الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 66
- بتاريخ: 08 - 10 - 1934
نهضتنا الاقتصادية
بمناسبة النمو العجيب في شركة مصر للغزل والنسيج
نهضتنا الاقتصادية هي وحدها الدليل الناهض على نضوج شعبنا المظلوم. لأنها نَسقَ من الضرورة والقدرة على النظام والثقة قائم بذاته لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة الرخوة. فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، وحمية الشباب تنكسر فترتد إلى الفتور، نجد هذا الركن القوي الذي يقوم على بنك مصر وشركاته يثبت أصله في الأرض، ويسمو فروعه في السماء، ويمسك هذا الوطن المنكود في مهب الأزمات ومضطرب الكوارث. واطراد النجاح في هذا العمل الشعبي الخالص مبعثه إخلاص القادة، وثقة الأمة، وضمان من الله يسميه الدين إيمانا، والخلق ثباتاً، والعلم كفاية، ونسميه نحن: طلعت حرب.
إن هذا اللحن الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في (البنك)، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في (المحلة)، لهو النشيد القومي القوي الذي يعلن استقلال البلاد، ويملأ مسامع الأجانب، وينبه مطامع الشعوب إلى أن هنا أمة حية لها ماض تستهديه، ووطن تستغله، وغرض تسعى إليه؛ وأن هذا التوسع المطمئن الحازم في شركة مصر للغزل والنسج في الوقت الذي تُتَّهم فيه كفاية البلد، وتطير الشائعات السود في جو السياسة، تصحيح للإفهام الأجنبية التي تحاول استنتاج الحقيقة المصرية من أخطاء جماعة.
كان نجاح شركات (بنك مصر) نجاحاً حقيقياً طبيعياً يطَّرد اطراد الزمن من غير بطئ ولا طفرة. ولكن نجاح هذه الشركة - شركة مصر للغزل والنسج - وهي كأخواتها مصرية الرجال والأموال والعمال والمادة، جاوز حدود الظن، وفات معاقد الأمل؛ فقد أنشئت منذ ثلاث سنوات وعدد أنوالها 448 نولاً فأصبح اليوم أربعة آلاف، وعدد مغازلها اثنا عشر ألف مغزل فبلغ هذا العام خمسين ألفاً، وعدد عمالها ستة آلاف فأصبح مع هذا التوسع ثمانية عشر ألفاً، وكانت مصانعها تنشأ بادئ الأمر على قدر الحاجة، فبسطها النجاح السريع، والفرص المواتية، والإدارة الرشيدة، حتى بلغت مساحة الأرض التي تقوم عليها اليوم مائة فدان؛ وكان عملها مقصوراً على غزل القطن المصري ونسجه، فصنعت الآن
(الدوبارة، والفانلات، والجوارب، وبكر الخيط، والقطن الطبي). فأصبحت بهذا النمو العجيب في هذا الوقت القريب من أكبر المصانع العالمية.
عمل جسيم من أعمال الإدارة والفن، غزت به هذه الشركة ميادين الاقتصاد في البلاد، وفتحت الطرق الموصدة أمام الرءوس المصرية، والأيدي المصرية، لتفكر بنفسها، وتعمل لنفسها، وتنسج من القطن المصري الجميل، مجد الكنانة واستقلال النيل.
هذه هي الوطنية المثمرة بوسيلتها وغايتها. فأما ثمرة وسيلتها فتوظيف الأموال المصرية في أضمن مكان وأرج مورد، وتخفيف العطلة باستخدام هذا الجيش الكثيف من العمال وما يتبعه من مرشدين ومهندسين وكتبة، واستهلاك مقدار من القطن المصري قد يربو على خمسمائة ألف قنطار، ثم نشر الثقافة الآلية الحديثة في هذه الصناعة بمن ترسله من البعوث إلى أوربا، ومن تدربه من الأحداث في المصانع. وأما ثمرة غايتها فدفع هذا الاحتلال الاقتصادي الذي أفقر البلاد وأذل الشعب، وحبس أموالنا في بلادنا حتى لا تخرج ذهباً من أيدينا لترجع حديداً في أرجلنا، وإنماء العزة القومية بشعور المصري انه يلبس من زرعه ومن صنعه، وترفيه الحياة المصرية بكثرة الإنتاج ووفرة المكسب وتوزيع الثروة، ثم تمكين النفوذ المصري في الأسواق الشرقية والأقطار العربية، وذلك مجد ورثناه ثم حرمناه منذ طويل.
قَدَرت الأمة الرشيدة غاية هذه الشركة، وعقد آمالها بمستقبلها، وأخلدت بثقتها إلى رجالها، فلم تضن عليها بالعطف والمساهمة. وآية ذلك أنها أصدرت منذ ثلاثة شهور 17500 سند بثلاثمائة وخمسين ألف جنيه بفائدة 5 % فبينت كلها على رغم هذه الأزمة! وهاهي ذي تريد اليوم أن تطرح للاكتتاب العام خمسة وسبعين ألف سهم اقتضاها نمو المشروع، واتساع العمل، والتقدير الدقيق لحاجة البلاد، وضرورة التصدير، وضمان المستقبل. ولا ريب أن الأمة التي تئن أنين الأسير المُعاني من الاحتلال والاستغلال والامتيازات، لا تني عن تعضيد هذه الشركة وأخواتها بالأموال والآمال. بعد ما علمت بدلائل التجربة وشواهد الواقع أنها أنجح الوسائل وأقصر الطرق لإدراك الاستقلال الصحيح.
أرملة حكومة.
. .
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
(أرملة الحكومة) فيما تواضعنا علينا بيننا وبين قرائنا هو الرجل العَزَب، يكون مُطِيقاً للزواج قادراً عليه ولا يتزوج؛ بل يركب رأسه في الحياة، ويذهب يُمَوِّهُ على نفسه كذبا وتدليساً، وينتحل لها المعاذيرَ الواهية، ويَمْتَلِق العللَ الباطلة، يحاول أن يُلْحق نفسه بمرتبة الرجل المتزوج من حيث يَحُطُّ الرجلَ المتزوجَ إلى مرتبته هو؛ ويضيف شؤَمه على النساء إلى هؤلاء النساء المسكينات، يزيدهن على نفسه شرَّ نفسه؛ ويرميهنّ بالسوء وهو السوءُ عليهن، ويَتَنَقَّصهُنّ ومنه جاء النقص، ويَعِيبهُنّ وهو أكبر العيب؛ لا يتذكر إلا الذي له، ولا يتناسى إلا الذي عليه، كأنما انقلبت أوضاع الدنيا، وتبدلت رسومُ الحياة، فزالت الرجولة بتبعاتها عن الرجل إلى المرأة، وانفصلت الأنوثة بحقوقها، فوجب أن تَحمل تلك ما كان يحمل هذا، فتُقْدِمَ ويَقَرَّ وادعاً، وتتعتب ويستريح، وتعاني الهمومَ السامية في الحياة الاجتماعية، ويعانَى المخنَّثُ ابتساماِته ودموَعه، متّكئا ًفي مجلسه النّسيميّ تحتَ جناح المِرْوحة. . . فأما المرأة فتشرِف على هَلَكَتِها، وتخاِطرُ بحاضرها ومستقبلها، وأما هو فيبقى من ثيابه في مثل الخِدْر الَمصُوِن. . .!
(أرملة الحكومة) هو ذلك الشاب الزائف المُبهْرَج، يُحْسبُ في الرجال كذبا وزوراً، إذ لا تكمل الرجولةُ بتكوينها حتى تكمل بمعاني تكوينها، وأخصّ هذه المعاني إنشاءُ الأسرة والقيامُ عليها، أيْ مغامرةُ الرجال في زمنه الاجتماعيّ ووجودِه القوميّ، فلا يعيش غريباً وهو معدود فيه؛ ولا طُفَيْليّا فيه وهو كالمنفيَّ منه، ولا يكونَ مَظْهراً لقوة الجنس القوي هاربةً هروب الجبن من حَمْل ضَعف الجنس الآخر المحتمي بها، ولا لمروءة العشير مُتَبرِّئةً تَبَرُّؤَ النذالة من مؤازرة العشير الآخر المحتاج إليها؛ ولا يرضى لنفسه أن يكون هو والذل يعملان في نساء أمته عملاً واحداً، وأن يصبح هو والكساد لا يأتي منهما إلا اثُرٌ متشابه، وأن يبيت هو والفناء في ظلمةٍ واحدة كظلمات القبر، تنتقل الأجداثَ إلى الدور، فتجعل البيت الذي كان يقتضيه الوطنُ أن يكون فيه أبٌ وأمٌ وأطفال - بيتاً خاوياً كأنما ثكل الأم والأطفال، وبقيت فيه البقية من هذا الرجلِ العَزَبِ الميت أكثرُ تاريخه. . .!
لقد رأيت بعينيّ أداةَ العزب وأثاثه المبعثر في بيته، كأنما يقصّ عليه كلُّ ذلك قصةّ شؤمه
ووحدته، وكأنما يقول له الفَرْش والنَّجْدُ والطراز:(بعني يا رجل وردَّني إلى السوق؛ فأني هنالك أطمع أن يكون مصيري إلى أب وأم وأولاد، أجدُ بهم فرحةَ وجودي، وأصيب من معاشرتهم بعض ثوابي، وأبلى تحت أيديهم وأرجلهم فأكون قد عملت عملاً إنسانياً. أما عندك فأنت خشبة مع الخشب، وأنتِ خِرقة بين الخِرق. واسمع الكرسّي إنه يقول: أفّ. وأصغِ إلى فراشك انه يقول: تفّ. . .)
شهد العزبُ وربِّ الكعبة على نفسه أنه مُبْتَلىً بالعافية، مستعبدٌ بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة. وشهدتْ الحياة عليه ورب البيت أنه في الرجولة قاطع طريق يقطع تاريخها ولا يؤِّمنُه، ويسرق لذاتها، ولا يكسبها، ويخرج على شَرْعِها ولا يدخل فيه، ويعصي واجباتها ولا ينقاد لها. وشهد الوطن - والله - عليه أنه مخلوق فارغ كالواغل على الدنيا؛ إن كان نعمةً بصلاحه، انتهتْ النعمةُ في نفسها لا تمتد؛ وأن كان بفساده مصيبةً امتدتْ في غيرها لا تنقطع. وأنه شحّاذ الحياة أحسن به الأجداد نسلاً باقياً، ولا يُحْسن هو بنسل يبقى، وأنه في بلاده كالأجنبي، مهبطة على منفعةٍ وعيشٍ لا غيرِهما، ثم يموت وجوُد الأجنبي بالنَّقْلةِ إلى وطنه، ويموت وجودُ العزب بالانتقال إلى ربه، فيستويان جميعاً في انقطاع الأثر الوطنيّ، ويتفقان جميعاً في انتهاب الحياة الوطنية، وأن كليهما خرج من الوطن أبْتر لا عَقِب له، ويذهبان معاً في لحج النسيان: أحدهما على باخرة، والآخر على النعش!
جاءني بالأمس (أرملة حكومة) وهو مهندس موظف. ومعنى الهندسة الدقة البالغة في الرقْم والخط والنقطة وما احتمل التدقيق؛ ثم الحذُر البالغ أن يختلّ شيء أو ينحرف، أو يتقاصر أو يطول، أو يزيد أو ينقص، أو يدخله السهو، أو يقع فيه الخطأ؛ إذ كان الحاضر في العمل الهندسيّ وإنما هو للعاقبة، وكان الخيال للحقيقة؛ وكان اُلخرْق هنا لا يقبل الرُّقعة. ومتى فَصلت الأرقام الهندسية من الورق إلى البناء مات الجمع والطرق والضرب والقسمة، ورجع الحساب حينئذ وهو حساب عقل المهندس؛ فأما عقل دقيق منتظم، أو عقل مأفون مختلّ.
بَيّد أن المهندس - على ما ظهر لي - قد خَلَتْ حياته من الهندسة. . . وانتهى فيها من التحريف المضحك - حتى فيما لا يخطئ الصغار فيه - إلى مثل التحريف الذي قالوا إنه
وقع في الآية الكريمة (إياك نعبد وإياك نستعين). فقد رَوَوا أن إمام قرية من القرى في الزمن القديم كان يخطب أهل قريته ويصلي بهم في مسجدها، فنزل به ضيف من العلماء فقال له الخطيب: إن لي مسائل في الدين لم يتوجّه لي وجهُ الحق فيها، ولا أزال متحّير الرأي، وكنت من زمن أتمنى أن ألقى بها الأئمة فأريد أن أسألك عنها. قال العالم: سَلْ ما أحببت.
قال الخطيب: أشْكَلَ عليَّ في القرآن بعضُ مواضع، منها في سورة الحمد (إياك نعبد وإياك). . . أيّ شيء بعده. (تسعين، أو سبعين). . .؟ أشكَلَتْ عليَّ هذه فأنا أقرأها: تسعين. أخذاً بالاحتياط. . .!
كذلك مهندسنا فيما أشكل عليه من حسابه للحياة، فهو عَزَب أخذاً بالاحتياط. قال وهو يحاورني: -
كيف تُكَلّفني الزواج وتُكرِهني عليه، وتَعنِّفني على العزوبة وتعيبني بها؛ وإنما أنت كالذي يقول: دع الممكن وخذ المستحيل. إن استحالة الزواج هي جعلتْني عَزَباً، والعزوبة هي جعلتني فاسداً، وفي هذا الجو الفاسد من حياة الشباب إما أن تكسد الفتاة، وإما أن تتصل بها العَدْوَى. والعزب لا يأبى أن يقال فيه إنه للنساء طاعون أحمر أو هواء أصفر، فهو والله مع ذلك موت أسود وبلاء أزرق.
قلت: لقد هوَّلت عليّ؛ فما مستحيُلك ياهذا، ولِمَ استحال عليك ما أمكن غيرَك، وكيف بلغت مصر خمسة عشر مليوناً؟ أمِنْ غير آباء خُلِقوا، أم زُرِعوا زرعاً في أرض الحكومة؟ أسمع - ويحك - ألا يكون الرجال قد أقبلوا وتراجَعْت، وتجلدوا وتوَّجعْت، أو أقْدَموا وخنسْت، واسترجلوا وتأنَّثْت؟
قال: ليس شيء من هذا.
قلت: فان المسألة هي كيف ترى الفكرة، لا الفكرةُ نفسها، فما حملك على العزوبة وأنت موظف وظيفتك كذا وكذا ديناراً، وأنت مهندس يصدق عليك ما قالوه في الرجل المجدود: لو عَمِد إلى حَجرٍ لانفلق له عن رزق.
قال: أليس مستحيلاً ثُمّ مستحيلاً أن يجمع مثِلي يده على مائة جنيه يدفعها مهراً؛ وما طرقت - علم الله - بابا إلا استقبلوني بما معناه: هل أنت معجزة مالية، هل أنت مائة جنيه؟
قلت: فان عملك في الحكومة يُغِلّ عليك في السنة مائة وثمانين ديناراً فِلمَ لا تعيش سنة واحدة بثمانين فتقع المعجزة؟
قال: (بكل أسف) لا يستطيع الرجل العزب أن يدخر أبداً؛ فهو في كل شيء مبدَّد ضائع متفرق.
قلت: فهذه شهادتك على نفسك بالسفه والخرق والتبذير؛ تنفق ما يكفي عدداً وتضيق بواحدة، وماذا يرتئي مثلك في الحياة؟ أعند نفسه وفي يقينه أن يتأبّد فيبقى عزباً فهو ينفق ما جمع في شهوات حياته، ويتوّسع فيها ضروباً وألواناً، ليكون وهو فرد كأنه وهو في إنفاقه جماعة، كل منهم في موضع رذيلة أو مكان لهو؛ وكأن منه رجالاً هو كاسبهم وعائلهم، ينفق على هذا في القهوة، وعلى هذا في الحانة، وعلى ذلك في الملاهي، وعلى الرابع في المواخير، وعلى الخامس في المستشفى. . .؟ إن كان هذا هو أصل الرأي عند العزب، فالعزب سفيه مجرم، وهو إنسان خرب من كل جهة إنسانية، وهو في الحقيقة ليس المتّسِعَ لنفقات خمسة، بل كأنه قاتل خمس من أبناء وطنه؛ إذ كان بهذا مطيقاً أن يكون أبا ينفق على أبنائه، لا سفيهاً ينفق على شياطينه.
فان كان قد بنى رأيه على أن يتعزّب مدة ثم يتأهل، فهذا أحرى أن يعينه على حسن التدبير، وهو مَضْراةٌ له على شهوة الجمع والادخار؛ إذ يكون عند نفسه كأنما يكدح لعياله وهو في سعة منهم بعدُ، وهم لا يزالون في صُلبه على الحال التي لا يسألونه فيها شيئاً إلا أخلاقاً طيبة وهمماً وعزائم يرثونها من دمه فتجيء معهم إلى الدنيا متى جاءوا.
إنما العزب أحد رجلين: رجلٍ قد خرج على وطنه وقومه وفضائلِ الإنسانية، قاعدته: جُرَّ الحبل ما انجرَّ لك. وهذا داعر فاسق، مبذر متلافٌ إن كان من المياسير؛ أو مُرِيب دنيء حقير النفس إن كان من غيرهم - ورجلٍ غير ذلك، فهو وثاق الضرورة إلى أن تُطْلِقَه الأسباب، ومن ثم فهو يعمل أبداً للأسباب التي تُطْلقه، ويعرف أنه وإن لم يكن آهلاً فلا تزال ذمته في حق زوجة سيعولها، وفي حقوق أطفال يأبوهم، وواجبات وطن يخدمه بإنشاء هذه الناحية الصغيرة من وجوده، والقيام على سياستها، والنهوض بأعبائها. فانظر ويحك أيّ الرجلين أنت؟
قال: فتريدني أن أقامر بتعب سنة وأنا بعد ذلك وما يُقْدِرُ لي، وقد أشتري بتعب سنة من
العمر تعب العمر كلّهِ؟
قلت: فهذه هي خسّة الفرديّة ودناءتُها الوحشية في جنايتها على أهلها، وسوءِ أثرها في طباعهم وعزائمهم؛ فهي فرديّة تضرب فيهم العاطفةَ الاجتماعية ضرْب التلف، وتبتليهم بالخوف من التبعات حتى ليتوهم أحدهم أنه إن تزوج لم يدخل على امرأة، ولكن على معركة. وهي تصيبهم بالقسوة والغلظة؛ فما دام الواحد منهم واحداً لنفسه، فهو في تصريف حكم الأثرة، وفي قانون الفتنة بأهواء النفس ومنافعها؛ كأنما يعامله الناس رجلاً كلُّه مَعِدَة، أو هو فيهم قوة هضم ليس غير.
قال: ولكن الزواج عندنا حظّ مخبوء (لوتريّة) والنساء كأوراق السحب، منهن ورقة هي التوفيق والغنى بين آلاف هن الفقر والخيبة المحقّقة.
قلت: هل اعتدت أن تتكلم وأنت نائم؟ فلعلك الآن في نومة عقل، أولا فأنت الآن في غفلة عقل.
إن هذا المسكين الذي يمسح الأحذية ويشتري من تلك الأوراق لا يخلو منها - يعلم علماً أكثر من اليقين أن عيشه هو من مسح الأحذية لا من الأخيلة التي في هذه الأوراق؛ فهو لا يعتدّ بها في كبير أمرِ ولا صغيرِه، وما يُنزِلها في حساب رغيفه وثوبه إلا يوم يُخالطُ في عقله فيتنزّه أن يمسح أحذية الناس، ويرى أن عظيماً مثله لا يمسح إلا أحذية الملائكة. . .
أنت يا هذا مهندس، ولك بعض الشأن وبعض المنزلة، فَهَبْك ارتأيت أنه لا يحسن بك أو لا يَحْسُنُ لك إلا أن تتزوج بنت ملك من الملوك، فهذه وحدها هي عندك (النمرة الرابحة) وسائر النساء فقر وخيبة ما دام الأمر رأيك وهواك؛ غير أنك إذا عَرضْت لتلك (النمرة الرابحة) لم تعرفك هي إلا صعلوكاً في الصعاليك وأحمق بين الحمقى.
إن تلك الأوراق تُصْنع صنعتَها على أن تكون جملتُها خاسرة إلا عدداً قليلا منها؛ فإذا تعاطيتَ شراءها فأنت على هذا الأصل تأخذها، وبهذا الشرط تبذل فيها؛ وما تمتري أنت ولا غيرك أن القاعدة هاهنا هي الخيبة، وشذوذها هو الربح؛ وليس في الاحتمال غير ذلك؛ ومن ثمّ فقد بريء إليك الحظُّ إن لم يصبك شيءٌ منه، وأين هذا وأين النساء، وما منهن واحد إلا وفيها منفعة تكثر أو تقل، بل الرجال للنساء هم أوراق السحب في اعتبارات كثيرة، مادامت طبيعة اتصالهما تجعل المرأة هي في قوانين الرجل أكثر مما تجعل الرجلَ
في قوانينها. وهل ضاعت امرأة إلا من غفلة رجل أو قسوته أو فسولته أو فجوره؟
قال المهندس: فإني أعلم الآن - وكنت أعلم - أن لا صلاح لي إلا بالزواج، وان طريقي إلى الزوجة هو كذلك طريقي إلى فضيلتي والى عقلي. وتالله ما شيءٌ أسوأ عند العزب ولا أكره إليه من بقائه عزباً غير أنه يكابر في المماراة كلما تحاقرت إليه نفسه، وكلما رأي أن له حالاً ينفرد بها في سخط الله وسخط الإنسانية. ولا مَكْذِبة، فقد والله أنفقتُ في رذائلي ما يجتمع منه مهر زوجةَ سريّة تشتطّ في المهر وتغلو في الطلب؛ ولكن كيف بي الآن وما جبَرني من قبلُ إصلاحٌ، ولا أعانني اقتصاد، ومن لي بفتاة من طبقتي بمهر لا أتحمل منه رهَقاً، ولا تتقاصر معه أموري، ولا تختل معيشتي؟
قلت: فإذا لم يحملك الحمار من القاهرة إلى الاسكندرية؛ فانه يحملك إلى قليوب أو طوخ. وفي النساء إسكندرية، وفيهن شبرا، وقليوب، وطوخ، وما قرب وبَعد؛ وما رخص وغلا.
قال: ولكن بلدي إسكندرية. . .
