الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 658
- بتاريخ: 11 - 02 - 1946
شئون عربية
فلسطين - شرقي الأردن
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا ندري كيف نعلل سماح الحكومة البريطانية لليهود بأن يهاجر منهم إلى فلسطين ألف وخمسمائة كل شهر حتى تقدم لجنة التحقيق البريطانية الإنجليزية اقتراحاتها أو توصياتها، وهي مكلفة أن تفعل ذلك في أربعة أشهر.
فقد نقضت عهدها الصريح في الكتاب الأبيض أن لا يباح ليهودي أن يهاجر إلى فلسطين بعد انقضاء السنوات الخمس - وقد انقضت - ودخول العدد المنصوص عليه في الكتاب، وهو خمسة وسبعون ألفاً، وقد دخلوا - إلا بإذن العرب وموافقتهم، وقد أبى العرب كل الإباء أن يأذنوا ويوافقوا.
ولسنا نظن أن أحداً سيزعم أن الحكومة البريطانية جنبت أي خير بنقضها هذا العهد. فإن ستة آلاف يؤذن لهم في الهجرة إلى فلسطين في أربعة شهور رقم ضئيل لا يرضي اليهود أو يقنعهم، ولا يتألفهم من نفرتهم، ولا يسكن من ثائرتهم على بريطانيا، ولا يغريهم بالكف عن قتل أبنائها في بلاد فلسطين. وإذا قيل إنها فعلت ذلك مجاملة منها للرئيس ترومان، قلنا: وما ستة آلاف، وقد كان يطلب السماح لمائة ألف بالدخول؟ وأين المجاملة وقد مضى على طلبه هذا شهور وشهور ألفت في خلالها لجنة التحقيق وشرعت في أداء ما وكل إليها؟ ومثل هذا يقال عما بزعمه البعض في أنها أرادت أن تظهر للكونغرس الأمريكي أن هواها مع اليهود، وآية ذلك أنها نقضت الكتاب الأبيض بهذه الهجرة الجديدة، وأول الغيث قطر كما يقولون. وبها حاجة إلى رضى الكونغرس الأمريكي، حتى لا يرفض القرض الذي عقد لها في أمريكا.
فلا هي أرضت اليهود، ولا هي أحسنت المجاملة، ولا أقنعت الكنغرس، وكل ما كسبته بهذا النكث أنها أثبتت لليهود أنها ضعيفة، وأنها توسعهم حلماً وليناً كلما أوسعوها عدواناً وأسرفوا في تقتيل رجالها.
وأثبتت للعرب أنها لا وفاء لها ولا عهد. فما حاسنها أجد محاسنه العرب، وعاونوها أصدق معاونة في أيام الحرب، ولو شاءوا وكان ذلك في طباعهم لغدروا بها واغتنموا فرصة
الحرب، فأقلقوها وأزعجوها، وكانوا شوكة في جنبها، وإنها لتعرف بالتجربة، في ثورتيهم، أنهم لا يخافون البطش، ولا يهابون القوة ولا يروعهم البأس، إذا صمموا وألقوا عزمهم بين أعينهم، ولكنهم آثروا الوفاء لها في محنتها وكانوا كراماً، وهذا جزاؤهم! يضربها اليهود بسلاحها الذي يسرقونه من مخازن قواتها، وينسفون منشآتها، ويقتلون رجالها، ويستخفون بقوتها أيما استخفاف، فتربت لهم على ظهورهم وتقول لهم: تعالوا ادخلوا على بركة الله! وكانت أيام ثورة العرب عليها قبل هذه الحرب، إذا عثر رجالها على بندقية قديمة بالية ليست أجدى على صاحبها من سيف أبي حية النميرى تشنق الرجل، وتفرض الغرامات الفادحة على القرية، وتفعل الأفاعيل المنكرة!
ومن الغريب أنها تسوغ السماح بهذه الهجرة الجديدة بأن عليها تبعات تفرضها عليها شروط الانتداب ما دام قائماً. كأن الحكومة البريطانية التي أصدرت الكتاب الأبيض كانت تجهل شروط الانتداب حين قررت أن تنقطع الهجرة الصهيونية بعد السنوات الخمس إلا بإذن العرب! أو كأن شروط الانتداب لا تنص صراحة على اجتناب أي عمل يضر بأهل البلاد الأصليين أي العرب!
ومن الغريب كذلك أنها تقول في البلاغ الذي أذاعته في هذا الصدد إن (المداولات) مع العرب طالت، والذي نعرفه أنها لم تطل، فقد رفض العرب أن يوافقوا على هذه الهجرة الجديدة، وكانوا على حق في رفضهم، فإنها بلادهم، ولهم أن يأبوا أن يدخلها من لا يأمنون جانبه ولا يطمئنون إليه، بل من يخافون شره. وطبيعي أن يرفضوا دخول يهود آخرين لئلا يصبح اليهود هم الكثرة، فيؤول أمر البلاد إليهم، ويصبح العرب قلة وغرباء في أرضهم. ثم إن الكتاب الأبيض الإنجليزي نفسه يخول لهم الحق في القبول أو الرفض، ويجعلهم أصحاب الرأي والقول الفصل في ذلك، وقد رفضوا بحقهم، فكان على بريطانيا أن تحترم ما ذهبوا إليه، وان تحترم عهدها هي نفسها. فأما وهي لم تفعل، فمن ذا الذي يسعه أن يثق بعهد جديد لها، أو يطمئن إلى لجنة التحقيق وقد بدا من بريطانيا هذا الهوى؟
وقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستعترف قريباً باستقلال شرقي الأردن، وكان تحت الانتداب تبعاً لفلسطين، وسيسافر صاحب السمو الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن إلى لندن للاتفاق على الشروط التي يتم بها الاعتراف باستقلال إمارته، وسينادى سموه بنفسه
ملكاً بعد ذلك على الأرجح، فما يبقى بعد الاعتراف لبلاده بالاستقلال ما يحول دون اتخاذه أي لقب يشاء بإرادته الحرة.
ولا ريب أن الاعتراف باستقلال شرقي الأردن سيكون خطوة لها ما بعدها، وقد يعفى - أو لا يعفى - بريطانيا من العون المالي الذي تبذله له كل عام، فإنه بلد فقير إلى الآن، وقليل عديدة، وإن كان من أطيب البلاد وأكثرها كنوزاً، وسيحول استقلال شرقي الأردن دون امتداد الصهيونية إليه ودخولها فيه، وكان ذلك مطمعها، وقد سخطت ونقمت لما أذيع الوعد بالاستقلال، وعدت هذا غدراً من بريطانيا بالصهيونية، لأن الصهيونية تعد البلاد العربية كلها والشرق الأوسط أجمعه مجالاً حيوياً لها، كما كان (هتلر) يعد شرقي أوربا وشرقيها الجنوبي مجالاً حيوياً له أو للرايخ. على أني لا أظن إلا أن هتلر كان تلميذاً لليهود، فقد أخذ عنهم (العنصرية) وأسرف فيها كإسرافهم الذي كلف العالم - ويكلف العرب الآن - شططاً.
ونحن نعرف معنى الاستقلال في معجم السياسة البريطانية، وما يحتاج الاعتراف باستقلال بلد ما، إلى شروط، فإذا احتاج فالشروط ولا شك قيود، وتدلنا التجربة على أن بريطانيا قد أعدت لاستقلال شرقي الأردن شروطاً تجعل لها نفوذاً فيه وسلطاناً عليه، وتخولها اتخاذ مطارات - على الأقل - في أرضه، على نحو ما صنعت في العراق. بهذه الشروط - كائنة ما كانت، وفي أي قالب صبت - يدخل شرقي الأردن في منطقة النفوذ البريطاني.
ومثل هذا الاستقلال لا يعد تاماً، ولا حقيقياً، ولا وطيداً، وقد رأينا ما آل إليه استقلال العراق واستقلال مصر، وعرفنا حقيقة الأمر في البلدين، ولن يكون شرقي الأردن أجزل حظاً، فإن الاستقلال (يؤخذ ولا يعطى) كما قال المرحوم الملك فيصل في خطبة له بالشام بعد أن دخلها في أخريات الحرب العالمية الأولى على رأس الجيش العربي، فإذا أعطى فهو منحة، والمنحة تكون بقدر.
ولكن هذا الاعتراف سيكون خطوة على كل حال، لها ما بعدها كما أسلفنا، وبه يستفيد البلد قدراً من الحرية تتيح له أن يتجه وجهته إلى حد ما، وتشجعه على الأمل والتطلع والسعي، وتغير ما به تغييراً غير هين، ومن المحال بعد أن ينعم بهذا القدر من الحرية أن يُسلبه، بل الطبيعي أن يتسع النطاق، فتصدع القيود شيئاً فشيئاً على الأيام. وتلك سنة الحياة، فلا وقوف ولا رجوع. وهل تكف الأيام عن الدوران، وسن الإنسان الحي عن الارتفاع؟ أو هل
تكر الكهولة راجعة إلى الشباب الذي ولى عهده، أو الطفولة التي تقضى أوانها؟ كذلك الأمم لا وقوف في حياتها ولا رجوع، حتى تستنفد حيويتها ويبلغ أجلها مداه، كما يبلغ أجل الفرد مداه وكل ما هنالك من الفرق أنها لا تفنى فناء الفرد، بل يدركها ما نسميه الانحطاط، وليس يحفظها من الانقراض إلا دخول دماء جديدة فيها، فتصبح وكأنها تسربت في غيرها وغابت فيه، لأن هذا الغير أقوى وأزخر حيوية، فإذا لم يتح لها ذلك بادت كما بادت القرون الخالية.
من أجل هذا نؤثر أن نستبشر بالاعتراف القريب باستقلال شرقي الأردن، ويسرنا أن الله قد حقق لصاحب السمو الأمير عبد الله ما كان مأربه من أول يوم دخل فيه هذا البلد الطيب، فما دخله ليضعه تحت الانتداب البريطاني، بل ليستقل به ويكون ملكا عليه حراً فيه، غير أن المقادير جرت بخلاف ذلك، فالآن تم له ما أراد، أو بعضه، فله ما التهنئة، والرجاء المخلص أن يرى في هذا ما يغنيه عن التفكير في (سورية الكبرى)، فأن نجاح المسعى إذا اتجه إلى العراق أقرب منه إذا أتجه إلى سوريه.
والله أعلم وهو الموفق.
إبراهيم عبد القادر المازني
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
لأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 26 -
ج6 ص210: قال أبو حيان: قال الصاحب بن عباد لأبي واقد الكرابيسي:
يا هذا، ما مذهبك؟ قال مذهبي أن لا أقر على الضيم، ولا أنام على الهون، ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي، ولم تصل عصمته بعصمتي. قال: هذا مذهب حسن، ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعاً، ويركب الهون سامعاً؟ ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوية في صدري، لا أتقرب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاك، ولا أجادل فيها المؤمن. قال فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته، فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فضلاً عن مثل متيقن. فقال له أبن عباد: صدقت. ولكن أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: إن كان مخلوقاً كما يزعم خصمك فما يضرك، فقال: يا هذا، أبهذا تناظر في دين الله، وتقوم على عبادة الله؟
قلت: ضبطت (الهون) في (لا أنام على الهون)(ويركب الهون سامعاً) بالفتح وإنما هي بالضم. في الصحاح: الهون بالضم الهوان، وفي الكشاف في تفسير (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب): على هون على هوان وذل، وقرئ على هوان. وقال في تفسير (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق): الهون الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه.
و (الهون) بالفتح: السكينة والوقار كما في الصحاح. وفي الكشاف في تفسير (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما): الهون الرفق واللين.
(ولا أعطي صمتي لمن لم يكن ولي نعمتي) هي (ولا أعطي عصمتي) أي قيادي وزمامي. في التاج: قال محمد بن نشوان الحميري في (ضياء الحلوم): أصل العصمة السبب والحبل. وفي اللسان أصل العصمة الحبل وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه.
(إن كان مخلوقاً كما يزعم خصمك) هي (إن كان غير مخلوقكما يزعم خصمك) لأن (القدم) قول خصمه و (الخلق) قول الصاحب ومن تمذهب بمذهبه. وفيه يقول أبو محمد الخازن في إحدى قصائده:
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها
…
إليه مستبقات أي إلقاء
فنساس سبقتها منه بأربعة
…
أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك (توحيده) ألوى بأربعة
…
كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
(والمعتزلة - كما في رشح المواقف - لقبوا أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد وذلك لقولهم بوجوب الأصلح ونفي الصفات القديمة يعني أنهم قالوا: يجب على الله ما هو الأصلح لعباده ويجب أيضاً ثواب المطيع فهو لا يخل بما هو واجب عليه أصلاً، وجعلوا هذا عدلاً، وقالوا أيضاً بنفي الصفات الحقيقية القديمة القائمة بذاته تعالى احترازاً عن إثبات قدماء متعددة وجعلوا هذا توحيداً).
في (الفرق بين الفرق): (وكلهم (أي فرق المعتزلة) يزعمون أن كلام الله عز وجل حادث، وأكثرهم يسمون كلامه مخلوقاً).
في (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين): (قالت المعتزلة والخوارج وأكثر الزيدية والمرجئة وكثير من الرافضة إن القرآن كلام الله سبحانه وإنه مخلوق الله لم يكن ثم كان. . . وحكى عن ابن الماجشون أن نصف القرآن مخلوق، ونصفه غير مخلوق، وحكى محمد بن شجاع أن فرقة قالت: إن القرآن هو الخالق، وإن فرقة قالت هو بعضه، وأن فرقة قالت: إن الله بعض القرآن وذهب إلى أنه مسمى فيه، فلما كان اسم الله في القرآن، والاسم هو المسمى كان الله في القرآن).
قلت: روى ياقوت في معجم البلدان عن كتاب لمسعر بن مهلهل في ذكر ما شاهده في بلاد الترك والصين والهند أن (تعرف يالبغراج لهم أسبلة بغير لحى يعملون بالسلاح عملاً حسناً فرساناً ورجالة، ولهم ملك عظيم الشأن يذكر أنه علوي وأنه من ولد يحيى بن زيد، وعنده مصحف مذهب، على ظهره أبيات شعر رثى بها زيد، وهم يعبدون ذلك المصحف.
والزمخشري يقول في ديباجة الكشاف: (الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاماً مؤلفاً منظماً، ونزله بحسب المصالح منجماً وجعله بالتحميد مفتتحاً وبالاستعادة مختماً، وأوحاه على
قسمين متشابهين ومحكماً، وفصله سوراً آيات، وميز بينهن بفصول وغايات. وما هي إلا صفات مبتدأ مبتدع، وسمات منشأ مخترع. فسبحان من استأثر بالأولية والقدم، ووسم كل شيء سواه بالحدوث عن العدم).
قال السيد الجرجاني في حاشيته: (يروى أنه وقع في أم النسخ (نسخ الكشاف) خلق مكان أنزل ثم غيره المصنف لأن كون القرآن حادثاً أمر شنيع عند الخصم فأراد أن يكتمه أولا ثم أن يظهره بعد سوق مقدمات مسلمة عنده، ومستلزمة للحدوث في نفس الأمر، فإن ذلك أقوى في استدراجه إلى التسليم من حيث لا يشعر به).
