المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 659 - بتاريخ: 18 - 02 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٥٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 659

- بتاريخ: 18 - 02 - 1946

ص: -1

‌حمام الحرم

للأستاذ عباس محمود العقاد

أشرت في مقالي السابق عن الرحلة الحجازية إلى حمام الحرم فقلت عن أعجب ما سمعته ورأيته من شأنه (إنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات).

(وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور).

وهذه خاصة لا بد لها من سبب مفهوم، ولا بد من استقصائها في جميع أحوالها قبل التيقن منها وقبل تعليلها بالخوارق التي لا تقبل التعليل، فإن الذهن لا يقبل الخارقة إلا إذا ضاقت به علل الطبائع التي أودعها الله في خلقه وتواترت بها المشاهدة في جميع الأحوال، وبخاصة حين لا يكون هناك مقتضى من حكم الدين ولا حكم العادة لامتناع الطيران في فضاء الكعبة أو أي فضاء مقدس مصون، ولا معابة على فضاء السماء في كل مكان أن تحلق فيه الطيور أو تعبر به الطائرات.

وقد شغلني أن أتيقن أولا من تطابق الأقوال على اطراد هذه الظاهرة، وأن أجرب حماما غير حمام الحرم لأرى كيف يطير إذا أطلق في جوانب الكعبة وحده، وأن أجرب طيراً غير الحمام من القماري أو العصافير أو فصائل اليمام، لان الجوارح قد يصرفها النظر إلى فرائسها عن تحقيق التجربة بما يفيد الحرية في اختيار جو الطيران، وخطر لي قول الطائي:

يسقط الطيرُ حيث يلتقط الحب

وتغشى منازل الكرماء

ولكن الطير يسقط حيث يلتقط الحب ولا يقصر طيرانه على مواضع التقاطه، فإذا كان حمام البيت قد تعود أن يلتقط غذاءه في المماشي التي حول الكعبة فليس ثمة ما يمنعه إذا صعد في الجو أن يتجاوز تلك المماشي إلى ما جاورها، وهو قريب من قريب.

وأوصيت بعض رفاقنا أن يرقبوا هذه الظاهرة في زياراتهم المتعددة، وهم يزورون البيت متفرقين حسب النوبة التي يفرغون فيها من العمل في اليخت أو في الطوافتين. فلما عادوا جميعاً كُفيت مؤنة التجربة أو التجارب الكثيرة التي كان لا بد لنا منها قبل التيقن من تلك

ص: 1

الظاهرة وتعليلها بما يكشفها على جليتها، لأن ثلاثة منهم اتفقوا على أنهم شاهدوا الحمام يطير أحياناً فوق الكعبة وإن لم يكن ذلك مطرداً في جميع الأوقات، وممن شاهدوا ذلك إمام اليخت الملكي المحروسة وهو شاب مهذب أديب حسن المعرفة بالدين حسن التفسير لأحكامه وفروضه، فأنه قال إن الحمام يطير فوق الكعبة ولكنهم يلحظون فيما يطير منه عليها شيئاً من الضعف والانكسار، كأنه مريض يلتمس الشفاء ببركة العبور على ذلك المقام، وهذا وحده يبطل ما ذهبوا إليه من تلك الملاحظة. . . لان طالب البركة لا يلتمسها بما يخالف حرمة المكان فيما جرى عليه عرفه أو عرف بداهته الفطرية، فإن كان طير البيت يتجنب الطيران فوق الكعبة تقديساً لها كما يتخيلون فليس من شأنه أن يلتمس البركة بما يخالف التقديس.

وقد أصبحت الظاهرة معقولة بعد ما سمعته من تلك المشاهدات بغير خارقة أو التجاء إلى أغراب.

حتى ندرة الطيران فوق الكعبة لا تستعصي على التفسير الموافق للعادات والمشاهدات، فإن الحمام الأليف يجتمع إلى أسرابه في ملاقط الحب، ولكنه لا يطير أسراباً أسراباً كالفصائل البرية من نوعه حين تهاجر من مكان إلى مكان. فإذا جاوز الحمام الأليف مساقط أسرابه فإنما يطير زوجين زوجين أو فرداً فرداً في التماس أليفه الذي يغيب عن نظره وسط الأسراب، وهذه العادة خليقة بأن تفسر لنا ندرة الطيران على بعد من المماشي التي يتجمع فيها الحمام كما تفسر لنا بطئ حركة الطائر الذي يخرج على الطريق في بحثه واستطلاعه، لأنه لا ينوي الطيران إلى بعيد حيث يعبر فضاء الكعبة لينظر حواليها إلى أليفه المفقود.

على أن جمال المعنى الذي يتمثل في حمام الحرم لا ينقص ذرة بطيرانه هنا أو طيرانه هناك، لان معناه الجميل هو الأمن في حماية الإيمان لا في حماية الحراس أو حماية الأبراج والسدود. فهذا أضعف الطير يراه الجائع والطامع ولا يمسه بسوء، وهو يطمئن إلى هذا الأمن بطبعه وإن لم يفهمه بعقل فيه يفهم أمثال هذه الأمور، فلا يجفل من الإنسان ولا تراه يطير منه إلا طيران الدلال واللعب لا طيران الفزع والاضطراب.

ولم يزل للحمام نصيب من القداسة أو الطهارة منذ آمن الناس بالدين على سنة الوثنية أو

ص: 2

سنة التوحيد، وكان هذا النصيب ينفعه حيناً ويجني عليه في أحايين، فكان قربان الحمام مفضلا في شريعة موسى على القرابين من سائر الطيور، وكان الإغريق يتقربون إلى الزهرة ربة الحب عندهم بالحمام الأبيض أو باليمام وما إليه، ولا يزال السحرة في أيامنا يخدعون السذج بالحمامة البيضاء أو الحمامة السوداء، ويتوسلون بالأولى في استعطاف الملائكة والأرواح الكريمة، وبالأخرى في استعطاف الشياطين والأرواح الخبيثة، بل لا يزال أناس من المعاصرين يعتقدون في الحمام اعتقاد الأقدمين الذين زعموا أنه أقدر الطير على استجابة داعي العشق والغرام، وأنه من ثم طعام صالح للأزواج وهدية صالحة في الأعراس.

والشعراء يضربون به المثل في الوفاء والغناء، وبعضهم يسمي هديله بالبكاء لفرط الحنين إلى الألفاء والأحباء، ويجاري الشعراء في هذا الرأي بعض من كتب عنه من الطبيعيين والمشغولين بتسجيل عادات الطيور.

أما الصواب فهو ما قاله المعري حيث قال:

أبكت تلكم الحمامة أم غنت

على فرع غصنها المياد

وهو أيضاً ما قاله حيث قال:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حُسبت

في الصالحات كظلم الصقر والبازي

ويؤيد المعري في هذه الملاحظة هواة الحمام من العرب، وأشهرهم مثّنى بن زهير حيث يقول فيما رواه عنه الجاحظ في كتاب الحيوان:(. . . لم أر شيئاً قط في رجل وامرأة إلا وقد رأيت مثله في الذكر والأنثى من الحمام: رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها كالمرأة لا تريد إلا زوجها وسيدها، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكورة كالمرأة لا تمنع يد لامس، ورأيت الحمامة لا تزيف إلا بعد طرد شديد وكثرة طلب، ورأيتها تزيف لأول ذكر يريدها ساعة يقصد إليها. . . ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن ذكراً آخر لا تعدوه. . . ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيت الحمامة تقمط الحمام الذكور ورأيت الحمامة تقمط الحمامة. . .).

إلى آخر ما قال وهو صواب:

ولا ندري هل ذم الحمام أو أثنى عليه حين قال إنه يشبه الناس في أطواره ذكوره وإناثه.

ص: 3

فقد يكون ذلك غاية الذم في عرف قوم وغاية الثناء في عرف آخرين!

ولسنا نختم هذا المقال قبل أن نستوفي سيرة الحمام كما عرضت خلال الزيارة الحجازية إما بمكة أو خلال الطريق.

فقد كان الحمام ذات عشاء بعض صحاف المائدة على اليخت (المحروسة) أثناء عودته الأولى من جدة إلى السويس، فعلمنا أن جلالة الملك عبد العزيز لا يأكل منه ولا من السمك على اختلافه إلا في النادر القليل.

وأراد صاحب السعادة مراد محسن باشا أن يوفق بين رغبة الملك عنه ورأي بعض الفقهاء في تحريمه، فقال: أن أناساً من المتشددين يحرمون أكل الحمام الذي يربى في بروج الحقول والغيطان فصمت جلالة الملك وتردد ثم سأله: ولم يحرمونه؟

قال مراد باشا: لأنهم يتركونه يأكل من مال غيرهم ولا يطعمونه من عندهم، فحرمه أولئك الفقهاء كما يحرمون مال (الغير) المأخوذ بغير علم من أصحابه.

وكنا نحسب أن هذا التشدد مما يرتاح إليه فقهاء نجد لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب منسوب إلى التشدد فيما يترخص فيه عامة الفقهاء.

ولكن جلالة الملك ظل على تردده والتفت إلى أخيه صاحب السمو عبد الله بن عبد الرحمن كمن يستفسر رأيه في هذا التحريم.

فقال سمو الأمير: لا حرج في أكله وما أرى وجهاً لتحريمه ولا قولا يعتد به في ذلك، وإنما حكمه حكم العصافير التي تأوي إلى أشجار الناس وتأكل من حيث أصابت الطعام.

فعرفنا شيئاً جديداً من مذاهب أهل نجد في التحريم والتحليل، فهم لا يأخذون بكل تشديد ولا يعزفون عن كل ترخيص، وأن كانت لهم أقوال يخالفون بها جمهرة المتشددين والمرخصين.

وأطراف من هذا أن رئيساً من رؤساء الحكومة السعودية سأل الباشا: أهم يحرمون من الحمام الـ أو الـ لان الأول يأوي إلى البيوت والثاني قلما يأوي إليها وأن عرفت الأمم القديمة استئناسه في بعض البلدان.

فكان هذا السؤال مما لم يخطر على البال، قبل الاستدلال على الحرام والحلال.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 27 -

ج1 ص268: ومن شعر نفطويه:

الجد أنفع من عقل وتأديب

أن الزمان ليأتي بالأعاجيب

كم من أديب يزال الدهر يقصده

بالنائبات ذوات الكره والحوب

وامرئ غير ذي دين ولا أدب

معمر بين تأهيل وترحيب

ما الرزق من حيلة يحتالها فطن

لكنه من عطاء غير محسوب

وجاء في الشرح: (كم من أديب يزال الخ) لا يزال حذفت لا كما في كلام العرب أو هي يظل حرفت يزال والأول أوفق لوروده كثيراً. (وامرئ غير ذي دين الخ). لا يستقم الوزن إلا إذا جعلت همزة امرئ همزة قطع.

قلت: (كم من أديب يظل الدهر يقصده) يظل هي الرواية (وجاهل غير ذي دين ولا أدب) و (لا) لا تحذف قياساً إلا بعد قسم، وقد شذ الحذف - كما قال ابن عقيل - دون القسم كقول الشاعر:

وأبرح ما أدام الله قومي

بحمد الله منتطقاً مجيداً

أي صاحب نطاق (منطقة) وجواد.

وحذف هذا النافي بعد القسم كثير بل أكثر من الكثير، وقد بينت المصنفات في علم العربية (أعني النحو) وفي أسرار العربية، وفي فقه اللغة وسنن العرب في كلامهم، وفي فنون البيان والأدب، وفي التفاسير - هذه القاعدة خير تبيين، بيد أن المتسمين بـ (المبشرين) المتجسمين من الضلالة والجهالة والوقاحة والسفالة أبوا إلا تخطئة علوم العربية كلها وأقوال العرب جميعاً فأدبروا يقولون - أبادهم الله - في كتابهم (مقالة في الإسلام وذيلها) ص459:(ومنه (أي خطأ القرآن في العربية) قوله في سورة يوسف: تالله تفتأ تذكر يوسف، والوجه لا تفتأ لأن فتئ وما جرى مجراها لا تستعمل إلا منفية).

والوقح صخر الوجه لا يستحي من شيء.

ص: 6

لا يعمل المبرد في وجهه

بل وجهه يعمل في المبرد

والقول القرآني يعضد في بلاغة الحذف وصحته قول معقل ابن خويلد (ديوان شعراء هذيل ج1 ص101 الطبعة الأوربية):

إذا أقسموا أقسمت أنفك منهم

ولا منهما حتى أفك السلاسلا

وقول ساعدة بن جؤية (شعراء هذيل ج2 ص15 الطبعة الأوربية):

تالله يبقى على الأيام ذو حيَد

أدفى صلود من الأوعال ذو خدم

وقول الملتمس في قصيدته وهي من (المنتقيات) في (جمهرة أشعار العرب):

آلية حَبَّ العراق الدهرَ أطعمه

والحب يأكله في القرية السوس

وقول امرئ القيس في قصيدة مشهورة رويت في ديوانه وفي كتب كثيرة:

فقلت يمين الله أبرح قاعداً

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

وقول النابغة في قصيدة في ديوانه وفي كتب كثيرة:

فقال: تعالى نجعل الله بيننا

على مالنا أو تنجزي لي آخره

فقالت: يمين الله أفعل أنني

رأيتك مشؤوماً يمينك فاجره

وقول ليلى الأخيلية في قصيدة في رثاء توبة (الأغاني 11ص 320):

فتالله تبني بيتها أم عاصم

على مثله أخرى الليالي الغوابر

فأقسمت أبكي بعد توبة هالكا

وأحفل من نالت صروف المقادر

وقول امرأة سالم بن قحفان رواه المفصل وشرحه (ج7 ص109):

حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي

تكفل بالأرزاق في السهل والجبل

تزال جبال مبرمات أعدها

لها ما مشى يوماً على خفه جمل

وقول الأعشى (روى في تهذيب إصلاح المنطق ص224، والإصلاح لابن السكيت، والتهذيب للتبريزي):

وإني ورب الساجدين عشية

وما صك ناقوس النصارى أبيلها

أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها

كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها

وقول أبي حنبل الطائي (رواه الميداني في مجمع الأمثال في شرح: أوفى من أبي حنبل ج2 ص223):

ص: 7

لقد آلية أغدر في جذاع

وإن مُنيتِ أمات الرباع

إن القرآن الكريم ليعضد هذه الأقوال المتقدمة وأقوالا غيرها لا تحصى روى طائفة منها سيبويه (ج1 ص454) والفائق (ج1 ص48) وأمالي الشجري (ج1 ص332) والمثل السائر (الطبعة الجديدة ج2 ص111) والطبري في تفسيره (ج13 ص25).

وكتاب (المضللين) المعزو إلى الشيخ اليازجي قد شرحت حاله في مقالاتي في الرسالة الغراء، وبرأت الشيخ اليازجي بالحجة الشهباء من ذلك الهذر والسفه والجهل والهراء، وأثبت أن المضللين مزورون ومفترون، وأظهرت من أغلاط كتابهم في العربية نحواً من مائة غلطة. . .