قلت: ولكنك لا تملك إلا حماراً. . . وللمرأة من كل طبقة سِعْرها في هذا الاجتماع الفاسد؛ ولو تعاون الناس وصلحوا وأدركوا الحقيقة كما هي، لَمَا رأينا الزواج من فقر المهور كأنما يركب سلحفاة يمشي بها. . . ونحن في عصر القطار والطيارة، وقد كان هذا الزواج على عهد أجدادنا في عصر الحمار والجمل - كأنه وحدة من السرعة في طيارة أو قطار.
حين يفسد الناس لا يكون الاعتبار فيهم إلا بالمال؛ إذ تنزل قيمتهم الإنسانية ويبقى المال وحده هو الصالح الذي لا تتغير قيمته. فإذا صلحوا كان الاعتبار فيهم بأخلاقهم ونفوسهم؛ إذ تنحطَّ قيمة المال في الاعتبار، فلا يغلب على الأخلاق ولا يسخرها. والى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لطالب الزواج:(التمس ولو خاتماً من حديد.) يريد بذلك نَفى المادَّية عن الزواج، وإحياء الروحية فيه، وإقرارَه في معانيه الاجتماعية الدقيقة. وكأنما يقول: إن كفاية الرجل في أشياء أن يكن منها المال فهو أقلها وآخرها، حتى إن الأخسّ الأقلّ فيه ليُجْزئ منه كخاتم الحديد؛ إذ الرجل هو الرجولة بعظمتها وجلالها وقوّتها وطباعها، ولن يُجْزِئ منه الأقلُّ ولا الأخسّ مع المال، وإن ملء الأرض ذهباً لا يُكَمّل للمرأةِ رجلاً ناقصاً؛ وهل تُتِمُّ الأسنان الذهبيةُ اللامعة يحملها الرجل الهرم في فمه شيئاً مما ذهب منه؟ وما عسى أن تصنعِ قُواطعُ الذهب الخالص وطواحُنه لهذا المسكين بعد أن نطق
تحَاتُّ أسنانه العظميَّة وتناثُرُها أنه رجل حلَّ البَلى في عظامه. . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
عصبة الأمم والأمم الشرقية
لمناسبة انضمام أفغانستان إليها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
انتظمت في سلك عصبة الأمم دولة شرقية جديدة هي أفغانستان، وكان قبولها في العصبة بإجماع الآراء تقريباً، ولم يبق خارج العصبة من أمم الشرق الأدنى والأوسط بعد دخول تركيا وأفغانستان سوى مصر وسوريا والمملكة السعودية واليمن. ولعلائق الأمم الشرقية بعصبة الأمم وموقفها منها تاريخ خاص، يصح أن نستعرضه بهذه المناسبة. وقد بدأت هذه العلائق منذ مولد العصبة ذاتها، وكانت العصبة يومئذ إحدى نفثات ذلك الإنجيل الجديد الذي بشر به توماس ودرو ولسون أعظم ذهن هائم في التاريخ المعاصر، والذي انهارت مبادئه ووعوده في فرساي مهد تطبيقه. كان إنجيل الصلح بين الأمم المتحاربة على قواعد التسامح والعدالة، وإنجيل السلام والتفاهم، وإنجيل الحريات الدولية والاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصايرها، فاستحال في فرساي، وفي نصوص معاهدة الصلح، إلى بركان من الشهوات القوية، ومزقت باسمه شعوب، وأرهقت أخرى، ومنحت الحرية لشعوب، وسلبت أخرى حرياتها، وفرضت عليها العبودية بأسماء وصور جديدة. وكان المفروض أن عصبة الأمم ستغدو عصبة دولية إنسانية تجمع الأمم على احترام السلام والمثل الإنسانية الخالدة، ولكنها جاءت منذ مولدها نفثة من تلك الروح التي أملت معاهد الصلح؛ روح الظفر والأثرة؛ وكان موقفها من الأمم الشرقية بالأخص مناقضاً لجميع العهود التي قطعت، والمبادئ التي قررت.
كانت اليابان والصين والهند وسيام والحجاز هي الأمم الشرقية التي وقعت على ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة الصلح (وميثاق العصبة هو القسم الأول من المعاهدة) منذ وضعهما في يونيه سنة 1919، وبذلك غدت أعضاء في العصبة منذ إنشائها، وقد أبى الوفد الصيني أن يوقع معاهدة الصلح احتجاجاً على بعض نصوصها التي تمنح الانتداب لليابان على بعض الأراضي الصينية التي كانت بيد ألمانيا، ولكن الصين اعتبرت عضواً في العصبة لأنها وافقت على الميثاق. أما الحجاز فقد كانت يومئذ هي المملكة العربية الجديدة التي أنشأها الإنكليز للحسين بن علي، والتي انهارت قبل أعوام قلائل. وكانت فارس من الأمم
التي دعيت إلى دخول العصبة منذ إنشائها، وقد انضمت إليها غير بعيد، وإما تركيا فقد كانت من أمم الأعداء، وكان مقضياً عليها بالتمزيق والإعدام، وكانت أفغانستان تخوض يومئذ حرب الحرية مع الإنكليز. وأما العراق وسوريا وفلسطين، فقد كانت من ضحايا الانتداب الذي ابتدع لتوزيع أسلاب الدولة العثمانية الذاهبة على الحلفاء. وكانت مصر ضحية الحماية الإنكليزية التي أعلنت عليها قسراً أيام الحرب، وكانت تضطرم بثورتها التحريرية التي انتهت بعد ذلك بعامين بإلغاء إنكلترا للحماية وإعلان استقلال مصر من الوجهة النظرية. والواقع أنه لم يكن للشرق في العصبة عند قيامها سوى صوت قوي واحد هو صوت اليابان. ولكن اليابان كانت من دول الحلفاء، وكان دخولها في العصبة لتأييد نفس المبادئ وتحقيق نفس الغايات التي تؤيد وتعمل على تحقيقها الدول الغربية، وكان لها نصيبها من أسلاب الحرب، ولم تكن في سياستها الاستعمارية أقل شرهاً من إنكلترا أو فرنسا. وأما الصين فقد كانت تتخبط في غمار الحرب الأهلية، وكان تمثيلها في العصبة على يد وحدة صغيرة فيها هي جمهورية كنتون الناشئة. وأما الهند فقد دخلت باعتبارها من الأملاك البريطانية لتشد إلى جانب استراليا وكندا وجنوب أفريقية أزر بريطانيا العظمى في سياستها ومشاريعها داخل العصبة. ودستور العصبة يجيز دخول الأملاك المستقلة والمستعمرات الحرة. وأما الحجاز فلم تكن لها يومئذ أية أهمية سياسية أو دولية، ولم يكن مثولها في مؤتمر الصلح، ودخولها في العصبة إلا ضرباً من المجاملة النظرية.
كانت عصبة الأمم منذ قيامها إذاً هيئة غربية في روحها وفي جوهرها، ولم تكن تمثل من الوجهة العملية شيئاً من المبادئ الرنانة التي أعلنها الرئيس ولسون في ختام الحروب، والتي أريد أن تكون قاعدة لعقد الصلح الحر بين الأمم المتحاربة وقيام عصبة حرة من الأمم تعمل على تخليد مبادئ الحرية والعدالة والوئام فيما بينها، ومع ذلك فقد بعثت مبادئ الرئيس ولسون المتعلقة بحريات الأمم ومصير الشعوب في بعض الأمم المغلوبة شيئاً من الأمل، وكان مفروضاً أن ذلك الهيكل الجديد الذي أقيم ليعاون في تطبيق هذه المبادئ الخالدة - أعني عصبة الأمم - سيكون بالفعل سنداً للأمم الشرقية في جهادها في سبيل الحرية والاستقلال، ولكن ذلك الأمل كان وهماً، وجاءت عصبة الأمم بالعكس لتقر من المبادئ والأساليب إزاء بعض الأمم الشرقية ما يخالف كل عدالة وكل حق وكل عهد
مقطوع. ونذكر بهذه المناسبة أن الوفد المصري برئاسة المغفور له سعد زغلول باشا كان يوم وضع معاهد الصلح في باريس يعمل في سبيل القضية المصرية، وقد احتج عبثاً على نصوص معاهد الصلح التي تمس مصر، والتي تقر حماية إنكلترا المفروضة عليها رغم إرادتها؛ ونذكر أيضاً أن سعد باشا أرسل إلى الرئيس ولسون يرجوه باسم مبادئه مقابلة يبسط له فيها ظروف القضية المصرية، فلم يجبه الرئيس ولسون إلى هذا الرجاء. وكانت أول خطوة عملية اتخذتها عصبة الأمم لتأييد الاعتداء الواقع على الأمم العربية هو أنها أقرت نظام الانتداب الذي وضعه الحلفاء لتقسيم البلاد العربية وحكمها رغم العهود الصريحة التي قطعت خلال الحرب بمعاهدات ووثائق رسمية، فأقرت الانتداب على سوريا لفرنسا؛ وأقرت انتداب إنكلترا على فلسطين وشرق الأردن والعراق. وأقرت عهد بلفور وما ترتب عليه من إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين؛ ولم تحاول العصبة أن تتدخل يوم قسم الحلفاء تركيا إلى مناطق ودفعوا اليونان لاحتلال أزميرا والتوغل في قلب الأناضول؛ ولما وقع الخلاف بين تركيا وإنكلترا على مسألة الموصل واتفقنا على رفع الأمر إلى عصبة الأمم، كان موقف العصبة مريباً ظاهر التحيز؛ وكثيراً ما حاولت الأمم العربية أن تتقدم إلى العصبة بالشكوى من نظام الانتداب وما يرتكب في ظله من ضروب الجور والتعسف، فلم تفز منها بالإصغاء قط؛ ولم تكن لجنة الانتدابات الدائمة بالعصبة إلا سيف المستعمر الشرعي مصلتاً على رقاب الأمم الواقعة تحت الانتداب.
هكذا كان موقف عصبة الأمم الشرقية المغلوبة منذ البداية. وقد أثبتت العصبة خلال أعوامها الأربع عشرة أنها غير أهل لتحقيق شيء من المبادئ والمهام العظيمة، التي عهد إليها بالعمل على تحقيقها. وأسطع مثل لذلك موقفها إزاء مسألة تخفيض السلاح، وعجزها المطبق عن أن تحقق شيئاً في هذا السبيل، لأن تحقيقه لا يروق للدول المسيطرة على مجلس العصبة؛ وأسطع مثل لوقوع العصبة تحت نفوذ الدول القوية ووحي النزعة الاستعمارية، موقفها في مسألة منشوريا، التي ثارت منذ ثلاث أعوام بين اليابان والصين، وكلتاهما من أعضاء العصبة؛ فقد استغاثت الصين بالعصبة حين غزو اليابان لمنشوريا، فلبثت العصبة بين التردد والتمهل حتى تم استيلاء اليابان على منشوريا ولم تستطيع أن تتخذ أي إجراء حاسم تنوه فيه باعتداء اليابان على الأراضي الصينية، مع أنه قد نص في
ميثاق العصبة على عدة عقوبات تأديبية واقتصادية يتقرر اتخاذها ضد الدولة المعتدية في مثل هذه الظروف. ولم ترض اليابان عن هذا التدخل رغم عقمه. فانسحبت من العصبة لتكون مطلقة اليدين في تنفيذ سياستها الاستعمارية. وقد كان فشل العصبة في مسألة منشوريا ذروة ضعفها وانحلال هيبتها، فعملت الدول الغربية التي تستتر في العمل وراء العصبة على تدارك هذا الضعف، بحمل روسيا السوفيتية على الالتحاق بعصبة الأمم، ولبت روسيا هذه الدعوة، والتحقت بالعصبة بعد أن كانت تخاصمها وتعتبرها من أدوات الاستعمار المستترة حسبما فصلنا في فصل سابق في (الرسالة). وأرادت الدول الغربية من جهة أخرى أن تقوي المظهر الشرقي لعصبة الأمم، فسعت لدى تركيا حتى التحقت بالعصبة، وكان التحاقها بها نتيجة مباشرة لانضمام روسيا إليها، لأن السياسة التركية الخارجية تسير مع السياسة البلشفية الخارجية جنباً إلى جنب، ولأن موقف الخصومة الذي اتخذته تركيا نحو العصبة من قبل لم يكن إلا مجاراة لسياسة حليفتها موسكو. ثم كان دخول أفغانستان أخيراً نتيجة أيضاً لنفس السياسة؛ وأفغانستان تتأثر بنصائح موسكو، وهي مدينة باستقلالها الأخير إلى معاونة موسكو ومؤازرتها، وهي تتأثر أيضاً بنصائح إنجلترا، وإنجلترا يهمها تقوية المظهر الشرقي لعصبة الأمم؛ ولذلك رأينا أغاخان مندوب الهند وأحد أبواق السياسة الإنكليزية يقول في خطابه الذي ألقاه لمناسبة انضمام أفغانستان: إن أخطار الطابع الغربي للعصبة كانت واضحة، وكانت دائما تغشى صبغتها العالمية، فدخول أفغانستان يقوي طابعها العالمي، ويزيدها قوة في القيام بمهمتها.
هذا ويجب ألا ننسى أن العراق أيضاً عضو في عصبة الأمم، وقد دخلت العصبة منذ نحو عامين، وكان دخولها نتيجة لعقد المعاهدة العراقية الإنكليزية التي نالت بها العراق استقلالها الذاتي (سنة 1930) وخروجها بذلك من ربقة الانتداب الذي كان مفروضاً عليها من قبل عصبة الأمم لمصلحة إنكلترا. ويجب ألا ننسى أن دخول العراق في العصبة كان مقروناً من جانب العصبة بمظاهرة تؤكد صبغة الغربية والاستعمارية معاً، فقد وضعت العصبة لقبول العراق شروطاً تلفت النظر بتحاملها وشدتها، ولاسيما فيما يتعلق بحماية الأقليات الدينية والجنسية، وحرية البعثات التبشيرية في القيام بأعمالها، وتقرير الحق لكل دولة أن تشكو العراق إلى العصبة إذا رأت أنها قصرت في تنفيذ تعهداتها.
ولم تنضم المملكة السعودية (نجد والحجاز) بعد إلى عصبة الأمم، وليس في سياستها ما يدل على أنها تنوي أن تسعى إلى هذا الانضمام في القريب العاجل، غير أنه يلاحظ أن المملكة السعودية معترف بها من جميع الدول الكبرى التي تسيطر على مجلس العصبة، وأن علائقها بهذه الدول ولاسيما إنكلترا حسنة؛ وقد يكون في الحوادث الأخيرة التي انتهت بدخول تركيا وأفغانستان في العصبة ما يحمل المملكة السعودية على التفكير في السعي إلى الانضمام إلى العصبة، إما اليمن فليست لها سياسة خارجية منظمة معروفة، ومن الصعب أن يعرف موقفها في هذا الشأن، وإن كان المرجح أن الإمام لا يعلق على مثل هذا الانضمام أية أهمية. أما سوريا فهي لازالت ترزح تحت الانتداب الفرنسي، ومن المعروف أن السياسة الفرنسية تنوي متى استطاعت أن تعقد المعاهدة المنشودة مع سوريا، أن تحذو فيها حذو المعاهدة الإنكليزية العراقية من حيث العمل على التحاق سوريا بعصبة الأمم.
بقيت كلمة عن مصر وعن موقفها من العصبة، فأما عن حق مصر في الدخول في عصبة الأمم فليس عليه غبار من الوجهة الدولية، أولاً لأن مصر قد نالت استقلالها من الوجهة الدولية بتصريح فبراير سنة 1922، وهي طبقاً لهذا التصريح دولة مستقلة ذات سيادة، وثانياً لأنه لا يوجد في ميثاق العصبة ما يمنع دولة في ظروف مصر السياسية من الانضمام إليها، فالفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق تنص على أنه يحق لكل (دولة أو ملك مستقبل (دومنيون) أو مستعمرة حرة في حكم نفسها أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على انضمامها ثلثا أعضاء الجمعية العامة)، ومصر ليست ملكا مستقلا ولا مستعمرة، بل هي من حيث المركز الدولي دولة مستقلة ذات سيادة، وقد سلمت السياسة البريطانية لمصر بهذا الحق في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1929، فنص فيه في المادة الثالثة على ما يأتي (إن مصر رغبة منها في أن تصبح عضواً بجمعية الأمم، ستقدم طلباً للانضمام إلى تلك الجمعية، طبقاً للشروط التي تنص عليها المادة الأولى من عهد الجمعية، وتتعهد حكومة جلالة الملك البريطانية بتأييد هذا الطلب) ونص في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1930 على ما يأتي (بما أن مصر تنوى أن تكون عضواً في جمعية الأمم فان صاحب الجلالة البريطانية يعترف بحقها كدولة مستقلة ذات سيادة في أن تصبح عضواً في جمعية الأمم عندما تقوم بالشروط التي نص عليها في
عهد الجمعية).
ولكن هل تفيد مصر من الانضمام إلى عصبة جنيف سواء في الحال أو الاستقبال؟ لسنا ممن يعتقد ذلك. إن تاريخ عصبة الأمم إزاء الأمم الشرقية والأمم الضعيفة حسبما بسطناه لا يدلي بأن العصبة تأخذ بمبادئ المساواة والعدالة الدولية بين مختلف الأمم؛ والعصبة سواء بنشأتها أو القوى المهيمنة عليها، أو الغايات التي تعمل لها، تنم عن روح غربية عميقة، وربما نمت أيضاً عن روح نصرانية كما ظهر من موقفها نحو العراق فيما اشترطته عليها ثمناً لانضمامها إليها. ولن يكون شأن المثول في العصبة في ظروفنا الحاضرة إلا كشأن التمثيل السياسية الذي يكبد مصر مئات الألوف دون أن تجني من ورائه مزايا عملية يعتد بها. وحتى لو سويت المسائل المعلقة بين مصر وإنكلترا وعقدت المعاهدة المصرية الإنكليزية المنشودة، وتأكد استقلال مصر من الناحية العملية، فأنا لا نجد ما يحمل مصر على السعي إلى الالتحاق بعصبة جنيف. ومن الخطأ أن يتصور البعض أن المثول في العصبة من مظاهر الاستقلال، فان بين أعضاء العصبة مستعمرات وأملاكاً مستقلة طبقاً لما ينص عليه ميثاقها.
لقد تمزق الحجاب أخيراً عن ذلك الرياء الدولي الذي استمر زهاء خمسة عشر عاماً، والذي لبث حيناً يحتضن الدعوى إلى السلام وتفاهم الأمم، ويعقد المواثيق للتحكيم وتحريم الحرب؛ وعادت أوربا القديمة إلى سياستها القومية القديمة، عمادها القوة والعنف، وغايتها افتراس الأمم الضعيفة؛ وما عصبة الأمم إلا عرين الأمم المفترسة قبل كل شيء، ولا خير لأمة ضعيفة أن تقر الذئاب على ريائها، ولا خير لها بالأخص في أن تندمج معها في صعيد واحد.
محمد عبد الله عنان المحامي
4 - الشخصية
للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف
العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية: -
تكلمنا فيما مضى عن الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية، والشجاعة، من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية. والآن نتكلم عن بعض العناصر الأخرى المقوية للشخصية كالحكمة، والتفاؤل، والتواضع، ومظهر الإنسان وقوامه، وقوة البيان وأثرها في الشخصية فنقول.
الحكمة:
إن شخصية الإنسان لا تكون متينة إلا إذا زانتها الحكمة والعلم والحزم، ووضع الأشياء في مواضعها، وقدرها حق قدرها. والرجل الحكيم هو السديد الرأي، البعيد النظر، الحسن التقدير، الذي يعرف الحق فيتمسك به، ويفعل ما يجب أن يفعل، ويترك ما ينبغي أن يترك، ويقول ما يجب أن يقال، يرى الفرصة فينتهزها، ويشعر بالطريق المستقيم فيسلكه، يحس بنتيجة الشيء حتى قبل حدوثها، ويعامل غيره بما يحب أن يعامل به، ويحكم على غيره بما يود أن يحكم به عليه، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وإذا حكم على غيره كان حكمه بعيداً عن الأهواء والأغراض، تتمثل فيه النزاهة والعدالة. كل هذه الصفات نتيجة الحكمة وحسن التقدير. والحكمة صفة أساسية في تكوين الشخصية السامية. أما إذا انتفت الحكمة فان الإنسان يكون واهن الرأي، مضطرب البصيرة، سيئ الحظ، عاثر الجد، ضعيف الشخصية، يعجز عن تقدير الأشياء، ويفعل ما يجب ألا يفعل، ويهمل أموراً تجبُ العناية بها، ويهتم بأشياء لا قيمة لها، يحب ما ينبغي أن يكره، ويكره ما ينبغي أن يحب، فيصبح ضحية لوجداناته وأقواله وأفعاله، ويصير مكروهاً لدى من يعرفونه.
ومن الحكمة أن نجتهد في إرضاء الناس - وإن كان إرضاؤهم جميعاً غاية لا تدرك - من غير أن نضحي بمبدأ من مبادئنا، أو مظهر من مظاهر رجولتنا حتى نمتلك قلوبهم، وهذا دليل على وجود الشخصية القوية الجذابة.
وكثيراً ما تفسد الحكمة وتشوه بالفخر، أو التكبر، أو الحقد، أو الغيرة، أو الغش. فينبغي أن
يهذب الإنسان نفسه، ويترك الفخر جانباً ولا يتكبر أو يحقد على غيره، ولا يغش أحداً أو يضله، حتى تكون علاقته بغيره حسنة وتكون شخصيته محبوبة لدى من يتصلون به أو يعرفونه.
التفاؤل:
من العناصر التي لا تقل أهمية في تكوين الشخصية الممدوحة: التفاؤل والتيمن والنظر إلى الأشياء بمنظر الفأل الحسن؛ ويمن الطالع، لا بمنظار التشاؤم والتطير، ذلك المنظار الأسود، منظار الشؤم والطِّيَرَة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة. ولا نقصد بالتفاؤل أن نغمض أعيننا عن الحقائق نتائج الأمور، بل نقصد أن نعتاد في تفكيرنا النظر إلى الأشياء بعين الأمل والرحمة، لا بعين اليأس والقنوط، وننظر إليها في نور الأمل لا في ظلام اليأس، من الناحية المضيئة من الطريق، لا من الناحية المظلمة الحالكة. والمتفائل يرضى بالماضي خيره وشره ويثق بالمستقبل، ثم يؤدي الواجب ويترك النتيجة لله سبحانه وتعالى. وتعتبر هذه العادة العقلية - عادة التفاؤل - من الأمور الجوهرية في تقوية الشخصية. وكثيراً ما ينشأ التفاؤل عن نشاط الشخص وقوته العقلية والعصبية، وعن نوع الأفكار التي يسمح لها بالدخول إلى العقل، وإذا تعود الإنسان أن يزود نفسه بالأفكار الصحية السارة فانه لا يتجنب التشاؤم والحزن فحسب، بل قد يطل من نوافذ على الناحية السارة المضيئة من الحياة.
