الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 656
- بتاريخ: 28 - 01 - 1946
بين شيخ وشاب:
حوار سياسي
في مجلس من مجالس الرأي يندوا إليه صحابة من أحرار الفكر قد اطمأنوا في حياتهم الوديعة إلى قسمة القدر بعد أن اضطربوا في المكاسب، وتقلبوا في المناصب، وتمرسوا بالأمور، وبلغوا غاية المقدور لهم من مطالب العيش ومآرب النفس؛ فهم يمثلون الرأي الصريح، ويستعملون المنطق الخالص، ويرفعون أنفسهم فوق الأوضاع والأطماع والسياسة، فلا تقيدهم وظيفة، ولا تعبّدهم شهوة، ولا يقودهم حزب؛ في هذا المجلس تستعرض كل ليلة أخبار اليوم وأقوال القوم، فتوزن بالميزان القسط، وتنقد بالنظر الثاقب، فلا يورد خير أو قول إلا حاكمه رأي، ولا رأي إلا هاجمه اعتراض، ولا اعتراض إلا ساوره شبهة.
وأكثر السامرين في هذا المجلس من الكنتيين، فكثيراً ما تسمع كنت وكنت، وقليلاً ما تسمع سأكون وأكون؛ لذلك كان التشاؤم الذي تقتضيه ذكرى الماضي، غالباً فيه على التفاؤل الذي يستوحيه رجاء المستقبل! والشباب الذين يختلفون إليه يهولهم منه عرى الحقيقة وجفاء الواقع، فيستحبون عليهما توشية الأحلام وتزوير المنى، ليستديموا لأنفسهم بواعث النشاط وحوافز الأمل.
وفي إحدى الجلسات الأخيرة جرى بين شاب من هؤلاء وشيخ من أولئك هذا الحوار نسوقه إليك على سرده تصويراً لروح هذا المجلس:
الشاب: وما ذنبنا في هذا الضعف الذي نعانيه؟ أيستطيع قصير القامة أن يطول، ورخو العظام أن يصلب؟.
الشيخ: أما الضعف الناشئ عن قلة العدد وضيق الرقعة فلا حيلة لنا فيه؛ وأما الضعف الناشئ من سوء الخلق وقلة العلم فلا عذر لنا منه. والناس يقومون بالأرواح لا بالأجساد، ويقدّرون بالصفات لا بالأعداد. فلو كان الشرقيون قد بلغوا ما بلغ الغربيون من المدنية والثقافة، لاستحيا هؤلاء أن يعاملوهم كما يعاملون الأرقاء، وأن يساوموهم كما يساومون الأشياء!
الشاب: وهل يمنعنا هذا الضعف العارض من أن نطلب الحق ونغضب له ونفاوض فيه؟
الشيخ: وهل تطلب حقك من غاصبيه إلا بإحدى وسيلتين: وسيلة القوة وليس لك جيش، ووسيلة المنطق وليس عندك ساسة؟. إن طلب الحق على هذه الحال استجداء؛ والمستجدى يسأل ولا يفاوض، ويقبل ولا يعارض!
الشاب: إن الضعيف يستطيع أن يخدش إذا لم يستطع أن يبطش. والخدش في وجه القوى عيب يهمه ألا يكون.
على أن القوة ستحققها الجامعة العربية. ومن حبات الرمل يكون الجبل، ومن قطرات المطر يكون النهر. واستعباد العروبة المتحدة عسير؛ وازدراد الكتلة الضخمة أعسر. ومتى تيسرت القوة للقادة، تيسرت الحجة للساسة.
الشيخ: إن الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره. ولو كان (أيدن) يخشاها لما أوحاها. والعبرة ليست بالعدد كما قلت لك؛ فإن في الهند وفي جزر الهند كمية، ولكن في إنجلترا وهولندا كيفية. وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور!
على أن العرب تيقظوا متأخرين. تيقظوا في عصر الذرة، ولو أنهم استيقظوا في عصر الفحم لوجدوا مسافة تخلفهم عن الغربيين فيه تبلغ قرناً أو تزيد.
الشاب: وماذا يضير لو كانت الجامعة العربية من وحي الخصم وتدبيره ما دام يومها لغدنا وأمرها بيدنا وقوتها بنا وخيرها لنا؟ وهل يقدح في ملكيتك لبيتك أو يمنع من انتفاعك به أن يعاونك صديق على بنائه ليستند إلى جداره، أو يفئ إلى ظله وهو في الطريق إلى داره؟
على أن الإنجليز أكيس من أن يناصبوا العرب العداء، فإن البلاد العربية إذا عادتهم يكون موقعها من ملكوتهم موقع الغصة في الحلق والخثرة في الدم، هذه تقف القلب وتلك تكظم النفس. وما كان أيسر الغصة وأهون الخثرة لولا أنهما اعترضتا طريق الحياة! ونشوب العظم في حلقك يؤذيك وقد يرديك، ولكنك لا تتخلص منه بالرصاص إلا إذا تخلصت من نفسك!
ذلك إلى أن الخلاف بين الدول العظمى على استعمار الشرق يقبض عنان كل دولة عن الافتيات بالأمر والجنوح إلى القوة. ولو صح أن روسيا وفرنسا تسيران وحيّاً في طريق الكشف عن القنبلة الذرية، لكان من أمل الأمم الضعيفة أن تجداها حتى يصبح التهديد بها
عبثاً لا يجدي ولغواً لا يفيد!
الشيخ: أوافقك على أن موقع البلاد العربية يملك على إنجلترا الحياة والموت، وأن الخلاف بين الدول المستعمرة يفوّت على كل منها الانفراد بالرأي والحكم، وأن شيوع الطاقة الذرية يُبطل الركون إلى القوة في تسويغ العدوان والظلم؛ ولكن مَنْ مِن الساسة الذين تراهم اليوم يتبوءون كراسي الحكم في دول العروبة يستطيع أن يستغل هذه الأسباب لفائدة مصر ومنفعة العرب؟ إن أكثرهم يحترفون السياسة من غير أداة ولا آلة. وإن وثوب من يثب منهم إلى الحكم أو بقاءه فيه، إنما يعتمد على ذرائع غير طبيعية ليس منها على كل حال براعة الذهن ولا نبالة الغرض ولا إرادة الشعب. وأمثال هذه (الكفايات) التي أقامتها المصادفات والحظوظ على إسناد من الدعاية والخداع والتملق والتفريق والمحاباة والتساهل لا يمكنها أن تزاول الإصلاح لأنها صنيعه الفساد، ولا أن تصاول القوة لأنها وليدة الضعف، فقصارى أمرها أن تصانع ولا تصنع، وتقول ولا تعمل، وتدور ولا تسير. وما دام الرجل الذي يخلقه الله للإصلاح ويرسله بالهدى ويؤيده بالخلق، لا يزال وراء الغيب، فإن الأمل في وحدة العرب ونهضة الشرق يظل أوهن من حبال الهباء وأبعد من أشباح الوهم! وإني لأجيل النظر والفكر وأتقصاهما في الأفق الغائم البعيد فلا أتبين لظهور هذا الرجل المنتظر شرطاً ولا علامة.
الشاب: أراك أسقطت الشباب من حسابك، كأنهم غير أحرياء بحمل الشعلة وهم ثمار جهد طويل بذلته الأمة في تنشئتهم وتثقيفهم؛ فهل كانت الشهادات المختلفة الدرجات والغايات، والألقاب الممنوحة من المعاهد والجامعات، دلائل على الجهالة وعناوين للأمية؟
الشيخ: إن الأبناء أشبه بآبائهم من الليلة بالليلة. وإن الدار والمدرسة على حالهما الحاضرة لتعجزان عن تخريج طبقة من الشباب يخرج منها ذلك الرجل الموعود الذي تموت (أنا) في لسانه وتحيا في ضميره، ويتحد في ذهنه وجود ذاته بوجود شعبه؛ فهو يحس ألمه لأنه مجتمع شعوره، ويدرك نقصه لأنه محتلي عقله، ويملك قياده لأنه مظهر إرادته؛ ثم يرتفع بسمو نفسه ونزاهة هواه عن أوزار الناس وأقذار الأرض، فلا يطمع لأن غرضه أبعد من الدنيا، ولا يحقد لأن همه أرفع من العداوة، ولا يحابى لأن فضله أوسع من العصبية، ولا يقول قولاً أو يعمل عملاً إلا إذا وافق الدين الذي يعتقده، والمبدأ الذي يؤيده، والشعب الذي
يقوده!
الشاب: إنك يا سيدي تسرف في التشاؤم لأنك شيخ!
الشيخ: وإنك يا بني تسرف في التفاؤل لأنك شاب. ولعل الحق أن يكون بيني وبينك!
أحمد حسن الزيات
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 24 -
ج14 ص 84: قال (علي بن عيسى الرّبَعي: أخرج إليََّ عضد الدولة بيده مجلداً بآدم مبطناً بديباج أخضر مذهباً مفصولاً بالذهب بخط أحسنَ، فيه شعر مدبّر وحسن ليس له معنى، فقال لي كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت: شعر مدبّر والذي قال خرب البيت، مسود الوجه. ثم يمضي على ذلك زمان ودخلت إليه، فأومأ إلى خادم وقال له: أمض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضى وجاء بالمجلد بعينه، وهو هو، فأبلست، فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي فقلت: حسناً جيداً.
قلت: (بخط حسن أو محسّن).
(فيه شعرُ مدْبِر ليس له معنى) أو (شعرُ مُدْبِرُ)
(فقلت شعر مدبر والذي قاله خرب البيت).
ومدبر متأخر متخلف، والأدبار نقيض الإقبال وأدبر أمر القوم: ولى لفساد كما في اللسان.
ويظهر من خبر رواه أبو البركات الأنباري في (نزهة الالباء في طبقات الأدباء) ص415 أن الربعي كان يستعمل هذا الوصف - أعني مدبرا - لكل ضعيف متأخر في صناعته، قال:
كان (الربعي) مبتلى بقتل الكلاب، فيحكى أنه اجتمع هو وأبو الفتح بن جنى يمشيان في موضع، فاجتازا على باب خربة، فرأى فيها كلباً، فقال لأبن جني: قف على الباب، ودخل فلما رآه الكلب يريد أن يقتله هرب، ولم يقدر ابن جني على منعه، فقال له الربعي: ويلك يا ابن جني! مدبر في النحو، ومدبر في قتل الكلاب. . .
قلت: قول الربعي لأبن جني - وهو يداعبه - مدبر في النحو - طرفة الطرف، ويا ليت أنه قال مدبر في التصريف حتى يجئ كلامه أعجوبة. . .
في يتيمة الدهر للثعالبي:
كان (عضد الدولة) على ما مُكن له في الأرض، وجُعل إليه من أزمة البسط والقبض، وخُص به من رفعة الشأن، وأوتي من سعة السلطان يتفرغ الأدب، ويتشاغل بالكتب،
ويؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء، ويقول شعراً كثيراً يخرج منه ما هو من شرط هذا الكتاب من الملح والنكت.
في نزهة الألباء في طبقات الأدباء:
يحكى أن أبا علي (الفارسي) لما صنف كتاب (الإيضاح) لعضد الدولة وأتاه به، قال له عضد الدولة: هذا الذي صنفته يصلح للصبيان، فصنف له (التكملة) بعد ذلك. ولو صدر هذا الكلام من بعض أئمة النحويين لكان كبيراً فكيف من بعض الملوك؟
في وفيات الأعيان:
وهو (عضد الدولة) أول من خوطب بالملك في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان فاضلاً محباً للفضلاء مشاركاً في عدة فنون.
في شرح النهج لأبن أبي الحديد:
قال بعضهم دخلت على عضد الدولة فوجدت في وجهه ألف عين، وألف فم، وألف أذن. . .
في الإيجاز والإعجاز للثعالبي:
كان عضد الدولة يقول: الدنيا أضيق من أن تسع ملكين.
يقول أبو بكر الخوارزمي في عضد الدولة:
ختمت بك العجم الملوك وراجعت
…
بك تاج ملكهم القديم المبهج
لم يفقدوا بك أردشير وإنما
…
فقدوا نقيصة دينه المستسمج
وفيه يقول المتنبي:
أروض الناس من ترب وخوف
…
وأرض أبي شجاع من أمان
تذم على اللصوص لكل تجر
…
وتضمن للصوارم كل جان
إذا طلبت ودائعهم ثقاة
…
دُفعن إلى المحاني والرعان
فباتت فوقهن بلا صحاب
…
تصيح بمن يمر أما تراني؟!
رقاه كل أبيض مشرفي
…
لكل أصم صل أفعوان
حمى أطراف فارس شمَّري
…
يحض على التباقي بالتفاني
فلو طرحت قلوب العشق فيها
…
لما خافت من الحدق الحسان
دان له شرقها ومغربها
…
ونفسه تستقل دنياها
تجمعت في فؤاده همم
…
ملء فؤاد الزمان إحداها
فإن أتى حظها بأزمنة
…
أوسع من ذا الزمان أبداها
في كتاب الفَرقْ بين الفِرَق:
. . . كان أبو شجاع فناخسرو بن بويه قد تأهب لقصد مصر وانتزاعها من أيدي الباطنية (يعني العبيديين) وكتب على أعلامه السود: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، الطائع لله أمير المؤمنين، ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. فلما أخرج مضاربه للخروج إلى مصر غافصه (فاجأه) الأجل فمضى لسبيله.
في كتاب تجارب الأمم لمسكويه:
وفي سنة 369 دبر عضد الدولة أن يقع بينه وبين الطائع لله وصلة بابنته الكبرى، ففعل ذلك، وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار، وبُنى الأمر فيه على أن يرزق ولداً ذكراً منها فيولي العهد، وتصير الخلافة في بيت بني بويه، ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة الديلمية. . .!!!
قلت: وهذه الخلافة لم يبق لها قبل أن ينوي القوم سلبها إلا الاسم. قال البيروني في (الآثار الباقية عن القرون الخالية): إن الملك قد انتقل في آخر أيام المستكفي من آل العباس إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي العباسيين إنما هو أمر ديني اعتقادي لا ملك دنيوي كما لرأس الجالوت عند اليهود من أمر الرئاسة الدينية من غير ملك ولا دولة، فالقائم من ولد العباس الآن إنما هو رئيس الإسلام. . .
ج12ص92:
تحبب أو تذرع أو تأبى
…
فلا والله لا ازداد حبا
أخذت ببعض حبك كل قلبي
…
فأن رمت المزيد فهات قلبا
وجاء في شرح (تأبى): كانت في الأصل تقيأ فأصلحناه إلى ما ذكر للمناسبة والألف للطلاق.
قلت: قال ابن خلكان في (وفيات الأعيان):
أخبرني بعض الأفاضل بمدينة إربل في سنة (625) قال: كنت ببغداد في سنة (620) بالمدرسة النظامية فقعدت يوماً على بابها إلى جانب أبي الدر (ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين) ونحن نتذاكر الأدب إذ جاء شيخ ضعيف القوى والحال يتوكأ على عصا فجلس قريباً منا، فقال لي أبو الدر: أتعرف هذا؛ فقلت: لا، فقال: هذا مملوك حيص بيص الذي يقول فيه:
تشربشْ أو تقمص أو تقبّا
…
فلن تزداد عندي قط حبا
تملك بعض حبك كل قلبي
…
فإن ترد الزيادة هات قلبا
فجعلت أنظر إليه، وأفكر فيما كان عليه، وما آل حاله إليه. قلت:(تشربش) لبس ثوباً ذا شرابيش. في التاج: الشربش كجعفر: هدب الثوب جمعه شرابيش.
في (المعرب) للجوا ليقي: القباء قال بعضهم هو فارسي معرب، وقيل: هو عربي، واشتقاقه من القبو وهو الجمع والضم. وفي التاج: قال القاضي المعافى: هو (القباء) من ملابس الأعاجم في الأغلب، ومن قال إنه عربي فأما لما فيه من الاجتماع، وإما لجمعه وضمه إياه عند لبسه ج أقبية، وقبّى الثوب: جعل منه قباء وتقبّاه لبسه.