وشاعرنا البحتري كان قوله في القرآن يدور مع الدول. . . قال الإمام المرزباني في كتابه (الموشح):
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكجي قال: قلت للبحتري: ويحك! أتقول في قصيدتك التي مدحت بها أبا سميد (أأفاق صب هوى فأفيقا):
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم
…
ويحرقون كلامه المخلوقا
أصرت قدرياً معتزلياً؟ فقال لي: كان هذا ديني في أيام الواثق، ثم نزعت عنه في أيام المتوكل. فقلت له: يا أبا عبادة، هذا دين سوء يدور مع الدول. . .
قلت: في تعريفات الجرجاني: القدرية هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله.
وفي (شرح المقاصد): اتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم، واجترأ المتأخر ون فسموا العبد خالقاً على الحقيقة.
ج19ص39: وقال ابن شرف القيرواني في وصف وادي عذراء بمدينة برجة من أعمال المُريَّة.
رياض غلائلها سندس
…
توشت معاطفها بالزهر
مدامعها فوق خط الربا
…
لها نظرة فتنت من نظر
وكل مكان بها جنة
…
وكل طريق إليها سفر
وجاء في شرح (سفره وأسفره أضاء، فلعله يريد أن الطريق إليها مشرق، فإن هذا مناسب للشطر قبله وللمدح.
قلت: (المرية) بفتح الميم وكسر الراء مخففة كما ضبط ياقوت، وقد أورد مقطوعة في (معجم البلدان) لابن حداد يقول فيها:
أخفي اشتياقي وما اطويه من أسف
…
على المرية والأنفاس تظهره
وصدر البيت الثاني (مدامعها فوق خدي ربا) وعجز البيت الثالث (وكل طريق إليها
سقر) أي وعر صعب.
في النفح: وبمدينة برجة (وهي من أعمال المرية) معدن الرصاص، وهي على واد مبهج يعرف بوادي عذراء، وهو محدق بالأزهار والأشجار، وتسمى برجة بهجة لبهجة منظرها، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني:(رياض تعشقها سندس)
صحائف مطوية
الجنرال فيجان في سوريا ولبنان
للأستاذ أحمد رمزي
حينما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية، عين في سبتمبر 1939 الجنرال فيجان القائد الفرنسي المعروف، وصاحب الشهرة الذائعة في الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 على راس جيش الشرق في ميدان الأبيض المتوسط، وقد حضر إلى بيروت وجعل عمارة كبيرة ذات عدة طبقات مركزاً لقيادته - وهي العمارة التي أصبحت بعد الاحتلال البريطاني مركزاً لبعثة الجنرال اسبيز - فكأن المقادير قد ربطت هذا البناء بأكبر الحوادث التاريخية لسوريا ولبنان إذ اتخذت في حجراته أخطر القرارات وجرت في معظم المفاوضات التي غيرت الكثير من أوضاع البلدين
وكان الجنرال فيجان في نوفمبر1939 ويقيم في قصر شاهق برأس بيروت تعرفه من مفرزة الجنود الجراكسة التي تتولى حراسته ليل نهار، والتي كانت موضع انتقاد زميلين لي من ممثلي الدول الشرقية، وقد حظيت بمقابلة الجنرال في مركز قيادته، ودارت بيننا محادثات، ففي المقابلة الأولى لقيته في صباح يوم من شهر نوفمبر، وكان قد تحدد موعدها قبل ذلك بيومين، وقد أخذت الأهبة لهذا اللقاء لعلمي بمنزلة القائد التاريخية، ولوثوقي من شخصيته ونظرته النافذة، ولذلك حرصت على أن أتحين الفرصة وأخرج من المقابلة الأولى، وقد توطدت بعض الثقة بيننا، أو أسي شيء من العلاقة غير الرسمية، أقصد التي يتخللها بعض الصراحة.
فكيف أعمل لذلك؟
كان عليّ أن أستجمع كل معلوماتي وما يبقى بالذاكرة من حوادث الحرب الماضية وتجاربها ودروسها، فمنها بعض ما قرأته في المؤلفات المختلفة وبعض ما سمعته بمعهد زوريخ، ثم كان عليّ أن أراجع ما قرأته من مؤلفات الجنرال فيجان نفسه، وأولها مؤلفه عن (حرب محمد علي)، وهو كتاب معروف متداول، ولم ينقصني سوى كتابه (تاريخ الجيش الفرنسي)، وسرعان ما جبت المدينة باحثاً منقباً لدى باعة الكتب، حتى حصلت على نسخة من هذا الكتاب، فأمضيت ليلتين في تصفحه، وقرأت المقدمة مرات، وأخذت
أتعرف على أسلوبه وطريقته في سرد الحوادث وشرح المعارك التي خاضتها فرنسا؛ ولا تنس أن فيجان عضو في الأكاديمية الفرنسية، فهو قائد وكاتب وأديب.
ولقد أفادني ذلك كثيراً: أولاً لأني من ثنايا كتابته تعرفت على الجنرال، ومن تقليب صفحات كتابه الأخير فهمت ميوله السياسية، ولذلك شعرت بهدوء وثبات، وكأني أعرف الجنرال معرفة أكيدة قديمة لما توجهت إلى مركز القيادة، واستقبلني ياوره وصعد بي إلى الطابق الثاني، وأدخلني إلى حجرة تطل على ناحية المدينة بعكس الجنرال اسبيرز الذي حينما احتل المكان كانت حجرته دائماً تطل على البحر، ولما استأذن لي من الجنرال أدخلني إلى غرفة متسمة، أول شيء لفت أنظاري هو أن حيطانها قد غطيت بالخرائط المفصلة: لأفريقية الشمالية إلى حدود مصر، وأخرى لسوريا ولبنان مع الجزء الجنوبي لتركيا، وفي مقابل المكتب خريطة كبرى لأوروبا الوسطى تظهر فيها بوضوح تام أراضي المجر والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، والجزء البلقاني الذي يبدأ من مقدونيا، وفيه أراضي بلغاريا ويوجوسلافيا، وقد ظهرت على التضاريس الأرضية وطرق المواصلات بمختلف الألوان. وقد أكثرت من ذكر الخرائط لأن الجنرال يحتاج دائماً إليها للتعبير عن أراءه إذا اتصلت بالناحية العسكرية، وتتجه أنظاره باستمرار إليها في حديثه، وأحياناً يشير بأصابعه إليها.
وكان أثاث الحجرة بسيطاً للغاية، لدرجة إنه لا يرضى به موظف بسيط لإحدى المصالح إذا أعطى بعض ما يشبه الرئاسة في بلاد مصر. وكان المكتب على شمال الداخل، فما فتح الباب حتى خف الجنرال من أمام مكتبه مرحباً بي، ولازمني حتى على مقعد أمامه، وعاد هو إلى مكتبه، معتذراً بأن حالة الحرب لا تمكنه من الحصول على أثاث لائق.
وبعد تبادل العبارات المألوفة بدأ حديثه: بأنه ليس غريباً عن مصر، إذ هو عضو بمجلس إدارة شركة قنال السويس، ومن أتاحت له هذه العضوية رؤية بلادنا، ثم هو مدعو قريباً لزيارتها بناء على طلب مجلس الحرب الأعلى للحلفاء لتقديم تقرير واف عن الحالة العسكرية وما يتطلبه الموقف الحربي إذا دخلت إيطاليا الحرب وقررت مهاجمة مصر.
أفادتني معلوماتي التي حصلت عليها بمطالعة ليلتين، والتي أشرت إليها في إلقاء بعض الجمل والتعليقات التي جعلته يطمئن يحدثه لبعض الأمور، فاعتدل في مجلسه وأخذ يتحدث ببعض الإسهاب عن القوات التي تجمعت تحت قيادته في بلاد الشرق فقال: إن فرنسا لم
تقصد من حشدها أن تدافع عن سوريا ولبنان، لأن القوات المحتلة للبلدين تكفي لحفظ الأمن وتوطيد سلطتها، ولرد كل عدوان يقع عليها، وإنما القصد من تجمع هذه الوحدات أن تكون تحت التصرف مجلس الحلفاء الأعلى، لترسل إلى الجهة التي يبدو الخطر فيها، فهو كقائد لهذه المنطقة على رأس مجموعة جيوش فرنسية بينها قوات مؤلفة من البولونيين وتشيكوسولوفاكيين وغيرهم ممن لم تمكنهم الظروف أو لم تسمح لهم وسائل النقل من الالتحاق بوحداتهم الأصلية في بلدانهم. وقال إن هذه القوة منظمة تنظيماً تاماً، وعددها يزيد كثيراً عما يعتقده الكثيرون، بل هي دائمة الزيادة بفضل البواخر التي تنقل من فرنسا ومن مستعمراتها الرجال والعتاد.
وهنا اتجه الجنرال لجهة الخريطة الأوربية وقال: إن حملة سلانيك في الحرب الماضية قد قصرت أجل الحرب وساهمت في النصر النهائي بتعجيل انهيار النمسا والمجر وبلغاريا، وأعتقد أن مجموعة الجيوش التي تحت قيادتي قد تفتح جبهة ثانية في الميدان؛ وأشار إلى سهول المجر المتسمة قائلاً: إذا لم تدخل إيطاليا الحرب ولم يحدث شيء على الميدان الغربي، فإن الحلفاء قد يضربون الألمان بفتح ثغرة من هذا المكان ضد ألمانيا، وقد تكون ضربة حاسمة، وذلك باعتمادهم على جيش الشرق حينما يتم تجمع وحشد قواته ومعداته. وتفهم طبعاً من حديثه هذا أنه قصد تطمين الحكومة المصرية وتمهيد زيارته القادمة لمصر.
وكنت أتلهف لمعرفة رأيه عن المدة التي قضاها في سورية ولبنان، ولذلك أردت أن أنقل الحديث إلى ناحية تشير إلى الماضي، فذكرت له المدة التي أقامها بهذه البلاد وأنها برغم قصرها لا يزال يذكرها الكثيرون - ففهم مرادي من هذه الناحية وقال: إن أصدقاءه يأتون إليه من كل جانب، وأنه يحب هذه البلاد وأهلها، وإن صلات فرنسا بها صلات قديمة راسخة.
والجنرال أقرب إلى القصر منه إلى الرجل المتوسط الطول، يبدو لك في الخمسين من عمره، وإن كان قد ترك الستين وأخذ يقترب من السبعين، وهو دائم النشاط والحركة، يظهر لي من حركاته أنه شديد الوطأة على معاونيه، إذ يطلب درجة فوق المستوى اللاتيني من الضبط والربط، وهذه الدرجة غير متوفرة في ذلك الوقت، لأن جيوشه تنقصها
المعسكرات والثكنات، فهي في حكم المضطرة لمشاركة الأهالي في مساكنهم، وناهيك بأثر ذلك في نفسية الجنود ومعنوياتهم وخضوعهم لأنظمة الجيوش. ولما كان غالب هذه الفرق قد وصل من أفريقيا الشمالية، وأكثر من الجنود الملونة من أهالي المستعمرات والسنغال والمغرب، كان جل اعتمادها في النقل على الحيوان أو على عربات يجرها الحيوان، فكانت أشبه شيء بالجنود التي زحف بها اللورد اللبني عام 1917على فلسطين وسوريا وحارب بها الأتراك.
كنا نعلم الكثير من هذا، ولكن ثقتنا بالجنرال كانت كبيرة ولا حد لها، خصوصاً في فنه وعبقريته. ولما استأذنت، ودعني قائلاً: إنه يسر أن يراني من وقت لآخر. ولم تعرض المرة الثانية إلا قبيل سفره إلى مصر في فبراير التالي، إذ بدأت حديثاً معه، فأشرت إلى الماريشال فوش، وكان الجنرال رئيساً لأركان حربه وقلت: إنني أقف في كل مرة أزور ألانفاليد بباريس أمام الخريطة الكبيرة التي كان يدير بها العمليات الحربية بالميدان الغربي، وأعجب من عبقريته، وأفضى بنا الحديث إلى معركة لمارن وأثر فوش، وإلى النظرية الفرنسية للحروب، وعبقرية نابليون وإشادة فوش بها في دروسه بأكاديمية الحرب الفرنسية.
وانتقلنا عرضاً إلى الديمقراطية، وهي إن بدت ضعيفة في الاستعداد الحربي، إلا أن الكلمة الأخيرة لها، لأنها ستكسب في النهاية المعركة الفاصلة.
وكان هذا الحديث الشائق يسير متواصلاً إلى أن قطعه بان أخذ يتحدث عن الجيش المصري فوجه إلى عدة أسئلة دقيقة مثل: من كم فرقة يؤلف جيشكم؟ كم شهراً يأخذ التدريب الفني لجندي المشاة؟ هل لديكم مدارس لضباط الصف؟ ما هو التسليح الجديد والأنظمة الحديثة التي أدخلتها البعثة العسكرية البريطانية على جيشكم؟ ما هي الوحدة الأساسية التي يبن عليها التدريب لكي تدخل القتال مستقلة اللواء أم الفرقة؟ هل لديكم سلاح للمهندسين بالجيش؟ هل بوسع جيشكم أن يدخل الميدان أمام قوات منظمة على الحرب الحديثة ولصد هجوم جيوش أوربية؟ ما هو مستوى ضباط الأركان حرب عندكم، وهل لديكم ضباط درسوا في دول غير بريطانيا؟
كانت ثرثرتي حول بعض المبادئ العامة مما جعله يعتقد أنه أمام جندي في زي ملكي، أما
أنا فقد احترت كثيراً، وكنت كمن فتح لنفسه باباً لا يقدر عليه، ووقفت أسائل نفسي: هل أجيب على أسئلة الجنرال على الطريقة المعتادة لدينا، وفي صحفنا وأنديتنا فأقول: إن جيشنا على تمام الأهبة والاستعداد لتلبية واجب الوطن، وإن لدينا معدات كاملة، وإن قوادنا من الدرجة الأولى في فنون الحرب والقتال، بل إن منهم من وضع خطط الدفاع الصحراء الغربية. لا شك في أن قولي هذا لم يكن يقدم أو يؤخر، ولكن أمامي قائد من كبار قواد فرنسا سوف يذهب بعد أيام إلى مصر، وسيلتقي برجالنا وقوادنا، وسيعرف بالضبط مقدار معلوماتهم، وسوف يحادث رجال فرنسا عندنا ويقابل الجنرال ويفل والجنرال ويلسون وضباط البعثة البريطانية، وسيقف على كل صغيرة وكبيرة. فوقفت متردداً ثم قلت: أن الجيش المصري يتطور بسرعة نحو استكمال أسلحته، وسترى في مصر وتسمع الكثير عنه، ولا شك أن الخطوات ثابتة. ويذكرني حديثكم عن أيام قضيتها بإيران، والتقيت مرة بأفراد البعثة العسكرية الفرنسية المكلفين بتنظيم الجيش الإيراني، فسمعت أحدهم يقول:(أن الحكومة الإيرانية تطلب منا أن نخرج لها ضباطاً صالحين للقيادة بعد دراسة لا تطول أكثر من سنتين، ونحن في فرنسا نحتاج إلى عشرين عاماً لتهيئة وتكوين ضابط من ضباط الأركان حرب الذين تستطيع أن تعتمد عليهم الدولة في تحريك فرقة من الجنود وقيادتها في ميدان القتال).