وينشأ التشاؤم عن ضعف النشاط وضعف القوة العصبية، وهو الرقابة العقلية في الإنسان؛ فيسمح لنفسه بأن تسبح في جو مظلم من الأوهام حتى يصبح عقله متلبداً بغيوم لا حقيقة لها، ودخان لا أصل له، هي الغيوم التطير ودخان التشاؤم. وإن ضبط النفس والنظر إلى الناحية السعيدة دائماً مما يزيل عن أولئك المتشائمين وهؤلاء المتطيرين هذه الهموم والأحزان التي تسيطر على نفوسهم. وإذا كان التفاؤل موقظاً للعقل، ومدعاة للنشاط وباعثاً على الإقدام، ومحرراً للإنسان، ومنشطاً لجميع قواه العقلية، فالتشاؤم سبب في الخمول والكسل وكثرة التردد والفشل والشقاء والضعف لا في التفكير فحسب، بل في الشخصية أيضاً.
فالشخصية الحية القوية ينبغي أن تتمسك بالتفاؤل، وتلتزم الناحية السارة، يقودها الأمل،
ويحييها الرجاء. تفكر في النجاح أكثر من الخيبة، وفي التقدم أكثر من التأخر. وتميل إلى جانب الثقة أكثر من الميل إلى جانب التردد، وتثق بما تقول وما تفعل، ولديها كل علاج وهي منبع النشاط والقوة. قال (روبرت بروننج):(من الحكمة أن ترجح جانب الخير على جانب الشر، واللين على الشدة، والتعقل على الطيش، والأمل على اليأس، والنور على الظلام).
التواضع وعدم التصنع:
العنصر السادس من عناصر الشخصية التواضع وعدم التصنع، وذلك بأن يكون لدى الإنسان استعداد به يقدر نفسه ومركزه تقديراً يدل على التفكير والحكمة من غير تصنع أو تظاهر بما ليس فيه.
فإذا تصنع المرء وادعى صراحة أو ضمناً ما ليس فيه؛ كأن يقدر نفسه فوق قدرها ويعطيها أكثر من حقها، ويتعظم وما هو بالعظيم، ويَدّعى العلم وما هو بالعالم، والثروة وما هو بالثري، والقوة وما هو بالقوي - إذا ادعى شيئاً من هذه الأشياء فقد يتضح أمره لدى الناس، ويتبين جهله أو فقره أو ضعفه على عكس ما ادعى، فيعلمون كذبه، فيحتقرونه ويزدرونه، وينفرون منه ويتباعدون عنه، ويصبح ممقوتاً عندهم جميعاً.
وإن مدح الإنسان نفسه ثقيل لا يقبل، وإذا قبل فانه يجب أن يستند إلى حقائق. والأولى أن يترك الإنسان عمله ليدل عليه ويتحدث عنه، بدلاً من أن يتحدث هو عن نفسه. وإن كان المرء جديراً بالمدح فسرعان ما تظهر حقيقته، ويقدر الناس كفايته، ويزنون أعماله، ويعترفون بشخصيته ومقدرته. فالتواضع سبيل النجاح والرفعة، والتصنع سبيل الفشل والذلة.
وإننا وإن كنا ضد التصنع والتظاهر لا نمنع أن ننزل أنفسنا منزلتها ونعدها، وحدة من المجموع، لها ماله وعليها ما عليه، ونستحسن أن نترك للغير الحكم لنا أو علينا، وأن نتحلى بالتواضع في غير ضعف أو ذلة. فالتواضع أساس للشخصية المحبوبة الجذابة. وإننا نجتذب غيرنا بقدر ما يحبنا الغير. وإذا كانت الشخصية مظهراً لقوة النفس فهي عدوة الكذب والتضليل. فليس المهم في أن تَدَّعِى كذباً، ولكن المهم في أن تعمل حتى تثبت لنفسك العظمة إن كنت عظيماً.
مظهر الإنسان وقوامه:
لمظهر الإنسان أثر في شخصيته، فالرجل الصحيح الجسم الحسن القامة، قد لا يحتاج في إظهار شخصيته والتأثير في غيره إلى ما يحتاجه الشخص النحيف الجسم، المشوه الخلقة؛ فبينما تجد الأول طبيعياً في معاملته لأنه لا يشعر بنقص خارجي يريد أن يكمله، إذ تجد الثاني محباً للتظاهر، متكلفاً في أقواله وأفعاله، متخذاً كل وسيلة يستطيع أن يظهر بها نفوذه، فيتظاهر بالعلم تارة، ويفخر بحسبه ونسبه تارة أخرى. وقد يتخذ أحياناً وسائل ثعبانية أو ثعلبية، ليظهر بها نفسه أمام من يبغي الظهور بينهم، فيلجأ إلى الوشاية حيناً، وإلى الملق حيناً آخر. وقد يضطر إلى التجمل في جسمه ولبسه، أو المداعبة في حديثه، كل ذلك ليكمل ما فيه من نقص جسمي.
فالإنسان حينما يحس بنقص من الناحية الجسمية مثلاً تراه يعمل على أن يسد هذا الفراغ، ويكمل ذلك النقص من الناحية العقلية أو الخلقية حتى يظهر شخصيته للملأ. فسقراط مثلاً شيخ الفلاسفة من اليونان، كان أفطس الأنف، غليظ الشفتين، جاحظ العينين، قبيح المنظر، ولكنه قد وصل بمواهبه العقلية والخلقية الأخرى إلى ذروة المجد. ويكفيه فخراً أنه أستاذ أفلاطون، وأنه أكبر فلاسفة اليونان. والجاحظ كان أديب العلماء، وعالم الأدباء، وما لقب بهذا اللقب الذي كان مبغضاً إليه إلا لأنه كان جاحظ العينين (بارِزهما)، دميم الخلقة، حتى قيل إن الخليفة المتوكل سمع بمنزلته من العلم والفهم، فاستقدمه إليه (بسر من رأى) ليؤدب ولده، فلما رآه استبشع منظره، وصرفه بعشرة آلاف درهم. ولكنه بجانب ذلك كان خفيف الروح، ذكي الفؤاد، واسع الاطلاع، وكان يعد دائرة معارف في الآداب والعلوم واللغة والتاريخ حتى أصبح لقبه - الذي كان يكرهه - دليلاً على التبحر في العلم والآداب، والتفوق في فنون البلاغة والبيان، سئل كيف حالك يا أبا عثمان؟ فقال:(حالي أن الوزير يتكلم برأيي، وينفذ أمري، ويواتر الخليفة الصلات إلىَّ. . .) والتاريخ حافل بكثير من العظماء المشوهة أجسامهم، السامية أرواحهم وعقولهم، فلا حاجة بنا إلى التطويل. وكل ما نريد أن نقوله هو أنه إذا نقص الإنسان من جهة حاول أن يكمل نفسه من جهة أخرى.
قوة البيان:
إن قوة البيان، وفصاحة اللسان، وحسن المنطق والقدرة على التأثير في السامع مع رجاحة العقل، تكسب الإنسان شخصية وتجعل له منزلة بين سامعيه، ولذلك لما أُمر سيدنا موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون، شكا موسى العي في القول، وطلب من الله أن يرسل معه أخاه هرون لفصحاته قائلاً:(وأخي هرون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني) يريد فرعون. وإننا لا نريد بالفصاحة والثرثرة والتشدق والتوعر في الكلام، كما لا نريد بها أن يزيد كلام الإنسان على عقله، بل نريد حسن التعبير عما في النفس، وقوة التأثير في المستمع، والتكلم من غير تهيب أو تخوف بحيث يكون الكلام حلواً رشيقاً، سهلاً عذباً مؤثراً. أما العيّ والحصر واللجلجة، والتمتمة والفأفأة وكثرة التردد في القول، والخجل في أثناء التكلم فتقلل من تأثير الشخص في سامعيه. وإن حُسْن التعبير عما في النفس شرط أساسي لقوة الشخصية، وهو يتطلب العلم بالشيء الذي نريد التكلم عنه؛ لأن أفكارنا إذا عرفت كان من السهل التعبير عنها. وكما يجب أن نعرف ما نريد أن نقول، وما نريد أن نفعل، كذلك يجب أن نحسن القول ونحسن العمل. وما أجمل الكلمة الصائبة في اللحظة المناسبة. وكما ينبغي حسن التكلم والخطاب، كذلك ينبغي حسن الإصغاء والاستماع للغير. وقد تكون لدينا الأفكار السامية ولكننا نحتاج إلى شجاعة في إظهارها حتى ينتفع بها غيرنا. . .
محمد عطية الابرشي
بين فن التاريخ وفن الحرب
2 -
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
3 -
أسباب الحروب:
مات رسول الله والإسلام لم يتمكن من قلوب جميع العرب الساكنين في الجزيرة. وادعى بعض الرؤساء النبوة في آخر أيام الرسول، وارتد الكثير من العرب بعد وفاته.
والثابت أن الذين تمكن الإسلام من قلوبهم ولم يتزعزع إيمانهم هم المهاجرون والأنصار وقريش وثقيف والقبائل الساكنة بين المسجدين (المدينة ومكة) على ما يذكره الطبري.
ولم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد، بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، وهي تتلخص فيما يلي: -
(أ) قرب المنطقة التي تسكنها القبيلة من المدينة أو بعدها.
(ب) علاقة القبيلة بالمدينة.
(ج) قرب عهد القبيلة بالإسلام أو بعده.
ولقد ناقش المستشرق الطلياني لئونه كايتاني هذه العوالم في كتابه (تاريخ الإسلام) فصنف العرب من حيث علاقتهم بحروب الردة إلى خمسة أصناف، فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعاً تاماً، وهي القبائل التي تسكن بالقرب من المدينة ومكة وفيما بينهما كجهينة ومزينة وبلي وأشجع وأسلم وهذيل وخزاعة وغيرها.
ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه وقد كان فيها على إسلامها أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة ومن هذه القبائل هوازن وعامر بن صعصعة وطي وسليم وخثعم.
ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسياً لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة. ومن أخطر هذه القبائل بنو أسد وبنو غطفان وبنو تميم الساكنون في مناطق نجد الغنية.
ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة، بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له. فيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها. ومن أخطر هذه القبائل بنو حنيفة وعبد القيس وأزدعمان وأكثر قبائل حضر موت واليمن. أوفد الرسول إليها عمالاً ليمثلوا الإسلام، وليعلموا المسلمين أمور الدين.
أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة. وهي القبائل الساكنة في الشمال كبني كلب وبني تغلب وبني غسان وقضاعة وتنوخ وبني بكر. وبعض القبائل في حضر موت واليمن.
ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ بل من الثابت أن تأثير الإسلام في القبائل العربية كان يختلف باختلاف العوامل التي ذكرناها قبلاً، والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدم رجلاً وأخر أخرى في ذلك فأمسك عن الصدقة، وأخيراً منها من ارتد وطرد عمال الرسول أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان الرسول في حياته قد حرض عماله في اليمن على مقاتلة الأسود العنسي الذي ادعى النبوة واستولى على أكثر مقاطعات اليمن.
أما أبو بكر فرد الوفود التي أتت المدينة وطلبت منه أن يعفيها من إعطاء الزكاة، وقال كلمته المشهودة (والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه) ولما وردت الكتب من أمراء الرسول تنبأ أبو بكر بأن الناس ارتدوا عامة وخاصة وأنهم تبسطوا بالتمثيل فحاربهم.
4 -
قوات الفريقين:
1 -
أهل الرّدة: إذا استقصينا الأخبار التي رواها الرواة توصلنا إلى النتائج التالية:
(أولاً) لم ترتد القبائل الساكنة إلى شرقي مكة وغربها وجنوبها، بل ظلت على الحياد غير
ميالة إلى أحد الفريقين، وهي قبائل كنانة وأزد وبجيلة وخثعم وعك وأشعر وحكم وغيرها.
(ثانياً) تأثر بحوادث الردة القبائل الساكنة إلى شمال شرقي مكة كهوازن وعامر بن صعصعة وجذيلة. أما بنو سليم فقد ارتد الكثير منهم، بيد أن هذه القبائل جميعاً لم تشهر سلاحها في وجه المسلمين.
(ثالثاً) أما قبائل طيء فأنها إلى أي جانب تميل ومع ذلك فان قسما قليلاً منها انضم إلى جيش طلحة الأسدي مدة قصيرة.
(رابعاً) وأما قبائل قضاعة الساكنة إلى شمالي المدينة فأنها شهرت سلاحها على المسلمين.
ومع ذلك لا يصح أن يقال إن هذه القبائل جميعاً ساعدت أهل الردة الذين ثاروا في وسط الجزيرة، بل إن بعضها ظل في منطقته إما على الحياد وإما متردداً لا يحرك ساكناً، وإما أنه طرد العمال الموفدين من المدينة في عهد الرسول.
لذلك لا يجوز اعتبار هذه القبائل من القبائل الساكنة في وسط الجزيرة التي حشدت رجالها وأغارت على ضواحي المدينة، أو أنها تأهبت لمنازلة جيش المسلمين.
أما القبائل التي اشتركت في حروب الردة فعلاً فأليك بيانها:
1) بنو فزارة وبنو غطفان الساكنون إلى شرقي المدينة على طريق نجد. فقد توافد رؤساء هذه القبائل إلى المدينة وطلبوا من أبي بكر أن يعفيهم من الزكاة. ولما لم يجب طلبهم رجعوا فجمعوا رجالهم وتأهبوا لمباغتة المدينة.
2) بنو أسد الساكنون على منتصف الطريق التي بين الحجاز ونجد إلى جنوبي جبل شمر. ويزعم الرواة أن طليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة في حياة الرسول وجمع رجاله في السميراء.
ولما توفى الرسول وامتنعت القبائل من إيتاء الزكاة سعي إلى جمع القبائل حوله، واقترح عينية بن حصن الفزاري ترك المنازعات بين بني أسد وبني غطفان وعقد حلف بين بني فزارة وبني غطفان وبني أسد.
لبي بنو فزارة هذه الدعوة واتحدوا مع بني أسد، وكذلك البعض من بطون طيء أيضاً انضم إلى طليحة، حتى أن رئيس جديلة بن طي، ثمامة بن أوس، جمع خمسمائة رجل وانضم إلى بني أسد.
3) بنو تميم الساكنون في نجد في منطقة القصيم.
وتتألف هذه القبيلة من عدة بطون. ولما بلغها نعى الرسول امتنع أكثر بطونها عن أداء الزكاة. وكان الاختلاف قد دب فيما بينها، ولما ظهرت سجاح من شمالي الجزيرة بجموعها من تغلب مدعية النبوة، ودخلت حتى بني تميم لأنها كانت تمت إليهم بنسب، التف حولها بعض من تميم. ويزعم الراوي سيف بن عمر أنها كلفت مالكا بالمسير معها نحو المدينة للهجوم على أبي بكر. وكان البعض من بطون بني تميم لم يرتد فالتجأ إليه المسلمون الهاربون من البطون الأخرى فقاتل سجاحا ومن معها من بني تميم ومنعها من التقدم نحو المدينة. والرواة يزعمون أنه انتصر عليها وعلى حلفائها من بني تميم وألجأها إلى مغادرة ديار بني تميم والذهاب إلى مسيلمة الكذاب.
(4)
بنو حنيفة الساكنون في اليمامة. ادعى رئيس هذه القبيلة مسليمة النبوة فآمن بنبوته جميع بني حنيفة. ويظهر أن دعوة الإسلام لم تنتشر فيها وكان معظمها مشركا. فلما ادعى مسليمة النبوة آمنت بنبوته. وهي ولا ريب من أخطر القبائل التي اشتركت في حروب الردة وقاتلت المسلمين قتالاً عنيفا. وذاق المسلمون الأمرين في حروبها. ويزعم الراوي سيف بن عمر أن جيش بني حنيفة المحارب بلغ أربعين ألفاً.
ومن العسير معرفة قوات هذه القبائل التي اشتركت في المعارك، والواضح أن قبائل غطفان وفزارة التي حاولت مباغتة المدينة حتى اضطر أبو بكر إلى مقاتلتها كانت دون القبائل شأناً. ولعل القوات التي جهزتها لم تزد على آلفي رجل.
أما القوة التي استطاع طليحة أن يجهزها ويقاتل بها جيش المسلمين فكانت تربو على أربعة آلاف مقاتل، وانضم خمسمائة رجل من جديلة طيء وسبعمائة فارس بقيادة رئيس بني فزارة عيينة بن حصن.
أما بنو تميم فلو اتفقت بطونها وقابلت جيوش المسلمين لبلغت قوتها زهاء عشرة آلاف مقاتل، غير أنها لم تتفق فيما بينهما، بل حارب بعضها بعضاً، ولما وصل خالد بن الوليد بجيشه إلى ديار بني تميم كانت البطون قد تفرقت.
أما بنو حنيفة فكان جيشهم من أقوى الجيوش التي حاربت المسلمين، ومع أن سيفاً يزعم أن قوتهم بلغت أربعين ألفاً، بيد أننا لا نميل إلى اعتقاد صحة روايته، ولعل قوة جيش بني
حنيفة لم تزيد على خمسة عشر ألف مقاتل.
والذي جعل الرواة يبالغون في تقدير جيش بني حنيفة هو وعورة المنطقة التي حارب فيها المسلمون، والحقيقة أن أرض اليمامة أرض وعرة فيها وديان وشعاب وجبال وعقبات وثنايا. والذي زاد في مناعة الأرض القرى المحصنة بالأسوار والحدائق المسورة بالأحجار المكدسة شأن الكثير من قرى العارض والسدير في بلاد نجد.
ب. المسلمون:
جهز الرسول جيش أسامة قبل وفاته بمدة قليلة وكان يقصد إيفاده إلى الشمال. واجتمع الجيش في الجرف في شمالي المدينة، ولما علم بمرض الرسول أجل حركته.
وبعد وفاته أوفده أبو بكر لينفذ الخطة التي رسمها له الرسول في حياته. ونصح بعض الصحابة أبا بكر أن يبقيه لكي يعتز به بعض الإسلام وأراد بعضهم تبديل قائده، بيد أن الخليفة لم يجب طلبهم، ولم يرض أن يبدل ما قرره الرسول. وليس لدينا معلومات موثوق بها عن قوة هذا الجيش، لأن المؤرخين القدماء جريا على عادتهم، بحثوا في قائده والأوامر الصادرة إليه، والغاية المتوخاة من إيفاده وغير ذلك ولم يذكروا مقدار قوته.
وإذا تأملنا في سبب إيفاده، ظهر لنا أن قوته يجب أن تكون كافية. وسبق أن جهز الرسول جيشين لهذه الغاية ذاتها وهما: جيش جعفر بن أبي طالب الذي قاتل الروم في البلقاء في وقعة موتة، وكانت قوته ثلاثة آلاف مقاتل، والجيش الذي قاده الرسول بنفسه ليغزو به تبوك، وقد بالغ المؤرخون في قوته، وزعموا أنه بلغ ثلاثين ألفا، أما جيش أسامة، فهو الجيش الثالث، ونعتمد أن قوته يجب ألا تقل عن خمسة آلاف.
وكان المهاجرون والأنصار نواة هذا الجيش. فالمهاجرون والأنصار عماد الجيش الإسلامي، وهم كالحرس الذي كان يؤلفه الملوك للاعتزاز به في تنفيذ خططهم، إصلاحية كانت أم حربية
واشترك هؤلاء في غزوات الرسول وحروبه من أولها إلى آخرها. وكانوا يؤثرون النبي على أنفسهم في جميع أعمالهم، فكان الإسلام متمكناً من قلوبهم، فلا غرو إذا رأينا الإسلام يقوم على سواعدهم بعد وفاة الرسول، ولعل عددهم كان يتفاوت بين الألف والخمسمائة وبين الألفين لما توفى النبي.
وكان أكثرهم في جيش أسامة، ماعدا البعض منهم فانه بقي في المدينة مع أبي بكر، أو أوفد في حياة الرسول عاملاً أو معلماً أو مبشراً إلى الأقطار العربية النائية، أو جابياً أو معلماً إلى القبائل العربية القريبة.
ويلي المهاجرين والأنصار قريش التي أسلمت بعد فتح مكة وأبلت بلاءً حسناً في الإسلام بعد ذلك. أجل، إنها لبت الدعوة أخيراً وقسراً، إلا أنها اقتنعت أن عز الإسلام من عزها فناصرت الرسول في حياته من أعماق قلبها، حتى أن الرسول بعد فتح مكة رضى أن يظل البعض من قريش مشركاً حتى يفتح الله قلبه، ومع ذلك لم يحجم هذا البعض عن الجهاد معه في غزوة صفين أو في محاصرة الطائف.
ولعل القوة التي كانت قريش تستطيع أن تجهزها للقتال زادت على ألفي مقاتل على أقل تقدير.
ويلي قريشاً القبائل الساكنة بين الحرمين، مكة والمدينة، وهي التي ناصرت الرسول في دعوته. وقد اشترك بعضها في الغزوات، وجاهدت أخيراً في حروب الرسول. فقربت هذه الحروب بينها وبين المهاجرين والأنصار وربطتهما برباط متين. فلا مندوحة إذن من أن نرى أبا بكر يدعوها إلى الجهاد لما كان جيش أسامة بعيداً عن المدينة، فلبت دعوته راغبة مطيعة، وهذه القبائل هي: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب وغيرها.
ولعل القوة المحاربة في هذه القبائل لم تزد على ثلاث آلاف.
وتليها قبيلة بني ثقيف الساكنة بين مكة والطائف وهي خير من أسلم من قبائل الحجاز. واشتهرت بشدة مراسها وصلابة عودها؛ وكانت تعتز بعاصمتها الطائف المسوَّرة. ولم ترتد ثقيف على ما سبق ذكره، بل بقيت متمسكة بالإسلام، وكانت قوتها المحاربة تقدر بأكثر من آلفي مقاتل.