في الفائق: كعب رحمه الله تعالى: أول من لبس القباء سليمان ابن داود عليهما السلام فكان إذا أدخل رأسه الثياب كنصت الشياطين أي حركت أنوفها استهزاء به، يقال: كنص فلان في وجه صاحبه.
الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي
تعليق على مقال
للأستاذ أحمد رمزي
أثار مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بعدد (الرسالة) الماضي حول الجامعة العربية وضرورة قيام فلسفة خاصة بها الكثير من الشجون، وأحيا لي ذكرى فترات من الماضي القريب، فرجعت إلى صفحات مطوية من مذكرات يومية وتقارير سياسية، لألمس مرة أخرى المصاعب والمشاكل التي وقفت في طريق الفكرة العربية بمصر، وما لقيه أنصارها من عنتٍ ومصادمة، وما واجه كل مؤمن بها مجاهد لأجلها من صدٍ عنها وتحويل عن طريقها السوي.
ونعيد النظر اليوم إلى ما وصلت إليه وما حققت من أهداف، فنفرح مع الفرحين ونتهلل، وتمتلئ نفوسنا إيماناً من جديد وثقة وأملاً في المستقبل، ونحمد المولى جل وعلا أن ظهرت جامعة الأمم العربية كعامل مستقل من العوامل التي سيحسب لها في شؤون العالم وأموره حساب، وذلك ما أشرنا له ونادينا به وتحملنا الكثير من الأذى في سبيل الوصول إليه.
وكلما رجعت بالبصر إلى الوراء، وقست المراحل التي قطعت، والعقبات التي أزيلت، مع قصر الوقت وضعف الجهود، ازددت يقيناً على يقين بأن نجاح الفكرة العربية بمصر ونضوجها وإيمان الناس بها: هي نفحة من نفحات الله، وإن هذه الحركة المباركة ليست من عمل الإنسان، بل يد الله فوق الجميع، هي التي هيأت لها الأسباب وجمعت لها القلوب، ودفعت بالفكرة دفعاً إلى الأمام فآمن بها جماعات من الناس، واقتنعوا بها أفواجاً، بعد أن كان اللائذون بها يعدّون على الأصابع.
وكان من دلائل الساعة وإرادة الله أنه ما ارتفع صوت ضدها إلا وانضم في النهاية إليها، وما جُرّد قلم لمحاربتها والحط من قٍيمٍها ومبادئها إلا وانطوى تحت لوائها، وأصبح بوقاً من أبواقها، وسيفاً من سيوفها.
فلا فضل لأحد على العروبة بمصر، وإنما هي إرادة الله، ولا راد لحكمه، سبحانه إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب. هذا هو إيماني، وتلك هي عقيدتي.
ومن الناس من يقول: إن الدفعة المصرية نحو العروبة مفتعلة وغير دائمة ولا جذور لها.
ودليلهم على ذلك أنهم يردون أصولها إلى بعض عوامل السياسة الداخلية، فهي في نظرهم تسابق بين فريقين لنيل الحظوة واقتناص الظفر واحتكار الجهاد، وهناك آخرون ممن لا يؤمن بها قطعاً ويرى فيها شراً مستطيراً، فهو ينفر منها على أنها ليست من صنع العرب، وإنما هي من عمل الإنجليز تحمل طابع أيدين وختم وزارة الخارجية البريطانية، ولا سبيل لإقناع الطرفين، وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.
كل هذا لا يعنينا بقدر حماس الجماهير للفكرة وتشبثهم بها، وبقاء هذا الحماس حياً ملموساً واضحاً لا يعتريه هبوط أو فتور، وإنا لنأخذ على الجماهير أنها سريعة الحماس لأخذ الفكرة والتمسك حيناً من الدهر بها، ولكنها سريعة التسليم بخطأ هذه الفكرة إذا تأخرت عن تحقيق الأهداف العاجلة، وأن آفة الجماهير هو سرعة الانتقال من الغضب إلى الرضا، ومن الحماس إلى الفتور، ثم من الفتور إلى النسيان، فما الذي أعددناه لكل ذلك؟
الجواب على ذلك أننا لم نعمل شيئاً، إذ لا تزال الفكرة العربية في حاجة إلى حشد جميع القوى العليا في العقل والروح، لتكون عنصراً ثابتاً من عناصر الشخصية المصرية المنبثقة من روح الشعب وإيمانه وتاريخه.
ولقد أحسن الأستاذ عبد المنعم خلاف صنعاً حين أثار موضوع فلسفة العروبة لمّا قال: (إن السياسة ليست دائماً ذات إيمان)! إني أسلم بأن دعوته جاءت في وقتها، فله عظيم الشكر والأجر على إثارتها، وأدعو الله أن يوفق العاملين لتلبية هذه الدعوة، وأن تلقى دعوة العروبة من ناحية رجال الفكر ما تستحق من عناية، حتى تخرج لنا فلسفتها الحية التي سوف تملك النفوس والعقول معاً. وأعتقد أنه يسر إن وجد من يشاركه إحساسه، ومن يشعر بشعوره، فقد ورد شيء من ذلك في تقرير بعثتُ به إلى الحكومة المصرية قلت فيه: (إن مبادئ الحركة العربية ودوافعها لم تتبلور بعد التبلور الكافي في شكل مذهب سياسي وفلسفي، كما أن نشاطها وأهدافها واتجاهاتها لم تأخذ بعد القالب الذي يجعل منها عاملاً قائماً بذاته فيحسب له حساب في الشؤون الدولية مستقلاً عن العوامل الأخرى. ولكن القضية العربية عامة - برغم هذا - قد أصبحت حقيقة تاريخية لها وزنها وأهميتها بدليل تقدم الدول المحاربة وغير المحاربة لخطب ود العرب واستمالتهم والمناداة بصداقتهم، فليس من مصلحة مصر تجاهل هذه القضية والإعراض عنها أو الوقوف إزاءها موقفاً محايداً،
خصوصاً وأن وراء مصر ثلاثة عشر قرناً من التاريخ العربي لها في حقبتها وأدوارها المختلفة مواقف تاريخية خالدة.
كان ذلك في 12 مارس سنة 1941، حينما أتاحت لي الظروف المساهمة بقسط ضئيل في خدمة قضية العرب، وقد مرت الأيام سراعاً، وحققت الفكرة بعض أهدافها السياسية وأخذت طابع العامل المستقل عن العوامل الأخرى في شئون العالم، ولكن لم تتحقق الناحية الأولى، وهي ظهور الفكرة كمذهب سياسي فلسفي.
فهل نؤمل أن تتبنى مصر هذه الفكرة وتخرجها كما تبنت الناحية السياسية؟
إن أشد الناس تفاؤلاً لم يكن يؤمّل نجاح الفكرة العربية هذا النجاح المشاهد اليوم، خصوصاً في مصر دون سائر البلاد العربية، حيث استمرت عوامل الهدم والتفرقة تعمل بنشاط وحماس ضد كل ما هو عربي لسنوات عديدة بغير أن تلقى أي مقاومة، حتى همدت الروح المصرية العربية المستمدة من عناصر الفتح وجهاد القرون الماضية. ولما كانت سنوات الحرب العالمية الثانية بمثابة فترة لا تقل في أهميتها عن نصف قرن من الزمن، جاء تطور الأهداف السياسية وتقارب الشعوب العربية سريعاً جارفاً لدرجة لم تتمكن العقول من استيعاب وتقدير ما مر حولها من الأحداث والتغييرات المفاجئة.
ولذلك لا تستغرب أن تجد الكثير من شباب مصر يتساءلون: ما هي العروبة؟ وما هي أهدافها؟ كيف تكون عربياً ومصرياً في نفس الوقت؟!
وهي أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، ويصعب إقناع ذويها بالقيم العربية إذا لم تكن إفهامهم وعقولهم وآذانهم مستعدة لقبولها، خصوصاً إذا كان بعضهم يجهل التأريخ العربي جهلً تاماً ولا تستهويه حلقات التاريخ المصري في العهود العربية، أو يكون قد تلقى دروس الماضي على طريقة تجعله يأنف منها كلما اتصلت بالعرب وفتوحاتهم ومدنيتهم وثقافتهم وأثرهم في قيادة العالم وشعوبه، فهو مضطر: إما أن يجدد معلوماته، وإما أن يترك الفكرة لغير سبب يبديه!
ونجد أن الجامعة العربية، وقد اختارت القاهرة مركزاً لها، من أول واجباتها أن تحضّر الرأي العام المصري لذلك، وأن تجعل لهذا النشاط قسماً خاصاً به، ولن تهتم بالناحية الفكرية التي تحدثنا عنها لتبنى بناء ثابت الأركان.
وسوف تسمع أن فريقاً من الناس يستكثر ما تصرفه مصر على الجامعة، أو على بعثاتنا الثقافية في البلاد الشقيقة، وأن فريقاً لا يفهم معنى لحفلات التعارف والتفاهم بين العرب، وذلك كله نتيجة لسياسة التفكك التي فُرضت على المصريين، والتي عملت على قطع الصلات بين حاضرهم وماضيهم، وحصرت آمالهم في دائرة ضيقة، مما يجعل العناصر الإنشائية في البلاد محتاجة إلى بذل مجهود طويل لإزالة آثارها.
ونحن نؤمن بأن عناصر العروبة الكامنة في الشعب المصري لن تفنى بعد اليوم، بل ستخرج وهي أكثر مضاء وقوة وعزيمة، وستحطم هذا الغشاء الصناعي الواهي الذي أحاطتها به سنوات الخمود وسياستها الغاشمة التي أفهمته أنه أمضى آلاف السنين يرزح تحت أغلال العبودية، حتى لا يتعرف على صفحات المجد التي كتبتها العروبة في بلاده، ولكي يعمى عن شخصيته ومجد الآباء والأجداد.
لقد أوحى إلينا مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بهذه الكلمة العابرة عن هذه الحركة التاريخية، ونحن إذ نختتمها نؤمل أن يوالي هو وغيره من كتاب العرب في مصر وبقية البلدان العربية أبحاثهم، ذلك لأن أسس الفكرة العربية وفلسفتها ستأخذ مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين، ولكن أثرها سيكون عميقاً في مصر، إذ ستعيد حتماً للشعب المصري إرادته وشخصيته وتلقنه تاريخه الحي. وسنرى كيف أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية والتي تبدو لنا مستعصية الحل، سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي تخاطب الوجدان والفكر، وتحرّك القلوب والمشاعر.
إن الفلسفة التي تنير طريق الفرد منا إلى غايته، وتجعل إيماننا بالفكرة العربية وحركتها السياسية وأهدافها إيماناً بصيراً مستنيراً ستقود الشعوب العربية من الظلمات إلى النور، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الاستكانة إلى الرفعة، وتعلم الفرد والجماعات معنى الآية الكريمة:(كنتم خير أمة أخرجت للناس). ولمثل هذا فليعمل العاملون!
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان
من ذكريات بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
ما الذي هاج في نفسي هذه العشية ذكر بغداد، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها؟ ما الذي أرجعني إلى تلك الليالي حتى كأني - لفرط ما تشوقت إليها، وأوغلت في أذكارها - أعيش فيها؟ أي سحر فيك يا بغداد جذب قلبي إليك، فلم أنْسَك إذ أنا في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاق؟
بغداد. . . يا بغداد، عليك مني سلام الود والحب والوفاء، على المعظّم على الصُّلَيخ على الكرّادة على الكرخ سلام الفؤاد المشوق الولهان، على ليالينا (بين الرصافة والجسر). ما كان أحلى تلك الليالي! كنت أشكو فيها ألم الغربة وأحن إلى الوطن، فصرت في وطني أحن إلى تلك الغربة ولياليها، وما ظلمني موطني وما أنكرت، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمه بما ليس فيه، ولكنها هي الدَعة، مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم، ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ بأنني ذو قلب!
على الرستمية. . . ألا تزال الرستمية جنة من جنان الأرض، حافلة بالعاشقين وبالحور العين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب فجفت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية. . . بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد. على (قهوة المطار)، على ظبائها على جآذرها ألف سلام.
على الجسر. . . يا جسر بغداد، كم جمعت وفرقت، ماذا رأيت وسمعت، كم وصلت بين قلوب وقطعت، أنت الصلة بين ماض لنا كان أعز من النجم وأسمى، وآت لنا سيكون أسمى من النجم وأعز. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سرة الأرض، وكنت ليَ مسرّة القلب، عليك مني ألف سلام.
يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي، وخلقت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعت بفؤادي وحياتي يا ربوع؟!
ويا دارنا في (الأعظمية) من حلّ فيك بعدنا يا دار؟ وهل صوّح لبُعدنا زهرك أم ضحكت من بعدنا الأزهار؟ وهل حفظت آثارنا أم لقد طمست من بعدنا الآثار؟ لقد كنت أنت
مستقرّي ومثواي، وكان إليك مفرّي من دنياي؛ وكنت شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنت مستودع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلا عنك، فهل كتمت سرّي هذه الجدران؟ هل سترت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟
ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفر إليها من رحب الحياة، وزحمة المجتمع، فأغلق بابها علي، وأخلو فيها إلى نفسي، فأحسّ أنها جزء مني، وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني، تنكرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها، رددت عنها، أو قبلت فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلا ما يراه الضيف، ولا ألبث إلا ما يلبث. . . لا يا سكانها؛ ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات؛ فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي!
ودار العلوم؟ خبروني سألتكم بحق الإخاء عن ظلال أيامي فيها. سقى الله ظلالها صَوْب القلوب! خبروني، ألا رجل كريم، يحسن إلى هذا البعيد النائي، فيمر بالدار عند مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فيصعد إلى الغرفة التي تطلّ من هنا على صحن المسجد المنوّر المبارك، ومن هناك على صحن المدرسة المزهر المشرق، فيحيي عني هذه الغرفة، فإني سكنتها عاماً، كان لي عام دنيا ودين، وفيها جددت طباعي وأفكاري وكونت نفسي.
ثم ليجل عني في هذه المدرسة في حدائقها، وفي صحونها، في ممراتها ودهاليزها، ثم ليصعد سطوحها الواسعة التي تمتد حتى تتصل بقبة المسجد، وتشرف على تلك الحديقة العتيقة، وتلك المقبرة المهجورة، وعلى طريق الكاظمية، فإن لي على هذا السطح ذكريات. . . وإنني إن أنس لا أنس يوم العيد، وقد خلت المدرسة من ساكنيها، فلم يبق فيها غيري، فأوغلت في هذه السطوح، وصعدت حتى انتهيت إلى أصل القبة، ونظرت فإذا أنا على بحر من النخيل، تهتز قممه من تحتي كأنها الأمواج في اللجة الساكنة، وتظهر في فُرَج النخيل طرق الفلاحين، وقد خرجوا مع أطفالهم وأولادهم بثياب لها مثل لون الزهر، ثم تختفي خلال الأشجار، كشاعر سادر أو محب متغزل، ذهب يناجي ذكريات الوصال، ودجلة عند منعطف الصليخ تلوح بعظمتها وجلالها، كأنها سماء من نور ركبت في الأرض؛ وبغداد، بلد الأساطير والأحلام؛ يبدو طيفها على حاشية الأفق البعيدة بقبابها ومآذنها، كأنه (هو أيضاً) أسطورة ساحرة، يقصها الأفق المشرق على الدنيا، وإلى اليمين
قباب الذهب من الكاظمية، والقبة الخضراء التي ثوى تحتها رمس مُلك شابّ، وشباب مليك، حين ثوى غازي بن فيصل بن الحسين بن عليّ!