ج2 ص18: أبو إسحاق المتوكلي (إبراهيم بن ممشاذ) كتب للمتوكل، ثم صار من ندمائه فسمى المتوكلى، ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل والفتح بن خاقان يتداولها كتب العراق إلى الآن، وتسخط صحبة أولاد المتوكل فتركهم ولحق بيعقوب بن الليث. كتب من عند يعقوب إلى المعتمد:

أنا ابن الأكارم من نسل جم

وحائز إرث ملوك العجم

ومحيي الذي باد من عزهم

وعفَّى عليه طوال القدم

وطالب أوتارهم جهرة

فمن نام عن حقهم لم أنم

يهم الأنام بلذاتهم

ونفسي تهم بسوق الهمم

إلى كل أمر رفيع العماد (م)

طويل النجاد منيف العلم

وأني لآمل من ذي العلا

بلوغ مرادي بخير النسيم

معي علَم الكائنات الذي

به أرتجي أن أسود الأمم

فقل لبني هاشم أجمعين (م)

هلموا إلى الخلع قبل الندم

ملكنا كم عنوة بالرما

ح طعناً وضرباً بسيف خذم

وأولاكم الملك آباؤنا

فما أن وفيتم بشكر النعيم

فعودوا إلى أرضكم بالحجاز (م)

لأكل الضباب ورعى الغنم

فإني سأعلو سرير الملوك (م)

بحد الحسام وحرف القلم

قلت: رواية الراغب في (محاضراته): (أنا ابن الأكارم من آل جم).

ص: 8

(وعفى عليه طَوال القدم) في الصحاح: الطوال بالفتح من قولك لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنى. وفي القاموس: الطوال كسحاب: مدى الدهر، وضبط في المخصص ج7 ص73 وفي اللسان بالفتح. وجاء في التاج:(وذكره ابن مالك في المثلثات) ولا ادري من أين جاء ابن مالك بهذا التثليث.

(لنا علم الكابيان) كما روى الراغب، وأغلب الظن أنه مثل الدرفس في بيت البحتري:

والمنايا مواثل وأنو شروان (م) =يزجى الصفوف تحت الدرفس

(وأكل الضباب ورعى الغنم) رواية الراغب.

(بحد الحسام ورأس القلم) رواية الراغب.

والميمات في الأبيات الأربعة يحذفن، فليست الكلمات فيها في الصدر بمتصلات بالأعجاز، والشعر هو من بحر المتقارب، والقبض في هذا البحر كثير، وقال بعضهم: القبض في عروض هذا البحر أحسن من التمام، وعزوا إلى امرئ القيس هذا البيت الذي لم يقله:

أفاد فجاد، وساد فزاد

وقاد فذاد، وعاد فأفضل

وفي هذا البحر تجتمع العروض الصحيحة والمحذوفة والمقبوضة.

يقول الإمام ابن قتيبة في (كتاب العرب أو الرد على الشعوبية): لم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكره القرى، فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم فيعرفون مالهم وما عليهم. . . وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لان منهم قوماً تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف، وقوماً اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم، فمنهم من الحق نفسه بأشراف العجم، واعتزي إلى ملوكهم وأساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه. ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب؛ يتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تسلح عليها.

ص: 9

‌واحة كفرة

كيف احتلها الطليان وفتكوا بأهلها سنة 1930

(كيف وأن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)

(سورة التوبة)

للأستاذ أحمد رمزي

إني من القوم الذين يؤمنون بأن مصر بلادنا هي قلب العروبة. هذا ما ناديت به، وكنت أول من أذاعه من راديو الشرق أيام الانتداب الفرنسي، وأعتقد أن موقع مصر بين بلاد العرب في الجزيرة وبلاد العرب في شمال أفريقية وجنوبي وادي النيل، يجعل لها هذه الميزة، ويحتم عليها أن تحمل الأمانة التي عجز عنها غيرها، وأعتقد أن تاريخ مصر في عهدها العربي قد ألقى هذه الرسالة على المصريين، ولذلك اتجهت أنظارهم وآمالهم نحو هذه البلاد الشقيقة المحيطة بهم، وكلما مرت الأيام ازدادت النفوس اطمئنانا لمصر، وتقاربت القلوب وتماسكت واتجهت نحو حياة جديدة. ونحن الذين نشأنا على هذه العقيدة قد أشربت نفوسنا محبة هذه البقاع وتاريخها.

ومن بين دروس الماضي المملوءة بالذكريات، لا أجد درساً أشد وقعاً على نفسي، وإيلاما لها من درس احتلال الكفرة وما حل بها، يوم خرج أهلوها من أوطانهم وهم يعدون بالمئات خشية بطش الطليان وفتكهم، فأخذتهم الصحراء وماتوا في سبيل الله.

وواحة كفرة معقل من معاقل الإسلام والعروبة، في هذه الصحراء الكبرى الممتدة من وادي النيل إلى مياه المحيط، ذلك الجزء من العالم، الذي كان بوتقة تختمر فيها الدعوات والحركات الشعبية؛ التي إذا قامت اكتسحت في وجهها كل شيء، فلا تصمد أمامها الحصون ولا الأسوار، ولا تردها الممالك ولا الجيوش، ولا تقف البحار بينها وبين الفتوح، ففيها قامت دعوة أبي عبد الله الشيعي، مؤسس قواعد الملك للخلافة الفاطمية، فكان من أمرهم ما كان، ملك يطاول ملك الشمس، لا تزال آثارهم باقية ظاهرة واضحة في هذه القاهرة المعزية، التي احتضنت العروبة والإسلام لألف عام، والتي أصبحت اليوم موطن العروبة ومقر الجامعة العربية

ص: 10

وفي هذه البطائح موطن الأسود، ظهرت دعوة المرابطين، فانتشرت وامتدت. ومن منا يجهل يوسف بن تاشفين وجهاده وحروبه بالأندلس؟ والله لو تأخر مقدمه، لاكتسح الفرنجة أرضها قبل يوم الميعاد بأربعة قرون. فبالله ما رأيك في سيف يؤخر حكم القدر أربعمائة عام؟

وعلى هذه الرمال ظهرت قوة الموحدين، وهم أناس شيدوا ملكاً وقادوا الجحافل ولهم أيام ومعارك وفتوح.

وإذا نزلت جنوباً عن الكفرة، ذكرت حركة المهدي، وهي دعوة إصلاح وإخلاص تحركت بها النفوس وآمنت، وسارت في طريقها، ولم يضعف من شأنها غير وفاة صاحبها قبل أن تثبت جذورها.

وأخيراً دعوة السنوسية وانتشارها، وافتتاح الزوايا والأربطة والعمل في سبيل الله، والدفاع عن أراضي برقة وليبيا.

إن أرض العروبة في أفريقيا، سواء في شمالها أو صحاريها أو جنوبي مصر، موطن للحركات القوية، التي تنبثق من أيمان أهليها، فتخرج إلى الدنيا، لتهز الدنيا، وتؤسس الملك وتقود الشعوب وتحرك الهمم. هذا شأن هذه البقاع منذ عرفتها العروبة وعرفها الإسلام.

فأهل مراكش في جهاد دائم منذ الأعصر الأولى، يرابطون في منازلهم ويقاتلون في سبيل الله، وما من ملحمة في تاريخ العرب بالأندلس إلا وسمعت أن لأهل المغرب لهم فيها المواقف الباسلة والأيادي التي لا تنسى.

وقس على ذلك سائر سكان هذه البلاد، كان هذا شأنهم حتى دهم الاستعمار بلادهم، فهل هبطت عزائمهم؟

إن تاريخ المغرب في قرن من الزمن، هو صفحة مجد لم تكتب ليومنا هذا، ولكنها ستكتب يوماً وسيعلم الناس من أمرهم الشيء الكثير. . .

وأعود إلى الكفرة، بقيت هذه البقعة آخر معقل للإسلام والعروبة، حتى دهمها الطليان في يوم من آخر أيام سنة 1930 فافتتحوها واقتصوا من أهلها وشردوهم، وفي طريقهم إلى واحات مصر، حلت بهم أكبر نكبة في القرن العشرين.

والآن وقد طوى حكم الطليان عنها هل عادت لأهلها؟ كلا لا تزال تحتلها جنود فرنسا، بل

ص: 11

هناك أكثر من ذلك، فقد قرأنا أنها تطالب باقتطاع إقليم فزان وأجزاء من جنوبي طرابلس وبرقة لضمه إلى مستعمراتها. فهل سمعتم بذلك؟ وما هو موقف جامعة الأمم العربية وشعوبها؟

لم يقصر أهل الكفرة عن الدفاع عنها بأموالهم وأرواحهم بل استشهد الكثير منهم في سبيلها. . . وإليكم صفحة من آخر أيام عاشتها الكفرة وكيف استولى الطليان عليها. . .

يحدثنا الطليان في كتبهم ومراجعهم بأن جراتزياني قائدهم يعرف تماماً أن البادية بأخطارها وفيافيها كانت دائماً معقلا للمجاهدين، فكانت حكومات المستعمرين تهاب الرمال، ولذا اتخذت فرنسا وهي العتيقة في أساليبها وتقاليدها الاستعمارية واتصالها بالشعوب المظلومة، سياسة خاصة بالصحراء الكبرى، إذ أخذت تتقرب لزعماء الطوارق وتتخذ منهم أنصاراً لها.

ولكن إيطاليا الفاشستية أرادت أن تضرب للناس مثلا، وأن تقوم بأكبر العمليات الحربية في صحراء ليبيا، وأن تحرز لأسلحتها نصراً عجز الغير عن إحرازه، فتراه يتحدث مفتخراً بأن فرنسا لم تبدأ حملاتها ضد الصحراء قبل سنة 1900، حينما احتلت واحة عين صلاح، على حافة الصحراء الكبرى في الجنوب من أراضي الجزائر، أي بعد مضي سبعين عاماً من دخولهم القطر الجزائري الشهيد، واستخلص من تجارب الفرنسيين، أنهم اقتنعوا باستحالة إتمام الفتح، إذا بقوا معتمدين على كواكب الخيالة من السباهيين الوطنيين، ولذا فكروا منذ سنة 1900 في إنشاء قوة من الرجال سموها: قوات البادية وألقي عليها عبء القتال والفتح - والفضل في إنشائها وتدريبها وتكوينها يعود إلى ضابط فرنسي اسمه الماجور لابيرين.

أما الطليان فقد أخذوا بكل تجارب ودروس من تقدمهم في فن الاستعمار، ولذلك اتجهوا إلى إنشاء قوة ممتازة من الرجال، في مستعمرة طرابلس، أطلقوا عليها أيضاً اسم قوة البادية، وهي التي أشرف على تدريبها وقيادتها المرحوم الدوقا داوستا الذي أسر في الحرب الحبشية ومات باستراليا. وهذه القوة الجديدة باشرت عمليات الفتح في مستعمرتي ليبيا وبرقة، وبعد أن كانت مشكلة من فصيلة واحدة من الهجانة في سنة 1922، إذا بها مكونة من عدة وحدات وإذا بجنودها يتدربون على استعمال الأسلحة الخفيفة السريعة الطلقات.

ص: 12

وعلى هذه الوحدات مدعمة بسيارات النقل والطيران ألقى واجب افتتاح واحة الكفرة، والقضاء على آخر معقل من معاقل الإسلام والعروبة في الصحراء.

وكان الزحف على الكفرة من إجدابية إلى جالو، وهي تبعد (240 كيلو متراً) ومنها إلى بئر ذيجن (400 كيلو متر) ومنه إلى الكفرة (140 كيلو متراً) وتحركت الحملة في 20 ديسمبر سنة 1930 من إجدابية متجهة إلى الجنوب فقطعتها السيارات في أربعة أيام للوصول إلى جالو، وكان جراتزياني قد زار إجدابية في 25 نوفمبر سنة 1930 متفقداً المعسكرات، فوجد أن الحملة تجهز في أقرب وقت، وقد ذكر في تقاريره، أنه وازن الأمور والمصاعب وقدر لكل شيء ما يلزمه، وذكر أن الحملة بأكملها دربت تدريباً شاقاً بحيث يكون بوسعها أن تنزل أثقالها في 20 دقيقة وترفعها للسير بها بعد مضي نصف ساعة من صدور الأمر إليها بالسفر.

وذكر أنه في ليلة 28 و29 ديسمبر سنة 1930 هبت عليها ريح صرصر عاتية محملة بالرمال فأخفت كل شيء أمامها، حتى فكر الجنرال الإيطالي في إصدار أمره بالعودة، حينما امتنعت الجمال والدواب عن العليق والماء، وأعقب ذلك زمهرير قارص. ولكن جاء يوم 30 ديسمبر هادئاً صحواً، فأنتهز الفرصة وأصدر أمره الحاسم بالسير إلى الجنوب حتى لا تفلت الفريسة من يده.

وكان المرابطون بتلك الجهات حفنة من الرجال، هم بقايا الأمم والممالك التي سادت الصحراء، ليس أمامهم إلا المقاومة في بئر زيجن، أو على الطريق، أو الوقوف للدفاع عن الكفرة، وكانوا يعتقدون أن الطليان سيأتون من الغرب عن طريق فزان، أما جراتزياني فاستعان بسرب من الطائرات للاستكشاف، ثم أصدر أمره إلى فصيلتين من قوات البادية أن تتقدم كل واحدة منهما في طريق يفصلها عن الأخرى ثمانون كيلو متراً، فالتقت إحداهما بالمجاهدين واشتبكوا معها في قتال دام ثلاث ساعات، واقتحم الطليان الواحة على أجساد الشهداء.

ويهلل القائد بأن قواته دخلت في الموعد الذي سبق له أن حدده على خريطته. . .

وانتهت بذلك آخر مأساة في تأريخ الاستعمار الإيطالي بالصحراء

أحمد رمزي

ص: 13

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان

ص: 14

‌بعد إباحة الهجرة الصهيونية

اللغة الوحيد التي يفهمها الإنجليز

للأستاذ سيد قطب

كتبت في (الرسالة) بتاريخ 26 نوفمبر الماضي كلمة تحت عنوان: (أيها العرب. استيقظوا واحذروا). واليوم وبعد أن قررت الحكومة الإنجليزية إباحة الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، على رغم أنف العرب، وأنف الكتاب الأبيض الإنجليزي أيضاً. اليوم يهمني أن أعيد نشر الفقرات الأولى من هذا المقال، قبل التعليق على هذا القرار الأخير:

(إن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تقدم!

(ويسوءني أن أكون نذير سوء؛ ولكن لأن نواجه الحقائق الواقعة، خير من أن نستنيم للأحلام. . .

(حينما صدر الكتاب الأبيض الإنجليزي، أعلن كل عربي مخلص أنه لا يرضى عن هذا الكتاب، وأنه صدمة لآمال العرب بما تضمنه من استمرار الهجرة الصهيونية فترة أخرى - وأن تكن موقوتة - تصبح الهجرة بعدها مرهونة بمشيئة العرب، أن شاءوا أمضوها، وأن شاءوا لم يسمحوا من بعد بها.

(واليوم يتمسك العرب بسياسة الكتاب الأبيض، ويدعون إنجلترا للمحافظة عليها.

(إذن قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم!

(تتأخر، فيصبح الكتاب الأبيض الذي كان بالأمس موضع شكوى العرب، هو موضع رجائهم، وينقلب الحد الأدنى - أو ما هو دونه - حداً أعلى لآمال العرب، أو الناطقين باسمهم في هذه الأيام!

(ألا إنها المحنة التي يجب أن تتفتح عليها الأبصار!

(فلننظر فيم كان هذا الانقلاب؟

(صدر الكتاب الأبيض بالأمس ترضية للعرب الثائرين الساخطين. فرفضوه واستصغروه. فلما سرى البرد إلى دمائهم الفائرة، ودب الخدر إلى أعصابهم الثائرة، رضوا عن الكتاب الأبيض، ووقفوا ينتظرون. . .

