، عن مأساة أهل ليبيا وبرقة، ظهر عمر المختار، وكلنا قد سمع عنه، وعن عراكه وكفاحه وجهاده، فسألوا أنصاره ورجاله، ينبئوكم
عن حوادث عشرين عاماً متتالية، والحرب سجال، يوم لك، ويوم عليك.
هذا هو الشعب الأبي الكريم الذي حررته الديمقراطية في الحرب الأخيرة، واتخذت من أسمه عنواناً ومثلاً لتحرير الشعوب المظلومة المغلوبة على أمرها. والذي جمعت من أفراده ورجاله المتطوعة، وحاربت بهم، وقالت للعالم هاأنذا قد أرجعت الحق لأهله، وأنقذت أول شعب وقع العدوان عليه، وأزلت أثر الظلم والطغيان عن عاتقيه.
وترقب أهل البلاد نعمة الخلاص، وباتوا يعلقون الآمال، فماذا يراد بهم اليوم؟ إننا لنسمع الكثير من اللغط. فمن قائل بعودة هذه الأرض البائسة إلى سادتها الطليان، ومن القائل سلموها للروس، وآخر يقول بانتداب الغير عليهم كأن هذه البلاد خلو من السكان.
أنه ليهمنا نحن معاشر الأمم العربية، شأن برقة وليبيا، ويهمنا شعب هذه البلاد. لماذا؟ لأننا منه وهو منا، إنها لصلات الدم والقربى والثقافة والتاريخ الحي، لا المتحجر الجامد، ثم ما يوحيه هذا التاريخ المشترك من ذكريات الجهاد والنصر والهزيمة.
إننا نعبر عن رأيه ونقول: هذا الشعب لا يريد شيئاً مستغرباً أو فوق متناول يد الإنسان، أنه يريد أن ينعم بحدوده وبلاده وموقعه الجغرافي واستقلاله وحريته - أي بتقرير مصيره - فهو يطلب كياناً تحت الشمس، كغيره من عباد الله، شأنه شأن بقية الشعوب الصغيرة.
فهل تجاب دعوته، وهل يحسب لتضحياته حساب، وهل يعترف بجهوده؟
أم ستعرض بلاده للبتر والتقسيم، ويوضع مصيره وحريته ليضارب بها في سوق توزيع مناطق النفوذ.
الله يشهد أن هذه الأرض فقيرة، وأن تجربة إسكان الأوربيين التي قامت بها إيطاليا لم تنجح، فهل يقنع هذا الأقطاب الثلاثة بإعادة الحق لذويه أم ترد إلى سيطرة إيطاليا أو وصايتها نيابة عن الأمم المتحدة؟
أظن أن المنطق الأولى يقول: إن الأمم العربية ومعها شعوب الأرض الحرة بأكملها، لن تقبل ولن تسلم بعودة شعب شهيد، قد ذاق مرارة الاضطهاد إلى سيطرة جلاديه.
ونحن وإن كنا لا نصدق هذا، ونجده بعيداً عن المثل العليا، التي أعلنتها الدول المتحدة، لا نر غضاضة على أنفسنا، أن نصارح الأمم التي تسيطر على الأرض ببعض الحقائق فنقول:
إن حق أهالي هذه البلاد الشقيقة في تقرير مصيرهم لا ينازع وأن إقرار استقلال البلاد وإيجاد حكومة ديمقراطية، أمانة في يد الأمم المنتصرة، حسب وعودها المتكررة.
كان عدد سكان ليبيا وبرقة العرب في مستهل عام 1910 أكثر من مليون نسمة، وقد هبط هذا العدد إلى أقل من النصف، على أثر سياسة التشريد التي اتبعتها الحكومة الفاشستية فكان هذا الشعب قد بذل من الأنفس والأرواح دفاعاً عن كيانه واستقلاله ما لم يبذله الشعب الإيطالي طوال قرن من الزمن ثمناً لتحريره. فهل رأيتم شعباً يضحي بنصف عدده في سبيل مثله العليا؟
هذا هو الشعب العربي في ليبيا وبرقه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
ج7ص236: حدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلاً على باب همذان فرأيت الأديب الأبيوردي راجعاً من عندهم، فقلت له: من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالاً:
ركبت ِطرفي فأذرى دمعة أسفا
…
عند انصرافيَ منهم مضمر الياس
وقال: حتام تؤذيني فإن سنحت
…
جوانح لك فاركبني إلى الناس
وجاء في الشرح: سنحت جوانح: جرى فألك باليمن.
قلت: (سنحت سوانح لك) أي خطرت على بالك خواطر أو خطرات. في التاج: سنح الرأي والشعر لي: عرض لي أو تيسر. وفي الصحاح: سنح لي رأى في كذا أي عرض.
وقد يراد بالسوانح جمع السانح، وهو ما كانت العرب في القديم تتيمن به. ومن أمثالهم:(من لي بالسانح بعد البارح) والسانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح ما أتاك من ذلك عن يسارك، ومنهم من يتشاءم بالسانح ويتيمن بالبارح. . .
لم أجد هذين البيتين ومقاطيع كثيرة في (الإرشاد) وفي (الوفيات) في ديوان الأبيوردي المطبوع في بيروت سنة 1317. ولهذا الشاعر الأموي ميمية خالدة ألهمه الله إياها في (الحروب الصليبية) لم تسعد بها تلك الطبعة. ولم يذكر منها في (الإرشاد والوفيات) شيء. وقد ذكرها العلامة النويري في (نهاية الأرب) قال: (قال أبو المظفر الأبيوردي لما استولى الفرنج على البيت المقدس في سنة (492) قصيدة منها) وروى اثنين وعشرين بيتا. يقول الأموي في هذه الخالدة المخلدة:
فأيها بني الإسلام، إن وراءكم
…
وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة
…
وعيش كنوار الخميلة ناعم
وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم
…
ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
يسومهم الروم الهوان وأنتم
…
تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وتلك حروب من يغبْ عن غمارها
…
ليسلم يقرعْ بعدها سن نادم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى
…
رماحهم والدين واهي الدعائم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
…
وتغضي على ذل كماه الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
…
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبرى
…
فلا عطست إلا بأجدع راغم
دعوناكم والحروب ترنو ملحة
…
إلينا بألحاظ النسور القشاعم
نراقب فينا غارة عربية
…
تطيل عليها الروم عض الأباهم
ج5ص233: قال: (أسامة بن مرشد بن منقذ)، في أخيه يحيى:
بالشام لي حدث وجدت بفقده
…
وجدا يكاد القلب منه يذوب
فيه من البأس المهيب صواعق
…
تخشى ومن ماء السماء قليب
فارقت حتى حسن صبري بعده
…
وهجرت حتى النوم وهو حبيب
وجاء في الشرح: حدث أي رجل فتى.
قلت: جدت، وهم يعنون من فيه. قال الحماسي (متمم ابن نويرة):
فقال أتبكي كل قبر رأيته
…
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
وقال الحماسي (مسلم بن الوليد):
قبر بحلوان استسر ضريحه
…
خطرا تقاصر دونه الأخطار
في التاج: ابن برى: ثوى أقام في قبره.
ج6ص160: ومن شعره (الجوهري صاحب الصحاح):
يا صاحب الدعوة لا تجزعن
…
فكلنا أزهد من كرَّز
فالماء كالعنبر في قومس
…
من عزه يجعل في الحرز
فسقِّنا ماء بلا منة
…
وأنت في حل من الخبز
وجاء في الشرح: الكرَّز اللئيم الخبيث، وفي الأساس: لا أحوجك إلى كرز أي غني لئيم.
قلت: (فكلنا أزهد من كرْز) إن اللئيم لن يكون زاهدا دع عنك أمر القافية. وربما عنى الجوهري كرز بن جابر الفهري أو كرز بن أسامة العامري أو كرزا التميمي، وهم صحابيون (رضوان الله عليهم) أو كرز بن وبرة وهو تابعي (عليه رحمة الله) أو زاهدا من زهاد زمانه اسمه كرز. والكرز هو كما نقل في الشرح من الأساس، وعبارته هي (لا أحوجك الله إلى كرز) ومن معاني الكرز ما ذكر الإمام موهوب الجواليقي في كتابه (المعرب) ص280:
الكرز البازي، وهو الرجل الحاذق، وأصله بالفارسية (كرَّه) قال ابن دريد: الكرز الطائر يحول عليه الحول من طيور الجوارح، وأصله (كره) فعرب فقيل: كرز.
ج13ص194:. . . اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه ثم يخبرك لمن الفلح منهما.
وجاء في الشرح: الفلح الفوز، أقول: وربما كانت الفلج أي النصر.
قلت: هي الفلج. في الأساس: فلجت على خصمك، ولمن الفلج والفلج. وفي السادسة والعشرين الحريرية وتعرف بالرقطاء:(من لف لفه فلج وغلب). والفلح يحمل من المعاني أكثر من الفوز الذي فسر به. في التاج: الفلح والفلاح الفوز بما يغتبط به وفيه صلاح الحال والنجاة والبقاء في النعيم والخير. وفي النهاية: حيَّ على الفلاح: الفلاح البقاء والفوز والظفر أي هلموا إلى سبب البقاء في الجنة والفوز بها وهو الصلاة في الجماعة.
ج8 ص41: (أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك في الحسن أحمد العطار الهمذاني):
صبرا فأيام الهموم تزول
…
والدهر يعطيك المنى وينيل
لا تيئسن إذا ألم ملمة
…
إن الشدائد تعتري وتحول
لا تشتعل بالعسر واطو مشمرا
…
بسط الفيافي والشباب مقيل
والبس سواد الليل مرتديا به
…
إن التجلد للرجال جميل
حتى تنيخ العيس في كنف العلا
…
حيث التحرم بالنجي كفيل
وجاء في شرح البيت الثالث: ويريد بكون الشباب مقيلا أنه في حياة المرء كالقيلولة.
قلت: (لا تيئسن إذا تلم ملمة) في (المغنى): ويكون الفعل بعدها ماضياً كثيراً ومضارعاً دون ذلك، وقد اجتمعنا في قول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
(بسط الفيافي والشعاب مقيل) ومن طوى بسط الفيافي فالشعاب فنادقه لمنامه ومقيلة. . . والشعب بالكسر - كما في القاموس -: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن الأرض أو ما انفرج بين الجبلين.
(حيث التحرم، بالنجاح كفيل) في الأساس: وتحرم فلان بفلان إذا عاشره ومالحة، وتحرمت
بطعامك ومجالستك أي حرم عليك مني بسببهما ما كان لك أخذه.
ج9ص8: فكتب إليه المهلبي: وصل كتابك يا أخي. . . المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء. وفهمته، ووقع ما أهديته من نظم ونثر. . . موقع الري من ذي الغلة، والشفاء من ذي العلة، والفوز من ذي الخيبة، والأدب من ذي الغيبة.
وجاء في الشرح: الأدب التأديب. قلت: عندي أن المهلبي قال: (والغنم من ذي الغيبة) ويعزى إلى امرئ القيس:
لقد طوقت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
ج5ص13:
فإن يك حرب بين قومي وقومها
…
فإني لها في كل نائبة سلم
قلت: تمثل البديع الهمذاني بالبيت في إحدى رسائله وهو من قصيدة.
والرواية هي (وإن تك حرب) في اللسان: السيرافي:. الحرب أنثى، وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير، والأعراف تأنيثها، وإنما حكاية ابن الأعرابي نادرة، في التاج: ودار الحرب بلاد المشركين الذين لا صلح بيننا معشر المسلمين وبينهم، وهو تفسير إسلامي.
ج8ص231:.
القائل القول الرفيع الذي
…
يَمرع منه البلد الماحل
قلت: في القاموس: مرع الوادي مثلثة الراء مراعة ومرعا أكلأ كأمرع، وفي الصحاح: قد مرع الوادي بالضم وأمرع أي أكلأ فهو ممرع، وفي اللسان والتاج: وقيل: لم يأت مرع وقال ابن الأعرابي: أمرع المكان لا غير.
ج13ص206:
قد عزمنا على الصبوح فبادر
…
قبل أن تضحي السماء المخيلة
قلت: (قبل أن تضحي السماء مخيلة) وهي الخبر. في الأساس والسماء مخيلة للمطر: متهيئة له، وقد أخالت السماء، وخيلت، وتخيلت، وخايلت، وسحابة مخايلة إذا رأيتها خلتها ماطرة.
ج15ص215:
يصوب على العافين مزن بنانه
…
فيُكبت حسادا وينبت أنعما
قلت: (فيَكبت) هناك الكبت لا الإكبات.
في الأساس: كبت الله عدوك كبه وأهلكه، ومن المجاز: فلان يكبت غيظه في جوفه. في التاج: في التنزيل (كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) أصل الكبت الكبد فقلبت الدال تاء، أخذ من الكبد وهو معدن الغيظ والأحقاد فكأن الغيظ لما بلغ بهم مبلغه أصاب أكبادهم فأحرقها، ولهذا قيل للأعداء: هم سود الأكباد. وفي الكشاف في تفسير (ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين): أو يكبتهم أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة، ويقال: كبته بمعنى كبده بالغيظ والحرقة، وقيل في قول أبي الطيب (لأكبت حاسدا وأرِى عدوا) هو من الكبد والرئة.