لقد لبثت مكاني حتى شملت الظلمة السكون، وضأت المصابيح في شبابيك المنازل فنظرت. . . إليها، أنا الغريب المنفرد، الذي يمضي عيده وحيداً على سطح المسجد، لا رفيق له إلا ذكريات سعادة ولت تؤلمه وتحزّ في قلبه ذكراها، وحبّ مات وليداً، وفكرت في أمري لو أصابني مرض فلبثت هنا شهراً، فمن ذا يصل إلى؟ من يسأل عني؟ وأي فؤاد يخفق من أجلي بعد أن سكت ذلك الفؤاد الذي كان خفاقاً بحبي، فؤاد أمي، إلى الأبد؟ فنظرت إليها فغبطت أهلها إذ يغلقون أبوابهم على الشمل الجميع، والأهل الحضور، والأنس والسعادة.
ونزلت في طريق الحديقة العتيقة، وإذا أنا أتعثر بحجز فنظرت إليه على شعاع ينحدر إليه من مصباح الشارع، فإذا هو قبر متخلف من المقبرة التي كانت هناك في غابر الأزمان، فامتلأت نفسي بصورة الموت، ولم أعد ألمس في هذه الغصون المخضرة إلا الربيع الماضي الذي مات، ولا أرى من الناس إلا قلوباً ميتة دفنت في صدور أصحابها؛ ولا أجد تراب الأرض إلا ناساً كانوا مثلنا وماتوا. . . فأكلت هذه الأشجار أجسامهم، وشربت دماءهم، فمنه كان زهرها الذي نشم عطره، وغصنها الذي نأكل ثمره. . . ولم أر الدنيا إلا موتاً في موت.
وأممت غرفتي وأنا غارق في بحر من الأفكار السود، فسمعت العٍشاء يرنّ في صفا الليل قوياً عذباً يومض ضياؤه في طيات الظلام، إذ يحمل اسم الله منيراً مشرقاً، فقمت إلى الصلاة، فلما قضيت وخرج الناس، رأيت المؤذن ينادي على عادته بذلك الصوت الممدود: الفاتحة! ثم يغلق المسجد وينصرف، وأبقى وحدي، ليس في المسجد ولا في المدرسة غيري، وبينهما باب من داخل، فأعود إلى غرفتي. . .
وما يكاد يكتهل الليل، حتى سمعت الصوت في المسجد كرة أخرى، ولكنه خرج هذه المرة ضعيفاً وانياً، في نغم حزين، من لحن الصبا، فنظرت من شباكي، فإذا في أرض المسجد الذي اشتمل عليه الظلام ثلاثة مصابيح بترولية خافتة النور، تكشف عن نفر من الناس، ولا يبدو منهم إلا أرجلهم وظلال لهم ممتدة فكأنهم الجنّ، أو كأنه فلم مخيف من أفلام ألف
ليلة. . . ثم سمعت تكبيرات الجنازة، فنزلت فرأيتهم يصلون على ميت في نعش.
فسألت: من هذا؟ قالوا: مؤذن المسجد!
فانصرفت لأدوّن في دفتري ما عرض لي ذلك اليوم من صور وخواطر، ثم أضعت الدفتر ونسيت الخواطر والصور. . . وأن في الدنيا موتاً. . .
كذلك أمضيت يوم العيد في دار العلوم، وإني على هذا أشتاقها وأشتهي أن ترجع لي أيامي التي مرت فيها. فيا رحمة الله على أيامي في دار العلوم وعلى من بقي من أهلها السلام!
وإن أنس لا أنس (ليلة البلاط)، يا ليت ليلة البلاط تعود! لقد رجعت أنا وأنور العشية من الأعظمية إلى بغداد، فتركنا السيارات وجفونا الطريق الأعظم، وسلكنا محجّة على رصيف دجلة فسرنا فيها، وكانت تنكشف لنا تارة فنسلكها، وتعتل (طريقها. . .) تارات، فتتيه بين النخيل، وكان النهر أبداً عن أيماننا، يبدو حيناً بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه وعد الوصال، يشرق للمحبّ في ليل الهجران، والأمل البسام يلوح لليائس في غمرة القنوط، ثم يحجبه عنا النخيل ويستره الظلام، كما يخلف المحبوب بدلاله الوعد، وتمحو الحياة بواقعها الأحلام، وتطمس صور الأماني. وكان أنور يحدثني حديث ماضيه فيثير في نفسي عالماً من الذكر الأليمة، كلما نزلت به في أعماق قلبي، ودفنته في هوة النسيان، وحسبته مات. انبعث فجأة، كأنما ولد الساعة، عالم فيه صور أبي وأمي وآمالي وحبي، واستغرقنا في خواطرنا، وغبنا عن حاضرنا، فما نبهنا إلا جندي بحربته المسددة إلى بطوننا وبندقيته الموجهة إلينا، وصاح بنا؛ أن ارفعا أيديكما؛ ففعلنا.
قال: ما أدخلكما حمى (بلاط الملك)، وفي ما أنذركما فلا تقفان؟ لقد هممت أن أرميكما بالنار! وكانت تلم هي الأوامر، ما بعد الإنذار إلا النار، فقلنا: نحن أدبيان، أرأيت أدبياً نفع معه إنذار؛ أو أفاد معه تخويف، ثم إننا برمنا بالحياة لا نرى فيها إلا ماضياً لا سبيل إلى إرجاعه، وأملاً لا وصول إليه، ولو أنت رميتنا لمننت علينا بميتة سهلة، نرجو من بعدها ثواب الشهداء، وإن الموت عسكري درجات، وألوان بعضها أطيب من بعض، وما نظنك سمعت بدعاء الأعرابي الذي سأل الله ميتة كميتة أبي خارجة، لأن هذه الجفوة منك دلتنا على أنك لا تقرأ كتب الأدب. أتحب أن تعرف كيف مات أبو خارجة حتى صار موته أمنيّة؟
أكل حنيذاً، وشرب نبيذاً، ونام في الشمس، فمات شبعان دفأن ريّان!
قال الجندي، ولم يفهم منا شيئاً:
- شنوا أنتو يابه؟
قلنا: نحن معلمون!
فضحك وأرخى سنان بندقيته، وقال: معلمون صحيح، أما غير مخبّلين، (وغير هنا للتأكيد ومخبلين، أي مجانين)! وتركنا نمضي لأن المجنون لا يسأل. . .
تلك هي ليلة البلاط، وإني لا أذكرها إلا أسفت على هذه الميتة الحلوة التي فاتتني، وخشيت ألا أتمكن من مثلها، وأظن أنور آسفاً مثلي، إلا إذا استطاب حياته بعد الزواج وتعليم البنات الأدب. . . أما حياتي أنا فليس فيها لذة تستطاب، وليس فيها ألم يستكره. أعني أنني لست إنساناً يحيا ولكن (شيئاً) يعيش!
مالي كلَّ هذه الليلة ذهني، ولم يسعفني شيطاني؟ مالي أكتب عن بغداد، فلا أذكر من أيامها إلا هذا الحديث التافه، وأيام بغداد، مواسم للمجد وأعياد، ولياليها فرحة الفؤاد، وأسرّة للحب ومهاد، وماضيها مآثر ومفاخر وأمجاد؟
مالي لا أتحدث عن دجلة، ويا طول شوقي إليها، وإلى زوارق المحبين وهي تمضي فيها حالمة سكرى، والأغاني تتراقص على أمواجها ضاحكة مرحى، والسمك المسقوف. خبروني، ألا تزال مرفوعة سقوفه. مشتعلة ناره، أم هوت من هول الحرب الدعائم وانطفأت النار؟
مالي لا أناجي إخواني وتلاميذي الذين عشت دهراً من عمري بهم ولهم، وأسألهم أيذكرون هذا المعلم. . . أم قد مرّ في حياتهم مرور شخص (السينما) ثم تنقضي الرواية، ويسدل الستار، فكأنما لا شخص مرّ بهم، ولا (فِلْم) عرض عليهم؟
أما أنا فاشهدوا يا تلاميذي ويا إخواني أني نسيتكم. أأنسى نجدة وعلياً ونزارَ بن البطل الشهيد، إلا إذا نسى الأدب أولاده؟ أأنسى الأخ الأكبر (بهجة) العراق، وقد طالما قبست الجزْل من فضله، ورأيت الفذَّ من نبله؟ ما نسيت، ولئن كبا بي القلم الليلة، فسأعود إلى الحديث عن بغداد، وما كل مرة يكبو الجواد.
وعلى إخواني وتلاميذي وبغداد وأهلها سلام الله ورحمته وبركاته.
علي الطنطاوي
المدرس (سابقاً) في ثانويات بغداد والبصرة وكركوك
بمناسبة عيد الجهاد الوطني:
مراكش حية. . .!
للأستاذ عبد الكريم غلاب
في يوم 11 يناير احتفلت مراكش بعيد جهادها الوطني، وهو يوم يقف فيه المراكشيون خاشعين أمام قبور شهدائهم الذين صرعتهم بنادق السينيغاليين ومدافع الفرنسيين. يقفون خاشعين ليتذكروا تلك الأيام السود التي حرصوا فيها المراكشيون من كل صوب، وسلط عليهم جحيم المادة، فلم يفقدهم صوابهم، ولم يثنيهم عن عزمهم في استرجاع استقلالهم من الذين استلبوه منهم بالقوة، فعبثوا به واستهانوا بقدسيته. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1944 أعلنت الأمة المراكشية مطالبتها باستقلالها، وقدمت لذلك مذكرة طالبت فيها بإلغاء الحماية الفرنسية على مراكش، وبإفساح المجال أمام الشعب ليسلك سبيله في الحياة الديمقراطية الحرة، وليتمكن من الانضمام إلى إخوانه العرب في الشرق.
ولقد كان لتقديم هذه المذكرة إلى جلالة ملك مراكش والحكومة الفرنسية وسلطات الحلفاء، ولما صاحبه من مظاهر العزم - التي بدت من الشعب - على تحقيق هذه المطالب؛ كان لكل ذلك أثره العميق في الدوائر الفرنسية، فقررت أن تقمع هذه الحركة بكل ما يبقى لها من قوة، وبكل ما يملك أبناؤها من عزيمة صارمة في الدفاع عما يسمونه إمبراطوريتهم. وتقابلت القوة مع الإيمان الأعزل، وكان من ذلك تلك المأساة المروعة التي يندى لها الضمير الإنساني الحي، والتي برع الفرنسيون في تمثيلها. مع العرب سواء في الشرق أو الغرب.
ولكن المراكشيين لم ترعهم هذه المأساة، فقد ألفوا ذلك منذ وطئت أقدام الفرنسيين أرضهم المقدسة في سنة 1912. فالمأساة الأخيرة ليست إلا فصلا من رواية الجهاد الوطني المراكشي الذي ابتدأ منذ ثلث قرن، والذي سينتهي لا محالة بفوز المراكشيين، لأنهم أصحاب حق، ولأنهم أهل لأن ينالوا هذا الحق. لقد دافع المراكشيون عن بلادهم يوم فرضت عليهم معاهدة الحماية، وواصلوا جهادهم في الجبال والغابات الجنوبية، ثم قام الأمير عبد الكريم الريفي يسترد أرض أجداده من الأسبانيين والفرنسيين، وما كاد يضع سلاحه حتى قام الجهاد السلمي ممثلا في الأحزاب والهيئات الوطنية التي انتهى بها
المطاف - رغم ما أصيبت به من نكبات - إلى أن تعلن مطالبة الأمة المراكشية باستقلالها في 11 يناير من سنة 1944.
هذا هو جهاد مراكش الذي يعد صراعاً بين الموت والحياة، وهو إن دلنا على شيء، فإنما يدلنا على أن هذه الأمة الكريمة لن تموت، لأن عناصر الحياة كلها تتدفق في دمها، وهي كفيلة بأن تحفظ هذه الأمة من الانهيار.
وأول عنصر من عناصر الحياة في مراكش هو تأريخها الطويل في الاستقلال والحرية، وقد تسللت حلقات هذا التاريخ منذ عرفت الحياة على الأرض المراكشية، فلم يحكم مراكش غير أبنائها الذين دافعوا عن أرضهم طوال عصور التاريخ إلى أن تآمرت عليهم الدول الأوربية في أوائل القرن العشرين، وكان نتيجة لذلك الاتفاق الإنجليزي المصري سنة 1904 الذي بمقتضاه أطلقت إنجلترا يد فرنسا في مراكش، كما أطلقت فرنسا يد إنجلترا في مصر. وقد أتاحت هذه المؤامرة الفرنسية الإنجليزية لفرنسا أن تفرض حمايتها بالقوة على مراكش، فخرت هذه الأمة صريعة أمام قوة الفرنسيين وغدرهم وخيانتهم. وبذلك وضع حد لتاريخ الاستقلال في مراكش.
والعنصر الثاني من عناصر الحيوية المراكشية هو العنصر الخلقي، فقد ورث هذا الشعب عن أجداده البربر والعرب الأنفة والكبرياء والدفاع عن النفس والصبر والتضحية والاستهانة بالحياة في سبيل كرامته؛ وتلك الصفات - ولا شك - تجعل هذا الشعب من أكثر الشعوب استعداداً للدفاع عن أرضه ونفسه، بل تجعله من أكثر الشعوب شعوراً بالكرامة وتمسكاً بالاستقلال. وقد أدرك هذا أولئك الذين وضعوا أسس الحماية الفرنسية - وفي مقدمتهم المرشال ليوطي - فحذروا فرنسا من الاستهانة بهذا العنصر الحيوي في مراكش.
والعنصر الثالث هو الدين، فالمراكشيون من أشد الأمم تمسكاً بالدين الإسلامي، وهم يدركون إلى حد كبير معنى التدخل الأجنبي في الشؤون المراكشية، ويفسره ابن الشعب في مراكش بأنه تدخل ينافي عقيدته ودينه، وهو من أجل ذلك يعمل على أن يكون صحيح الإيمان سليم العقيدة. وذلك ولا شك عنصر من عناصر الحيوية في مراكش.
وعنصر آخر لا يقل عن العناصر السابقة قيمة، وهو عنصر اللغة. فمراكش تستعمل لغة
واحدة هي العربية، وهي بذلك تتصل بماضيها العتيد، فتستمد منه الوحي والإيمان وتتصل ببقية الشعوب العربية في الشرق التي تكافح وتجاهد في سبيل استكمال استقلالها، وذلك من شأنه أن يجعل شعور هذه الأمم كلها واحداً نحو قضاياها الاستقلالية، ويجعلها تسلك سبيلاً واحداً نحو الهدف الأسمى. ولعل تاريخ الحركات الاستقلالية في البلاد العربية كلها يدلنا على قيمة هذا العنصر ومظهره. فاللغة العربية - إذن - هي السبيل الوحيد لاتصال مراكش بالشعوب العربية في الشرق اتصالاً روحياً ومادياً.
ولسنا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن من أكثر الأشياء حيوية في الشعب المراكشي هو العرش. فالعرش العلوي في مراكش عتيد في التاريخ، لأنه ناهز ثلاثة قرون كاملة. ومن أجل ذلك اتصل العرش بالشعب والشعب بالعرش، وأصبحا يعملان معاً لخير البلاد المراكشية ومصلحتها. وهكذا نجد الشعب يتعلق بملكه المحبوب وخاصة في أوقات الفزع، فينجده جلالة الملك ويرفع عنه عدوان المعتدين.
تلك هي عناصر الحياة في مراكش، وتلك هي الدعامات الأساسية التي تعتمد عليها في دفاعها عن استقلالها، وقد عرف الفرنسيون خطر هذه العناصر، فأرادوا هدمها حتى يتمكنوا من إدخال هذا الشعب تحت إمبراطوريتهم. وعرف المراكشيون بدورهم نية الفرنسيين فقاوموها بكل ما يملكون من قوة. وذلك هو جوهر الصراع بين المراكشيين والفرنسيين منذ سنة 1912. أراد الفرنسيون أن يفصلوا مراكش عن تاريخها ويهدموا خلقها، ويحولوا بينها وبين دينها، ويفرنسوا لغتها، ويقطعوا ما بينها وبين الشرق العربي من صلة، ثم أرادوا أن يفصلوا بين الشعب والعرش.