هذه خلاصة القوات التي كان الخليفة يعتمد عليها في محاربته أهل الردة. وقد ظهر لك أنها كانت تبلغ عشرة آلاف متى تيسر جمعها. والواضح أن جيش أسامة بن زيد كان مؤلفاً من معظم المهاجرين والأنصار وبعض رجال القبائل. وذلك لما كان أسامة بعيداً عن المدينة إذ أخذت القبائل المرتدة الواقعة إلى شرقي المدينة تهددها.
ولعل من الفائدة أن نذكر بهذا الصدد مقدار القوات التي استطاع الرسول أن يجمعها في
حروبه:
كانت قوة المسلمين في غزوة بدر لا تزيد على ثلاثمائة رجل؛ أما في غزوة أحد فكانت زهاء الألف، وفي غزوة الخندق بلغت ثلاثة آلاف. أما في فتح مكة إذ ظهرت سطوة الإسلام، وقويت شوكة المسلمين فكان جيش المسلمين عشرة آلاف، نواته المهاجرون والأنصار، وقوامه رجال القبائل الضاربة إلى شرقي المدينة وشمالها وجنوبها.
ويزعم الرواة أن جيش الرسول بلغ ثلاثين ألفاً في غزوة تبوك، كان عشرون ألفاً منه رجالاً وعشرة آلاف فرساناً. أجل إن الموقف العسكري كان ملائماً لمبادرة رجال القبائل إلى الالتفاف حول راية الإسلام للهجوم على بلاد الشام وهي المشهورة بخيراتها، وذلك يجعل جيش المسلمين يصل إلى حده الأقصى، إلا أننا لا نظن أنه بلغ القوة التي ذكرها الرواة، ولعلها بلغت أكثر من خمسة عشر ألفاً.
ولما امتنعت القبائل العربية عن أداء الزكاة وارتد البعض منها لم يكن في وسع الخليفة أن يجمع كل القوات التي يستطيع أن يعتمد عليها على ما سبق بيانه. لأن جيش أسامة كان في الشمال، وفيه نخبة الجنود المجاهدين. أما قريش وثقيف فكانتا بعيدتين عن دار الحركات، لذلك دعا أبو بكر القبائل الضاربة بين المدينة ومكة أولاً؛ ولما رجع جيش أسامة استنجد به. ثم أخذ رجال قريش وبعض ثقيف ينضمون إلى الحملات.
ومن الثابت أن قوة المسلمين كانت جد ضعيفة لما تأهب بنو غطفان وفزارة للهجوم على المدينة، ولعلها لم تجاوز بضع مئات.
(يتبع)
طه الهاشمي
من مشاهداتي في أوربا:
معجزات طبيب
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
في بطن واد من وديان بلاد النمسا بين التلال والسهول المكسوة بالأشجار الباسقة والخضرة الضاربة، قرية صغيرة كانت قبل خمس سنوات مجهولة لا يطرقها طارق، ولا يذكر اسمها ذاكر. ولكنها أصبحت منذ سنة 1929 محط الرحال، ومهبط الآمال، تعرفها شعوب الأرض قاطبة، ويحج إليها المريض الأوربي إنجليزياً كان أو ألمانياً أو إيطالياً أو تركياً أو مجرياً كما يحج إليها مرضى القارات الأخرى أمريكا واستراليا وآسيا وأفريقيا، تلك هي قرية جالزباخ الصغيرة التي تبعد عن فينا أربع ساعات في القطار، وتعلو عن سطح البحر بنحو300 متر تقريباً.
عرفت تلك القرية منذ أنشأ فيها (فالنتين تسايلايس) رجل المعجزات والعجائب كما يسميه أفراد تلك الشعوب، مصحته العظيمة التي كلفته نحو الأربعين ألفاً من الجنيهات. وإذا كان تسايلايس استطاع بمهارته وقدرته ومخترعاته أن يعالج بالألكتروراديوم الأعمى فيبصر، والأخرس فينطق، والمقعد فيمشي، والأشل فيبرأ، وغير ذلك من المرضى فيشفون، فقد حق لتلك الشعوب أن تطلق عليه اسم الساحر أو طبيب المعجزات والعجائب.
ولقد مكنت لي الظروف صيف هذا العام أن أتعرف إلى الكثيرين في تلك المصحة من المرضى النازحين إليها من مختلف شعوب الأرض، بعضهم لعلاج العمى، وبعضهم لعلاج الشلل، وبعضهم لعلاج الربو، وهكذا من شتى المرضى بالعاهات المختلفة، ورأيت فيهم جميعاً روحاً غريبة هي روح الثقة بالشفاء على يدي هذا الرجل إن عاجلاً أو آجلاً، كل حسب شدة المرض عنده. وقد تحدثت هنالك إلى رجل نمساوي كان أعمى وأبصر، فعلمت منه أنه مستمر في العلاج بالألكتروراديوم لتحسين قوة نظره، وهو يتطوع أبداً لقيادة العميان وأخذهم في صف واحد ممسكاً كل واحد منه بقميص الآخر من الخلف في دخولهم إلى حجرة العلاج وخروجهم منها. كما أني تحدثت مع فتى إنجليزي، وآخر ألماني، كان كل منهما أشل لا يستطيع أن يحرك نصفه الأيسر، وبعد العلاج مرتين أو ثلاث مرات أصبح كل منهما قادراً على المشي بعرج بسيط، وكلاهما يأمل في الشفاء التام بعد تكرار
العلاج مرة أخرى أو مرتين، وهناك فوق هؤلاء وهؤلاء عشرات من الشيوخ الذين يحجون إلى مصحة هذا الساحر لاسترجاع شبابهم واستعادة قوتهم. وقد قابلت هناك من المصريين عبد الرحمن فهمي بك السكرتير السابق للوفد المصري، وقد ذكر لي أنه كان يعالج عينيه مما يسمى بالذباب الطائر، وأنه قد برئ منه، وأن هذه سابع مرة يحج فيها إلى تلك المصحة لأنه يشعر بعد كل مرة أن الشباب والقوة يتدفقان في جسمه، وقد حدثني كثيراً عما رأى من معجزات تسايلايس، وكان مما ذكره أنه رأى اخرس علاجه هذا الرجل بطريقته الشاذة العجيبة حتى أنطقه. ورأيت هناك أيضاً من المصريين أحمد حجازي بك عضو مجلس النواب السابق وأسرته لأول مرة له، ليعالج نفسه من الربو، وليعالج كريمته التي عجز نطس الأطباء في أوربا عن شفائها، وهو وإن لم تطل مدة إقامته هناك إلا أنه ذكر لي أنه استفاد فائدة محسوسة من العلاج، وأنه لابد أن يعود في العام المقبل مع كريمته ليستأنف علاجها مدة حتى تشفى على اعتقاده نهائياً. أما أنا وصديقي الأستاذ علم الدين القوصي فقد جمعتنا ظروف المرض العصبي الذي عجز أطباء مصر عن علاجه، فقصدنا لأول مرة تلك المصحة حسب نصيحة الدكتور يوسف قابيل مأمور القنصلية المصرية بفينا، والذي نسجل له على صفحات الرسالة جزيل شكرنا على ما لقيناه منه من مساعدة ونصيحة. قصدناها فعالجنا الساحر النمساوي ثلاثة أسابيع بالألكتروراديوم، فأحس كل منا بالتحسن الكبير في صحته، وعدنا شاكرين الله سبحانه على اهتدائنا لهذا الطبيب.
وقد حصلت على إحصاء رسمي عن آلاف المرضى الذين عولجوا في تلك المصحة في خمس سنين من سنة 1929 إلى سنة 1933 فكان كالآتي.
سنة 1929: 10100مريض، سنة 1930: 16354مريضاً، سنة 1931: 10155مريضاً، سنة 1932: 12092مريضاً، سنة 1933: 7670مريضاً، وكان عدد المرضى في شهور سنة 1934 كالآتي.
يناير 364، فبراير 304، مارس 416، أبريل 602، مايو 604، يونيه 725، يوليه 883.
والذي يتتبع هذا الإحصاء يرى تناقصاً في العدد في سنتي 1933، 1934 ويرجع السر في ذلك إلى إقفال الحدود النمساوية الألمانية، فقد قررت حكومة ألمانية في يونيه سنة
1933 على كل ألماني يرغب في اجتياز الحدود النمساوية أن يدفع ألف مارك، أي نحو 75 جنيهاً، فكان هذا سبباً في صد تيار الألمان الذي كان يتدفق قبل ذلك إلى جالزباخ، ويكفي للدلالة على ذلك أن تعلم أن عدد الأجانب الذين هبطوا تلك القرية أخذ في التناقص من 74 % من جميع المرضى في سنة 1929 إلى 55 % في سنة 1933 إلى 47 % فقط في شهور سنة 1934.
أما تسايلايس ومصحته وطريقته في العلاج فقد أثارت ضجة
عظيمة في الجرائد الأوربية عامة والنمساوية والألمانية خاصة
بين سنتي 1929، 1931، وقد اطلعت على بعض المقالات
التي نشرت في الجرائد الإنجليزية تحت عناوين مختلفة، منها
مقالة في (الديلي ميل) بتأريخ 17 12 1930 تحت عنوان
(عمليات بالآلة الكهربائية) أطرت فيها استخدام الكهرباء بدل
المشرط في العمليات الجراحية، ومقالة أخرى طويلة في
تحت عنوان (معجزات النمساوي صاحب العصى السحرية)
وغيرها مما لا يتسع المقام لتفصيله. وسنأتي فيما بعد على
طرف من أخبار انتصاره على أساتذة الطب في النمسا
وألمانيا، كما سنذكر شيئاً عن الطرق التي يستخدمها في
العلاج والأمراض التي يعالجها.
عبد الحميد فهمي مطر
3 - الشريف الأدريسي يضع أقدم وأصح خريطة
جغرافية للدنيا القديمة
للأستاذ محمد عبد الله ماضي عضو بعثة تخليد ذكرى الإمام محمد
عبدة بألمانيا
تتمة
13 -
الأستاذ كونراد ميللر يُعنى عناية خاصة بدرس خريطة
الإدريسي وطبعها طبعة ملونة لأول مرة.
لم تخف قيمة هذه الخريطة العلمية والفنية على علماء الجغرافيا المستشرقين، فالكثير منهم قد اشتغل بدراستها في مختلف العصور، وكلنهم شغلوا أنفسهم بنواحي خاصة منها، ولم يجر واحد منهم بحثا شاملا مستقصيا مع اعترافهم جميعا بمنزلتها وتقديرهم لها.
ومازالوا على طريقتهم هذه ولم يخرجوا عنها إلى أن أتى
الأستاذ كونراد ميللر فأجرى عن هذه الخريطة البحوث
المستفيضة وكتب عنها الفصول الطوال التي استغرقت أعداداً
كاملة من مجموعته العربية تلك المجموعة التي ضمنها
أبحاثه في الجغرافية العربية، ثم توج هذا العمل الجليل الذي
نشكره عليه ونقدره له بطبع الخريطة سنة 1928 لأول مرة
طبعة ملونة. أبرزها في تلك الحلة الفاخرة المتناسبة الأجزاء،
فدل على المدن بدوائر ملونة باللون المذهب، ورسم الأنهار
والبحيرات بلون أخضر فاتح، والجبال بألوان مختلفة أحمر
وأصفر وبنفسجي إلى جانب بعضها، كل هذا فوق أرضية
فاتحة اللون تدع نفسها متميزة بوضوح عن لون البحار
المدلون عليه باللون الأزرق السماوي المموج بخطوط رفيعة
بيضاء، كما أنها تساعد على تحديد المسالك بعضا عن بعض
بسهولة. ولقد كتب أسماءها بحروف لاتينية مميزاً الأقاليم
السبعة بخطوط رفيعة حمراء وجعل طولها مترين وارتفاعها
متراً تقريباً. وبهذا تكون مساحتها 47 مساحتها الأصلية التي
قدمنا أنها كانت بطول ثلاثة أمتار ونصف متر، وارتفاع متر
ونصف متر تقريباً. وهذا وقد يظن أن المساحة الأصلية كانت
كبيرة بشكل زائد على اللزوم، ولكن سوف يتلاشى هذا الظن
إذا علمنا أنها تتضمن من أسماء المدن فقط التي كانت مائجة
بالعمران في ذلك العصر 2064 اسماً: (365) بأفريقيا،
(740)
بأوربا، (959) بآسيا، ويوجد بين هذه الأسماء كل
أسماء المدن الشهيرة المهمة في ذلك الوقت.
قبل هذه الطبعة لم تكن الخريطة موجودة بشكل تام مشتبكة الأجزاء بعد فقدان الأصل للخريطة الحائطية، وإنما كانت موجودة في قطع متفرقة داخل كتاب نزهة المشتاق أو مستقلة بذاتها. ومجموع هذه القطع الموجودة إلى الآن منها يبلغ 255 قطعة كما ذكر الأستاذ ميللر، توجد بمكاتب باريس وأكسفورد وأستانبول وليبننجراد والقاهرة؛ وكانت هذه القطع من الأصل الذي طبع عنه الأستاذ ميللر تلك الطبعة التي بين أيدينا.
وهناك خريطة أخرى تدعى الخريطة الإدريسية الصغيرة طبعها الأستاذ ميللر كذلك في مجموعته، وهي ليست لصاحبنا الإدريسي وإنما هي لابنه محمد وضعها سنة 1192، واسمها روض الفرج. ولقد وجدها بعض الباحثين كذلك في أستانبول في 73 قطعة، وإذا وازنا بينها وبين خريطة والده فأننا نجده قد أخذها صورة طبق الأصل عنها بشيء يسير من التغيير، ومع هذا فقد فاتته عناية والده في الرسم.
14 -
خريطة الشريف الإدريسي اقدم خريطة عالمية يعرفها
التاريخ. موازنات بينها وبين بعض الخرائط وباق مميزاتها.
بقى أن نذكر مع الفخر والإعجاب أن الخريطة الإدريسية أقدم خريطة عالمية صحيحة كبيرة مفصلة وموضوعة بغاية الضبط والإتقان والوضوح عرفها التاريخ إلى الآن. نعم لقد وصل إلى أيدي علماء الجغرافيا خريطة من عهد قياصرة الروم لها من العمر ضعف ما للخريطة الأدريسية وهي خريطة (بويتنجر) التي وضعت في عام 365 بعد الميلاد، ولكنها ليست خريطة عالمية للدنيا القديمة كخريطة الإدريسي، وإنما هي خريطة لبيان طرق المواصلات فقط، فضلا عن أن المدن والمحطات التي ذكرتها أصبحت كلها أنقاضاً لا يعرف لها أثر، فالناظر إلى هذه الخريطة وإنما يستطيع أن يتصور موضعها بالتقريب. وإما خريطة الإدريسي فهي فوق كونها عالمية تمثل الدنيا القديمة، وبالرغم من أنها تبلغ من العمر نحو ثمانمائة سنة فكل المواضع التي ذكرتها يستطيع الباحث أن يعثر عليها ويتثبت منها إلى الآن، ومازال أغلبها يعرف بنفس الأسماء التي ذكرها الإدريسي إلى يومنا هذا. نحن لم نرث من العصر القديم خرائط جغرافية عالمية وإن كان قدماء اليونان قد وضعوا خرائط من هذا النوع مبنية على طريقة فلكية متقنة، وأشهرها خريطة الدنيا لبطليموس التي تزيد على خريطة الإدريسي بألف سنة في القدم، ولكنها ليست خريطة للدنيا بالمعنى الذي نعرفه ولا على منهج خريطة الإدريسي تبين الممالك ومواقعها إلى آخر ذلك، وإنما هي خريطة للدنيا بمعنى أنها تعطي نظرة عامة فقط في الدنيا القديمة وتبلغ مساحتها 35 سنتيمتراً في 52 سنتيمتراً. هذه الصورة التي أعطتها خريطة بطليموس ظلت معتبرة في بلاد الشرق والغرب إلى آخر العصر المتوسط. ولقد اخذ الإدريسي حدودها
واستعان بها عند وضع خريطته، ولكن من حسن الحظ كما عبر الأستاذ ميللمر أن الإدريسي قطع النظر بالكلية عما احتوته خريطة بطليموس بعد الصورة والتحديدات العامة تنفيذا لأمر رجار الثاني، نقول من حسن الحظ لأن الأسماء التي ذكرها بطليموس في خريطته على كثرتها غير مطابقة للواقع بأكثر من 1 % مع التسامح في هذا النسبة، وكذلك درجات العرض والطول المثبتة في خريطة بطليموس تختلف عن الحقيقة بمئات من الأميال، لهذا كان من الحكمة والسداد قطع النظر عما أثبت في تلك الخريطة بالكلية، وكذلك فعل الإدريسي ووصل بمجوده المستقل إلى أن يعطينا صورة صحيحة مطابقة للعصر الذي عاش فيه بما لا ينتظر خيراً منه. الأمر الذي جعل لتقسيمات الممالك في الخريطة الإدريسية وللتقسيمات السياسية على الإطلاق قيمة علمية فائقة. نعم أظهر بطليموس مقدرة العالم الفلكي عند وضعه لخريطته في الوقت الذي أثبت فيه درجات العرض والطول بناء على حساباته العلمية المبنية على القواعد بمقدار لم يصل إليه الإدريسي، ولكن هذا لا يغنيه شيئاً بجانب عدم التحري للحقيقة. وعند الموازنة بين خريطته وبين خريطة الإدريسي نجد أن بطليموس اثبت خطوط العرض والطول معاً ولكنها تختلف عن الواقع بشكل غير مقبول. أما الإدريسي فأنه اثبت درجات العرض فقط ولكن بعد قياسات صحيحة، فهي مطابقة للحقيقة بمقدار يدعو المقدر للخريطة الإدريسية علمياً إلى أن ينظر إليها بعين الإكبار والإجلال. وأما خطوط الطول فقد ترك إثباتها الإدريسي عن قصد، إذ تبين له أن مقادير المقاييس التي وصلت إليه غير صحيحة، ولأنه لم يتيسر له بعد هذا إجراء قياسات أرضية لبيان درجات الطول وقياس الكرة السماوية، وإن كان في الاستطاعة فانه لا يعطي نتيجة مقطوعاً بها.
هناك خريطتان أخريان
(1)
خريطة نسبة للدير الذي وجدت فيه بمدينة هانوفر من أعمال ألمانيا.
(2)
خريطة التي وجدت بإحدى كنائس هرفورد بإنجلترا.
وهاتان الخريطتان بالرغم من أنهما وضعتا بعد الخريطة الإدريسية بمائة سنة فلم تكونا عملاً علمياً، وإنما كانتا عبارة عن تخطيطات زخرفية كما عبر الأستاذ ميللر، تمثلان شيئاً من العصور السابقة لعصرهما، غير محتويتين إلا على شيء يسير من الجغرافية
المعاصرة لهما.
لعل القارئ يتساءل الآن عن مقياس الرسم للخريطة الأدريسية، وهنا أقول إن مقياس الرسم بالمعنى الحديث الذي نعرفه والذي بمساعدته يستطيع الإنسان أن يعرف مساحة جهة من الجهات بقياس مساحتها فوق الخريطة، مقياس الرسم بهذا المعنى لا نجده في خريطة الإدريسي، وهو طبعاً لم يوجد في جميع الخرائط القديمة، وإنما وجد بعد وضع خريطتنا بمئات السنين. على أن الإدريسي قد أشار إلى طريق الوصول إلى معرفة مثل هذا المقياس الحديث. الإدريسي ذكر درجات العرض وقدر الدرجة بخمسة وعشرين فرسخاً، والفرسخ بثلاثة أميال، وعليه فالدرجة 75 ميلاً، ولكن الذي لم يذكر قدره الإدريسي هو الميل، فان قدرنا الميل بما كان معروفا عند الروم وهو كيلو متر ونصف تكون الدرجة مقدرة عنده بـ 112. 5 كيلو متر، وبهذا يكون الإدريسي أعطانا مقياس الرسم لخريطته بشكل واضح.
في الختام أريد أن أذكر لحضرات القراء بعض المميزات التي تزيد في قيمة الخريطة الإدريسية، وقيمة شرحها نزهة المشتاق:
(1)
تجنب الإدريسي ذكر الخرافات التي كانت شائعة في العصر المتوسط، والتي تورط في ذكرها غيره من المؤلفين. ولقد كان من حنكته أنه إذا ذكر شيئاً خارجا عن حدود العادة نسبة إلى ناقله، ثم أعقبه بكلمة احتياط كقوله: والقادر على كل شيء أعلم بما في هذا من الحقيقة. ولم يرسم ما كان شائعاً رسمه عند علماء الجغرافية مما يمثل الغرائب الخرافية، وطبعاً كان لتعاليم الإسلام الفضل الأكبر في هذا.
(2)
انفردت خريطة الإدريسي بأنها هي الخريطة الوحيدة التي تعطينا صورة صحيحة عن البلاد الواقعة حول البحر القزويني وصحراء العجم في مدة من الزمن تبلغ نحو قرن، هذه المدة التي لولا خريطة الإدريسي لظلت حلقة مفقودة في تاريخ هذه البلاد.
(3)
إن خريطة الإدريسي وحدها هي التي مثلت لنا دولة الإسلام العربية وهي في عصرها الذهبي، تلك الدولة التي كان حظها حظ المائدة الفضية التي علم خبرها والتي قضى عليها في وقت وجيز على يد التتار والمغول. فما لم تصل إليه يد جنكيز خان بالتدمير من المدن الغربية وحضارتها إلى عام 1219 ميلادية صعقته يد هولاكو التتري يوم ضرب العواصم الإسلامية، وترك جنوده يعيثون في بغداد فساداً في فبراير سنة 1258 سبعة أيام كاملة،
قتلوا فيها أهلها، وخربوا عامرها، وحرقوا كتبها أو أغرقوها.
ومن هذا الوقت تغيرت العواصم، وتبدلت الأسماء وخلفت الدولة العربية دول المغول والأتراك، وأخذت الخرائط التي وضعت بعد ذلك وجهاً آخر جديداً. فالخريطة الإدريسية إذن هي آخر تمثال لدولة العرب الغابرة يلهمنا العظة ويحدثنا عن فتوحهم وعن مجدهم وفخارهم بأنصع عبارة وأجلى بيان.