(وألغى الكتاب الأبيض اليوم ترضية للصهيونيين الثائرين المعتدين، وهم يرفضون إلغاءه،

ص: 15

ويستصغرون اقتراحات (بيفن) الأخيرة، لأن العرب لا يزالون في خدر لذيذ يستنيمون إليه. . . ذلك أنهم يثقون بالضمير البريطاني!!!

(ومن هنا نستطيع أن نعرف: متى يسترضينا الإنجليز، ومتى يسترضون الصهيونيين؟!). ثم قلت في نهاية ذلك المقال:

(والآن. . . ما هو طريقنا المأمون؟

(طريقنا ألا نثق بضمير أحد، فما لأحد في العالم الغربي ضمير! لقد برهنت هذه الحضارة الغربية على إفلاس في الضمير لا عهد للعالم به في جميع الحضارات السابقة

(وقبل أن نثق بالضمير الأوربي أو الأمريكي، يجب أن نتذكر لفرنسا حوادث سوريا ولبنان - وهي قريبة لم تغب عن العيان - ويجب أن نذكر لإنجلترا يوم 4 فبراير الشنيع، ثم موقفها في إندونيسيا - وهو حاضر الآن - ويجب نذكر لأمريكا نداء (ترومان) ونصرته للصهيونيين!

(وطريقنا ألا نستنيم لمخدرات التأجيل، إلا إذا وقفت الهجرة وقفاً تاماً حتى يتم التحقيق. فلقد رأينا أن الزمن ليس في صالحنا. وإذا شاء أحد أن يستنيم، فليتذكر متى صدر الكتاب الأبيض بوقف الهجرة الصهيونية في موعد محدد، ولماذا صدر هذا الكتاب؟ ثم ليتذكر متى ألغى الكتاب الأبيض وأبيحت الهجرة من جديد، ولماذا كان هذا الانقلاب؟

(صدر الكتاب الأبيض ترضية للعرب الساخطين الثائرين، وصدر تصريح (بيفن) الأخير ترضية لليهود المعتدين الإرهابيين)

قلت ذلك من نحو ثلاثة أشهر، فقال لي قوم ممن يسمونهم (العقلاء!): لا تنس أن إباحة الهجرة الصهيونية مرهونة بمشيئة العرب، وأن مستر (بيفن) قدم قراره الأخير في صورة (اقتراح)، فإذا رفض العرب، فلن تكون هجرة للصهيونيين!

ثم هاهو ذا مستر (بيفن) يقرر تنفيذ اقتراحه، بعد أن رفضه العرب وأبلغوه قرار الرفض مجتمعين!

ذلك أن قرار الرفض من جانب العرب لم يبلغ للمستر (بيفن) باللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز! فهم معذورون حين لا يفهمون!

ومصيبتنا الكبرى - سواء في قضية فلسطين أو في قضايا البلاد العربية جميعاً - أننا لا

ص: 16

نخاطب الإنجليز باللغة الوحيدة التي يفهمونها كل حين!

ويبلغ بنا البله والغفلة أن نخاطبهم باللغة الدبلوماسية - وهم لا يفهمون هذه اللغة مع الأسف من الشعوب الصغيرة، بل هم لا يفهمونها من الشعوب الكبيرة في بعض الأحايين!

والضمير السياسي البريطاني؟ تلك الخرافة التي يتعلق بها ساستنا حينما تضعف نفوسهم عن اختيار الطريق الوحيد المؤدي إلى حقوقنا الوطنية، وتعجز ألسنتهم عن اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز.

هذه الخرافة التي لم ننكب مرة واحدة إلا عن طريق التعلق بها، ولم ننجح مرة واحدة إلا عن طريق اليأس منها. . ومع كل التجارب الماضية يوجد بيننا من لا يزال يثق في هذا الضمير

هاهي ذي الهجرة الصهيونية تباح أيها الواثقون بالضمير السياسي البريطاني. فماذا أنتم قائلون؟ بل ماذا أنتم فاعلون؟

مذكرات ديبلوماسية! وبيانات ديبلوماسية! وانتظار للردود على هذه البيانات والمذكرات، تأتيكم أو لا تأتيكم بعد حين!

والهجرة تستمر، والصهيونيون يدخلون!

أيتها الأمة العربية:

أفيك رصيد مذخور، أم أنت من الهالكين؟ فأما أن تكن الأولى أيتها الأمة فخاطبي القوم باللغة الوحيدة التي يفهمون، وأما أن تكن الثانية، فإن الإنجليز معذورون، والصهيونيين محقون!

أيتها الأمة العربية: لا تعتمدي على رجال السياسة، فقد تكون لهم قيود وحدود. ولكن اعتمدي على نفسك، وادفعي إلى الأمام ليتخطوا هذه السدود والقيود!

أيتها الأمة العربية:

(احذري رجال السياسة من أبنائك، لا لأنهم قد يخونونك أو يخدعونك؛ ولكن لأنهم هم قد يخانون ويخدعون. ولأن كراسي الحكم والمناصب، قد تكون في بعض الأحيان وثيرة إلى حد تستنيم له الأعصاب الثائرة، وتخمد فيه الدماء الفائرة!

أيتها الأمة العربية:

ص: 17

خذي الأمر في يديك من جديد. فأني أرى الموقف يستدعي جهود الشعوب نفسها، لا جهود زعماء الشعوب!

وما يخدعك أيتها الأمة - في كل قضاياك الوطنية لا في قضية فلسطين وحدها - إلا مخدوع، يقصيك عن الأمر ويستنيم للوعود!)

تلك صيحتي لك بالأمس، وأنها لصيحتي لك اليوم. فخاطبي القوم باللغة الوحيدة التي يفهمونها، وإلا فسيذهب صوتك الديبلوماسي الناعم صرخة في واد. والأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين!

سيد قطب

ص: 18

‌بمناسبة (المولد):

حقائق مؤلمة

للأستاذ علي الطنطاوي

(الكتاب أطباء الأمة. فإذا جامل الطبيب مريضه فكتم عنه

داءه، لم يبرأ منه أبداً).

علي

هذا يوم (المولد)، وأنه لمحطة في طريق الزمان، فلنقف عليه كما يقف المسافر في المحطة، ليلقي ببصره حوله، فينظر إلى أين يسير، وكم قطع من طريقه إلى غايته، وهل يمشي إليها على الصراط السوي، أم قد ضل عنها وجانفها، وهل يساير القافلة أم شرد عنها وفارقها؟ ولنحاسب فيه أنفسنا كما يحاسب التاجر نفسه، فيرى ماله وما عليه. . .

أما أنا، فقد وقفت ونظرت، فأبت وقد فاضت النفس حسرة، وامتلأت ألماً، وأيقنت أن الذي علينا، أكثر من الذي لنا، وأننا قد (خسرنا)!

ولم يكن التشاؤم من شأني، ولا اليأس مذهبي، ولكن ما نحن فيه يؤْيس الأمل، ويكرب المتفائل، وأين لعمري باب الأمل حتى ألجه، وأية حال من أحوالنا تبشر بالخير، وتدعو إلى السرور: أحالنا في بيوتنا، أم في مدارسنا، أم في أسواقنا، أم في دواوين حكومتنا؟ وأي طبقة من طبقاتنا تتبع هدى نبينا: أعلماؤنا أم قادتنا، أم أدباؤنا، أم عامتنا؟ وأي بلد من بلداننا، كان البلد الإسلامي الخالص: أحجازنا، أم شامنا، أم مصرنا، أم عراقنا؟

أما البيوت، وهي الحجارة في صرح الوطن، لا يصلح أن فسدت، ولا ينهض أن تهافتت، فلقد كان العهد بها مؤسسة على التقوى، قائمة على الخلق النبيل، والود المبذول، وكان الرجل فيها سيداً يطيعه أهلها ويطيع هو ربه، وكان لعمله وبيته، لا يعرف غيرهما، ولا يهمه سواهما، وكان الولد براً بأبيه، والزوجة موافقة لزوجها، همها دارها، ومطمحها إسعاد زوجها وولدها، فتغيرت الحال، فصارت المرأة قوامة على رجلها، والولد متكبراً على أبيه، والرجل داره قهوته أو ملهاه أو ناديه، والمرأة بيتها الشارع ودينها زينتها، تتخذها لتتجمل بها للرجال الأجانب في الترام والطريق، لا لزوجها في المنزل، وآثرت على دارها

ص: 19

زيارتها وسينماها، وربما خالف الزوج إلى غير أهله، وخالت هي غير زوجها، ونشأ الولد على المجون، وشبت البنت على الاستهتار، هذا وميزان النفقات في البيت مختل، وحبل الود مصروم، والتعاون على الخير مفقود، وظل الدين غير ممدود، وما بقى من البيوت صالحاً، فإن الفساد يسعى إليه، وهو يسعى إلى الفساد!

أما المدارس، فقد كنا نعرفها مشارق أنوار العلم، ومنابع الهدى، ونعرف المعلمين فيها مربين مهذبين، ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، ونعرف التلاميذ وهم طلاب علم وقصّاد خلق، دنياهم مدرستهم، وعملهم درسهم، وأئمتهم معلموهم، فكانت المدارس تخرج علماء ومهذبين، أصحاب خلق متين ودين، تعتز بهم بلادهم، وتسمو أوطانهم، فصار همّ التلاميذ حزب سياسي ينتسبون إليه ويصرخون في مظاهراته، ويضعون أكتافهم سلماً لزعمائه، يرتقون عليه إلى ما يشتهون من كراسي الحكم، أو نحلة ينتحلونها، ويحملون في صدورهم شارتها، ويهرعون إلى ناديها، ثم لا يفهمون من حقها أو باطلها إلا هذه المظاهر التي طلبوها لها وحدها، ثم يشتغلون عن الدرس بالخلاف عليها والكلام فيها، من غير فقه لها، أو وقوف على مبادئها، أو فلم سينمائي يحرصون عليه أكثر من حرصهم على دروسهم وعبادتهم، أو رواية في مسرح، أو صورة مكشوفة في مجلة، وصار المعلمون - أعني أكثر المعلمين - أصحاب شهادات لا علوم، ودعاة مذاهب سياسية أو اجتماعية، لا دعاة إلى الله ولا إلى الخلق، وصاروا قدوة الطلاب في قصد السينمات والملاهي، لا قصد المساجد والمكتبات، وصار منهم الشيوعي الذي يعلن شيوعيته، والقومي الذي يظهر قوميته، والجاحد الذي لا يتوارى بجحوده، والماجن الذي لا يتستر بمجونه، أي والله العظيم، ووسدت الأمور إلى غير أهلها، فجعل غير العالمين معلمين، والمحتاجون إلى التربية مربين، وتكلم في المسائل من ليس من أربابها، وتصدر في محرابها من لم يلج بابها، وجيء بالشباب العزاب ليعلموا البنات، فكنا كمن يدني سلكتي الكهرباء، حتى تنقدح شرارتهما، ويضع إلى جانبهما البارود، ثم ينام الأحمق آمناً من الانفجار، ما بقى والله إلا أن نجيء بالبنات ليعلمن الشباب، وما دمنا نمشي على هذا الطريق، فما بقى شيء عجيب، وكل آت قريب!!

اللهم ألطف بنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تسلط علينا سفهاءنا، يا رب!

ص: 20

أما الأسواق، فلقد كانت فيها التجارة فصار فيها الاحتكار، وكان فيها قوم منا، يجلبون لنا أرزاقنا، فصار فيها أعداء لنا، يسرقون فيخزنون أقواتنا، ليجمعوا القروش من جيوبنا فيجعلوها ذهباً في صناديقهم، ولقد انتهت الحرب، وحل السلام، ولا يزال هؤلاء الفجار الأشرار يرفعون الأسعار، ويكوون الفقراء بالنار، لا يعرفون الإنصاف ولا الرحمة ولا الإنسانية. . .

أما دواوين الحكومة، فقد نسي من فيها أنهم أجراء الناس، يأكلون الخبز من فضل أيديهم، ويجلسون مجالسهم هذه لخدمة مصالحهم، وحسبوا أنهم ملوك والناس لهم خول، وسادة وهم لهم عبيد. ثم لم يكف أكثرهم ما يأخذون من وقت من يرجع في حاجته إليهم، ومن كرامة نفسه حتى أخذوا الرشوة من جيبه، وربما. . . وربما مدوا أعينهم إلى عرضه. . . وهم بعد ذلك جيش مجيّش، نصفهم لا يحتاج اليه، ولا ينتفع به، قد جاءت به الوساطات والشفاعات، فرفعته من غير كفاية على أهل الكفايات، ومن اقتصر منهم على مرتبه ليعيش به، عاش من قلة المرتب حياة هي كالموت، ولم يكفه المرتب ثمن الخبز، فكأن الحكومة تقول لصغار الموظفين: اذهبوا فاسرقوا لتعيشوا، فإن ثمن خبزكم أعطيناه لكبار الموظفين، لينفقوه على الترف والسرف والقرف.

ثم أن العلماء، وهم عدة الإصلاح، ولسن الحق، ودعاة الله، هربوا واختبئوا في بيوتهم، فمنهم من لا يرى المنكر ولا يعرفه، ومنهم من يراه ولا ينكره، ومنهم من ينكره همساً، ومنهم من يعلن ولا يعرف الطريق الموصل إلى رفع المنكرات، ومنهم من ملأت قلبه الدنيا، فهو يسعى إليها، ويزاحم عليها، وربما اصطادها بشبكة من لحية عريضة، وقيدها بسبحة طويلة، وأخفاها تحت عمامة ضخمة، وذل من أجلها للحكام، وخضع للأغنياء، وفقد القلب الذي يقتحم الأهوال، واللسان الذي يصدع بالحق، فغدا يقول ولا يستمع لقوله، وينكر ولا يلتفت لإنكاره، وجلهم لا قلم له يخاطب به الناس، ويسوقهم به إلى الحق، ولا لسان، فكيف يكون داعياً من لا يكون خطيباً ولا كاتباً؟

والقادة ما صاروا قادة بعبقرية اختصهم بها الله، ولا بعلم اختصوا به أنفسهم، وأحيوا في تحصيله لياليهم، ولا بعقل هو فوق العقول، وذكاء لا يدانيه ذكاء، ولكنها هي حرفة احترفوها ومسلك سلكوه: زيد وعمرو، أما زيد فجد واستقام ودرس حتى أكمل المدرسة،

ص: 21

فصار معلماً أو كاتباً، أو موظفاً. . . وأما عمرو، فأهمل درسه، وأضاع وقته، والتوى مع الطرق الملتوية، فالتحق بالأحزاب، وعاشر الأغراب، وولج حيث لا يحسن الولوج، وخرج من حيث يستقبح الخروج، ورفع ووضع، وخرب وأصلح، حتى عرفه الناس، فكان نائباً، ثم صار وزيراً، ثم تمت آثار قدرة الله القادر على كل شيء، فاستحال قائداً من القادة. . .!

والأدباء وأهل الصحف، همّ أكثرهم التزلف إلى القراء، والوصول إلى رضاهم، رأوا أقرب الطرق طريق الشهوة فسلكوه، وركبوا فيه الصعب والذلول: من الصور العارية، والقصص المثيرة، وطريق الأغراب في عرض الأخبار، وتكبير الصغير، وتعظيم الحقير، وتشويه أوجه الحقائق، فيقرأ الناشئ الشيء وضده، فلا يؤمن من بعد بشيء، وإن كان في الكتاب من يدعو إلى إصلاح، في لغة صحيحة، وأسلوب منقح، لم يقرأه إلا الخاصة، وإن كانت مجلة على هذه الصفة لم يبع منها مع كل ألف من تلك عدد واحد!