وهنا نظر إلي الجنرال طويلاً وابتسم، إذ في ذلك كل الإجابة على أسئلته المحرجة، ولكني أردفت ذلك بقولي له: إن مواد العمل صالحة وجيدة، وإن قوة احتمال الجنود وصبرهم من ميزات الجيش المصري، بل هي أهم عوامل البناء التي يمكن الاعتماد عليها في إخراج جيش حديث يعيد بعض مواقف السلف من الماضي، ولا شك أنكم كتبتم شيئاً من ذلك فارجعوا إلى ما أشرتم إليه في كتابكم.
فهز رأسه موافقاً على ما قلت، وافترقنا، وبعد أسبوع من هذه المقابلة سافر الجنرال إلى القاهرة، ولقي من السلطات المصرية والبريطانية كل ترحاب، وأقيمت له المآدب وحفلات التكريم، منها مأدبة رفعة على ماهر باشا التي أقامها على شرف الجنرال في فندق سمير اميس، وقد دعي إليها كثير من العظماء وأهل الرأي من العظماء وكبار ضباط الجيشين المصري والبريطاني، وأدلى رفعته بحديث نقلته وكالات البرق قال فيه:
(إن مصر تغتبط باستقبال القائد العظيم وتقدر صفاته العسكرية الممتازة وماضيه المجيد وتحيي فيم ممثل فرنسا النبيلة).
وأقيم له استعراض عسكري اشتركت فيه بعض الوحدات الميكانيكية من القوات البريطانية والمصرية والهندية، وكان يرافقه القائد البريطاني ويفل أثناء العرض.
وتعود بي الذكرى هنا إلى عام1942، حينما تعددت مقابلاتي مع الجنرال كاترو الفرنسي، وذلك بعد احتلال سوريا ولبنان، وفي إبان المفاوضات التي أنهت بعودة الحياة الدستورية بالبلدين، إذ أنني قابلته في يوم16أكتوبر1942، وتناول الحديث مسائل متنوعة، ولكنه صرح لي وقد قيدت ذلك في حينه:
إنه كان حاضراً في مجلس الحرب الأعلى للحلفاء في باريس، وذلك قبل خروج فرنسا من الحرب، حينما عرض التقرير الذي وضعه الجنرال فيجان عن رحلته إلى مصر في فبراير1940وعن الحالة الحربية، وإن الجنرال سجل إعجابه بالجنود المصريين وحسن استعدادهم للخدمة العسكرية، واقترح وجوب زيادة الجيش المصري، كما أشار إلى ما يجنيه الحلفاء من الفائدة والمعونة إذا وقف بجانبهم جيش مصري قوي، وقد أخذ مجلس الحرب الأعلى بهذا الاقتراح وكان من ضمن القرارات التي وافق عليها.
وعاد الجنرال فيجان من مصر فبدأ رحلاته إلى الداخل، وكثرت تنقلاته، وكانت مقابلاته بعد ذلك عرضية ونادرة، وأغلبها في ميدان السباق، ولكن توطدت مع معاونه الجنرال كايو ومع أركان حربه ومكتبه علاقات ودية، فما اتصلت بشيء لدى السلطات العسكرية عن طريق القيادة، إلا وأجيب طلبي أو رجائي فوراً، أو كان محل اهتمامهم وتحرياتهم بعكس السلطات المدنية التي طالما تمهلت وتأخرت، ثم ألقت أسباب عجزها على السلطات العسكرية، ولقد كان موضع سمرنا في المفوضية الفرنسية خصوصاً المكتب الدبلوماسي الذي أحتج بالعسكريين بادرت بأن أعلمه أنني مستعد للذهاب إليهم رأساً لإزالة ما نشكو منه، وكان المكتب يعلم بما تقدمه السلطات العسكرية من تسهيلات لمصر في مقابل ما تبذله من تسهيلات للعسكريين
هذا هو الجنرال الفرنسي الذي ساهم مساهمة فعلية في قيادة فرنسا إلى النصر في الحرب الأولى، والذي وطد نفوذ بلاده في الأشهر الأولى من الحرب العالمية الثانية، كان حركاته
ومشيته تفيض منه الطمأنينة والثقة، فيتأثر منها الغير لدى مواجهته أو مصافحته أو رؤيته، ويشعرون بنفس الثقة والاطمئنان.
وأذكر مرة أني رأيته داخلاً الجامع العمري بمدينة بيروت بمناسبة المولد النبوي الشريف، فهتفت له الجماهير الإسلامية طويلاً، وحملته على الأعناق، ودخلت به المسجد.
ولقد رأيت الكثيرين من ممثلي البلاد الأوربية في المشرق فلم أر مثل فيجان، ولقد وصل غيره، ورتبت لهم الهتافات، إلا أن الجماهير لم تغمرها روح الحماس الذي كانت تحس بع عند رؤيتها الجنرال الشيخ والشاب في نفس الوقت.
وفي ليلة ومن الليالي استدعى باريس لقيادة جيوش الجمهورية وسد ثغرة سيدان، لقد تحطمت الجبهة واندكت حصون خط ماجينو في الشمال والزحف الألماني لا يقف، وراديو برلين يصيح:(لو بعث نابليون من قبره، لما كان في وسعه أن يغير القدر المحتوم!) لقد هزمت فرنسا وتمزقت جيوش الجمهورية!
وكنت جاراً للجنرال كايو، وقد زالت الكلفة بيننا، وفي عصر أحد الأيام دعاني لمنزله، وقال انه يغادر البلاد الليلة إلى مصر فالسودان فأفريقيا الغربية فمراكش إلى فرنسا، وذلك بناء على دعوة فيجان، إذ يجب أن يكون بجبهة القتال قبل أربعة أيام. قلت أنكم تنتظرون قرارات حاسمة. قال: إن إنقاذنا يحتاج لمعجزة
ودمعت أعين القائد أمام هذا التصريح، فاستأذنت بعد أن حملته سلاماً للقائد الذي وضعت فرنسا وبلادي مصر وغيرنا من البلاد آمالها في عبقريته وفنه العسكري يوماً من الأيام.
وانتهت صفحة من تاريخ العالم بمعاركه وفواصله وأسلاكه الشائكة.!
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان. . .
دمشق.
. .
للأستاذ علي الطنطاوي
(كتب إلى صديق كبير وأستاذ جليل ممن عرفت في مصر أن أصف له مدخل دمشق، وأن أعرفه بمتنزهاتها وآثارها، وإن ذلك لمطلب على مثلي عسير، وحمل علي قلمي ثقيل، وإني أحاوله اليوم محاولة ريثما ينهض به من هو أضخم مني في زحمة الأدب منسكباً، وأحد فكرا، وأمضى قلما. . .).
هذي دمشق يا أيها الأخ السائح، قد لاحت لك أرباضها، ودنت رياضها، أفما تراها وأنت قادم عليها من نحو فلسطين، مع الصباح الأغر كيف نامت من غوطتها على فراش من السندس صنعته يد الله، وقد توسدت ركبتي حبيبها البطل الشامخ بأنفه الصخري: قاسيون، فكان رأسها في الصالحية، وقدمها في (القدم) وقلبها في (الأموي) بيت الله الأطهر، فانظر أما تراه أول ما يبدو من دمشق للقادم عليها، يطل على بقيته التي ليس لها في الدنيا نظير: قبة النسر التي راعت بجلالها الأولين والآخرين وما رأى الرائي أضخم منها ولا أعلى، ومآذنه الثلاث معجزات الصنعة في تاريخ العمران الإسلامي، يسبغ على المدينة جلال القرون الأربعين التي رآها وعاشها، مذ كان معبداً وثنياً، إلى أن صار منسكاً مسيحياً، إلى أن استقر مسجداً إسلامياً، يخرج من مناراته خمس مرات كل يوم النداء الأقدس:(الله أكبر لا إله إلا الله) فيردده إخوان مسلمون في الشرق، وإخوان في الغرب حتى يفيض طهره على الأرض كلها. ألا تراه يعلو كل عمارة في المدينة على ما فيها من عمارات شاهقة، حتى كأن أعلاها إلى جانبه الطفل بجنب الرجل الضخم الطوال؟ فإن كان برج (إفِّل) علم بارز وذلك التمثال علم نيويورك. فعلم دمشق بيت الله العلي ذي الجلال.
لقد دنونا، وهذا المطار إلى يمينك، وهذه القرية من ورائه (داريا)، والغوطة الغناء، جنة الأرض، ما رآها أحد إلا أحس بأنه يرى مدينة مسحورة من مدن (ألف ليلة. . .)، وقد ترامت له من غمرة حلم ممتع. . . لقد اقتربنا منها. . . هذه (المزة) ضاحية دمشق، أصح المنازل، وأبعدها عن العلل، مساكن العرب الغر من سالف الدهر، لقد جاوزنا سهلها المشرق، وجبلها المشرف، وساحتها الفيحاء، وعماراتها البارعات، وولجنا حمى الغوطة. هذه بساتينها التي تتصل حافلة بالثمار، مليئة بكل ما يفتن ويفيد، مسيرة تسع ساعات على
الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة، أو نبتة مزهرة، ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ. . . لاجتمع أكثر من ثلاثمائة صحن ما صحن منها مثل ما في الآخر، وحسبك أن في الشام من العنب أكثر من خمسين نوعاً. . . ومن التفاح فوق الثلاثين. . .
هذه هي الغوطة، أفما ترى نساءها يلحن من بعيد وهن ساريات خلال الأشجار، أو منثورات وسط الحقول، بثيابهن التي لا يحببنها، على سترها وشمولها، إلا زاهية تضحك فيها الألوان، فتحسبهن الزهر، وتظن الربيع قد جاء في كانون والأرض مفروشة يبسط نسجت بخيوط الذهب، من صفرة الأوراق التي بعثرها وتركها الخريف، فكانت كنثار الدنانير، على بساط من السندس في عرس أمير، والبقر الفاقع الصفرة الصافي اللون، تماثيل في متحف الطبيعة صبت من خالص المسجد، والشتاء إذ حلت فحلمت فيه الأشجار ثيابها، على حين يتدثر الناس بالصوف، فكأنما هي الغيد الفواتن تمرين على الشط، ليضنين الشباب لوعة وشوقا:
وما ينتحين الشط يبنين برده
…
ولكن ليقتلن البريء (المغفلا. . .)
فهذا الحور لم يبق منه إلا عيدان، فكأن الحور فتية أذاب جسومهم الحب، فأضحوا من جَواه جلداً على عظم، والمشمش كملاح هجرهن الأحبة، بعد ما قطفت زهراتهن، فأبن بلوعة ليست تنفع وحسرة، ورحن إلى خزي لا يريم وإلى ألم؛ والجوز العاري على جلاله، ملك عزل واستلب منه تاجه، ولكنه كان عظيماً في نعمته. أما الزيتون، وما أعظم الزيتون، فلا يرى إلا لابساً ثيابه التي لا ينضبها ولا تبلى عليه، ثابتاً على حاله، لا يحس بالغير، ولا تستخفه الأحداث، فلا يضحك بالزهر إن أقبل الربيع، ولا يبكي إذا جاء الشتاء، فهو الفيلسوف الساخر بالحياة، أفراحها وأتراحها، الذي لا يبالي نعمها ولا نقمها، والسواقي وهن جوار من الشرق إلى الغرب إلى الشرق، ومن كل جهة إلى أختها: ساقية تجري عميقة - بين الأعشاب، لا يوصل إليها، ولا ينال ماؤها، وأخرى ظاهرة مكشوفة، وواحدة تنحدر تحدراً ولها صخب وهدير - وثانية تسير صامتة في أصول الأشجار وصافية نقية - وعكرة خبيثة - وسالكة طريقها قانعة بمجراها، وكاسرة حدودها عادية على غيرها. . . . . . فكأن سواقي الغوطة صورة لنا في حياتنا نحن الناس، كل يعمل على شاكلته، وكل
ميسر لما خلق له، مول وجهته ساع إلى غايته، والوجهات متعارضات والغايات مختلفات، ولكن كل ساقية تعرف طريقها، والناس يهبطون إلى حضيض الشهوات والمعاصي على أهون سبيل ولكنهم يلقون في التسامي إلى معالي الأمور عنتنا وأينا. وكذلك السواقي تتحدر بلا سوق ولا تعب، ولكنها لا تعلو إلا أن تضخها بمضخات وترفعها بآلات، وهذا عميق النفس لا تدرك قراراته ولا تعرف حقيقته، وهذا واضح بين ظاهره كباطنه - وهذا جياش صخاب، وهذا صامت سكوت، ونقي الطوية وخبيث الداخل، ومنصف وظالم، وكبير وصغير، وكل يستمد من غيره، ويمد سواه، وكذلك سواقي في الغوطة. . .
هذه هي الغوطة إن يفتنك جمالها وبهاؤها، فقد فتنت من قبلك ملوكاً وقواداً وأدباء وعلماء، وأنطقت بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعت في الناس فرحة لا تنقضي، وما فقدت على الأيام فتنتها ولا شاخت على طول المدى، بل ازدادت شباباً وفتوناً وحسناً. . . هذه هي الغوطة رأيت جانباً منها في الشتاء؛ ولو رايتها وهي مياسة في حلل الزهر تختال في أفراح الربيع، عرس الدهر، تملأ الدنيا بالعطر والسحر، وتقرأ على القلوب أبلغ الشعر، لرأيت عجباً، ما يبلغ وصف حقيقته بيان!
لقد تركنا هذا الطريق القديم الذي يمر على ثكنات الجند، ومنازل الجيش، وملنا من هذه الجادة المحدثة إلى الشارع العظيم شارع فاروق الأول لندخل دمشق من أفخم مداخلها. هذا هو بردى أيها الأخ! وهذا؟. . . أترى هذه العظمة وهذا الجلال؟ أتسأل ما هذا الوادي، وما هذه الأنهار تجري في سرة الجبل وعلى السفح، سبعة بعضها فوق بعض، كعقود اللؤلؤ في عنق كأنه العاج، والشلالات تهبط من أعاليها إلى أسافلها؟ هذا يا سيدي معبد الجمال، هذا دير الحب، هذا منسك القلوب، هذه الربوة. . . لا يا أيها الأخ، إن من الإلحاد في شرعة الجمال أن نصف الربوة ونحن نمر بها مرور الكرام باللغو، إن لها حديثها وستسمعه إن شاء الله. ولقد قلت عنها كلاماً كثيراً، ولكن مكان القول ذو سعة، وسأقول عنها إن أنا وفقت كلاماً اكثر، على أنه لا يغنى فيها كلام عن شهود، ولا يجزئ بيان من عيان. . .