قلت: يقال للأعداء: هم زرق العيون كما يقال لهم سود الأكباد. في الكشاف:
إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم، وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. . .
على هامش النقد:
شيلوك الجديد أو قضية فلسطين
مسرحية للأستاذ باكثير
للأستاذ سيد قطب
هذه المسرحية من عمل الأستاذ (علي أحمد باكثير) صاحب مسرحيات: (مملكة السماء، والفرعون الموعود، وقصر الهودج)؛ وقصص: (سلامة القس، وا إسلاماه). . . أصدرتها (لجنة النشر للجامعيين) في سلسلتها التي بلغت إلى اليوم أربعاً وثلاثين حلقة، معظمها لأسماء شابة أبرزتها اللجنة، وكشفت عن مواهبها، وهيأت لها فرصتها للظهور، والإنتاج المفيد؛ ولعلها كانت وشيكة أن تطمر، أو أن تنتظر طويلاً حتى تنال حقها الطبيعي في الميدان الأدبي. وذلك فضل للجنة ليس باليسير.
ومسرحية (شيلوك الجديد) عمل أدبي يجيء في إبانه، ليلقي على (قضية فلسطين) في هذه الأيام ضوءاً منيراً كشافاً، وليصورها على حقيقتها التاريخية والواقعية، وليرسم الحل الناجع لها، وهو الحل الذي اهتدت إليه جامعة الدول العربية بعد شهر من ظهور المسرحية. وحسب المؤلف - وهو فرد - أن يلتقي في تفكيره مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين!
وهذه المسرحية - من الوجهة الفنية البحتة - ليست أحسن أعمال الأستاذ باكثير؛ ولكنها من الجهة الأخرى تعد أكبر عمل أدبي تصدى لقضية فلسطين منذ نشأتها إلى اليوم. . .
أنها تقرير حي عن هذه المأساة، لا يسرد القضية سرد التقريرات، بل يعرضها عرضاً حياً على المسرح، فيكشف عن حقيقة مطامع الصهيونيين في هذه البلاد المقدسة، وعن وسائلهم الخسيسة والجهنمية في تحقيق هذه المطامع، وعن نواحي الضعف التي يستغلونها في جسم الأمة العربية أفراداً وشعباً، وعن مدى مشاركة السياسة البريطانية في هذه الوسائل، وهي مشاركة كانت كلية سافرة في وقت من الأوقات، وما تزال إلى اليوم تعمل، ولكن في حذر ومن وراء ستار؛ لأن القوانين والإجراءات المالية والنظامية التي سنتها لا تزال باقية تخدم القضية الصهيونية أجل الخدمات، وتهيئ لها امتلاك الأراضي، بعد أن تضيق الخناق على
الاقتصاد العربي، وتجعله مضطراً لأن يمد يده إلى الاقتصاد الصهيوني، أو إلى الشرك الصهيوني بتعبير أدق!
ولا تخلو المسرحية - بعد هذا - من عرض لوحات حية من المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية، والغرائز البشرية تتصارع وتتزاحم، وإن كان المؤلف - على عادته دائماً - يغلب عواطف الخير والطهر، ويمكن للأريحية والنبالة. . . وذلك نضح نفسه الطيبة على أبطاله وقصصه
وهو إذ يصور الوسائل الخسيسة العجيبة التي تلجأ إليها الصهيونية لسلب أموال العرب وشبابهم!!! ويستعرض المكايد والدسائس المحبوكة التي تستخدمها، لا يكون الأمر مجرد حوادث ودسائس تستعرض؛ ولكنه يتعمق صميم النفس اليهودية، فيبرزها (نموذجاً بشرياً) واضح السمات متميز الملامح. وهذه المواضع في المسرحية هي أجودها من الناحية الفنية. ولو أن المسرحية كلها في مستوى هذه المواضع لارتفعت إلى مستوى شكسبير، في رواية (تاجر البندقية). فطبيعة النفاذ إلى صميم الشخصية الإنسانية تكاد تتساوى في هذه المواضع المعدودة!
وأخيراً يهتدي المؤلف إلى الحل الحاسم الذي اهتدت إليه الجامعة العربية أخيراً. . . يهتدي إلى سلاح المقاطعة الحاسمة الباتة؛ التي تخنق الصهيونية في فلسطين خنقاً. وقد ذهب المؤلف إلى أبعد الحدود، ففرض تخلي العرب عن فلسطين كلها، وضرب نطاق من الحصر الاقتصادي عليها. فما لبثت الصهيونية أن اختنقت فجاءت تطلب الصفح والمغفرة، وتتخلى عن مطامعها في الوطن القومي ليرفع العرب عنها هذا الخنَّاق المميت.
ولست أشك لحظة في أن هذه المسرحية تقدم لقضية فلسطين أعظم خدمة في طوق عمل أدبي واحد أن يقدمها، بل في طوق عمل سياسي ضخم أن ينهض بها؛ ذلك أنها لا تدع (قضية فلسطين) جملة رنانة ترد في الخطب الحماسية، ثم تنقضي مناسبتها فتبرد وتتلاشى. . . إنما تحيلها حقائق ووقائع حية، وتردها أموراً عملية محسوسة، في الوقت الذي تثير الأريحية الإنسانية، وتوقظ فيه النخوة العربية، وتكشف عن الوسائل والدخائل في الصراع بين العرب والصهيونية، وتوازن بين القوى الحقيقية التي يملكها الفريقان في الميدان. . . تكشف ذلك كله كما لم يكشف من قبل أبداً.
وأنا أحد الذين كانوا يزعمون لأنفسهم أنهم ممن يهتمون بقضية فلسطين ويتتبعون خطواتها، ويهتفون بها هتاف المتحمسين لها. . . وقد تضمن ديواني الأول منذ أكثر من عشر سنوات تحية لأبطال فلسطين جاء فيها:
عهد على الأيام ألا تهزموا
…
فالنصر ينبت حيث يهراق الدم
في حيث تعتبط الدماء فأيقنوا
…
أن سوف تحيوا بالدماء وتعظموا
تبغون الاستقلال؟ تلك طريقه
…
ولقد أخذتم بالطريق، فيمموا
وهو الجهاد حمّيةٌ جشَّامة
…
ما إن تخاف من الردى أو تحجم
إن الخلود - لمن يطيق ميسّرٌ
…
فليمض طلاب الخلود ويقدموا
وطن يقسّم للدخيل هديةً
…
فعلام يحجم بعد هذا محجم؟
الشرق. يا للشرق! تلك دماؤه
…
والغرب. يا للغرب! يغريه الدم
الشرق. ويح الشرق! كيف تقحموا
…
حرماتِه الكبرى وكيف تهجموا
غرتهمو سِنة الكرى فتوهموا
…
يا للذكاء! فكيف قد غرتهمو!
سِنة ومْرت والنيام تيقضوا
…
فليعلموا من نحنُ أو لا يعملوا!
أبطالَ الاستقلال. تلك تحية
…
من مصر يبعثها فؤاد مفعم
إخواننا في الحال والعقبى معاً
…
إخواننا فيما يلذ ويؤلم
مصر الفتاة ولن تزال فتية
…
تهفو إليكم بالقلوب وتعظم
في كل مطلع وكل ثنية
…
نار من الشرق الفتي ستضرم
أنا الذي زعمت لنفسي يوم نظمت هذه القصيدة، وأيام تتبعت قضية فلسطين في مراحلها المختلفة أنني ممن يعرفون هذه القضية. أشهد أن رواية (شيلوك الجديد) قد أطلعتني على أنني كنت واهماً فيما زعمت، مغالياً في حقيقة اهتمامي بهذه القضية المقدسة، فلقد كشف لي الأستاذ (باكثير) عن حقيقة وضع القضية، وحقيقة العوامل التي تتصارع فيها، بما لم يكشفه لي كل ما وصل إلى يدي عنها في خلال خمسة عشر عاماً أو تزيد.
ولكنني أختلف مع الأستاذ (باكثير) في أمر واحد. ذلك أنه يبدو في سياق الرواية وفي ختامها أنه واثق بأن هناك شيئاً اسمه (الضمير البريطاني) أو (الضمير الغربي) على وجه العموم. يبدو ذلك في فصل (المحاكمة) الذي عقده في نهاية المسرحية!
وأنا أخشى هذه الثقة على قضية فلسطين، كما أخشاها على جميع قضايا البلاد العربية.
ليس للسياسة البريطانية ضمير. وليس للعالم الغربي شرف.
هذه هي العقيدة التي أعتقد أن من واجب كل كاتب وكل سياسي في هذه الشرق العربي أن يمكن لها في ضمير الأمة العربية بل في ضمير الشرق الذي ما نكب في تاريخه كله بمثل ما نكبته الثقة في الضمير البريطاني، وفي الشرف الغربي!
ولن ينال الشرق العربي - أو الشرق عامة - شيئاً من حقه، ولن يعرف الطريق الصحيح والوسائل المجدية لنيل هذا الحق، قبل أن ييئس اليأس الكامل من هذا الضمير البريطاني، ومن هذا الشرف الغربي. وقبل أن يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً في الصراع مع ذلك الوحش الأوربي - والأمريكي أيضاً - ذلك الوحش الناعم الملمس، واللبد على بعد ملليمتر من هذا الأديم الرقيق!
وإذا كان الشرق العربي لا يزال مبتلي إلى اليوم بجماعة من الساسة المخدوعين في حقيقة هذا الضمير الغربي عامة، فإن من واجب حملة القلم أن يكون لهم شأن غير شأن الساسة، وإلا كانوا غير جديرين بالهبة الإلهية اللدنية التي منحتها إياهم السماء.
سيد قطب
في جذور الشجرة العربية
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يعمل ساسة العرب على طريقتهم في توطيد أسس الجامعة العربية. والسياسة ليست دائماً إيمان. . . ونحن أفراد الشعوب العربية ينبغي أن يكون اندفاعنا إلى هذه الجامعة حركة ذاتية فردية مؤمنة تعمل دائبة سواء أكانت السياسة تريد ذلك أم لا تريده، وسواء أكان السياسيون متحمسين أم فاترين. فالسياسيون كثيراً ما ينقلبون ويغشون ويدمرون ما اشتركوا في بنائه حينما يهزمون في المجال الشخصي الضيق، وتتصادم المصالح الصغيرة ويزول العمل للمصلحة الكبيرة. فيجب دفعهم بأيدي الجماهير المستنيرة حتى يكونوا دائماً شاعرين بحرارة إيمانها وقوة دفعها لهم.
وفي بعض الأحيان يجتمع السياسي ورجل الدعوة والإيمان في شخصية فتسير الأمور عندئذ في أمان وتقدم، ولا يخشى عليها من النكوص والتقلب والضعف؛ لأن عناصر الإيمان والإلهام المتجدد وشبح النجاح المأمول في تلك الشخصية من شأنها أن تحول بين الحركة وبين الارتداد والضعف مهما كان من عقبات ومغريات وعوامل تثبيط.
غير أن هذا النوع القيم من السياسيين لا يوجد كل حين. فيجب العناية والاهتمام والاحتراس من العناصر السياسية المحترفة التي تصطنع السياسة للحكم وشهوة الغلبة أو السيطرة أو الخيلاء ولا تعلم من أهداف السياسة إلا ما يحقق لها ذلك. ولا يكون ذلك الاحتراس إلا في إعلان إرادة الرأي العام وإظهار أعماق شعوره وجلو أهداف إيمانه وتجديدها دائماً أمام عيونه، ولا يكون ذلك إلا عن طريق الوسائل الثقافية والوجدانية التي في أيدي الكتاب والأدباء المفكرين الذين يتعمقون الأشياء ويجلون دفائنها على أعين الجماهير جلواً يستهوي ويثير.
ومن الفطنة أن نعلم أن قيام الجامعة العربية على أسس فكرية ووجدانية يجب يسبق أن قيامها على الأسس السياسية، لأن قيامها على الأسس الأولى هو من طبيعة الأشياء إذا أردنا أن نسير على قوانين النمو والتقدم والارتقاء مسترشدين الله في إنضاج الثمار.
فالقلب هو أول ما يتكون في الجنين ومنه تمتد الشرايين لتغذية الجسم الصغير الذي يتخلق منه الكائن الإنساني أو الحيواني. وكذلك عقدة البرعم التي فيها سر الشجرة ونوعها هي
منطقة النمو في النبات.
ذلك في عالم الأحياء والمحسوسات وهو بذاته في عالم الأمر والمعاني. فيجب أن نرعاه ونعرف له حقه ونؤدي له واجبه حتى لا نضل أو تلتوي بنا السبل أو يبطئ علينا نضج الثمرات المرجوة.