ولعلي بالغت، أو غلب علي التشاؤم، فلم أر إلا ما ذكرت ووصفت، ولكني صدقت ولم أقل إلا حقاً، ولعل الذي قلت أقل من الحق!

أن العالم اليوم واقف على مفرق الطرق، حائر بينها أيا يسلك منها، ونحن أشد أهل العالم حيرة وتردداً، فنحن في المكان الذي تلتقي فيه نحل الشرق والغرب ومذاهبهما كلها، فيأخذ كل واحد ما تصل إليه يده، ثم يصيح في الدعوة إليه، ثم يزاحم ليشق له طريقاً. . . فنحن في زحمة وضجة دونها ما يروون عن ضجة برج بابل، والله وحده يعلم عمّ تنجلي. . . ففي الدين سلفيون وصوفيون، ودعاة إلى التمسك بالمذاهب وترك الاجتهاد ونبذ التقليد، وإلى الأخذ بالحديث وترك كتب الفقه وإلى الاقتصار عليها، وفي البدع دعاة إلى القاديانية والبهائية والنصيرية والتيجانية ووحدة الوجود، وفي غير الدين شيوعيون وقوميون سوريون، وملحدون ومستهترون، ثم الدعاة إلى السفور والاختلاط، والمدافعون عن الحجاب، وفي السياسة كتلويون وعصبويون ومعارضون ومؤيدون، وعاملون للإنكليز أو للفرنسيين أو للروس، وقائلون بالجمهورية أو بالملكية، أو بالاستقلال أو بسورية الكبرى أو بالوحدة العربية، والمناقشات مستمرة لا تنقطع، والخلافات قائمة ما تقعد، قد انشقت البيوت، وانصدعت الأسر، وأني لأعرف أخوين: شيوعياً أحمر، وعضواً في شباب محمد،

ص: 22

شقيقين في دار واحدة، وأبوهما شيخ طريقة. . . وأعرف شيوعياً وأبوه نقيب أشراف، فالإخوان في المنزل، والرفاق في المدرسة، والزملاء في الديوان، يختلفون أبداً ويتقاتلون. . .!

فعم تنجلي هذه الغمرة؟ الله وحده العالم!

هذا في دمشق، أما الحجاز ومصر والعراق، فإني أعرفها كلها وعشت فيها، ولكن ليكتب عنها كتاب من أهل مصر والعراق والحجاز، يفتح في (الرسالة) باب من أبرك الأبواب، وأكثرها فائدة ونفعاً، إذ أن أول الدواء تصوير الداء. . .!

دمشق

علي الطنطاوي

ص: 23

‌الكذب والنسيان

كما يراهما (أبو العلاء المعري)

للأستاذ كامل كيلاني

1 -

آفة الأخبار

المعري أديب محقق، وراوية ثبت، ومؤرخ نافذ البصيرة، وناقد منصف، يستخدم كل ما وهبه الله من ميزات باهرة، وثقافة شاملة نادرة، في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتحليتها مما يكتنفها من الأستار والحجب، وإماطة اللثام عما يعترض الباحثين عنها من الشكوك والريب.

يقول الشاعر:

(همُ نقلوا عني الذي لم أفه به

وما آفة الأخبار إلا رواتها)

2 -

آفة الرواة

وآفة الرواة - فيما يرى أبو العلاء - شيئان: الكذب والنسيان. فلا غرو إذا ضجر بهما، وعرض لهما في كثير من المناسبات، واحتفل لهما ما شاء له أدبه وخياله، وأتى في الحديث عنهما بالشائق المعجب.

3 -

قتل الفكرة

فهو إذا فزّعه من الموت أنه يبيد الجسم الذي لا يعنيه منه إلا أنه سياج الروح وهيكلها، فزّعه من الكذب أنه قتل للفكرة وإضاعة للحقيقة التي يبحث عنها جاهداً، وفزعه من النسيان أنه قتل للعقل الذي يعتز به ولا يعدل به شيئاً. قال: أصبحت في بيت مدر لا أملكه، كبيت قريض استدراكه، اشتمل عليه النسيان فهو مهلكة.

4 -

تمنى الموت

على أنه قد يتمنى الموت أحياناً، لأنه يريح الإنسان من آلام الحياة، ويريح الجسم من أذيتها، ويغني صاحبه عن حاجات الدنيا فيقول:

العيش أفقر منا كل ذات غنى

والموت أغنى بحق كل محتاج

ص: 24

إذا حياة علينا للأذى فتحت

باباً من الشر لاقاه بإرتاج

أو يقول:

على البلى سيفيد المرء فائدة

فالمسك يزداد من طبيب إذا سحقا

5 -

تسويغ الكذب والنسيان

وقد يوصى بالكذب إذا عرّض الصدق صاحبه للهلاك فيقول:

أصدق إلى أن تظنّ الصدق مهلكة

وبعد ذلك فاقعد كاذباً وقم

فالمين جيفة مضطر ألمّ بها

والصدق كالماء يجفي خيفة الشم

وقد يتمنى النسيان والذهول ليتمثل بذلك همومه وأحزانه فيقول:

تمنيت أن الخمر حلت لنشوة

تجهلني كيف اطمأنت بي الحال

فأذهل أني بالعراق على شفا

رزي الأماني لا أنيس ولا مال

مقل من الأهليين يسر وأسرة

كفى حزنا بينُ مشِت وإقلال

وهي لفتات ذهنية عارضه لا يجهل القارئ مغزاها، وصور كلامية لعله أعرف منا بغايتها ومرماها.

6 -

تمجيد العقل

على أن الأدب العلائي قد حفل - شعراً ونثراً - بتمجيد العقل، وحب الصحيح والتفزع من الذهول والنسيان فهو يقول:

الفكر حبل متى يمسك على طرف

منه، ينط بالثريا ذلك الطرف

والعقل كالبحر غيضت جوانبه

شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف

ويقول:

وينفر عقلي مغضباً أن تركته

سدي واتبعت الشافعي ومالكا

ويقول:

وإذا الرياسة لم تعن بسياسة

عقليه خطئ الصواب السائس

ويقول:

صدقت يا عقل فليبعد أخو سفه

صاغ الأحاديث إفكا أو تأولها

ص: 25

7 -

طول الأمد

ويرى طول الأمد كفيلا بالنسيان. فيقول:

لأنسينك إن طال الزمان بنا

وكم صديق تمادى عهده فنسي

ويقول:

وسوف ننسى فنمسي عند عارفنا

وما لنا في أقاصي الوهم أشباح

ويقول في رسالة الغفران على لسان المهلهل، حين سأله ابن القارح عن بيت ينسبه إليه، كان الأصمعي ينكره ويقول إنه مولد، وكان أبو زيد يستشهد به ويثبته: فيقول المهلهل:

(طال الأبد على لُبدٍ، لقد نِسيت ما قلت في الدار الفانية).

8 -

رسالة الشياطين:

ومن أبدع ما قرأناه للمعري في هذا الباب ما كتبه عن النسيان في رسالة الشياطين التي ألحقناها برسالة الغفران في طبعتها الثالثة. فقد نسي أسمه أحد عارفيه ولم يثبته، وجعله محمداً بدلا من أحمد، ثم نسى مرة ثانية فقصر كنيته فقال:(أبو العلا) بدلا من (أبي العلاء) فعاتبه المعري متلطفاً وإن بدا من ثنايا عتابه الرقيق ألمه لنسيان صاحبه الذي حداه إلى تبديل اسمه وقصر كنيته. قال: (ودلني كتابه على إنه يحسبني قد أضعت وده، وتناسيت في طول الزمان عهده. إني إذاً لمن الظالمين. عرفني بنفسه أنه من أهل البصرة، وقد صح معي أنه من أهل البصيرة الساكنة في خلده، وتلك أجل من البصرة بلده، وهل البصرة إلا حجارة بيض، يطأها إنس وربيض (يعني الأغنام ورعاتها) إلى أن يقول: وأهل البصرة - سلمهم الله - ينسبون إلى قلة الحنين. أليس قد مرت به هذه الحكاية، وهي أنه وجد على حجر مكتوب:

ما من غريب، وإن أبدى تجلده

إلا سيذكر - عند العلة - الوطنا

وقد كتب تحته: إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم.

9 -

تغيير الاسم

وهنا خلص إلى غرضه الذي يهدف إليه فقال:

ص: 26

والدليل على ما قلت إنه - أدام الله عزه - لم يثبت اسمي. جعلني (محمداً) واسمي (أحمد) فإن احتج بأن هذين الاسمين سواء لقوله تعالى: (محمد رسول الله، والذين معه. . . الخ).

ولقوله في موضع آخر: (برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن ذلك إنما كان للنبي (ص) خاصة، لأنه قال:(اسمي في السماء أحمد، وفي الأرض محمد).

فإن قال: (إن العرب قد يكون للرجل منهم الاسمان والثلاثة) واحتج بقول دريد بن الصمة:

(تنادوا فقالوا: أردت الخيل فارسا

فقلت: أعبد الله ذلكم الردى)

وقال فيها:

فإن تُنْسنا الأيام والعصر تعلموا

- بنى قارب - أنا غضاب بمَعْبد

(والمعري إنما يستشهد بهذا البيت لأن معبداً وعبد الله علمان على شخص واحد) فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين:

(إما أن يكون للرجل اسمان) ولست كذلك، وإما أن يكون الشاعر غيّر اسمه للضرورة. ولو كان غير اسمي في النظم - دون النثر - لكان عذره في ذلك منبسطاً لأن الشعراء الجلة يغيرون الأسماء. قال الحطيئة:

(وما رضيت لهم حتى رفَدتهم

من وابل رهطِ بسْطامً بإحْرام

فيه الرماح، وفيه كل سابغة

قضّاء محكمةٍ من نَسْج سلام

أراد سليمان عليه السلام. وهذا تغيير على غير قياس لا يسلك مسلك غيره، من قولهم: عالية وعُلية. وفاطمة وفطيمة في القصيدة الواحدة يعنون امرأة بعينها.

ولا مجرى قولهم أبو قابوس وأبي قبيس للنعمان بن المنذر لأن هذا ترخيم التصغير. إلى أن قال: (ولا ندفع أن الشعراء قد سموا الرجل باسم أبيه على سبيل الضرورة وهكذا إلى أن قال: (وأنا أتسامح له، وأعدها زيناً لا شيناً، إذ كانت قذاة في بحر مزبد، بل أثر سجود في جبهة متعبد. وله أن يقول: إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. أما أنا فحفظت اسمه ونسبه وكنيته، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته. وقد جعلت جواب كتابه نائباً مناب الاجتماع معه، فلا ينكر عليّ الإسهاب في المحاورة، والإكثار من المفاوضة.

(البقية في العدد القادم)

كامل كيلاني

ص: 27

‌العرب واليهود

للدكتور جواد علي

صلات العرب بالعبرانيين صلات قديمة، ترجع إلى عصور مضت قبل المسيح. وقد تعرضت التوراة والتلمود وكتب يهودية أخرى إلى أخبار العرب. ونحن نعول في أكثر ما نكتبه عن صلات العرب بالعبرانيين في العصور التي سبقت الإسلام على هذه الكتب.

وكانت صلات العرب بأرض فلسطين قديمة كذلك، ولعلها أقدم من علاقة العبرانيين بهذه الأرض. وكلمة (فلسطين) نفسها لا ترجع إلى أصل عبراني على رأي بعض العلماء، ولعلها كلمة عربية قديمة. وبهذه الصورة انتقلت إلى اليونانية واللاتينية ثم إلى سائر اللغات العالمية. ولعلها استعملت في العبرانية المتأخرة عن الاستعمال العربي القديم.

وقد أطلقت هذه الكلمة في الأصل على المنطقة الساحلية الضيقة التي تقع في جنوب الكرمل والتي كان يسكنها شعب يطلق عليه اسم (فلسطية ثم أطلقت من قبيل التعميم على جميع الأراضي المجاورة لهذه المنطقة. وقد وردت اللفظة في العهد القديم بأشكال مختلفة. جاء في سفر الخروج (يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين). وجاء في سفر أشعياء (لا تفرحي يا جميع فلسطين لان القضيب الضارب بك انكسر فيه من أصل الحية يخرج أفعوان وثمرته تكون ثعباناً ساماً طياراً).

وتاريخ فلسطين تاريخ غامض جداً، ولا يمكن أن نجد أي أثر للشعب القديم الذي كان يسكن في هذه البلاد قبل ثلاثة آلاف عام قبل المسيح. والظاهر أن الشعب الذي أقام في هذه البلاد بعد هذا التاريخ كان على شيء من الانحطاط. فكانوا يسكنون الكهوف الطبيعية والكهوف الصناعية، والظاهر أنه لم يكن من السلالة السامية، وأنه كان من شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. ولم يتمكن العلماء على كل حال من تشخيص ما تبقى من عظام هذا الشعب لقدمها وتلف أكثر ما تبقى منها، ولعل الحوريين الذين ورد ذكرهم في سفر التكوين من بقايا هؤلاء:

وأول سلالة سامية هبطت أرض فلسطين، هي سلالة:(الكنعانيين) أو (العموريين) والظاهر أنها نزلت في هذه البلاد بعد سنة (2500 قبل الميلاد).

وقد حاول بعض العلماء التفريق بين الكنعانيين والعموريين إلا أنهم لم يتمكنوا من إيراد

ص: 29

حجج علمية قطعية، تؤيد هذا الرأي. وسكن هؤلاء العموريون في منطقة واسعة هي منطقة الهلال الخصيب في أرض بابل حيث كوّن ملكهم (حمورابي) مملكته في العراق وسكنوا في مختلف مدن سوريا كذلك.

ولما كانت أرض فلسطين على اتصال تام بمصر فقد بدأت تتأثر بالحضارة المصرية وبالسياسة المصرية منذ سنة 1500 قبل الميلاد، ثم أصبحت تابعة للإمبراطورية المصرية بعد أن فتحها تحتمس الثالث 3) (1500 و. م) ثم أمنهوتب الثالث (1450 و. م) فكان يحكمها مشائخ باسم حكام مصر.

ولم يتمكن الفرعون أمنهوتب الرابع 4) من الاهتمام بشؤون مصر ولا بشؤون سائر الأقطار الأخرى التي كانت تابعة للإمبراطورية المصرية، بسبب انشغاله بالإصلاح الديني ولاعتقاده بعقيدة التوحيد التي أراد جعلها العقيدة الرسمية للدولة ولمعارضة رجال الدين لهذا الإصلاح. فانتهزت المستعمرات المصرية تلك الفرصة وأخذت تستقل.

استقلت فلسطين قبل مجيء القبائل الآرامية إليها، وقد وردت كلمة في نص تل العمارنة إلا أن تلك الكلمة لا ترادف كلمة عبري التي وردت في التوراة.

وليست هنالك أدلة علمية تثبت ترادف الكلمتين.

والذي يفهم من المصادر العبرية هو أن اليهود كانوا مستعبدين في مصر، ثم خرجوا من هذا الاستعباد في أوائل القرن الثالث عشر قبل المسيح إلى أرض كنعان (فلسطين) وكان زعيمهم جميعاً (يشوع)، وذلك ما يفهم من سفر يشوع (وكان بعد موت موسى عبد الرب، إن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات. فالان قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات. جميع أرض الحيثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم، لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.