وإنني في الختام أدع الحكم على قيمة هذا العمل العلمي الكبير، وعلى مجهودات الإدريسي ورجار المشكورة لرجل خبير درس الخريطة وشرحها (نزهة المشتاق) دراسة وافية، لرجل لم يجر في عروقه الدم العربي، ولا مجال لاتهامه بالتحيز في حكمه، ذلك هو الأستاذ (كونراد ميللر) إذ يقول في آخر بحث أجاره لشرح الخريطة ما معناه:(إن رجار الثاني والإدريسي بوضعهما لهذه الخريطة قد وضعا أهم حجر أساسي في تاريخ انتشار العلم الإنساني) واليكم عبارته بالنص الألماني:
، ، ،
أما كلمتي أنا فأني أوجهها إلى ورثة الأمة العربية، وأخص شباب مصر الناهض وأبناءها البررة العاملين، أوجهها إلى هؤلاء جميعاً بعد أن نشرت بين أيدي القراء صحيفة ناصعة من صحائف أسلافنا الأمجاد، وبعد أن عرضت عليهم بعض ما يجعلنا نعتز بتاريخنا، ونفخر بماضينا، وأناشد هذا الشباب المصري ليجدَّ في العمل كل في ناحيته راجياً أن نوفق في مسعانا، ونربط حاضرنا بماضينا لنصل بوطننا العزيز بمشيئة الله وعونه إلى مكانه الذي أخذه فوق ذروة المجد، وعلى قمة العلياء تحت قيادة مليكنا المحبوب قائد النهضة وحامل لوائها في مصر والشرق.
محمد عبد الله ماضي
لننشد الجمال!
للأديب حسين شوقي
في مقدور شبابنا اليوم ولاشك أن يتعلموا في مصر تعلماً صحيحاً بفضل الجهود التي بذلتها حكوماتنا في السنوات الأخيرة لاستجلاب الفنيين والأساتذة الأعلام من الخارج. . حتى زادت بفضل ذلك نسبة المتعلمين في مصر زيادة عظيمة، وهو أمر محمود بطبيعة الحال، ولكن. . . مما يؤسف له عدم اكتراث أولياء الأمور المسيطرين على تربية النشء بتنمية الذوق. . . أجل، الذوق أهمل أمره في مصر إهمالاً شائناً. . . إنهم يزوّدون الشباب بمختلف العلوم، ليدخلوا بها الحياة، ولكنهم لا يحببونهم في الحياة نفسها. . إنهم لا يرشدون الشباب إلى ما في الحياة من أسباب الجمال، مع أن الحياة الخالية من الجمال هي طعام خالٍ من الملح. . .
يجب أن يتذوق الناشئ ما في الطبيعة التي تحيط به من جمال رائع، لأنه كلما أنعم النظر فيها، وتذوق جمالها، ازداد عبادة للخالق تعالى وتقرباً منه، فاستقامت بذلك أخلاقه بلا حاجة إلى واعظ أو مرشد. . .
على طالب النبات قبل أن يدرس السماد الكيماوي الذي يزيد في إنتاج زهرة ما، أن يشم عبق هذه الزهرة، وأن يملأ ناظريه من ألوانها البهجة. .
كذلك على طالب علم الفلك المنهمك في تقدير عمر القمر، أن ينظر قبل هذا إلى جمال خيوط القمر الفضية وهي منعكسة على سطح الماء، أو على رمال الصحراء، وقد تلألأت كالماس النقيّ.
كذلك يجب أن يرشدوا النشء إلى ما في الطبيعة من تآلف رائع غريب في الألوان، سواء في الزهور أو في الحيوان. . حتى إذا كبر الطفل. . صار ذوقه سليماً، فلا يلبس مثلاً حذاء أبيض على رداء أسود. . .
كذلك ليتهم أرشدوا الأبناء إلى العناية بالطعام! يجب أن يتعوّدوا تنسيق المائدة بالأزاهير الناضرة، حتى يدخلوا الغبطة على قلوبهم. أليس لنا أسوة في آبائنا الأولين - المصريين القدماء - الذين كانوا يتناولون الطعام على أنغام الموسيقى الشجية. تلك العادة اللطيفة التي ورثها عنهم الأوربيون؟. .
كذلك يجب اهتمام النشء برشاقة أجسامهم، فحذار ثم حذار من السمن الذي يشوه الشباب، فضلاً عن أنها مضرة بالصحة إذ تسبب مع الزمن أمراضاً كثيرة للجسم. .
ويا حبذا لو شجعوا ميول الشباب منذ الحداثة إلى الفنون الجميلة!. فإذا آنسوا مثلاً ميلاً في طفل إلى عادة التصفير لقّنوه الموسيقى. . وإذا رأوا في آخر حب إقتناء الصور علموه الرسم. .
اذكر بهذه المناسبة الواقعة المؤلمة الآتية التي حدثت منذ سنوات قليلة لأحد طلبة الطب الشرقيين في لوزان:
كان هذا الطالب يكشف على مريض تحت إرشاد أستاذه، فلم يرق للأستاذ طريقة نقر الطالب على بطن المريض، بل وجدها غليظة فقال له:
انقر على بطنه كأنك تلعب على البيانو. .
فأجاب الطالب: ولكني لا أعرف البيانو. .
- إذن أي فرع من الموسيقى تعرف؟.
- لم أتعلم الموسيقى بتاتاً!!.
- إذن كيف قضّيت شبابك؟.
فخجل الطالب ولم يعرف كيف يجيبه. .
كذلك علينا أن نوفر على النشء في المستقبل، مشاهدة بعض المناظر المؤلمة في مجتمعنا الحاضر. .
ويا لله مما في مجتمعنا من مضحكات!.
هذا مغرم بالمظهر. . يقتني سيارة فخمة تبهر الأنظار، بينما الدجاج يسرح في حجر داره. . وأثاثه ليس له طراز معروف، وإنما هو طراز (الشيخ أحمد) كالذي يفرش في المآتم والأفراح. .
وذاك يبني داراً فخمة، فلا يترك مكاناً لحديقة، إذ ماله ومال الأزهار والأشجار وهي لا تزيد على كونها حشائش في نظره تنبت بكثرة في أطيانه الواسعة؟. .
كرمة ابن هاني
حسين شوقي
في الأدب الدرامي
9 -
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
الملهاة
تعريفها: الملهاة تمثل حادث منتزع من الحياة العامية يبعث اللهو ويثير الضحك. وموضوعها الجهة الوضيعة من طبائع الناس وعادات المجتمع ونقائص الحياة. أما جهة الإنسان الرفيعة ونكبات الدهر الفظيعة وجرائم الهوى السفيه فموضوع المأساة. ويخيل إليّ أن الفرق بين الملهاة والمأساة لا يزال غير واضح ولا محدد، فيحسن هنا أن نفصل القول فيه. فالملهاة تختلف عن المأساة في المبدأ والواسطة والغاية. فمبدأ المأساة حساسة الإنسان وشعوره، وواسطتها التأثير، وغايتها الرهبة من الهوى المضل، والرعب من الجرم الفظيع، والرغبة في الخلق الكريم. وأما الملهاة فمبدأها خباثة الإنسان وضعفه، وواسطتها السخرية والضحك، بأن تنظر إلى عيوب الناس نظرة الضاحك الساخر مادامت غير مؤلمة فتثير الرحمة، ولا محنقة فتثير البغض. ولا مخطرة فتثير الفزع. ثم تصور هذه النقائص بمهارة ودقة، وتستعين على تقوية هذه الصورة بالمفارقات والمفاجآت لتكون مثاراً للاستهزاء والضحك. ولا ريب انه كان أجدر بنا وأنفع لنا أن نقابل عيوب الناس بالرثاء الأخوي والنظر الفلسفي بدلاً من هذه الضحكة الهازئة، ولكنهم وجدوا أن أقرب الطرق وأنجع الوسائل أن يستخدموا فساد بعض الناس في إصلاح فساد الآخرين، كما تستخدم ذبابة الحجر من الماس في صقل الماس نفسه. وإصلاح العيوب بالعيوب هو غاية الملهاة. ومن الناس من يفرق بين الملهاة والمأساة بكيفة الأشخاص وكمية العواطف، فيقولون إن أشخاص المأساة من طبقة الخاصة، وأشخاص الملهاة من طبقة العامة، وإن درجة العواطف في الأولى قوية وفي الأخرى ضعيفة، وذلك فرق لا يميز ولا يوضح، لأن الآلهة والملوك قد يتخذون في بعض الأحيان أضاحيك كما ترى في رواية (امفتريون) لمولير، ولأن اليأس القاتل الذي استولى على بخيل موليير حينما فقد خزانة ماله، لا يقل في درجته وشدته عن يأس فيلوكتيت سوفوكليس حينما خطفوا منه سهام هرقل.
إن النوازل الفادحة والمهالك الجائحة والعواطف الخارقة مرايا المأساة ودلائلها، ولكن المنافع الخاصة والأخلاق العامة والعيوب الشائعة كيان الملهاة وخصائصها، فالأولى صورة من التاريخ، والأخرى صورة من المجتمع، والرذيلة تدخل في باب الملهاة إلا وهي مضحكة محتقرة. فإذا كانت ممقوته مضرة دخلت في باب المأساة. فموليير جعل المنافق المحتال شخصاً مضحكا في (ترتوف)، وشكسبير جعله شخصاً محزناً في (جلوسستر)، وذلك بالطبع راجع إلى طبيعة النفاق والحب في الحالين.
سبب الضحك في الملهاة: سبب الضحك هو خطأ حقيقي أو
ادعائي لا ضرر منه ولا تبعة له. فنحن وإنما نضحك إذا
لحظنا بين الشيء وبين الواقع اختلافاً لا يكون فيه مضرة
لأحد.
فالرجل المفلس الذي يظن نفسه كفؤاً لأن يعلم الناس جمع الثروة، والشيخ المتهدم الفاني الذي يتصابى في مشيته، ويتظرف في لهجته، يبعثان على الضحك ويستوجبان السخرية، لأنهما يريان الأشياء على غير حقيقتها. والدمامة في ذاتها ليست مضحكة، وإنما تصبح كذلك إذا ظن الدميم نفسه جميلاً، أو رجا أن يظنه الناس كذلك. ولهذا السبب نفسه نضحك من اريجون بخيل موليير حين يطبق على خزانته ما يقوله له فالير عن ابنته، وكذلك نضحك من (مينالك) لابرويير حين أخذ نعله وهو يحسبه كتاب القداس، كما حدث لأحد إخواننا من المعلمين الكهول إذ وضع (دفتر التحضير) في شباك المرحاض بجانب قطعة بالية من قفة خوص. ولما قضى أمره سها فأخذ (البرش) بدل الدفتر، ودخل به الفصل فكركر التلاميذ في الضحك من هذا السهو الغريب.
على أن حدوث السهو أو الخطأ من إنسان لا يكفي في حدوث الضحك، بل لابد أن نلحظ ذلك الخطأ منه، وندرك التباين بين فكرته عن الشيء، وبين حقيقة ذلك الشيء نفسه. فإذا اتفق أن أحد الناس لم يفطن إلى هذا الخطأ لفتور ذهنه أو قلة علمه بقى جاداً لا يضحك ولا يبتسم. وذلك سبب ما نرى من أن الشيء يضحك بعض الناس ولا يضحك البعض الآخر. ولا يلزم أن يكون الخطأ المضحك حقيقياً، بل يكفي أن نراه نحن كذلك، أو يتظاهر
المضحك بأنه غلط في شخص أو في شيء. والمازح إذا أراد أن يمزح فإنما يدعى الحماقة والسذاجة وهما مصدر السهو والخطأ. كذلك يجب ألا يكون لهذا الخطأ تبعة محزنة ولا نتيجة مشئومة كما ذكرت من قبل، وإلا أثار الرعب والإشفاق، بدل أن يثير الجذل والضحك. فميروب حين أخطأت في ولدها فظنته قاتلاً، وأرادت أن تقتله لم يضحكنا ما تفعل، وإنما ملأ قلوبنا رعباً وخشية؛ والمتكبرون لا يضحكون من أنفسهم إذا أخطأوا، لأنهم يجدون في هذا الخطأ جدعاً لكبرهم وإهانة لصلفهم فيتألمون.
ومنشأ الخطأ الذي يولد الضحك إما نقص في الخلق، وإما ضعف في الذكاء، وإما ظروف خارجة عن شخص المخطئ. والخطأ يستتبع في أكثر الأحوال أقوالاً وأفعالاً تخالف المرعي من العادة أو العرف أو القوانين أو الذوق؛ وتلك هي السمات التي تحدد لك أخلاق الملهاة. ففي ملهاة (المتوحش) لموليير تجد كل ما يقوله (ألسِسْت) ويفعله مناقضاً للعادة الجارية، لأنه فقد قوة الحكم على الأشياء، فبالغ في تقدير الفضيلة إلى حد أن يرى فيما أجازه العرض وأمضاه خطورة ليست فيه.
أنواع الملهاة: الملهاة ثلاثة أنواع: وهي الملهاة الإشكالية ' وتؤلف من الحوادث المضحكة الغربية المتشاكبة المعقدة التي تأخذ على المشاهد أنفاسه وتملك حواسه، حتى تنتهي بحل مرغوب غير متوقع. فالحوادث روحها وقوتها. أما وصف العادات، وتصوير الأخلاق، فهما في المحل الثاني منها، كملهاة المريض الواهم، والطائش، والحضري الشريف لمليير، والملهاة الاجتماعية وتؤلف من الهزؤ بخيال الناس وسخف المجتمع، وتصوير ما أحدثته العادات السيئة في الأخلاق من تشويه ومسخ، وذلك في طبقة خاصة وعصر معين. ويجب أن يكون كل شيء فيها مهيئاً ليظهر مع غيره عيباً من عيوب الاجتماع. فالحوادث تختار عن قصد لبلوغ هذه الغاية، والظروف ترتب بدقة لأحداث هذا الأثر، والفرد يكبر ويعظم حتى يتضمن الجنس بأسره، والحوار يجري على طريقة تبرز فكرة المؤلف واضحة في كل خطاب وجواب، كالمتحذلقات السخيفات لموليير، ونصف العالم، ومسألة النقود، والأب المبذر، لاسكندر دوماس الصغير. والملهاة الخلقية وهي تهاجم العيوب والنقائص المسيطرة على الأخلاق في كل زمان ومكان، ونزعتها إلى الإفادة والإمتاع أقوى منها إلى السخر والإضحاك. كالبخيل، وترتوف، والمتوحش لموليير. وهذا
النوع أنفع الأنواع الثلاثة وأقواها وأصعبها. فأما أنه أنفع، فلأنه يرجع إلى مصادر العيوب وأصولها فيهاجمها في مبادئها ومناشئها؛ وأما أنه أقوى فلأنه يقدم إلى الناس المرآة فيخجلهم من صورهم ويضحكهم من أنفسهم، وأما أنه أصعب فلأنه يطلب من المؤلف دراسة عميقة للأخلاق، وبصيرة نافذة في الملاحظة، وخيالاً قوياً ليجمع شتات الملحوظات الكثيرة في نقطة واحدة.
هذه هي أنواع الملهاة الثلاثة، دون أن نعد منها تلك الأنواع التي تعتمد في الإضحاك على النكات اللفظية، أو على المواقف الخليعة المجونية، فإنها بضاعة الأذهان الكليلة، والأذواق السقيمة. ولها مع ذلك اسم غير هذا الاسم وموضع غير هذا الموضع. على أن هناك نوعاً رابعاً هو أسمى من تلك الأنواع وأقوى. ذلك هو الملهاة المختلطة التي تستوعبها جميعاً. فتجمع إلى هزل المواقف هزل الأخلاق والعادات، فترى فيها الأشخاص مدفوعين بضعف عقولهم، أو مرض قلوبهم إلى أن يقفوا مواقف مخزية تعرضهم إلى سخر المشاهدين واحتقارهم. . كالموقف الذي وقفه أرباجون بخيل موليير مع ولده حينما أقبلا يتعاملان بالربا دون أن يعرف أحدهما الآخر، فكانت مقابلة الأب المرابي والابن المبذر من سخريات الحياة وغرائب الأمور.
ماذا يجب في عمل الملهاة: إن الغرض الذي يتوخاه واضعو
القواعد للعمل الروائي هو التقريب بين الافتراض والحقيقة.
وأقوى الوسائل إلى هذا التقريب هي قاعدة الإمكانية. ولما كان
عمل الملهاة منتزعاً من العادة المألوفة، والأخلاق المعروفة،
والنكتة الحاضرة، كان بعده عن الحقيقة، ومخالفته للواقع أمراً
سهل الملاحظة صعب الاحتمال. لذلك وجب أن تراعى
القواعد في الملهاة مراعاة شديدة، وعلى الأخص وحدة العمل،
واستمرار الخلق، وسهولة الأسلوب، وبساطة التقعيد، وطبيعة
الحوار، وصدق العاطفة. وقوة الفن في إخفاء الفن، بحيث
يكون كل ما يحدث ويقال على المسرح صورة ساذجة للمجتمع
حتى ينسى المشاهد أنه في مشهد من مشاهد التمثيل، لأن
الصورة إذا رسمتها يد عاجزة اتجه فكرك فيها بعد النظرة
الأولى إلى الرقعة والألوان والإطار. قبل أن يتجه إلى التدوير
والنتوء والبعد.
يتبع
(الزيات)
بين فتاتين
فصل من رواية لم تنشر
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
أفاقت (خيرية) - في غرفتها - على صدر (سارة)، أو لعل الأصح والأقرب إلى الصواب أن نقول إنها استعادت سكينة نفسها فيما ترى العين، بعد أن اسلبت ملء حفنةٍ من الدموع روت بها زهور خديها النضيرين، وأصارت أرنبة أنفها كالجزرة. وفي قليل من البكاء شفاء للصدر وجلاء للبصر، وغنى عن المساحيق!
وأحست (سارة) بانتظام أنفاسها فضمتها إليها في رفق وحنان، فجاوبتها (خيرية) بضغطة خفيفة. وطاف برأسها وهي تفعل ذلك أن لو كان هذا صدر شاكر!؟! وتنهدت كالمتحسرة، وذهبت تتصور ساعديه القويين على خصرها يهصرانه، وثدييها يُعْصران على ثندوتيهما، وأنفساه على شعرها، وكلامه العذب في أذنها. فأخذها من هذا الخاطر مثل الدوران في رأسها، وأظلمت عيناها، وشعرت بمثل النار تندلع في أحشائها وترقي إلى صدرها ونحرها وتأخذ بكظمها، على حين كانت تحس بالبرد في قدميها.
وشدت (سارة) على خصرها في هذا اللحظة الحافة بالاحتمالات، فرفعت (خيرية) وجهها المضطرم ونظرت إلى صاحبتها بعين ثابتة الحملاق إلا أن عليها كالضباب فهي لا تبصر، وأقبلت على فمها تقبله - قبلة حارة طويلة عصرت فيها روحا ونسيت نفسها، وإذا (بسارة) تهتز وتنتفض وترسل راحتها تتحسسّ علواً وسفلاً، و (خيرية) كالسكرى: تضم، وتئن، وتبوس، وتمسح الخد بالخد، وعينها مغمضة، وأصابع يمناها تتقبض على لحم (سارة) والأخرى تعبث بشعرها وتتخلله وتشده، وهما في عناقهما تميلان يمنة ويسرة، وتقبلان إلى الأمام تارة، وتنثنيان إلى الخلف طوراً، وتزحف كل منهما إلى صاحبتها كأن بينهما متسعاً فتتزحزحان على الطارقة حتى تهاوتا فتحاجزتا، وصار صدراهما كالخضم المضطرب.
وقالت (سارة) بصوت يذوب من الرقة:
(أحسن؟)
فدانت (خيرية) بين جفونها وألقت إلى صاحبتها - بمؤخر عينها - نظرة فيها من الرضى والشكر والرجاء معانٍ، وكانت كلتاهما مضطجعة، فمدت (سارة) يدها وتناولت راحة
(خيرية) وأطبقت عليها أصابعها - في صمت - وظلتا هكذا برهة، ثم شخصت (سارة) إلى السقف وقالت كأنما ترى من تخاطبه فيه (ليتك كنتِ أخاك!)
ثم ثنت إلى (خيرية) وجهاً ينضح بالبشر ويغري بالعبث والمصارحة، فرفعت (خيرية) حاجبيها وأمالت رأسها على الوسادة ثم ردت وجهها إلى سارة وقالت:
(إنك سعيدة يا سارة. . .)
فسألتها (سارة):
(وأنت؟. .)
قالت خيرية (موزعة. .)
- موزعة؟
- نعم!. . . وعسى أن أكون واهمة. . . ولكنه يخيل إليّ أحياناً أني أحب (عبدة) وهو لاشك يحبني. . . على طريقته. . . حباً صامتاً. . . أخرس. . . يحيرني. . . أعني يا سارة انه يحرك نفسي لحظة ثم يدعها فارغة لا أثر فيها له. . . ليس عنده كلام يقوله. . . ينظر إليّ كأنه يشتهي أن يأكلني بعظامي. . . فهو يخيفني ويفزعني، ويسحرني أيضاً ويجذبني حين يفتح عليّ عينه بهذه النظرة المنهومة، ولكنه يخيفني أكثر مما يسحرني. . . آه لو كان ينطق. . .! ولكنه لا يعرف الكلام. . . ولا المغازلة.
. . . جسمه ضخم ولسانه أبكم. . . فهو قوة مرعبة. . . لو كان يرق فينفي الخوف!
. . . لو كان يشعرني أن الحب يلينه أو يذيبه قليلاً!؟. . . ولكنه ليس مثل. . .)
وأمسكت، ونزعت يدها من يد سارة، وظلتا مفترقتين برهة وهما تفكران في الغزل! (خيرية) في بكم عبدة وفي خلو حبه من هذا العنصر الذي يلطف الوقدة، ويخفف الحدة، ويسلب العاطفة المشبوبة لذعها وكيها، ويجعل الحديث أحلى من التقبيل والعناق. أما (سارة) فقد فتح لها كلام (خيرية) باباً جديداً من التفكير أعانتها دراستها العلمية على ولوجه، فراحت تقول لنفسها إن الغزل ليس عبثاً ولا تكلفاً، وإن الرقة فيه واجبة وليست ضعفاً، وإن الطبيعة لا تزال تطلب التوازن وتسعى له وتحدثه، فلولا رقة الرجل القوي، في غزله، لأرعب المرأة حبُّه ولما احتملته، وهو حين يجثو أمامها ويريح خده على ساقها، أو يناجيها بهواه ويشكو إليها ضعفه عن احتماله، ويصف لها ضيق صدره بما يجن، وقلبه
بما يجد، ويتذلل لها ويتوسل إليها، وإنما يفعل ذلك بغريزته ليعتدل الميزان، فيذهب عن المرأة الخوفُ من قوته، وتَشعر أن فيه موضع ضعف تستطيع أن تستغله وتقاوم به طغيان القوة، وعلى قدر ما يبدي الرجل من الرقة في موقف الغزل والمناجاة تحس المرأة أنها قوية وأنها كفء له، فتطمئن وتعتقد أنها نده، وإن كان في ظاهره أقوى، وتبادله حباً بحب غير مكرهة ولا محمولة على ذلك، ولا شاعرة بتفريط في كرامتها أو تضييع لشخصيتها أو محو لإرادتها. .
