الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 660
- بتاريخ: 25 - 02 - 1946
أحمد حسنين باشا
1889 -
1946
مات صاحب المقام الرفيع والخلق الرفيع والأدب الرفيع أحمد باشا حسنين في غير الميادين التي تحدى فيها الموت!!
تحداه في الصحراء المجهل حين رحل، وفي السماء المرعدة حين طار، وفي الداء العقام حين مرض، فخنس عن تحديه؛ ثم اختلسه اختلاساً في حادث من حوادث القدر على غفلة من إرادته وحيويته!! ولو كان الموت حليفاً للحياة لأمهل الفقيد حتى يتم عمله الذي تهيأ له بخير الفضائل والوسائل من تربيته وخلقه وثقافته وتجربته؛ ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر!
كان أحمد باشا حسنين - سقى الله بصيّب الرحمة ثراه - مزيجاً حلواً من طبيعتين كريمتين: صوفية مؤمنة، وعسكرية مغامرة. أخذ الأولى عن أبيه وكان من علماء الدين في الأزهر، وورث الأخرى عن جده وكان من أمراء البحر في الأسطول. أما أثر البيئة الأزهرية فيه فخلوص العقيدة، وبلاغة الأسلوب، واستقامة الطريقة؛ وأما فضل الوراثة العسكرية عليه، فحبه للنظام، وولعه بالرياضة، وميله إلى المخاطرة. ثم تخرج في اكسفورد فوجدت هاتان الطبيعتان في البيئة الإنكليزية والثقافة السكسونية الغذاء الناجع والجو الصالح، فنمتا أعظم النمو، وأثمرتا أكرم الثمر. والخلق الإنكليزي الأصيل قائم على جوهر هاتين الطبيعتين وفي هذا سر نجاحه.
كان الفقيد الكريم رياضي الروح والعقل والجسم؛ فمن رياضة روحه نبالة نفسه، ومن رياضة عقله سلامة تفكيره، ومن رياضة جسمه شجاعة قلبه. وهذه الصفات هي التي تنذر في أكثر الناس، وتعسر على قادة الشرق؛ لذلك كان فقد أمثاله رزءاً لا يحتمل وخسارة لا تعوض.
وكان من خواص الأدباء وبلغاء الكتاب؛ وكتابه (في صحراء ليبيا) وآثاره في منشآت (القصر) تتسم بسمة الفكر الناضح والذوق السليم والفن العالي. والبلاغة ظاهرة من ظواهر القوة، وأدب اللسان مظهر لأدب النفس.
وكان من حملة العرش الأقوياء الأوفياء المخلصين. آثر التاج بحبه، وآزره بقلبه، وأحسن
السفارة بينه وبين شعبه. ومن اعتدال الزمان وإقبال الأمور أن تكون بطانات الملوك من هذا الطراز: رأس مفكر، ولسان عف، ويد طاهرة، وقلب مؤمن.
ومما يُطمئن القلب على سلامة الفطرة في هذه الأمة أنها أجمعت على حب هذا الرجل، فكأنها تحب الفاضل لذاته، وتكره أن يدخل الهوى في تقدير حسناته.
إن الشعب الفقير في الرجال خليق بأن يطول حزنه على فقد رجل. وإن المصاب في أمثال أحمد باشا حسنين مصاب في الكيف لا في الكم، وفي الجوهر لا في العرض، وفي الرعاية لا في القطيع. تغمده الله برحمته، وأجزل له ثواب المتقين في جنته، وأخلف بالخير على أسرته وأمته.
أحمد حسن الزيات
دمعة.
. .
على مساجد الفسطاط وآثاره
للأستاذ أحمد رمزي
كانوا مصابيحاً لدى ظلم الدجى
…
يسري بها السارون في الإدلاج
كانوا ليوثاً لا يرام حماهم
…
في كل ملحمة وكل هياج
فانظر إلى آثارهم تلقى لهم
…
علماً بكل ثنية وفجاج
نشرت مجلة الإخوان المسلمين كلمة في عددها الماضي تتلخص في أن أحد النواب صرح بأن في مصر القديمة ثمانية أديرة وكنائس عدة، تقابلها مصلاة واحدة من الطين والبوص على شاطئ النيل وقد اهتمت السلطات لهذا الأمر.
وأبدأ حديثي بأن أشكر إخواننا المسيحيين من مختلف طوائفهم ومللهم أن عرفوا كيف يحفظون آثارهم ومعابدهم وهي حق لهم ومفخرة لمصر؛ وأجزل لهم الشكر والثناء لأنهم بعملهم هذا وسهرهم على تراث آبائهم والمحافظة عليه قد ألقوا علينا درساً مفيداً نحن معاشر المسلمين في القرن العشرين.
ولا أجد ما أعبر عنه للسلطات إذا صدق ما قيل من اهتمامها لهذا؛ فإن هذه الحمية لدليل على وعي قومي ويقظة لم نعهدها من فبل؛ ولذلك نؤمل وننتظر أن تتبع هذه الحمية أو هذه البادرة الطيبة بالعمل الصالح الجريء النافذ؛ فتعيد لهذه البقعة بعض ما اندرس من آثارها ومفاخرها.
ولقد أثارت هذه الكلمة الكثير من شجوني وآلامي، وأعادت إلى ذكرى الماضي العربي في أجلي مظاهره؛ فعدت لنفسي ورجعت إلى الوراء، وتذكرت ما قرأته وسمعته عن عهود كانت فيها هذه البقعة من الأرض عامرة بمساجد الله وبالآثار الإسلامية؛ فعلمت كيف نزلت بها القبائل العربية أيام الفتح الإسلامي، وكيف استوطنتها واتخذت فيها الخطط والمنازل وكيف أصبحت اليوم خالية خاوية.
فمن المسؤول عن هذا الخراب الشامل، وهذا الدليل الذي نعيش فيه؟
إن تحميل الزمن وأحداثه كل العبء من الأخطاء والأرزاء التي نعانيها أمر سهل؛ ولكنه لا يتفق مع الحياة؛ والأمم تحيى وتتغلب بحيويتها ونشاطها وتصميمها وعنادها على حوادث
الزمن ومصاعبه؛ ولذلك فإني أحمّل المسلمين في مجموعهم مسؤولية هذا العبث بآثارهم، لأنهم جهلوا ماضيهم وآباءهم وأجدادهم وتهاونوا في أمورهم لما تنكروا لأصولهم وأمجادهم، وتناسوا منزلة دينهم وأثره في شؤون العالم، فحقت فيهم كلمة التنزيل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها).
وقلت أين علماء الإسلام؟ ما لهم لا يقومون بأداء الأمانة التي في أعناقهم فيعلمونا ما نجهل من أمرنا وأمر ديننا وشؤون من تقدم منا؟ لقد قرأنا عن السلف الصالح من رجال الدين ممن حملوا رسالة الشافعي وغيره من أئمة المسلمين طول القرون الماضية أنهم قوم جاهدوا في الله خير جهاده؛ بذلوا أنفسهم في سبيل العلم، والبذل في سبيل العلم بذل في سبيل الله، وكانوا أشداء إذا اقتنعوا بالحق فجهروا به، رحماء بين أنفسهم ومع الناس.
فأين جهودهم وأين علومهم وهم أولى الناس، أن نتلقى دروس الماضي عنهم؟
والآن قف بالله على أرباض الفسطاط ومنازل العروبة الأولى وموطن الإسلام أيام الفتح! ماذا نرى؟ أطلالا وراء أطلال، وكانت هذه الجهة عروس الدنيا. إنني أنظر إلى وصف الأقدمين لها، وأرجع إلى ما كتبه المقريزي والسيوطي وابن دقماق وغيرهم وإلى علماء المزارات، فأشعر بالحسرة تملأ نفسي وتحزّ في قلبي. وأعود إلى الخرائط الحديثة والقديمة وإلى وصف الرحالين لهذه البقاع فلا أعثر على ضالتي، وإلا فاعلمني أين جامع الفتح مثلاً، بل وأين جامع راشدة؟
لقد كان موقعه بين دير الطين والفسطاط، في خطة راشدة وهي قبيلة من قبائل العرب وبطن من لحم، نزلوا هناك عند الفتح، وأنشأوا لهم جامعاً، ثم عاد الحاكم بأمر الله فجدده وعلّق فيه قناديل من فضة، وعمّر بعد ذلك مراراً؛ وكان يمتلئ بالناس لكثرة ما حوله من السكان. هذا هو قول المقريزي، فانظر ما يقوله على مبارك باشا في خططه، وقد زال هذا الجامع ولم يبق له من أثر.
أما جامعنا العتيق وهو جامع عمروا فباق مع الزمن، يحدّث عن أمجاد العروبة والإسلام، وقد فكر المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيّب الله ثراه أن يعيده إلى سابق مجده، متخذاً في ذلك سنة من تقدمه من ملوك الإسلام في مصر، وعملت له مسابقة دولية، فمتى يتم هذا العمل الجليل وأراه يتألق في مجده القديم، وأمتع ناظري بلوحة من الرخام وقد نقشت عليها
بحروف ذهبية كلمات عمرو بن العاص في إحدى خطبه حينما قال لأهل مصر:
(إعملوا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم، تتجه قلوبهم إليكم وتتشوق إلى دياركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية) وكانت خطبته بجامع عمرو
واستشهد بما سمعه عن الرسول صلوات الله عليه إذ قال:
(إذا فتح الله عليكم مصر فأتخذوا فيها جنداً كثيفاً فذلك الجند خير أجناد الأرض) فمتى يتم ذلك وتعمر الأحياء حوله، وتعود أيام المسجد العتيق فتمتلئ رحباته بالمصلين يوم الجمعة؟ وهو الذي يمثل وحده إذا ذكر، أمجاد مصر وأياديها في خدمة الشريعة ونصرة دين الله، وهو الذي سطع نجم الشافعي فيه، والإمام مفخرة من مفاخر مصر العربية في الماضي، وموضع اعتزازها في الأجيال القادمة بإذن الله.