ولكن المراكشيين تشبثوا بتاريخهم وخلقهم، ثم دافعوا عن دينهم ضد (الظهير البربري) المشئوم سنة 1930، وقاوموا برامج التعليم الفرنسية التي طبقت في مراكش حتى يحتفظوا باللغة العربية كلغة رئيسية في المدارس المراكشية، ثم هم يعملون على أن يضموا إلى الجامعة العربية، حتى يضمنوا بذلك اتصالهم بإخوانهم العرب في الشرق. أما صلتهم بالعرش وإخلاصهم له، فلا تزداد إلا توطداً ونمواً.
تلك خلاصة الصراع في مراكش طيلة ثلث قرن. وقد نجح المراكشيون في الاحتفاظ بعناصر الحياة فيهم، وهم إذ يطالبون اليوم باستقلالهم، فإنما يريدون أن يبنوه على أساس
متين من التاريخ واللغة والدين والخلق. وذلك ما يجعلنا نؤمن بأن مراكش ستصل. . . وأنها حية تسير - رغم ما ينتابها من نكبات - نحو الحياة الحرة الكريمة.
عبد الكريم غلاب
من محاسن التشريع الإسلامي
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
- 12 -
الدعوة إلى الخير
إن من أعظم مزايا الشريعة الإسلامية، وأبرز محاسنها - إرشادها إلى أعظم وسيلة لإصلاح المجتمع، وتنقيته من أدراك الشر والفساد، وخير أداة لإصلاح الأفراد والجماعات، وتحقيق التضافر والتعاون الاجتماعي - تلك هي الدعوة إلى الخير؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من فروض الكفاية، إذا قام به بعض الأمة سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثموا جميعاً ووقعوا في حوب كبير، ولم يكن فرض عين فلم يجب عليهم أجمعين لما ينبئ عنه قوله عز وجل:(وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، ولأنه من عظائم الأمور وعزائمها التي لا يضطلع بها ولا يتولاها إلا من هو أهل لها - والأهلية تتحقق بشروط: منها العلم بالأحكام، ومراتب الاحتساب، وطرق إقامة هذا الواجب، ومعرفة الأحوال المختلفة وما يناسب كل حالة، فإن من لا يعلم ذلك قد يأمر بمنكر، وينهي عن معروف، ويغلظ في مقام اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا تمادياً وإصراراً - كما يشترط في الوجوب التمكن من القيام به، غير أن الأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً - على حسب المأمور به - أما النهي عن المنكر فهو واجب في كل حال لأن جميع ما أنكره الشرع حرام.
وإنما وجب ذلك لأن صلاح الأمة في أمر دينها ودنياها، ونفي الفساد عن الأرض، وتقليل الشرور والآثام - لا يكون إلا بأداء هذا الواجب، فإن الظالمين والمفسدين ومرتكبي الآثام إذا تركوا وشأنهم - من غير نكير - استشرى داؤهم وتفاقم شرهم، وكثر سوادهم، فتقع الأمة في بلاء عظيم وسوء لا مرد له، وتبوء بسخط من الله وعذاب، وذلك هو الخسران المبين.
والأصل في ذلك ما ورد في الكتاب والسنة من تلك النصوص التي جمعت بين القوة
والكثرة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمةُ يدعونَ إلى الخيرٍ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - من أعظم الواجبات وأبعدها أثراً في إصلاح المجتمع - مدح الله به المؤمنات كما مدح به المؤمنين، وجعله من صفات الرجال والنساء معاً، وقرنه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبطاعة الله ورسوله، فقال:(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله).
وجعل الله - جلت حكمته - قيام الأمة بهذا الواجب دليلاً على تمكن الخير من نفسها، ورسوخ خلق الإصلاح فيها فقال:(كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، بل أنبأنا - جل شأنه - أن من أسباب استحقاق بعض الأمم اللعنة أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه:(لعن الله الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وسئل عليه صلوات الله وسلامه عن خير الناس، فقال: آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله، وأوصلهم للرحم)، بل روى عنه أنه جعل الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر خليفة الله ورسوله في الأرض، فقال:(من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه).
وقد ورد في الحديث ما يدل على أن سنة الله في الأمة التي فرطت في هذا الواجب - أن يسومها سوء العذاب، وألا يتقبل دعاء خيارها إذا سكتوا عن منكراتها، فقد روى عنه - صلوات الله وسلامه عليه:(لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم). وقال عليّ رضي الله عنه: (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنئ الفاسقين وغضب الله - غضب الله له).
ولتقصيرنا في أداء هذا الواجب - ظهر فينا الفساد الذي جنى على كثير من آدابنا الاجتماعية، وعاداتنا المرضية، وأخلاقنا الإسلامية، فمتى نثوب إلى رشدنا، وننفذ أحكام
شريعتنا؟!! ومتى ينجم فينا رجال أشداء على الباطل والظلم ليحيوا ما اندثر من السنن القويم، ويجددوا ما رثّ من حبل الدين المتين؟!!، اللهم جدّد عزائمنا، وابعث فينا مشبوب الهمم لإحياء مجد الإسلام ووصاياه وأحكامه، وهيئ لنا من أمرنا رشدا
حسن أحمد الخطيب
توماس هوبز
لالفرد فيبر
للأستاذ عبد الكريم الناصري
كان توماس هوبز (1588 - 1679) المولود في مالمسبرى، من أعمال ولتشاير، صديقاً مخلصاً لآل ستيوارت، وكان ذا حظوة عندهم، بفضل نفوذ تلميذه اللود كافندس.
وقد غاب فيلسوفنا عن وطنه ثلاثة عشر عاماً، فلما عاد إليه انقطع للبحث والتأليف.
غطت شهرة هوبز كمؤلف سياسي وأخلاقي - إلى حد ما - على شهرته كأنطلوجي ونفساني؛ وبغير الحق، فانه السابق إلى المادية، والنقد، والوضعية الحديثة.
يحد هوبز الفلسفة بأنها الاستدلال على المعلومات من العلل، وعلى العلل من المعلولات.
والتفلسف هو التفكير الصحيح؛ ولكن التفكير معناه (أن تركب وتحل التصورات أن تجمع أو تطرح، أن تحسب وتعد. فالتفكير الصحيح إذن هو تأليف ما يجب أن يؤلف، وتفريق ما يجب أن يفرق). ويلزم عن هذا أن الفلسفة ليس لها من موضوع سوى الأشياء القابلة للتركيب والتجزئة، وهي (الأجسام). أما الملائكة، والأشباح والأرواح المحض والله، فليست بموضوعات للفكر والعلم، ولا شأن للفلسفة بها، وإنما هي موضوعات للدين والإيمان، ومردها إلى اللاهوت. وبحسب انقسام الأجسام إلى أجسام طبيعية وصناعية، وأجسام أخلاقية وسياسية، تنقسم الفلسفة إلى: فلسفة طبيعية (المنطق، والأنطلوجيا، والرياضيات، والفيزياء) وفلسفة سياسية (الأخلاق والسياسة). والفيزياء والفلسفة الأخلاقية كلتاهما علم تجريبي، موضوعه الأجسام، وآلته الحس - الحس الظاهر للأول، والحس الباطن للثاني. وليس وراء علم الملاحظة من معرفة حقيقية.
إن هذه المقدمات تسلم هوبز إلى نظرية في الإدراك مادية من كل جهة. فالإدراك الباطن، الذي هو أساس حياتنا الفكرية وشرطها الأول، ليس إلا شعورنا أو إحساسنا بفعل الدماغ. فأن تفكر هو أن تحس والمعرفة تتكون من إضافة الأحاسيس. والإحساس، بعد، ليس إلا حركة تحصل في الجسم. ثم إن الذاكرة، التي تلازم الفكر، ليست شيئاً أكثر من ديمومة الإحساس؛ فتذكرك الشيء هو إحساسك بما سبق أن أحسست به. وليس من الممكن أن تعلل الاحساسات، على طريقة بعض القدماء، بأنها فيوض صادرة من الأجسام ومشابهة
لها. إن أشباح الأجسام هذه، أو - على حد تعبير المدرسين - (أنواعها المحسوسة والمعقولة)، لا تقل بطلاناً عن (الكيفيات المستورة) وأشباهها من فرضيات القرون الوسطى. وإنما الواجب أن نقول: إن الحركة البسيطة التي تثيرها الموضوعات الخارجية في المادة المحيطة بها تنتقل إلى الدماغ بواسطة الأعصاب.
وهوبز يقرر هنا حقيقة خطيرة، عرفها من قبل ديمقريطس، وبروتاغوراس وأرستبس؛ وهي أن الإدراك الحسي ذاتي بالكلية فإن ما ندركه - كالضوء مثلا - ليس موضوع خارجي ألبتة، وإنما هو حركة أو تكيف يحدث في المادة المخية. وليس أدل على ذلك من أننا نبصر ضوءاً إذا لُطمت العين، إذ ليس هذا الإحساس إلا نتيجة التهيج الحاصل في العصب البصري. وما يصدق على الضوء بوجه عام يصدق على تعيناته المختلفة التي هي الألوان. فالحواس إذن تخدعنا حين تلقى في روعنا أن الصوت والضوء والألوان تقوم خارج النفس. إن موضوعية الظواهر وهم خادع، وليست صفات الأشياء غير أعراض لاحقة بكياننا، وما من شيء موضوعي سوى الحركة التي تثير فينا هذه الأعراض، وهي حركة الأجسام الخارجية. . . إن فيلسوفنا ليستدل كما استدل بعده (بركلي)؛ بيد أن الأخير يسير بحجته إلى النهاية فإنه بعد أن يبدأ بمقدمات أهل الحس، ينتهي إلى إنكار وجود الأجسام، وإلى القول بالمثالية الذاتية. أما هوبز فيقف في منتصف الطريق، لأن شيئية المادة عنده عقيدة لا تقبل الشك.
أما النفس أو الروح فإنه يحدها أحياناً بأنها فعل الدماغ، وأحياناً بأنها مادة أو جوهر عصبي؛ ويقول في ذلك: إني أقصد بالروح جسماً فيزياوياً يلطف عن إدراك الحواس. أما الروح (اللاجسمانية) فحديث خرافة. والتوراة نفسها لا تذكر موجوداً من هذا القبيل. إن الإنسان لا يختلف عن الحيوان إلا بالدرجة، إذ كلاهما كائن جسماني. وإذا كان لنا من مزية حقيقية عن العجماوات، فتلك هي النطق. إنا، كهذه الأحياء الدنيا، لا خيار لنا فيما نفعل، وإنما تسيرنا شهوات لا تقاوم؛ وليس للعقل بغير انفعال، ولا للمبادئ الأخلاقية بغير جاذب مادي، أدنى تأثير في إرادة الإنسان؛ وإنما هي مدفوعة بالخيال وما يتوقعه، وبالعواطف والانفعالات: بالحب والبغض والخوف والرجاء.
نعم: (إن الفعل الإرادي هو الذي يصدر عن الإرادة)؛ ولكن الإرادة نفسها ليست (إرادية) -
آنا لا سلطان لنا عليها، ولا يد لنا فيها. لكل فعل سببه الكافي. والقائلون بالاختيار يذهبون إلى أن الفعل الإرادي أو الحر هو الفعل الذي وإن كان للقيام به سبب كاف، فإنه - أي الفعل - ليس ضروريا. وتهافت هذا التعريف ظاهر لا خفاء به. فإنه إذا لم يقع حدث أو فعل ما، فلأن سبباً كافياً لوقوعه لا يوجد. إن السبب الكافي يرادف الضرورة. والإنسان، كسائر المخلوقات، خاضع لقانون الضرورة، للقدر، أو - إن شئت - لإرادة الله؛ والخير والشر، بعد، معنيان نسبيان، فالأول يرادف الموافق أو المرضى، والثاني يرادف المكروه أو الغير الموافق. و (المصلحة) هي الحكم الفصل في الأخلاق وفي كل شيء. أما الخير المطلق، والشر المطلق، والعدالة المطلقة، والفضيلة المطلقة، فأوهام ابتكرها العقل اللاهوتي، وما بعد الطبيعة. . .
إن فلسفة (هوبز) السياسة تتفق مع هذه المقدمات الأنطلوجية. فالحرية ممتنعة عنده في ميدان السياسة، كما هي ممتنعة في ميدان الأخلاق، وميدان ما بعد الطبيعة. وإنما الحق للقوة، في الدولة وفي حال الطبيعة على السواء. وحالة البشر الطبيعية عبارة عن (حرب الجميع (ضد) الجميع). والدولة هي الوسيلة التي لا بد منها لوقف هذا الصراع. وهي تحمي حيات الأفراد وأموالهم في مقابل خضوعهم لها خضوعاً مطلقاً. فما تأمر به خير، وما تنهي عنه شر، وإرادتها هي القانون الأعلى.
لا نريد أن نقف عند هذه النظرية التي تقول بضرورة الحكم المطلق، والتي هي النتيجة المنطقية لمذهب المادة. وإنما نريد أن نشير - في ختام هذا البحث - إلى أن هوبز يختلف عن بيكن في ناحيتين هامتين: أما أولاهما فهي أنه يقول بنظام ميتافيزيقي: النظام المادي. وأما الثانية فهي أنه يعطي القياس قيمة تفوق قيمته عن بيكن. لقد أغفل هذا الأخير، حين جعل الاستقراء المنهج الكلي، أمرين:
1: الدور الذي يلعبه الاستنتاج في الرياضيات.
2: الدور الذي لعبه العنصر الرياضي والنظر القبلي في مكتشفات القرن الخامس عشر. ومن هنا فإن هوبز يقف موقفاً وسطاً بين مذهب التجربة الخالص ومذهب ديكارت العقلي.
(بغداد)
عبد الكريم الناصري
ماثيو أرنولد
،
للأستاذ خيري حماد
- 5 -
آراؤه السياسية:
كان أرنولد محافظاً معتدلاً، ورغما عن أنه لم يرشح يوماً ما لعضوية البرلمان إلا أنه كان شديد الميل للسياسة. وقد ظهرت هذه الرغبة جلية في السنين الأخيرة من حياته؛ فلما نزع يده من الأمور الدينية اشتغل يبحث المسائل والمشاكل السياسية بحثاً استنفد قسماً كبيراً من اهتمامه ووقته. وكانت له من تجاربه في وظيفته الحكومية حنكة سياسية يندر أن توجد في أمثاله. ناهيك عن قدرته على استطلاع خفايا المشاكل العويصة وطريقة حلها بأسلوب منطقي محكم لاسيما وقد امتزج بسائر طبقات الشعب فعرف عنهم جميع صفاتهم وأخلاقهم.
ولكن أولى مهامه السياسية باءت بالفشل الذريع، فقد عارض بكل قواه قانون الدفن. ولكن جهوده السياسية كانت خائبة فطبق هذا القانون مدة طويلة من الزمن، وكان يرهب نتائج الحكم اللامركزي ويعارضه بكل قواه، فجاهد في سبيل القضاء عليه جهود الجبابرة، ولكنه لسوء حظه فشل للمرة الثانية وباء بالخسران. ولتبرير سقوطه كتب قائلاً:(لست أدعي السياسة، ولكني شخص عادي أبصر بهذه الحالة التي تسود البلاد. ولم يعتمد على أنصار وأحزاب منظمة؛ بل جاهد بمفرده ليسعى في إنالة بلاده قسطاً أوفر من المدنية).
وفي مقدمة مقالاته الأيرلندية نراه يكتب: (إن دهاة القوم وكبار الساسة ليعارضون فضول رجل أديب مثلي. ولكنهم في الحقيقة لم يعارضوه إلا عند مخالفته لآرائهم السياسية. وفي الجدال السياسي الذي حدث سنة 1886، نرى كلا الطرفين من أنصار الوحدة والحكم الذاتي في أيرلندة يعتزون بانتساب عدد من الأدباء والكتاب لحزبهم.