وصلنا أيها الأخ؛ هذا ميدان دمشق (المرجة) وهذا النصب الفخم في وسطه المتوج بتمثال مسجد السراي في (اسطامبول)، هو نصب التذكار بمد الأسلاك البرقية إلى دمشق وهذا القصر الصخري الهائل، سراي أحمد عزت باشا، وهذه دار البلدية، وهذا البناء الرفيع
الذري، نُزُل أمية، وهذه الشوارع الثمانية المفضية إلى الميدان، بسيارتها وتراماتها، وطرق أحياء دمشق. . . أتعجب من هذه الحانات وهذه الملهيات. ومن كثرة السينمات؟ هذه يا صاحبي (دمشق الجديدة. . .)، لا تلقي فيها ما لا تلقي مثله في أي مدينة كبيرة: خير وشر، وعلم وجهل، وتقى وفجور، وحجاب وسفور، حياة كالبحر فيه اللؤلؤ وفيه الحصى، وفيه الحياة وفيها الموت. هذي دمشق التي مزقت ثوبها لتلبس ثوباً أوربياً، فلم تجده على مقياسها فبقيت عريانة إلا من خرق وأسمال، هذه هي القبرة التي أراد لها حمقها أن تقلد الغراب فنسبت على جمالها مشيتها، ولم تتعلم على قبحها خطوة الغراب. أنزل في نزل أمية، أو في فندق الشرق (أوريان بالاس) الضخم، القائم هناك، بحيث يشرف على بردى وواديه، والشرف الأعلى ومغانيه، وقاسيون وقصور المهاجرين. . . تحس أنك في (شبر د) القاهرة، أو (الكونتتنتال) - أعني أنك في أوربة؛ فالأثاث والرياش، والطعام والشراب، والزي واللباس، والسماع والغناء، واللغة واللسان، كل ذلك أوربي أوربي أوربي!
ولو أنك عرفت هذه (المرجة) في عصورها الخوالي؛ وهذان الشرفان الأعلى والأدنى، وما كان فيهما من مدارس ومساجد وزوايا وتكايا، وما قام الآن مقامها، وأخذ مكانها. . . ولكني لن أسوق لك المزعجات وأنت قادم على البلد، فأقرأ إن شئت ابن عساكر، والمحاسن للبدري، ورحلة ابن بطوطة، وما أظنك إلا قد قرأتها كلها!
هذه دمشق الجديدة. . . أما دمشق العربية المسلمة، بلدك وبلد خلائف الأرض، من أبناء عبد شمس، من إذا قالوا لبت الدنيا، وإن مالوا مالت الأرض، وإن حكموا أطاع الزمان، من كانت دولتهم (تفصل. . .) تسع عشرة من دول هذه الأيام، من كانت راياتهم تحقق على بطاح فرنسا وسهول الهند، وما بينهما وكانت قصورهم تتيه على النجوم، وكانت أبوابهم تقف عليها الملوك. أما دمشق معاوية والوليد فليست هنا، أنها مختبئة هناك في دروب ضيقة وحارات حول المسجد الأطهر، هناك المجد والعلم والتقى وبارع الخلال، فامش إليها وادخل دورها، وجالس أهلها، تقرأ تاريخ المجد في صفحات من دور ووجوه وعادات، وتر بقايا الحضارات من لدن نوح قد استقرت فيها، ففي كل بقعة منها تاريخ، وكل حجر منها يتلو من سور الجلال آيات.
فإذا أردت أن تعرفها وتصل إليها، فاخرج من نزل أمية، ومل قليلاً تجد أمامك جامع الأمير
(يلبغا) الذي سرقوا نصفه فجعلوه مدرسة للصبيان، وتركوا منارته قائمة في المدرسة، تعلن لكل ذي عينين شكواها وتذيع خبر بلواها، فلا تقف عليه، وخذ إلى يمينك إلى جادة الفنادق، (الجوزة الحدباء)، حتى تبلغ سوق صاروجا الذي كان حي الباشوات الأتراك والمجددين فصار الآن حي التجار المحافظين، فزر في طريقك جامع الورد ثم سر إلى العقيبة، منزل الأمام الأوزعي وادخل جامعها الأنور المبارك الذي لا يخلو من قائم الله بحجة، جامع التوبة ثم اسلك طريق العمارة، وجز بزقاق النقيب، وعرج على منازل علماء الأمس، فقد كانت هذه المنازل مدارس، وكانت جامعات، وكانت منائر هدى للناس، وكانت هي دعائم نهضتنا، ووزر الكلية الشرعية ثم ادخل الجامع الأموي، وامكث فيه وسائله عن الماضي واستنطقه، وطر بروحك في سمائه، واسم بها إلى عليائه، ثم عد إلى أحدثك إن شاء الله حديثه، وإن حديثه لطويل!
ثم جل في القيمرية، ولج تلك الدور، وشاهد تلك القاعات والأبهاء، وهذه الزخارف والنقوش والبرك والنوافير، فمنها سيدي أخذ الأندلسيون هندسة هاتيك القصور، ومر بهذا الزقاق الذي تباع فيه القباقيب، ولا تحقره لضيقه وفقره، ثم انزل إلى تلك الحارة المعتمة القذرة، فاقرع باب مصبغة هناك، فإذا فتحوا لك فاهبط درجها ولا تفزعك رطوبتها وظلمتها، ثم قف خاشعاً متذكراً معتبراً؛ فإن غفي مكان هذه المصبغة التي يسمونها (مصبغة الخضراء) كان قصر الخلفاء من بني أمية. . .
فإذا خرجت منها فاسأل عن زاوية هناك، فإن فيها قبر معاوية الصغير (ابن يزيد)، ثم اذهب إلى السيمساطية تلك المدرسة المحدثة البناء، العامرة، فقف عليها فقد كانت منزل خامس لخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، ثم أم المعاهد في جوارهما: الجقمقية ومدرسة بطل الدنيا صلاح الدين، فقم على قبره ساعة، وترحم عليه واحمد الله، على أن خّزى ذلك الطاغية (غورو) وذل والظاهرية دار الكتب، والعادلية مثوى المجمع العلمي العربي ثم اسلك على باب البريد، ومر بخرائب (المرادية) التي كانت إلى العهد القريب مدرسة عامرة، حتى تزور العادلية ودار الحديث الأشرفية، التي كان فيها البدر الحسنى بقية السلف وزر المارستان النورى، الذي كان مستشفى كأكبر ما يكون مستشفى في هذه الأيام وكان مدرسة للطب، ثم أم قبر الملك العظيم صاحب هذه المآثر ونور الدين القائد
الظافر والملك العادل والحاكم الكامل، ثم ادخل القلعة، وشاهد السور والأبواب. . .
هذه دمشق يا سيدي، أفيوفي حديث دمشق في مقالة؟ فأمهلني أعد إليك محدثاً. . . وأطل الحديث.
هذي دمشق أقدم مدن الأرض وأجملها، هواؤها أطيب هواء، وماؤها أعذب ماء، وطعامها أمرأ طعام، ومنظرها أبهى منظر، ومخبرها أحسن مخبر، ولسانها أفصح لسان، وسكانها من أكرم السكان، فيها العلم والأدب، والتقى والصلاح، والحب فيها واللهو، وفيها الفتون والجمال.
هذي دمشق كانت لب العربية، وبقيت لب العربية، وستطلع على العصور القوادم وهي للعربية لب وقلب وفؤاد، لها بين الماء الذي لا يضحك به بردى وشدة الصخر الذي يشمخ به قاسيون، وصراحة السهل الذي تزدهي به المزة، وكرم الأرض التي تعطى (في الغوطة) أكلها أربع مرات في العام.
لها لين بردى، ولكن بردى إذا ضيوق بالسدود، علا وفاض واجتاح البلاد والعباد، ودمر كل شيء يقف في طريقه، ويقطعه عن مراده، فقل للغافلين:(لا يغرركم من بردى لينه وابتسامه) فأنه سرعان ما يعبس ويثور). فاتقوا غضب الحليم!
(دمشق)
علي الطنطاوي
القاضي الشرعي
ومدرس الأدب بالكلية الشرعية (العليا)
صور من العصر العباسي:
مآكل الخلفاء العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لعل الملوك والخلفاء من أشد الناس حرصاً على انتقاء ما لذّ من الطعام وطاب، فهم يتخيرون اللذيذ من كل شيء، وما عليهم إن أتعبوا غيرهم، أو أنفقوا الأموال الطوال في سبيل ذلك.
والخلفاء العباسيون، كانوا يعنون بهذا الأمر كل العناية، وكانوا يحرصون على ألا يفوتهم من لذائذ المآكل والثمار شيء. فكانت هذه اللذائذ تحمل من الأقطار إلى قصورهم في بغداد ليتمتعوا بها، وكانوا يفرضون أن يحمل إليهم مع خراج كل بلد، ما حسن فيه من مأكل أو ثمر أو زهر. وهكذا كان يحمل مع خراج الري الرمان والخوخ المقدد، ومن أصبهان والموصل العسل والشمع، ومن الكوفة البنفسج، ومن جرجان النرجس، ومن الصيمرة النارنج، ومن طبرستان الأترج. وكان يحمل من مكة والمدينة والحجاز إلى الخليفة العنبر والزبيب، ومن الأهواز ثلاثون ألف رطل من السكر، ومن فارس ماء الورد والزبيب الأسود والرمان والسفرجل والتين، أما دمشق، فكانت ترسل إلى الخليفة التفاح، وكان المأمون معجباً به، يؤخذ إليه منه ثلاثون ألف تفاحة مع الخراج.
وكانوا إذا اشتهوا شيئاً ولم يكن له نصيب في الخراج، أرسلوا يطلبونه. فقد كانوا يطلبون ألوان اللحوم والطيور، ولو بعد مكانها، فتأتيهم على البريد. وينفقون في ذلك الأموال الكثيرة. وكل هذا ليمتع الخليفة بالطيبات من المآكل والأثمار.
ومظهر هام من مظاهر هذه العناية يتجلى لنا، عند بعض الخلفاء، بالألوان الكثيرة التي كانت تهيأ له من الطعام. وقد كان عدد هذه الألوان يبلغ مبلغاً، ما سمع ولا عرف. حدث جعفر بن محمد - وكان أحد العشرة اللذين أختارهم المأمون لمجالسته ومحادثته من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم - قال: تغدينا يوماً عنده - أي عند المأمون - فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون. وكلما وضع لون، نظر إليه المأمون فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا.
ومهما يكن أمر هذا الظن الذي ظنه هذا الفقيه، فلا بد أن يكون عدد ألوان الطعام كبيراً.
وقد كنا نرتاب بالخبر لولا أن ذاكره هو ابن طيفور، ولم يؤرخ المأمون أحد مثله.
ويؤيد ما ذكرناه من تكثير الخلفاء ألوان الطعام ما رواه
المسعودي، فقد ذكر أن الرشيد كان ينفق على طعامه في كل
يوم عشرة آلاف درهم. وأنه ربما أتخذ له الطباخون ثلاثين
لوناً من الطعام. وكان يتخذ للقاهر اثني عشر لوناً (آدم
متز1247)
فلننظر الآن فيما كانوا يرحبون فيه.
نلاحظ أن أكثر ميل ملوك بني العباس كان إلى اللحوم، وخاصة لحوم الدجاج. يقول الجاحظ: وملوكنا وأهل العيش منا لا يرغبون في شيء من اللحمان رغبتهم في الدجاج. وهم يقدمونها على البط والنواهض والدراج، وعلى الجداء. . . وهم يأكلون الرواعي كما يأكلون المسمنات.
أما رغبتهم في الدجاج فذلك لأنه أكثر اللحوم تصرفاً. فهي تطيب شواء، ثم حاراً، وبارداً، ثم تطيب في البز ما ورد، وهو طعام من البيض واللحم، أو رقائق ملفوفة بلحم، ثم تطيب في الهرائس، وتطيب طبيخاً، وإن قطعتها مع اللحم دسم ذلك اللحم، وتصلح للحشاوى، وسمينها يقدم في السكباجة على البط.
وفي الشتاء كانوا يرغبون في الأطعمة الحارة المهيجة. فقد قال المأمون لأبي كامل الطباخ يوماً: اتخذ لنا رؤوس حملان تكون غداءنا غداً. ثم التفت إلى علي بن هشام، وكان حاضراً، فقال إن من آيين الرؤوس أن تؤكل في الشتاء خاصة، وإن يبكر آكلها عليها، وألا يخلط بها غيرها، ولا يستعمل بعقبها الماء.
وكان المأمون يميل أيضاً إلى لحم الغنم، وقد قال للحسن بن سهل يوماً: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة، سوى سبعة. قال الحسن: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد. . وعد أربعة غيرها.
وقد يعجب بعضهم بالمملحات والممقورات. فقد خرج المقتدر يوماً إلى بستان الخلافة،
فطلب طعاماً، فلم يحضر طعامه، فقدم له، ملاح جونة مليحة من خيازر (ج خيزران) فيها جدي بارد، وسكباج مبرود، وبزماورد وأدام، وقطعة مالح ممقور، وأرغفة سميد جيدة. فاستنظفها وأكل منها، واستطاب المالح والادام، فكان أكثر أكله منه.
وعلى ذكر البزماورد، نقول أنه كان يسمى في العصر العباسي لقمة الخليفة، ولقمة القاضي، ونرجس المائدة. وهذه التسمية تدلنا على أن الخلفاء والقضاة كانوا يأكلونه ويحلون به موائدهم. وهذا البزماورد، كان يتخذ من اللحم والبيض في بغداد. ويذكر لنا الجاحظ أن أهل خراسان كانوا يعجبون باتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير.
ويبدو أن اتخاذ البزماورد من فراخ الزنابير ليس بعجيب، فقد كان الفضل بن يحيى يوجه خدمه في طلب فراخ الزنابير ليأكلها، وفراخها ضرب من الذبان الكبار، كما يقول الجاحظ.
وكانوا يرغبون في السكباج، ويسمونه مخ الأطعمة وسيد المرق. ولقد تشكى خليفة يوماً لجارية له من هذا الطعام، فقال لها، إلى كم سكباج؟ قالت: هو مخ الأطعمة، لا يكره بارده ولا يمل حاره، بل يستطاب في الحضر، ويتزود منه في السفر، ولا يؤثر عليه الضيف في الشتاء والصيف.
وإلى جانب ما ذكرنا، كانو يعنون بالسكارج والبقول، ويقولون: لكل شيء حلية، وحلية الخوان السكرجات والبقول. ويقدرون الأرز حق قدره، ويقولون الأرز غذاء ضحيح.
وكانوا يأكلون ألسنة السمك، يعمدون إلى السمك فينزعون ألسنته ويأكلونها. ولقد دعا إبراهيم بن المهدي الرشيد مرة فأعد له طبقاً ألسنة السمك، وأنفق على صحفة صغيرة منه مبالغ طائلة.
أما السمك نفسه، فكانوا يأكلونه أيضاً، ويلاحظ أنه كان مرغوباً فيه من النصارى كثيراً، فكانوا يأكلونه أكلاً ذريعاً. ويحدثنا الجاحظ أنه لكثرة إقبالهم عليه كانوا يغلونه على الناس، حتى تتوخى أياماً بأعيانها فلا يشترى السمك إلا فيها طلباً للإمكان والاسترخاص وهي يوم الخميس، ويوم السبت، ويوم الثلاثاء.
ومن المآكل التي كانوا يعجبون بها ألبان الضباء. وكان الرشيد يسر بها. ولقد زار جعفر بن سليمان والي البصرة سنة196، فأحضر له على مائدته ألبان الضباء وزبدها فاستطاب طعومها وسر بها.