ومن الملحوظ في الحركات السياسية الكبيرة التي تمت في مراحل التاريخ، أن كل حركة عظيمة كان بجوارها مفكرون يفلسفونها ويضعون لها أسساً تنهض في أعماق الضمائر والعقول فتكون الحركة مدعمة بالإيمان والاستنارة.
فالبلشفية تقوم على فكرة وفلسفة وطدها كارل ماركس ولينين، والنازية كذلك استمدت من فلسفة (نيتشه) وكان بجوارها (روزنبرج)، والحركة الاشتراكية في إنجلترا يفلسفها الأستاذ (لاسكي).
وهكذا تقوم الحركات السياسية الكبيرة دائماً على واضعي الأسس الاجتماعية في أعماق الوجدان والفكر.
والجامعة العربية لها فلسفة أو يجب أن يكون لها فلسفة ملخصة تنير طريق العربي إلى غايته وتجعل إيمانه بقوميته وحركتها السياسية إيماناً بصيراً مستنيراً. حتى إذا خاب جيل في تحقيق الأهداف أتى الجيل الذي يليه فوجد الغاية صحيحة صالحة مركزة في قضايا واضحة تستحق العمل لها فيعمل لها بحرارة واندفاع ذاتي غير ملق بالا إلى الخيبة السابقة إلا بمقدار أخذ العظة منها.
والأسس الفكرية للعربية الحديثة تلخص في أننا (الأمة الوسط) بين أمم العالم جميعه من حيث المكان واللون والفكر.
فنحن في المكان الوسط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب غير منازع ولوننا وسط بين الجميع. وقد أخذنا من بيض الشمال وصفر الشرق وسود الجنوب وحمر الغرب بحيث يأنس بنا الجميع ولا يجدون بيننا وبينهم ما يجدونه حينما يتلاقى الأبيض بالزنجي أو بالأصفر أو يتلاقى الأصفر بالزنجي أو بالأبيض وهكذا. ومادام في الأرض فلسفة سياسة ظالمة تقوم على الفروق اللونية والجنسية، فموضعنا يرشحنا أن نكون الحكم بين الجميع، لأننا نرضي الجميع إذ أننا خليط من الجميع.
ونحن أمة الوسط في الفكر. وهذا يستلزم بسطاً في الحديث لا تفي به هذه العجالة. ولكننا نجتزئ بطرف منه: وأعني بالفكر جميع القوى العليا في العقل والروح. وقد ورثنا ذلك من كثرة التجارب والأحداث والحضارات الروحية والمادية التي مرت بنا، ففي مهود بلادنا وعلى ضفاف أنهارنا قامت أول المادية وما زالت تقوم وتدول وتنتقل على هذه الرقعة التي تسمى اليوم الشرق الأوسط. حتى انتقلت إلى الغرب على يد اليونان والرومان في حضارتهم الأولى، ثم جاء عهد النهضة الأوربية الحضارة الحالية وهي الحضارة الثانية فقط لهذه البقاع. والأولى هي حضارة الدولة الرومانية التي قامت على أسس عسكرية عنيفة ولم تتصل بالروح إلا بعد أن أخذت بـ (المسيحية) وهي وليدة الشرق أيضاً.
وعلى قمم جبالنا تعلقت قلوب أجدادنا بالسماء وبكت لله وأدركت وحدته واتصلت بها رسالات وحيه فأتت بالخير والبر والتفاؤل والاطمئنان والسمو بالإنسان وكانت للإنسانية بمثابة الأمومة المربية المسددة المرشدة.
وفي صحفنا كتب أول السطور بالقلم الهيروغليفي ثم الفينيقي الذي ابتدأ به التاريخ البشري والفكر العظيم والجهد العنيف يدون ويسجل ويختزل في تلك (القماقم) السحرية الصغيرة: الحروف والكلمات، فينتقل بذلك الفكر الإنساني إلى المرحلة الكبرى التي ترجم بها كلمات الله في الطبيعة، وبنى على أسسها علومه وآدابه إلى ما شاء الله أن يبني.
فإذا كان حاضرنا سيئاً بفعل الجهالة والجمود وعدم إدراك رسالتنا بعد أن تقسمت العرب دول غريبة عن العربية، فإن ماضينا يبعث فينا الثقة بأنفسنا وبما فيها من استعدادات كامنة.
وإن مستقبلنا ينادينا أن ننهض لوصل الماضي بالحاضر بالمستقبل حتى نؤدي دورنا المنتظر من الأمة الوسط التي ترضي حكمها أمم الأطراف التي فيها دائماً الغلو والإسراف.
عبد المنعم خلاف
بمناسبة تعديل المناهج في سورية
أسلوب جديد في التعليم
(مهداة إلى إمام المربين ساطع بك الحصري)
للأستاذ علي الطنطاوي
لي أخ كان كلما غشى المدرسة الثانوية رق جسمه ونحل وعراه ذبول، فأعفيته منها وأبقيته في الدار سنوات ثلاثاً لم ألزمه فيها مطالعة شيء من دروس المدرسة، وإنما كنت أدله على بعض كتب الأدب والتاريخ مما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، وما تجزل فائدته وتعظم المنفعة به، فقرأ فيما قرأ تاريخ الطبري كله والأغاني. . . فلما أزف موعد امتحان الكفاءة منذ سنتين قلت له: لو دخلت هذا الامتحان مع رفاقك فلعل الله يكتب لك النجاح. فأعطاني وأستعد للامتحان شهرا واحدا ثم دخله فكان من الناجحين، على رغم أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث، وعاد إلى مثل ما كان عليه، حتى كان امتحان الشهادة الثانوية (البكالوريا) هذه السنة، فدخله كما دخل الأول ونجح فيه أيضاً. . .
هذا النجاح الغريب دفعني إلى التفكير في الموضوع الذي أكتبه اليوم، وجعلني أسائل نفسي فأطيل سؤالها: ألا يمكن أن نسهل للطلاب هذه الدراسة؟ وإذا كانت هذه الغاية وهي شهادة الكفاءة (والصحيح أن تسمى شهادة الكفاية) تدرك بمسيرة شهر واحد في طريق سهل لاحب، فعلام نمشي إليها ثلاث سنين في طرق صعبة معوجة من ينقطع فيها أكثر ممن يبلغ أخرها؟ أليس لنا بد من أن نضيعزهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم مالا يكاد ينفعهم في حيواتهم، إذا هم خرجوا منها، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعده بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد، وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه ونعفيه من علوم يكرهها ولا يعتقد فائدتها له في حياته؟
فقالت النفس: لقد أقمت بناءك على غير أساس، وجعلت من هذه الشاذة قاعدة، وأصّلت عليها أصلا. إن أخاك هذا وإن أخذ الشهادة فليس له علم من درس يوماً بيوم، وسار على الجادة خطوة فخطوة، ولم يقفز من فوق الأسطحة ولم يتسور الجدران، وهذه العلوم كلها لازمة لا استغناء عنها، وأسلوب التعليم صالح لا داعي لتبديله.
فرجعتني والله إلى الشك وكدت أدع الموضوع. ثم فكرت فرأيت أن لكل عمل نتيجة، ولكل مسير غاية، والغاية من المدرسة إما أن تكون الشهادة أو العلم أو الإعداد لخوض لجة الحياة والنضال عليها. أما الشهادة فلا بحث فيها لأنها عرض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها لا يصح الوقوف عليها، ولا القناعة بها؛ وهي بعد كاسمها (شهادة) قد تكون مزكاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها، وتمنح من ليس من مستحقيها. وما ينفع الفقير المفلس أن يشهد له الناس جميعاً بأنه الغنى ذو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟ أما العلم فاسألوا المتعلمين ماذا بقى لهم من دروس الثانوية، بل تعالوا أحدثكم ما جربته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي، ولقد كنت في دراستي الثانوية مجلياً دائماً أو مصلياً، ولم أكن فسكلا، ولقد اشتغلت بالتعليم الأولى والابتدائي والثانوي، الأهلي والرسمي والديني، أربع عشرة سنة، قبل أن أَلي القضاء، في مدارس الشام والعراق ولبنان، وعرفت الآلاف من الطلاب. وأقل ما أستفيده من هذا أني إذا تكلمت أتكلم عن خبرة واطلاع. أقول: إني وجدت بالتجربة أنه لم يبق عندي الآن مما أمضيت في تعلمه السنين الطوال، إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (لا الطبيعية كما يقول بعضهم. . .) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً. أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها. ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات (مثلا) لأجبت صادقاً أني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتجيب (ثمام الجيب) والمماس. لا أعرف ما هو على التحقيق، حتى موضوع العلم على وجه التحديد فقد نسيته، مع أن علامتي في السنة لتي قرأنا فيها المثلثات كانت تسعاً من عشر وكنت المجلي (الأول) في صفي (أي فصلي) أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها إلى أن فيها شيئاً اسمه (الميتان) وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولد الماء أي الهيدروجين - وقد درست جغرافية بلاد الدنيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، وكنت مع ذلك كلما سمعت باسم مدينة جديدة يأتي في أخبار الحرب أجدني أجهل مكانها، وأذهب فأسأل عنها الكتب والمصورات، أستوي في ذلك أنا ومن لم يقرأ الجغرافية قط. وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم لا يستقر في رؤوسهم إلا ما يختصون به أنفسهم، وإخلاصات موجزة، أفما كان خيرا لهم لو أقرأناهم هذه الخلاصات من الأصل؟
ولست أقول، دعوا هذه العلوم لا تقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سر ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح، وفقد المخترع والباحث. ولو أنا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين أو ثلاثة فإذا أحسنوها شرعوا بغيرها لكان أجدى علينا. فمدارسنا إذا لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العملية هل تبلغنا إياها؟ هل تعد مدارسنا التلاميذ إعدادا جيدا للنجاح في الحياة، وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان الديني والقومي؟ الجواب مشاهد ملموس هو أن مدارسنا لا (تكاد) تخرج اليوم إلا أطباء أو محامين أو موظفين. أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين ولا ينبغي أن يتسع لهم. أما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلهم يقتنع بالكسب القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم. . . ممن لم تخرجهم المدارس بل خرجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى، ولا نستطيع أن نغلو فنقول بأن خريجي المدارس يمتازون من الناس بأخلاقهم الشخصية والاجتماعية، أو أن المدارس جعلتهم طبقة مختارة ممتازة من طبقات الشعب بل إنهم كغيرهم من الناس، منهم الصالح ومنهم الفاسد ومنهم من هو بين ذلك!
والسبب في هذا كله أن نظام التعليم في بلادنا كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح ولكنهم لا يجرءون على هدمه من أساسه وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحي نافع. إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا من دراسة المثلثات والهندسة النظرية و (حفظ) معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء أو في تدريس الأدب أو في فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟ سيقول قائل، ومن كان يدري أنك ستكون أدبياً أو قاضياً، أفما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً؟ بلى، ولكن الدراسة العالية حددت طريقي في الحياة، فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟
هذه هي المسألة، كما يقول شكسبير. إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها
ثقافة عامة هي بمكان المقدمة إليها والتمهيد لها، أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق مثلا، من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والرياضيات؟ أو لا يجزئه ويكيفه أن يعرف عنها الشيء المجمل المختصر؟ وطالب الطب هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفته بعلل الشعر واختلافات الكوفيين والبصريين؟. لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً من المشتقات ولا تحول التابع ولا صفات البروم، وشاهدنا أطباء كباراً استطاعوا أن يعملوا عمليات في شق البطن وفتح الجمجمة، على جهلهم الموازنة بين أبي تمام والبحتري، وشروط عمل اسم الفاعل.
فما العمل؟ أنا أرى، إذا كان في الدنيا من يسمع رأيي، أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه الحرام؛ ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة، وما لابد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل.
فإذا تخرج الطالب منها عرضنا عليه فروع الجامعة، فإذا اختار فرعاً منها حضرناه له في سنتين أو ثلاث، علمناه فيها ما يتصل به، فيكون في كل كلية قسم تحضيري فيه من العلوم ما يحتاجه طالبها، فيتلقاها الطالب برغبة فيها وحب لها لأنه هو الذي اختارها، ووافقت هواه، وظهر له النفع منها، وينجو بذلك من خلق شاعراً من حفظ طلاسم الرياضيات، أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو من بعد لا يحتاج إليها أبداً، ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه مع اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطاع الاستفادة منه في تقوية الأجسام بالرياضة، ومعرفة الوطن بالسياحات، والعناية بالتربية الخلقية والوطنية. . . ومن شاء بعد الاكتفاء بالدراسة الثانوية ودخول معركة الحياة لم نسلبه وقته وسلحناه بثقافة عامة يعلو بها مستوى
السوقة وأصحاب المهن، ومن أراد التخصص فتحنا له بابه، وعجلنا له دخوله وقويناه فيه. وهذا إيجاز للاقتراح والشرح حاضر إن احتاج إليه القراء.