وكل محاولة لتبيان آرائه السياسية تعد ناقصة إذا لم تتناول عقيدته في الحكم الذاتي لأيرلندة. فقد عارض بقوة قانون الحكم الذاتي الذي صدر سنة 1886، وكتب إلى جريدة التايمس مقالاً يحتج فيه على السياسة الخرقاء التي يرتكبونها بسن مثل هذا القانون. وفي هذا الاحتجاج نراه يعدد المساوئ التي يرتكبها القوم في أيرلندة وطالب بإزالتها والقضاء
عليها. واقترح إنشاء نظام حكومي في أيرلندة يرتبط تمام الارتباط بالحكومة المركزية في لندن.
وهذه المحاولات العديدة التي قام بها من الناحية السياسية لم تكن كافية لإقناع القوم بشخصيته كسياسي بارع. فلم يصبح عضواً في البرلمان ولم تكن له القوة يوماً ما لإدارة دفة الإنتخاب، ولكن عند وفاته نرى البرلمان يعلن الحداد عليه رسمياً مدة ليست بالقصيرة، مما يدل على تأثرهم بنظرياته وآرائه التي كان لها شأن عظيم في التأثير على أفكار القوم، ووضعها في الصورة التي يريدها.
وفي الحقيقة كان أرنولد حر الفكر يجاهد في سبيل إعطاء سائر الأمم المستعمرة حريتها وخاصة أيرلندة. ولكن هذه الحرية لا تعني انفصال هذه المستعمرات انفصالاً تاماً عن الحكومة المركزية؛ بل تظل تهتدي بهداها وتستن سننها.
كتبه ومؤلفاته:
إن من الصعب علينا في هذا المقال القصير أن نحاول تحليل جميع الكتب التي ألفها أرنولد من أدب وشعر وفلسفة ودين. ولكني أكتفي بتحليل بعض مؤلفاته تحليلاً موجزاً يظهر لنا نبوغه وعبقريته الأدبيتين. وهذه المؤلفات هي: -
1 -
أمبر وكليس على جبل أتنا
ظهر هذا الكتاب سنة 1852 يحوي بعضاً من خير القصائد التي كتبها المؤلف فقابله الجمهور بفتور شديد مما كان يدعو إلى يأس أرنولد وقنوطه لولا التشجيع الذي قابله به الشاعر روبرت براونينج المشهور. ويشتمل هذا الكتاب على قصائد عدة أهمها (أشعار الذكرى) التي قالها في رثاء الشاعر الكبير وليم وردزورث. ومطلع قصيدته كما يلي:
(لقد دفن جيتي منذ مدة طويلة في مدينة ويمر.
(وقد شهدت بلاد اليونان جهاد بيرون الطويل وموته
(ولكن وفاة هذا العظيم كانت منتظرة منذ مدة طويلة
(لتخمد جذور الشعر.
(ما الذي يمكننا أن نقوله في وصف وفاة وردزورث؟)
وقد أعجب براوننج بهذا الكتاب إعجاباً شديداً دعاه إلى إعادة طبعه مرة ثانية سنة 1867. فكلا الموضوع والأسلوب كلاسيكي جذاب. وقد وصف أرنولد أمبدوكليس وصفاً دقيقاً وأظهره بصورة فيلسوف يوناني ولد في جزيرة صقلية في القرن الخامس قبل الميلاد وفلسفته الباقية لدينا تدل على تصوفه وعلى حياة الأحلام التي كان يحياها.
والأغنية التي يناشد أمبدوكليس كما نه بها لا تقل عن قصيدة (ربي بن عزرا) في القوة والخيال الشعريين فهي تحوي بعض الأبيات الرائعة كقوله:
(قد نرغب في الحصول على الهدوء النفسي.
(ومع ذلك فإننا لا نتطلع إلى أنفسنا.
(ونحب القضاء على التعاسة والبؤس.
(بينما لا نحاول الامتناع عن الشرور والآثام).
وأكثر أبيات هذه القصيدة روعة هي أغنية غالسيس في نهايتها.
(إن هذه الأمكنة لا تصلح لسكناك أيها الإله العظيم أبولو.
(ولكن حيث تلتقي الجبال الغربية بصخور الشواطئ والبحار.
ويتممها بقوله:
(لقد أتى أبولو قائداً.
(بفرقته الموسيقية المؤلفة من تسعة أشخاص.
(فالقائد جميل.
(وكل الأعضاء من أهل السماء).
وجمال هذين المقطعين يتلخص في احتوائهما على بعض الاصطلاحات الشعرية ويمتاز المقطع الأول بأسلوبه الشعري الذي يعد أسّاً من أسس الفن والأدب.
والقسم الثاني من هذا الكتاب يشمل على أقصوصة تريسترام والفنانتين الملقبتين بأيسولت. وقد أحب تريسترام إحدى هاتين الفنانتين ولكنه اضطر إلى الزواج من الفتاة الأخرى. ولم يكن أرنولد موفقاً جداً في سرد هذه القصة لأنه لم يتمها ولكنه جاء بها بطريقة جذابة. وبعض أبياتها لا يسعنا إلا تردادها لنشبع شهوتنا باللذة التي تجنيها منها:
(إن صوتها ليعلو على الضوضاء فيصل إلى أذني.
(وأرى لآلائها من خلال الرماح المتشابكة.
(فتظهر ميتة تحت غطاء الشباب والعنفوان).
وليس من المستحسن قراءة هذه القصيدة للقصة التي تحكيها. فهي أشهر من أن تقرأ في مثل هذا الشعر الذي لا يظهرها بل يحافظ على غموضها وإبهامها. ولكنها تقرأ في نفسها لهذه الأبيات الرائعة التي لا يمكن نكران قوتها وعذوبة أسلوبها.
2 -
رستم وسهراب
أجمع محبو أرنولد على أن هذه القصيدة من خير ما نظمه الشاعر. وقد ظهرت لأول مرة سنة 1853 تحمل بين ثناياها جمالاً طبيعياً مبتكراً يندر أن يوجد في قصائده الأخرى. فهي قصة بطولة أسيوية نظمها الشاعر في قصيدة من الشعر المرسل متبعاً فيها أسلوب الشاعر اليوناني العظيم هوميروس في إلياذته. والقصة في حد ذاتها رائعة ولكنها طويلة، ولا يمكنني سردها في هذه الرسالة لطولها. ولكنها تتلخص في مبارزة وقعت بين والد وولده وكلاهما يجهل صاحبه. سقط الولد صريعاً فعرفه الوالد وحزن حزناً شديداً لقتله ولده. صمم على الانتحار فشجعه الولد بقوله:
(لا ترغب يا والدي في الانتحار - يجب عليك أن تعيش.
(لأن كثيراً من الناس خلقوا للقيام بأعمال جليلة في حياتهم.
(بينما هناك كثيرون قدّر عليهم أن يعيشوا مغمورين الذكر ثم يموتون.
(وإني لأتوسل إليك أن تقوم بجلائل الأعمال التي كنت
(أتوق لعملها فتجني نصراً آخر وفخراً في حياتك)
يقلد أرنولد هوميروس في سهولة وبساطة. فهذه القصيدة تحوي مشاعر خيالية رومانتيكية تعبر عنها تضحية الشاب في سبيل القيام بجلائل الأعمال وعظائمها. فيموت في الآونة الأخيرة التي كان يطمح فيها أن يصبح من كبار المحاربين والأبطال مقتولاً بيد والده الذي يجهله ولا يعلم بوجوده.
3 -
ميروب
في هذه الرواية التمثيلية نرى أرنولد يحاول أن يجعل من بوليفونتيس ملكاً قوياً عاقلاً يقوم
بخير الأعمال للتكفير عن الذنوب العديدة التي ارتكبها أيام شبابه. ولم يكن أرنولد في هذه الرواية موفقاً تمام التوفيق لأنه لم يخلق فيها شخصية تجتذب الجماهير وتأسر قلوبهم. ومع أن أسلوبها يوناني صرف إلا أن تقليده ليفوق تقليده في رواية (الاطلانتيد في كاليدون) أما من حيث الجمال والروعة فإن (ميروب) تقصر بكثرة عن سابقتها التي مع شذوذ أسلوبها وعدم ترتيبه تحوي روحاً فنية خالدة. فميروب جسد بلا روح وهي لا تحوي العاطفة التي تتقد في الرواية الأخرى.
وقد نجحت الرواية نجاحاً لم يكن ينتظره مؤلفها وبيعت بكثرة في الطبقات الراقية من الأمة، بينما طبقة العامة لم تأبه لها لعدم تفهمهم الآراء الفلسفية العديدة التي يضمنها فيها. وفي القصائد التي تحويها أبيات رائعة خالدة. ومنها هذه الأبيات:
(إن الطغاة ليجعلون من البشر رجالاً حسني الأخلاق
(أكثر مما يتظاهرون). أو
(إن تاجك ليقضي عليك بينما لسانك ينقذك مما يحل بك)
أو الأربعة أبيات التالية:
(اسمع هذه الضوضاء التي تنبعث من الشوارع الأخرى
(واسمع ما يحدث من قتل الناس في مثل هذه القاعات
(وهكذا تحكم أنت كما كان والدك يشاء ويهوى
(أو تحكم فتجعل من أعدائك عبيداً يخضعون لأمرك)
وجميع هذه الأبيات تخلو من القافية والوزن، ولذا فأنها عدت خشنة الأسلوب مع احتوائها لبعض الأفكار المألوفة.
ولكنا لو أردنا مقارنتها مع غيرها من روائع الشهر لعدت من سقط المتاع.
4 -
مقالات في النقد:
ظهر هذا الكتاب سنة 1865 ويعد من أحسن مؤلفاته في عالم النثر؛ فهو المحور الرئيسي الذي يرتكز عليه نقده، وتعتمد عليه شهرته. ومع قلة انتشاره بين طبقات الشعب؛ إلا أن جمهرة النقاد أعجبوا به أيما إعجاب. وقد أحدث حركة جديدة في عالم النقد الإنكليزي. فهو لم ينتقد في كتابه هذا جمهرة الكتاب ولكنه علم الآخرين كيف ينتقدون؛ فوضع قواعد جديدة
يسير عليها النقاد في البحث والتحليل.
وفي الطبعة الثانية من كتابه هذا كتب أرنولد مقدمة قيمة يخاطب فيها جامعة أكسفورد خطابه الشهير الذي يقول فيه: (إنها مدينة جميلة، صفحتها بيضاء ناصعة لم تلطخها الحياة العقلية التافهة التي سادت البلاد مدة من الزمان).
وفي هذا الكتاب وضع أرنولد بعض قواعد في علم النقد، منها ما هو مهم ومنها ما هو تافه.
ومن شروط النقد في رأيه الرغبة والميل. فكل ما هو مرغوب حسن وقيم والعكس بالعكس. وفي هذا الكتاب يعرف مؤلفنا الشعر بقوله: (الشعر هو أحسن الطرق في الدلالة على الأمور وأكثرها تأثيراً في نفوس القراء).
ومن آرائه القيمة في عالم النقد الطريقة التي خالها أحسن الطرق في دراسة الشعر والتفكير فيه. فقد أعتقد أن أهم ما يتوخاه دارس الشعر هو الفكر أو الغاية. فالفكر هو الحقيقة الراهنة التي يبنى الشعر على أساسها. ولا شك أننا بعد مدة قصيرة سننظر إلى الشعر كالوسيلة الوحيدة لتفهم الحياة ودراسة مناحيها المختلفة؛ فبدونه لا قيمة للعلوم وسيأتي يوم عما قريب يحل فيه الشعر محل الفلسفة والأديان. فقديماً دعاه وردزورث بخلاصة روح المعرفة أو بالنتيجة المتوخاة في عالم العلوم والمعرفة. وما الدين والفلسفة إلا خيالات وأشباح تجول جولاتها المعهودة في عالم المعرفة. وسيأتي يوم عما قريب ننظر فيه نحوهما نظرة المستخف المهمل فنشعر بسخافتهما وقلة ما فيهما من المدارك والمعلومات.
(البقية في العدد القادم)
خيري حماد
هذا العالم المتغير:
هل يكشف الفيتامين عن سره؟
للأستاذ فوزي الشتوي
الفيتامين والأكسوجين:
يسجل الفيتامين في هذه الأيام صفحة جديدة في تاريخ الصحة البشرية وعلاج العقم الإنساني والروماتيزم ووجع الظهر وكل ما له صلة بتليف العضلات وتصلبها. وهو يطرق اليوم وادياً جديداً غير الوادي الذي عرفناه فكلنا يدرك أهمية الفيتامين للاحتفاظ بالصحة ولكننا لم نعرف السبب.
ويدور الآن بأذهان العلماء سؤال: ما هي العلاقة بين كمية الفيتامينات في الجسم والتفاعل الأكسوجيني مع أعصابه وعضلاته؟
ولا يجول هذا السؤال في أذهانهم عن مجرد تخمين أو فرض خيالي، بل تدعمه حقائق واكتشافات علمية. وله قصة طويلة بدأت عام 1922 حين اكتشف فيتامين وخلاصتها أن حيوانات التجارب تصاب بالشلل إذا حرمت منه. فإذا استخرجت عضلاتها الملتهبة وجدتها مخرمة كقطعة جبن نخرها الدود.
وقيست كميات الأكسوجين التي يستنشقها حيوان التهبت عضلاته فوجد أنها تتضاعف مرتين ونصفاً عن الكمية التي يستهلكها وهو في صحته، ومن ثم نبت الفرض العلمي بأن فيتامين يحفظ أنسجة الجسم من الاحتراق بالأكسوجين ويمنعه من التأثير عليها. ويقصر عمل الأكسوجين على مهمته الأساسية التي نعبر عنها بالتنفس.
تأثيره على العقم:
ظنّ العلماء على أثر اكتشاف هذه المادة أنهم وفقوا إلى علاج يشفي حالات العقم في الإنسان ويزيل الأسباب التي تقضي على الأجنة وهم في بطون أمهاتهم أو بعد ولادتهم بفترة معينة. واحتضن البحث عالم دانمركي اسمه فويت موللر.
واختار العالم 74 امرأة يلدن الأطفال أصحاء، فلا يلبثون أن يقضوا نحبهم بعد سنة أو بضعة شهور. واتبع في علاجهن إعطاءهن مقادير وافرة من زيت الحنطة الكريه الطعم
وهو أغنى مصدر لفيتامين ونجحت تجربته ولكن إلى حد، فإن 59 امرأة فقط تيسر لهن القدرة على ولادة أطفال أصحاء لا تتأثر حياتهم بالعوامل الخارجية. وظلت الباقيات محتفظات بسيرتهنّ الأولى يعانين الحمل والوضع ويرين أطفالهنّ في شعورهم الأولى ثم يوارينهم التراب.
وجربه العالم مراراً فكانت النتيجة واحدة ولم يصل إلى حل حاسم لجميع أطراف الموضوع بل وجد العلم سبيله إلى اتجاه آخر يؤدي إلى فكرة جديدة، فلوحظ أن حيوانات التجارب إذا منع عنها فيتامين تصاب بالشلل، كما لوحظ أن نشاط القردة في تسلقها الأغصان يقل كلما قل نصيبها منه حتى إذا وصل النقص إلى حد معين رقدت مشلولة بدون حراك.
وكان من الطبيعي أن تشرح فإذا بعضلاتها كالمصفاة بتناوبها الثقوب، وإذا العلم يلمس ناحية من المرض المعروف بتصلب العضلات فأية علاقة بين الفيتامين وبين العضلات؟
اتجاه جديد:
والمعروف أن تصحيح العضلات والأعصاب إن انتابتها مثل هذه الأعراض من المسائل التي يعجز الطب عن إرجاعها إلى حالتها الأولى، فهي في عالم العلاج بمثابة ساق يفقدها الإنسان ولن يفيد لإعادتها أية جرعة أو أي دواء ولكن فيتامين أرسل في العلماء بصيصاً جديداً من الضوء.