ولون آخر كانوا يشتهونه، هو كبود الدجاج وحدها. ويحدثنا التنوخي أن إبراهيم الحراني الصابئ الطبيب كان بين يدي الموفق يوماً، فقال له: أنا أشتهي شهوة منذ سنتين، وأستقبح أن أطلبها وقد عن لي الساعة مواضعتك على طلبها. قال إبراهيم: قلت يا أمير المؤمنين مر، قال: ويحك أنا والله منذ سنتين كثيرة أشتهي كبود الدجاج وقوانصها مطبهجة، وأستقبح أن أطلبها. . . وأريد إذا قدمت المائدة، وجلست معي للأكل، أن تشتهي ذلك علي وتشير به من طريق الطب لأتقدم إليهم باتخاذ شيء منه، بشيء يسير، فيصير ذلك القدر رسماً في كل يوم لا يؤثر عليهم قدره. قال فعجبت من كرمه وفرط حيائه من خدمه حتى يلفق الحيلة، وقدمت المائدة، فجلس يأكل وحده وجلست مع الندماء آكل على مائدة بين يديه. فلما أكل بعض أكلة قلت: لم لا يأمر أمير المؤمنين بأن يتخذ له شيء يسير في زبديات من كبود الدجاج المسمن وقوانصه بالبيض والمري فيطحن بعضه. . . فأصلح له زبدية من كبود الدجاج وقوانصها، وصار رسماً جارياً.
أما الخبز. فكانوا ينوعونه، ويتخيرون أطيبه، وقد كان الرشيد يأكل يومين متواليين خبز السميذ، والثالث الحواري، والرابع الخشكار والخامس والسادس خبز الأرز النقي من خبز التنور.
ويبدو أن الخبز وكثرته كان يؤثر في نفس بعض الخلفاء. فلقد سأل الواثق بن أحمد بن أبي داؤد يوماً ما جمال الموائد؟ فقال: كان يقال: جمالها كثرة الخبز عليها. فقال: أصبت وأحسنت فإن اختلفت الألوان وكان الخبز كثيراً شهد لصاحبها بالشرف.
فهذه بعض الألوان التي كان الخلفاء العباسيون يرغبون فيها من المآكل وهي ألوان فيها النادر والغريب. ولقد كانوا ينفقون في سبيل الحصول على هذه المطاعم الأموال الكثيرة في كل شهر. وقد ذكروا أن الرشيد كان ينفق على طعامه كل يوم عشرة آلاف درهم.، وأن نفقات المطابخ والخابز بلغت في القرن الرابع، في دار الخلافة عشر آلاف دينار في الشهر. وهذا المبلغ دليل على كثرة الإنفاق. وإن كان أكثر هذا في باب الإسراف. ويحدثنا التنوخي أن المعتضد طلب يوماً لوناً من الطعام، فقيل له ما عمل اليوم، فأنكر ذلك، وقال يجب أن لا يخلوا المطبخ من كل شيء حتى إذا طلب لم يتعذر، ووقع إلى ديوان النفقات بإقامة ذلك اللون إلى أن يرد التوقيع بقطعه، فكان يعمل وينفق عليه دراهم كثيرة ولا يحظر
المائدة توقعاً أن يطلبه، فيقدم عند الطالب كما رسم. فمضى على ذلك سنة ولم يطلبه. وهو يصنع. وكان هذا اللون جزورية وكان الطباخ يذبح في كل يوم قلوصاً.
على أنه إذا كان بعض هؤلاء الخلفاء ينفقون الأموال على الدجاج وكبود الدجاج وعلى ألسنة السمك والجداء وغير ذلك، ويحرصون كل الحرص على التلذذ بها، فقد كان بعضهم الآخر كالقاهرة يستكثر صنوف الطعام أن توضع أمامه، ويقتصر على ما يكفيه وكان آخرون كالمهتدي لا يأكلون غير الخبز النقي ومعه الملح والخل والزيت.
وسنفصل في مقال آخر ما يتعلق بعلمهم فوائد المآكل، وانتقائهم صاحب الطعام والشراب في قصورهم، وكيف كانوا يأكلون، والآلات التي كانوا يرغبون فيها لآجل ذلك.
دمشق
صلاح الدين المنجد
المجلس الأعلى وسياسة التعليم
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
أخيراً عاد وللحمد لله مجلس التعليم الأعلى إلى الظهور بعد أن طال احتجابه وبعد إن طلبنا مراراً ونادينا تكراراً على صفحات (الرسالة) الغراء بضرورة إحيائه من جديد ليوجه التربية والتعليم الوجهة الصحيحة النافعة المثمرة. وإنه لجميل حقاً أن اضطلع بعضويته رجالاً ذوو خبرة ودراية كوزراء المعارف السابقين وآخرون من ذوي الفكر وحملة القلم، وهم جميعاً بتعاونهم جديرون برسم السياسة المستقيمة وتوجيهها التوجه الطبيعي القويم.
ولقد سبق إحياء هذا المجلس مؤتمر لرجال التعليم دام عمله لثلاثة أيام في شهر نوفمبر الماضي عقد فيها عدة جلسات وألقيت عدة محاضرات ودارت مناقشات ومباحثات بين المؤتمرين عن أهداف التعليم وسياسته، وأصدروا عدة قرارات كان أهم ما جاء فيها ضرورة العمل على خلق المدرسة الشعبية لتضم أطفال الأمة جميعاً بين السادسة والثانية عشرة على أنقاض المدارس المتعددة الأساليب والمقاصد التي سبق أن نددنا بقيامها لما ينتاب الوالد من حيرة إذا أراد أن يلحق ولده بإحداها ولما تبعث في نفوس أطفال البلد الواحد من غل وضغينة وحسد وسخيمة وتكون عوامل جفاء وفرقة بين أفراد الشعب طوال الحياة. تلك هي المدارس الابتدائية والمدارس الأولية والمدارس الإلزامية والمدارس الريفية ومدارس رياض الأطفال.
قرر مؤتمر التعليم إدماج هذه المدارس جميعها في مدرسة واحدة مدتها ست سنوات وأن تكون مرحلتها هذه خالية من اللغة الأجنبية، وهو قرار حكيم طالما تُقنا إليه، وإنا نؤيده بكل قوانا لدى مجلس التعليم الأعلى ولدى جميع المهيمنين على التعليم تخفيفاً من حدة نظام الطبقات الذي لا تعرفه عقائدنا ولا تقاليدنا إلا في العصور الأخيرة التي طغى عليها زيف المدنية المادية، وصوناً لوحدة هذا الشعب الذي مزقت وحدته اختلافات نواحي التفكير واختلافات الوحدات والمقاصد، فأصبح تراثه نهباً للمستعمرين ولبعض السياسيين المحترفين الذين أشعلوا نار الخصومة والفرقة بين أفراده وأسره وجماعاته، وساعدهم على ذلك تكوين الناشئة في مدارس متباينة في الأساليب مختلفة في الأوضاع والمقاصد.
وإنا وإن كنا حمدنا الله تبارك وتعالى لتوفيق المؤتمر إلى هذا القرار، إلا إنا كنا نرجو منه
أن يوفق إلى أكثر من ذلك. كنا نرجو توكيداً لفكرة الوحدة الشاملة أن يعنى في قراراته بالقضاء على ثنائية التعليم التي تقضي بوجود نوعين متباعدين منه، هما التعليم في المعاهد الدينية والتعليم في المدارس المدنية، خصوصاً وقد تناول هذا الموضوع بالبحث أحد أعضائه. فإنها ثنائية ما أقساها على شعب موحد اللغة موحد العادات موحد التقاليد. ثنائية لا يعرفها شعب من الشعوب المتحضرة قد أدخلها علينا المستعمرون في غفلة الزمان بل في غفلتنا عن تقلبات الأيام، دون مراعاة لحاجتنا الملحة إلى أساس نهضات الأمم من الاتحاد والوئام، فكانت عاملاً قوياً من عوامل الفرقة الحقيقية بين المتعلمين في المعاهد الدينية والمدارس المدنية منذ فجر حياتهم التعليمية. ولن تجد هذا النوع من التفرقة في بلد آخر غير هذا البلد. فهلا تزال مصر بلد المفارقات والعجائب، وهل يصح أن نستمر على هذا الحال من السكوت على عوامل الفرقة وتركها تنخر في عظام الأمة!
فإذا كان التعليم في المرحلة الأولى بالمدارس المدنية سواء في ذلك المدرسة المقترحة أو المدارس القائمة أصبح مجانياً كما هو الحال في المعاهد الدينية؛ وإذا كانت اللغة الأجنبية لن يبقى لها وجود في هذه المرحلة في المدارس المدنية كما هو الحال في المعاهد الدينية، وإذا كانت هذه المعاهد الدينية قد أخذت من زمن بعيد بفكرة إدخال العلوم الحديثة جميعها في مناهجها فماذا يبقى بعد ذلك من فروق تستوجب هذه الثنائية الممقوتة!
لم يعد هناك غير فارق واحد يستند عليه الأزهر وشيوخه في بقاء هذه الثنائية، ذلك هو إهمال المدارس المدنية لدراسة الدين دراسة علمية وعملية توحي إلى نفوس الأبناء بنور الروحانيات وجلالها وعظيم أثرها. إننا نعرف حقاً بأن المدارس المدنية قد فقدت هذه الروح فقداناً تاماً، حتى وُجدت عندنا طبقة من الكتاب والأدباء وطبقة من أصحاب النفوذ والسلطان لا يقدرون للروحانيات قدرها ولا يدركون أثرها!
وإنه ليؤسفني أن اقرر أن المدنية المادية التي ساقها إلينا الغرب قد طغت على عقول هؤلاء جميعاً. غير أن الحرب الأخيرة التي استخدم فيها العلم شر استخدام لم تكن كلها شراً، بل كان فيها بعض الخير لأنها نبهت أذهان الكثيرين من علماء الغرب واتباعهم في الشرق إلى إن ساسة العلم وقادته يجب أن يغيروا من عقلياتهم القديمة، وأن يفكروا تفكيراً جديداً يناسب ما اوحته هذه الحرب المدمرة إلى النفوس، ويناسب ما أوحاه النصر في
نفوس المنتصرين من غرور وجشع، وما أملاه عليهم من سخرية بالمواثيق وهزء بالعهود وقضاء على حقوق الضعفاء، وأثرة ونهم وطمع استولت كلها على نفوس الأقوياء.
نعم إن هذه الحال التي أوجدتها الحرب المدمرة وما تلاها من تصادم قوى بين الآراء الاستعمارية الجشعة التي زادت من تمكنها من النفوس سكرة النصر والشغف بالتسلط وبين الآراء الجديدة التي توحي بحرية الأمم والشعوب قد هزت الكثيرين من كتاب الغرب والشرق فنادوا بضرورة العودة إلى الدين ودراسته دراسة عملية بين جدران المدارس لأنه صمام الأمن الذي يهدئ النفوس ويردها عن الغي والظلم والطمع والفساد في الأرض حتى لا يكون طغيان الماديات سبباً في القضاء على المدنية القائمة. من أجل ذلك أنذرنا رجال التعليم في مؤتمرهم وأعلناهم بما يجره إهمال التعليم الديني والانصراف عن الروحانيات في أهداف التعليم وسياسته من استهتار بالفضائل في تكوين أخلاق النشء ومن ابتعادهم عن المثل العليا الروحية التي تربي القلوب، والتي تشيع في الصدور النور والهداية والتي تحفز النفوس أبداً إلى الرقي والسمو وتعلو بها عن مدنسات المادة ودناياها، كما تحفزها إلى العمل أبداً للمثل العليا للفضيلة والأخلاق الكريمة. ولكنا مع الأسف لم نجد من المؤتمرين سميعاً لأن قادة الشرق وزعماءه وكتابه لا زالوا سائرين على نسق الغرب وما يجري فيه. والغرب الآن لم يستقر على رأي، ولا زالت الآراء والأفكار تصطرع فيه اصطراعاً. وقادتنا وكتابنا في انتظار ما يتمخض عنه الصراع. ولا أدري لماذا نعيش عالة على آراء الغرب وتفكيره، في حين إننا نجاهد في طلب الاستقلال. وهل هناك استقلال سياسي إلا إذا صحبه أو سبقه استقلال فكري؟
وإذا كان مؤتمر التعليم قد اقتدى بالغرب القديم فانصرف انصرافاً عن الأخذ بجعل التعليم الديني في صلب مناهج المدارس المدنية وامتحاناتها كما يجب أن يكون، وعن العمل للقضاء على ثنائية التعليم التي رسمها المستعمرون، فإنا نرى في رجال المجلس الأعلى وهم البعيدو النظر من المفكرين ضماناً كافياً لبحث هذين الموضوعين الجليلين بحثاً حراً غير متأثر بالسياسة القديمة في سبيل وحدة هذا الشعب وتقارب أفكار أبنائه وتعاونهم وانسجامهم في اتجاهاتهم المختلفة. أما الأزهر ورجاله على رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر وهو من أعلام الأدب وقادة الفكر فبعيد عن الظن إنهم يعارضون في فكرة التوحيد في
صفوف الناشئة ما داموا يضمنون أن التعليم الديني سيأخذ سبيله المستقيم إلى المدارس، وسيكون معنياً به كسائر العلوم الأخرى. بل أعتقد إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر سيكون أول مناد بهذا التوحيد الذي أصبح من الضرورات الملحة في سبيل لم الشمل وتخفيف حدة المنازعات والمخاصمات التي لا تجر على هذا البلد غير الويلات والنكبات.
ولقد أحس بعض القادة والمثقفين بضرورة العناية عناية صحيحة بالتعليم الديني في المدارس فتألفت لجنة في المركز العام للإخوان المسلمين للعمل على إحياء الروح الدينية ألحقت في المدارس المدنية، وجعل الدين من العلوم الأساسية التي يمتحن فيها التلاميذ امتحاناً حقيقياً لا صورياً حتى يأخذ حقه من عناية المدارس نظارها ومدرسيها وتلاميذها فيكون له أثره الفعال في النفوس. وإنا لنأمل أن تلقى هذه اللجنة تعضيداً من جميع الهيئات الإسلامية العاملة في مصر، وأن يشد أزرها الكتاب والأدباء المؤمنون بالفكرة حق الأيمان والذين لم تتلوث قلوبهم بالشبهات والزيغ عسى أن تلقى الفكرة ما تستحقه من عناية وتقدير في المجلس الأعلى وعند أولى الأمر جميعاً، والله ولي التوفيق.
عبد الحميد فهمي مطر
المفتش بوزارة المعارف
6 - الزندقة في عهد المهدي العباسي
أصولها الفارسية
للأستاذ محمد خليفة التونسي
ذهبنا في المقال الخامس (الرسالة652) إلى إن الفرس آمنوا بإلهين: أحدهما للنور والآخر للظلمة قبل أن يظهر فيهم زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم الأولين، وبينا أن المعتنقين لهذا المذهب قبل زرادشت هم الذين يسمون (الكيومرتيه) نسبة إلى كيومرت أبي االبشر في رأيهم مما يدل على إيمان الفرس يقدم هذا المذهب فيهم، وقد أوضحنا شيئاً من آراء هذه الفئة وعبادتها في المقال السابق.