أما التعليم الديني فلنعد فيه إلى مثل الطريقة الأزهرية الأولى مع إصلاح يسير فيها، فقد ثبت أنها أنفع وأجدى، دنيا وأخرى، وأن تلك الثورة عليها حتى تم العدول عنها، والقضاء على الجامعة الأزهرية، كان فيها إغراق أدركناه الآن. وأنا أعرف الأزهر الجديد وأعرف كليات ثلاثاً أنشيءت على غراره في دمشق وبغداد وبيروت علمت فيها كلها، وأشهد لله شهادة حق أن الأزهر القديم كان في الجملة خيراً منها، إذ كان أهله يطلبون العلم لله وللعلم فصار أهلها يطلبون للشهادات والوظائف، وكانوا يصبرون على تلك الحواشي المطولات وإن تكن عقيمات، فصار هؤلاء لا يقرءون إلا خلاصات يجوزون بها الامتحانات. وكانوا علماء عاملين لدينهم أهل تقي وورع في سمتهم وسلوكهم، وسرهم وعلنهم، فصار بعض المدرسين واكثر التلاميذ. . . صاروا على حال من عرفها فقد عرفها ومن جهلها فلا يسأل عن الخبر.
وأنا لا أعمم ولا أطلق القول، وإنما أعني الكثرة ممن أعرف، ولعل فيمن لم أتشرف بمعرفته خيراً لم يصل إليَّ علمه ولا بلغني خبره - هذا على أن تكون المدارس الدينية بمثابة مدارس الاختصاص لا يدخلها الطالب إلا بعد أن يدرس هذه الدراسة الثانوية ويفهم علومها ويأخذ شهادتها، لأنها ثقافة عامة يحتاج إليها عالم الدين وعالم الدنيا والموظف وصاحب العمل الحرّ.
ولا بأس بعد بارتياد مناهل العلم في غير بلادنا، على أن يطلب فيها العلم المبني على المشاهدة. أما علوم الرواية وما أصوله عندنا، كعلوم العربية فلا، وهذه الحماقة التي كان أتاها الفرنسيون إذ أرسلوا شبابنا يتعلمون العربية في باريس لا يجوز أن تعاد، وحسبنا أن صلينا نحن نارها، وتجرعنا صابها، (ولا نزال نتجرعه. . .) وأن أضحكنا الناس علينا، وزدنا طلابنا على ضعفهم في لغتنا ضعفاً.
هذه كلمة صغيرة في موضوع كبير، أعرف أنها تثير مناقشات وتحتمل جدالاً، وأنها لم تلم بأطراف الموضوع ولم تستوف البحث فيه وإنما هي تنبيه إلى الفساد، ودعوة إلى إصلاح، أهديتها إلى إمام المربين ساطع بك الحصري، لأنه مرجع هذا الفن أولا، ومرجع كل أمر
في وزارة معارف الشام ثانياً.
دمشق (المحكمة الشرعية)
علي الطنطاوي
-
فرنسيس بيكن لألفرد فيبر
للأستاذ عبد الكريم الناصري
في إنجلترا يتلقى الإصلاح الفلسفي طابع الخلق الأنجلوسكسوني، ويتخذ وجهة تختلف كل الاختلاف عن وجهة الحركة الإيطالية. فالعقل الإنجليزي الوضعي الرصين عديم الثقة بتقاليد الفلسفة المدرسية، وبما تصل إليه الميتافيزيقا المستقلة من نتائج متسرعة. وهو يؤثر التصعيد المتدرج البطيء في طريق التجربة على النظر الإيطالي الذي يبلغ القمة بسرعة، ثم لا يلبث حتى يهن عزمه، ويفقد توازنه، فيهوى في حضيض الشك. ثم إن هذا العقل متوقف عند حقيقة واقعة، وهي أن المدرسيين لم يساهموا قط في تقدم العلوم، وأن هذه الفتوحات الفكرية إنما تحققت خارج المدرسة، بل على الرغم منها.
أجل، فإن العلوم مدينة بنجاحها لا إلى أرسطو ولا إلى أي مرجع تقليدي سواه، بل إلى التأمل المباشر في الطبيعة، والتأثير المباشر للواقع، والفهم الواقعي المشترك. صحيح أن بحاث العلم الجريئين لم يكونوا أقل مهارة في القياس والاستدلال من مناطقه المدرسة، بيد أن استدلالهم يقوم على ملاحظة الواقع.
وكانوا - من جهة أخرى - إذا بدءوا من فرض أو تصور قَبْلي، تحققوا منه بالتجربة، كما فعل كولومبس، ولم يعترفوا بصدقه حتى يظفر بهذا (التصديق) الذي لا مفر منه.
وهكذا نجدنا، من جهة، حيال فلسفة رسمية عاجزة عقيمة، ومن جهة أخرى حيال تقدم مدهش في العلوم. وكان الاستنتاج الذي فرض نفسه على العقلية الإنجليزية العملية، هو وجوب ترك التأمل القبلي والقياس المساء استعماله، والأخذ بالملاحظة والاستقراء.
وهذا الموقف الذي أعرب عنه روجر بيكن في القرن الثالث عشر هو الذي أعلنه من جديد وبشر به ودعا إليه سُّميه فرنسيس بيكن بارون فيرولام (1561 - 1626) في مؤلفاته المختلفة (شرف العلم وتقدمه) و (آلة العلوم الجديدة) وسواهما.
والمشكلة هنا هي أن نبدأ مسعى العقل كله من جديد - أن نبني العلم على أساس جديد كل الجد فإننا إذا رمنا التيقن من طبيعة الأشياء الخفية، فيجب ألا ننشدها في الصحائف والكتب، ولا في ثقات المدرسة، ولا في التصورات السابقة والأنظار القبلية. ويجب قبل كل شيء أن نقلع عن تقليد الأقدمين الذين عاق نفوذهم تقدم المعرفة. فقد كان فلاسفة
اليونان - باستثناء ديمقريطس وبضعة وضعيين - قلما يلاحظون، وإذا لاحظوا لم يبعدوا عن السطح. وقد حذا المدرسيون حذو الأوائل فضربوا بالواقع عرض الحائط، حتى ليخيل إليك أنهم فقدوا الشعور به.
هذا، إلى أن معارفنا مليئة بسوابق الأحكام فإن لنا أوهامنا وأهواءنا و (أصنامنا) - أصنام الجنس، والكهف، والسوق، والمسرح - التي نفرضها على الطبيعة، والطبيعة منها براء. فبما أن الدائرة خط منتظم يعجبنا انتظامه، ترانا نستنتج أن أفلاك الكواكب دوائر كاملة. إنا لا نلاحظ أبداً، أو لا نلاحظ إلا أسوأ الملاحظة، فإذا نجا قوم من كارثة خمس مرات، استدللنا من ذلك على أن قوى غيبية قد تدخلت في الأمر، ولم نحسب حسابا لخمس حالات أخرى لم ينج فيها قوم آخرون، لخليق بنا أن نقول كما قال ذلك الحكيم الذي أروه في بعض المعابد ألواح نذور علقها ناس نجوا من الغرق:(ولكن أين صور الذين هلكوا من بعدما نذروا؟). إنا نفترض عللا غائية، ونفرضها على العلم، ونحمل بذلك إلى الطبيعة ما ليس يوجد إلا في الخيال.
إنا بدلا من أن نتفهم (الأشياء) نتنازع على (الألفاظ)، التي يفسرها كل امرئ كما يهوى. إنا على الدوام نخلط بين موضوعات العلم وموضوعات الدين، فلا نظفر إلا بفلسفة مشوبة بالخرافة، ولاهوت مشوب بالهرطقة:(إن الفلسفة الطبيعية لم تلف بعد خالصة غير مغشوشة؛ وإنما هي فاسدة مشوبة بالمنطق في مدرسة أرسطو، وباللاهوت الطبيعي في مدرسة أفلاطون، وبالرياضيات في مدرسة أفلاطون الثانية - مدرسة أبرقلس وأصحابه - مع أن شأن الرياضيات أن تحدد الفلسفة الطبيعية، لا أن تولدها أو تنشيءها).
ورجاء الفلسفة الوحيد في هذه الفوضى من الآراء، ومن الأنظمة القبلية يستقر في الخروج على التقاليد اليونانية والمدرسية، وفي تقبل المنهج الاستقرائي. إن ما تدعوه الفلسفة التقليدية (استقراء) يسير بالتعداد البسيط ويؤدي إلى نتائج غير يقينية، وهو معرض للخطر يأتيه من مثال واحد يناقض تلك النتائج، لأنه يبث فيها استناداً إلى عدد قليل غير كاف من الوقائع. أما الاستقراء الصحيح، منهج العلم الحديث، فإنه لا يسرع من بضع ظواهر متفرقة غير محققة إلى أعم البديهيات، بل يدرس الوقائع والجزئيات في عناية وصبر، ويرتقي إلى القوانين بالتدريج وبغير توقف. وينبغي لنا عند وضع القانون من القوانين
العامة: أن نفحص وننظر أنه هل صيغ وفصل بحيث يتسع للأمثلة الجزئية التي استنبط منها فحسب، أم هل هو أوسع وأعم؟ فإن كانت الثانية، فينبغي أن نلاحظ أنه هل يؤيد سعته وعموميته، ويضمن لنا ذلك، بأن يشير إلى جزئيات جديدة؛ فلا نقف عند معروفاتنا السابقة، أو نقبض على ظلال وأشكال مجردة.
من الغلو في تقدير بيكن أن نعتبره خالق المنهج الاختياري والعلم الحديث؛ بل عكس ذلك هو الصحيح، فقد كان بيكن نتاجاً للأحياء العلمي في القرن السادس عشر، وليست دعوته إلا النتيجة، أو قل المغزى الذي استنبطه العقل الإنجليزي من الحركة العلمية. ولكن إذا لم يجز لنا أن نعده منشيءنا لمنهج التجريب والاختبار، فلا أقل من أن نرد إليه فضل انتشال هذا المنهج من الحضيض الذي ألقاه فيه تحامل المدرسيين وإعطائه كياناً قانونياً، إن صح التعبير، بأبلغ دفاع قيل فيه فليس بالأمر اليسير أن نجهر بما يفكر فيه الكثيرون، ولا يجرؤ أحد على أن يعترف به حتى لنفسه.
بل وأكثر من ذلك. فإن (العلم) الاختياري وطرائقه وإن كانت أنشيءت قبل عهد بيكن بزمن طويل، فأنه مع ذلك مؤسس (الفلسفة) الاختيارية، وأبو الفلسفة الوضعية الحديثة، من حيث أنه أول من أثبت، بأفصح القول وأبلغه، أن الفلسفة الحق والعلم الحق مشتركا المصالح، وأن الميتافيزيقا المستقلة عبث لا طائل وراءه. انه، وهو العدو المجاهر بعداوته للروح (الميتافيزيقية)، ليرجو قراءه بصراحة:(ألا يحسبوا أنا نطمع في إنشاء فرقة فلسفية، كاليونان القدامى أو بعض المحدثين، فما نقصد إلى ذلك، وليس من رأينا، بعد، أن الآراء المخصوصة المجردة في الطبيعة ومبادئ الأشياء ذات أهمية تذكر في حظوظ الناس). ومن هنا فهو لا يعارض أرسطو فقط، بل (كل رأي مجرد في الطبيعة)، أي كل مذهب ميتافيزيقي لا يقوم على العلم.
وأيضاً فإنه يميز بين (الفلسفة الأولى) و (الميتافيزيقا). فالفلسفة الأولى تعالج التصورات والقضايا العامة المشتركة بين العلوم الخاصة، وهي (بحسب قسمة بيكن الغريبة (المشتقة من قوى النفس الثلاث): الذاكرة والخيال والعقل) ثلاثة علوم رئيسية: (التاريخ) الذي ينتظم التاريخ المدني والتاريخ الطبيعي، و (الشعر) و (الفلسفة) التي تنقسم عنده إلى اللاهوت الطبيعي والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الإنسانية. أما (الميتافيزيقا)؛ فهي
القسم النظري من الفلسفة الطبيعية، وهي تنظر في الصور (بالمعنى المدرسي) والعلل الغائية؛ بينا القسم العملي من الفلسفة الطبيعية - وهو (الفيزياء) بالمعنى اللائق - ينظر في الجواهر والعلل الفاعلية. على أن بيكن لا يعطي (الميتافيزيقا) كبير قيمة؛ ويبدو كأنه يتهكم حين يسمى العلل الغائية (عذارى عواقر)، ثم يخص بها هذه الصناعة. أما اللاهوت الطبيعي فهدفه الوحيد (تفنيد الإلحاد): فإن العقائد موضوعات للإيمان دون المعرفة.