فهل آلام العضلات إنذار ينقص كميات فيتامين
إننا نسمي التهاب العضلات بأسماء مختلفة فأن كانت في الظهر سميناها لومباجو وإن كانت في الساق سميناها روماتزما، ومنشؤها واحد. وهي بأنواعها وأسمائها المختلفة منتشرة بين الناس.
وتوافر الدكتور شارلس ستينبرج من أمريكا على البحث فاختار 60مريضاً وغذاهم بجرعات كبيرة من فيتامين فبرئ منهم 55 من أمراضهم في مدة تراوحت بين ثمانية أسابيع وثلاثة وثلاثين ولكن آلامهم توقفت عقب الأسبوع الأول.
من ذكريات الطفولة:
وصادف الأطباء عقبة تحول دون استخدام فيتامين على نطاق واسع فأن الحصول عليه
بالطرق الصناعية التي اكتشفت عام 1938 كانت باهظة التكاليف فيساوى الرطل الواحد منه 360 جنيهاً إلى أن ظهر كيماوي اسمه هكمان كان يشتغل في تجارب تجفيف الأفلام في مصانع كوداك. وكان يجرب إحدى طرق التجفيف في أنبيق مفرغ من الهواء للحصول على ضغط منخفض يساعد على سرعة الغليان بدون ارتفاع كبير في درجة الحرارة.
وفي أحد الأيام كان هكمان يسير الهوينا في طريقه فوقف قبالة أحد الحوانيت يرقب معروضاته، وهناك شهد زجاجات زيت كبد الحوت، فأحس بالقيء يتولاه، إذ ذكر طفولته حينما كانت أمه تجرعه مادته الكريهة التي عافت نفسه طعمها ورائحتها فسأل نفسه:
- لماذا لا يستخرج الفيتامين الحيوي من هذا الزيت المؤلم؟ لماذا لم يجمعه العلماء في أقراص صغيرة يبتلعها الإنسان فلا تتلوى أمعاؤه؟
وشغلت الفكرة باله، فما كاد يرى الأنبيق المفرغ من الهواء حتى طرأت على ذهنه تجربة: فلماذا لا يغلي ذلك الزيت في الأنبيق فيتيسر له الحصول على مبتغاه دون أن يقتل الفيتامينات؟ وهرع إلى الحانوت ثانية، فأشترى زجاجة من زيت كبد الحوت، وعاد بها إلى أنبيقه لينفذ فكرته.
ونجحت التجربة وولدت صناعة جديدة، وافتتح مصنع كوداك فرعاً جديداً لتقطير الزيوت، فلما أعلنت الحرب وحرمت الولايات المتحدة من حيتان النرويج وزيتها غذت المصانع الشعب بالفيتامين المستخرج من أسماك المياه الأمريكية.
من مخلفات المصانع:
وتحول (هكمان) إلى فيتامين يجرب استحضاره، وكان هدفه الإنتاج الرخيص الهين. وكان من اليسير أن يستخرجه من زيوت الحنطة، ولكنها كانت غالية الثمن مما يتعذر معه إنتاج الفيتامين بأثمان ميسورة للفقراء ورقيقي الحال.
وفكر في زيوت النباتات وأهمها حبوب الصويا والفول السوداني وبذرة القطن. والمعروف أنها تحتوي على واحد في الألف من فلما مرت في عمليات الحزم والضغط، وجد أن فيتامينها قل إلى النصف، فأين ذهب النصف الآخر؟
ووجه همه وهم أتباعه إلى مهملات المصانع التي تستغل هذه الزيوت، فوجد النصف الباقي قد تسرب إلى قاذوراته ومهملات من أوراق لف ونباتات حزم. وإلى كل مكان
انتقلت إليه الحبوب أو زيوتها.
ومن هذه المخلفات التي تعودت أن تلقيها المصانع (كزبالة) استخرج مادته الثمينة بتقطيرها بالأنبيق المفرغ، فهبط ثمن رطل الفيتامين من 360 جنيهاً إلى عشرة جنيهات. ووجد الناس وفرة من مادته كما تيسر للأطباء ومعامل التجارب ما يساعدهم على الاستمرار في أبحاثهم.
ويحتاج جسم الإنسان من هذا الفيتامين في كل يوم إلى كمية تتراوح بين 10 - 30 ملليجرام أي ما لا يتجاوز ثمنه بضعة مليمات.
وكثير من آلام الظهر والمفاصل تنتج من تأثير أمراض أخرى ليست وحدها كفيلة بإلقاء المريض في فراشه، ولكن إحداثها للألم يلزم المريض الفراش شهوراً وسنين، فكان من المباحث الرائعة أن عولج أولئك المرضى بحبوب فيتامين فزالت آلامهم وعادوا إلى أعمالهم.
ويكثر فيتامين في ردة القمح والخضراوات، ولاسيما أوراقها والإكثار من التغذية بها مفيد جداً للحوامل وأطفالهن. ويعد حيوياً لصحة الأعصاب والعضلات، ولعل هذا البحث يفسر عادة المرضعات عندنا من الإكثار من أكل الفجل والجرجير.
قلم حبر لسنة كاملة:
سجلت إحدى شركات صناعة أقلام الحبر، قلماً عادياً جديداً يستطيع الكتابة في الماء على عمق خمسين ألف قدم فلا يؤثر الماء على الحروف ولا يزيل المداد.
ويتغذى سن هذا القلم بنوع جديد من المداد يجف بمجرد ملامسته لورقة أو قطعة قماش أو أي مادة صالحة للكتابة. ويصلح خزانة لتغذية القلم مدة سنة كاملة يتغير بعدها بخزان جديد.
ولهذا القلم أهميته في اكتشافات أعماق البحار، فكثيراً ما كان الغواصون يفقدون حياتهم نتيجة لحوادث تحدث لهم وهم في الأعماق فلا يدري أحد ماذا حدث أو الأسرار التي رأوها في الأعماق وبواسطته يدونون ملاحظاتهم فيستطيع زملاؤهم معرفتها.
ومن الطبيعي أن فائدته قد تعم المدنيين، فكثير من مستخدمي أقلام الحبر يتضايقون من عمليات ملئه بين يوم وآخر، ولكن مثل هذا القلم سيوفر عليهم ملأه عاماً كاملاً لا يخشون
فيه نفاد مداده.
عصر الطيران يبدأ:
بدأت المطارات الأمريكية تهتم بتنظيم حركة مرور الطائرات المدنية فتضع في طرقها علامات لسير الطائرات والسيارات. فالمعروف أن الطائرات تحتاج إلى طرق خاصة لهبوطها ولوضعها في حظائرها.
وتنتظر شركات أمريكا أن يقبل شعبها على الطيران إقباله على السيارات فيصبح لكل فردين من السكان طائرة كما هي الحال في السيارات. وتصمم مصانع الطائرات أنواعاً من ذات الراكبين، منها يصعد عمودياً وما يحتاج إلى مسافة لسيره.
وقد وضع مطار لاجارديا لافتات يديرها رجال البوليس كما يفعلون مع السيارات. وهذه اللافتات مؤلفة من جزأين أحدهما يأمر بسير الطائرات والآخر يوقف الطائرات ويسمح للسيارات بالمسير.
14مليما للميل بالطائرة
وتنتج شركات الطيران البريطانية طائرات صغيرة تصلح لنقل 12 راكباً أو حمولة طن من البضائع ولكن عملها سيقتصر على المسافات القصيرة.
ومدى طيران هذا السفن الهوائية 450 ميلاً تسيرها بسرعة 125 ميلاً في الساعة ويتكلف مسيرها 14 مليما في الميل الواحد.
ويقول غواة الرحلات الخلوية إن هذا النوع صالح جداً للرحلات الخلوية وأعمال الكشافة لأنها مصنوعة مثل سيارة نقل كبيرة يسهل تحويلها لشتى الأغراض.
فوزي الشتوي
بعد الحرب
للأستاذ كمال النجمي
لمن أربع يشجو القلوب دثورها
…
تحمل أهلوها وأقوت قصورها
منازل كم باتت بأمن وغبطة
…
ونازٍلها غافي العيون قريرها
تحيّفها الموت الوحٍي فأصبحت
…
بلاقع تهتاج الدموعَ قبورها
نعم درست من حسنها كل لمحة
…
إذا ذكرتها النفس هٍيج ضميرها
ولولا يد للحرب ما غيل أمنها
…
ولا باعد السَُمَّار منها سرورها
سلوا: أين أوربا وما شاد أهلها
…
وأين مجاليها الفساح ودورها؟
وأين رياض أثَّ منهن كرمها
…
وأين دنان طاب فيها عصيرها؟
وأين صباياها الملاح سوافرا؟
…
وهل حبَّب الأقمار إلا سفورها؟
معاهدُ فيها للقلوب منازه
…
أضاءت لياليها الحسان بدورها
لسرعان ما جال الردى فأدالها
…
كأن لم يكن ريَّ القلوب حبورها
سلوا غائل الأرباع لو يُسأل الردى
…
ألم تجن موتاً إذ زهاها غرورها
تملكها زهو القويَّ فأوفضت
…
جوارح تغتال اليمام صقورها
فأين ليوث يتقي الدهر بأسها
…
إذا ما دأت هز السماك زئيرها
تباهي بها الجرمان حتى تبددت
…
حزائق أسرى لا يُعدُّ غفيرها
وما العاشقون الحرب إلا عصابة
…
إذا مُكٍّنتْ في الأرض فاضت شرورها
وليس الذي يستبعد الخلق بطشه
…
بناج إذا ما غيظ يوماً شعورها
فهل مُبلغ عنا بني مصر عصبة
…
حموا أمماً أن تُستباح ثغورها
بأنا وقد كنا لهم خيرُ مسعد
…
إذ الحادثات الدهم طمّ نكيرها
نذكٍّرهم والحرب أُخمد وقدها
…
بما قطعوا والحرب ذاكٍ سعيرها
بذلنا لهم أمناً ومالاً وأنفساً
…
يجل عن الحصر القليل وفيرها
ولما دجا ليل الخطوب وأشرقت
…
قناتهمُ أن يُستلان عسيرها
مددنا لهم راح المعونة بَرَّةً
…
تعاضدهم حتى انجلى قمطريرها
وإن وردت أجنادهم حوض وقعة
…
فنحن لها خلف الخطوط ظهيرها
منحناهم من قوتنا ونفوسنا
…
فهم أمة جازت ونحن جسورها
ولم تنس مصر دورها إذ تقوضت
…
وغيل بها ولدانُ مصرَ وحورها
تعاورها (الأعداء) بضعة أشهرٍ
…
ولم تك إلا الدهر طولا شهورها
طوائرُ تجتاز السماء مغيرةً
…
ألا شد ما راع النفوس مغيرها
إذا زأرت هبَّ الرقود كأنما
…
دعاهم إلى يوم القيامة صورها
أصابت رجالاً آمنين وروّعت
…
صغاراً وشيخاناً يجل وقورها
إذا قوضت من لندن بعض دورها
…
على الرغم مما زاد عنها نسورها
ففي مصر أمثال لذاك عديدة
…
إذا أُنصفت لا يُستقل كثيرها
ولما سطا (روميلُ) سطوة ظافر
…
وبان من المهواة حيناً شفيرها
وقفنا لهم دون الحوادث وقفة
…
تغنت بها أقلامهم وصريرها
وكنا لهم أعوان صدق تحاشدوا
…
على المحنة الكبرى فهان خطيرها
صبرنا لها حتى تبلج فجرها
…
وأذَّن بالنصر المبين بشيرها
فيا حلفاء النيل أين مواثق
…
منمقة ألفاظها وسطورها؟
صدحتهم بها فوق المنابر عذبة
…
كما صدحت فوق الغصون طيورها
فكانت حداءً ساقنا عذبُ لحنه
…
كقافلة تُحدى فتدأب عيرها
فهل حان تحقيق الذي قد قطعتمُ
…
وآن لمصر أن يبين مصيرها؟
ولسنا وإن كنا السِّماحَ ضيافة
…
سوى أُسدِ غيلٍ لا تُرام ظهورها
أنلقحها حرباً عواناً إذا انجلت
…
عدانا ولم يعد الأباعد خيرها
وكيف يذيق النيل أولها لظى
…
أليماً ويغتال الرجاَء أخيرها؟
على أننا نرجو اعتدال أمورنا
…
وحق لمصر أن تصح أمورنا
بني مصر إن الأرض خيس ضياغم
…
فهل أنتم مثل الضعاف جزورها
حييتم حياة المسنتين لتنصروا
…
قضية قوم لا يُضام نصيرها
فها هي ذي أمنية النصر حققت
…
وجلجل في سمع الوجود نضيرها
ولا أرىَ إلا أن تهبوا جماعةً
…
فما صلحت دار تشظى عشيرها
لنا وطن حر نريد حياته
…
كما حي عملاق الدنا وصغيرها
وأنفس أحرار إذا سيمت الأذى
…
رأى عسلا صابَ المنون غيورها.
وإنا وإن نيأس من الشيب إذ جروا
…
لإحراز أسلاب يُذم حقيرها
لفينا شباب يعجب المجد فعلهم
…
هم روح مصر في الحياة ونورها
فإيه بني مصر دعتكم بلادكم
…
وما غيركم من جور عاد يجيرها
سراعاً صغار النيل لبوا نداءه
…
فقد خذل الأوطان ضعفاً كبيرها
وما غيركم ينتاشها من عذابها
…
ويطلقها من بعد ما ضاق نيرها
فكونوا لها جيش الخلاص فإنكم
…
نفوس زكت حتى أضاء طهورها
بني مصر قد حان التفات لأخوة
…
تبيت من البلوى بحرِّ صدورها
إذا العدل لم ينظم بني مصر كلهم
…
فأقرب شيء أن يجوع فقيرها
عجبت، وهل في مصر إلا عجائب
…
إذا خطرت في نفس حُر تثيرها؟
للصانعين الخبزَ واللبس كسرةٌ
…
وخرقةُ جلباب تهاوت ستورها
وللنائمين المترفين نعيمها
…
وآكلها موفورةً وحريرها
لهم بُر مصر طامعين وشُهدُها
…
وللشعب منها فُومُها وشعيرها
ألا مصلح فينا فيدرأ ديمة
…
إذا انبجست أعيا الجهود مطيرها
كمال النجمي
البَريدُ الأدَبيَ
مقاطعة الصهيونية:
كان الأستاذ عادل حمزة بدير من المحامين المعروفين في دمشق وكيلاً لجماعة من يهود فلسطين في قضية مهمة في محكمة الاستئناف في دمشق موضوعها ملكية قرية على حدود سورية له منها فائدة ومنفعة وأجر كبير، فلما قُررت مقاطعة الصهيونية، رأى أنه لم يعد يجوز له السير في القضية، فكتب إلى موكليه أنه قد عزل نفسه من الوكالة تنفيذاً لقرار الجامعة العربية وأبلغهم وجوب حضورهم بأنفسهم المحاكمة، أو توكيل غيره، وأنه مُرجع إليهم الأجر المقدم الذي دفعوه له.
أخبرني بذلك، فرأيت فيه مأثرة تستحق أن تنشر في الرسالة مجلة العرب، وقدوة صالحة يقتدي بها، فأنا أنشرها وأبعث إليه بإعجابي وإكباري.
علي الطنطاوي
زرقة العين يمن:
نقل الأستاذ العلامة النشاشيبي (في عدد الرسالة 655) قول الزمخشري: (إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب. . .).
والحافظ السخاوي والمحدث العجلوني يقولان: زرقة العين يمن، ذكره في الجامع الصغير عن أبي هريرة بلفظ: الزرقة في العين يمن، قال المناوي: أي بركة. . . قال الشاعر:
وما عليك أن تكون أزرقاً
…
إذا تولى عقد شيء أوثقا
كما في (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني) والمقاصد الحسنة للسخاوي
محمد شفيق
1 -
النفاق في الأدب:
النفاق في الأدب يجري على سنن النفاق الاجتماعي سواء بسواء، فكما أن الناس أسرفوا في مجاملاتهم الكلامية الكاذبة، أسرف الأدباء في مراعاة التجمل، ولجئوا إلى الكناية
والمجاز، واستعملوا المحسنات البديعية ليخفوا المعنى الصريح الذي يريدون.