وذكر صاحب النجوم الزاهرة أن الملك المعزأيبك، وهو أول ملوك الدولة التركية بالديار المصرية والشامية، أنشأ المدرسة المعزية على النيل بمصر القديمة ووقف عليها أوقافاً، وكان مدرسها القاضي برهان الدين الخضر ابن الحسن السنجاري. فأين الآن هذه المدرسة الإسلامية؟ ولماذا لا تعاد إلى مكانتها من العز السالف، كما أعزها منشئها وبانيها؟
لئن قلت موارد وزارة الأوقاف ونضبت، فهل أعلنت أن المدرسة في حاجة إلى المال فقبض الناس أيديهم عنها، وبخلوا بأعطياتهم وتبرعاتهم ليعيدوا أثراً لهم من آثار السلف الصالح يقيمون فيه شعائر الإسلام ويفخرون به.
وكان على شاطئ النيل الجامع الجديد الناصري، أنشأه الناصر محمد سنة 712 هجرية وكانت له أربعة أبواب وفيه مائة وثلاثون عموداً وكان بمصر القديمة، ووصفه المقريزي وصفاً دقيقاً وقال (تولى الخطابة فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الشافعي، ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف). وكان الملك الناصر محمد قلاوون ملكاً ملء عين الزمن، وكان أئمة الدين وعلماء الإسلام وقضاتهم يتقربون إلى الله بخدمة الشعب والامتزاج به ورعايته كما رعى أنبياء إسرائيل خراف إسرائيل الضالة، ولم تكن أخذتهم الأنفة وعلو علواً عظيماً، فوجدوا كبيرة على أنفسهم، إذا تولوا الخطابة والإمامة بمساجد الله، وقد كان الملوك والخلفاء والعظماء يتولونها في السابق، وكان النبي يؤدي رسالته بالمسجد ويقوم بين الناس إماماً وخطيباً.
وأعود لمسجد الناصر فهل تعرفون له مكاناً فتدلوني عليه؟ من أستملك أرضه واستحلّ بنائها؟ وأين أنقاضه وحجارته؟
وتعال معي إلى أثر النبي، وهي التي يريدون برغم أنف الزمن، تعويد الناس أن يطلقوا عليها اسم الساحل القبلي، وابحث عن رباط الآثار النبوية، تجده لا يزال قائماً، ولكن لو كان ملكاً لطائفة من طوائف الأديان الأخرى، سواء أقلت أم كثرت، هل ترضى لنفسها أن تتركه على مثل حالته؟ وهل يليق بدولة إسلامية عربية أن تترك هذا الأثر الإسلامي المنسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام على ما هو عليه، وهو أول مسجد يقابلك وأنت تدخل القاهرة من الجنوب؟ ذكره القدماء وأشاروا إلى الآثار النبوية التي كانت مودعة فيه وإلى تبرك الناس به. وقال المقريزي إنه أدرك لهذا الرباط بهجة وللناس فيه اجتماعات، وقال إن سلطاننا الملك الأشرف شعبان تغمده الله برحمته، قرر فيه درساً للشافعية وكانت به خزانة كتب عامرة.
وهذه الآثار النبوية هي التي أوحت بالشعر لكثير من شعراء ذلك العهد ومنهم خليل بن أيبك الصفدي فقال:
أكرم بآثار النبي محمد
…
من زاره استوفى السرور مزاره
يا عين دونك فانظري وتمتعي
…
إن لم تريه فهذه آثاره
فهل فكر أحد من الناس أن يعاد ترميمه وأن ترجع آثار النبي إليه؟ وأن تزرع حوله حديقة على النيل، وأن ترد إليه مكتبته، والكتب رخيصة الآن؟ وأخيراً درس الحديث في هذه البقعة ما أجمل وقعه على النفس!
هذه مصر القديمة أو العتيقة أو الساحل القبلي، لماذا لا نعيد إليها اسم الفسطاط الذي عرفت به وعرف بها طوال القرون الماضية، ونعيد اسمي العسكر والقطائع للجزء الشمالي منها؟ فنقول قسم الفسطاط بدل مصر القديمة، ومحطة الفسطاط ونضع مشاريع الإصلاح بشرط ألا نمس القديم، ونتخذ فيها ما يحفظ الباقي منه.
إنني أرسلها كلمة حق في سبيل الله، لأنها في نظري البقعة الطاهرة ذات التاريخ التالد، أبينا أم رضينا، إذ يقع بينها وبين قرافة الإمام الشافعي مئات من المزارات والقباب والقبور والآثار التي تستحق عناية المسلمين ويقظتهم وانتباههم. وسيكون من نتيجة الوعي القومي
العربي، العود إلى الماضي، وسيؤوم هذه الجهة عالم الآثار للبحث عن آثارها وما ترك السلف، ويأتيها عالم المزارعات لتحقيق موضع قبر من قبور العلماء أو القضاة أو الأولياء، ويجئ إليها المؤرخ المولع بتتبع حوادث الفتوح الإسلامية والعصور الأولى من الهجرة، فهل تترك هذه الجهات كما هي عليه الآن بغير حمايتها ممن يهدمون الأنقاض وينقلون الأسمدة، وهل ضاقت مصر القاهرة بضواحيها وبيدائها، فلم تجد للمدابغ والمذابح ومخامر الأسمدة غير بقعة الفسطاط وجوار جامع العسكر ودار الإمارة؟ بالله زر هذه الأماكن وتأمل ثم احكم معي وضم صوتك لصوتي لتقول:
إن أشنع تحقير لعصر الفتح الإسلامي وللمسلمين وكرامتهم وعزتهم في القرن العشرين بقاء هذه الحالة في جهة تتصل بماضيهم كما هي في الوقت الحاضر.
وأعود لما كنت فيه، إننا سنجد هناك ما يدعو الواجب الإسلامي والعربي إلى إعادته كما كان في أوج عظمته ومجده، مثل جامع عمرو وجامع العسكر ورباط الآثار والمدرسة المعزية، ومنها ما يكتفي بالمحافظة عليه انتظاراً لمجهود الأجيال القادمة، ومنها ما اندثر مع الزمن فيجب تحقيق موضعه، وبناء نصب يذكرنا به. ولقد سمعت من بعض الجهات أنها تطلب مليوناً من الجنيهات لتصرف على تحسين أماكن الآثار القديمة بالوجه القبلي، فهل فكر أحد في الفسطاط، إنها المدينة التي خرجت من تحت الأنقاض، أنفقوا عليها جزءاً من أجزاء هذا المبلغ الضخم لتكون فرجة لمختلف الفرنجة من السائحين إذ فيهم من يشتاق لرؤية آثار العرب ويقدر ذوقه آثارهم إن لم نقدرها نحن.
ونحن لا نبالي بذلك، بقدر اهتمامنا بالشعب المصري الذي يطالب بما يذكره بماضيه وانحداره من تلك الأصول الثابتة. إن وراء الآثار الإسلامية مجداً وقوة، إذ تلمس من أبنيتها صولة تملأ النفس، وعظمة تخلق جيلاً من الناس، سيسلك حتماً مسلك السلف الصالح من المسلمين. وإياك أن ننسى فتصدق فينا الآية الشريفة بصورة الأنعام:
(فلما نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).
أحمد رمزي
القنصل العام السابق بسوريا ولبنان.
في إرشاد الأريب
إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
- 28 -
ج8ص230: قال أبو حيان انعقد المجلس وغص بأهله فرأيت العامري وقد انتُدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله؟ فعجب الناس من هذه المطالبة. . .
وفي ج16ص312:
وحبذا همة في العزم ما انتُدبت
…
لمبهم الخطب إلا زالت الحجب
قلت: ضبطت (انتدب) في الموظعين بلفظ ما لم يسم فاعله.
في الجمهرة: ورجل ندب إذا كان معواناً منجداً ينتدب للأمور إذا ندب إليها.
وفي الصحاح: ندبه لأمر فانتدب له أي دعاه فأجاب. ومثل ذلك في (النهاية) وقال الأمام الزمخشري في مقدمة مقاماته: وحين أتاح له الصحة التي لا يطاق شكرها انتدب للرجوع إلى رئاس عمله في إنشاء المقامات حتى تممها خمسين مقامة. وقال في الشرح: ندب إلى كذا فانتدب له من كلام العرب.
فانتدب المتعدية لم ترد في كلام العرب الأقدمين ولا المحدثين الأولين ولم يذكرها معجم نعرفه ما عدا (المصباح).
وللعلامة الأستاذ الجليل أحمد بك العوامري بحث محقق في هذه اللفظة روى فيه قول القاموس وشرحه والأساس واللسان والمختار والمصباح ثم قال:
(فأنت ترى أن أحداً ممن روينا عنهم لم يتعرض لانتدب المتعدي إلا صاحب المصباح وتبعه الشيرازي في (معيار اللغة) نقلاً عنه، فقد قال:(وانتدبه للأمر على افتعل: دعاه إليه، فانتدب له يتعدى ولا يتعدى)، فقد جاء انتدب متعدياً، والمصباح من الكتب التي نرجع إليها ونعول عليها، وإن انفرد أحياناً بما لم يروه أحد ممن سبقوه فيما نعلم).
قلت: نقل (التاج) من (المصباح) مسمياً إياه شيئاً في مادة (ندب)، ولم يذكر هذا (الانتداب) المتعدي ولم يشر إليه. واليقين أن (التعدي) مولد متأخر نجم في عصر العلامة الفيومي،
ولم يكن في زمان الإمام السيرافي.
وإذا قبلنا الانتداب اللغوي العوامري في هذا الوقت، فلن نقبل (انتداب) غيره ولا (حمايته) ولا (وصايته) ولا (مشاركته) ولا شيئاً من هذه (المترادفات) الممقوتات الملعونات اللواتي أطرفتنا إياها بعد الحربين - عجّل الله بالثالثة! - تلكم (الديمقراطيات) ذوات الختل والمين، و (أنا أعرف الأرنب وأذنيها).
ج8ص216: صاحب مخرقة وزرق.