والذي يظهر من مصادر قديمة أخرى هو أن اليهود عندما دخلوا أرض كنعان، دخلوا على صورة قبائل متفرقة وبأوقات مختلفة، فلم يكن عليهم زعيم واحد. ويؤيد مضمون نص تل العمارنة هذا الرأي غير أنه يحتاج إلى فحص وإلى تدقيق تاريخي عميق، لمعرفة كيفية

ص: 30

هجرة اليهود إلى أرض كنعان.

لم يتمكن الإسرائيليون من الاستيلاء على أرض فلسطين دفعة واحدة، بل كان ذلك تدريجياً، ظلت الأرض الساحلية السهلة في قبضة الفلسطينيين وهنالك نظريات مختلفة عن أصل هذا الشعب. وتدعي أحدث نظرية من هذه النظريات بأن أصل الشعب الفلسطيني من جزيرة (كريت) على أنها نظرية لا زالت في حاجة إلى أدلة علمية.

وظل (الجعبونيون) والكنعانيون والفرزيون والحويون واليبوسيون وأمثالهم أماكنهم يقاومون اليهود.

وبدخول اليهود إلى أرض فلسطين ولا سيما بعد استقرارهم فيها تكونت الصلات التاريخية فيها بين العرب واليهود. وقد كان العرب يسكنون في أرض فلسطين ذاتها وفي جوار شعوب فلسطين. فلما تمكن اليهود من بعض هذه الشعوب احتكوا احتكاكاً مباشراً بالعرب.

يرى المستشرق الإنكليزي مارجليوت أن صلات العرب باليهود مرت في أدوار ثلاثة:

أما الدور الأول فهو الدور الغامض الذي تعرف فيه العرب باليهود بعد دخول اليهود إلى أرض كنعان، ومعلوماتنا عن هذا الدور لا تكاد تكون شيئاً. وهي تستند على الدراسات المقارنة فقط، على دراسة الخصائص اللغوية والكلمات المشتركة فيما بين اللغتين العبرية والعربية وعلى الأساطير والعقائد الدينية القديمة، وتشير مثل هذه الدراسة، إلى وجود احتكاك قديم بين العرب واليهود.

وفي المرحلة الثانية اتصل اليهود بالعرب اتصالاً مباشراً. وقد ذكر ذلك الاتصال في التوراة في مواضع مختلفة منه، وقد كانت صلات العرب باليهود صلات حسنة نوعاً ما في بادئ الأمر، ثم ساءت تلك الصلات على أثر ما ظهر للقبائل العربية من ميل العبرانيين إلى الاعتداء عليهم، ومحاولة الاستيلاء على أرض فلسطين. وأكثر معلوماتنا عن هذا الدور من التوراة ومن المصادر العبرانية ذاتها ونادراً ما تشير المصادر العربية إلى ذلك.

وفي المرحلة الثالثة والأخيرة ينتقل اليهود من فلسطين إلى الحجاز واليمن والعراق بعد احتلال الرومان لأرض فلسطين وبعد العبث بالهيكل، فيتشتت شمل اليهود، وتسقط آخر حكومة لليهود. وتكاد تكون المصادر العربية الإسلامية في طليعة المصادر التاريخية بالنسبة لهذا العهد.

ص: 31

البقية في العدد القادم

جواد علي

ص: 32

‌الرغيف القومي

للدكتور محمد بهجت

حتى الرغيف نحاول أن نضفي عليه صفة القومية، فيصبح كالسياسة والتعليم واللباس وغيرها من المسائل العامة، وتصبح له مشكلة كمشاكلها العديدة! ولم لا تكون له مشكلة نعطيها من وقتنا وتفكيرنا شيئاً يتناسب مع خطره وأثره في اقتصاد الشعب وصحته؟

والرغيف كاللباس في مصر، يجمعهما شبه واحد، فبينا ترى للرؤوس أنواعاً شتى من العمائم والقلانس والطرابيش والقبعات، وللأجسام أشكالاً عديدة متباينة من الثياب لا تقارب بينها ولا تشابه، وللأقدام ضروباً متعددة من الخفاف والنعال والمراكيب والأحذية، حتى ليخيل للزائر الطارئ أننا أفراد أمم مختلفة امتزجت ببعضها على صعيد واحد، كذلك نرى لأكثر المدن رغيفاً معيناً، فلبعض مدن الوجه القبلي رغيفاً بشكل ولون خاصين، ولبعض قرى الوجهين البحري والقبلي أرغفة خاصة تشتهر بها، حتى ليقول لك خبير إن هذا الرغيف من ناحية كذا أو كذا، وترى للأجانب وأشباههم أرغفة مميزة ذات طابع خاص وهكذا.

وهذا الاختلاف الظاهر في أشكال وأحجام وألوان الأرغفة يتبعه بطبيعة الحال اختلاف باطني في طعومها وتركيبها الكيميائي ومشتملاتها الغذائية، ومن ثم اختلاف في تأثيرها على صحة الأجسام ونشاطها. وقد لا يعنينا هنا ظاهر تلك الأرغفة بقدر ما تعنينا قيمتها الغذائية وأثرها في الأجسام والعقول. ومما لا ريب فيه أن مكونات الرغيف تختلف كثيراً أو قليلا تبعاً للمواد الأولية التي يصنع منها والتي ينتجها إقليم ما. فإذا كان الإقليم ينتج قمحاً فرغيفه من القمح، وإذا كان ينتج ذرة فرغيفه من الذرة، بينما يكون الرغيف في إقليم ثالث خليطاً من القمح والذرة بنسب تتفاوت كثيراً أو قليلا تبعاً لغلبة أحد المحصولين على الآخر وهكذا.

ولا ينبغي أن ننسى أن للتقاليد والعادات الموروثة أثراً كبيراً في عمل الرغيف كما هو الأمر في عمل بعض ألوان الطعام الأخرى.

ومع قيام مثل هذه الاعتبارات وغيرها نرى أن الأرغفة المصنوعة من القمح تختلف فيما بينها أيضاً. فبعضها يكون أبيض اللون ناعماً قوامه الدقيق الخالص، وبعضها أسمر خشناً

ص: 33

نوعاً تدخله كل عناصر الطحين، وبعضها يكون بين هذه وتلك. ومع أنها كلها مصنوعة من القمح أو من بعض أجزائه دون الأخرى فإن لكل منها تأثيراً مختلفاً في تغذية الجسم كما سنرى فيما بعد.

دخلت مخبزاً من المخابز الإفرنجية أطلب شيئاً معيناً فشاهدت أرغفة من الخبز الأبيض الجميل مرتبة بجانب بعضها بشكل يثير الشهية ويغري بالشراء، ولا سيما بعد أن احتجبت عنا طوال مدة الحرب. فابتعت شيئاً منها وحملته إلى بيتي وهناك أكلناه في شراهة ولذة عجيبتين. ولم لا؟ إن نظافتها وطعمها ورائحتها لتبرر ذلك وتدفع إليه. وعند ذلك ذكرت رغيفنا الذي نأكله الآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها وما به من عيوب وشوائب تجعل المرء يأكله في تحفظ، ثم ذكرت رغيفنا الذي كنا نأكله طول سني الحرب - ذلك الرغيف المخيف الذي كان يصنع من القمح مخلوطاً بالذرة أو الأرز، وبكل ما يمكن أن يختلط به من ردادة وسوس وطين وحصى وخيوط وحشائش أخرى تطحن معه وتعجن وتخبز، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله والذين كانوا يصنعونه، ولا يعلمه أحد ممن يأكلونه، حتى إذا خرجت منه أرغفة جاءت بشعة تنبو عنها العين وتعافها نفس الحيوان فما بالك بنفس الإنسان. نعم ذكرت ذلك الرغيف الذي كنت إذا اقتطعت منه لقمة أحاول مضغها وازدرادها لم أستطع فألفظها من فمي محنقاً مغضباً. ذكرت ذلك مما يذكره الكثرة من هذا الشعب المسكين الذي يخيل إلى أنه أذل بفرض هذا الرغيف البغيض الملعون عليه فرضاً. ولعمرك لا يمكن أن يستذل شعب بأكثر من أن يلقى إليه برغيف هذه بعض صفاته. وتزداد بشاعة هذا الذل إذا علمنا أنه ضرب على شعب مصر صاحب أخصب أرض في العالم، الذي تحترف كثرة أهله الزراعة والذي أرغم على زرع 60 بالمائة من أرضه حبوباً ومع ذلك لم يستطع أن يأكل رغيفاً نظيفاً، ذكرت ذلك وذكرت معه دوي الشكاوي التي جأر الناس بها على غير جدوى، وذكرت الكثيرين مماً أصابهم السوء وأنتابهم العلل من جراء سوط العذاب الذي سيطوا سبه في غير شفقة أو رحمة. ذكرت كل ذلك وكثيراً غيره ثم هززت رأسي أسى وقلت عسى أن يكون هذا بعض الثمن الذي اقتضاه نصر الديمقراطية!

وأخيراً انكشفت الغمة وعاد الرغيف الأبيض - وقد علت مكانته وقدر الناس قيمته - وها نحن أولاء نأكل منه شبع بطوننا، واختفى الرغيف الأسود أو كاد. ولكن مهلا فما الأول

ص: 34

بخير كله ولا الثاني بشر كله. فقد ذكرت بعد الذي ذكرته أن الخبز الأبيض مصنوع من دقيق القمح الصافي بعد أن خلص بالغربلة من الردادة والنخالة التي هي عبارة عن القشور اللابسة للحبوب، وكذلك من حبيبات الأجنة التي بأطرف حبات القمح، فقلت بذلك قيمته الغذائية لحد كبير، إذ تذهب مع النخالة مواد غذائية عظيمة الفائدة يحتاج إليها الجسم في غذائه ونموه، أودعتها الطبيعة الحبوب المختلفة ولكن الإنسان يفصلها جهلا ويرمي بها إلى الحيوان والطير لتعلفها فتصح هذه ويعتل هو. أما هذه المواد فهي بعض العناصر المعدنية والحوامض العضوية والفيتامينات والألياف. وهذه كلها كان يحتويها الرغيف اللعين الذي لولا قذارة ولوثة به لكان صالحاً للجسم أي صلاح. وكلما بولغ في تبيض الدقيق ازداد فقراً في العناصر الغذائية.

وهاك بعض الفقد الذي يحصل من تصفية الدقيق الأبيض الناصع:

100 % من الألياف وفيتامين د والكاروتين ومعدن المنجنيز.

85 % من الثيامين وحامض النيكوتين (كلاهما فيتامين) والحديد.

75 % من الفوسفور والبوتاسيوم والنحاس والريبوفلافين (والأخير فيتامين).

50 % من الكالسيوم وبعض فيتامينات أخرى.

13 % من الزلال وحوامض زلالية هامة.

وعلى ذلك لا ينبغي أن نفرح الفرح كله بأكل الرغيف الأبيض، بل يجب أن نصنع الرغيف الصحي ونأكله، ولا يخرج هذا الرغيف عن حبة القمح بكل مشتملاتها الطبيعة.

ولما شعر العلماء بسوء التغذية تتفشى بين عامة الشعب في أمريكا فكروا في معالجة هذه المسألة بإضافة بعض الفيتامينات أو بعض المواد الغذائية الأخرى كالزبيب ولكن هذا لم يأت بالفائدة المطلوبة، ففكروا أخيراً في عمل رغيف قومي يأكله جميع أفراد الشعب مصنوع من الدقيق الأبيض مضافا إليه قليل من اللبن الفرز وبعض الفيتامينات الضرورية كالتي فصلت من الدقيق، ولازالت هذه أمنية تجول في أذهان علماء التغذية هناك ولما تخرج إلى حيز التنفيذ بعد.

أما الإنجليز فقد وفقوا إلى اتخاذ رغيف قومي بمعنى الكلمة بل قل إنهم اضطروا إلى اتخاذه اضطراراً، وذلك عندما نشبت الحرب وقل الوارد وأصبح الاقتصاد في الغذاء أمراً

ص: 35

محتوماً، والمحافظة على الصحة العامة بين أفراد الشعب الذي ينتج الميرة والذخيرة للجيش المحارب في المرتبة الأولى من الأهمية.

وبعد دراسة طويلة في بداية الحرب قرر علماء التغذية الإنجليز الحصول على دقيق يعادل 80 % من وزن القمح النظيف

بعد أن كان المتحصل منه قبل الحرب 75 %، وهذا معناه إضافة 5 % من قشرة الحبة إلى الدقيق الأبيض، وبعد ذلك بقليل قررت الحكومة زيادة النسبة إلى 85 % وذلك بعد أن أثبت العلماء أن خبزاً يصنع من هذا الدقيق يكون صحياً ومحتوياً على جميع العناصر الغذائية اللازمة لسلامة الجسم والعقل. ومن ثم كان الشعب الإنجليزي كله يأكل في زمن الحرب خبزاً موحداً مصنوعاً من دقيق القمح النظيف غير مخلوط بذرة أو أرز أو غيرهما من الحبوب الأخرى ولم يستبعد منه إلا 15 % من وزن القمح أي الأجزاء الخشنة فقط، ومع ذلك فإن هذا الجزء المستبعد به عناصر غذائية هامة أيضاً. وكان الخبز المصنوع من هذا الدقيق لذيذا ًشهياً إلا أنه أقل هضماً من خبز ما قبل الحرب بنحو 3 % غير أنه يفضله من حيث احتوائه على المواد الغذائية. ويكفي الفرد الكامل النمو رغيف واحد في اليوم زنته ثلاثة أرباع الرطل يحصل منه على أكثر ما يحتاجه جسمه من الفيتامينات وغيرها من مقومات الحياة. وفي يناير من عام 1945 أرادت الحكومة الإنكليزية الرجوع إلى حالة ما قبل الحرب بالتدريج فقررت خفض نسبة الدقيق المستخرج من القمح من 85 إلى 80 % ظناً منها أنها بذلك ترفه عن الشعب، فذعر العلماء من هذا القرار ونوهوا بما سيفقده الرغيف القومي من المواد الغذائية الهامة مما قد يؤثر على صحة أفراد الشعب وطالبوا بإبقاء النسبة التي كانت مقررة في زمن الحرب لثبوت فائدتها ثبوتاً قاطعاً. ولا يفوتني أن أقرر هنا أن رغيف الجيش الروسي كان من القمح الخالص بجميع أجزائه.

فلم لا نفيد من هذه التجربة القيمة ونعمل على إيجاد رغيف قومي تأكله الكثرة الغالبة من الشعب تتوفر فيه العناصر الغذائية حتى لو اضطررنا إلى خلطه بنسبة صغيرة من نوع آخر من الدقيق على أن يكون طيب الرائحة لذيذ الطعم، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى دراسة وافية تقوم بها هيئه مكونه من الطبيب والاجتماعي والكيميائي والضابط الحربي وصاحب المطحن والمخبز والمزارع وغيرهم على أن تؤدي هذه الدراسة إلى وضع تشريع يحدد

ص: 36

تركيب هذا الرغيف ودرجة نظافته بحيث يفيد منه الشعب في الظروف العادية وفي الظروف الطارئة كأية حرب محتملة الوقوع حتى لا ننكب برغيف خطر كالرغيف الذي فرض علينا في هذه الحرب الأخيرة.