لا خلاف في أن الفرقة الأولى من المجوس هي الكيومرتيه. فأي الفرق ظهر في التاريخ بعدها؟
كل الكتب التي بين يدينا والتي تعرضت لهذه الموضوعات من طريق مباشر لا تجيب جواباً صريحاً على هذا السؤال، وتجدها تذكر الكيومرتيه والمجوسية والثنوية والزنادقة والزرادشتية والمانوية والمزدكية ولكنها لا تحدد تمام التحديد مكان هذه الوظائف من حيث ظهورها في التاريخ وإن حدثتنا أنه قد ظهر زرادشت وتلاه ماني ثم مزدك. ثم نسأل ما المراد بكل كلمة من هذه الكلمات، وماذا تمتاز به تعاليم كل طائفة عن مثلها؟ هذا على فرض أن هذه الكلمات ليست مترادفة ولا مشتركة ولا متداخلة. فأن كانت مترادفة أو مشتركة أو متداخلة فكيف تترادف أو تشترك أو تتداخل؟
إن النصوص التي بين أيدينا فيها كثير من الاضطراب والخلاف، فالمجوسية تطلق أحياناً على كل المذاهب الفارسية، وتطلق أخرى على بعضها دون بعض، والزندقة تطلق على جميع الثنوية أحياناً وتطلق أخرى على طائفة من الثنوية، وهكذا، ثم إن الثنوية قد تذكر قبل الزرادشتية، وأحيانا تذكر دون أن يعين موضوعها في التاريخ إزاء الزداشتية وهكذا، ونحن مضطرون في معرفة معنى الزندقة ولا سيما في عهد المهدي العباسي وهي موضوع هذا البحث - مضطرون إلى فهم أصول التعاليم التي ظهر بها الزنادقة على عهده، وأذن فنحن مضطرون إلى فحص هذه المذاهب لبيان ما له أثر منها في هذه الزندقة وما ليس له اثر منها فيها. هذا وإن كثيراً من الكتب التي بين أيدينا تربك عقولنا لأنها تفاجئنا بآراء من
غير أن تذكر لنا أصولها وتطوراتها حتى وصلت إلى صورتها الأخيرة، ومن شأن هذه المفاجأة أن تربك العقل لسقوط بعض الحلقات في سلسة تطورها، ومن أجل ذلك نستميح القراء و (الرسالة) الصفح لهذا الاستطراد الذي لا مفر لنا منه ولا غنى لنا عنه لفهم الزندقة في عهد المهدي فهماً يسيراً لا تعقيد فيه ولا مفاجأة.
في الفصل الذي عقده القلشقندي للكلام في المجوسية وفرقها يقول: (المجوسية: وهي الملة التي كان عليها الفرس ومن دان بدينهم) ثم يقسمهم ثلاث فرق: الفرقة الأولى الكيومرتية والثانية الثنوية والثالثة الزرادشتية، وفي الزرادشتية يفصل القول في زرادشت وماني ثم يذكر مزدك. فهو يطلق المجوسية على كل المذاهب الفارسية، وترتيبه الفرق على هذا النحو يدل على إنه يذهب إلى إنها قد ظهرت في التاريخ كذلك: الكيومرتية ثم الثنوية ثم الزرادشتية، وكل هذا غير صحيح، وسندلى بحججنا في ذلك إن شاء الله، على إنا لم نجد في ما قرأنا من رتب هذه الفرق من حيث ظهورها في التاريخ فلابد من ترتيبها الترتيب الصحيح.
سبق الكلام في الكيومرتية وإنها الفرقة المجوسية الأولى وأقدم الفرق الفارسية بلا شك، وهي كذلك في رأي القلقشندي فأما الثنوية فلم يقل فيهم إلا ما نصه:(هم على رأي الكيومرتية في تفضيل النور والتحرز من الظلمة، إلا إنهم يقولون: إن الاثنين اللذين هما النور والظلمة قديمان) قد أنكرا عقلاً أن تظهر في التاريخ الثنوية قبل الزرادشتية لأن الزرادشتية لم تقل بقدم النور والظلمة، بل ذهبت مذهب الكيومرتية في سبق النور الظلمة، ومعنى ذلك - كما فهمنا من الكيومرتية والزرادشتية - القول بتضاد الأشياء وتعاقبها وإن النور قد سبق الظلمة في الوجود أما القول بقدم النور والظلمة معاً ففكرة زائدة جديدة، فمن المنكر عقلاً أن تظهر الثنوية القائلة بالقدم قبل الزرادشتية، لأن رأيها أعقد من رأي الزرادشتية، والآراء - ككل ما في الوجود - تبدأ بسيطة ثم تتعقد، ولا عكس، ومن أجل ذلك شككنا ثم أنكرنا رأي القلقشندي في وضع الثنوية قبل الزرادشتية ورجعنا إلى ما بين يدينا من المصادر فوجدنا فيها ما يؤيد هذا الإنكار، ونبادر بدفع ما قد يسبق إلى العقل من توهم يوقعنا فيه ما يدل عليه لفظ الثنوية لغوياً، وهو إن الثنوية تطلق على كل القائلين بأن للكون أصلين: النور والظلمة؛ أو خالقين أحدهما إله النور يزدان وإله الظلمة أهرمن. بل
إن الثنوية فرقة يميزها سائر الفرق القائلة بأصلين: النور والظلمة - إنها تقول بقدم الاثنين كما حكى مذهبهم القلقشندي، فالقول بالقدم ركن هام في العقيدة الثنوية.
ويسند ابن النديم في الفهرست القول بالقدم إلى ماني المولود في سنة 215م فيقول إنه (يزعم بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وإنهما أزليان سرمديان، وإنه ما من شئ إلا وهو من أصل قديم) وكل ما ذكره ابن النديم صحيح، ولكن ليس ماني أول من قال بقدم الأشياء من بين الحكماء عامة ولا حكماء الفرس خاصة. لقد ظهرت الثنوية بعد الزرادشتية وقبل المانوية فيما نرى، فلنتكلم في الزرادشتية قبل الثنوية، ولينظرنا القراء الأدلة على رأينا وبيان المراد من الثنوية ومن ظهر مذهبها على يده إلى حيث الكلام في الثنوية إن شاء الله.
ظهرت الزرادشتية بعد الكيومرتية وصاحبها الذي تنسب إليه هو زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكماء فارس، وقد ظهر في عهد الملك كيستاسف السابع من ملوك الكيانية وهم الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وكان مولده في منتصف القرن السابع قبل أن ينهض الفرس بقرن كامل نهضتهم السياسية على يد كورش الأكبر (550ق. م) ويستقلوا ببلادهم ويطردوا منها الميديين ثم يمتلكوا ميديا أيضاً ويخضعوا الليديين في آسيا الصغرى وتصل حدودهم إلى البسفور، لقد سبقت النهضة العقلية في فارس النهضة السياسية بأكثر من نصف قرن كما سبقت النهضة العقلية في الصين والهند بنحو قرون فلم يولد جوتاما مؤسس الفلسفة البوذية في الهند ولا كنفشيوس مؤسس الفلسفة المنسوبة إليه في الصين إلا في منتصف القرن السادس قبل الميلاد.
وليس من همنا هنا أن نخوض بالإثبات أو النفي فيما يحيط به الفرس حكيمهم زرادشت ومولده وخلقه وحياته من مناقب ولا فيما روته القصص الفارسية في ذلك من أساطير مما يدل على إنهم كانوا يكنون له أسمى درجات الحب والتقديس، ولمن شاء ذلك أن يرجع إلى المبسوط من كتب التاريخ وكتب الملل والنحل وكتب الفلسفة، كما إنه ليس مما يعنينا الحكم على هذه الروايات فلها مثيل عند كل الأمم قديمها وحديثها في موقفها تجاه أبطالها أياً كانت الناحية التي برزوا فيها، ولن نعرض لما نسب إليه من صلات ببعض أنبياء بني إسرائيل وما قيل عن تأثير ذلك فيه وما كان من خيانته وهربه من فلسطين إلى بلخ فكل ذلك فيما
أرى زعم يهودي أساسه العصبية اليهودية التي تأبى إلا أن تحتجز الفضل في كل نبوغ في اليهود، وترد كل نبوغ خارج عنهم إلى أصل فيهم، وحسبنا من الكلام في زرادشت أن نبين إجمالاً تعاليمه التي كان لها أثر في الزندقة الفارسية قبل الإسلام ثم الزندقة على عهد المهدي العباسي، وحسبنا في هذا الإجمال ما يجنبنا المفاجأة المربكة.
ولد هذا الحكيم في منتصف القرن السابع في أذربيجان من إقليم ميديا الذي كان تابعاً في ذلك الوقت للدولة الكيانية التي عاصمتها بلخ، وقد طوف بالبلاد الفارسية واتصل بكثير من حكمائها للدرس والمشاورة في العقائد والأساطير الكيومرتية التي كانت قبله والإصلاحات التي تحتاج إليها فارس في عهده وهي تتأهب للنهضة السياسية التي ظهرت آثارها بعد وفاته، وقد اتصل بالملك كيستاسف في عاصمة بلخ واستطاع أن يقنعه بالدخول في مذهبه، وقد كان ذلك نصراً كبيراً له إذ عمل الملك على نشر مذهبه وإدخال الناس فيه فانتشر في جميع الأنحاء الفارسية، ومما أعان على ذلك بقاء زرادشت يبشر بمذهبه في الفرس خمساً وثلاثين سنة ومات نحو سنة 583ق. م بعد أن عاش سبعاً وسبعين سنة، وقد خلف زرادشت مذهباً وكتاباً.
فأما المذهب فقد جاء به مصدقاً لما بين يديه من الكيومرتية أو الصابئية التي كانت قبله فأيد القول بإلهين اثنين أحدهما يزدان للنور والآخر أهرمن للظلمة لأنه وجد من المتعذر إسناد الخير والشر في العالم إلى مصدر واحد مع اعتقاده بأن يزدان أسبق من اهرمن وإنه خالقه، والقول بأن العالم خلق من النور يدل على عبقرية ثاقبة، ولولا ضيق المقام لفصلنا القول فيما تدل عليه هذه النظرة الرائعة، وحسبنا أن نشير إلى إنها لا تختلف عن النظرة العلمية الحديثة في بناء الكون، فقد فقدت المادة اليوم ماديتها بعد أن ثبت إن أجزاءها كالضوء ذات خاصية موجية، وإنها مؤلفة من كهرباء، وثبت ذلك بالبرهان المحسوس بعد أن أخذت صور البروتونات والإلكترونات المتحركة وثبت إن كتلة الإلكترون وهي معيار ماديته علتها حالته الكهربائية، وبذلك صارت المادة نوعاً من أنواع الطاقة، فيقال الطاقة المادية، كما يقال الطاقة الكهربائية والطاقة المغناطيسية بلا خلاف، ولا ريب إن زرادشت عبر عن هذا بلغة الأسطورة لا لغة العلم وإنه لم يصل إلى ذلك من طريق المنطق ولا التجربة، بل من طريق اللمح الفني العبقري المنبعث من الشغف القوي بالطبيعة، وقد كان
لهذا الرأي أثر في كثير من مفكري الأمة الفارسية وغيرها كاليونان والعرب، وقد رمز القرآن الكريم إلى هذا المعنى العميق وعبر عنه تعبيراً واضحاً في الآية الكريمة:(الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس)
(يتبع)
محمد خليفة التونسي.
أغنية:
سماء الهرم. .
للشاعر عبد الرحمن الخميسي
جئت لا أحمل إلا سقمي
فتعالي. . أطفئي نار دمي!
واشفعي لي يا سماء الهرم
…
كم تلونا هاهنا سفر الجدود
هذه الصحراء والليل شهود
طالعتني بين أطواء الرمالِ
قصة للحب وارتها الليالي
نسجت من ذوب قلبي وخيالي
…
آهِ لو كانت لياليها تعود
هذه الصحراء والليل شهود
كم دعونا ليلة البدر هنا
وارتمى الفجر على أقدامنا
فإذا نحن. . حبيبي وأنا
…
في جلال الهرم العاتي سجود
هذه الصحراء والليل شهود
كان يصغي لأناشيدي السكون
وتباهى بغرامينا السنين
يا حبيبي. . إنني قلب أمين
…
عدت للماضي أغني من جديد
هذه الصحراء والليل شهود
أسكر البيد هنا وقع خطانا
وأعاد الليل الحان هوانا
وتمنى الصبح لو كان يرانا،
…
فيغني حولنا كل الوجود!
هذه الصحراء والليل شهود
يا حنبني. . كل شئ ذاكري
وأنا أسأله عن هاجري
كيف ينساني ويشقى حاضري؟
…
أين ولَّي يا تماثيل الخلود؟!
هذه الصحراء والليل شهود
عدت لا أحمل إلا سقمي
فتعالي. . أطفئي نار دمي
واشفعي لي يا سماء الهرم
…
كم تلونا هاهنا سفر الجدود
هذه الصحراء والليل شهود
في ليلة قمراء.
. .
للشاعر إبراهيم محمد نجا
كل قيس مع ليلى قد طواها
…
ومعي الأحلام لا شئ سواها!
وأنا الشاعر قلبي مسرح
…
لمنى علوية لا تتناهى
أخلق الحب من الوهم، وكم
…
تخلق النفس من الوهم رؤاها!
وهنا الحب. . . قلوب تلتقي
…
حيث تدعوها أمانيُّ صباها
إيه يا بدر لمن هذا السنا
…
غازل الأمواج وهْناً فسباها؟
ولمن يا ليل تسري حالماً
…
بليالٍ موجك الشادي رواها؟
وتغني أغنيات حلوةً
…
فيوافيك من الشط صداها
ولمن يسري نسيم هامس
…
بأغان تفهم الروح لُغاها؟
لقلوب لقيتْ أُلاَّفَها
…
فاطمأنت واستراحت من جواها
ونفوس سعدت في حبها
…
حين نالت منه ما بلَّ صداها
من لقلب لم يعانق إلفه
…
ولنفس لم تجد بعدُ هواها؟
إيه يا نيل لطير مغرد
…
في مغانيك، وآهاً ثم آها
كلما وافى المغاني شادياً
…
غلب الحزن عليها فبكاها!
إيه يا نيل لروح شارد
…
مستطار ضل في الدنيا وتاها
كلما جدَّد في الحب المنى
…
غلب اليأس عليه فطواها!
إيه يا نيل لصب ضارع
…
يشتهي اللقيا، ويشتاق جناها
طافت الغيد عليه في الكرى
…
ورأى فيهن (ليلى) فاصطفاها
وتغنى بهواها، وشدا
…
بصباها، وهفا نحو سناها
ثم ردَّته شاكياً
…
ثائراً لأشواق يبكي من لظاها
إيه يا نيل لعمر ضائع
…
في منى الروح، وأحلام كراها
وشباب تنقضي أيامه
…
وخطى الحرمان واليأس خطاها
روضة العشاق في دنيا الهوى
…
ليس لي من زهرة فوق رباها
غير همس من رباها ذائع
…
ونسيم عطَّرته من شذاها
آه لو جئتك يوماً ومعي
…
فرحة النفس، وأنوار دجاها
فجلسنا نتناجى في الهوى
…
بقلوب طائف الشوق دعاها
ونسينا العمر والدنيا معاً
…
وتركنا الروح تسرى في عُلاها
وبنينا حيثُ شئنا معبداً
…
وعبدنا مبدع الحب إلها
أيها العشاق غنوا في الهوى
…
وانهبوا اللذات فالعمر فداها
واذكروني زهرةً لم يُروها
…
نبع حب. . . آه لو كان سقاها!
واسمعوني يا رفاقي طائراً
…
طاف بالآفاق يبكي فشجاها
فعسى الأيام أن يبسمن لي
…
ولعل النفس أن تلقى مُناها
البريد الأدبي
1 -
هذى دمشق!