وجاء في الشرح: المخرقة مصدر خرق، والمراد الحمق بالتمويه والكذب. الزرق: المعمى.
قلت: المخرقة: مصدر مخرق، وقد أوردها اللسان والتاج في هذا الفعل لا في الفعل خرق. قال اللسان الممخرق المموه، وهي المخرقة مأخوذة من مخاريق الصبيان. وقال التاج: المخرقة إظهار الخرق توصلاً إلى حيلة وقد مخرق. والممخرق المموه وهو مستعار من مخاريق الصبيان، هنا أورده صاحب اللسان، وهو على شرط المصنف. . . فبالأحرى أن تذكر المخرقة هنا، وأما الجوهري، فإنه أورده في (خرق) وحكم على أنها مولدة، والميم عنده زائدة.
قلت: أوردها الصحاح بعد قوله: (والمخراق المنديل يلف ليضرب به، عربي صحيح. . . وأما المخرقة فكلمة مولدة)، فكأن الجوهري يشير إلى أن اللفظة مأخوذة من المخراق - كما قال غيره - ولا يدل إيراده إياها في (خرق) على أخذها من هذا الفعل، وأن ميمها زائدة. وفي شفاء الغليل: قال ابن جني في سر الصناعة في وزن مفعل وقالوا: مرحبك الله ومسهلك، وقالوا مخرق الرجل وضعها ابن كيسان. . . وأصل اشتقاقها من المخراق، وهو منديل يلعب به. وجاءت اللفظة في المقامات الحريرية في المقامة الأربعين التبريزية:(فقال أبو زيد: إنها ومرسل الرياح، لأكذب من سجاح. فقالت: بل هو من طوّق الحمامة، وجنّح النعامة، لأكذب من أبي ثمانة، حين مخرق باليمامة).
وأما (الزرق)، فهذا ما وجدته فيه. في اللسان والتاج: ورجل زراق خداع، وفي شفاء الغليل: أكذب من زراق، وهو الذي يقعد على الطريق، فيحتال وينظر في النجوم، وزرقت أي موهت عليه، قاله أبو بكر الخوارزمي في أمثاله، ولم يذكر كونه مولداً، لكنه مذكور في اللغة الساسانية، وهو يدل على أنه مولد. وفيه: بنو ساسان قوم من العيارين والشطار، لهم
حيل، ووضعوا بينهم لغة اخترعوها، ونظم فيها أبو دلف قصيدة طويلة، وكان الصاحب يتحاور معه بذلك اللسان ويعجب بحفظه، وهي قصيدة بديعة مذكورة في اليتيمة. ويقع من لغتهم كثير في أشعار المولدين، فلا يعرفها الناس. . . منها قول أهل مصر لآكل الحشيش مسطول، ومنها زرق، وهو تعاطى التنجيم وصاحبه زراق.
ذكر الثعالبي في اليتيمة صاحب القصيدة التي أشار إليها الخفاجي فقال: أبو دلف الخزرجي مسعر بن مهلهل شاعر كثير الملح والظرف. . . وكان ينتاب حضرة الصاحب. . . ويتزود كتبه في أسفاره، فتجري مجرى السفاتح في قضاء أوطاره، ولما أتحفه أبو دلف بقصيدته، وذكر (فيها) المكدين. . وأنواع رسومهم، وتنادر بإدخال الخليفة المطيع في جملتهم. . . اهتز ونشط وأجزل صلته عليها.
يقول العلامة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة المصري رضي الله عنه في شرحه مقامات أحمد بن الحسين الهمذاني:
(بنو ساسان الشحاذون وأهل المسألة، وساسان يقولون إنه كان رجلاً فقيراً حاذقاً في الاستعطاء، دقيق الحيلة في الاستجداء، فنسب إليه المكّدون. وعندي أن الساسانية وبني ساسان، وما شاكل ذلك من الألفاظ المشيرة بالتحقير لساسان، وأنه جد السفلة أو شيخهم، إنما جاءت بعد زوال الدولة الساسانية من الفرس التي كان مؤسسها أردشير بابك، فلما محقها الإسلام، وبقى من أطرافها أفراد أذلاء سقطوا في ألسنة فتيان المسلمين الأولين، فكانوا يطردونهم من مكان إلى مكان، ويعيرونهم بعنوان آبائهم. فبعد أن كانت نسبتهم إلى ساسان نسبة مجد وحسب صارت نسبة قذف وسب. وكان في شهر هذا الإسم بالتحقير غاية سياسية فضلاً عما تطمح إليه نفس الغالب من إذلال المغلوب، وهي أن لا يبقى لدولة الساسانية ذكر في لسان، ولا أثر في جنان، ينبئ عن سلطانها أو رفعة شأنها، وإذا خطر أمرها بالبال، فلا يخطر إلا مع لازمه الجديد، وهو السفالة والدناءة، ثم نسى ذلك بمرور الأيام، وبقي اللفظ مستعملاً في الشحاذين، وهم أدنى طبقة في الناس.
قلت: سجاح في كلام الحريري المذكور آنفاً هي بنت الحارث بن سويد بن عقفان من بني يربوع ارتدت وتنبأت، ثم حسن إسلامها، وفيها يقول عطارد بن حاجب:
أمست نبيتنا أنثى نطيف بها
…
وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
وأبو ثمانة هو مسيلمة بن حبيب الحنفي ارتد وفطس قتيلاً كافراً و (لم يكن مسيلمة نبياً صادقاً ولا متنبياً حاذقاً). كما قال الأحنف ابن قيس، وقد عده عربانيون غربيون - مهرئين ومبطلين - وطنياً ثائراً. . . وهي عداوة الإسلامية لا تزايل علماء القوم في أقوالهم ولا ساستهم - أرى الله بهم - في أعمالهم. وقد نسبت إلى مسيلمة مقولات سخيفات صاغها صواغها كي يجعلوه شهرة، منها قوله:
والمبذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً إهالة وسمنا - لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه.
ومن تلك المقولات (يا ضفدع ابنة ضفدع. . .) وهي مشهورة.
2 - بمناسبة (المولد):
لا تخافوا. . .!
(مهداة إلى (جماعة الأخوان المسلمين)
للأستاذ علي الطنطاوي
لاتخافوا، فوالله لا الفرنسيون ولا آل صهيون، ولا دول الأرض كلها تستطيع أن تبيد شعباً عربياً مسلماً، أو تذلّه فتسلبه عزّة نفسه وقوة إيمانه. فجدوا واعملوا، ولا تدحروا وسعاً ولا طاقة، وفتشوا عن القادة، فإنما تنقصنا القيادة، ولكن لا تخافوا على العرب فلسطين أو أفريقية، ولا على مسلمي أندنوسية، فإن (محمداً) قد وضع في دمائهم المصل الواقي من الحور والجبن والتهافت، وصبّ المناعة في أعصابهم صبّا، وعلمهم الصبر على المصائب وإن تتالت، واشدائد وإن تعاقبت، مع العمل على دفع المصائب ورفع الشدائد، فكان الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس من أجل الدين والشرف، فطرة في أتباع (محمد)، وخلقة فيهم أو أرادوا الانفكاك عنها ما طاوعتهم قلوبهم!
ألا ترون إليهم كم غامروا وجاهدوا واحتملوا من الأذى، ثم هاهم أولاء يدعون إلى الجهاد نزْلة أخرى فيمسحون الدموع، ويربطون على الجروح، ويقومون من القبور، ويثبون مع الداعي يأخذون الطعام من أفواه بناتهم، والكسى من نحور صبيانهم، ليبيعوها فيشتروا البندقية ويمشوا إلى الجهاد!
أولئك هم الأبطال حقاً، لا أعني الزعماء الذين يملأون بطونهم من الطيبات، ويمضون إلى الحفلات بالسيارات، ثم يقومون إلى المنبر لا يطيقون الوقوف من التخمة، فيخطّبون بصوت متقطع ألأنفاس من البَشَم لا من الحماس. . . يصرخون: نحن المجاهدون، نحن الذين فعلوا والذين يفعلون. . . ثم يروحون إلى دارهم فينامون وهم يحلمون بالمجد المؤثّل الذي شادته لهم خطبهم في الهواء!
ولا السياسيين الذين لا يعرفون من الوطنية إلا أنها أقرب الطرق إلى الكراسي، فإن جاءت من قبل الشعب، فهم من الشعب وإلى الشعب، وإن لم تجىء إلا من الفرنسيس والإنكليز، فما هم غرباء عن الإنكليز ولا عن الفرنسيس!
ولا التجار الفجار الذين يعبدون الدرهم والدينار، والذين أجاءونا في هذه الحرب وعرّونا، لييريقوا ما سرقوه من ثمن خبزنا وكسوتنا على قدمي كل بغى، وزلفى إلى كل شيطان، فهؤلاء جميعاً ليسوا منا، وإنا منهم لُبرءَاء!
وإنما أعنى هذا الشعب الذي ثار في غوطة دمشق، وميادين القاهرة، وسهول العراق، وصحارى طرابلس والجزائر، ورحاب الريف الأقصى، وثار في فلسطين من ديار الشام، فأترع الدنيا بطولة ونبلا. . .
هذا الشعب الذي خرج منه حارس أميّ من حراس الليل إلى غوطة دمشق، فوقف على نهر ثورا، وما نهر ثورا؟ جدول عرضه سبعة أمتار. . . ووقف جيش فرنسا في الشرق على الضفة الأخرى، وبينهما جسر، وما معه إلا فئة من الثوّار، فلم يستطع جيش فرنسا وقائده الجنرال اجتياز هذا الجسر إلا بعد ما مات الحارس الدمشقي، حسن الخراط، بعد ثمانية عشر شهراً كلها وقائع داميات ومعارك حاميات، ولقد ردّ حسن وأصحابه الجيش الفرنسي مرّةً حتى ألجأوه إلى دمشق، ثم حاربوه في شوارعها حتى أخرجوه منها إلى المزّة، ولبثوا في دمشق ثلاثة أيام وما فيها فرنسي واحد.