إن هذا الأسلوب، أسلوب التمييز بين العلم واللاهوت، وبين الفلسفة والدين، وبين العقل والوحي؛ يضاد أساليب المدرسة على خط مستقيم. لقد وحدت المدرسية الواقعية القديمة بين الفلسفة واللاهوت. أما بيكن فإنه كالإسميين، يطلب فصلهما إلى أقصى حد ممكن. وهو يبرر كونه طبيعياً في العلم وغيبياً في اللاهوت على أساس هذا التميز المطلق. وقد حذا حذوه في تلك عدد من مفكري الإنجليز.
بيد أن المسافة ليست كبيرة بين إقصاء المغيب عن ميدان العلم، وبين إنكاره وإبطاله: فإن توماس هوبز - من أصدقاء بيكن - يقول بضرب من المادية لا تكاد (محافظته) السياسية تفلح في تغطيته وإخفائه.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري
ذكريات عن أستاذي:
أمبرتو ريتشي 1879 - 1945
للأستاذ مصطفى القوني
(أمبرتو ريتشي الاقتصادي الإيطالي ذو الشهرة العالمية.
أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة روما، وأحد مؤسسي معهد
الزراعة الدولي. وأستاذ المالية العامة بجامعة فؤاد الأول، بين
سنتي 1928، 1940. وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة
اسطنبول بين سنتي 1942، 1945 كان ماراً بمصر، عائداً
من تركيا إلى بلاده، وكان مريضاً وبقى في سرير المرض
أسابيع ومات في القاهرة 30 يناير 1946 ودفن في أرضها).
أعود اليوم بالذاكرة إلى عشر سنين مضت، إلى يوم رأيت أستاذي (أمبرتو ريتشى) لأول مرة، في أول درس حضرته عليه. كنا في مقاعدنا ننتظر. وما هي إلا لحظات حتى أقبل وئيد الخطى، ممتلئ الجسم، قصير القامة، كبير الهامة. وجه أسمر فيه من سمات الشرق أكثر مما فيه من سمات الغرب، ولحية قصيرة فيها من البياض أكثر مما فيها من السواد، وعينان تطرفان وراء منظار سميك، وتنمان عما أضاع صاحبهما من نورهما في جريه وراء نور المعرفة، وكأنما كان عليه ألا يستبدل نوراً إلا بنور؛ ورجل لو رأيته، دون أن تعرفه، لما ترددت في أن تسائل من حولك: من يكون هذا (العالم)؟ هذا هو أستاذنا (أمبرتو ريتشي).
بدأ يعرض علينا موضوع العلم الذي جئنا نأخذه عنه عرضاً سريعاً، وانتهى درسه الأول. وبدا لي أن ليس في كلامه من جديد. وسرت إليه، ونحن خروج من قاعة الدرس، واندفعت أقول له:(لقد درست هذا العلم من قبل، ولست أدري ماذا علي أن أصنع في عامي هذا) قال متسائلاً: (درسته؟ وتعرفه كله؟) قلت: (حق المعرفة) فنظر إليَّ نظرة فيها كثير من
العطف وفيها كثير من الإشفاق وقال: (اسمع يا بني! إن لي نحواً من ثلاثين عاماً، لا أكاد أذكر أن يوماً منها قد مر دون أن أفكر أو أقرأ أو أكتب شيئاً في هذا العلم الذي تقول إنك تحيط به. ومع ذلك. . . فإني لا أظن أني أستطيع أن أقول ما تقول).
ومرت الأيام، وتوالت دروس أستاذي ريتشى، وتوالت عنايته بي: فكان يختار لي ما أقرأ، ويسألني فيما قرأت، ويفتح لي آفاقاً جديدة للتفكير والتأمل. وبدأ نطاق العلم ينفرج أمامي، وبدأ طريقه يتشعب، هذا الطريق الذي كان يبدو لي، فيما مضى واضح المعالم بين الحدود. وتزداد صلتي بأستاذي، مع الأيام، ويرى ما أنا فيه من حيرة، ولكنه لا يقول لي عن ذلك شيئاً. ويقارب العام نهايته، ونحن نسير يوماً، وإذا هو يقف ويسألني باسماً:(هل تذكر ما قلت لي بعد درسي الأول؟ ألا تزال تظن أنك تعرف موضوع علمنا كله؟) فخجلت مما كان من اعتدادي بنفسي وقلت له: (لست أدري ماذا جرى. ولكن الذي أدريه هو أني أحس وكأني لم أعد أعرف شيئاً). فضحك وقال: (إني الآن سعيد. لقد أخذت بيدك إلى أول الطريق. لقد بدأت تعرف. إنه حق ذلك المثل الذي يقول، لو عرف الإنسان أنه جاهل لكان هذا قدراً غير قليل من المعرفة. ولكني لست أدري هل تحمد لي ذلك في مستقبل أيامك، أم سوف يساورك الشك أحياناً، وأنت تضرب في هذا الوادي، وادي المعرفة، الشبيه بوادي التيه، فتسأل نفسك: ما الفائدة؟ ما الفائدة من كل ما أضعت من أيام شبابي في الضرب في هذا الطريق الذي لا ينتهي؟).
وإنه ليعبر الطريق ذات يوم فتكاد سيارة تدهمه فيقص على الخبر. وكنت أعلم أنه لم يكن، في ذلك الحين، زوجاً ولا أبا، وأنه لا تربطه بدنياه هذه الروابط التي كنت أظن أنها هي كل ما يفرغ الناس من الموت فقلت له:(كنت أعتقد أنك لا تخاف الموت) ففكر قليلاً ثم قال: (ألا تدري أن بين يدي كتابين لما أتمهما. لو أني انتهيت منهما لكان سيان عندي أن أموت أو ألا أموت).
وتمر السنون وأزداد معرفة بأستاذي، فأرى كيف رفعه علمه إلى حيث لا حدود ولا قيود، إلى حيث يحس جوهر الأشياء الذي يستتر وراء مختلف الصور: صور المذاهب والأوطان والأجناس، التي لا ينفذ إلى ما وراءها إحساس عامة الناس. لقد كان (عالما). والعلم قبس من نور الله، لا شرقي ولا غربي.
لقد طالما تمنيت أن أعود فألقى أستاذي يوماً ما، بعد غيبته عن مصر خمس سنين طوال، فأحدثه عما أصنع بأيامي وعما تصنع بي الأيام. ولكنه يفد إلى القاهرة، فلا أراه على فرط ما كنت أتمنى أن أراه، ثم هو يمرض ويموت دون أن أعلم من الأمر كله شيئاً، ودون أن أستطيع، الآن، شيئاً سوى مثل هذه الكلمات.
مصطفى القوني
في الأدب الإنجليزي
ماثيو أرنولد
للأستاذ خيري حماد
- 4 -
آراؤه في التربية:
عندما انتخب أرنولد لمنصب مفتش المعارف قامت هناك معارضة قوية من قبل رجال الدين. فقد كان هنالك اتفاق بين الحكومة والكنيسة يقضى بانتخاب أحد رجال طائفة الاكليروس لشغل هذا المنصب العظيم. ولذا لم يكن من المستطاع انتدابه للتفتيش على مدارس الكنيسة؛ بل اقتصرت مهمته على زيارة مدارس الحكومة والمدارس الأهلية.
وكان من واجبه مراقبة زمرة المفتشين لأن الحكومة وضعته رئيساً عليهم. وعندما كانت الحكومة تقصد تشريع قوانين جديدة وأنظمة حديثة لإدارة المدارس كانوا يستشيرونه ويسيرون على ضوء آرائه ونظرياته. ومن أمثلة هذه القوانين الخاصة مشكلة تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس؛ فكانت لمدة خلت موضوعاً اختيارياً مثله كمثل الدروس الأخرى، كعلم الجغرافية والعلوم الابتدائية الأخرى. ولكن أرنولد حبذ تعليمها كدرس يجبر جميع الطلاب على تعلمه ودرسه فقد اعتبر كل نظام للتعلم العام ناقصاً إذا لم يبذل اهتماماً كبيراً نحو لغة البلاد كشرط أساسي في تعلم العلوم الأخرى.
وكانت الطريقة الرئيسية التي يعتمد عليها في تنفيذ آرائه، ووضعها موضع التجلة والاعتبار هي تقاريره السنوية التي كان يقرؤها نفر قليل من أفراد المجتمع الإنكليزي. وهذه التقارير تتضمن آراء قيمة ملذة في بعض المواضع الطريفة. وقد استنار خلفاؤه بهذه التقارير؛ فأصبحت طريقتهم واضحة وعملهم سهلاً لا يحتاج إلى كثير صعوبة وإجهاد.
(وقد اهتم أرنولد اهتماماً عظيماً في إدخال بعض العلوم الأولية التي يحتاج إليها الطالب كثيراً في حياته العملية المقبلة فهي تهيئه لقبول جميع النظريات والتعاليم التي جاء بها العلم الحديث. ومع أن علم الحساب والكتابة والهجاء ضرورية جداً للطلاب إلا أنها لا تتعدى
حدود الكماليات بالنسبة إلى تهيئ الإنسان لما يقبله من العلوم في حياته المستقبلة. فمقدرة القراءة لا تجعل من الفرد قادراً على تحضير المواد التي يحتاج إليها في حياته المقبلة).
نصح أرنولد الطلاب بمطالعة الكتب التي تستحق القراءة. وفي رأيه أن دراسة الآداب من أهم العوامل التي يحتاج إليها الطلبة في حياتهم. فهي تساعد في تنمية ذوق الطلبة وقوة حكمهم وخاصة إذا حفظوا قطعاً من الشعر يحتاجون إليها في تغذية أرواحهم والترفيه عن أنفسهم. واعتقد أرنولد بأهمية دراسة قواعد اللغة في المدارس ودافع عن نظريته هذه بقوله: (إني لأعلق أهمية كبرى على دراسة قواعد اللغة في المدارس لمساعدتها الأطفال في التفكير وأشغال الناحية العقلية أكثر مما يحدثه علم الحساب؛ فهي تعلم الإنسان قواعد المنطق والمجادلة لأنها تختص بالكلمات المحدودة لا بالأرقام والحسابات.
فالإعراب من أهم محتويات هذا العلم ولا يصعب على الطلبة دراسته قط إذا كان تعليمه بطريقة دقيقة منظمة. وقوة التحليل في اللغة الإنكليزية تجعل من السهولة في مكان عظيم على الطلبة أن يطلعوا على القواعد بكل سهولة بدلاً من تعليمهم إياها بتلك الطرق العقيمة القديمة، التي كانوا يجرون فيها مجرى اللغات الجامدة. ويسرني جداً أن أرى الأساتذة يعتنون بالطريقة التحليلية الحديثة في تدريس علم اللغة).
وكان الناس يعتقدون أن اللغات اليونانية، واللاتينية والفرنسية لا تخرج عن كونها دراسات ثانوية يقوم بها المتقدمون في الثقافة والعلم. ولكن هذه الفكرة لم تكن لتتفق مع مذهب أرنولد في التربية والتعليم. فقد آمن بوجوب تدريس مبادئ هذه اللغات أو إحداها على الأقل في المدارس الابتدائية. وهذا الأساس يفيد جميع الطلبة الذين يقصدون الالتحاق بالكليات العالية والجامعات.
وأما الطلبة الآخرون الذين لا تساعدهم ظروفهم على متابعة دراستهم فإن هذا الاطلاع ينفعهم في تفهم الحقيقة الراهنة. وهي أن هنالك لغات غير لغتهم وعلوماً غير علومهم.
وزيادة على ذلك فقد ارتأى أرنولد أن دراسة الرياضيات وعلم الفسيولوجيا والجغرافية الطبيعية والنبات هي من أشد الأخطاء التي يرتكبونها في نظام المدارس الابتدائية. فإن من الحماقة تعليم الأطفال اصطلاحات علمية لا يتفهمونها ولا تستطيع أدمغتهم الفتية وقبولها وإساغتها.
وأما الأساتذة فيجب أن يتوخى في انتخابهم مقدرتهم العلمية وميلهم إلى المطالعة ومتابعة الدرس، وقد كتب في أحد تقاريره: (إن الأستاذ الذي يستطيع أن يخلق في طلبته الميل لتوسيع أدمغتهم ليتحسن منه أن يزيد في معلوماته ومعرفته. وكلما استطاع أن يجعل آراءه العلمية واضحة أمكنه أن يجعل طلابه أكثر وضوحاً واتساعاً. وكم كان يسره أن يرى أحد الأساتذة الذين اشتغلوا معه يتابعون دروسهم في إحدى الجامعات.
وكنتيجة للجدل الديني الذي قام في عصره شعر أرنولد بفقدان الشعور الديني في تلامذته؛ ولذلك فكر في تدريس التوراة في الصفوف الابتدائية لمعالجة هذه الحالة. ولتنفيذ هذه الفكرة وضع أرنولد كتابا جمع فيه الفصول السبعة والعشرين الأخيرة من إنجيل أشعيا وشرحها شرحاً يمكن طلابه من فهمها حق الفهم.