ولم يشعرا أن الصمت طال بينهما أو أن الحديث انقطع لما قالت (سارة) بعد ذلك:
(ولكنك تحبينه. .! لاشك في ذلك)
فقالت (خيرية) بلهجة المفكر لا المستفسر.
(هذا ظنك؟)
قالت (سارة):
(لقد كنت تفكرين فيه ونحن متعانقان)
فاعتدلت (خيرية) في جلستها، وواجهت (سارة) وقالت بلهجة حازمة:
(كلا. . أبداً)
فوضعت سارة يدها على كتف صاحبتها وقالت:
(تعالي. . تعالي. . اطرحي عن صدرك هذا العبء. . . لماذا لا تبادلينني حبي؟)
فسألتها خيرية وهي تضحك:
(أتحبينني؟)
(أتسألين؟)
(أعني كحمادة؟)
(لا أزعم ذلك ولكني أحببتك)
(من أجله؟ لأني أخته؟)
(لذاتك)
(صحيح؟)
(أتشكين؟)
(لا أشك. . ولكني غيره. . أعني أني فتاة مثلك)
(وما دخل هذا؟ ما قيمته؟ ألم نكن نتعانق على حب قبل دقائق؟ قد يختلف الغرض من الحب أو نوع الإحساس به ولكنه يظل حباً)
(سارة!)
(نعم)
(لا أدري كيف أقول. . إني لم أعرف من هو إلا الليلة)
ودفنت وجهها في راحتيها فصاحت بها (سارة)
(أهو ذاك؟)
فرفعت (خيرية) رأسها كأنما تتحدى الدنيا والناس وقالت وهي تسوي شعرها وترد عن جبينها خصلة.
(نعم. وقد عرفت الآن)
فقالت (سارة) بإخلاص:
(يا حبيبتي هذا أسعد يوم في حياتي. أنا لأخيك. وأنت لأخي)
فقالت (خيرية) وهي تكاد تبكي:
(كيف يمكن؟ كيف يمكن؟ إنه لم يرني قبل اليوم إلا مرة واحدة!)
فسألتها (سارة) وهي تنظر إليها نظرة من يُحْيي ذكرى تمعن في الغمض:
(قبل اليوم؟ أتعنين. .؟)
قالت (نعم كنت خارجة من سمعان فعثرت. .)
فصاحت بها سارة وقد صح ظنها:
(هو أنت؟)
(أهو أنا؟ ماذا تعنين؟)
أعني أنك فتاته التي يحبها ويبحث عنها. . يا لسعادتي)
فتعلقت بها خيرية وأمطرتها وابلاً من الأسئلة، وسارة تضحك ولا تعرف كيف تجيب، وإذا بحمادة ينقر ويسأل قبل أن يسمع الأذن بالدخول.
(سارة! ما هذا الذي يقول عبدة؟)
فوثبت الفتاتان ووقفتا مبهوتتين من المفاجأة، واحتاج حمادة أن يعيد سؤاله
(أهو صحيح؟)
فقالت (سارة) وهي تبتسم له وترف: (ماذايا روحي؟) فأذابته ابتسامتها وراح يتلعثم
. . . أ. . . أ. . .
فقالت سارة (تعال يا حبيبي. . . أم نخرج؟؟ أظنه آن لي أن أخرج. يكرهني يا روحي. . . فتعال احملني إلى سيارتك. . . وفيها. . . إلى بيتي)
فنسى حمادة ما أفضى به إليه عبدة. . .
إبراهيم عبد القادرة المازني
من الأدب الأندلسي:
2 -
التوابع والزوابع
بقلم محمد فهمي عبد اللطيف
دخل ابن شهيد وادي الجن، ورغب في البدء بلقاء الشعراء على ما بيَّنا في المقال السابق، وقد حدَّثنا الرجل أنه طلب من صاحّبه زهير بن نمير أن يقدمه أول ما يقدمه إلى تابع امرئ القيس، وإنما حق له هذا، أولاً: لأن امرئ القيس سابق في عمر الزمن، وحساب الأيام؛ وثانياً: لأن النقاد جميعاً على أنه أمير الشعراء في العصر القديم، وشيخهم الذي أوضح لهم الطريق، فهو مقدم بالطبع والوضع كما يقول المناطقة، ولم يرد ابن شهيد أن يخرج على ما قضت به الأيام، وما تواضع عليه النقاد، فأنزل الرجل منزلته المقررة، ووضعه في مكانته المعلومة، ولذا قدمه على نفسه في الإنشاد، ووصفه بتطامح الطرف، واهتزاز العطف، علامة الغرور والثقة، وأخذته الهيبة منه، فهم بالحيصة والهرب من أجازته، لولا أن شدَّ في قوى نفسه، وأنشده ما أنشد.
وعلى هذا النهج راح ابن شهيد يتحدث عن توابع الشعراء واحداً بعد واحد، ويقرر ما وقع له معهم، وما جرى بينه وبينهم من الإنشاد والمساجلة، وهو في أثناء ذلك يعرض بالتصور لأحوال الشعراء، ويهتم بوصف نفسياتهم وميولهم ويشير إلى ما اشتهر عنهم في أخلاقهم وسلوكهم وآرائهم، تارة بالتلميح، وطوراً بالتصريح، ومن حين لآخر تجده يجمل كلامه بالنادرة المستملحة، فيجعل القارئ يقبل عليه في سرور وائتناس، أستمع إليه وهو يحكى ما وقعه له مع (بغلة) من التوابع أقبلت تحكمه في شعرين لبغل وحمار أختلف فيهما الفريقان، فقال لها حتى أسمع، فقالت الشعر الأول لبغل من بغالنا وهو:
على كل صب من هواه دليل
…
سقام على جد الهوى ونحول
ومازال هذا الحب داء مبرحا
…
إذا ما اعترى بغلاً فليس يزول
بنفسي التي أما ملاحظ طرفها
…
فسحرٍ، وأما خدها فأسيل!!
تعبت بما حملت من ثقل حبها
…
وإني لبغل للثقال حمول!
وما نلت منها نائلاً غير أنها
…
إذا هي بالت بلت حيث تبول
والآخر لدكين الحمار وهو:
دهيت بهذا الحب منذ هويث
…
وراثت إراداتي فلست أريث
كلفت بألفي منذ عشرين حجة
…
يجول هواها في الحشا ويعيث
وغيرّ منها قلبها لي نميمةٌ
…
نماها أحم الخصيتين خبيث
وما نلت منها محرماً غير أنها
…
إذا هي راثت رثت حيث تروث
قال ابن شهيد: (فاستضحك زهير وتماسكت، وقلت للمنشدة ما هويث؟ قالت: هويث بلغة الحمير؛ قلت والله أن للروث لرائحة كريهة، ولقد كان أنف الناقة أجدر أن يحكم في الشعرين، فقالت فهمت عنك) ثم يتفكه ابن شهيد في القول اكثر فيقول (وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت لو كان ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بلغة أبي عيسى، والخال على خدها فتباكينا طويلا! وقد أخذنا في ذكر أيامنا فقالت: ما أبقت الأيام منك؟ قلت ما ترين! قالت: شب عمرو عن الطوق! وما فعل الأحبة، قلت شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الأخلاق ومن إخواننا من بلغ الأمارة، وانتهى إلى الوزارة؛ فتنفست الصعداء، وقالت؛ سقاهم الله سبل العهد، وان حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود. .)
فالرجل كما ترى فكه ظريف، وفي رسالته كثير من الفكاهات النوادر، وكلها على غرار هذه الفكاهة ملاحة وخفة وطرافة، وإنما براعة الرجل تظهر أكثر في تصويره - كما قلنا - لأحوال الشعراء والكتاب، ووصف ميولهم، والتحدث عما جرى له معهم، ولعل من أعذب ماله في ذلك، وصفه لما جرى بينه وبين صاحب أبي نواس، ذلك الشاعر الذي قطع العمر في نشوة السكر، وشرك الخمر، واستطراده في الحديث عن (دير حنة) مقام هذا الشاعر وما أشتمل عليه من الرهبان والغزلان!! فقد أجاد الرجل في ذلك وأبدع؛ أنظر إليه وهو يصور ذلك فيقول (ثم قال لي زهير فمن تريد، قلت صاحب أبي نواس قال هو (بدير حنة) قد غلب عليه الخمر، فركضنا ساعة، وجزنا في ممرنا بقصر، فقلت لمن هذا القصر يا زهير؟ قال لطوق بن مالك أبي الطبع صاحب البحتري، فهل لك أن تراه؟ قلت: أجل، إنه من أساتيذي وقد كنت أنسيته، فصاح يا أبا الطبع، فخرج لنا فتى على فرس أشهب وبيده قناة، فقال له زهير: إنك موفق، قال لا، صاحبك أشمخ مارنا من ذلك لولا تنقصه!! قلت يا أبا الطبع إن الرجال لا تكال بالقفزان، وأنشدنا من شعرك فأنشد:
(ما على الركب من وقوف الركاب)
حتى انتهى منها، ثم قال هات أنت شيئاً فأنشدته:
(هذه دار زينب والرباب)
حتى أتيت فيها إلى قولي:
فكأن النجوم بالليل جيش
…
دخلت للكمون في جوف غابها
وكأن الصباح قانص طير
…
قبضت كفه برجل غراب
فكأنما غشى وجه أبي الطبع قطعة من الليل، وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم، فصاح به زهير أأجزته؟ قال أجزته لا بورك فيك من زائر!!
قال ابن شهيد (ثم سرنا حتى انتهينا إلى (دير حنة) فضرب زهير الأدهم، فسار بنا في قنته، ففتق سمعي قرع النواقيس فقلت فصحت عن منزل أبي نواس ورب الكعبة، وسرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات إلى دير عظيم تعبق روائحه، وتضوع نوافحه، فوقف زهير ببابه وصاح به: سلام على أهل (دير حنة) فأرقلت نحونا الرهبان مشدودة الزنانير، قد قبضت على العكاكيز، مبيضّة الحواجب واللحى! مكثيرين للتسبيح، عليهم هدى المسيح، فقالوا أهلا بك يا زهير من زائر، وصاحب أبي عامر، ما بغيتك؟ قال (حسن الدنان)، قالوا: إنه لفي شرك الخمر منذ أيام عشرة، وما نراكما منتفعين به، فقال وعليّ أنا ذلك، ونزلنا وقادني إلى بيت قد اصطفت دنانه، وعلفت غزلانه، وفي دير حنة شيخ طويل الوجه والسبلة، قد افترش أضغاث الزهر، واتكأ على زق خمر، وبيده طرجهارة وحواليه صبية كالظباء، فصاح به زهير: حباك الله أبا الإحْسان، فجاوب جواباً لا يعقل لغلبة الخمر عليه، فقال لي زهير: اقرع أذنيه بإحدى خمرياتك، فانه ربما تنبه لبعض ذلك، فصحت أنشد:
ولربّ حان قد شممت بديره
…
خمر الصبا مزجت بصرف عصيره
في فتية جعلوا السرور شعارهم
…
متصاغرين تخشعاً لكبيره!!
والقس مما شاء طول مقامنا
…
يدعو بعود حولنا بزبوره
وترنم الناقوس عند صلاتهم
…
ففتحت من عيني لرجع هديره
فصاح من حبائل نشوته. أأشجعي؟ قلت: أنا ذاك، فاستدعى ماء قراحا فشرب منه وغسل وجه فأفاق، واعتذر إليّ من حاله، فأدركتني مهابته، وأخذت في إجلاله لمكانه من العلم
والشعر. .)
فهذه صورة دقيقة، تشتمل على حال أبي نواس كأنك تراه، وتمثل أمامك (دير حنة) بغزلانه ورهبانه تمثيلا رائعاً كله براعة وقوة، والواقع أن ابن شهيد لم يستمد هذه الصورة من خياله، ولكنه صورها من الواقع، ونقلها كما رأى وأبصر، فقد كان هذا الرجل ولوعاً بالتردد على كنائس النصارى في قرطبة لا يتحرج من المبيت فيها مع الرهبان، يرشف الكأس، ويبهج النفس، ومن ذلك (أنه بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة، وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرور وائتناس، وقرع النواقيس يبهج سمعه، وبرق الحميا يسرج لمعه، والقسّ قد برز في عبدة المسيح، متوشحاً بالزنانيير أبدع توشيح، قد هجروا الأفراح، واطرحوا النعم كل إطراح:
لا يعمدون إلى ماء بآنية
…
إلا اغترافا من الغدران بالراح
وأقام بينهم يرشق حميا، كأنما يرشف من شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلما رشف أعذب رشف، ثم ارتجل في وصف ذلك هذه الخمرية، التي قرع ببعضها سمع أبي نواس، فتنبه من حبائل نشوته، وصحا من سكرته!!
وابن شهيد يذكر أنه تقابل في طريقه بصاحب البحتري بعد أن قد أنسيه مع أنه من أساتيذه. ويذكر أنه أجازه فخذله حتى لقد هرب بخزي (وكر راجعاً إلى الوراء دون أن يسلم) وهذه شنشنة ابن شهيد مع كثير من الشعراء والكتاب، خصوصاً شعراء المشارقة وكتابهم، فهو يحدّث أنه التقى (بزبدة الحقب) تابع بديع الزمان، وبعد أن تمَّ التعارف بينمها، طلب منه ابن شهيد أن يجري على سمعه وصفه للماء، فتطاول زبدة بذلك الوصف، وقال إنه من العقم بحيث لا يبلغه أديب، ثم انطلق يقول، (أزرق كعين السنور، صاف كقضيب البلور، انتخب من الفرات، واستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشعمة، في صفاء الدمعة) فعارضه ابن شهيد فقال (انظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصب من إنائه، انصباب الكوكب الدريّ من سمائه، كأنه خيط من غزل فلق، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتردى، ويصدع به قلبك فتحيا) فلما سمع ذلك زبدة غار في الأرض، وهو مبهوت خجل!!
وقد حسب الدكتور زكي مبارك ذلك غروراً من ابن شهيد وعَذَره في هذا الغرور نظراً
لنبوغه وعبقريته، والواقع أن الغرور صفة تكاد تكون ملازمة لكل أديب، وقد يكون ابن شهيد مغروراً في نفسه إلى أبعد حد، ولكن كلفة بالتفوق على الشعراء والكتاب لم يكن مبعثه الغرور، كما حسب الدكتور مبارك، فان الرجل كما قلنا كتب رسالته في جماعة من معاصريه، حطوا من قدره حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته حسداً له، وغمطوه فضله حقداً عليه، فأراد أن يطلعهم على مكانته في الأدب، وأن يبين لهم قدرته في الشعر والنثر، ولذلك فهو يحصر على الظهور أمامهم بالتفوق والتغلب، ليس في إجازة الشعراء والكتاب فحسب! بل إنه ليذكر أن التوابع والزوابع احتاروا في أمره، وشدهوا لقدرته في الشعر والنثر والخطابة، وأن أحدهم فتن ببيت من شعره فقام ينشده ويرقص، وأنه قرأ عليهم رسالته في وصف الحلواء فأعجبوا بها أيما إعجاب، وقالوا (إن لسجعك موضعاً من القلب، ومكاناً من النفس، وقد أعرته من حلاوة طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجاري في أبناء جنسك) وأظن في الجملة الأخيرة ما يكفي للفصل بيننا وبين الدكتور زكي مبارك.
على أن ابن شهيد لم يقف عند هذا الحد من التعالي وإظهار التفوق أمام معاصريه، بل راح يحط من قدرهم، ويتهكم بعلمهم وأدبهم فوصفهم ببلادة الطبع، فهم - كما يقول - ينحتون عن قلوب غليظة كقلوب البعران، إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة لا منفذ لها في الرقة، ولا مدبّ في شعاع البيان، كل بضاعتهم من الأدب، كلمات من غريب اللغة، وبعض مسائل من النحو والصرف لا يفهمون منها إلا ما يفهم القرد اليماني في الرقص على الايقاع، والزمر على الألحان. . . قال ابن شهيد: (ومن خلق هذه العصابة أنهم إذا لمحتنا أبصارهم قابلونا بالملق، وهم منطوون على الحسد والحنق، فإذا جمعتنا المحافل، وضمتنا المجالس، نراهم إلينا مبصبصين، وإنما يتبين تقصير المقصر، وفضل السابق المبرز إذا اضطكت الركب، وازدحمت الحدق، واستعجل المقال.
(للكلام صلة)
محمد فهمي عبد اللطيف
الغد المجهول
للأديب سيد قطب
يا ليتَ شعري، ما يُخِّبئهُ غدي
…
إني أروحُ مع الظنونِ وأغتدي
وأُجيلُ باصِرَتي بها وبصيرتي
…
أبغِي الهُدَى فيها، وما أنا مهتدِ
حتى إذ لاحَ اليقينُ خِلالَها
…
أشفقتُ من وجه اليقين الأسود
وأشحْتُ عنه، ولو أَطقتُ دعوتُه
…
وطرحتُ عنَّي حيرتي وتردُّدي
فكأنني الملاَّح تاه سفينةٌ
…
ويخافٌ من شطٍّ مُخِيفٍ أجردِ
ماذا سيولَدٌ يومَ تٌولَدُ يا غدي؟
…
إني أحِسُّ بهولِ هذا المولد!
سيُصَرِّحُ الشكُّ الدفينُ بمهجتي
…
فأبِيتُ فاقِدَ خَيِرِ ما ملكتْ يدي
ستروغُ من حولي عواطف لم تزلْ
…
تُضْفيِ عليَّ بعطفها المتودد
ستَجِفُّ أزهارٌ يفوح عبيرُها
…
حوِلي، وينفحُل بها الأرَجُ الندى
والمشعَلُ الهادي سيخبو ضوؤه
…
ويَلُفُّني الليلُ البهيمُ بمفردي
ماذا تُخَلِّفُ يومَ تذهبُ يا غَدِي
…
لاشيء بعد الفقدِ للمتفقِّدِ
ستخلِّفُ الأيامَ قاعاً صَفْصَفاً
…
تذرو الرياحُ بها غُبارَ الْفَدْفدِ
لا مُرتجَى يُرْجى ولا أسفٌ على
…
ماضٍ يضيعُ كأنه لم يُوجد
أبداً، ولا ذكرى تجدَّد ما انطوى
…
حتى التألمُ لا يعودُ بمشْهَدِي!
ربَّاه إني قد سئمتُ ترُّددي
…
فالآن فلتقدْم بهوِلك يا غدِي
إلى طائر.
. .
للأديب فايد العمروسي
إلى أي وادٍ ترسل الصوت يجتلى
…
سرائر هذا الليل والليل ساهرٌ
وفي أي معنى تبعث اللحن صارخاً
…
فتطويه في جوف السكون الدياجر
وقد غفلت عين الحياة وأسدلت
…
على الكون من وهم الظنون ستائر
هتكتَ حجابَ الليل يا طير فاتَّئدْ
…
ورفه، فقد هاجت بنفسي خواطر
هنالك أعشاش على دوح شاطئ
…
يمازجها طيب من الروض عاطر
تداعبها الأهواء وهي عوازف
…
وتهفو بها الأرواح وهي فواتر
هنالك أفراخ إذا ملت نحوها
…
تثنت ومالت نحو فيك المناقر
فرُدْها، وخلِّ الليل عنك لشاعر
…
يطوف بها سهران والفكر حائر
وفي أي واد في الظلام مقدس
…
هتفت به يا طير والقلب ثائر
أذلك وادي الدهر يقضي شؤونه
…
على الخلق والأقدار فيها سواهر
تطل على الأكوان في غفلاتها
…
فتكشف عما خبأته السرائر
إلا حدِّث الأقدار يا طير وائتني
…
بما حجبته في الغيوب المقادر
وأكبر ظني والظنون خواطر
…
بأنك مثلي في المقادير حائر
في النقد الألماني
صفحة من كتاب اللاوكون
طريقة التعبير عن الفن
للنقادة ليسنغ
للأستاذ خليل هنداوي
وهكذا بعد الملاحظة وجدنا أن الفن في العصور القديمة كان يتمتع بمقاييس أكثر اتساعاً، وكان بإمكانه أن يتناول جميع الأشياء الطبيعية المرئية التي يُعد الجمال فيها جزءاً صغيراً، فكانت الحقيقة وطريقة التعبير هما فيه المطلب الأول. وكما أن الطبيعة تضحي في كل لحظة بالجمال بناء على نظرات لها سامية، فكذلك الفنان نفسه ينبغي له أن يخضع للطبيعة برسمه الموضوع دون أن يطمع في أكثر من الظفر بالحقيقة والتعبير، فإذا انقادا له فقد أوتي القدرة بهما على أن يُحيل القبيح في الطبيعة جميلاً في الفن.
هبْ أننا نريد أن نتقبل بدون مجادلة - عمر لحظة واحدة - هذه الأفكار صالحة كانت أم سيئة، أفلا يبقى هنالك مجال فسيح لندرس سبب اضطرار الفنان إلى مراعاته مقياساً خاصاً في التعبير دون أن ينتخب الحالة التي يكون فيها الأثر المرسوم على أشد ثورته. ولكن مثل هذا الدرس سيكون رده سهلاً بدرس تلك اللحظة الواحدة التي تحدد أوضاعها الأوضاع الفنية. فإذا كان الفنان في الطبيعة المتقلبة دائماً لا يستطيع أن يلتقط منها إلا لحظة واحدة؛ وإذا كان المصور بعد ذلك لا يستطيع في هذه اللحظة نفسها أن يلتقط إلا جانباً واحداً من جوانبها، وإذا كانت آثار هذا الرسام إنما صُنعت لا ليمد إليها الناظر عينيه فحسبُ، ولكن ليتأمل فيها طويلاً، فان من الحق أن هذه اللحظة الواحدة قد انتخبها المصِّور ولم تكن مخصبة كثيراً. على أن المخصب حقاً هو ما يترك حقل المخيلة وسيعاً فسيحاً يجول فيه البصر كيف يشاء.