هذا الشعب الذي فرّ ضابط من ضباطه من بغداد مع ستين جندياً، إلى الصحراء التي قطعها (خالد) من قبل والعدوّ من أمامه، والعدو من ورائه، والعدو من فوقه، ولو وقفت عليه سيارة، أو كشفته طيارة، لذهب بدداً، فقطع الصحراء، ثم بلغ فلسطين، ثم قاد الثورة فيها، فظفر كما ظفر خالد بالروم، وقذف الله به الرعب في قلوب الجند، فكانوا يرتجفون هلعاً، وينهزمون فزعاً إذا قيل:(فوزي القاوقجى)!
هذا الشعب الذي كان يحارب ضابطاً آخر من ضباطه مع فئات من أتباعه، جيشان أوربيان جيش فرنسي فيه مائة ألف، وجيش أسباني فيه مائة وخمسون ألفاً، هؤلاء كلهم يكافئون في الميزان الأمير المسلم عبد الكريم بطل الريف.
هذا الشعب الذي قابلت حفنة منه مفلولة السلاح، قليلة العتاد، إنكلترا ذات الحول والطول، ومالكة خمس العالم، وثبتت في وجهها سنتين اثنين، لا يوماً ولا يومين، وأرتها من قوة الإيمان العجب العجاب:
بين يدى الآن عدد قديم من جريدة (بيروت) صادر سنة 1937، أفتحبون أن ألخص لكم
خبراً وجدته فيه:
(التقى في (حيفا) نفر من المسلمين المجاهدين في سبيل الله، وفرقة آليّة من الجيش البرطاني، ودارت رحى الحرب، فهجم المجاهدون على الدبابات والمصفحات، فكان إيمانهم أمضى من نارها وأقوى من حديدها، فنفذ منها إلى قلوب من فيها، فلم تغن عنهم صفائحهم ولابارودهم شيئاً، وَأعان الله عليهم حزبه بالرعب، فانهزموا، وهربت مصفحة. . . فطار على وجهها، لا تلوي على شيء، إلي. . . أتدرون إلى أين؟ إلى عكا. . . إلى صور. . . إلى صيدا. . . إلى بيروت. . . إلى طرابلس - إي والله - ولولا أن الأخبار سبقتها إليها حملتها الأسلاك، فقطعوا عليها الطريق بالحجارة، ووقفوها، لولْت منهزمةً إلى بريطانيا!)
هذا الشعب الذي أدهش أهل الدنيا بفتوحاته غابر الدهر، وأدهشهم بثوراته حاضره، وسيدهشهم في مستقبله ويدعهم مفتوحة أفواههم من عظم ما يرون، حين يثب الوثبة الكبرى، التي يعود بها كما بدأ شعباً واحداً، يعبد رباً واحداً، ويتبع الكتاب قانوناً واحداً، لا تعجبوا فتقولوا: أين السبيل إلى الاتحاد الإسلامي؟! فهذه إنكلترا لها خمس الأرض، قد تفرقت بلادها في أرجائها، ثم إن لها ملكاً واحداً وراية ورابطة، أفنعجز أن نوجد للمسلمين نظاماً جديداً مبتكراً، يجمع متفرقهم، ويدني بعيدهم، ويصلحهم ويصلح لهم؟!
وليس الذي انتصر حسن الخراط، ولا فوزي القاوقجي، ولا عبد الكريم، لأنه لا يعقل أن يغلب أفرادُ دولةً، ولكن الذي انتصر هو الإسلام، ولو ثار هؤلاء لغيره ما صنعوا شيئاً، إذا يُتركون لقوتهم وذكائهم وعلمهم، وأعدائهم أشد قوة وأحد ذكاء، وأكثر علما. الإسلام أعجوبة الدهر الباقية، معجزة كل عصر، فيا أيها الأغبياء الذين يجرؤون على قياس الإسلام بنزوات هتلر، وخيالات لينين، وحماقات كل متسلط على العقول أو البلدان، يحسب لجهاه أنه يشرع ديناً ويضع شريعة، إنكم لفي ضلال مبين، أين الهتلرية؟ لقد ذهبت به هزيمة واحدة، وهزيمة مثلها تذهب بباقي الحماقات التي حسبتموها أدياناً!
أما الإسلام: فهو في ذاته قوة لا يحتاج إلى قوة أتباعه ليؤيدوه بها، بل هو الذي يؤيدهم بقوته فينصرون. ولقد تأخر المسلمون ورجع بهم الزمان القهقري، ولكن الإسلام نفذ من الحجب، ولبث يتقدم. إن المبشرين ينفقون كل سنة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ثم لا يأخذون واحداً، حتى يأخذ الإسلام بغير مال ولا عمل تسعة وتسعين. . .
الإسلام ينتشر اليوم بنفسه في أرقى ممالك أوربة، وفي أحط بقاع أفريقية، والمبشرون لم يستطيعوا أن يدخلوا في النصرانية (مسلماً) واحداً. إنهم يجمعون الجهلة من المغاربة الذين لا يعرفون ما الإسلام، فيطمعونهم ويطمعونهم، ثم يلقون عليهم عجائب المسيح، فإذا وصلوا إلى موضع المعجزة، صاحوا كلهم بلسان واحد متعجبين: الله أكبر، لا إله إلا الله!
وينزل المبشر على القبيلة في أواسط أفريقية فيعطى ويرغْب، ويبقى سنة كاملة، فلا يستجيب له منها إلا النفر المعدودون، ثم يأتي التاجر المسلم الجاهل، فينام عندهم، ويأكل طعامهم، فلا يأتي الشهر حتى تكون القبيلة كلها قائمة وراءه تصلي على دين (محمد). . . والمبشرون ينظرون!!
أتشكّون بعد هذا أن الإسلام قوة هائلة للمسلمين؟!
هل عرفتم الصواعق المنقضة؟ هل رأيتم الصخور المنحطة من أعالي الجبال، والسيول الجارفة، والبركان الهائل، و. . . وكل ما في السكون من قوة؟ إنها لن تصد غضبة المسلم إذا كانت لله ولمحارمه ولدينه! هل فيها أشد من الموت؟ فهل يخيف الموت رجلاً خرج يطلب الموت؟!
إن سر قوة هذا الشعب، إنما هي عقيدة القضاء والقدر على الوجه الإسلامي الصحيح، ولكن القادة قلما يدركون هذا السر وقلما يعمدون إلى الاستفادة منه، لأنهم نشأوا يوم كان الشرق ينظر إلى أوربة نظر التائه في البحر إلى المنار الهادي، ويأخذون كل ما يأتيهم منها على أنه الحق الصراح، فكان فيما أخذوه وقلدوا فيه بلا فهم، مبدأ (فصل الدين عن السياسة)، ورأوه استقام في النصرانية، فحسبوه يستقيم في الإسلام، وما درسوا الإسلام على حقيقته، حتى يعلموا أنه دين وسياسة وسأخلاق، وأن سورة (براءة) سياسة، أفنفصل سورة (براءة) عن القرآن؟!
وأمر آخر، هو أن هذا الشعب تلقى عشرة آلاف دعوة إلى البذل في سبيل الله، فلبها كلها، ولكن الدعاة لم يكونوا يلبون أنفسهم في كل حين، وكان فيهم من يلقي كلمته لا يتصور منها إلا ألفاظها ووقعها في الآذان، فهي من لسانه إلى أسماع الناس، لا من قلبه إلى قلوبهم، فهو من أجل ذلك يدع الشعب وحده ويمضي إلى داره ليتحدث عن براعته في الإلقاء، وقدرته على الخطابة، وفيهم من يريد أن يسوق الناس ويقعد، وهذا الشعب لا يطيع إلا من يمشي
أمامه، ويشاركه سرّاءه وضراءه، أما المترفون الذين يريدون أن يناموا على عواتق الشعب، ويغتنوا من مال الشعب، فإن هذا الشعب ينكرهم ويبرأ منهم فعلى الزعماء أن يفهموا ذلك حق الفهم، وأن يكون لهم في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يجوع كما يجوع قومه، ويتعب كما يتعبون، ويعمل بيده مثلما يعملون، بنى معهم مسجد المدينة، وحفر معهم الخندق، وكان يسرع إلى الخطر بنفسه. وقع الصريخ مرة في المدينة، فخرج الناس عجلين، فإذا هم برسول الله، قد وصل إلى مكان الخطر على فرس عريان، لم ينتظر حتى يسرج له، ورجع يطمئنهم بأنه لا شيء هناك. ولقد ثبت يوم أحد ويوم هوازن لما انهزم الناس، وكان يقول معرفاً بنفسه: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. لم يسق الناس إلى الموت ويقم في قصره، ولم يختص نفسه بمأكل ولا ملبس ولا مركب، ولم يربط لنفسه وظيفة من بيت المال، ولم يحمل أسرته وأهله على الناس، ولم يول عاجزاً ولاية لصداقة أو قرابة، ولم يبعد عنها قادراً لبغض أو عداوة، ولم يتخذ قصراً، ولم يقم حاجباً. وكذلك كان خليفته وصاحبه أبو بكر، وكذلك كان أمير المؤمنين عمر، ومن أجل ذلك أجمع الناس على طاعة أبي بكر وعمر، فلم يختلف عليهما اثنان!
أما إن الشعب أقوى الشعوب روحاً، وأطيبها عنصراً، وأصفاها جوهراً، ولكنه ينقصه الزعماء، فهاتوا واحداً مثل عمر ليقوده، وانظروا كيف يأتي بالمعجزات!
(دمشق)
علي الطنطاوي
الأدب في سير أعلامه:
ملْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
في اليوم التاسع من شهر ديسمبر سنة 1608، فتح الوليد جون ملتن عينيه على نور الوجود؛ وبمولده رزقت إنجلترة أعظم شعرائها قاطبة حتى يومنا هذا، إذا استثنينا (شكسبير) وحده، واستقبلت الدنيا قرين الثلاثة الأفذاذ من شعراء الغرب الخالدين: وهم (هوميروس) و (دانتي) و (شكسبير).