وكان أرنولد يميل إلى النظام التربوي المتبع في المدارس الفرنسية مع انتقاده إياها بعض انتقادات لا تخرج عن جادة الصواب؛ فلا يوجد هنالك توافق وتعاون بين مختلف درجات العلم والتعليم. ولذلك فإن نظام المدارس الداخلية لم يكن مقنعاً. فإن العريف الذي كان يعد مسؤولاً عن سلوك الطلبة وأخلاقهم لم يكن في الحقيقة إلا واحداً منهم لا يسره أن ينم عن رفاقه أو يشي بهم.
وقد أعجب أرنولد بقلة النفقات التي يدفعها الطالب الألماني لمتابعة دروسه. فكان هنالك في بروسيا سلم تعليمي يمكن للطالب النابه ارتقاءه درجة إثر أخرى حتى يصل إلى القمة. وهذا النظام كان في رأيه أحسن نظام عرفته أوربا منذ القدم؛ فكان يجمع إلى الحرية الإنكليزية نظام الفرنسيين.
أما الجامعة فيجب أن تشمل ثلاثة فروع مختلفة، الأول منها فرع التعليم العادي الذي يمكن لجميع الطلبة على اختلاف مراتبهم العلمية مزاولته والاستماع إلى محاضراته الكثيرة في أي وقت شاءوا. والثاني يشتمل على بعض الدروس الليلية التي تعطى رجال الأعمال أو الموظفين الحكوميين الذين لا يمكنهم حضور الدروس النهارية. والفرع الثالث هو فرع المراسلة الذي يضم إليه جميع الطلبة الذين لا تمكنهم ظروفهم من الحضور إلى المدينة والاستماع إلى المحاضرات.
فلسفة الدينية:
اعتقد غلادستون أن أرنولد قد جمع إلى الديانة المسيحية فكرة الإخلاص والتكريس المقدس بطريقة لا يمكن لأصدقائه وأعدائه على حد سواء تفهمها وحل غوامضها. وأما بول فقد كتب عنه قائلا: (إن أرنولد وضع لنفسه هدفاً منطقياً معقولا ولكن تعابيره الجميلة كانت موانع هامة أمام تقدمه ونجاحه).
لم يكن نقد أرنولد للتوراة نقدا قويا ولم يكن بحثه فيها بحثاً ناضجاً قيماً. وكتابة: (القديس بولس والبروتستنتية) لم يكن كتاباً دينياً حقيقيا. لكنه يخرج فيه على قواعد المسيحية الموروثة، وعلى الكنيسة المتحدة أيضا. فكان يؤمن بالمعجزات ويقف موقف الشك من شخصية الإله. فلم تكن عقائد الآخرين لتؤثر عليه أي أثر مهما كان ضئيلا.
أما كتابه (الأدب والعقائد) فيفوق سابقه بروعته وقوة أسره. فهو جد مشبع بالعواطف الدينية المختلفة مما جعله أداة فعالة في إعلاء الأخلاق وترقية أمرها. ويبحث هذا الكتاب في المسائل الدينية بحثاً جدياً منطقيا. فيبرهن بشتى الطرق على أن الديانة الحالية قد أفسدت التعاليم الجميلة الكثيرة التي جاء بها السيد المسيح منذ القدم.
وكانت رغبته تنحصر في منح الناس الحرية الكافية لتمييز الأشياء وتمحيصها. فقد رأى بعينيه التقلب والتطور الذي أخذ يدب دبيبه في روح الدين وتعاليمه فلم يستطيع احتمال ذلك. أصبح الناس لا يؤمنون بالمعجزات ولا بوحي التوراة؛ وقد خالف علماء الدين إلا بقوله إن التوراة كتاب أدبي أكثر منه كتاباً علمياً. وليس من واجب الدين إلا أن يهتم بالأخلاق التي تكون ثلاث أرباع الحياة الإنسانية. وصدق الديانة يجب أن يدعم بالتجارب العملية أكثر من الحقائق الفلسفية والأخلاقية. وخلاصة القول فقد عرف الديانة بقوله إنها الأخلاق تحفزها العاطفة والإخلاص.
أما إيمانه بالله فكان يختلف عن عقائد أهل عصره فلم يعتقد بشخصية الإله وأنه شخص له صفات تخالف صفات البشر؛ بل قال بأنه القوة السرمدية الأبدية التي تسيطر على هذا الكون. وتظهر لنا عقيدته هذه من جميع الفقرات التي اقتبسها من التوراة وسجلها في كتاباته فكان يغير لفظة الرب بلفظة الخالد.
والإيمان يجب أن يشمل جميع ما جاء به العهد الجديد وإلا فلا حاجة للناس بالإيمان ببعض أجزائه ونكران البعض الآخر. وأما عقيدة الاعتراف فيجب أن لا توضع بمنزلة عقيدة
المعمودية، وإذا كان الناس لا يعتقدون الاعتقاد التام بجميع ما جاء في التوراة وبصدق الرواية والزمان والمكان كان إيمانهم بالسيد المسيح أشبه بالخرافات والأمور الخيالية.
أما ثالث كتبه الدينية فهو كتاب (مقالات في الكنيسة والديانة). ويبحث هذا المؤلف في وصف أحد المطارنة الملقب بمطران بتلر فهو يقول عنه (إن هذا المطران لم يعترف بوجود الإله فحسب؛ بل بوجود الحياة المستقبلية، وقد عرض للناس دوافع خطأ الإنسان وأغلاطه بطريقة دقيقة لا تقبل الشك والنكران. والعقل هو الحاكم الوحيد الذي يلجأ إليه الإنسان في فهم دقائق الأمور وخفاياها فهو الأداة الوحيدة التي يمكننا بواسطتها تفهم جميع العقائد حتى وجود الإله وحقيقته).
وفي مقدمة هذا الكتاب نرى أرنولد يوضح عقائده بشكل جذاب فهو يقول: (إني لأعتقد بخلود الديانة المسيحية نظراً لصدقها وصراحتها الطبيعيين. وإن هؤلاء الناس الذين اعتقدوا تخلصهم من حملها والإيمان بها تبعا للعقائد الزائفة التي بشر بها الكثيرون من رجال الدين سيرجعون إليها مرة ثانية ويدرسونها درساً أوفى، واشد دقة وتفهما). فكان يؤمن ببعث روح جديدة تطهر الديانة مما لحق بها من الأدران والأوساخ. وهذه الفكرة السامية تجاه الديانة المسيحية لتظهر لنا جلياً في فقرة ثانية كتبها حيث يقول: (إن الكنيسة يجب أن تعتبر كمؤسسة وطنية تسعى إلى إعلاء شأن الوطن ورفع كلمته. فمن واجب الناس على اختلاف طبقاتهم أن يتمنوا لها التقدم واطراد النجاح.
والهدف الوحيد الذي سعى إليه أرنولد في جميع مؤلفاته هذه وخاصة كتابه (الأدب والعقائد) كان لاسترداد التوراة مكانتها القديمة وإعلاء شأنها بين طبقة العامة الملحدة. وهذا الهدف كان سامياً في حد ذاته، ولذا فإن تحقيقه كان من السهولة بمكان عظيم. وقد أشبهت كتاباته هذه من نواح عدة مؤلفات الكردينال نيومن الكاتب الإنكليزي الشهير. فعرف أن الشك في المعجزات يقود الناس حتما إلى إنكار جميع الحقائق السماوية.
رأى أرنولد جمهرة المتعلمين من قومه يخرجون عن عقائد التوراة وأحكامها فحاول إرجاعها إلى قلوبهم بإقناعهم إن مكانتها في عقول الناس يجب أن لا تبنى على أساس المعجزات التي جاء بها أو على العقائد التي استخلصها الكاثوليك والكلفنيون من ثناياها بل إلى أدبها السامي وإلى روح النشاط والحماسة التي يبعثها السلوك الحسن والتضحية وحب
الإنسانية.
فالديانة في رأيه لم تكن إلا الأخلاق تبعثها العاطفة وطهارة النفس، والرجل الورع هو الكريم الخلق الحسن الشيم. واندفاعه هذا في طريق الإخلاص يجب أن يكون ناتجاً عن عقيدة راسخة هي عقيدة العاطفة والميل. أما إذا كان الرجل مضطراً إلى اتباع سنن الأخلاق وتعاليمها فهو ليس بخير كريم. إذ أن الرجل الكامل، هو من كان مندفعاً برغبته وميوله لا تحت تأثير الطاعة والخنوع.
يتبع
خيري حماد
عاهل الجزيرة في وادي النيل
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
حادٍ من البيدِ هزَّتني قوافله
…
والنيلُ يصغي إليه أو يساجله
يلقى الغناء حجازياً فتحسبهُ
…
تهجُّد الفجر أوَّابٌ يواصلهُ
أصْغت له مصر، فاهتاجت سرائرُها
…
وللديارِ هوى تهفُو شواغله!
معلَّم كيف يُشجى الريح! كيف لها
…
تعيدُ تسبيح (داودٍ) فواصِلهُ!
وكيف تخطفُ سحر الشمس نغمته
…
فينتهي كل ما قصته (بابلهُ)
وكيف بالجبل الراسي مزامرهُ
…
تشجيه حتى يريد الخطو كاهله
خرت لموكبه الوديان ساجدة
…
إن الصحاري أذان، وهو قائله!
وللجزيرة وحيٌ في قياثِرهِ
…
كادت تضيءُ به الدنيا أنامله
مهد النبوات أرض النور موطنه
…
وفي مزار الهدى قامت منازله
سارٍ يهاب الضحى أنوار خطواته
…
ويعلمُ الفجر أن الركبَ حاملهُ
وتسمع الطير عنه، وهي شاردة
…
فإن دنا سرْبها قرَّت بلابله
حَبُّ، وماءٌ، وأعشاش، وأمنُ حِمى
…
فيه الغريب أخٌ، والضيف أهلهُ
سألته: لمن الركبان سائرة؟
…
وللكريم اهتزاز إذ تسائله!
فقال إني من الشرق الذي سطعت
…
ونورت منه للدنيا رسائله
من بقعة عَمدُ الإسلام في يدها
…
سواعد الدهر يعييها تطاوله!
مشى الرسول عليها فاغتدت حرما
…
يجرد النفس للتسبيح داخله
وشع منها كتاب الله، فهي حمى
…
لابد يسجد قبل الخطو نازله
بني عليها، وشاد الملك معتلياً
…
على المهابة، سيف عز حامله
عرش (الجزيرة) مركوز بقبضته
…
وفوق خدَّيه أجرى البأس عاهله!
تلألأت منه فوق النيل زاخرة
…
رُؤى جبينٍ أضاءته فضائلهُ
نورُ الشهادة تُبديهِ أسرَّتهُ
…
وهالةُ المجد تُضفيها حمائله
وحوله من سماءِ البيد شارقةٌ
…
من البداوة تذكها شمائله
عطر النبوات نضَّاح على يده
…
كأنَّ خلداً زكَتْ فيه خمائله
وفوق عينيه للتوحيد بارقة
…
شعَّتْ ضياءً بما تطوي دخائله:
شهادتانِ هما للرُّوح مرفأه
…
فيها منارُ الهدى، فيها مشاعله!
البيرقُ الأخضر الرفراف ضمهما
…
هدْياً، نوراً، لمن زاغت دلائله!
(الله أكبر) في الشَّطين هاتفة
…
كطير مكة إذ هاجتْ زِوِاجلهُ
رأيته وضفاف النيل تحمله
…
والنيل يهتز للأبطال ساحله
في موكب تُفرح الإسلام عزَّته
…
وتلفتُ الشرق للماضي مخايله!
وتدهش الدهر إرهاباً بضجَّتها
…
ما خلَّفته على الوادي جلاجلهُ
ملكان في مفرق الدنيا ضياؤهما
…
عالي الركاب، رحيب الخطو، جائله
قاما على عزةٍ للشرقِ شامخةٍ
…
وموردٍ للعُلا فاضت مناهله
كان شعاعين للأيام في زمن
…
كانت تَغطُّ على ليلٍ مجاهله
هذا على جبهة الصحراء صولجه
…
يفني الجبال إذا هبَّت تصاوله
عالٍ مع الشمس، طواف بسيرتها
…
على الوجود نَداه أو جحافله!
وذاك تسحرُ كبرُ الخلد هيبته
…
بما بني لِبَنى الدنيا أوائله
على مَحارب من نهر ومن شجرٍ
…
أسحاره قانتاتٌ أو أصائله
كم كَبرت لأذان الفجر نخلته!
…
وسبَّحت بهوى الباري سنابله!
يا سائران على نور، وخلفهما
…
قلب من الشرق تضنيه مشاغله
مُراً عليه بسحر في أكُفِّكُما
…
داني التَّداوي، قريب البُرء، عاجلهُ
براحةٍ في حواشيها وصفحتها
…
طبُّ الشعوب حَفي النور مائله
مازال (رضْوَى) يناجيها ويذكرُها
…
عهداً إلى أبد الدنيا
روته للشرق كثبان مهللة
…
وسطرته مواثيقاً جنادله
عهداً من الحب هز الطود فارتجزت
…
به الخيام، وغنته قبائله!