ورجاؤنا أن نصل في هذا إلى قرار سريع، وأن لا يكون نصيب الرغيف القومي ما للسياسة والتعليم واللباس وغير ذلك من تذبذب وتأرجح واختلاف في وجهات النظر وعدم الاستقرار، وأن لا يبتلي بلجنة تنعقد وتنحل بضع مرات ثم لا تنعقد بعد ذلك أبداً فيموت المشروع بين يديها.

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين

ص: 37

‌القضايا الكبرى في الإسلام:

مجرمو الحرب في فتح مكة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

حكم أسير الحرب في الإسلام القتل أو الاسترقاق أو المن بفداء أو غير فداء، وقد جاء في كتاب المبسوط للسرخسي أن بعض الفقهاء ذهب إلى أنه لا يجوز قتل الأسير، واستدل على ذلك بأن القتل لم يذكر في قوله تعالى في الآية (4) من سورة محمد (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء) ولو صح هذا لقضي بأنه لا يجوز استرقاق الأسير، لأنه لم يذكر في تلك الآية أيضاً، وهذا هو حكم الأسير بالنظر إلى اشتراكه في القتال، فإذا كان عليه تبعات أخرى كان عليه عقابها الخاص بها، ومثل هذا يسمى الآن مجرم حرب.

وقد كان من مجرمي الحرب في فتح مكة خمسة عشر شخصاً:

عبد الله بن خطل، وكان ممن قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان أسمه عبد العزى فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وبعثه لأخذ الصدقة، وبعث معه رجلاً من الأنصار يخدمه، فنزل منزلاً وأمر الأنصاري أن يذبح تيساً ويصنع طعاماً ونام، ثم أستيقظ فلم يجده صنع له شيئاً، فعدا عليه فقتله وارتد مشركاً، وكان شاعراً فجعل يهجوا النبي صلى الله عليه وسلم في شعره.

2، 3 - قينتان لعبد الله بن خطل: وهما فرتني وقريبة وكانتا تغنيّانه بما كان يهجوا به النبي صلى الله عليه وسلم.

هبّار بن الأسود، وكان قد عرض لزينب بني النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها الجمل حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ولم تزل مريضة حتى ماتت.

5 -

الحويرث بن نقيد، وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بها المدينة، فنخس بها الجمل فرمى بهما الأرض، ثم شارك هبّاراً في نخس جمل أختهما زينب.

6 -

مقيس بن صبابة، وكان قد أسلم ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ في غزوة ذي قرد، ظنه من العدو، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم

ص: 38

قتله وارتد ورجع إلى قريش.

7 -

وحشيّ بن حرب، وكان قد قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم غيلة في غزوة أحد، وكان حمزة قد قاتل في ذلك اليوم قتالاً شديداً، وكان يقاتل بسيفين، وكان آخر قتيل قتله ساع بن عبد العزى، فلما أكبّ عليه ليأخذ درعه قتله وحشي بن حرب، وهو غلام جبير بن مطعم.

8 -

هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب، وكانت قد مثلت بقتلى أحد من المسلمين، فكانت هي ونساء معها يجدّعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت منها خدماً وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشي بن حرب، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.

9 -

عبد الله بن أبي سرح، وكان قد أسلم وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه كان يملى عليه - عزيز حكيم - فيكتب - غفور رحيم - ثم يقرأ عليه فيقول: نعم سواء، فإن كان يوحي إليه فقد أوحى إلىّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله.

10 -

عكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ في أذى المسلمين بمكة ما بلغ.

11 -

كعب بن زهير، وكان يهجو النبي صلى الله علية وسلم بشعره، ويعيّر أخاه بجيراً لإسلامه.

12 -

الحارث بن هشام، وكان شديداً على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان شديد الأذى على المسلمين بمكة.

13 -

زهير بن أبي أميّة، وكان شديداً في كفره كعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام.

14 -

صفوان بن أميّة، وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله علية وسلم، ومن أشدهم أذى للمسلمين بمكة.

15 -

سارّة مولاة لبنى المطّلب، وكانت مغنية بمكة، فقدمت على النبي صلى الله علية وسلم بالمدينة تشكو الحاجة، وتطلب الصلة، فقال لها: ما كان في غنائك ما يغنيك. فقال: إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء. فوصلها وأوفر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى مكة، وكان ابن خطل يلقى إليها هجاء النبي صلى الله عليه واله وسلم فتغني به.

ص: 39

فلما كان يوم الفتح نادى النبي صلى الله عليه وسلم بأمان من يترك القتال من قريش، واستثنى منهم هذا العدد فحكم بإهراق دمائهم، وأمر المسلمين بقتلهم لهذه التبعات التي أخذت عليهم، وكانوا بها من مجرمي الحرب الذين يؤاخذون على إجرامهم بعد أسرهم.

فأما عبد الله بن خطل فإنه ركب في ذلك اليوم فرسه، ولبس درعه وأخذ بيده قناة، وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل المسلمين خاف وذهب إلى الكعبة وتعلق بأستارها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم عند طوافه وهو بهذه الحالة فقال: اقتلوه، فإن الكعبة لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. فقتله أبو برزة الأسلمي.

وأما فرتني وقريبة قينتا ابن خطل فإن أولاهما وهي فرتني أسلمت فلم تقتل، ولم تسلم قريبة فقتلت.

وأما هبّار بن الأسود فإنه هرب واختفى، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بذنبه وأسلم فعفا عنه.

وأما الحويرث بن نقيبد فإنه دخل بيته وأغلق عليه بابه، فقصده علي بن أبى طالب فقيل له: هو في البادية. فتنحى علي عن بابه، فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.

وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله الليثي وهو رجل من قومه.

وأما وحشيّ بن حرب فإنه هرب إلى الطائف، ولما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت عليه المذاهب، فخرج حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فعفا عنه ثم قال له: أقعد فحدثني كيف قتلت حمزة؟ فحدثه بذلك إلى أن فرغ منه، فقال له: ويحك غيّب وجهك عني. فكان يتنكبه حيث كان لئلا يراه حتى قبضه الله.

وأما هند بنت عتبة فإنها اختفت في بيت زوجها أبي سفيان، ثم أسلمت واتت النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح فقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به. ثم كشفت نقابها فقالت: أنا هند بنت عتبة. فقال لها: مرحباً بك، وعفا عنها.

وأما عبد الله بن أبي سرح فإنه لجأ إلى عثمان بن عفان، وكان أخا له من الرضاع، فقال: يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله علية وسلم قبل أن يضرب عنقي. فغيبه عثمان

ص: 40

حتى هدأ الناس واطمأنوا، ثم أتى به النبي صلى الله علية وسلم فصار يقول: يا رسول الله أمنته فبايعه. والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ثم قال: نعم. فبسط يده فبايعه.

وأما كعب بن زهير، فخاف وخرج حتى قدم المدينة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، فأسلم أمامه ومدحه بقصيدته:

(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)

فلما وصل إلى قوله فيها:

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

رمى إليه بردة كانت عليه، فلما ملك معاوية بذل له فيها عشرة آلاف درهم، فقال له: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطانيه أحدا.

وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه هرب ليلقى نفسه في بئر، أو يموت تائها في البلاد، وكانت أمرائه أم حكيم أسلمت فاستأمنت له النبي صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه حتى أدركته فرجع معها فأتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.

وأما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية فإنهما هربا واختبأ في بيت أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم جوارها، ثم جاءته بهما فأسلما.

وأما صفوان بن أبي أميه فاختفى وأراد أن يلقى نفسه في البحر، فأتى أبن عمه عمير بن وهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا نبي الله، إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود. فقال له: أدرك ابن عمك فهو آمن. فخرج فأدركه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني. قال: صدق. فقال: أمهلني على الشرك شهرين. فقال: لك أربعة أشهر. ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما قسم الغنائم أعطاه مائه من الإبل ثم مائه ثم مائه، ثم رآه يرمق شعباً مملوءاً نعماً وشاء فقال له: يعجبك هذا. قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقبض صفوان ما في الشعب وقال: إن الملوك لا تطيب نفسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداُ رسول الله. فأسلم وترك المدة التي كان طلبها.

وأما سارة مولاة بني المطلب فإنها هربت واختفت ثم أستؤمن لها النبي صلى الله عليه

ص: 41

وسلم فأمنها، فجاءته فأسلمت.

فقتل من هذا العدد الذي كان مجرم حرب قاتلان: هما عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة، وقد قتل عبد الله بن خطل بعد استعاذته بالكعبة، فلم تنجه استعاذته بها من القتل، لأنه كان شديد الجرم بقتله ذلك الأنصاري الذي كان يخدمه، والكعبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تعيذ عاصياً، ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقد قتل منهم بعد ذلك اثنان لم يتولى النبي صلى الله عليه وسلم قتلهما، ولو أنهما أسلما وطلبا الأمان منه لأمنهما كما أمن الذين كان جرمهم مثل جرمهما، وهما الحويرث بن نقيد الذي قتله علي بن أبي طالب، وقريبه مولاة عبد الله بن خطل

والمهم في هذه القضية ما حصل من عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ذلك العدد، فهل حصل هذا بما له من حق العفو، فرأى أن ما ارتكبوه من جرم لم يصل إلى القتل حصل في حال لهم فيها شيء من العذر، فيكون أخذهم بالعفو أولى من أخذهم بالعقوبة. أو حصل هذا لأنهم أسلموا والإسلام يجب ما قبله، كما قال تعالى في الآية (38) من سورة الأنفال:(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين).

وقد اختلف العلماء في معنى هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن المراد أنهم إن ينتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم يغفر لهم ما قد سلف منها، وذهب بعضهم إلى أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي، ويخرجون منها كما تنسل الشعرة من العجين، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما قبله. وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعه قط، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله، وتبقى عليه حقوق الآدميين.

وما حصل في هذه القضية يشهد للذين ذهبوا إلى أن الإسلام لا يسقط شيء من تبعات الدنيا، ولو كان الذي أسلم حربياً، ولهذا قتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خطل مع استعاذته بالكعبة، ولو كان الإسلام ينجيه من القتل لعرض عليه الإسلام قبل أن يقتله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر سراياه بأن يعرضوا الإسلام على أعدائهم قبل أن يقاتلوهم، ومثل هذا يجعل الإسلام خالصاً لله تعالى، ولا يجعله وسيله للتخلص من تبعات

ص: 42

الدنيا.

فلم يبقى إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهم بما له من حق العفو، ليضرب بذلك مثلا صالحاً في معاملة مجرمي الحرب، فيعلم الناس أنه لا يجب التشديد في أمرهم، وأنه لا يصح أن يؤاخذوا إلا بمثل ما أوخذ به عبد الله بن خطل، وقد قال الأول في أمثالهم: القدرة تذهب الحفيظة.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 43

‌أنشودة المشاعل

في عيد (الفاروق)

للأستاذ محمود حسن إسماعيل

مَنِ القبسُ الذي طارا

يشق رُبىً وأنهارا؟

وَيطوى العشبَ، والغارا

ويسكبُ أينما سارا

ضياءً يبهَرُ الشطاَن؟!

تدفق منه بالأنوارْ

شعاع يسحرُ الأبصارْ

فتحسَبُه من الأقدارْ

أذاناً بالليالي دارْ

ليوقظ فجرَها الوسنان!

لهيبٌ واثبٌ خفاقَّ

سناه يفجِّرُ الأشواقْ

إذا ظمِئَتْ له الآفاق

وأهلك زيتَهُ الإحراق

سقته سواعِدُ الِفتيان!

سقته بعزمها الجَّبار

فراح يُسابقُ الإعصار؛

سواعدُ فتيةٍ أحرار

توهج فوقهَا بالنار

هوىً مُترنّحٌ سكران!

أضاء الكرنكُ المسحور

وشعشع حوله الدَّيجور

بنرِّ معابد وقصور

وغيب ممالكٍ وعصور

وفّنٍ حيَّرَ الأزمان!

وساق لمصرَ من دنياه

تماِئمَهُ، وسرَّ علاه

إلى (الفاروق) طار هواه

وشق طريقَه لضُحاه

شعاعاً يوقظ الأوطان!

هفا متطّلعاً للقاه

حبيبٌ ضفافه، وأخاه

من الجبل الذي يهواه

ويعشق أرزَهُ ورُباه

أتاه محيّياً (لبنان)!

شُعاعاً عزّةٍ وجلال

ورمزا صَحوةٍ ونِضال

ص: 44

على نهر، وفوق جبال

طوى ركباهما الأجيال

إلى كفَّيهِ يستبقان!

فيا فاروق هذا النور

ضياؤُك سابغٌ منشور

يطوف على الحمى ويدور

كِرفّ ٍللعلا مسطور

ليقرأ وحيَه الهرَمان!

وهذا الحبُّ يا (عبْدين)

حياةٌ للعبادِ ودين!

لِبابكِ خفَّ كلُّ قطين

تقودُ خطاهُ نارُ حنين

كأنّ قبابكِ الحرَمان!؟

محمود حسن إسماعيل

ص: 45

‌أندلسية

ميلاد ملك

للشاعر محمد البرعي

شارف الأرض وحيَّا في ابتسام

فسألنا من على الأرض هفا

وتلفتنا لأطياف الغمام

لم نجد إلا شعاعاً مرهفا

كلما أمعن سيراً في الظلام

شقق الفجر وأسنى وصفا

ملك جاء إلى دنيا الأنام

أم على أجفاننا حلم غفا

هذه أنسامه دلت عليه

حينما لاح مع الصبح وبان

كل روح طيرت قلباً إليه

وتملت من مرائيه الحسان

الهدى والنور والسحر لديه

معجزات للورى في كل آن

لو تمس المزن إحدى راحتيه

جاءنا الوبْل بخيرات الزمان

صولجان الملك ملء الراحتين

وعلى المفرق تاج لمعا

سجد النيل له بالضفتين

حينما رفّ به وارتفعا

وشدت طيبة لحن الهرمين

وعلى سيناء نور سطعا

ورنا الشرق وحيا باليدين

لوليد كنبي طلعا

ومضى فاروق يسمو قدما

نحو عرش تالد المجد عتيق

ثابت الأصل له فرع سما

مده عهد من الماضي السحيق

هذه أعلامه تطوى السما

ولها ظل مديد وبريق

عرش من أحيا بمصر الهمما

جد إسماعيل والبيت العريق

تاجه للشرق نور الأرب

وهوىً يخطر في أحلامه

وحمى مغناه حصن العرب

تستمد العزم من إقدامه

زاره بالأمس من أرض النبي

عاهل كالسبط في إسلامه

طيب الجد نقي النسب

تجتلى معناه من أعلامه

وعلى النيل تلاقى الأخوان

تاج فاروق وتاج ابن سعود

موكب يوحي بآيات المعاني

ولقاء حظ ذكراه الخلود

ص: 46

وعهود حققت حلم الأماني

لشعوب شفها مطل الوعود

وحدة قامت على أقوى كيان

غيلها الشرق تفدّيه الأسود

شعلة تطوى دياجير الدروب

تحمل البشرى لمن تفديه نفس

نورها من نور فاروق الحبيب

فهي شمس قد تسامت فوق شمس

في سناها فرحة الروح الغريب

حينما يلقى حبيباً بعد يأس

إنها من ذلك الوادي القريب

من ربى لبنان جاءت يوم عرس

ليلة الميلاد حياها الشباب

عامر الإيمان مرفوع الجبين

إنها فتح لوعد مستجاب

رب وعد جاء بالحق المبين

شعلة الفاروق سيري في الشعاب

نجمة تسرى بليل المدلجين

وأضيئي في دياجير السحاب

واخلدي ما شئت في كف السنين

ليلة الميلاد عيد أي عيد

هات كأسي واسقني من خمرها

ليلها راح وشعر ونشيد

نغمة مستلهم من سحرها

في سماها فجر ميلاد سعيد

رفرفت أعلامه في غمرها

أنه فاروق ذو الملك العتيد

فرحة الدنيا ومجلي نورها

محمد البرعي

ص: 47

‌البريد الأدبي

الأمير شكيب أرسلان والنشاشيبي:

أضيف هذه (الحاشية) إلى الحديث عن (أبي بكر الخوارزمي) في (الرسالة) الغراء 657، القسم 25 (في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب):

يطلع العلامة الأستاذ أمير البيان الأمير شكيب أرسلان على خطبة النشاشيبي (كلمة في اللغة العربية)، فيبعث إليه بهذا الكتاب:

أخي العلامة الأستاذ:

أهنيك بهذه الخطبة في محاسن اللغة العربية، لا بل أهنئ هذه اللغة الشريفة بك، وأرجو لها من خير الحافظين بقاءك. كتبت إلى مصر بأن يرسلوا لك نسخة من (حاضر العالم الإسلامي)، وعليك أن تسدل عليه ذيل الستر، لأنه كتب وأنا أجوب في الأقطار، ومن قطار إلى قطار، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

(مرسين 8 حزيران 1925) شكيب أرسلان

وينشر الأمير - بعد الكتاب - مقالة بليغة في مجلة (الزهراء) الغراء، منها قوله:

(قرأت هذه الخطبة أولاً في الجرائد، وفتنت بها، وأعجبت بما حوته من جزالة لفظ، وبلاغة معنى، وسداد حجة. ثم أهديت إليّ في كتاب نفيس الطبع، بهج المنظر، لم أر أليق منه قالباً لتلك الروح العالية، ولا أبدع صدفة لهاتيك الدرّة الغالية. فمذ الآن أقول: إنه كتاب مع وجازته قد زخر عبابه، ومع قلة قراطيسه قد قرطس نشابه. . .