وكانت إنجلترة حين مضى الطفل يستقبل حياته، تستدبر في حياتها الأدبية عهداً وتستقبل عهداً. كانت إذا شبهنا ذينك العهدين بفصلين من فصول السنة، بين أعقاب الربيع وطلائع الصيف؛ فأما الربيع المدبر، فكان العصر الأليزابيثي، وأما الصيف المقبل، فكان العصر البيوريتاني. ولقد ألف مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يسموا العصر الأول عصر (شكسبير)، والعصر الثاني عصر (ملتن).
وكان العصر الذي تستدبره إنجلترة ويستدبره ذلك الوليد، عصراً فذاً في العصور الأدبية جميعاً، إذا استعرضنا التاريخ الأدبي لهذه الدنيا قديمها وحديثها. . .
كان حافلاً كما يحفل الربيع بالضوء والنماء والزينة، وكانت ألحانه كألحان الربيع أنماطاً تملأ الأسماع من كل ركن وفي كل سهل، وكانت نفوس أهله تستشعر روح العصر كأقوى ما تستشعر الأنفس روح الربيع، ففي كل قلب تسري الفرحة، وفي كل جسم تدب القوة، وفي كل ذهن يقوم إحساس قوي غامر بجمال الحياة، والأمل في الحياة، والرغبة في الاستزادة من لذائذ الحياة. . .
وإنك لتجد لهذا العصر روحاً مميزة شاعت في حياة الناس، وسيطرت على تلك الحياة، وتتلخص هذه الروح فيما يفهم من كلمتين هما النهضة والحرية: فأما الأولى، فقوامها إحياء
علوم الأقدمين من اليونان والرومان، وإحياء فنونهم وآدابهم؛ وأما الثانية، وهي ثمرة للأولى، فقوامها الانطلاق من ليل العصور الوسطى، والانعتاق من قيودها إلى حيث يفيض النور، ويتسع مجال التفنن والابتداع.
أقبل الناس على دراسة مخلفات اليونان والرومان في حماسة ولذة، وآمن الناس إيماناً قوياً بأن لهم أن يستمتعوا بالحياة أعظم استمتاع وأوسعه، فيغنموا ما في الدنيا من مسرات وزينة؛ فما منحوا الحياة لكي يقضوها متزمتين منها برمين بها؛ وأيقن الناي أن من أهم ما يجب أن تتصف به حياتهم الجديدة هو بث روح الجمال في النفوس والعمل على السمو بها حتى تستشعر الجمال وتبحث عن الجمال وتأنس به لا كمتعة من متع الدنيا فحسب بل كنشوة روحية لا غنى للروح عنها إن هي أرادت التحليق والسمو. وتمسك الناس بفكرة لن يحيدوا عنها، وذلك أن الله وهبهم العقل لينظروا ويتدبروا غير مقيدين بما سلف من آراء مهما بلغ من قيمتها، ولذلك كرهوا القيود كرهاً شديداً وأحبوا الحرية حباً شديداً، وظهر أثر هذا الحب فيما ابتدعوا من شعر ونثر، لا في مادة ذلك الشعر وذلك النثر فحسب، ولكن في الطريقة والصورة بل وفي الألفاظ المستعملة كذلك.
وملأ قلوب الناس التطلع إلى توسيع أفق الحياة العقلية في كل ناحية من نواحيها، وقد جاءهم ذلك مما تم لهم فعلاً من توسيع أفق الحياة المادية بعد كشف الدنيا الجديدة، نتيجة لمغامرة المغامرين منهم وراء البحار في الغرب وفي أسواق آسيا في الشرق؛ وأقبل الناس على كل طريف يتقصونه من الأنباء عن العالم الجديد وعن الشرق، فأثر ذلك في اتجاه عقولهم وفيما أنتجته تلك العقول، تلمس ذلك في الكثير من قصصهم ومسرحياتهم وما تعج به من مواقف مثيرة وحوادث تستهوي الألباب وأفانين من مبتدعات الخيال تبث الروح في النفوس وتحملها على الإعجاب والاستزادة وتيسر لها سبل الابتكار والخلق.
وطاف بالناس شعور بمجد وطنهم وعظمته وتفوقه على غيره، وبخاصة بعد أن حطم أسطولهم الأرمادا أسطول أسبانيا الهائل؛ كما ملأت أفئدتهم وطنية صادقة يلتقي عندها ويتفق عليها المتنازعون في الدين من الكاثوليك والبيوريتانز؛ وإلى جانب ذلك كله أنجب العصر من أفذاذ الرجال في كل ميدان من ميادين الحياة ما يصعب الوقوع على أمثالهم مجتمعين على هذا النحو في غيره من العصور، فلم تخل ناحية من النواحي من أماثل
نابهين، ففي الأدب والفن والفلسفة وفي الجندية والبحرية والسياسية والحاشية عظماء يزدان بهم العصر وتعظم بهم الحياة.
هذا هو العصر الذي كانت تستدبره إنجلترة ويستدبره ملتن، أو هذا هو الربيع الراحل؛ ولن تعدم المعين في أخريات الربيع أن تقع على زهرات شتيتة هنا أو هناك في جنته التي تنذرها أنفاس الصيف بالفناء القريب؛ ولن تعدم الأذن كذلك أن تسمع في ذلك الفردوس الذاهب نغمات حائرة بين الحياة والموت. وكذلك كان الحال في أخريات عهد إليزابث، فكانت بعض ثمرات العقول مثل كتابات بيكون لا تزال تقدم إلى المجتمع، كما كانت بعض ألحان العصر كأصداء الربيع الذاهب لا تزال توقع على أوتار شكسبير إذ لم تسكت تلك الأوتار إلا بموت صاحبها عام 1616 أي بعد ثمانية أعوام من مولد ملتن.
وأقبل الصيف في إثر الربيع فجاء منذراً بالقيظ تلفح أنفاسه لفحاً يبدو قاسياً وتشعر النفوس في مقدمه بالصرامة والقسوة والعبوس حتى كان ينسيها ذلك طلاقة الربيع ومفاتن الربيع.
تمكنت البيوريتانية من المجتمع وتسلطت على الناس؛ وكان ملتن يستقبل شبابه بينما كان ذلك المذهب يستقبل فتوته وسلطانه. واعتنق ملتن ذلك المذهب وتحمس له، ولكن كانت قد استقرت في حسه وخياله تلك المواكب التي انطوت، وتلك النغمات التي احتبست، فراح كالطائر المنفرد المتخلف يغني في هجير الصيف ألحان الربيع!
وما هذه البيوريتانية التي سوف يعتنقها الشاعر في شبابه والتي سوف تؤثر تأثيراً قوياً في مزاجه وفنه وسلوكه وموقفه من حياة عصره؟ أجل، ما هذا الصيف الصارم العابس الذي أعقب ذلك الربيع الرضى الطلق؟
جدير بنا أن نعرف أولاً من هم البيرويتانز ولماذا أطلق عليهم هذا الأسم قبل أن نتعرض لمذهبهم ونظرتهم إلى مسائل الحياة وأثر تلك النظرة في العصر الذي تم لهم فيه السيطرة والجاه.
أطلقت هذه الكلمة أول ما أطلقت على فريق من رجال الكنيسة في إنجلترة في عهد الملكة اليزابث، فقد أرادت هذه الملكة أن توحد طقوس العبادة في كنائس مملكتها جميعاً، وكان أبوها الملك هنري الثامن قد فصل الكنيسة في إنجلترة عن كنيسة روما عام 1529 بسبب ما شجر بينه وبين البابا من خلاف يتصل بقضية زواجه، وجعل الملك نفسه الرئيس
الأعلى للكنيسة بدلاً من البابا؛ فأصدرت الملكة عام 1559 المرسوم الذي يوحد العبادات ويحرم من صورها ما لم يرد ذكره فيه؛ فكان رجال الدين حيال هذا المرسوم فريقين، فريقاً رضى عنه، وفريقاً ودّ لو أنه كان أكثر تطرفاً في الابتعاد عن روما فأبطل ما لا يزال من صور العبادات يأتي على شاكلة ما يتبع في الكنيسة البابوية وما يعد في نظرهم من البدع والخرافات. وهذا الفريق الثاني هم الذين أطلق عليهم أسم البيرويتانز أو المطهرون، وذلك لأنهم كانوا يريدون تطهير العبادات من آثار كنيسة روما. ولم يمض على صدور ذلك المرسوم إلا نحو خمسة أعوام حتى كان هذا الإسم شائعاً على الألسن يطلقه الناس على هذه الفئة المغالية في القضاء على كل ما له صلة بروما.
ولكن ما هي إلا أعوام ثمانية أخرى حتى خرج بعض الناس ممن كرهوا هؤلاء المغالين بهذا اللفظ عن مدلوله البسيط فصاروا يطلقونه على كل من يرمونهم بالمروق من الدين ليلحقوا وصمة الفسوق بالبيوريتانز إذ يسلكونهم والفاسقين والمنافقين في سلك واحد، حتى لقد أوشك أن ينسى مدلول الكلمة كما نشأت في وضعها الأول وأصبح البيوريتانز في نظر خصومهم ومن يجهلون أغراضهم هم الضالين الملحدين.
وتزايد استعمال الكلمة في مدلولها الجديد الظالم حتى أصبحت البيوريتانية في أذهان بعض الناس مرادفة للألحاد والنفاق والضلال وما كانت حين نشأت إلا الرغبة في الإصلاح والتطهر من البدع والتملص من كل ما لا يعد من جوهر الدين.
وزاد بعض خصوم المذهب بعداً بالكلمة عن معناها الأول فنسوا ما في ذلك المعنى من عنصر ديني طيباً كان ذلك العنصر أو خبيثاً، وصارت عندهم كلمة سباب عامة يعبرون بها عن كل معيب ويطلقونها على كل من يريدون الطعن فيهم من الناس كما يطلق لفظ الشيطان مثلاً على كل شرير أو معتد أو عابث.