ليث البوادي وحاميها وسيدها
…
تاريخ سيفك إنشاد تواصله
ضممتها وعصبت البأس في يدها
…
وكنت غيثاً تغاديها سوابله
تعلقت بك حين الركب قال: هلا
…
وأوشكت بخطى النجوى تناقله
وحين يممت كاد البحر لجته
…
تغدو بساط فلاً، غنت قوافله!
ركبت بيضاء بالأرواح دارعة
…
جنان مصر لها تهفو بلابله
أحبابك ارتقبوها منذ ما سبحت
…
(فاروق) والنيل والوادي وآهله
جرى النسيم سعودياً بجنته
…
وللرياض هفت شوقاً هوادله
(عبد العزيز) إليك الحب، يدفعه
…
واد ترفف بالبشرى خمائله
حيتك منه سماء شاركته هوى
…
بالغيث يفتر في الشطآن وابله
تحية البيد ساق الله فرحتها
…
على يديك بشيراً أنت حامله
حار العباد أنجديُّ هواؤهم
…
والقطر والريح أنسام تزايله
أم أنها فرحة الإسلام سار بها
…
ركب المليكين في شوق يعالجه؟!
عبير يثرب تذكيه مطارفه
…
وخيلة العُرب تحكيها صواهله
هذا أذان العلا يا شرق! فاتحة
…
يراع منها غوى القلب غافلة!
ضيف الجزيرة، لا وصفاً ولا حلما
…
جِنان مصر جنان أنت نازله!
أخوك (فاروق) راعيها وعاهلها
…
وأنت فيها أخ طابت منازله!!
أواخر الخريف
(فيك اختفى سر الربيع كما اختفى
…
في جنح أمسية جناح صباح)
للأستاذ أدوار حنا سعد
طير مروعة وخفق رياح
…
وخمائل مهجورة الأدواح
صفراء عاطلة تجرد عطفها
…
من ورد منطقة وزهر وشاح
طاف التجهم والذبول على الربى
…
بعد الربيع الناضر الممراح
فرنت لماضيها الوضئ وأسبلت
…
تبكيه أنوارا وطيب نفاح
تهتز راعشة وتذرف دمعها
…
ورقا ينوح على رحاب الساح
يزجيه خفاق الرياح كساحر
…
تزجي لديه مواكب الأشباح
وعلى الأصيل حلى سحاب أبيض
…
متناثر متموج سباح
فكأنه زمر القطيع تفرقت
…
ما بين أودية وبين بطاح
وكأنه بيض الزوارق هومت
…
أرخت أعنتها يد الملاح
فإذا تواكب جمعهن وركمت
…
سود الغمائم في وضيء نواح
غالت بقيات النهار وغيبت
…
من ضوئه المترفق الوضاح
كخريف آلامي وليل مواجدي
…
وغيومهن وسيلها المجتاح
حجبت ضيائي واستباحت نغمتي
…
وطحت بزهر مطامعي وطماحي
أقبلت تغني الزرع كي يحيا به
…
وببذره زرع بعيد رواح
إن كنت شردت الطيور فإنما
…
ليزدننا في العود سحر نواح
أو كنت حجبت الربيع وخمره
…
فلكي تعتق من شهي الراح
وتزيد من سحر الأزاهر والسنا
…
وجنى الرياض وهتفة الصداح
فيك اختفى سر الربيع كما اختفى
…
في جنح أمسية جناح صباح
فرحة الحب
للشاعر حسين محمود البشبيشي
ما بال ثغرك ضاحك البسمات
…
ما بال قلبك راقص النبضات
قد كنت والأحزان في ليل الأسى
…
تسري وحيداً حائر النظرات
واليوم من أحياك؟ من بثّ المنى
…
في جانبيك وضيئة القسمات
من ذا الذي أجرى الحياة خواطراً
…
تنساب من عينيك مؤتلقات
فكأن فيض شعاعها أنشودة
…
أبدّية الأصداء والنغمات
وكأن قلبك نغمة سكري الهوى
…
من خمرها الروحي والكاسات
وكأن روحك ومضة أنوارها
…
فتن الجمال وفرحة النشوات
ماذا بقلبك؟. . . أي سرٍّ لم يزل
…
ينساب في جنبيه كالنسمات
. . الحب! ما أحلى الحياة إذا جرت
…
أيامها نشوى من الصبوات
لمح الفؤاد جمالها. . . فسعى لها
…
شوقاً يذيب الروح في الدعوات
وجري النشيد منغما بغرامه
…
ثملاً من البسمات واللفتات
وشدا فطار القلب من أضلاعه
…
نغماً يبث الحبِ في الصدحات!
ومضى يحلق في سماء غرامها
…
لهفان مشتعلاً من اللهفات
في كل صبح باسم اللمحات
…
يرنو وفي عينيه شوق عاتي
ويكاد يهتف في الطريق متى؟ متى؟
…
يا صبح تقبل فتنتي وحياتي
حتى إذا ابتسم الطريق وأشرقت
…
جنباته من رقة الخطوات
وهفا الفؤادُ يكاد يسبقني إلى
…
محبوبتي ليبوح بالحرقات!
أسرعت والأشواق تصرخ في دمي
…
والحب في عيني وفي نبراتي
وهتفت. . ما أحلى صباحك يا منى
…
نفسي ويا قلبي وسرّ حياتي
وأكاد من فرط الغرام أغار من
…
قلبي ومن عيني ومن خطراتي
البريد الأدبي
فضيحة. . . فمن المسئول؟!
ليس لها اسم إلا (الفضيحة)، وقد وقعت مع الأسف في استقبال العاهل
العربي العظيم، الذي تهيأت مصر لاستقباله بما لم تستقبل به أحداً من
قبل. . . فمن يا ترى هو المسئول؟
لقد وددت أن أسكت حتى تنتهي الزيارة الكريمة، ولكني خفت أن تتهم مصر في ذوقها في حين أنها بريئة، وأنها (عملة) ذهن عامي كليل. ولا بد أن كثيراً من الضيوف الكرام قد لحظ هذه (الفضحية)، فمن حق مصر أن أبرئها من (عملة) هذا الذهن العامي الكليل!
في مصر شعراء والحمد لله - فلم تعقم بعد - وشعور هؤلاء الشعراء فياض بالحماسة والحب والتكريم للعاهل العظيم. . . ولكن ذهناً عامياً كليلاً في محطة الإذاعة، أو في غيرها، أراد أن يختار قطعة تغنيها مطربة الشرق العربي (أم كلثوم)، فلم يجد أن شعور مصر الدافق كله يستطيع أن ينشيء قطعة مناسبة لهذا الغرض الكريم، فبحث وبحث حتى وجد قطعة للمرحوم شوقي بك (قيلت في مناسبة المولد النبوي الشريف)، فاختار أن تغنيها لتحي بها الملك العظيم.
ولكن القطعة - وهي في مناسبة خاصة - لا تحوي نصاً صريحاً يتفق مع المناسبة الحاضرة. . . وهنا يتفتق ذلك الذهن العامي الكليل عن حيلة طريفة. . . يستدعي شاعراً معاصراً هو الأستاذ محمد الأسمر لينظم أبياتاً تلصق بأبيات (شوقي)، وتفي بهذا الغرض الجديد!
يا للذكاء!! أيجرؤ ذلك الذهن العامي على اتهام الشعراء المعاصرين أجمعين بأنهم لا يستطيعون الوفاء بمناسبة حاضرة كريمة تهز شعورهم وشعور المصريين أجمعين؟
وإذا كان قد قدر عليه المقدر (كما يقولون في العامية)، ولجأ إلى شعر قديم يستوحيه؛ فإما أن يجده وافياً بالغرض، وإما أن ينصرف عنه، بغير هذا الترقيع الذي لا أدري كيف أسميه!
وتشاء المصادفات أن تمضي (الفضيحة) إلى نهايتها، فتأتي الرقعة الجديدة - على غير
مألوف الشاعر الذي قبل القيام بهذه المهمة العجيبة ركيكة مهلهلة ضعيفة، لا تتسق مع الأبيات الأصلية معنى ولا مبنى!
ثم يأتي التلحين رديئاً إلى الحد الذي يقضي على الصوت الغني الرخيم، فلا يكاد يبين!
من المسئول عن هذه الفضيحة؟ وهل يصلح مثل هذا الذهن العامي الكليل للأشراف على مثل هذه البرامج الخاصة بمناسبة عظيمة لا تعرض كل حين؟!
سؤال يوجهه الأدب والذوق والكياسة للمسئولين!
سيد قطب
الأستاذ النشاشيبي في مصر:
قدم القاهرة إمام العربية الأستاذ المحقق محمد إسعاف النشاشيبي وتبوأ الصدر من مجلسه المشهود في الكنتنتال، فأقبل عليه عارفو فضله وعشاق أدبه يرحبون به ويستفيدون منه. فأهلاً وسهلاً بحجة الإسلام وعمدة الأدب.
في قصيدة الغزالي:
نبهني إلى ما نشرته (الرسالة) الغراء في عددها رقم 652 تحت هذا العنوان الصديق الفاضل ثروت أباظة، وهو يواسيني في غمرة الأسى على والدي - ندّى الله مضجعة بفيض رحمته ورضوانه - ثم عاد - أمتعه الله بأبيه - فأثار هذا الموضوع بعد أن رجعت إلى عملي في مصر، فتذاكرنا معاً ما بقي بذهني من علمي العروض والقافية، أيام دراستي في الأزهر ودار العلوم.
والأستاذ رضوان يذكر أن صاحب (الشافي في علمي العروض والقوافي) قسم السناد، ثم مثل لسناد التأسيس بهذا البيت:
يا دار مية أسلمي ثم أسلمي
…
فخندف هامة هذا العالم
فإهمال ألف التأسيس مشاهد في كلمة (أسلمي)، ويوافقني الأستاذ على أن البيتين المشار إليهما في قصيدتي ليسا من قبيل هذا البيت. والمثال كما يقولون مصدر القاعدة.
وفي بريد الرسالة الأدبي كلمة لكاتب فاضل يخطئ فيها الأستاذ رضوان ويذكر أن في البيتين سناد الإشباع لا سناد التأسيس فما رأي الأستاذ رضوان؟ إني لأرجو أن ينفي ما
ذهب إليه صاحبه، كما نفي صاحبه ما ذهب إليه وبذلك يخرج البيتان في عافية.
وأحب أن أهمس في أذن الأديبين الناقدين أن كلمة (الخطأ) التي وردت في نقدهما فيها كثير من التجوّز، فلم يقل أحد من العروضيين إن هذا أو ذاك خطأ، ولكنه على حد تعبيرهم (خلاف الأولى).
وإني لأشكر للأديبين غيرتهما، وحينما أرزق سعة النفس والوقت أعدهما ببحث مستقل أستعرض فيه سنن الشعر العربي في مختلف عصوره لدفع هذا الزعم الذي يدفع الناقد لمثل هذه اللفتات.
والشعر مصدر ما وضعه العروضيون من قواعد، ويا ويل الشاعر من العروضيين
أحمد عبد المجيد الغزالي
1 -
شعر حماد:
جاء في المقالة الخامسة من مقالات (حماد الراوية) العدد (651) عند الكلام على انتحال حماد (وإنما الذي به النحل لا الانتحال) أن شعره (يميل إلى الغثاثة والركة، ولم يبلغ من الجودة ما بلغه شعراء الجاهلية حتى تختلط أشعاره بأشعارهم). وجعل ذلك أحد أوجه ذكرها لأبطال روايات مشهورات عن ثقات، واستدل عليه:
1 -
بنقل أبيات لحماد استهدى بها جبة من بعض الرؤساء. أولها (إن لي حاجة فرأيك فيها).
2 -
بضبطه (فرأيك) بالرفع والتحشية عليها بأن حماداً (يريد أن يقول: فما رأيك فيها).
3 -
بنقل أبيات جزلة منسوبة إلى حماد والإشارة إلى أن قائل تلك لا يقول هذه.
وأنا أقول:
1 -
إن أبيات حماد في استهداء الجبة، ليست غثة ولا ركيكة بل هي أبيات بليغة. والبلاغة وضع الكلام في موضعه ومطابقته لما تقتضيه الحال، وتلك الحال لا تقتضي إلا مثل هذه الأبيات، ولو ساقها جاهلية فخمة غريبة اللفظ بدوية الأسلوب، لكانت باردة غثة، لأن لكل مقام مقالاً.
2 -
أما (فرأيك) فالخطأ في ضبطها، جر على حماد عارها وإنه لبريء منه، وإنما هي
(فرأيك) بالنصب. وهذه من قبيل (زناه فحده) التي كنا تكلمنا عنها. . .