وبقدر ما نرى الأثر الفني عميقاً يحتوي جوه على خاطرات كثيرة نرى قدرته على توليد الأفكار، وبقدر ما نرى توليده الكثير للأفكار نتصور أننا نرى فيه أشياء وخواطر كثيرة.
في كل مظهر لعاطفة نرى ساعة احتدادها هي التي تنعم بهذا الامتياز وعملك على إبداء
هذا التأثير المثير للعين هو أن تسلم بأجنحتك إلى المخيلة، فإذا لم يكن في استطاعة المخيلة أن تعلو فوق ما تريد لها صورة التعبير فهي ولابد هابطة إلى أوضاع دانية، ووراء هذه الأوضاع يُخشى عليها أن تتقيد (بإفراط في التعبير) فيقف بذلك مدى ارتفاعها وسموها. فإذا تنهد تمثال (اللاوكون) كان في استطاعة المخيلة أن تسمعه يصيح؛ ولكنه إذا صاح أصبحت المخيلة لا تستطيع أن تعلو درجة ولا أن تسقط درجة عما تفرضه الصورة، ولا تقدر أن تفرض جواً له أكثر احتمالاً وإن كان بنتيجته أكثر أعزاء. وإنما هي مضطرة إلى حالتين: فإما أن تسمعه ينوح وإما أن تراه يموت.
وبما أن هذه اللحظة الواحد قد اكتسبت بواسطة الفن خلوداً لا يتغير فلا يجب عليها أن تُعبر إذ ذاك عن شيء يعرض ويزول. فان كل الحوادث التي تحكم عليها بطبيعتها تبدو وتتوارى فجأة، والتي لا يمكن تمثيلها بحقيقتها إلا لحظة واحدة؛ هذه الحوادث مهما كانت طبيعتها إنما تمثل على قدر الخلود الذي وسمها به الفن منظراً غير طبيعي؛ كلما مددنا إليه أبصارنا ضعف تأثيره فينا حتى لا يبقى بعد ذلك من هذا التأثير وهذا المنظر إلا الملل والسأم.
أنظر إلى تمثال (ديموقريطس) الفيلسوف اليوناني الضاحك من جنون الإنسان، فإنه لا يضحك إلا للوهلة الأولى حين تراه، ثم يغدو الفيلسوف بليداً وضحكته تشنجاً ملتوياً، وكذلك الحال في الألم الشديد الذي يرافقه الصياح، فهو إما أن يهدأ، وإما أن يشوه وضع المتألم ويذهب بجماله، وإذا كان الإنسان الجلد القوي لا يقدر على مواصلة الصياح بصورة دائمة، فكذلك الأمر في الصورة التقليدية الفنية تحيل مواصلة الصياح فيها ضعفاً لا يأتيه إلا الأطفال في ساعات الألم. وهذا ما تحاشاه رسام (اللاوكون) في نفس اللحظة التي لا يضر الصياح فيها مظاهر الجمال، وفي نفس اللحظة التي تبيح له قواعد فنه أن يمثل الألم بدون الجمال.
قد أدرك الرسام (تيموماك) بين معاصريه الأقدمين مقاماً سامياً لحذقه التعبير عن الأهواء الجامحة. فللخلود صنع صورة (اجاكس الغاضب) وصورة (ميدي) الساحرة وهي تقتل أولادها. وبعد هذه الأوصاف التي جئنا بها نقول: قد اتضح أن الفنان قد وقف على تلك اللحظة التي ترك فيها الناظر سارحاً في تأملاته يدرك من معاني التمثال هذه القسوة العنيفة
الملتهبة أكثر مما يرى. . . . فهو لم يأخذ (ميدي) في اللحظة التي قتل فيها أولادها، ولكنه رسمها قبل لحظات حين كانت تتنازعها عاطفتا الأمومة والغيرة. وإنما نحن نتنبأ نهاية المعركة، ونحن نضطرب إذا نراها في ثورة غضبها ونقمتها. ومخيلتنا قد تذهب في مسارب أبعد غوراً قبل أن يحملنا الرسام على النزول في مساريه في مثل هذه الساعة الهائلة. وبهذا وحده نرانا أمام هذا (البقاء) الذي يفرضه الفن لحيرة هذه الأم كمن أرتطم بشيء. إذ نريد أن يكون الوضع في الطبيعة كهذا الوضع، حيث لا تنتهي معركة الأهواء في النفس، وإذا قدر لها الانتهاء انتهت ناضجة حتى يستطيع الزمن وإدمان التأمل أن يضعفا الغضب ويخففا غرب الحدة، ويحققا انتصار عاطفة الأمومة. وحكمة هذا الرسام قد رفعته مقاماً عالياً، ووضعت مرتبته فوق مرتبة رسام غيره مجهول، إذ أراد هذا المجهول أن يرسم (ميدي) وكان غير فطن؛ فرسمها في ثورتها العنيفة، فأعطى هذه الثورة الحالية من صفة البقاء ما يتجاوز الحد الطبيعي، وهنالك شاعر نظر إلى هذه الصورة وقد انتقدها بعقل صائب، وناجى الصورة:(هل أنت ظمأى إلى الأبد لدماء أبنائك؟ هل هنالك ولد جديد وابنة جديدة، تجدين من أجلهما غضبك وتصبين سوط نقمتك؟ إلا فاذهبي إلى الشيطان وأنت بهذه الهيئة المرسومة).
والصورة الثانية صورة (اجاكس الغاضب) لم يمثله الرسام في غضبه العنيف حين كان يُقيد البهائم ويقتلها بدل الناس، وإنما رسم هذا الرجل بعد هذا العمل الوحشي وقد أنهكه التعب وغلب عليه الوجوم وهو يتأمل في عاقبة عمله. . هذه الصورة تمثل حقاً (اجاكس الغاضب) لأنها تمثله في سورة غضبه، ولكن لأنها مثلته بعد غضبه، ولأن الناظر يدرك بواطن هذا الغضب من وراء الوجوم الذي يراه مرتسما على وجهه، واليأس البادي على ملاحمه؛ ألا يرى الناس العاصفة إذا رأوا الخرائب التي دمرتها والجثث التي بعثرتها على التراب؟
(بيروت)
خليل هنداوي
العلوم
3 -
بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
مهارة الإنسان الأول:
لم يكن الإنسان الأول إنسان عقله وتركيبه فقط، بل كان إنساناً تميزه حقائق أخرى كثيرة عرفناها عنه. وإن الأدوات الحجرية التي وجدت عن ذلك الوقت الغابر لا تدل على مدى تفكيره فحسب، بل تدل على ميل للفن والمهارة في الصناعة. وقد وجد المستر داوسون قطعة مستطيلة من العظام المتحجرة شكلتها يد الإنسان القديم له بوظيفة صنعها من أجلها، وتشبه في شكلها شكل مضرب اللعبة المعروف (بالكريكيت) وحالة التحجر ودرجته تماثل تماماً ما وجد في أقدم عصور إنسان البلتداون. وعند فحص هذه القطعة العظيمة اكتشف أنها قد اقتطعت من عظمة فخذ نوع من أنواع الفيلة الضخمة البائدة التي تشبه الماموث كانت تعيش في إنجلترا في أوائل عصر البليستوسين؛ فإنسان البلتداون كان ذكياً ماهراً إلى حد ما، أو لدرجة أوصلته إلى أن يشكل من عظام فخذ هذه الفيلة أسلحة مشوهة الشكل، ومن العدل حينئذ أن نضيف إلى ذكائه ومهارته شجاعته وقدرته في الصيد والقنص.
سبق أن بينت أن إنسان الكهوف كان أسير التقاليد والأزياء. وكيف كان نوعٌ وشكل واحد من أنواع الأدوات أو الأسلحة أو غيرها يعم استعماله القارة كلها، وكيف أن بقاء الزي الواحد كان لمدة أطول بكثير مما هو عليه الآن.
وإذا نحن بعدنا إلى عصر الأودية فإننا نجد براهين أخرى على ما ذكرنا. حقيقة لا يمكننا معرفة وقت بدء استعمال هذه الآلات والأدوات الحجرية سواء في عصر الأشيلية والشيلية أو البريشيلية، إلا أنه يمكننا مع ذلك أن نقول واثقين كل الثقة أن المرأة كانت تحمل نفس الشعور والحواس النفسية التي تدفع أي امرأة في أي عصر من العصور إلى طريق العبودية للأزياء. وفي الوقت الحاضر بما فيه من وسائل مواصلات حديثة، يكفي الزي الواحد أسابيع قلائل كي ينتشر ويعم استعماله العالم أجمع، ولو أنه سريع الذهاب قليل البقاء أو الثبات، وهذا الأمر هو ميزة العصر الحالي، عصر السرعة والتقلب في كل
شيء. بعكس القديم الذي نحن بصدده، والذي ذكرنا في فقرتنا السابقة أن انتشار الزي الواحد كان يلزمه وقت طويل، ولكنه عند ما ينتشر يستمر عشرات آلاف السنين دون أن يتغير.
قد استطعنا من الآثار والمخلفات التي وجدناها في المقابر والكهوف وسواها أن نتتبع تاريخ حياة الإنسان من نحو مائتي ألف سنة، وبذلك وصلنا إلى عصر من العصور سماه علماء الجيولوجيا عصر البليستوسين ولدينا من البراهين القوية ما يثبت أن الإنسان في هذا العصر قدُ وجد كامل التكوين جسما وعقلا، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لأن نرجع إلى ما قبل هذا العصر، إلى عصر أطلق عليه اسم عصر البليوسين وبذا نجد أن مخلفات العصر السابق ليست ذات أهمية لنا، ونجد ضروريا أن نبحث عن آثار أقدم. وقد وجد أن الأنهار الشمالية ومنها التيمس والرين والألب وغيرها تحفظ في قاعها وبين طبقات شواطئها من مخلفات العصر الذي نحن بصدده ما يجعلها تفوق في الأهمية أي متحف جيولوجي أو طبيعي.
كانت مصبات الأنهار الشمالية تصل إلى أقاصي القارة الأوربية وتصب في بحر الشمال. وكانت إنجلترا تتصل بباقي أوروبا عن طريق سهل فسيح جداً ممتد بينها وبين القارة. إلا أن هذا السهل قد ذهب ضحية عوامل الانخفاض في القشرة الأرضية فغمرته المياه ولم يبق منه إلا شريط مستطيل رفيع يمتد في شرق انجليا. وإنك لترانا مازلنا في بحثنا عن إنسان البليوسين نعتمد على مخلفات الأنهار وما تحفظه المجاري المائية بين طبقات قاعها أو كهوف سواحلها. وحقيق بي أن أذكر هنا عبارة حين قال: ، وهذا معناه أن الأنهار تحفظ لنا بين ثناياها التاريخ الصحيح لقديم الزمان، وعلى العالم الجيولوجي أن يقرأن لنا هذا التاريخ ويفسر ما التبس منه وما غمض.
قلنا إن شرق انجيليا يكون جزءاً من سهل بحر الشمال البليوسيني، فإذا كان هناك إنسان قد عاش في أوربا وسكنها في ذلك العصر فلابد أن نجد آثاراً أو مخلفات تدل على سابق وجوده. وقد حدث أن المستر ريد موير بدأ يبحث في طبقات البليوسين في شرق انجيليا تلاحظ أنه على أعماق مخصوصة وجد قطعاً صخرية صماء دلَّته دلالة نقض فيها على إنُها من عمل الإنسان. وبعد سنوات عديدة أمكنه أن يكوّن مجموعة من هذه الصخور
تختلف اختلافاً بيّناً في الشكل والنوع عما وجُد من مخلفات عصري البريشيليان والشيليان. ثم وجه بحثه وراء إنسان البليوسين فبحث في شواطئ سفولك ونورفولك، حيث تكشف الأمواج المتلاطمة عن طبقات الربوات العالية البليوسينية. وقد ساعده الحظ في العثور على صخور نارية دلت على عمل الإنسان وقدرته على التشكيل والابتكار. لكنه لم يعثر ولم يعثر غيره على هيكل متحجر من هياكل ذلك الإنسان الذي صنعها وشكلها في تلك الأزمنة السحيقة المتناهية القدم وهي عصر البليوسين.
وقبل أن نتقدم بعيداً عن ذلك نقف لحظة هنا لنقدر عمراً لهذا العصر. قال العلماء إن سمك طبقات البليوستوسين يبلغ 4000 قدم، وأن سمك طبقات البليوسين 5000 قدم. فإذا علمنا أنه يلزم لتراكم طبقات البليوستوسين (4000 قدم) 200 ألف سنة فانه من الممكن أن نقول إن طبقات البليوسين (5000 قدم) تحتاج إلى 250 ألف سنة أي ربع مليون سنة. وهذا ما يمكن أن نقدره عمراً لعصر البليوسين. وقد كانت أقدم جهة وجد فيها ريد موير مخلفاته الصخرية تقع في خمسي المسافة، فإذا اعترفنا بذلك وجب أن نعترف أنه من مدة تبلغ نحو 1. 300 ألف سنة كان يسكن العالم عنصر بشري كان له من الذكاء والمقدرة ما كشف له عن طريق عمل واستخدام الآلات والأسلحة.
ولم تكن صخور ريد موير التي وجدها في شرق انجيليا أقدم آثار لعصر البليوسين، لأن هناك جهة تعرف باسم لوحظ أن بها مناطق لا تجري فيها مجار مائية في العصر الحالي وإنما تدل الدلائل على أنه كانت توجد بها أنهار سريعة الجريان. وذلك من البقايا الرسوبية التي وجدت. في هذا الجهة بدأ بنيامين هاريسون بحثه في عام 1864 فوجد أدوات صخرية نحتتها يد الإنسان، وقد سميت هذه الصخور باسم ويعترف ريد موير أن هذه الصخور أقدم مما وجده في شرق انجيليا. وقد وجد مدير دار الآثار الملكية البلجيكية في أمثلة أخرى كثيرة لمحاولة الإنسان الأول تشكيل الصخور واستعمالها أدوات وأسلحة.
ولم يقتصر البحث على مخلفات الطبقات الجيولوجية لمناطق بحر الشمال البليوسينية، بل تعدها إلى كل أنحاء العالم. ففي هبترلاند وفي السهول الشمالية لأواسط آسيا دار البحث والتنقيب عن إنسان البليوسين.
ولعل الدكتور هنري فيرفيلن أوزبورن كان يتوقع العثور في آسيا على الحلقة المفقودة
لسلسلة تطور الإنسان في مخلفات عصر البليوسين.
وبرغم الأبحاث المتوالية والجهود الجبارة التي قام بها العلماء في مختلف جهات العالم، لم يعثر إلا على بقايا فرد واحد من العنصر الذي عاش في عصر البليوسين، وجد في منطقة ترتفع عن مستوى سطح البحر بنحو 50 قدماً وتقع على الساحل الشرقي لنهر بنجوان في أواسط جاوة، وقد عثر عليه شاب هولندي طبيب ذهب إلى جاوة سنة 1891 واثقاً من عثوره على ما يدله على خطوات التطور الإنساني في هذه الجهة.
وكانت شواطئ نهر البنجوان غنية بالهياكل المتحجرة لحيوانات بائدة، ولذلك استرعت هذه الجهة نظر الطبيب الشاب فوجه بحثه إليها.
الحلقة المفقودة
وبعد بحث وحفر طويلين وجد هيكلاً لمخلوق غريب أطلق عليه اسم أي الإنسان القرد، إذ أنه قد ظن أنه وجد بقايا من يتكلم عنه الناس أجمع ولم يروه، ألا وهو الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان.
وقد ظهر أن هذه الطبقة الأرضية التي وجدت بها بقايا هذا العنصر أو المخلوق لم تتكون إلا في أواخر عصر البليوسين، ولذلك يمكننا أن نقول أنه إذا كان هذا الإنسان القرد عاش هو وأخوته وأعمامه وأخواله وكل أفراد عائلته في جزيرة جاوة في العصر الذي تم فيه تكوين طبقات شرق انجيليا، فإنه يمكننا أن نقدر لعصره عمراً يتراوح بين 200 و300 ألف سنة.
بعد أن قدرنا هذا العمر لهذا المخلوق العجيب يجب علينا أن نبحث لنعرف نوع هذا المخلوق وأصله. فما الذي وجدناه منه؟
كل ما عندنا من آثار: غطاء الجمجمة، عظمة فخذ، ثلاث أسنان منها ضرس من أضراس العقل.
فلندرس هذه كلها، ولنر ما يمكن أن تكشف لنا عنه.
(يتبع)
نعيم علي راغب
البريد الأدبي
ذكرى الفردوسي
تحتفل الحكومة الفارسية في هذه الأيام بذكرى الفردوسي الشاعر الفارسي الكبير بمناسبة مرور ألف عام على مولده. ولا يعرف تاريخ مولد الفردوسي بالتحقيق، ولكنه يوضع عادة بين سنة 935 وسنة 940م؛ وكانت وفاته نحو سنة 1020م. واسمه الحقيقي هو أبو القاسم منصور، وأما الفردوسي فهو اسمه المستعار. وأعظم آثاره قصة (الشاهنامة) الشهيرة، وضعها نظما، واستمد موضوعها وحوادثها من تاريخ فارس القديم. وترجمها بالعربية نثراً الفتح بن علي البنداري. وقد ترجمت الشاهنامة إلى بعض اللغات الأوربية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وظهرت منذ أوائل القرن الماضي. وظهرت الترجمة العربية مكملة محققة منذ عامين بعناية الدكتور عبد الوهاب عزام، أستاذ الفارسية بالجامعة المصرية.
وقد اهتمت الحكومة الفارسية بتنظيم هذا المهرجان الأدبي اهتماماً عظيما، ودعت معظم الحكومات والجامعات والهيئات العلمية لشهوده بصفة رسمية؛ وسينزل المندوبون الرسميون ضيوفاً على الحكومة الفارسية منذ دخولهم الحدود الفارسية؛ وتنظم الحفلات والزيارات الأولى ما بين الثالث والثامن من أكتوبر. ثم يفتتح جلالة الشاه الاحتفال الرسمي الكبير في الثاني عشر من أكتوبر في مدينة طوس حيث يرقد الشاعر العظيم، وسيكون الافتتاح برفع الستار عن أثر تذكاري أقيم تخليداً لذكراه.
وقد وفد على فارس مئات من العلماء والمستشرقين ممثلين لحكوماتهم وجامعاتهم؛ وانتدب لتمثيل مصر في هذا المهرجان العظيم الأستاذان عبد الوهاب عزام وعبد الحميد العبادي. وقد بلغ عدد المدعوين إلى حفلة ذكرى الفردوسي الألفية من أوربا وأمريكا 90 عالماً، ومن الشرق الإسلامي 24، وأعدت لهم الحكومة جميع مظاهر الضيافة والكرم، وسيعودون إلى بلادهم في 25 أكتوبر إذ تنتهي الاحتفالات القومية الفارسية.
وترجو الرسالة أن توافي قراءها بتفاصيل شائقة عن هذا المهرجان وعن الخطب التي ستلقى فيه.
ألمانيا تحتفل بذكرى الفردوسي
احتفل في برلين بذكرى مرور ألف سنة على مولد الفردوسي شاعر الأمة الفارسية
بحضور بعض سفراء الدول الأجنبية وأساتذة الدراسات الشرقية من الألمان.
وقد تكلم المستشار وهلن باسم وزير المعارف فقال: إن الفردوسي قد أثبت القرابة الموجودة بين أوائل الفرس وأوائل الجرمان، وتكلم سفير فارس فقال إن الفرس سعداء فخورون لأن كلمة إيران التي تطلق على بلادهم معناها: وطن الشعوب الأرشية الآرية الأوربية.
اللغة الفارسية
يدور في محافل وزارة المعارف الإيرانية أن هناك فكرة ترمي إلى عقد مؤتمر لغوي فارسي بعد الاستئناس بآراء المستشرقين الموجودين في طهران لحضور حفلات الفردوسي. والغرض من هذا المؤتمر هو: الأصلح أن يستمر تقدم اللغة الفارسية في طريقها الحاضر مع إحياء المفردات القديمة، أم اقتباس طريقة مصطفى كمال في جعل اللغة التركية مجردة من الألفاظ العربية وسواها؟ ويؤيد الرأي الأول فريق الشباب. أما المعارضون فهم أكثرية الشعب الإيراني لاعتبارات دينية وتقليدية.
اللغة التركية
إن المؤتمر اللغوي التركي قرر أن يكون يوم 26 أغسطس من كل سنة، وهو اليوم الذي انعقد فيه المؤتمر الأول، عيداً قومياً للغة التركية في جميع أنحاء الوطن التركي، وكانت الجمعية قد احتفلت بهذا العيد في العام الماضي احتفالاً اقتصر على إقامة مأدبة رسمية في مركز الجمعية في أنقرة. أما في هذه السنة فان النية اتجهت إلى صبغ هذا الاحتفال بالصبغة القومية العامة، وفي اليوم المقرر يلقي أعضاء لجان حزب الشعب الخطب والمحاضرات بواسطة الراديو لتعميم فكرة استقلال اللغة القومية، وفي هذا اليوم تصدر الصحف التركية أعداداً خاصة تتناول فيها الموضوعات المتعلقة بمسألة اللغة القومية وتركيزها.
أول مؤلف في اللغة اليابانية عن الإسلام
نشر في طوكيو أخيراً كتاب جليل باللغة اليابانية اسمه (تطور الأمم الإسلامية) عنى بتأليفه ونشره الأستاذ أوقوباشي خدمة للإسلام، ويجمع هذا الكتاب بين دفتيه خمسمائة صفحة من الحجم الكبير زين معظمها بالصور الشمسية التي تمثل نواحي الحياة والعادات في بلاد
الإسلام.
والكتاب يحوي كثيراً من المعلومات العامة عن الإسلام وأهله، وقد اعتنى مؤلفه بعالم الترك اعتناء عظيما فنشر فيه مقالات وفصولاً طويلة في تاريخ الترك والمدنية التركية، وأحصى الدول التي أنشأها الأتراك، وأعرب عن وحدة المدنية التركية بوضوح تام، ثم وضع الانقلاب التركي الأخير في مكان رفيع، وشرحه للأمة اليابانية شرحاً وافياً كما شرح أحوال الأتراك المقيمين في روسيا والصين، وأسهب في الكلام عن المسلمين عامة، وزين الكتاب بصور عظماء المسلمين من أتراك وغيرهم كما زينه بصور زعماء ايديل أورال وتركستان وقريم وقوقاز.