ولما شاعت البيوريتانية في المجتمع ونمت كمذهب لا يقتصر على النظرة الدينية بل يتناول كذلك السياسة والخلق والفكر والفن دأب خصوم هذا المذهب في محاربته بالطعن في أشياعه، وحسبهم أن يطلقوا على الرجل منهم ذلك اللفظ الذي بعد عن مدلوله كل البعد والذي أصبح مسبة عامة ليشفوا ما في صدورهم من غل. تجد مثلاً واضحاً لذلك في العبارة الآتية التي وصفت بها كاتبة في أوائل القرن الثامن عشر ما كان يلاقي البيوريتانز
من خصومهم في عهد الملك جيمس الأول الذي خلف إليزابث على العرش عام 1603 أي بعد نحو أربعين عاماً من مبدأ ظهور البيوريتانية قال: (إذا أظهر الرجل حزنه على ما ينال شرف المملكة وما يصب من العذاب على رؤوس الرعية فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وجميع من لا يأبهون بمطالب رجال الحاشية الممتدة أيديهم والقساوسة المعتدين على الحقوق وذوي الرذيلة من النبلاء فهم كذلك بيوريتانز! ومن لا يطيقون سماع الأيمان الحانثة والحوار الذي يكنفه الأسفاف، والتعريض الماجن والاستهزاء بكلام الله فهم جميعاً في عداد البيرويتانز؛ ومتى كانوا بيوريتانز فهم أعداء الملك وحكومته وهم متمردون متبجحون منافقون وهم الطاعون في هيكل المملكة)
على أن هؤلاء البيرويتانز على الرغم من مطاعن خصومهم يتكاثر عددهم ويتغلغل في النفوس مذهبهم منذ أواخر القرن السادس عشر، ولن يزالوا في تكاثرهم وتحمسهم حتى تم لهم السيطرة السياسية على البلاد عقب الحرب الأهلية التي انتهت بأعدام الملك شارل الأول، وكان مرد الانتصار على الملك وحزبه إلى عبقرية حربية ظهرت في شخص أليفر كرمويل أحد أشياع ذلك المذهب.
(يتبع)
الخفيف
العرب واليهود
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وقد قرب هذا الدور على الأخص اليهود من العرب كثيراً. فإن دخول اليهود إلى أراض عربية بحتة والتجاءهم إليهم بعد طردهم عن أوطانهم، جعلتهم يطلبون حماية العرب. ولأجل تقريب أنفسهم من القبائل العربية تظاهروا بروابط النسب والقربى ونشروا سلسلة الأنساب المعروفة عند العرب. وحاولوا ولا شك التأثير على العرب من النواحي الأخرى، ومن النواحي الدينية ومن النواحي الثقافية؛ إلا أنهم لم يتمكنوا من التأثير في العرب من الناحية الدينية على ما يظهر، فقد كان العرب منذ القدم اعتزاز عظيم بآلهتهم وبأصنامهم، ولم يكن من السهل عليهم ترك عبادة هذه الأصنام. في حين أن اليهود كانوا يعبدون إلهاً واحداً خلق هذا الكون بأجمعه، إلا أنه إله شعب واحد هو إله إسرائيل فحسب. والظاهر أنهم لم يرغبوا في إشراك شعب آخر بعبادة هذا الرب الذي خصص نفسه بهذا الشعب.
أما من النواحي الأخرى فلم يكن هنالك مانع يحول بين اليهود وبين الشعوب الأخرى، لأن في رابطة النسب خدمة عظيمة تساعد هذه الجاليات اليهودية كثيراً؛ فنشروا الأساطير اليهودية بين العرب وعلموهم شيئاً كثيراً من أخبار التوراة، ولاسيما ما يخص الخلقة ومنشأ التكوين وقصص بني إسرائيل. يجعل جدول الأنساب الوارد في العهد القديم العرب في نفس الحقل الذي دون فيه نسب اليهود. فابراهيم هو جد العرب الأكبر كما هو جد اليهود. وإذا كان إسماعيل هو والد العرب اإسماعيليين وهو ابن إبراهيم فإن اليهود وهم من نسل إبراهيم على هذا هم أقرباء العرب وأبناء عمهم ومن شجرة واحدة.
وتنتسب بعض القبائل العربية الشمالية إلى إبراهيم رأساً. وإبراهيم على ما تقول التوراة لم يترك له خلفاً في البلاد العربية، وإنما ذهب نسله إلى تلك البلاد، وأن إبراهيم كان قد ذهب إلى فلسطين فانتشر أحفاده الذين تكاثروا وظهرت من ذرياتهم تلك الشعوب.
وإسماعيل هو ابن إبراهيم من زوجته هاجر التي تعرف عليها أثناء هجرته إلى فاران في القسم الشمالي من شبه جزيرة طور سيناء. وقد ترك إسماعيل له أثنى عشر ولداً تشعبت منهم القبائل الإسماعيلية التي انتشرت في شبه جزيرة طور سيناء وفي وادي الأردن.
وعلى هذه النظرية العبرية يكون موطن القبائل الإسماعيلية هذه المنطقة التي نزل بها إبراهيم وإسماعيل وهي منطقة فلسطين وطور سيناء وشرق الأردن ومنها انحدرت القبائل الإسماعيلية إلى سائر الأنحاء كالحجاز.
ومن رأى المستشرق مركليوث أن كلمة (إسماعيل) العربية التي وردت في القرآن الكريم عدة مرات، هي ذات الكلمة التي وردت عند اليهود بصورة (يشماعيل) مبتدأة بحرف العلة. وإن هذا التشابه يجعلنا نعتقد بأن العرب قد أخذوا عن اليهود بطريق اليونانية أو السريانية، لأن النصوص العربية القديمة التي وردت فيها كلمة (إسماعيل) كانت تكتبها (يشماعيل)، أي مبتدأة بحرف (ي)، أي على نحو ما كان يدونه اليونان أو السريان.
ويرى هذا المستشرق أيضا أن العرب القدماء لم يكونوا يعرفون شيئاً عن ابراهيم، ثم تعلموا ذلك في أيامهم المتأخرة بعد اتصالهم بيهود الحجاز، فلما تعلموا ذلك صاغوا الكلمة بالقالب الذي صاغوا به كلمتي (إسماعيل) و (إسرائيل) وما شابه ذلك. وعلى كل، فإن هذا هو رأي مستشرق وهو رأي يحتاج إلى دليل.
وما دامت معرفتنا بالأساطير العربية القديمة وبديانة العرب وأخبارها لا تكاد تكون شيئاً، فإننا لا نستطيع أن نبحث في هذا الباب بحثاً صحيحاً. والمصادر العربية الكتابية لا تشير إلى كل حال بأية إشارة إلى اطلاع العرب على جداول الأنساب اليهودية، بل يظهر منها أن القبائل العربية كانت تنتسب حينما تنتسب إلى آلهتها المحلية، فقد كان لكل قبيلة صنم أو أصنام تنتسب إليه أو إليها، وقد كانت هذه الأصنام هي رابطة تلك القبائل، وكانت تحتمي بتلك الأصنام، كما تدل على ذلك عبارات مثل (عم صدوق) أو (عم نكرح) وما شابه ذلك.
وإذا ما تقوت القبيلة وازداد نفوذها، تقوى صنمها طبعاً، وكثر أتباعه ومعظموه، فتندمج القبائل المتحالفة بها، وتنتمي إليها وتنتسب إلى ذلك الصنم، وتصبح وكأنها من نفس تلك القبيلة. وهذا النوع من النسب الذي يكثر وجوده في مملكة المعينيين والسبئيين لا يشابه جدول الأنساب عند اليهود.
وقد حاول المستشرق ماركليوث البحث عن الوطن الأصلي لليهود، ذلك الوطن الذي أهملته الكتب اليهودية تماماً ولم تتعرض له ألبتة. وقد قارن بين أسماء الآلهة عند اليمانيين
وطريقة التفكير الديني والمعتقدات وأسماء الأشخاص عند عرب الجنوب وبينها عند اليهود، فتوصل إلى رأي هو أن الوطن الأصلي لليهود لم يكن أرض فلسطين أبداً، بل قد يكون أرض اليمن، وهي أرض الهجرات السامية، ذلك الوطن الذي ارتحل عنه هذا الشعب.
على كل، فقد هاجر اليهود إلى أرض فلسطين، وصاروا يحاربون الأمارات والمشيخات مدة طويلة. وقد تألف من هذه الأمارات حلف قوي لطرد العبرانيين أمثال: الكنعانيين والعموديين والحيثيين والفلسطينيين الذين كانت لهم حكومة متحالفة تشمل خمس مدن أو أمارات صغيرة، هي غزة وأشدود وعسقلان (اشقلون) وجت (معناها المعصرة) وعقرون.
أضف إلى ذلك الأمارات الأخرى أمثال إمارة العموتيين وإمارة بني عمون وإمارة موآب وأدوم التي تقع في جنوب البحر الميت على تخوم موآب في مرتفع من الأرض يطلق عليه اسم جبل سعير. وقد عارضت كل هذه الأمارات الاسرائيليين وقطعت عليهم الطريق، وكبدوهم خسائر كثيرة لم تنقطع طول مدة بقاء اليهود في فلسطين.