ولا كان كذلك الأدباء في عهود الأدب الزاهرة، وما زلنا نقع كلما شققنا كتاباً من الكتب القديمة، على المعاني تلتمع صريحة واضحة. ولا مشاحة في أن العهود الماضية كانت عهود تماسك خلقي، والوازع الديني أشد ما يكون أخذاً للناس في أسباب الحياة، فإذا نزع الأدباء في هاتيك الأزمان إلى الصراحة التي نستهجنها اليوم في كتب الأدب الحديث، فإنما يحمل ذلك على أن الكتب لم تكن متداولة قديماً إلا بين الخاصة، فلا خطر ولا ضرر من شيوع بعض ما فيها من ألفاظ قد يأباها الذوق أو يأباها العرف.
أما الآن، ونحن في عصر تزايل خلقي، فلا مرية في أن الذوق لا يستسيغ كثيراً من الألفاظ كالتي استعملها الجاحظ مثلاً في كتاب الحيوان أو كتاب المحاسن والأضداد، ذلك لأن هذه الكتب أمست في متناول الناس جميعاً، يطالعها الأستاذ ويطالعها تلميذه، ومن ثم يكون الضرر في الشيوع.
غير أن للتاريخ حرمة، فينبغي ألا تحل كلمة محل أخرى، ولا يحذف لفظ ليظهر مكانه خاوياً ويكتب في هامشه مثل هذه العبارة (كلمة تنافي الأدب) أو غير ذلك، فالحذف هنا لا يتفق والأمانة الماضية، وقد يذهب القارئ مذاهب شتى في تأويل اللفظة المحذوفة، فيجئ الضرر على حين قصد الناشر النفع.
لقد قرأنا كثيراً من الكتب القديمة التي أعيد طبعها وتصويبها ففزعنا لكثرة ما حذف منها من العبارات (النابية) أو (التي تنافي الأدب)، فاضطررنا إلى الرجوع إلى الطبعات القديمة الممسوخة الطبع والمشوهة الحروف، فوقعنا منها على الأصل القريب. ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا ما قلنا إننا في كثير من الأحيان لم نر نبواً ولا خروجاً على الأدب المألوف.
على أن للعلم حقه، وهو فوق الأدب، وفوق الذوق، والناس لا يجترئون على حذف لفظ من ألفاظ القرآن الكريم أو الكتب المقدسة الأخرى، ولا يطمسون ألفاظاً في الحديث الشريف بحجة قصاراها أنها لا تتسق والعصر الحديث. فأحرى بالناسخين أن يبقوا على أمانتهم تلك في نشر الكتب القديمة، وليس شيء أولى بالاتباع من الحق الصريح.
2 -
فيشر ومعجمه:
قالوا: إن إرادة مجمع فؤاد الأول للغة العربية أرسلت تستفسر عن مصير المستشرق
الألماني الدكتور فيشر عضو المجمع منذ نشأته.
ولقد عرفنا الدكتور فيشر عن كثب يوم كان كاتب هذه السطور في عداد موظفي المجمع، فإذا هو رجل ذرًّف على السبعين ضربه الشلل في فكه الأسفل، إذا تكلم فلا يكاد يبين.
ولقد كان الدكتور فيشر أظهر الأعضاء المستشرقين، حين مهد لوضع معجم لغوي تاريخي يبدي تحولات الألفاظ العربية خلال القرون.
ولقد نذكر أن كثيراً من اللغويين شجبوا عمل هذا المستشرق الكبير وسمعنا المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري يقول عنه إنه عمل لا يتم، وقال غيره متهكما إنه (مشروع نازي)! بيد أن كل أولئك لا يذهب بجلال هذا العمل، ولو أنه تم لكان مفخرة لمصر ولمجمعها. ولا نريد أن يصرف غياب الدكتور فيشر المجمع عن إكمال عمل يستحق الكمال.
3 -
ديوان ابن الرومي:
أصدرت وزارة المعارف قراراً بتأليف لجنة لجمع ديوان ابن الرومي ونشره مصححاً. وهذه اللجنة مؤلفة من الأساتذة: كامل كيلاني، ومحمد شوقي أمين، ومحمد جبر، ومحمود لطفي.
والأدبيان الأولان غنيان عن التعريف، وأما الآخران، فقد غلب عليهما التواضع العلمي فلا يكادان يظهران للجمهور في كتاب أو مقال. ولعل هذه هي الساعة الأولى للتعريف بفضلهما ونشر أدبهما بين الخاصة والجمهور.
وأول ما قرأنا ديوان ابن الرومي إنما طالعنا النسخة التي نشرها صديقنا الأديب الكبير الأستاذ كامل كيلاني، أذاعها على الناس أيام الشباب والفراغ، يوم انصرف هو للأدب، وانصرف غيره لملاذ الحياة وأطايبها. فإذا اقتنص له الكاشحون بعض المآخذ فحسبه أنه كان أول المتصدين لعمل لا يقدم عليه سوى المغامرين الشجعان.
(الرمل)
منصور جاب الله
لجنة النشر الفلسفية:
تكونت هيئة من بعض خريجي قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول قوامها الأساتذة: أنور فريد،
وسعيد زايد، ومحمد إمام الحوت، ومحمد محمد وهبة، باسم (لجنة النشر الفلسفية)، تهدف إلى نشر الدراسات الفلسفية التي ترتبط بحياتنا الواقعية ارتباطاً وثيقاُ، وذلك عن طريق ترجمة وتأليف بعض الكتب وإذاعة بعض المحاضرات. وستظهر باكورة أعمالها قريباً، وهي ترجمة سلسلة الكتب السيكولوجية التي تصدرها مجلة (بسيكلوجست) تحت عنوان
القًصصُ
حازم. . .!
للأستاذ عدلي طاهر نور
- 1 -
- حنان!
- ماذا يا حازم؟
كانت حنان مستلقية على العشب تنظر إلى السماء بعينين حالمتين وقد شبكت يديها تحت رأسها لتتقي صلابة الأرض، وسقط شعرها الفاحم متدرجاً على ذراعيها الناصعتين والخضرة الناضرة فأكسب تآلف هذه الألوان وجهها جمالاً بارعاً، وكان حازم مضطجعاً على جانبه بالقرب منها يعبث بالعشب وعلى شفتيه ابتسامة الذكرى.
مالت حنان برأسها قليلاً لترد على نداء حازم بقولها: (ماذا يا حازم؟) فقال:
- هل تذكرين يوم تعارفنا، حينما قدمت إليك فظللت ممسكاً بيدك وقد بهرتني صورتك وأذهلني جمالك فلم يردني إلى صوابي غير تخضب وجهك وتهكم الأصدقاء؟ يا لها من لحظة لا أنساها! فقد تاه الطرف في صفاء تقاسيمك، لا يستقر على جمال حتى يجذبه جمال آخر. وهل تذكرين ذلك اليوم، حينما ابتعدنا عن الأصحاب فوق المقعد تحت الصفصاف؟ كم بقينا طويلاً في صمت عميق، هذا الصمت الذي يخدر الحواس وينشط المخيلة ولا يقطعه غير اختلاس النظر ليغذي الخيال. وتلك اللحظة، هل تذكرينها يا حنان؟ تلك اللحظة التي تقابلت فيها عينانا فحاول كل منا أن يحول نظره ولكنه ما استطاع. فقد شخص بصرانا وتخضب وجهانا من المفاجأة، ثم ابتسمنا فكانت الابتسامة إذناً بالكلام.
أغمضت حنان عينيها تستعيد الماضي وقد أشرق وجهها بنشوة الذكرى، وامتلأ صدرها بلذة الرؤية. وصمت حازم وعاد يعبث بالعشب ويستنشق النسيم المليء بالذكريات، وهاج قلبه بالحب فنطق يقول:
- لاشك يا حنان أن حبي لم يخف عليك. فكل ما فيّ ينبض بالعاطفة. ولكن هل تعلمين قدره؟ إن المرأة تأسر الرجل بجمال خلقها أو حسن خُلقها؛ وأنت يا حنان قد جمعت الجمال
كله. ويزيد في ولهي ما بك من سمو ساذج يصدر من القلب. فلست كمن شاهدت من النساء يتصنعن السمو في نظرة أو لفتة أو مشية، فلا يعدو الأمر الظاهر. إن ما بك من فضائل يا حنان يسحر لبي ويملك قلبي.
فاعتدلت حنان وعيناها تفيضان حباً، وقالت وصوتها يصوّحه الوجد:
- وأنت يا حازم. أما تعرف أنك سيد قلبي؟ لست أملك فصاحتك فأصف لك حبي؛ ولكنني أشعر. . . أشعر أنك كل شيء في حياتي؛ فطيفك يلازمني في يقظتي وأحلامي. وإني لأمرض لبعدك وأسعد بقربك. آه يا حازم إن حبي لك لعظيم!
- إن روحينا يا حنان قد امتزجتا؛ فما من قوة تفرق بيننا. أنا سعيد يا حنان. وما أستطيع أن أكتم سعادتي فأنا أرددها لكل ما حولي، للشجر والطيور، للقمر والنجوم. وأوحي بها إلى كل من يصادفني فتنبسط الأسارير وتبتهج الأنفس. ما أجمل الحياة إذا ملأها الحب والسعادة معاً. . . وسكت حازم فجأة فقد بدت في عيني حنان سحابة حزن انحدرت دمعاً. ولم يلبث أن صاح:
- حنان أنت تبكين؟ بالله أما تفصحين! فكم لمحت هذا الشجن يكسر طرفك ويؤلم قلبي. ولكن غمرة السعادة جارفة فما كان ألمي يدوم أطول من خفقه، والآن أنت تبكين فما أستطيع صبراً. بالله يا حنان ماذا بك؟ حدثيني.
لم تستطع حنان أن تغالب الدمع فقامت تجري وارتمت على مقعد قريب تذرف العبرات. وأسرع حازم وراءها وجلس بجانبها يجفف دمعها ويخفف تأثرها: أنا آسف يا عزيزتي؛ فما أردت أن أثير ذكرى أو أنكأ جرحاً. وإنما ظننت أن الإفضاء بذات الصدر يرفع عن النفس الحمل. هيا يا حنان. انسي كل شيء ولا تفكري في غير حبنا وسعادتنا.
فأجابت حنان على الفور: (لا يا حازم، يجب أن تعلم. فأنا. . . ولكن البكاء غلبها فلم تنبس بغير شهقة. فمدت يدها إلى حقيبتها وظلت تبحث فيها وهي لا تستطيع الكلام ولا تنقطع عن البكاء حتى أخرجت (دبلة) ذهبية وضعتها في بنصرها الأيسر. وكان حازم يتبعها بنظره مشدوهاً، لا يعي ما تفعل؛ ولكنه سرعان ما صرخ فزعاً:(أنت يا حنان. أنت!) فأجابت بحزن عميق: (نعم يا حازم. تلك مشيئة القدر) وساد سكون طويل أثقله صمت الطيور كأنها أشفقت من التغريد على قلبين يتعذبان. ساد السكون فبدا صوت حازم
المتصاعد فاجعاً يرسل القشعريرة إلى البدن. لمَ يا حنان؟ لمَ تركتِني أتدله في حبك؟ لم هذه القسوة؟ ثم أمسك بيدها متوسلا: (قولي إنك تمزحين. قولي إنك لم تتزوجي. قولي لي أي شيء غير ذلك). ولكن أصابعه لمست الدبلة فجذب يده بشدة وابتعد عنها قليلاً وهو ينظر إليها نظرة الحزن والغضب والحب الخائب.
واندفعت حنان تقول: (أنا شقية يا حازم. فلا تقس عليّ ولا تزد في شقائي. أواه! لو علمت كم قاسيت، وصبرت حتى مل الصبر. أرهف الله حساسيتي إلى حد المرض فلم أنعم في دنياي بسعادة. وكان شغفي بالمطالعة منذ فجر شبابي طريقاً إلى الشقاء، فقد غذيت عقلي وقلبي بأعلى المثل وأجمل الأحلام. فكانت صدمة الواقع قاسية وتبدُّد أوهامي مؤلماً. وغشيني هم من الناس فأخلدت إلى العزلة وانطويت على نفسي حتى أذواني السقم وشفني الهزال. وأزعج أمري والديّ ففزعا إلى الأطباء يرجوان لي علاجاً، ولكن هيهات أن ينجع دواء الجسد في شفاء النفس، فقررا آخر الأمر أن يزوجاني. واستقبلت حياتي الجديدة تهدهدني الآمال وتغمرني الأماني؛ فقد كان قلبي يهفو إلى دار هانئة يرعاها زوج حنون ويبهجها أطفال عزاز؛ ولكن جسدي العاثر كان يلاحقني فكنت كالظمأى في صحراء، أنشد السعادة وهي سراب.
أحببت زوجي لطبية أخلاقه، ولكنه كان يقتل حبي بإعراضه؛ فقد طغى عشقه لعمله على كل عاطفة. وما كان يعني بي أكثر من عناية الثري بتحفة تجمل بهو منزله. والله أعلم كم حاولت أن أوجد نفسي في حياته أثراً؛ ولكنه سامحه الله كان يعتقد أن سعادة المرأة أن تنعم بفاخر الزينة وأن تفوز بحرية التصرف. فنسي أن الزواج ألفة يوحي بها الحب المتبادل، وأن العشرة الخالصة لا تتحقق بغير صيانة هذا الحب. نسي أن الزواج شرّع للصحبة المشتركة والتعاون الوثيق فتصفو الروح وترقى الحياة. نسى أن ملاطفة المرأة والتودد إليها ليس مقدمة للزواج فحسب، بل عاملاً حيوياً في علاقة الزوجين. آه لو حاول الرجل أن يخبر زوجه فيحقق لها أحلام الصبا وسعادة الشباب، إذن لأحبته العمر ولظل سيدها الأوحد وسلطان قلبها المطلق، ولكن الرجل وا أسفاه لا يحاول فهم المرأة وإدراك حقيقة نفسيتها، ثم ينعتها بالبرود والأعراض، ولا يلبث الزواج أن يصبح واجباً يؤدى. وهكذا عشت مع زوجي لا أحبه ولا أستطيع أن أكرهه. عشت معه بقلب يغص بالخيبة والحسرة.
ولم يقف عذابي عند هذا، ولم يغفل القدر عني. ففقدت والديّ واحداً بعد آخر. ففقدت معهما قلبين كانا يعطفان عليّ ويخففان عني قسوة الحياة، وشعرت باليتم يصهر قلبي والوحشة تفجع نفسي. ثم كانت صديقاتي؛ فقد كنّ يروين لي بعضاً من حوادث لهنّ ليخففن عني. فكان شعوري بهذا الفضاء الذي أحدثته النوائب في نفسي يشتدّ وينتشر. ولم ألبث أن ضعفت يا حازم تحت إلحاح صاحباتي، فانطلقت معهن ذلك اليوم إلى حيث قابلتك. فكنت أنا الزهرة الذاوية، وكنتَ أنت القطر الباعث. وساقني القدر في طريق الحب فلم أفكر لحظة، ولم أثب إلى نفسي إلا بعد أن أحببتك. ولم أقو على الإفضاء لك بزواجي، بتعاستي يا حازم.
وغلبها البكاء فانقطعت عن الكلام. وصاح حازم وهو يكفكف دمعه: (مسكينة يا حنان!).