البحث عن أصل النوَر
سبق أن نشرنا بحثاً مستفيضاً عن النوَر (الغجر) وخواصهم، ومازالت آراء البحث الحديث متضاربة في أصل ذلك الشعب البدوي الجوال؛ وأكثر الباحثين على أنهم نزحوا في الزمن الغابر من الهند إلى الشرق الأوسط، ثم تسربوا بعد ذلك إلى مختلف الأقطار الأوربية. ومازالت منهم جموع عظيمة في المجر ورومانيا وبولونيا وتركيا وأسبانيا وغيرها. وتعني معظم الحكومات بتحضيرهم وتهيئة عوامل الاستقرار لهم لتجعلهم من الرعايا الخاضعين للقانون. ولكنها لم تنجح حتى اليوم في تحقيق هذه الغاية. وقد ألفت أخيراً لجنة علمية دولية لتقوم بالبحث عن أصل النوَر، وعن منشئهم الأول، في الهند ذاتها، وفي نفس المنطقة التي يظن أنها كانت موطنهم الأصلي، وهي منطقة تسمى (زجر بستي) وتقع بين نهري الكنج والسند. وتتألف هذه البعثة من عضو إنكليزي هو الأستاذ فرنك فيلو، وعضو أمريكي هو الأستاذ جاكوب كوركي، وعضو روماني هو الأستاذ لازوريكا وهو نورَي الأصل، وعضو بولوني؛ ويصحب البعثة الأستاذ فالني كانجا الروماني، وهو علامة في اللغة السنسيكرتية التي يظن أنها أصل اللهجات النورَية؛ وسيقوم ببحث الوثائق التي يمكن الحصول عليها من المعابد والأديار البوذية والبرهمية بمعاونة الحكومة الهندية، وقد يكون فيها ما يلقي الضياء على حياة النوَر الأصلية وهجرتهم من موطنهم فراراً من اضطهاد المغول أيام جنكيز خان وتيمورلنك؛ وستزور البعثة إقليم مالا بار حيث توجد طائفة تتكلم لغة فيها كثير من العبارات والألفاظ التي توجد في لهجات النور. وستنشر البعثة خلاصة مباحثها عن
النور في كتاب لا ريب أنه سيثير عند ظهور كثيراً من الاهتمام.
سر الحياة
قرئت أخيراً أمام أكاديمية العلوم الفرنسية وثيقة غريبة أودعها بالأكاديمية نائب وعلامة اقتصادي يدعى فرنسيس لور في 5 سبتمبر سنة 1895، واشترط ألا تفتح ألا في 5 سبتمبر سنة 1934، وكثيراً ما تودع بالأكاديمية أمثال هذه الوثائق، وتحترم الأكاديمية رغبات مودعيها. وإليك نص هذه الوثيقة الغربية:(أعتقد أني قد استطعت وضع طريقة لإطالة الحياة. ولكني لما كنت مهندساً، فأني لا أعتقد بالنظريات إلا إذا تحققت بالعمل. ولهذا فأني أعلن اليوم أنني أريد أن أعيش حتى يوم 5 سبتمبر سنة 1934 على الأقل، وفي هذا التاريخ أكون قد بلغت سن التسعين، وهي سن أرجو أن أبلغها، إذا كنت مصيباً في طريقتي لإطالة الحياة). وقد توفي المسيو فرنسيس لور في شهر مايو الماضي، أعني قبل الميعاد الذي حدده لوفاته بأشهر قلائل فقط. ومعنى هذا انه بلغ أمنيته ومات معمراً في سن التسعين. ولكن الذي يؤسف له أنه لم يرفق تصريحه ببيان طريقته، وعلى أي حال فسواء أكان هذا العمر الطويل نتيجة نظام غذائي أم أية تحوطات صحية أخرى، فانه مما يدعو إلى الدهشة أن يؤكد هذا المعمر أنه سيعيش أربعين سنة ثم يعيشها حقاً. وقد أحيلت وثيقته إلى القسم الطبي بالأكاديمية لبحثها.
القصص
مُقَطَّفَة
للأستاذ إبراهيم بك جلال وكيل محكمة أسيوط الأهلية
كنا في حاضرة صغيرة في صعيد مصر، يجري في سفحها النيل زاخراً فياضا، وينطلق بين أغوارها رعاة الماشية في إثر الكلأ، وتستقيم على أنجادها بواسق النخيل يسطع بريق الضحى من سعفها كالأسنة في متون القنا.
وكان في أقصى المدينة خليج صغير يأخذ من النيل، يجري فيه الماء غديراً رقيقاً، يفيض بركة ويمناً حول ربوة عالية فيها أكواخ بالية لقبيل من الناس، عدتهم بين العشرين والثلاثين، فيهم الشيخ والطفل، وبينهم حفنة دون العشرة أهل باس ونجدة. وتمتد أكواخهم في ذرى النجد كالحة الجدران، تنساب بين شعابها عنزات عجاف، وتنيخ بأفنائها الأباعر، وتسبح في أفقها أسراب الحمائم.
ولأهل ذاك القبيل حقل صغير فوق الربى العالية عزّ على القوم سقياه، فشقوا له في السفح ثلاثة (شواديف)، يستقي أدناها من ماء الخليج فيسقي الذي يليه، وذاك يحمل ما تعلل به من البلل إلى الثالث، وذلك يلقى سقياه إلى الحقل.
ويتناوب أهل النجد تلك الشواديف؛ فهم أبداً جاثمون تحت السعير المتقد من جمرة الصيف في أثمال كشفها البلى عن سواعد دونها الفولاذ، فيشتدون في ساريات الشواديف جذباً ودفعاً حتى يستوفي الحقل رياً، فيُفيئون إلى صفصافة في الحي بها ظل وارف.
وكنا في دهشة الحرب العظمى، فخيم حول المدينة طائفة من جنود بريطانية يحرسون شعاب الصحراء ومفاوزها من أشياع السيد السنوسي، فكنا نصطبح بفرسانهم دارعين يمشون إلى المصاف ثم يعرجون إلى المضارب.
وجاء فيض النيل غمراً كأحسن العهد بالوفاء، وجرى الماء كثيفاً في خليج أهل القبيل، فاندفع الغلمان يسبحون فيه، وتوافد النساء يرتعن ويلعبن.
وكان بالنجد عذراء فتية، لونها الخمر إذا صفا، وغرتها البدر، وخطرتها الظبي، وحدقها المها، تسري بين الربى في قميص قُدَّ من قُبل في غير إثم ولا حرج، وفي خصرها نطاق من نسيج قرمزي كبرزخ الحسن، يعلو بك صعداً إلى معاقد ما بين ثدييها حيث الفتنة
نائمة، ثم يهوي بك إلى كثيب تنوء به ساقاها.
ونشأت (مقطَّفَة) في حمى اليتم، فكفلها أخواها تحت جناحيْ رحمة، وجمعا لها زخرف الثياب والعقود والأقراط، وجمَّلا قدميها بخفين فيهما كل طلىّ من صنع المدينة، وضربا لها خدراً كريماً بين الحمى، فإذا أقلها الخدر وربض أخواها ببابه بات عريناً دونه جبهة الأسد.
وكرّت مقطفة إلى مشرع الخليج وحولها أتراب من الغواني، فأشرق النجد أغواره ورباه، ونضت ثيابها عن قامة كالغصن، فغمرها مدلا بروعة حسنها، ونسج الأتراب من معاصمهن حولها شفقاً رقيقاً كالذي نراه عند مغيب الشمس، فكانت غرّتها تشرق بينهن ثم تغرب في دجى فرعها.
وقدمت فصيلة من جنود الإنجليز إلى الخليج أفراداً وجماعات حتى أكملوا المائة، فنزعوا نعالهم الغليظة، وبعثروا فوق الثرى قلانسهم ومناطقهم، ثم نضوا بقية الثياب وافترشوا أديم الأرض، يستقبلون النيل في فورته واندفاعه إلى الخليج، وكانوا بمعزل عن أهل الحي تحجبهم هضاب وشعاب.
وخرج من صفوفهم فتيان يسبحان في الماء، وظلا في مرح واستباق وتراش بالماء، حتى رنت في أفقهما أغاريد بنات الحي من أقصى الخليج، فهوى أحدهما إلى القاع يسترق الخطى ويسبح الهوينا، حتى كشف له عذاري النجد كالحلقة المفرغة حول (مقطفة).
فخلب لبه ما صاغ المشرق من الحسن، فهو كامن في أفنان النخيل، وطيف النسيم العليل، وصفاء الماء السلسبيل، وملاحة ذلك القد الأسيل.
وسرّح الإفرنجي حدق المأخوذ في دمية النجد وغانية الحي، وبهره وضح جبينها ودقة تكوينها، وسولت له الفتنة أن يستقي حميا ذلك الثغر المصفى.
ونم على الذئب حر أنفاسه فنفر الظباء في ذعر وفَرَق، وتخلفت مقطفة تجمع أشتات العقود والعصائب، وأسبلت قميصاً فضفاضاً يجري ماء الحسن من جيبه إلى ذيله، وهمت في إثر أترابها لولا أن لاحقها الإفرنجي فرأت بشراً من غير معدنها في قميص مندى يكاد يلوكها بماضغ عينيه، ويعتصر جموح غريزته الملحة، فمد يمينه إلى جيدها الغضّ، ولكنها انتثرت كما ينتثر العقد بدراً، وفرت إلى خدرها تملأ الحي رجعاً موجعاً والرجل يشتد في إثرها، وتعلقت فتاة الحي بدروة خدرها ولوحت لأهلها بالعصائب القرمزية فكانت نفير
النجدة.
وأبطأ الفتى الجندي على رفاقه من الإنكليز، فحفوا في أثره وتسنموا ذرى النجد، فخرج عليهم من ظلال الصفصافة حفنة من الفتيان غضاباً للأعراض والأحساب الكريمة، يحملون ساريات الشواديف وفلولاً من أعجاز النخيل، وانهالت الساريات تدق الضلوع، وتفلق الهام، وتطهر باب الخدر بالدماء، واستعر لهب الملحمة واشتد أوارها، وصرع من عامة الجند نيف وثلاثون.
وجاء النذير إلى دار الشرطة بالمدينة، فقدموا إلى ضوامر الخيل، وطوقوا الحي سهله ونجاده، وحُمل الجرحى إلى مضاربهم، وسيق الفتيان إلى السجن مصفدين في الأغلال.
وحشر أهل المدينة في الدروب والمشارق يستعرضون تلك الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة بأذن الله، فإذا هم بضعة نفر من البدو غرا محجلين، يمشون في سكينة وعزة ويقين، مشيئة آبائهم مفاتيح النصر إلى اليرموك والقادسية، حيث دكوا عروش الروم وفارس، وجاء على أعقابهم نساء النجد يبكون حماة الحريم ورفات المجد القديم، وفي طليعتهن مقطفة تندي النقاب، وتهتك الحجاب، وتندب الأهل والأصحاب. وعقد مجلس التحقيق فكان مستفيضاً، وطال أمده يومين كاملين.
وجاءت البينات من جنود الإنجليز تشهد جراحاتهم وما تركت الساريات بأضالعهم وسواعدهم وأعجازهم وهامهم، وأنف حماة النجد من الكذب، وراحوا يصورون للقاضي ما كانوا فيه من دعة وسكينة بين الأهل والولد، حتى وثب الجند بالعقائل يستحلون المحارم ويستبيحون الخدور، فقامت سواعدهم بغريزة الذود وسجية الدفاع المشروع.
وكشف للناس فرسان من الإنجليز يمشون في ركاب أمير الجيش إلى المحكمة، ودخل القائد مجلس التحقيق في عتاده وشارات حسن بلائه، فساور القوم قنوط ويأس وظنوا بالله الظنون، وظلوا واجمين بالباب محتسبين عند الله أكرم القرابين. ولهم معذرة، فان مصر كانت في أغلال عرفية لا خيار لها ولا سلطان.
واستنار القائد بدخائل التحقيق وأسراره فنهض إلى الوثائق يجمعها ويطوي سجلها ويحكم رتاجها، ثم عاد إلى مضاربه وبين يديه الجارمون من أهل النجد.
وهلل الفجر فغصت محاريب المساجد بأهل الدعاء، يرفعون العقائر ويعلنون السرائر،
وتواري بعضهم بين الشعاب المفضية إلى المضارب يتسمعون دوى البنادق وزفرات الشهداء.
فكشف الناس في أفق الصبح قوافل من السيارات تنوء بالعتاد والمضارب وفيها أشباح يخفقون، وهي تطوي ما بين المضارب والمحطة.
وسارع الناس فرادى إلى الأفاريز فتبينوا بارقا من الرحمة، وتوسموا الخير كله في نواصي السيارات. فقد كان ركبها من الذين استباحوا حمى مقطفة وأهل نجدها، طوح بهم القائد إلى أطراف الديار.
وذخر القطار يمشي بهم في غير ذمة الله تشيعهم من ناحية القائد عين ناقمة متبرمة.
وأومأ أمير الجيش إلى سيارة موصدة فانفرجت عن فتيان النجد في أمن ودعة، واستمعوا حكم البراءة مهللين مكبرين، يلوحون بالعمائهم ويملؤون الأفق حمداً وثناء على مكارم القائد ونبله. وتقدمتهم إلى النجد مقطفة تلوي عصائبها القرمزية، وحولها حلقة مفرغة من بنات الحي يغنين نغم البيد، ويرتلن حلو الأغاردي.
إبراهيم جلال
الكتب
ابنة الشمس
بقلم فرنسيس شفتشي
نشرت مجلة (الرسالة) الغراء في عددها الصادر بتاريخ 24 سبتمبر الماضي نقداً لحضرة الأديب الفاضل (الخفيف) عن روايتي ابنة الشمس. وإني لأتقدّم بمصافحته، راجياً أن يكون ذلك بدء التعارف بيني وبينه، وأرى لزاماً في عنقي أن أشير قبل كل شيء إلى روح النزاهة التي بدت في نقده، وعدم تأثره بأية عوامل في إصداره ذلك النقد، وهو ما أرجو أن يتقبّل عنه مني خالص الشكر، غير أني قد رأيت أن أدفع المآخذ التي أخذها حضرته عليّ بما يأتي:
قال حضرة الناقد المحترم: إن عقدة القصة مهمة، وإنني لم أوفق إلى انتخاب حادثة رئيسية، فهنا بنت أنات تحب بنطاؤر، وهنالك نيفرت تحب مينا، وهذا رئيس الكهان يشترك مع والي مصر في إثارة الشعب ضد الملك، وهذا يعاكر قائد الطليعة يريد أن يكيد للملك.
ولعل حضرة الناقد يوافقني على أن الرواية المسرحية لا يجب أن يكون قوامها حادثة واحدة، ولكن محور واحد تدور عليه الحوادث المختلفة، وإن قليلاً من الإمعان في روايتي يبين للقارئ بسهولة: إن ذلك المحور هو النزاع القائم بين الكهنة والعرش. وأن جميع حوادث الحب والثورات والمظاهر المختلفة، وإنما تشعبت من ذلك الأصل. كما يوضح له أنني لم أحل العقدة التي كان أساسها ذلك النزاع إلا في الفصل الرابع من الرواية، أي في الفصل الأخير.
وقبل ذلك كان لزاماً عليّ أن أحيط العقدة بغموض وإبهام كما يشير حضرة الناقد، حتى يكون المتفرج في شوق إلى معرفة الغاية التي أسير به إليها.
إن الكهنة يتآمرون على العرش، وهم بحاجة إلى شخص يكون آلة في أيديهم، وهذا الشخص يجب أن يكون حاقداً على الملك، وهو قائد طليعته. فيجب إذن إيجاد سبب لذلك الحقد. هذا السبب هو حبه الشديد لنيفرت، وعدم توفيقه في الوصول إليها بسبب أوامر الملك. هذا من جانب واحد، جانب الهجوم - إذا صح هذا التعبير - أما من الجانب الآخر
- جانب الدفاع - فقد كان الملك غائباً عن دياره، وحلّت ابنته محله في إدارة شؤون البلاد، وقد اطلعت بواسطة حبيبها بنطاؤر على دسائس الكهنة. فتعاونا معاً على كشف الجريمة واتخاذ التدابير الكفيلة بانتصار رعمسيس.
وبسبب غياب رعمسيس وتنبه الكهنة إلى نفوذ ابنته كانت سياستهم موجهة ضدها، فاخترعوا لذلك قصة الدنس وما تفرع عن ذلك من الحوادث التي ليست في مجموعها إلا إطاراً زاهي اللون لذلك المحور الذي ذكرناه، وهو العامل السياسي، ولو خلت القصة من تلك الزخارف، فلا شك أنها تكون جافة لا يستسيغها القارئ ولا المتفرج، ولاسيما في التراجيديات الكبرى التي تتطلب جهداً وانتباهاً عظيمين. وبراعة المؤلف هي في حسن سبك هذه الحوادث وصبغها بصبغة الأهمية. وإعطائها اللون الذي يجعل لها في نظر المطلع عليها قوة الموضوع الأساسي وعظمته، وفي أن يشعره بأنها متصلة به اتصالاً وثيقاً. وهذا ما توخيته في روايتي. ولقد قال حضرة الناقد في موضع آخر من مقالة: إن كل منظر في الرواية يكاد يكون مستقلاً، فلعلي لا أكون مخطئاً إذا لفت نظر حضرته إلى أن القاعدة الفنية المعمول بها في معظم المآسي العالمية الكبرى هي التي أوحت إليّ السير على هذا النمط الذي أجده معقولاً، فان موضوع القصة يجب أن يقسم تقسيماً عادلاً بين الفصول، بحيث أن الحادثة أو جزء الرواية الذي يتناوله المؤلف في أحد الفصول يجب أن تكون جزئياته كاملة بحثي لا يسدل الستار على شيء أبتر والمتفرج فاغر فاه في انتظار شيء يشعر بلزومه. إن المتفرج يجب أن يشعر إزاء كل جزء من الرواية أنه إزاء رواية كاملة بجميع جزئياتها في دائرة جزء القصة المخصص لذلك الفصل، على أن يربط هذه الحوادث جميعاً بحوادث الفصل التالي للموضوع الأصلي، وهذا بالذات ما فعلته.
أما قول حضرة الناقد أنني جعلت خاتمة المأساة متوقفة على نصيب رعمسيس في الحرب وأن هذا معروف للقارئ. فليسمح لي بأن أقول لحضرته إن المعروف للقارئ عن انتصار رعمسيس لم يتطرق إلى ذهنه بواسطة روايتي إلا في النهاية، ومعرفة القارئ هذا الانتصار من كتب التاريخ لا يقلل من أهمية القصة، بل بالعكس يجعل لها قيمتها التاريخية من حيث أن المؤلف مطالب بالاحتفاظ بروح التاريخ وإثبات الحوادث الكبرى المعروفة. فما يعتبره الناقد عيباً من هذه الناحية هو حجتي في الدفاع عن الرواية. إن المؤلف لا يبالي
معرفة الجمهور بحادث تاريخي معين وإنما هو يسير في عمله على حسب ما يقتضيه سياق القصة وحسن سبكها، ومهمة المؤلف هي في إيضاح تلك الحوادث المعروفة وتصويرها بدقة وإلباسها الثوب القشيب الذي يجعل الجمهور يتقبلها بغير عنت ولا نفور. فإذا نجح المؤلف في ذلك فلا شك أن الاستمتاع بالعمل الفني يكون كاملاً.
أما ما يأخذه عليّ حضرة الناقد من سذاجة الحوار في بعض الحوادث فان ذلك كان يتبع روح الأشخاص الذين كنت أتكلم بلسانهم.
أما ما يتعلق برجوع بنطاؤر عن فلسفته بسرعة وانقياد إلى بنت أنات، فأني أوافق الناقد على انهما لم يكونا بصدد موضوع تافه بل بصدد موضوع خطير للغاية، ولكن بنطاؤر كان مدفوعاً بعدة عوامل أظهرناها جميعاً بجلاء تام في سياق القصة، وخلاصتها أنه كان يحب بنت أبات حباً مبرحاً منذ عام، وأنه كان يخالف في قلبه جميع معتقدات الكهنة ويدين بما تدين به حبيبته، وأنه خاف عليها أن يتولى عقيدتها الطاهرة الفساد. هذا فضلاً عن قوة الحجة التي أدلت بها بنت أنات في حضرة الكاهن وثورتها عليه ولين عاطفة بنطاؤر ونفسه الشاعرية الحسّاسة. لقد اجتمع لديه كل ذلك في وقت واحد فسلّم السلاح. على أن ضميره عاد يؤنبه بعد ذلك فكاشف صديقه نبسشت بعد تردد قليل بما يكنه قلبه. ولا غرابة في ذلك فان بنطاؤر ونبسشت صديقان حميمان وكلاهما يعد نفسه أمين سر للآخر وموضع ثقته وملاذه.
وأما أنني جمعت بين التأليف والتمثيل بإشارتي إلى ما ينبغي حدوثه على المسرح فلا أظن في ذلك مايعيبني، ولاسيما أن هذه هي الطريقة المتبعة في كل المسرحيات الحديثة.
هذا ما وجب أن أدفع به المآخذ الموجهة إلى روايتي، فلعلي أكون قد وفقت في بياني، والله سبحانه وتعالى يهدينا جميعاً إلى ما فيه السداد.
فرنسيس شفتشي
همام
قرأت ما كتبه الأخ الأديب (م) عن قصة (همام) في (الرسالة) الغراء، وأشكره على حسن ظنه في تقريظه، وأدبه في نقده، وأرجو أن أكون أكثر إرضاءً له في المستقبل.
وما أريد أن أعقب على شيء من كلمته إلا قوله: (تدور القصة حول محور واحد، ألا وهو حفلات الزواج في عاصمة الأحقاف) والواقع أنها تدور حول العادات السيئة بحضر موت وإصلاحها، ولم يرد وصف حفلة الزواج إلا عرضاً.
ولابد لي من التنبيه على أن البيت (لولا انتصاف الكأس الخ. .) ليس لصاحب القصة، بل هو لصديق له من كبار شعراء الأحقاف، ورد اسمه في القصة تنويهاً بفضله وأدبه.
علي أحمد باكثير