ما بدا حب دمشق أختها الكبرى مصر، وتعلقها بها، وتمسكها بالعروبة وكرهها لهذه الشيوعية الآثمة كما بدا في هذين اليومين، أثر تلك البرقية الوقحة التي بعث بها النفر الضالون المنكرون من رجال وزارة المعارف، ولم يقتصر الأمر على البرقيات والاحتجاجات بل لقد أضربت مدارس دمشق كلها يوم الخميس وخرج تلاميذها يقدمهم طلاب الجامعة السورية، في مواكب لها أول وليس لها آخر يهتفون للعروبة ولمصر، ويبرؤون من هذه النحلة والداعين إليها. وتبعتهم مظاهرات العمال، تهتف مثل هتافهم، وتنادي بندائهم، ولم يبق الجمعة منبر مسجد في دمشق إلا هبطت من فوق أعواده اللعنات على الشيوعية وعلى أذنابها في المعارف، أما الصحف الشامية، فلقد قرأ الناس في مصر ما كتبت ونشرت، وكان أول من انتدب نفسه من الصحفيين لدرء هذا الشر الأستاذ نجيب الريس صاحب (القبس) ونائب دمشق في المجلس، وأبن عمه الأستاذ منير الريس، المجاهد ذو المواقف صاحب (بردي)، فيسجل هذا لهما في (الرسالة) سجل العرب.
وما كان ذلك اهتماماً بأصحاب تلك البرقية، فهم أقل وأذل من أن تهتم بهم دمشق، ولكن اعتذارا إلى مصر، ومحاربة لهذه الشيوعية المدمرة، واحتجاجاً على وزارة معارف الشام إذ تجعل كُبْرَ أمر التعليم إلى مثل هؤلاء، مع مجاهرتهم بالدعوة إلى الشيوعية، والعمل لمصلحة دولة أجنبية، والتدخل في شؤون المملكة المصرية، ومع ما هم عليه من الخفة والرعونة والطيش، ولقد وعدت الحكومة وعد الصدق بطردهم من وظائفهم ومحاكمتهم، وأنا لمنتظرون!
2 -
تأديب السفهاء:
أما وقد عرف قراء الرسالة بداية خبر تلك البرقية التي تطاول فيها النفر الشيوعيين على حكومة مصر، فليعرفوا نهايته، وهي أن وزير المعارف الأستاذ صبري العسلي بك قد أحال هؤلاء النفر إلى (لجنة تأديب الموظفين) - وكذلك يؤدب الكبار إذا فعلوا مثل ما فعل الصغار. . .
وإنا لنشكر الوزير على أن أنقذ أبناءنا من مربين ومؤدبين، لا يزالون محتاجين إلى التربية
والتأديب!
دمشق
(علي)
إلى الأستاذ الفاضل محمد محمود شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت مقالك في مجلة الرسالة المباركة في العدد الخاص بالعام الهجري فأعجبت به كثيراً. إلا أني دهشت في أوله من عبارتك (السلام عليكم) موجهة للأستاذ الزيات، ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذه العبارة، هي أن نبتدئ في أول الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم بدون (أل) التعريف، ثم ننتهي بـ (والسلام عليك أو عليكم) بذكر (أل)، وتكون أل هنا نهاية العهدية، وهذا نظير قولك:(جاءني ضيف فأكرمت الضيف)، ولك يا أستاذ أن ترجع إلى كتاب أدب الكاتب لتقف على حقيقة الأمر.
وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة تشير إلى صحة قسم من القاعدة. قال تعالى: (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقال تعالى: (قال سلام قوم منكرون). . . الخ فالملاحظ هنا أنه لا حاجة إلى تعريف (سلام عليكم) بالألف واللام.
وقال ذو الرمة:
أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما
…
هل الأزمن اللائي مضين رواجع
وقال البحتري:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد
…
أما لكم من هجر أحبابكم بدُّ
والواقع أن هذه غلطة شائعة في الوقت الحاضر، وما كنت أستغرب لو وجدتها عند بعض الكتاب، إلا أن ثقتي القوية بعلمك في اللغة العربية وتبحرك بها هي التي دفعتني إلى الاستغراب.
وأخيراً: أرجو التفضل بإبداء رأيك في هذا الموضوع، ففي ذلك خدمة للأدب العربي وأدبائه. والسلام عليك.
بغداد
صبحي البصام
صحف طرابلس الغرب:
كانت في طرابلس الغرب قبل احتلال الطليان لها نهضة أدبية مباركة، وكان للأدباء فيها رابطة كما لهم صحف ومجلات، وقد نبغ الكثيرون من الشعراء والأدباء الذين لولا استعمار إيطاليا لبلادهم - كان لأدبهم شأن يذكر في البلاد العربية. وقد كانت جريدة (الرقيب العتيد) رسولة هذه النهضة وحاملة لوائها. وكان صاحبها المرحوم الأستاذ محمود فهمي نديم بن موسى من قادة الرأي والفكر يسانده نخبة من الشباب المثقف الحر.
وهناك جريدة (العدل) وصاحبها الأستاذ محمود بانون التي كانت نبراساً للوطنية والحق. وما احتل الإيطاليون هذه البلاد حتى خمدت هذه النهضة الأدبية، وخارت عزائم الأدباء، ولكن الإيطاليون بدءوا يدفعون فاقدي الضمائر ومريضي القلوب من الأدباء إلى تمجيدهم والإطناب بذكرهم، وأجبروا صاحبي الرقيب والعدل على السير بموجب سيادتهم، وأصدروا مجلة مصورة سموها (ليبيا المصورة) كانت هي المجلة الرسمية للإيطاليين، تعبر عن رغباتهم وتشيد من ذكرهم ومجدهم، وظلت الحال هكذا حتى كانت الحرب الأخيرة، إذا اضمحلت الروح الأدبية تماماً، واختفى ذلك البصيص الضئيل من الشعر والنثر، وساد القطر جهل وصمت وسواد! فهل نرى الآن وقد بدأ طائر السلام يرفرف بجناحيه نهضة جديدة في طرابلس الغرب تقوم على أكتاف وسواعد شبابه العربي ونرى مجلاته تشق طريقها في الحياة كزميلاتها صحف العروبة؟ فلعل ذلك قريب.
(دمشق - دار المعلمين)
صلاح الدين بن موسى
الشيخ نصر الهوريني وتيمور باشا:
ذكر الأستاذان أحمد أمين بك، ومحمد كرد علي بك في كتاب (ذكرى أحمد تيمور باشا) الذي ظهر حديثاً في 30صفحة وص77 أن العلامة أحمد تيمور باشا كان في جملة أساتذته الشيخ الهوريني
وأنا أعلم أن وفاة الشيخ نصر الهوريني كانت سنة1291، كما ذكره العلامة تيمور في كتابه (تصحيح القاموس) ص42، والأستاذ الزركلي في (الأعلام). والعلامة تيمور ولد سنة1288، فتكون سنه ثلاث سنوات عند وفاة الشيخ الهوريني. وممتنع أن يكون الباشا تيمور في هذا السن صديقاً للهوريني أو تلميذاً له. فذكره في معارف أحمد تيمور خطأ، وجل من لا يخطئ.
عبد الفتاح غدة
حول سناد التأسيس
أخذ الأستاذ - رضوان - على قصيدة الشاعر الغزالي في عدد652 أن في بيتين منها ما يعده العروضيون سناد التأسيس.
فقال الأستاذ - عدنان - بل هو سناد الإشباع عدد 654 والواقع بأن في البيتين سناد التأسيس لأن الإشباع إنما يعرض الدخيل ولا يكون الدخيل إلا بعد التأسيس وقد أنعدم التأسيس فلا دخيل فضلاً عن سناد الإشباع فليس في البيتين إلا سناد التأسيس. وقد حاول الشاعر الغزالي أن يدفع عن البيتين مستنداً إلى أن ما استشهد به - الكافي وعمي العروض والقوافي - لسناد التأسيس من قول العجاج:
يا دار سلمى يا أسلمي ثم أسلمي
…
فخندف هامة هذا العالم
يختلف عن بيتيه؛ والواقع أن بيت العجاج وبيتي الشاعر متساويان في سناد التأسيس.
وبعد فاستكملا للفائدة نقول: الاستشهاد على سناد التأسيس بيت العجاج لأن روايته المشهورة همز ألف. فقد استشهد به الزمخشري - في فصله لهمز الألف في باب الإبدال. وكذا - الرضي - في شرحه للشافية
محمد الطنطاوي
أستاذ بكلية اللغة العربية
1 -
تصوير الأنبياء:
رأينا في مجلة (الطالب) التي تصدر في القاهرة صورة على غلاف العدد (70) صورة
تمثل سيدنا إبراهيم الخليل وأمامه أبنه إسماعيل الذبيح عليهما الصلاة والسلام، وفوقهما ملك ذو جناحين يمثل سيدنا جبريل وأمامهما كبش. . .!
ثم رأينا على غلاف العدد (71) صورة تمثل ناقتين أمامهما رجلان، والصورة تشير إلى الهجرة. فاستنكرنا واستنكر معنا الكثيرون هذه الطريقة الجديدة في تمجيد الذكريات المجيدة والأعياد الإسلامية. . .
أنها طريقة لا يقرها الشرع ولا العقل ولا الذوق؛ وفي العدد نفسه صورة متخيلة للأمام الجليل أحمد بن حنبل. وإن مجلة لا تحترم الأنبياء ولا الأئمة، ولا تعرف لهم مكانتهم، لهي مجلة جديرة بالوأد في المهد. . .
2 -
وقاحة الشيوعيين:
ثارت في هذا الأسبوع في دمشق ضجة كبرى بشأن الكتاب الذي أرسلته إلى مصر فئة ضالة من أذناب الشيوعيين تحتج فيه على حكومة مصر لمكافحتها لجماعة الشيوعيين ومقاومتها إياهم، وكانت النقمة شديدة على موقعي الكتاب، وهم من أبرز موظفي وزارة المعارف، وقد اهتمت الحكومة السورية بهذا الأمر وقررت أن تفصل هؤلاء الموظفين عن مناصبهم، وأن تحيلهم على لجان التأديب لينالوا جزاء وقاحتهم وخيانتهم. ولا يزال هياج الشعب على أشده، وهو يطالب باتخاذ التدابير الفعالة للقضاء على الشيوعية الخبيثة قضاء مبرماً لا قيامة لها بعده.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
القصص
دهاء سيدة
للقصصي الإيطالي (موفاني بوكاشيو)
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
كان يقطن في بلدة أرامينو بإيطاليا تاجر غني متزوج من سيدة جميلة صغيرة السن. وكان هذا الزوج شديد الغيرة والقسوة على زوجته، لا لشيء إلا لأنه كان يحبها غاية الحب، ويهواها من كل قلبه هوى عنيفاً مبرحاً. فكان يظن لهذا السبب أن الناس جميعاً يحبونها كما يحبها، ويهوونها كما يهواها، وإنها تبادلهم إعجاباً بإعجاب، وافتتاناً بافتتان! ومن هنا نشأت غيرته العمياء عليها، وتولد في قلبه الخوف والقلق من حسنها الذي كان يخلب الألباب ويستهوي الأفئدة. فكان يراقبها مراقبة شديدة ويمنعها من الذهاب إلى الكنائس والولائم والحفلات العامة، بل لقد بلغت به الغيرة إلى حد إنه كان يمنعها من الخروج في المواسم والأعياد التي كان يحتفل بها عامة الشعب، فكان ذلك سبباً في تنغيص حياتها وتكدير صفوها.
وهداها التفكير أخيراً إلى أن تقابل هذا العدوان وتلك القسوة بمثلها. ففي أحد الأيام وقعت عيناها على شاب جميل وسيم الطلعة يقطن في المنزل الملاصق لمنزلها. وقد استرعى هذا الشاب انتباهها قبل ذلك عدة مرات، ولكنها لم تكن تعيره أدنى التفات، ولم يخطر ببالها أن تهتم بغير زوجها في يوم من الأيام، حتى إذا ما طفح الكيل، وبلغت غيرته وقسوته أقصى حدودهما، لم تستطع السيدة صبراً أكثر من ذلك، فأخذت تبحث في جدران مسكنها علها تعثر على ثغرة يمكنها أن تخاطب هذا الشاب بواسطتها، لتذهب عن نفسها ذلك الملل الذي كانت تحس به من جراء حبسها في المنزل آناء الليل وأطراف النهار. وهداها البحث أخيراً إلى العثور على ثغرة صغيرة في إحدى الغرف الخلفية لمسكنها، فسرت لهذا الكشف السعيد سروراً عظيماً وخاطبت نفسها بقولها (إذا كانت الثغرة تؤدي إلى غرفة فلبو - وهو اسم الشاب فإن خطتي لابد أن تصل إلى النجاح المنشود، والفوز المرتقب!) ولم تلبث أن دعت إليها خادمتها وكلفتها بأن تتحقق من هذا الأمر بنفسها. فعادت إليها الخادمة التي كانت
ترثي لحالها، وتتألم لسوء معاملة زوجها لها، وأخبرتها إن فلبو يبيت في هذه الغرفة التي عثرت على الثغرة المؤدية إليها بطريق المصادفة. فسرت السيدة لهذه البشرى الطيبة وأتت بباقة صغيرة من الزهور اليانعة ذات العطر الشذي، والأرج الزكي، وألقتها من الثغرة التي كانت لا تتسع لأكثر من إدخال رأسها، في مكان ظاهر من غرفة فلبو وظلت واقفة في مكانها تترقب أوبته بفروغ صبر. فلما حضر الشاب ووجد باقة الزهور في حجرته دهش لذلك دهشة عظيمة، سيما وإنه لم يكن متزوجاً وكان يقطن في هذا المسكن بمفرده، وزادت دهشته حينما أطلت السيدة برأسها من الثغرة الضيقة ونادته باسمه ثم عرفته بنفسها! ووقف الشاب مبهوتاً زائغ البصر لحظة ولكنه لم يلبث بعد أن هدأ روعه، واسترد هدوءه، أن رحب بهذه الصداقة الجديدة التي كان ينتظرها منذ زمن طويل من غير طائل، ومن هذا الوقت بدأت السيدة والشاب يقطعان الوقت في المسامرة والحديث فكان ذلك سبباً في سرورهما وغبطتهما معاً.
ولما أقترب عيد الميلاد كانت السيدة قد دبرت خطتها للانتقام من زوجها فقالت له ذات يوم وهي تحاول جهدها أن يكون كلامها طبيعياً على قدر الإمكان:
- إنني أود الذهاب إلى الكنيسة لأعترف للقسيس بخطاياي! فذعر الزوج لهذا الطلب الغريب الذي لم يكن يتوقع سماعه منها وقال:
- وأي خطيئة ارتكبتها حتى تودين الاعتراف بها للقسيس؟ فابتسمت زوجته ابتسامة ماكرة وقالت:
- أو لستُ يا عزيزي بشراً كسائر البشر؟ أم تحسبني قديسة من القديسات أو راهبة من الراهبات؟
ثم سكتت سكتة قصيرة واستطردت قائلة:
- وهل تعتقد إنني معصومة من الزلل، أو بعيدة عن الوقوع في الخطأ ما دمت تشدد الرقابة علي وتحبسني بين جدران منزلك؟
وهنا أطرقت برأسها إلى الأرض وقالت له بلهجة حزينة، ونغمة مؤثرة:
- آه لو كنت قسيساً لاعترفت لك بكل شئ، ولكنك مع الأسف لست إلا فرداً عادياً كسائر الأفراد، وبشراً سوياً كبقية البشر!