دخل اليهود فلسطين ومعهم فكرتهم الدينية، إلا أن هذه الفكرة لم تكن تتجاوز تلك العقيدة التي نقرأها في التوراة والتي تتمثل في سفر يشوع على الأخص. وهي أن إله إسرائيل قد وعد شعب إسرائيل بأرض إسرائيل، فعلى هذا الشعب أن يخلص تلك الأرض من أيدي الشعوب الساكنة فيها، وعلى يشوع أن يتشجع ويحارب ليخلص تلك الأرض وليسيطر عليها من نهر الفرات الكبير إلى البحر. فلما دخل الاسرائيلون تلك الأراضي وجدوا شعوباً كانت مقيمة فيها خضعت لهم ولكنها لم تخرج من أرض فلسطين بل ظلت جذورها باقية إلى زمن الفتح الإسلامي. ويرى بعض الاختصاصيين في التاريخ العبري أن الكنعانيين من شعوب فلسطين القديمة على الأخص لم يرحلوا عن فلسطين بل ظلوا فيها إلى الفتح الإسلامي. ولما أصبحت فلسطين أرضاً إسلامية دخل هؤلاء في الديانة الإسلامية وظل بعضهم على دين النصارى حتى هذا اليوم. ويستطيع الإنسان على ما يقوله هؤلاء الثقات في التاريخ العبري أمثال الأستاذ روبنسون والسير فرازر أن يلاحظ ملامحهم في سكان فلسطين الذين يتكلمون اللغة العربية، إلا أن كثيراً منهم ينحدر من ذلك الجيل الكنعاني القديم صاحب فلسطين قبل هجرة العبرانيين إلى الأرض الموعودة بمئات وألوف السنين.
وهم يمثلون اليوم أرضهم خير تمثيل.
وهنالك فرق عظيم بين هذه الهجرة العبرية التي كانت تحمل فكرة دينية وبين تلك الهجرة الاسلامية التي كانت تحفزها فكرة دينية أيضاً. فالمسلمون الذين غادروا الحجاز لنشر كلمة التوحيد لم يكتفوا بالحجاز أو فلسطين أو سوريا والعراق وبشبه الجزيرة كلها، بل أرادوا فوق ذلك نشر دين الله في جميع أنحاء الأرض في كل بقعة يقيم فيها إنسان. ففكرتهم إذاً فكرة إنسانية عالمية تستوي عندها جميع الأقوام والجنسيات في الحقوق والقانون. أما هجرة العبرانيين فقد كانت موضعية تريد شعباً واحداً من بين سائر الشعوب.
جواد علي
الكذب والنسيان
كما يراهما (أبو العلاء المعري)
الأستاذ كامل كيلاني
- 2 -
10 -
َقْصُرالُكْنيةَ
ثم راح يعاتبه على قصر كنيته، بعد أن امتدحه في رسالته تلك بإنه قد برأنظمه من الضرورات التي يضطر إليها غيره من الشعراء، فقال بعد بيان ممتع: فمن هجر هذه الضرورات وغيرها مما ذكرته لطال به الكتاب، كالتقديم والتأخير، والفرق بين المضاف والمضاف إليه. . فكيف استجار أن يقصر كنية صديقه. أما السمة (أي: الإسم) فغيرها، وأما الكنية فقصرها. فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا أمر من الله، ليس من ضعف الشاعر ولا وهن القائل، ولكنه من سوء الحظ لمن خواطب، والاتفاق الردئ لمن سُمِّى وذكر.
11 -
ضرورات الشعر
ثم قال وأبدع: ولا يقل سيدي الشيخ - أدام الله عزه - قد قصرت الشعراء، قديمها ومولدها، وأولها السالف وآخرها، وفصيحها الطبيعي ومتكلفها.
فإنه لو كان استعمل ضرورة غير تلك لقبلت حجته. ولكنه ألغى الضرورات بأسرها، ورفض العيوب فلم يستعملها. وإنما تنوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور النظر (أي: لازم له) محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
12 -
سبب نسيان
وما زال المعري ينتقل في هذه الرسالة من طرفة، ومن دليل إلى دليل، وهو يدس في أثناء مديحه عتابه، ويمزج شهد الكلام وصابه، حتى كشف لنا عن سر ذهول صاحبه عن اسمه. فقال: وفي كتابة - أدام الله عزه - شكوى رعشة، وما أعرف سبباً يؤدي إلى ذلك إلا أن يكون الافراط في درس العلم، فقد قال الشاعر:
أرعشتني الخمر من إدمانها
…
ولقد أُرِعشْتُ من ير كبر
والعجب أن المعري كان لا يخشى من مصائب الدهر إلا أن تسلمه الشيخوخة إلى الذهول والنسيان وتفضى به إلى الهتر والخبال، فقال في لزومياته:
وما أتوقى والخطوب كثيرة
…
يد الدهر إلا أن يَحُل بي الُهْترُ
والهتر - وقاكم الله ووقانا شره - هو ذهاب العقل من كبر، أو حزن. ولقد ظل شيخنا محتفظا ًبيقظة ذهنه ورجاحة عقله حتى لحن ذات يوم، فتننبأله بعض خاصته يدنو أجله، وصح ظنه فمات بعد أيام قلائل.
أما النسيان فيعلله المعري في رسالته الغفران أبرع تعليل في حوار ابن القارح والجنى أبي هدرش. يقول ابن القارح: (أيها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك) فيقول الجني: (لسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حما مسنون، وخلقنا من مارج من نار).
13 -
طول الأمد
وإذا علل أحد الشعراء نسيانه بفرط الحب، فقال:
(وحبك قد أنساني الشي في يدي
…
وأذهلني عن كل أمر أحاله)
فإن المعري يرى أن طول الأمد كفيل بنسيان كل شئ، فيقول في لزومياته:
(كل ذكر من بعده نسيان
…
وتمر الدهور والأزمانُ
ويقول:
سيُنْسىَ كل ما الأقوام فيه
…
ويختلط الشآمي باليماني
ويقول:
وسوف ننسى فنمسى عند عارفنا
…
ومالنا في أقاصي الوهم أشباحُ
ويقول:
سيسأل ناس ما قريش ومكة
…
كما قال ناس ما جديس وما طسم
أرى الدهر يفنى انفسا بفنائه
…
ويمضي فما ببقى الحديث ولا الرسمُ
14 -
الهول والفزع
والمعزى يرى أن الهول والفزع ينسيان أذكر الناس وأذكاهم، فنرى في غفرانه صاحبه ابن القارح يسأل الخليل بن أحمد في الجنة عن أبيات ينسبها الرواة إليه فيقول الخليل:
(لا أذكر شيئاً من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقاً) فيقول ابن القارح: (أنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكى العرب في عصرك؟) فيقول الخليل: ((إن عبور الصراط ينفض الخلد مما استودع).
ونرى أبا العلاء يتخيل صاحبه ابن القارح وهو يسأل (تميم ابن أُبَيَ) عن معنى كلمة المرانة التي وردت في قوله:
(يا دار سلمى خلاءً لا أُكلِّفها
…
إلا المرَانةَ حتى تسأم الدّنيا)
فيقول تميم: (ما أردت بالمرانة فقد قيل إنك أردت اسم امرأة وقيل هي اسم أمة، وقيل العادة) فيقول تميم: (والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر أو الرجز. وذلك أنني حوسبت حساباً شديداً، وقيل لي كنت فيمن قاتل (علي بن أبي طالب) وانبرى إلى النجاشي الحارثي، فلما أفلتُّ من اللهب حتى سَفعتني سفعات. وإن حفظك لمبُقِّى عليك. كأنك لم تشهد أهوال الحساب الخ.
15 -
هول الموت
أما هول الموت فينسي كل شيء ويذهل الشجاع عن كل شيء. قال المعري:
والموت ينسي كَمِيَّ الحرب صارمه
…
ودرْعهُ وفتاة الحي مِجْولَها
وقال:
وأظنني أن لست أذكر بعده
…
ما كان من يُسر ومن إملاق
16 -
نشوة الخمر
وقد رأينا - فيما سبق - كيف رأى في الخمر مذهلاً له عن كُرْبتهِ، منسياً لغربته، فتمنى أن تصبح حلالا لتذهله عن همومه وأحزانه، فلا يفوتنا أن نذكر قوله في لزومياته:
(أيأتي نبي يجعل الخمر طِلْقة
…
فتحمل ثِقلا من همومي وأحزاني
وهيهات لو حلت لما كنت شارباً
…
مخففة في الحكم كِفَّة ميزاني)
17 -
شعر آدم
والمعري يقول في لزومياته في معرْض الإشارة إلى نسيان الشيخ آدم أبي الخليقة:
احتج في الغي بالنسيان والدهم
…
وقد غووا بادكار، لا أقول: نَسُوا
ويقول في غفرانه، متخيلاً صاحبه ابن القارح وقد عمد لمحله في الجنان، فيلقي آدم عليه السلام، في الطريق، فيقول: يا أبانا صلى الله عليك، وقد روُي لنا عنك شعر، منه قولك:
(نحن بنو الأرض وسكانها
…
منها خلقنا وإليها نعودْ
والسعد لا يبقى لأصحابه
…
والنحس تمحوه ليالي السعودْ)
فيقول: (إن هذا القول حق. وما نطقه إلا بعض الحكماء. ولكني لم أسمع به إلا الساعة.
فيقول: (فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت فقد علمت أن النسيان متسرع إليك. وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوة في قرآن محمد (ص): (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) وقد زعم بعض العلماء أنك سميت إناساً لنسيانك، واحتج على ذلك بقولهم في التصغير:(أَنيْسِيان) وفي الجمع أناسي. وقد روى أن الإنسان من النسيان، عن ابن عباس. وقال الطائي:
لا تنسَيَن تلك العهود، وإنما
…
سميت إنساناً لأنك ناسي
فيقول آدم (ص) أبيتم إلا عقوقاً وأذية: إنما كنت أتكلم العربية وأنا في الجنة. فلما هبطت الأرض نقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت. فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة عادت على العربية. فأي حين نظمت هذا الشعر. في العاجلة أم الآجلة. والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة. ألا ترى قوله: (منها خلقنا وإليها نعود) فكيف أقول هذا القول ولساني سرياني. وأما الجنة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنه مما حكم على العباد. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي (وإليها نعود) لأنه كذب لا محالة. ونحن معاشر أهل الجنة خالدون مخلدون. فيقول: (إن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده يعرب في متقدم الصحف السريانية، فنقله إلى لسانه. وهذا لا يمنع أن يكون. وكذلك يروون لك - صلى الله عليك - لما قتل قابيل هابيل:
(تغيرت البلاد ومن عليها
…
فوجه الأرض مغبر قبيح
وأودي رُبْع أهليها فبانوا
…
وغودر في الثرى الوجه المليح
ويندد به في معرض حديث ابن القارح مع آدم (ص) في الجنة، وسؤاله عن بيتين
يعزوهما الرواة إليه فيجيبه آدم بقوله: س (أعزز عليّ بكم معشر أبينيّ. إنكم في الضلالة متهوكون (أي: خابطون على غير هدى) آليت ما نطقت هذا النظيم ولا نطق به في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذبْ بعضكم على بعض).