- 2 -
مضى كل منهما في سبيله مكسور الفؤاد. وعادت حنان إلى عزلتها وقد حرّك اليأس رماد قلبها وأهاج لهيب شجنها. وكانت تعمد، حينما يشتدّ بها ألم الشوق إلى الذكريات تلتمس منها عزاء ضن به عليها العالم الخارجي، فتصبح كصريع المخدر تقاسي بعد لذة قصيرة وسعادة واهية أشد الآلام. وكان أكثر ما يعذبها شعورها بما يكابد حازم من اضطراب نفسي بعد هذا الحادث، ويأسها من جل لموقفها البائس. فما كانت تستطيع أن تهجر زوجها لطيبة قلبه، وقد همت بذلك خضوعاً لحبها الجارف لولا أن خشيت لوم حازم فانتظرت أن يخطو هو الخطوة الأولى واستسلمت في انتظارها لحزن داهم وعزلة شديدة.
وعاد حازم وهو لا يفكر في غير اعتراف حنان، ورأسه يدق بالحقيقة القاسية، وقلبه يخفق بحبه الشديد. وكان كل عصب فيه ينبض بقوة كأنه يصيح: إنها متزوجة! ومضت أيام قبل أن يسكن هذيانه ويروق ذهنه. ثم لم يلبث أن اختلى بنفسه في محرابه وهو يرتعد لمجابهة قلبه لعقله. كم كان يود أن يفر في هذه الساعة الحاسمة، ولكنه كان يشعر بقوة خفية تدفعه إلى مكتبه.
أخذ يراجع حديث حنان وهو يقطع الغرفة بخطوات واسعة وقد وضع يديه خلف ظهره وطأطأ رأسه لشدة التفكير. وكان عقله الرشيد وتربيته القويمة قد حصنا نفسه؛ ولكن قلبه كان قوياً بالحب ملتهباً بالشوق. فكان الصراع بين ضميره وعواطفه عنيفاً. كان ضميره
يثور تارة وقلبه يطغى أخرى، ونفسه بين هاتين القوتين حائرة معذبة.
كان يحدث نفسه قائلاً: (ماذا دهاك يا حازم؟ كيف تخلد إلى هذا الوسواس فيحرضك على الشر، وتثابر على هذا الحب فتسلب بريئاً امرأته؟ كيف تقدم على هذا الأمر فتنقلب شيطاناً يحث على المعصية ويهدم بيتاً هادئاً؟ كيف تحل رباطاً مقدساً وتقطع صلة طاهرة فتحقر نفسك وتفقد عزتك؟ ثب إلى رشدك وعد إلى جهادك. فحذار حذار أن تستسلم لعواطفك. فالعاطفة المطلقة كالسيل، أوله انقضاض يجرف ويقتلع، وآخره نضوب وقحط. وقد وهبنا الله العقل لنقيمه سدا يحبس تلك القوة الطاغية وينظم تصريفها. إن حنان ليست لك يا حازم. . .).
ووقف حازم فجأة وضرب كفه بقبضته صائحاً: (يجب أن تنساها). وتابع سيره وهو يكرر تلك العبارة بتؤدة ويقطعها ليوحي إلى نفسي معناها ويملي عليها إرادته. ولكن أنى لعقله أن يثبت ولم يكن أمر حبه مشكلة دارجة؟ فهو لم يكن يعرف الحب من قبل. أما وقد نهله فقد أصبح الأمر مشكلة حياته. فكان قلبه المضطرم يصهر عزيمته ويشوش منطقه، وحبه المتدفق يخنق ضميره ويذهب بصورته فلا تلبث نفسه أن تصيح:
(تباً لك يا حازم! ما دمت عبداً لعقلك فقد تحرم الحياة ومتعها وتعرض عن الحب، فيطغى العقل وتنضب النفس ويفسد الذوق وتنقطع صلتك بالحياة. لا يا حازم. لا تفعل ذلك! إن حنان لك، فالأقدار لم تجمعكما عبثاً. إنه نداء القلب فأنت تلبيه، وماء الحياة فأنت ترشف منه. وكيف يقبل عقلك أن يعيش زوجان بلا حب ويأتلف قلبان بلا تمازج؟ إن حنان لك يا حازم. ولك وحدك).
كان حازم يجد في حديث نفسه لذة عظيمة، ولكنها لذة يدركها صوت الضمير الذي يأبى أن يخضع فيعود ويرتفع من الأعماق:(حذار حذار أن تسلك هذا الطريق). فكانت نفسه كرمال الشاطئ بين كر الأمواج وفرها لا تهدأ ولا تستقر. كان حبه قوياً، ولكن عقله كان يقضاً وضميره حياً. ولهذا كان حزيناً برماً. فهو لا يستطيع أن يعود إلى حنان، ولا أن يبتعد عنها.
وبينما هو في عذاب اليأس والتردد، إذ فاجأ نفسه بهذه الهمسة:(مسكينة يا حنان!). وكان يكرر تلك العبارة ولا يفطن بادئ الأمر إلى معناها. ولكن سرعان ما قفز من كرسيه حيث
أقعده الأعياء، وهو يهتف:(نعم! مسكينة يا حنان) ألم ينطق بتلك العبارة من قبل عندما قصت حنان عليه قصتها المحزنة؟ ألم تذرف حنان وقتئذ دموع الشقاء بين يديه فأرمضت قلبه؟ إذن كيف يتركها تذبل وتعذب؟ كيف يقتلها بالهجر وهو لم يقس قط؟ كيف لا يعطف عليها ويؤنس وحدتها؟ إن في حبه لها صداقة، والصداقة عاطفة تجمع بين القلب والعقل. أليس من واجب الصديق أن يعين صديقه؟
ملأت الشفقة نفس حازم بغتة. وقد أثارها الحب ليستعين بها على العقل؛ فما كانت هنا غير قناع لبسه الحب فجأة فشلَّ العقل وأسكت الضمير. والحب قد يأتي بالمعجزات.
وخف حازم إلى حنان يتمتعان بسعادتهما السابقة فيركبان سيارته ويتنقلان بين الرياض، فتستلقي حنان على الأعشاب الغضة تنظر إلى السماء بعينين حالمتين، ويضطجع حازم على جانبه بالقرب منها، تعبث يداه بالأزهار ويشع وجهه بالغبطة.
- 3 -
وحدث ذات يوم أن قام حازم وحنان برحلة من رحلاتهما العزيزة إلى ضواحي القاهرة، ودهمهما الليل في طريق العودة. وكان الليل مقمراً، فأغراهما جمال الطبيعة بالبقاء حيث كانا على شاطئ النيل.
كان القمر يسيل رقة تلين الأبدان، وكانت أشعته تهبط على المياه كقبلة العاشق على كتف حبيبته فتسري فيها رعشة لذيذة وتهتز لها اهتزازاً لطيفاً. وكان هذا الاختلاج يسحر الناظر ويهدهد عقله فيغوص في هذا المزيج من الأشعة والماء.
وكان السكون رائعاً يقطعه بل يزيده صفير الصرصور المتتابع فتؤثر وحدة الصوت المتواصلة في المرء، فتصيبه غشيه هادئة ترفعه إلى عالم الأحلام، ويزيد نشوته عطر ثقيل من الزهور المختلفة ينتشر إلى جسمه فيثقل تفكيره وأطرافه.
كانت الطبيعة تنشد نشيدها الأبدي في معبدها الساجي، وقد أطلقت بخورها العبق، ولبست حللها الفاخرة، فيتصاعد إلى السماء تآلف من الأصوات والعطور والألوان، ينعقد سحباً رقيقة لازوردية رنانة تخلع على الأرض غموضاً مقدساً، يحير البشر فيعتريهم الخشوع ويغشاهم الوجوم.
وكانت حنان مستلقية على العشب، وقد أكسبها القمر شحوباً عاجياً ليس في الإنسان،
وجمالاً مبهماً ليس على الأرض ولا في السماء، جمالاً يتصوره الشاعر في مخيلته ويعبده في خلوته كلما تردد عليه وتراءى له. وكان حازم مضطجعاً إلى جانبها يقلب الطرف في جمالها وقد سلبته الفتنة كل إرادة، وأثار الوجد كل حواسه. وتحولت حنان بنظرها إليه فتلاقت عيناهما وشخص بصراهما، وكان ينبعث منهما بريق ساطع متدفق لم يلبث أن هدأ ورق. وقد همس يقطعه الهيام امتزج اسماهما: حازم! حنان! والتقت شفتاهما في قبلة حارة طويلة. كانت عواطفهما كحمم البركان تصعد من الأعماق متراخية ملتهبة ثم تفيض فتنحدر بشدة كاسحة. وفي ذلك الوقت اختفى القمر وراء سحابة كثيفة كبيرة. وفي تلك اللحظة التي ينسى الإنسان كل شيء غير أن الطبيعة حبته بقوة عاطفية جامحة، في تلك اللحظة التي تطغى فيها حرارة القلب على قدرة العقل، وفي تلك اللحظة لبيا نداء الجسد. إنهما في جسد، والجسد ضعيف والهوى غلاب، فكيف يعدمان الشهوة؟ كان عقلهما في يقظتهما راجحاً؛ ولكن الطبيعة خدرت ذلك الحارس، فتنفست الشهوة المكبوتة، وكانت تعمل فيهما خفية والعقل يحجبها، فجلاها حتى نمت واشتدت فتحركت وغلبت.
وظهر القمر ومر أحد العسس يقرع بنعليه الطريق، فاستيقظ العاشقان من حلمهما اللذيذ وتبينا أمرهما مضطربين: وما أقسى أن ينقلب المرء من حال إلى آخر بلا انتقال. فاستولى عليهما الوجوم والحيرة، وفرق الخجل بينهما لحظة طويلة قطعها حازم بعد جهد بقوله:
- إن الليل قد تقدم، فدعيني أصحبك إلى منزلك.
ولم تجب حنان بغير نظرة مبهمة، وقامت تخطو وئيدا إلى السيارة، وأدار حازم المحرك وسأل:
- أين تسكنين؟
ولم يكن حازم يعرف حتى ذلك الوقت مسكن حنان إذ كانت بعد كل لقاء تفضل أن ترجع وحدها. وأجابت حنان:
- في الدقي، سأبين لك الطريق.
- 4 -
واندفعت السيارة إلى منزل حنان. فكان حازم يشعر كلما توغل في السير أن الطريق مألوف. ولكن هذا الشعور لم يتعد طبقات نفسه الأولى فلم يلتفت إليه تماماً، حتى أشارت
حنان بالوقوف. وبينما هو يودعها وقع نظره على منزلها فثبتت عيناه في محجرهما وتملكه فزع شديد؛ فصاح بصوت قلق يكاد يسمع:
- أنت. . . تسكنين هنا؟
فأجابت حنان وقد راعها حاله:
نعم! ولكن ماذا بك؟ هل رأيت شبحاً؟
ولم يجب حازم وانطلق إلى مسكنه بأقصى سرعة. كان همه الأول أن يبتعد عن هذا المنزل ولكن صورته باتت تلازمه وتزيد في عذابه. فكان يهمس: رحماك يا إلهي. فما أقسى العقاب!
كان منزل صديقه أحمد، فكانت حنان إذاً زوج صديقه. . . وكان أحمد لا يجتمع بأصدقائه كثيراً لشغفه بالعلم وانقطاعه له، ولكنهم كانوا يكنون له الحب والاحترام لدماثة خلقه وكرم طباعه. وهذا هو حازم، يا لقسوة القدر، يكتشف أنه كان يخون صديقه فينقض عهد الصداقة. كأن يخونه في عرضه. والعرض كيف يلائم صدعه. . . آه. لو استمع إلى صوت عقله!
كان حازم يفكر في ذلك فيحز الألم في نفسه. كانت الصدمة عنيفة أودت بكل عاطفة أثارها الحب. فما وجد لفعله عذراً ولا لضميره رداً. وساد ضميره وقام يؤنبه بعنف ويلاحقه بشدة، ونفسه قد خلت من كل توازن يقيه شر الاختلال. كان صوت الضمير يتبعه وصورة صديقه لا تفارقه؛ فلم يستطع البقاء في مكانه وخرج يهيم على وجهه في الطرقات. ولكن الصوت كان يطارده فيعدوا المسكين هرباً منه، فيملأ أذنيه، فيسرع في الجري حتى يصرعه التعب، فلا يلبث طويلاً حتى يبدو له وجه صديقه يشخص إليه في حزن وأسف، فيعود إلى الجري ليسقط مرة بعد مرة حتى خر على الأرض مغشياً عليه.
وأشرقت الشمس وقامت الطيور تعلن قدوم الصباح ودبت الحياة في السكون، ووقف الشرطي يتأمل جسماً طريحاً وانحنى يهزه ليتبين أمره؛ فانتفض النائم وجلس لحظة ورأسه بين يديه، ثم نظر إلى الجندي المستفهم نظرة بلهاء ولم يلبث أن نهض مسرعاً وهو يهمهم بكلام لا يفهم.
إنه كان حازماً الرقيق. صرعته الصدمة فأختل عقله، وأصبح يكفر عن خطيئته. كان ملكاً
في وحدته فسولت له النفس أن يهبط إلى الأرض؛ فتدهور من العلياء وعاد آدمياً تسوده الغرائز الشهوانية والرغبات الدنيئة، واقترف الخطيئة فاستحق العقاب، والسماء لا تغفر لملك هوى.
عدلي طاهر نور
من ذكريات الشباب
سقط بعض السطور من مقدمة القصة الثانية (اجترار)
المنشورة في العدد الماضي للأستاذ حبيب الزحلاوي فرأينا
إعادة نشرها.
(حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي:
كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقى مشاكسة من زملائي الفرنسيين وتعالياً على الضابط (العربي)، فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف.
نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين)، ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائماً في وجه أولئك القادحين، فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً لي:(أنا زميلهم الضابط الكيس وللخلصاء الذين عرفناهم من السوريين). فكان أولئك الضابط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط - نضر الله وجهه - يدافع عن حق السوريين، وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط سلطانهم على شعب لا تنقصه خصيصة من خصائص الاستقلال، ولا تحوجه الدراية بتحمل المسؤولية الاجتماعية، ولا الوعي القومي، فقد استمد مزاياه من تاريخه العربي ومن الانقلابات التي تأثر بها في مطلع هذا القرن، وكان يقول:
(لقد أيقضنا نحن الفرنسيين نفوس الشعب السوري ذاته بتلقينه في مدارسنا مبادئ ثورتنا للحرية والمساواة وتعاليمنا فن الحياة، وكان يساير زملاءه في الطعن على الدهماء في كل الأمم، لأنهم يتساوون والسوائم في إرضاء شهواتهم وتسكين معدهم، ولا فرق في طوائف العامة بين شرقي وغربي وبين ألوان وأجناس. وكان كلام ذلك الضابط الأريب يشجعني على إبراز فضائل قومي الأصلية والمكتسبة، وعلى إبداء الرأي أيضاً في الوسائل التي قد تقرب بين الحاكم والمحكوم) اشتعلت نار الثورة في جبل الدروز، وسرعان ما امتدت
ألسنتها إلى دمشق فمدينة حماه. جن جنون الفرنسيين، فأمر قائدهم الأرعن الأعلى بإطلاق المدافع تدك قذائفها أحياء دمشق، وأنطلق أجناد الجيش في (حماه) يمعنون في قتل الناس وإحراق بيوتهم ومزارعهم. كانت أخبار الثورة في كل ميدان تصلنا بالميعاد، عرفنا بما حل بحملة الجنرال (ميشو) وكيف مزقها أبطال الدروز شر تمزيق، وعرفنا أيضاً بفزع زهرة شبان دمشق من طلاب المدارس العليا يلتحقون بثوار الغوطة، وهكذا كانت أخبار إخواننا الثائرين في داخل البلاد من نساء ورجال، وأخبار رجال السياسة منا البعيدين عن مواطن الخطر تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من حكم الأجنبي المستعمر.
عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلومترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة. . .
. . . في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار نقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال. بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه، ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقف في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها. لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة، هي التي تصد قنابل المدافع، وهي هي التي تتفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، وكأن رجالنا الأبطال ليسوا من لحم ودم، بل قدر محتوم ينزع أرواح المستعمرين الخ.
حبيب الزحلاويس