ولتهنأ العربية بهذا النصير قليل النظير، والعاشق الساهر الليالي في رعي نجوم التحقيق والتنقير. ومع أني هجرت الشعر لم أملك نفسي أن قلت:

قد قالت اللغة الفصحى بغربتها

قد أحسن الله إسعافي ب (إسعاف)

هو المجيب لمن قد بات ينشده

أنصر أخاك لدى ظلم وأس عافى)

ولما قرأ النشاشيبي تلك الحواشي العظيمة في (حاضر العالم الإسلامي). أرسل إلى الأمير بكتاب جاء فيه:

(ذكرتني هذه الحواشي بقولين لإمامين: قيل لأبي بكر الخوارزمي عند موته: منتهى! قال: النظر في حواشي الكتب. وقال أستاذ الدنيا جار الله: الزيت مخ الزيتون؛ والحواشي مخخة

ص: 48

المتون).

فبعث الأمير إلى النشاشيبي بهذا الكتاب:

أخي الأستاذ الأجل:

شفيت غليلي بهذين الشاهدين اللذين جئت لي بهما على فائدة الحواشي، ومن كان يقدر أن يأتي بهم غيرك؟ لله درك! وقد أتممت تحبير كتاب اسمه (أناتول فرانس في مباذله)، يحتوي ترجمة كتاب لكاتب سره (بروسون)، وخلاصة آخر لصديقه (سيغور)، وتلخيص لتأبين أدباء فرانسة (لفرنس) يوم وفاته. ولما كان من الأعلام الكثيرة وسائل الفلسفية والاجتماعية والأدبية ما لا بد من تفسيره على القارئ الشرقي على فهم الكتاب، فقد جاءت في هذا التأليف أيضاً حواش، إن لم تكن على نسبة حواشي (حاضر العالم الإسلامي)، فهي حواش لا بأس بها، وما كان أسرعني إلى تأييد وجهتي في (الحواشي) إلى نقل كلام ذينك الإمامين عن الأستاذ محقق النشاشيبي، ولعمري لو أنجدتني بجيش مجر ومال دثر، ما أحسست فضل تلك النجدة كما أحسست بها عندما قرأت ذينك الشاهدين. . .

(مرسين 24 تموز 1925) شكيب أرسلان

مد الله في عمر الأمير، وأعز به دولة الأدب!

(السهمي)

تهجم على التخطئة (السلام عليكم):

إلى أخي البصام:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد رأيتك تستغرب هذه التحية المباركة التي يهديها الرجل إلى أخيه، واُتاك هذا الاستغراب من أن قوماً زعموا أن (القاعدة) هي أن نبتدئ الكتاب بـ (سلام عليك أو عليكم)، بدون (ال) التعريف، فإذا جاء الختام قلنا:(السلام عليك أو عليكم). . . وأن بدء الكتاب بقولنا (السلام عليكم) خطأ شائع في هذه الأيام!! الخ. واستدللت بقول الله تعالى في كتابه الكريم: (سلام عليكم طبتم. . .) وقوله سبحانه: (سلام قوم منكرون) في أكثر من ثلاثين موضعاً على وجوه مختلفة. وصدق الله الذي يقول في سورة مريم: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) ب (ال) التعريف، وصدق الله الذي

ص: 49

يقول في سورة طه لموسى وهرون: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى) بـ (ال) التعريف أيضا. فلا تستغرب يا سيدي!

ولا تستغرب أيها السيد الكريم إذا علمت أن أهل القبلة جميعا كانوا، ولا يزالون، وسيظلون إلى آخر الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى من سجوده وقعد للتشهد:(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). ولا تستغرب إذا أنت قرأت في صحيح البخاري في باب (ما يتخير من الدعاء بعد التشهد ليس بواجب): (حدثنا مسدّد، قال حدثنا يحيى، عن الأعمش، حدثني شقيق، عن عبد الله قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا، السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتم أصاب كل عبد في السماء، أو بين الأرض والسماء - أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو). وكذلك في باب (التشهد في الآخرة) من صحيح البخاري

ولا تستغرب يا سيدي أيضا إذا مر بك وأنت تقرأ في مسند أحمد بن حنبل ج4 ص439 من حديث عمران بن حصين: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد، ثم جلس فقال (يعني رسول الله): عشر. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد، ثم جلس، فقال: عشرون. ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد، ثم جلس، فقال: ثلاثون). أقول: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حسنة. وكل ذلك ب (ال) التعريف أيضا.

ولا تستغرب يا سيدي إذا رأيت في مادة (سلم) من لسان العرب: (ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام، بحذف عليكم. ولم يرد في القرآن غالباً إلا منكراً. . فأما في تشهد الصلاة، فيقال فيه معرفاً ومنكراً. . . وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول). ومن هنا أتى من لا يحسن العربية، وقل اطلاعه على كتبها وفقهها. والاستحسان هنا منصّب على ما

ص: 50

كان في التشهد. فإنه كما ترى، عني بالأول، ما كان في التشهد، وبالآخر السلام الذي يخرج به من الصلاة. وهذا شيء قال به بعض فقهائنا وأئمتنا استحسانا من عند أنفسهم أو مما رووا.

ولا تستغرب يا سيدي إذا وقفت يوماً على قول الأخفش: (ومن العرب من يقول: سلام عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم. فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود). ثم عاد فقال: (وفيهم من يقول: سلام عليكم، فلا ينوّن)؛ ثم ذكر العلة فقال: (حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل على نحو (لم يك)؛ والآخر أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة، وفيها الألف واللام، حذفا لكثرة الاستعمال، كما حذفا من اللهم فقالوا: لهمّ). وكأنه جعل (السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كثر استعماله).

فلا تستغرب إذا نظرت فرأيت أن الذي جاء في مقالتي ليس خطأ ولا مجاراة على خطأ. ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إن أدعياء اللغة إنما يؤتون من سوء التقدير لما يقرءون، ومما انطوت عليه قلوبهم من حب التعالم على الناس بشيء يدعونه ويلتمسون له الحجة، حتى ما يدرك أحدهم فرق ما بين (سلام عليك) و (سلام) و (سلاماً)، كما جاءت في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعاً، وبين ما جاء في كتاب الله أيضا من قوله:(والسلام على من اتبع الهدى)، وقول رسول الله الذي تلقاه المسلمون عنه في تشهد الصلاة وفي التحية.

واعلم يا سيدي أني قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجرداً، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما ينبغي وما لا ينبغي، ولا تحريت لك ولا للناس أن ألج بهم موالج في دقيق العربية وغامضها تدل على أن من نقلت أنت عنه هذا القول قد تمحل وتهجم على ما لا علم به، وعلى ما لا يحسنه ولا يجيده!

فلا يغررك التبجح بالعلم، ولا تقنع من المتحذلقين بما يسمونه (القاعدة)، فلعلها باطل مزور، وكذب مختلق، واجتراء على العربية هي من سوأته براء، ولعل دليلهم يكون هو الدليل على بطلان ما يزعمون كما رأيت. وفي هذا مقنع وهدى.

والسلام عليكم ورحمة الله

محمود محمد شاكر

ص: 51

‌القصص

في الريف. . .

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن

هناك في منحدر التل الواقع بقرب مجرى النهر، وفي كوخين حقيرين متجاورين، كان يقطن فلاحان يشتغلان بكد وعناء ليخرجا من الأرض المجدبة ما يقوم بأودهما وأود عيلتيهما الفقيرتين. . .

وكان يقيم في كل كوخ منهما أربعة أولاد تتراوح أعارهما بين الست سنوات والخمسة عشر سنة، وكثيراً ما كان هؤلاء الأولاد الثمانية يتجمعون بمقربة من الكوخين ويظلون في لهو دائم ومرح مستمر من الصباح إلى الغروب.

وكان كلا الفلاحين متزوجان، وكلاهما ينجب الأولاد بنسبة واحدة وفي وقت واحد تقريباً! وكانت كل أم من الأسرتين تميز أولادها بصعوبة من بين أولاد الأم الأخرى، ولا سيما حينما كانوا يلعبون جميعاً أمامهما!

وكان الأبوان يخلطان في كثير من الأحيان بين أولادهما وبين أولاد الأب الآخر! وكم كان فكها إذا أراد أحدهما أن يدعوا ولداً من أولاده أن يردد على الأقل اسم ولدين أو ثلاثة قبل أن تنطق شفتاه باسم الولد الذي يريده!

وكانت عيلة توفاسن تسكن في الكوخ الأول ولها ثلاثة أولاد وبنت، في حين أن عيلة فالنس التي كانت تقطن في الكوخ الآخر لها ثلاثة بنات وولد.

ففي ظهر يوم من أيام شهر أغسطس الحارة، وقفت مركبة صغيرة أنيقة أمام هذين الكوخين، وقالت السيدة الصغيرة التي كانت تقود المركبة لزوجها الشاب الجالس بجوارها حينما وقع بصرها على الأولاد الثمانية الذين كانوا يلعبون وقتئذ أمام الكوخين:

- أنظر يا هنري إلى هؤلاء الأطفال السعداء.

ثم أشارت بيدها إلى طفل منهم كان يتمرغ مع آخر على الأرض وقالت:

- ما أظرف هذا وهو يتقلب على الأرض بفرح وسرور ويمرغ نفسه في التراب مع زميله

ص: 53

الآخر!!

فلم يجب زوجها على ملاحظتها بشيء على حين استطردت السيدة قائلة:

- كم أود أن أقبل هؤلاء الأطفال جميعاً!!

ثم تنهدت تنهدة عميقة حارة صادرة من قلب يائس مكلوم وتابعت حديثها إليه فقالت:

- كم اشتهي يا هنري أن يكون لدينا ولد من هؤلاء الأولاد ولا سيما هذا الولد الواقف هناك بمفرده، وأظنه أصغرهم سناً.

قالت ذلك ثم قفزت من المركبة بخفة ونشاط وهرعت نحو الأطفال وأمسكت بالولد الذي أشارت إليه ورفعته بين ذراعيها وأخذت تقبل خديه القذرين وشعره المجعد المعفر بالتراب، ويديه الصغيرتين اللتين كان يحاول أن يخلص نفسه بهما من بين يديها اللتين كانتا تمسكان به بحنان بالغ ورفق عظيم، ثم تركته وعادت إلى المركبة منصرفة إلى حال سبيلها.

وفي الأسبوع التالي عادت هذه السيدة مرة أخرى وجلست تشاطر الأطفال ألعابهم كما لو كانت واحدة منهم! وقد أحضرت لهم معها في المركبة في هذه المرة كمية كبيرة من الكعك والفطائر والحلوى، وأخذت تقدمها إليهم وتوزعها عليهم بنفسها، بينما كان زوجها، واسمه هنري دوبرييه، ينتظرها في المركبة على مضض، وينظر إلى ما يجري حوله بشيء من الدهشة والغرابة.

وصارت تلك السيدة الرحيمة الطيبة القلب تتردد على الكوخين من وقت لأخر، وكانت تحشو حقيبتها وجيوبها في كل مرة بالحلوى التي كان يتقبلها الأطفال منها بكل لذة وسرور.

وبمرور الأيام تعرفت مدام دوبرييه إلى كل من العائلتين المتجاورتين، وعرضت عليهما صداقتها التي كانت لها أحسن وقع وأجمل أثر في نفوسهما الحزينة البائسة.

وفي صباح يوم نزل المسيو هنري دوبرييه من المركبة واصطحب زوجته معه ثم دخلا كوخ ال توفاسن دون أن يخاطبا في هذه المرة أحداً من الأطفال الذين كانوا قد تعلقوا بهما وأحبوهما حباً جماً.

وكان توفاسن وزوجته موجودين في الكوخ في ذلك الوقت فدهشا لدخول مدام دوبرييه وزوجها الفجائي، وقدما أليهما مقعدين نظيفين، وانتظرا بفارغ صبر ما ستقوله لهما هذه

ص: 54

السيدة التي بدأت حديثها وقتئذ بصوت خافت ولهجة مترددة:

- لقد أتينا لزيارتكما اليوم، لأننا نريد أن نتبنى ولدكما الأصغر شارلوت. فذهل توفاسن وزوجته لقولها وعقدت الدهشة لسانيهما فلم ينبسا ببنت شفة. ولكن مدام دوبرييه لم تكترث لدهشتهما البالغة وتابعت حديثها فقالت:

- ليس لدينا أطفال ولهذا نود أن نتبنى ابنكما، فهل تقبلان ذلك؟

وهنا بدأت مدام توفاسن تفهم ما تعنيه مدام دوبرييه بهذا الكلام فقالت لها بلهجة لا تخلو من الاستنكار:

- هل معنى ذلك أنكما تريدان أن تأخذا ولدنا شارلوت منا؟

فتدخل المسيو هنري دوبرييه عند ذلك في الحديث وقال:

- إن زوجتي لم تبين لكما غرضنا تماماً، فكل ما في الأمر أننا نرغب في أن نتبنى طفلكما الصغير، وليس معنا ذلك أننا سنحول بينه وبين زيارتكما، بل أننا سنترك له مطلق الحرية في التردد عليكما في أي وقت، وإذا سلك معنا مسلك حسناً - وهو ما ننتظره منه في المستقبل - فسنجعله وريثناً الوحيد، وحتى إذا أنجبنا أطفالاً في المستقبل فسنشركه مع أبنائنا في الميراث. وإذا لم تثمر فيه تربيتنا وتعليمنا، فأننا لن ندعه وشأنه كما يفعل بعض الناس، بل سنعطيه حينما يبلغ أشده عشرين ألفاً من الفرنكات وسنودع هذه المبالغ باسمه في أحد المصارف الكبيرة على أن يسحبه إذا بلغ سن الرشد ضماناً لحسن تصرفه فيه، وزيادة على ما تقدم فإننا سنمدكما بمنحه شهريه قدرها مائة من الفرنكات مدى الحياة.