فذهل الزوج لجرأة زوجته وكاد يصعق في مكانه لأنه كان يعتقد إنها آخر من تفكر في ارتكاب الخطيئة أو الوقوع في الإثم، ولكنه تظاهر أمامها بالهدوء والسكينة بالرغم من إنه كان يغلي في قرارة نفسه كالمرجل.
ثم صمم أخيراً على أن يعرف خطاياها بنفسه مهما كلفه ذلك من جهد، أو كبده من مشقة وعناء. . .
فلما حل عيد الميلاد صرح لها بالخروج في ذلك اليوم ولكنه حظر عليها الذهاب إلى كنيسة غير كنيستها، وأمرها بالا تعترف بخطاياها لقسيس غير قسيسها، ثم نبه عليها بأن تعود بعد ذلك إلى المنزل مباشرة. ففهمت السيدة غرضه وأجابته إلى رغبته بهزة خفيفة من رأسها!
وكان زوجها قد سبقها في الذهاب إلى الكنيسة قبل ذلك ببضعة أيام وأتفق مع القسيس على أن يرتدي ملابسه ويحل محله في مقابل أجر كبير أعطاه إليه ليتسنى له معرفة خطايا زوجته بنفسه، فلما حضرت وسألت عن القسيس ذهبوا بها إلى زوجته الذي كان قد سبقها في الوصول إلى الكنيسة ببضع دقائق! فعرفته زوجته لأول وهلة بالرغم من أنه قد أخفى وجهه بحيث لم يكن يتبين منه سوى عينيه، ولكنه لم يستطع أن يغير لهجته، ولا أن يبدل صوته بالرغم من انه كان يحاول ذلك جهد طاقته! وهذا ما أكد للسيدة أن الواقف أمامها ليس إلا زوجها دون سواه!
فابتسمت لمرآه ابتسامة مريرة متكلفة وخاطبت نفسها بقولها: (حمداً لله وشكراً! لقد أصبح هذا الزوج الغيور قسيساً، ولكني لن أبوح له بما يود معرفته، ويتوق اللحظة إلى سماعه!) ثم تظاهرت بأنها لم تعرفه وارتمت تحت قدميه وقبلت يديه بمذلة وخشوع وقالت:
- بالرغم من أنني متزوجة من رجل غني كما تعلم، إلا أنني أحب قسيساً يأتي إلى منزلي ويبيت في مخدعي كل ليلة!
فدهش الزوج لهذا الاعتراف الفاضح ولكنه أخفى دهشته بكل مشقة وصعوبة لأنه أراد الوثوق من هذا الأمر، والتأكد من معرفته، فقال لزوجته وقد بهت لونه، واكفهرت سحنته:
- وكيف ذلك يا ابنتي؟ ألا يقضي زوجك الليل في مخدعك؟ فقالت زوجته وهي تخفي براحة يدها ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها:
- بلى يا سيدي. . .
فقال الزوج وقد زادت دهشته عن ذي قبل:
وكيف يبيت إذن هذا القسيس في مخدعك في الوقت الذي يكون زوجك موجوداً معك؟
فتظاهرت الزوجة بالغرابة لهذا السؤال وقالت:
- لست أدري ذلك تماماً يا سيدي، ولكني أعتقد أنه ليس هناك باب إلا ويفتح بمجرد ملامسة هذا القسيس له. وقد أخبرني أنه يتلو عند مجيئه إلى منزلي تعويذة فتلقي بزوجي المسكين من فراشه على الأرض وتجعله يروح في سبات عميق دون أن يدري بمجيئه، أو يحس بزيارته لي!
فارتبك الزوج في موقفه ارتباكاً شديداً وقال لها وهو يحاول أن يكظم غيظه، ويكبح جماح غضبه:
- أنني أرثي حقاً لحالتك يا سيدتي، ولكن ليس لك عندي مع الأسف أي حل. وكل ما أستطيع أن أفعله أنني سأصلي كل ليلة من أجلك، وسأرسل إليك - فضلاً عن ذلك - رسولاً من قبلي بين الفينة والفينة لأرى نتيجة صلاتي لك، عسى أن يغفر الله لك ويبعد هذا القسيس إلى الأبد. . .
فتظاهرت السيدة بالخوف الشديد وقالت:
- لا ترسل بربك أحداً إلى منزلي لأن زوجي شديد الغيرة علي!
ولكن القسيس - أو الزوج - طمأنها بقوله:
- لا تهتمي بذلك مطلقاً لأنني سأتخذ الحيطة اللازمة لذلك.
فقالت السيدة وهي تهم بالوقوف:
- إذا استطعت أن تفعل يا سيدي؛ فإنني لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت، وسأكون مدينة لك بشكري مدى العمر بالرغم من أنني أحب هذا القسيس حباً جماً ولا أطيق فراقه عني بأي حال!
قالت ذلك ثم غادرت لكنيسة على عجل وهي تضحك في سرها من سذاجة زوجها الذي كان يتميز من الغيظ، ويقرض على أسنانه من شدة الغضب! وألقى الزوج بعد أن تركته زوجته بقلنسوة القسيس وبردائه على الأرض ثم هرع من فوره إلى منزله. فلما وصل إليه
خطب زوجته بعد أن فكر ملياً في هذا الأمر، ودبر خطته للانتقام منها ومن القسيس الذي يأتي لزيارتها كل ليلة فقال:
- سأتناول الليلة عشائي خارج المنزل لدى أحد أصدقائي، وإذا تأخرت قليلاً فلا تقلقي لغيابي لأنني سأقضي سهرتي عنده.
وقبل أن يغادر المنزل حدجها بنظرة حادة صارمة ثم قال لها بغلظة وجفاء:
- لا تنسي أن تغلقي ورائي باب المنزل بالمزلاج، وكذا باب مسكنك، بل وباب غرفة نومك كذلك إذا شئت أن تأوي إلى فراشك مبكرة. . .
ففهمت السيدة غرضه وابتسمت له على كره ثم تمنت له ليلة طيبة دون أن تسأله عن المكان الذي سيقضي فيه سهرته. . .
ولما غادر المنزل هرعت إلى الثغرة وأخبرت فلبو الذي كان في انتظارها بكل ما حدث لها مع زوجها في صباح ذلك اليوم، ثم قالت له وهي تضحك ملء شدقيها:
- أنني واثقة من أن زوجي لن يتحول هذه الليلة من أمام المنزل ليتسنى له القبض على هذا القسيس المزعوم فهل يمكنك أن تأتي إلي في المساء عن طريق سطح منزلك لنتبادل الأحاديث الحلوة والأقاصيص الشهية؟
فأجابها فلبو وهو يكاد يطير من شدة الفرح لهذا اللقاء القريب الذي كان لا يشتهي في الدنيا غيره:
- سأحاول ذلك يا عزيزتي.
فلما أقبل المساء تسلح الزوج بهراوة ثقيلة واختبأ خلف بوابة قريبة من المنزل. ثم وقف ينتظر على مضض مجيء ذلك القسيس الذي اعترفت له زوجته بأنها تحبه! وقد حدث ذلك في نفس الوقت الذي ذهب فيه فلبو إلى مسكن معشوقته عن طريق سطح منزله! وظل الاثنان في لهو ومرح إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم عاد الشاب ثانية إلى مسكنه!
فلما بزغ النهار عاد الزوج إلى بيته بعد أن فرغ صبره، وجمدت أطرافه من شدة البرد! ثم ذهب إلى غرفة نومه وهو خائر القوى، منهوك الأعصاب، واستلقى على فراشه وراح في سبات عميق! فلما استيقظ من نومه غادر المنزل ثم أوفد إلى زوجته رسولاً من قبله على زعم أنه موفد من القسيس الذي اعترفت له بخطاياها بالأمس، عما إذا كان القسيس قد جاء
لزيارتها في الليلة الماضية أم لا؟ فأجابته السيدة بقولها:
- لا! أنه لم يأت في الليلة الماضية، وإذا انقطع عن زيارتي عدة ليال أخرى فإنني لن ألبث أن أنساه بمضي الزمن وإن كنت سأتألم بعض الشيء لغيابه عني، وانقطاعه عن زيارتي!!
وكرر الزوج مراقبته للقسيس الموهوم عدة ليال في الوقت الذي تلهو فيه زوجته مع جارها فلبو كل ليلة دون أن يدري أحد من أمرهما شيئاً! فلما عيل صبره، ولم يجد أدنى فائدة من تلك المراقبة، سأل زوجته ذات يوم وشر الغضب يتطاير من عينيه، والحنق الكامن في أعماق نفسه يلوح على أسارير وجهه المتجهم فقال:
- ما الذي اعترفت به للقسيس في صبيحة يوم عيد الميلاد؟
فذعرت الزوجة لهذا السؤال المفاجئ، ولاذت بالصمت المطبق، والسكوت العميق، فلما كرر عليها زوجها هذا السؤال استولى عليها الغضب ثم التفتت نحوه وقالت:
- أظن أنه ليس من حقك، ولا من حق أي إنسان آخر أن أطلعك على أسراري، أو أكاشفك بخبيئة نفسي! فازداد غضب الزوج لهذا الرد وقال:
- أيتها المرأة المنافقة، والمخادعة الشريرة، أنني أعلم بكل ما اعترفت به في الكنيسة، وسأجبرك الآن على إخباري بكل شيء عن ذلك القسيس الذي يبيت في مخدعك كل ليلة. . .
فلم تكترث زوجته لتهديده وقالت:
إنني لا أستقبل في مخدعي أحدا سواك. . .
ولكن الزوج الغاضب لم يقتنع بإجابتها وانفجر فيها قائلاً:
- ماذا تقولين؟ أتنكرين هذا أيتها الحية الرقطاء؟ أو لم تخبري القسيس الذي اعترفت أمامه بذلك؟
فنظرت إليه زوجته نظرة شزراء ثم قالت له بجرأة وثبات:
- إنني لا أنكر شيئاً مما قلته له، وما دمت قد سمعت اعترافي كاملاً فلا حاجة بي إلى تكراره أمامك مرة أخرى!
فقال لها زوجها وهو يعجب من شجاعتها ورباطة جأشها:
- والآن ما دمت قد اعترفت بخطيئتك، وكاشفتيني بإثمك فيجب أن تخبريني بكل شيء عن هذا القسيس، وإلا فالويل لكما مني معاً. . . . . .
فهزت زوجته كتفيها بسخرية واستخفاف ولم تأبه لوعيده أو تكترث لغضبه، ثم أرادت أن تلقي عليه في تلك اللحظة درساً قاسياً لا ينساه مدى الحياة، فقالت له بصوت هادئ، وعبارة متزنة هادئة:
- إنني في أشد العجب من تلك الغيرة العمياء التي تظهرها نحوي في كل وقت، وبدون سبب. أتظنني غبية قصيرة النظر مثلك؟ لا! فلقد عرفت لأول وهلة أن القسيس الذي اعترفت أمامه بخطاياي هو أنت دون غيرك! ولكني أردت أن أثير انتباهك بهذه الحكاية الملفقة، وأظنني قد نجحت في ذلك إلى حد بعيد! ولو كنت عاقلاً حقا لما حاولت الاطلاع على أسرار زوجتك بهذا الشكل المزري القبيح! ولكن الغيرة - قاتلها الله - أعمت بصيرتك، وذهبت بلبك وجعلتك عاجزاً عن تبيان الحقيقة الواضحة أمامك وضوح الشمس في رابعة النهار! ولقد اعتقدت خطأ أن كل كلمة من كلماتي إنما هي حقيقة ثابتة لا شك فيها، وغاب عنك أنها محض اختلاق، ولم تكن إلا مجرد درس لك ولأمثالك من الأزواج الذين تعمي بصيرتهم الغيرة الحمقاء عيونهم عن معرفة أبسط قواعد اللياقة والذوق! ولقد قلت في اعترافي إنني أحب قسيساً، أفلم تكن أنت ذلك القسيس الذي كنت أحبه في تلك اللحظة التي اعترفت فيها أمامك؟ وقد قلت أيضاً إنه لا يعصي عليه باب عندما يأتي إلى منزلي وهل هنالك باب في منزلك يستعصي عليك دخوله؟ ولقد قلت أخيراً إن هذا القسيس يبيت في مخدعي كل ليلة، أو لا تفعل ذلك حقاً يا زوجي العزيز؟ وكلما أوفدت إلي رسولاً من قبلك ليسألني عما إذا كان القسيس لا يزال يكرر زيارته لي كنت أجيب بالنفي، وهذه حقيقة لا شك فيها لأنك اعتدت أن تسهر إلى ساعة متأخرة من الليل خارج منزلك منذ اليوم الذي اعترفت فيه أمامك في الكنيسة، حتى ظننت بدوري أنك تقضي سهراتك عند امرأة سواي وتلهو معها ما شاء لك اللهو والمجون! وقد كان يجب عليك أن تفهم كل هذه الحقائق بنفسك دون أن تكلفني عناء شرحها وتوضيحها لك!
وهنا تظاهرت أمامه بالبكاء فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت له بلهجة مؤثرة، وصوت مختنق النبرات:
- فكر في هذا الأمر المشين بك يا عزيزي، واطرح عنك هذه الغيرة العمياء التي نغصت علينا صفونا وراحتنا. وإذا كنت تعتقد أنك بحبسك لي بين جدران منزلك تمنعني من اللهو والعبث مع غيرك، وتحول بيني وبين تحقيق رغباتي، فأنت جد مخطئ في ذلك يا زوجي العزيز، لأن المرأة كما تعلم لا يقف أمامها أي حائل، ولا يمكن لأي مخلوق مهما كان، أن يعترض سبيلها إذا هي أرادت ذلك بمحض مشيئتها ورغبتها. . .
فلما سمع الزوج ذلك تأثر لكلامها، وأحس بالحسرة والندم على ما فعل، ثم أبعد هذه الغيرة التي سببت له كل هذا التعب والعناء! وفي الوقت الذي كان يجب عليه فيه أن يغار عليها، ويشدد في مراقبته لها، نراه قد أهمل هذا الأمر إهمالاً تاماً وترك حبل الأمور على غاربها! وزيادة على ذلك فقد صرح لها بالخروج في أي يوم تشاء، وفي أية ساعة ترغب، ولم يعد يهتم كثيراً بغيابها عن المنزل أو عدم غيابها! فلما نالت الزوجة حريتها، واطمأنت إلى عدم شك زوجها في وفائها، تمادت في غيها وأوغلت في ضلالتها، واصبح حبيبها فلبو يقابلها مرة أو مرتين في اليوم. فإذا تصادف وحضر زوجها في أثناء وجوده فسرعان ما يفر إلى مسكنه عن طريق سطح منزله دون أن يدري به أحد، أو يعلم بأمره إنسان!
وهكذا ظل العاشقان يرتشفان معاً كؤوس الهوى حتى الثمالة بعد أن أفلحت الزوجة في خطتها، ونجحت في الانتقام من زوجها!
إسكندرية
محمد اللطيف حسن