3 -
أما إن الذي يقول الشعر الخفيف الفكه في موضعه، لا يقول الشعر الجزل في موضعه، فغير صحيح، وهذا بشار يقول (ربابة ربة البيت) الأبيات وما تمنعه أن يقول (إذا ما غضبنا. . .) وبينهما أكثر مما بين قطعتي حماد، وشوقي صاحب المعجزة البيانية (قم في فم الدنيا وحي الأزهرا) هو صاحب (الحيوان خلق له عليك حق) وناظم (تلك) الأنشودة لجمعية الشبان المسلمين سنة 1929.
وما شاعر في الدنيا، ولا كاتب ولا متكلم يهزل كما يجد، ويقول لصديقه مؤنسا ما يقول لعدوه هاجيا، ويتغزل بأسلوب الفخر، ويخطب يوم المعمعة بمثل ما يناغى به الحبيب ليلة اللقاء، ويرقص وليده بمثل أراجيز العجاج، وهذا أبو نواس في خمرياته غيره في طردياته، والرصافي في أخلاقياته، أين منه الرصافي في مجونياته، ولولا أن هذا أمر قد فرغ من تقريره نقاد العرب والافرانج من زمن طويل، لسردت مثالا عليه من شعر كل شاعر!
2 -
سادة الكتاب:
هذه حاشية على العمود الثاني، من الصفحة (1418) من الرسالة (652):
وأنا أقول: إن سادة الكتاب (عندي) خمسة: هم الذري وهمم القمم، وإن كثرت من دونهم الهضاب والجبال: الجاحظ في الأدب، وأبو حيان في الفكر، والغزالي. في التحليل النفسي وابن عربي (محي الدين) في التصوف، وابن خلدون في الاجتماع هؤلاء الأئمة المجتهدون، وأما الآخرون فأكثرهم مقلدون. وأستاذنا النشاشيبي أوسع منى علما، وأصح حكما.
3 -
بين قوسين:
لتفهم كلمتي في بريد الرسالة (1418) ضع كلمة (عنوانه) في السطر الثاني بين قوسين، لأنها جاءت للتفسير لا للتقرير.
علي الطنطاوي
سناد التأسيس:
في العدد (652) من أعداد الرسالة خطأ الأستاذ محمد محمود رضوان بيتي الشاعر أحمد عبد المجيد الغزالي وهما:
كأن به في حلة الملك رافلا
…
يخب بدنيا ليس يدنو لها مدى
عوالم هذا العصر أنت وسعتها
…
بفنك لم تعجز لسانا ولا يدي
وقال إن الخطأ فيما يسمعه العروضيون (سناد التأسيس).
والحقيقة غير ما قال الأستاذ الناقد إذ أن (سناد التأسيس) في البيتين السابق ذكرهما موجود وإنما الخطأ في (سناد الإشباع) كما يقول أهل العروض، وليس في (سناد التأسيس) كما قال الأستاذ المفضال.
فحركة الدخيل في الأبيات كلها بالخفض، إلا في البيتين المنقودين فإنها جاءت بالفتح، وذلك ما يسمونه سناد الإشباع.
ومنى على الناقد والمنقود تحية وسلام
عدنان أسعد
حول سجون بغداد:
أرجو، أن يتفضل من كان لديه أخبار تتعلق بسجون بغداد وما يتصل بها - لم أذكرها في مقالاتي التي نشرت في هذه المجلة - فينشرها في هذا البريد الأدبي، وله مني الشكر سلفاً.
صلاح الدين المنجد
القصص
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 2 -
حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي.
كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقي مشاكسة من زملائي الفرنسيين، وتعالياً على الضبط (العربي) فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف، نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين) ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائما في وجه أولئك القادحين فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً (لزميلينا الضابط الكيس والخلصاء الذين عرفناهم من السوريين) فكان أولئك الضباط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط، نضر الله وجهه، يدافع عن حق السوريين وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط وأخبار رجال السياسة البعيدين عن مواطن الخطر، وأخبار إخواننا المهاجرين تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من الأجنبي المستعمر.
عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن، وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلو مترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الفرنسيين الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة.
في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار لنقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال، بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه،
ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقفت في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها.
لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة هي التي تنفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، لا رجالا مثلنا من لحم ودم.
أخذت الشمس تميل إلى الغروب، ولم يتقدم العدو خطوة إلى الأمام، ولم يتبين له أآدميون يقاتلونه، أم مردة وشياطين يصبون عليه الموت، وبينما نحن في هذا الموقف ترفرف فوقنا أجنحة الشعور بالظفر على العدو وإفساد خططه، وإذا بصوت من الخلف يناديني باسمي مقرونا بصفة حبيبة إلى قلبي (يا صديقي العزيز، لا تظن أني أغتالك غدراً بل أقتلك دفاعاً عن قومي وشرفي العسكري) وصوب بندقيته وسددها.
يكفي أن أقول لكم يا إخواني إن خمس بندقيات صوبت في لحظة واحدة إلى صدر (صديقي العزيز) وإلى من مكان معه من ضباط، وأن رصاصتي كانت الأسبق إلى قلبه.
بكيت ذلك الصديق، وما برحت أبكي سجاياه وشمائله، لأنه إنسان مهذب.
سأل واحد من المستمعين بتلهف عن مصير تلك الموقعة فأجاب المتحدث بصوت تخنقه العبرة الجامدة، (لقد تولى رفاقي إدارتها بنجاح حتى ارتد العدو أما أنا فقد واريت قتيلي التراب).
من يراقب أولئك الأصدقاء يؤلفون دائرة في وسطها نرجيلات نكركر، وأنفاس تطلق في الهواء، يحس بأن لا فارق بين المتحدث والسامع في اعتصار أحداثه من قرارة نفسه، وأن الكلمات المهموسة تبلغ مكمن الضمير وحنايا الوجدان.
- 4 -
أحدثكم أيها الرفاق عن حادثين متناقضين يسبقان أحداث الثورات الداخلية، لعلي أعيد بهما نضرة الحياة إلى وجوهكم وقد فنيت فيها البشاشة وغاضت مياهها.
وحكايتي لابد لها من مقدمة أقرر لكم فيها، أن المبادئ التي يصطنعها أصحاب الأغراض الوطنية ويتخذها الشبان مثلا عليا، ليست إلا سطورا مسجاة في صدورنا، أو جثثا مدفونة
فيها، قيمتها في الثرثرة عنها، وهي على وجه التمثيل كالبخور الذي يطلقه المشعوذ، أما تنفيذ المبادئ والعمل للمثل العليا، أو العمل على الأقل، في حيز غير عنها، فليس في وسع الرجل أو الشعب الذي قضى عليه بأن يكون محكوماً، ولا راد لقضاء القوة عليه؟!!
ولبيان ذلك أقول: ألفنا نحن الطلاب العرب، أيام كنا نطلب العلم في الأستانة، جمعية اتخذنا لها القانون الذي قننه لنا أصحاب المثل العليا في الوطنية والقومية، وأقسمنا بالله وبالشرف والوطن على تنفيذه بسلاحنا ودمائنا.
ساقتنا الدولة العلية التي كنا نعمل للخلاص منها، والإعتاق من عبوديتها، إلى محاربة دولة غربية كنا نؤمن آنذاك أن لا سبيل لنيل استقلالنا الوطني، وتحقيق آمالنا القومية العربية، إلا بمساعدتها إيانا.
وقفت ورفاقي نتحسس المبادئ المدفونة في صدورنا، وإذا الأوامر العليا تستحثنا على التقدم والقتال، وشعرنا بأن قوة جارفة من حديد ونار تجرفنا من الوراء إلى الأمام.
حاربنا، أجل لقد حاربنا من قال زعماؤنا عنهم إنهم عدتنا للاستقلال، وقاتلنا قتال المجاهدين في صفوف من قالوا لنا إنهم أعداء استقلال وطننا وقوميتنا!!!
لقد أنستنا الحرب إنسانيتنا وردتنا إلى أصولنا المتوحشة. كنت في بداية الحرب، وقد خفت ميدان القتال، لا تفارقني الأشباح المرعبة، والخيالات المزعجة لشخوص من كنت أراهم يسقطون بضربة سيف، أو بطلقة مسدس أطلقها من دون وعي، وما عتَّمت أن تأكسدت مشاعري فصرت كالجزار ينحر الكبش وهو يكبّر.
صدرت إلينا الأوامر من القيادة بأن نحتفظ بمواقفنا مهما كلفنا الأمر، وبأن نعمل على التقدم مهما باهظ الثمن. كانت المدافع تدوي، والقذائف تحفر فجوات في الفضاء فتكظم بزخمها نفس من يدنو من طريقها العريض، وبرغم ذلك كنا كالمناجذ نتقدم فنحفر حفرة تتحول في وقت قصير إلى خندق يقينا ويلات المدافع الرشاشة.
لم نكن نحفل بمن يستشهد منا، أو يجرح فيتلوى كالطفل الممغوص، بل كان همنا أن نتقدم وأن نقي أنفسنا، ونحتفظ بمراكزنا، كأن في ذلك منجاة لنا من موت يحوم فوقنا.
يا لله يا أصدقائي من نزعة حب البقاء كيف تدفع إلى الموت حباً للحياة، كان الوجود بأكمله في ناحية، وكنت أنا وحدي في الناحية الأخرى، فلو فني الوجود بمن عليه وبقيت أنا
وحدي لكنت الوجود بتمامه وكماله، ولم أكن أفكر ساعة الموقعة إلا في شيء واحد هو (أنا).
لا أدري كيف لم تغب شمس ذلك النهار، لأن الجو كان مناراً بآلاف من ومضات المدافع وشرار البنادق فكان من مجموعها يتألف نور وضاء ساعد على مواصلة القتال.
لم يكن الزاد ينقصنا، وأكوام الذخيرة تطمئننا على أن في وسعنا الدفاع عن أنفسنا حباً في البقاء.
أين الراحة؟ كيف السبيل إليها والموقعة ما برحت تتطلب الدماء!! لقد ارتوت هاتيك البطاح بدماء المتقاتلين فلمن منهم تنبت الإصلاح يا ترى؟ كنا نتقدم تارة ونتراجع أخرى، هذه هي الحرب السجال ولكن متى تنتهي الموقعة أو تخمد نارها؟
انبلج الفجر، وأشرقت الشمس، وأقبل الليل الثاني!! لم أعد أحس بحماس للحياة، ولا بدافع إلى البقاء، إنما أنا في حاجة إلى النوم، إلى نوم عميق طويل ينقدني من نفسي، إلى هروب من هذه النفس التي تحوطها عناية الله، وينزل بها بلاء الإنسان.
يا للشيطان!! هل هناك تناقض بين غايتين غاية الله في الحياة وغاية الإنسان في إزهاق الحياة؟
ألقيت بجسمي في حفرة من هذه الحفر التي شققناها بمعاولنا وأظافرنا فصارت خنادق طويلة عميقة، ألقيت مسدسي كأن لم يعد لي حاجة إليه ونمت.
كم ساعة قطع النوم من عمري؟ لا أدري!! أقسم لكم يا إخواني أن لو اتصل نومي بالأبدية لما قلت إلا أنه الراحة الكبرى. . . ولكني استيقظت. لقد أيقظتني مياه غمرت الخندق وقد بلغ ارتفاعها فمي، وقد أخذت امتصها مع التنفس وكدت أختنق من الغصّة. نهضت كالكلب المبلول، أنفض جسمي والسعال يكاد يخنقني وكنت أرتعد من البرد، وإذا بجماعة من الجند يصوبون فوهات بنادقهم إلى صدري، سمعت منها رطانة تنبهني إلى أني أسير.
عرفت بعد إذ بلغت مكان الاعتقال من زملائي الأسرى الذين جاءوا بعدى أننا لم نخسر تلك الموقعة، ولم نفقد مراكزنا الأمامية، ولكن حين شعر الأعداء بإعيائنا وبحاجتنا إلى الراحة، خففوا ضغطهم علينا، وعند ما طلبنا الراحة مستسلمين للنوم، حوّلوا مجرى مياه النهر نحونا فغمرت خنادقنا وأغرقتها، فغطس فيها من غطس غرقاً، ونجا من الموت من
أفاق من النوم وداهمته قناصة الأعداء ليلقي منهم الأسر كما لقيته أنا. ومن العجب العجاب أن حكومة الدولة التي أسرتني، بعثت بي إلى ميدان حرب جديد أقاتل فيه مع إخواني من كنا نقاتل في صفوفهم!! والفرق بين الدولتين أن العثمانيين ضنوا علينا بالاستقلال وأن الإنجليز وعدونا به فصدقنا وعدهم!!! والأغرب من هذا، أني بينما كنت أحارب الأتراك بسلاح من الإنجليز معار إلى الدولة العربية التي ارتجلتها السياسة ارتجالا، التقيت عفواً بأخي الضابط يحافظ على الخط الحديدي الحجازي الذي انتدبت لنسفه بالديناميت؛ وقد ساعدني على إتمام مهمتي وعاد هو ورجاله معي لا كأسرى حرب بل كجنود بالجيش العربي، جيش الخلافة العربي.
(يتبع)
حبيب الزحلاوي