ولكن أبت عقيلة مدام توفاسن البسيطة الساذجة إلا أن تفهم هذا القول على غير حقيقته، وتؤوله تأويلا آخر، واستبد بها الحنق والغضب عندئذ فقالت:

- أتريدان منا أن نبيعكما ولدنا شارلوت في نظير جاهكما العريض، وثروتكما الطائلة؟ هذا محال. . . محال!!

وكان يبدوا على محيا توفاسن - زوجها - علامات التردد والتفكير العميق دون أن ينبس طول هذه المدة ببنت شفة، ولكن كان يلوح عليه أنه موافق على اعتراض زوجته بدليل أنة كان يهز رأسه من وقت إلى آخر موافقة منه وتأييداً لقولها!!

وبدأ اليأس يتطرق حينئذ إلى نفس مدام دوبرييه فحولت وجهها شطر زوجها وقالت له

ص: 55

بصوت مكتئب حزين:

- هنري! إنهما يمانعان في أن نأخذ ولدهما شارلوت معنا!

وحاول المسيو هنري دوبرييه أن يقنع الزوجين العنيدين لآخر مرة فقال: فكرا جيداً في مستقبل ولدكما وهنائه قبل أن ترفضا هذا الطلب نهائياً. . .

فهزت مدام توفاسن كتفيها بسخرية واستخفاف وقاطعته بقولها: لقد فكرنا يا سيدي في كل هذا من قبل، والآن أرجو منكما أن تكفا عن الكلام في هذا الموضوع ولا تحاولا إثارته مرة أخرى. وبينما المسيو هنري دوبرييه وزوجته يهمان بالخروج إذ فتح باب الكوخ في تلك اللحظة ودخل منه ولد صغير يشبه شارلوت إلى حد كبير حتى أن من يراهما لأول وهلة يظن أنهما توأمان! فلما وقع بصر مدام دوبرييه عليه سألت زوجة توفاسن قائلة: هل هذا الولد الصغير ابنكما أيضا؟؟ فأجاب توفاسن باقتضاب وهو يحك بيده لحيته البيضاء الكثيفة الشعر: كلا أنه جان فالنس، ابن جارنا الآخر الذي يقطن في الكوخ المجاور، ويمكنكما أن تحاولا أخذه منه إذا استطعتما ذلك!!

فرد عليه المسيو هنري دوبرييه بحزم وإصرار وقال: سنحاول ذلك بكل تأكيد! فأبتسم توفاسن ابتسامة عريضة ما كرة وقال له وهو يهم بالوقوف لتوديعه: إذن أرجو لكما النجاح والتوفيق في مهمتكما!! ولما دخلت مدام دوبرييه وزوجها الكوخ المجاور، وعرضا على فالنس وزوجته اقتراحهما السابق، رفض الزوجان هذا الاقتراح في بادئ الأمر، ولكن مدام دوبرييه وزوجها مازالا بهما حتى أقنعاهما بوجاهة فكرتهما، وصواب رأيهما، ولا سيما حينما ذكرا لهما المبلغ الذي سيمنحانه في كل شهر!! وبعد فترة قصيرة وجهت مدام فالنس حديثها لزوجها فقالت ما رأيك في هذا العرض السخي يا زوجي العزيز؟ فأجابها زوجها وهو يفتل بيده الخشنة شاربيه الكثيفين: إنني لا أمانع في ذلك يا عزيزتي، وليس عندي أي اعتراض مطلقاً. وتكلمت مدام دوبرييه حينئذ عن مستقبل الطفل، وسعادته، وعن النقود الكثيرة التي سوف يمد بها عائلته في المستقبل. فلما أتمت كلامها سألها فالنس وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا والارتياح، وشاعت الغبطة والسرور في قسمات وجهه الكثير التجاعيد: وهل سنأخذ المائة فرنك على يد أحد المحامين؟ فأجابه المسيو هنري دوبرييه وهو يهز رأسه موافقاً: بلا شك. . . بلا شك!!

ص: 56

وأرادت مدام فالنس أن تنتهز الفرصة فتزيد هذا المبلغ قليلا فقالت لمدام دوبرييه وهي تنظر من طرف خفي إلى زوجها نظرة ماكرة ذات معنى:

- أظن أن المائة فرنك ليست بالمبلغ الكافي في نظير انتزاع ولدنا منا لأنه سيصبح بعد بضع سنوات قادراً على العمل والكسب، ولذا يستحسن أن يكون هذا المبلغ مائة وعشرين فرنكا في الشهر!! فوافقت مدام دوبرييه على ذلك بعد قليل من التردد دون أن يخفى عليها جشع مدام فالنس وشدة طمعها!!

ولكي تثبت للزوجين الفقيرين مدى غناها وجودها، فقد أخرجت من حقيبة يدها مائة وعشرين فرنكا وأعطتها لمدام فالنس التي تناولتها منها بمزيد من الغبطة والسرور، في حين جلس زوجها هنري يكتب شروط الاتفاق بتؤدة وإمعان، فلما انتهى منه استدعى عمدة القرية وأحد الشهود فوقعا معه على العقد الذي أصبح قانونياً من كل الوجوه. . .

وخرجت مدام دوبرييه من الكوخ فرحة مسرورة لنجاح مسعاها، وتوفيقها في مهمتها، في حين كان الطفل الذي حملته بين ذراعيها يبكي بحرقة وحرارة لفراق والديه وتخليهما عنه، ويحاول أن يخلص نفسه من بين ذراعيها ولكن بلا فائدة. . .

وشاهد توماس وزوجته رحيل الطفل جان بوجهين كالحين. والظاهر أنهما قد لاما نفسيهما على رفضهما التنازل عن ولدهما شارلوت، وندما - بعد فوات الوقت - على ضياع هذا الكنز الثمين منهما!!

ولم يسمع أحد من أهل القرية شيئاً عن جان فالنس لمدة طويلة من الزمن. وكان أبواه يذهبان في أول كل شهر إلى مكتب المحامي فيتسلمان منه المائة والعشرين فرنكا ثم يعودان إلى كوخهما آمنين مطمئنين. . .

وساءت العلاقات حينئذ بين عائلة فالنس وبين عائلة توفاسن التي كانت تعيرها وتحط من شأنها أمام أفراد القرية لأنها فرطت في ولدها جان وباعته لمدام دوبرييه وزوجها بيع السلع! وكانت مدام توفاسن تمسك بولدها شارلوت من وقت لآخر وترفعه بين ذراعيها ثم تخاطبه بقولها:

- إنني لم أبعك ولن أبيعك يا ولدي العزيز بالرغم من أنني لست غنية كما تعلم ويعلم جميع الناس. . .

ص: 57

وكانت لا تفتأ تردد هذه العبارات التهكمية وأمثالها في كل يوم بلهجة ساخرة وبصوت عال مسموع كان يصل في كثير من الأحيان إلى مسامع فالنس وزوجته! وبلغ الغرور بمدام توفاسن إلى حد إنها كانت تزعم نفسها أعظم شأناً من أهل قريتها جميعاً، وأرفع منزلة منهم وأعلاهم مقاماً، لا لشيء إلا لأنها لم تبع ولدها شارلوت! ولم يغب هذا الغرور عن أهل القرية أنفسهم ولم يفتهم أن يلاحظوا عليها ما كانت تدعيه من العظمة المصطنعة والخيلاء الكاذب، ولكنهم كانوا مع ذلك لا يفتئون يرددون أمامها أنها سلكت مسلك الأمهات الطيبات القلب!! ولما بلغ شارلوت الثامنة عشرة من عمره كان يتباهى على أقرانه، ويعتقد - كوالديه - أنه أعلى منهم مرتبة وأسمى مكانه لأن أمه المحبة لم تبعه كما باعت مدام فالنس ولدها جان!! وبينما كانت عائلة فالنس ترتع في بحبوحة العز والرفاهة، كانت عائلة توفاسن لا تزال على ما هي عليه من الفقر المدقع والفاقة البالغة! وكان يسار أسرة فالنس وغناها هما السر في هذا البغض، والباعث على تلك الكراهية التي كانت تبديها عائلة توفاسن نحوها في كل وقت وفي أي مناسبة!! وبعد مضي مدة انخرط الابن الأكبر لمدام توفاسن في سلك الجندية، بينما توفى ولدها الآخر إثر مرض خطير ألم به ولم يمهله إلا بضعة أيام. أما شارلوت فقد ظل في القرية ليساعد والده الذي كان قد بلغ من الكبر عتياً، وليعين أمه العجوز وأخته الوحيدة على العيش ومكافحة صعاب الحياة. وكان شارلوت قد بلغ الحادية والعشرين من عمره حين وقفت في صباح يوم مركبة صغيرة جميلة أمام الكوخ المجاور، ونزل منها شاب قوي وسيم الطلعة، أنيق الثياب،. ثم دخل الكوخ بقدمين ثابتتين، وخطوات متزنة واسعة. . . وكانت مدام فالنس تغسل ثيابها في ذلك الوقت، بينما كان زوجها الذي بلغ من العمر أرذله يستدفئ بنيران المدفئة. وقبل أن يفيق الولدان من دهشتهما تقدم الشاب - ولم يكن إلا ابنهما جان فالنس نفسه - نحوهما وقال لهما وهو يمد كلتا يديه لمصافحتهما: أسعدتما صباحا يا والديّ العزيزين. . .

فهب الأب من مكانه دهشاً مذهولاً، وعقدت المفاجأة السارة لسانه عن النطق، بينما ألقت الأم بقطعة الصابون في الوعاء الذي كانت تغسل فيه ثيابها لفرط اضطرابها ودهشتها وهرعت نحو ابنها الذي لم يكن قد زارها منذ أن اصطحبته مدام دوبرييه معها، وقالت له بصوت مضطرب مرتعش النبرات وهي تتأمله بزهو وإعجاب من قمة رأسه إلى أخمص

ص: 58

قدميه: هل أنت حقاً ولدنا جان؟؟ فضمها الشاب إلى صدره بحنان ورفق وقال لها وهو يضحك ملء شدقيه: نعم إنني ولدكما جان! وقد جئت اليوم لزيارتكما بعد أن أصبحت أحد المحامين الذين يشار إليهم بالبنان وسأمكث في ضيافتكما بضعة أيام. فقال له الأب بصوت يرتجف من فرط الانفعال وشدة الفرح والسرور: على الرحب والسعة يا بني العزيز. وبعد أن استرد أنفاسه اللاهثة استطرد في حديثه فقال: كم أنا سعيد بلقائك يا والدي، ولا سيما بعد أن أصبحت رجلا كامل الرجولة. . . ولما أفاق الأب والأم من دهشتهما صمما على أن يقدما ولدهما جان إلى أهل القرية جميعاً. فعرفاه أولاً بعمدتهما وقسيسها وناظر مدرستها. ثم عرفاه أخيراً بباقي أفراد أهل القرية الذين استقبلوه بحفاوة بالغة وسرور عظيم. وشاهد توفاسن كل هذا بعين دامعة تفيض بالألم والهم والعذاب، ونفس حزينة تملاها الحسرة والندم على ما فات! وقد تغيرت نظرته إلى الحياة بعد ما رأى جان فالنس في ملبسه الأنيق وثيابه الغالية وشبابه الحيوي الفياض، بينما هو لا يزال في فقره المدقع وأسماله الرثة البالية،

وفي المساء حينما اجتمع شارلوت بوالديه حول المائدة، قال لهما بصوت باك حزين تخنقه العبرات: أظنكما رأيتما جان فالنس في هذا الصباح وشاهدتما ما هو عليه الآن من وسامة الشكل وفخامة الثياب؟ فأجابته أمه باكتئاب دون أن يفوتها تغير ابنها الفجائي غير المنتظر: نعم يا بني! لقد شاهدنا كل ذلك! ولكننا لم نشأ أن نبيعك إلى مدام دوبرييه وزوجها كما فعلت مدام فالنس وزوجها بابنهما جان! لأننا رأينا أن في ذلك عاراً عليك وإثماً في حقك كما هو عار علينا وإثم في حقنا أيضاً. . . ولم يفه والده أثناء ذلك بكلمة واحدة، بينما استمر الابن في حديثه الساخط المؤلم فقال:

- إنها لغباوة منكما حقاً أن تدعا جان فالنس يذهب مع مدام دوبرييه وزوجها بدلا مني! وإنه لمن سوء حظي أيضاً أنكما لم تضحيا بي بسبب حنانكما وغروركما وأنانيتكما. . . وهنا تدخل الأب في الحديث فقال موجهاً كلامه لأبنه: هل تلومنا الآن يا ولدي لأننا لم نشأ أن نفرط فيك كما فرطت مدام فالنس وزوجها في ولدهما جان؟ ولكن شارلوت لم يأبه لدفاع والديه بل هز كتفيه ساخراً واستمر في ثورته فقال: نعم إنني ألومكما لأنكما فوتما علي هذه الفرصة التي قلّ أن يجود الدهر بمثلها. وإن الآباء والأمهات أمثالكما كثيراً ما يجنون على

ص: 59

أولادهم بجهلهم، ويحطمون مستقبلهم بمثل هذا الحنان الضار، والحب المرذول، والأنانية الممقوتة. فقالت له أمه وقد حز في نفسها حديث ولدها المؤلم وثورته الصاخبة: هل هذا جزاء حبنا لك واحتفاظنا بك؟ فأجاب شارلوت وهو يكاد يبكي من شدة الحنق والغيظ وقد اعتمد ذقنه براحة يده: كم أتمنى الآن لو لم اكن قد ولدت حتى لا أظل في هذه الحالة المؤلمة التي أنا عليها الآن. وبعد لحظة سكوت قصيرة تابع حديثه إليهما فقال بلهجة أشد وأعنف من الأولى: إنني عندما رأيت جان فالنس في صباح هذا اليوم وهو ينزل من مركبته الأنيقة الفاخرة جرت دماء الحقد والغضب حارة في عروقي وقلت مخاطبا نفسي: (لو قبلت عائلتي ما عرضته عليها مدام دوبرييه وزوجها من قبل، لكنت الآن في مركزه وظل هو في مركزي). قال ذلك ثم نهض من مقعده فجأة وقال لهما وشرر الغضب يتطاير من عينيه الدامعتين، والحنق الكامن في أعماق نفسه الثائرة يلوح على أسارير وجهه الحزين المكتئب: إنني لن اغتفر لكما هذه الغلطة ما حييت، وقد استقر رأيي الآن على مغادرة هذه القرية إلى الأبد، والنزوح إلى قرية بعيدة نائية لا يعرفني فيها أحد ولا أعرف بها أحداً، لأكسب فيها عيشي بعيداً عنكما وعن أهل هذه القرية جميعاً. قال ذلك ثم فتح باب الكوخ بسرعة وهرع إلى الخارج بعد أن صفق الباب وراءه بشدة وعنف حتى لا يتمكن والداه من اللحاق به وإثنائه عن عزمه، ثم سار في الطريق مسرعاً على غير هدى واختفى في ظلام الليل الحالك السواد.

محمد عبد اللطيف حسن

ص: 60