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني
حرية الرأي
في مدى العوامل غير الشعورية
للأستاذ حسين الظريفي
إن حرية الرأي لا تتمثل في أن لنا أن نختار فيما نفكر وفي طريقة التفكير وفيما نصل أليه من مبدأ وغاية، ثم نقف عند هذا المرتفع من الحرية لا نتقدم. وانما هناك شيء يسبق الاختيار، هو أن نكون بمعزل عن التأثر بما ورثنا وبما حرثنا حتى إذا تلقينا الفكرة من غيرنا أو من عند أنفسنا بصفاء لا يشوبه كدر كان من حقنا أن ندعها أو نصدع بها، وتلك هي حرية الرأي في شقيها المتلازمين.
إذا كان من حق الباحث أن يكون حر الاختيار تجاه أية فكرة تعن له من محيط نفسه أو من الخارج، فأن من حق تلك الفكرة ألا تنظر بالعين الملونة بأصباغ الماضي القريب والبعيد، وما قيمة الخيرة في وسط غير مختار؟
لقد عرف التاريخ أناساً كان في وسعهم أن يأتوا ببعض الحقائق في بعض المواقف، وكان الظرف الذي عاشوا فيه يدعو إلى هذه الدعوة ويهيء لها، إلا أنهم كانوا من الخضوع لما عرفوا وألفوا بحيث تهيبوا التفكير بكل جديد فمروا بالحياة ولم تمر هي بهم. وعرف التاريخ أناساً جاؤوا بالفكرة الصالحة وبالمبدأ الصالح ثم قبروا وما جاؤوا به، ملومين غير مكرمين. ذلك لأن آراءهم لم تلمس إلا بيد كانت داخل قفاز مما وهب الماضي وكسب الحاضر، فتراءت بلون غير لونها وأعطى لها دون وزنها. وكذلك يفعل المقلدون.
وظاهر، أننا نرث ما ترك لنا الأولون من عقائد وتقاليد. . . بشيء كثير من التقديس. وكل فكرة جديدة تعن لنا أو تعرض علينا إنما يحدد لها أمد البقاء بالقياس إلى قوة اصطدامها بالقديم الموهوب أو المكسوب. أما التقديس فأنه وليد الغموض الذي يحيط بنشأة كل قديم، ولذلك نجد هذا التقديس يزداد أثراً في النفس وقوة على البقاء كلما كان أوغل في إبعاد الماضي السحيق وأبعد عن التعليل والتحليل. فالعقدة في تقديس الشيء هي فيما يعلو أصله من جهالة، فمتى ما استطعنا رد ذلك الشيء إلى أصله الذي صدر عنه، ظهر لنا تقديسه وكأنه ضرب من الوهم. وكان في استطاعتنا أن نأخذه بضروب النقد وبالأخذ والرد وأصبحنا أحراراً في موضوعه.
إن الخطورة ليست في ذات الفكرة، وإنما هي في تلك الهالة التي تحيط بها وهي ليست منها في شيء. ولا حق لنا في حرية الرأي تجاه ذات الفكرة إن لم نهتك دونها الحجاب ونخرجها من الإطار الذي وضعت فيه. عند ذاك فقط يصح لنا أن نتمتع بحرية الرأي ونقول: هذا خطأ وهذا صواب.
وقد يقوم بيننا وبين حقيقة الشيء حجاب هو من صنعنا ومن وضعنا، فيخرج الشيء عن حقيقته ويظهر لنا بغير مظهره فنشط بالحكم ونجور فيه، على غير إرادة وعن غير شعور.
لقد قامت خصومات كثيرة على المناهج والمبادئ، ولكنها كلها لم تنته بالنصر لأحد الفريقين المتخاصمين وبالتسليم على الفريق الآخر وإنما بقيت الخصومة قائمة بينهما تهدأ تارة وتثور أخرى. كذلك الخصومات التي قامت وتقوم بين بعض المعاصرين على غير فكرة واحدة وفي أكثر من ميدان واحد، فأنها لم تنته إلى نقطة اتصال وتفاهم، وإنما زادت كل مخاصم تعصباً لفكرته ومقتاً لآراء الآخرين، ولم ينقطع البحث إلا على القطيعة. وما كان هذا الحوار في التلقي والإلقاء في ميدان البحث والمناظرة إلا وليد تلك الأحياء التي تعيش في أحشاء العقل الباطن، وهي من غور قاعه، ومن وراء قناعه تملي إرادتها على الشعور، فتعمل ولا تُسأل.
لتكن لنا نية الخلوص إلى الحقيقة فيما نلقيه وفيما نتلقاه. ولنرفع النقاب عن تلك الرغائب العاملة فيما وراء الوعي فنحسن بها الانتفاع هنا ونتجرد منها هناك ونتخذ منا علينا حافظاً ورقيباً
ونحن إذ انسللنا في ميدان البحث عما سوى المبحوث، أعطينا الفرصة لأنفسنا وللآخرين في تحري مواضع الحق والصدق واختصرنا الزمن لتطور الأذهان وتتابع الحقائق، فدنّا بما يدين به العقل السليم ولم يقل بعضنا لبعض: لكم دينكم ولي دين. وعرفنا من بيننا من الزعيم ولم نقل: منا أمير ومنكم أمير.
تلك هي خطورة التجرد من هوى النفس عند التعرض للآراء بالتأييد أو التفنيد. وتعظم هذه الخطورة عندما تحكم في الموضوع كلمة ولي الأمر ومن يستمد منه القضاء.
ونعود فنقول إن وراء الشعور منطقة نفوذ أخرى غير ذات شعور، تصنع فيها الألوان فتصطبغ بها الأفكار والآراء. وتصدر عنها الأوامر فتتكيف بها الأقوال والأعمال. ويخرج
منها النور فيضئ الطريق ويسار فيه إلى الغاية. وكل أولئك عوامل تكوين وتلوين غير شعورية، يخضع بها العقل الواعي إلى أخيه الكبير فيما وراء الوعي. فإذا أردنا التمتع بحرية الرأي بالحق وبالصدق، والإتيان بالأفكار المستقلة، كان علينا التصرف بتلك المنطقة النائية من العقل والتجرد من نزعاتها الشاذة فيما ندع وفيما نصدع وفيما نقدر به الأشياء ونقول كلمة الفصل.
ليست الحرية عندي في أن نفكر فيما نريد وكيفما نريد وأن نقول وأن نعمل، وانما الحرية في تلك السيادة التي يفرضها العقل الشاعر على ما وراءه من عقل غير شاعر تحيا فيه جراثيم الزمن لتكون ذاته وصفاته وتجعل منه ولياً للأمر، ينطق بفصل الخطاب ولكن من وراء حجاب. ولسنا من الحرية في شيء إن لم نخضع العقل إلى تجارب الواقع وننقذه من غوائل ما بكته فكبته.
لا حرية إلا في ذلك التجرد الذي يجريه العقل على نفسه، فيمحو ويثبت غير خاضع إلا لما يرى أنه الحق المطلق من قيود الماضي وأثقال كل رغبة شاذة. وفي موضع هذا التجرد من العقل تتلاشى الألوان وتزول الموانع. ويصبح العقل في موقف من الطبيعة كموقف الطبيعة منه؛ يتفاعلان على هدى ويعملان على غير سدى ولا يزالان دائماً أبداً. (بغداد)
حسين الظريفي
مراكش
هل تصبح معتركا دولياً؟
لباحث فاضل
نقلت الأخبار أخيراً تصريحاً أدلى به مستر تشرشل في نيويورك قال فيه (يجب أن تكون ميناء الدار البيضاء أو مدينة مراكش مركز قوات الأمم المتحدة) وقد سبق لوكالة الأخبار الأمريكية (يونايتد بريس) أن نشرت منذ بضعة شهور نقلاً عن مصدر مسؤول بأن مداولات تجري بين الحكومتين الإنكليزية والأمريكية في شأن ترشيح مدينة طنجة كمركز لقوات الأمم المتحدة، وزادت الوكالات الأخبارية بأن نفس الدوائر الأمريكية والإنجليزية تبدي قلقاً وتتساءل فيما إذا كان وجود جيش احتلال بمراكش تابع لواحد من أعضاء المؤسسة الدولية ليس من شأنه أن يعرقل أعمال المؤسسة أحياناً أو يضايقها على الأقل.
وقد احتج الجنرال ديجول على هذه الأخبار، ولكن أي تكذيب لم يصدر في شأنهما لا من الولايات المتحدة ولا من إنجلترا، وكانت بعض المصادر الفرنسية المطلعة ترى أن إذاعة كهذه في الوقت الذي سافر فيه جلالة ملك مراكش إلى باريس إجابة لدعوة ديجول ربما كان له مدلول خاص في العرف السياسي.
وقد جاء مؤتمر طنجة الذي انعقد في شهر أغسطس الماضي وانفصل في الواقع على غير شيء على أمل أن ينعقد بعد ستة شهور دليلاً على أن مراكش لغم دائم في السياسة الدولية، فقد صرحت روسيا بأن الدستور الذي يربطها بمراكش هو عقد الجزيرة الخضراء الذي أمضته سنة 1909 ولذلك فهي ترى أن الاتحاد السوفيتي غير ملزم بأن يرتبط بأية تصفية أو تعهد أو اتفاق في شأن مراكش أمضى بعد ذلك بدون مشاركته.
ولعل القراء يذكرون أن اتفاقية الجزيرة الخضراء التي تشير لها الروسيا هي اتفاقية دولية تقوم على مبادئ:
(أ) استقلال مراكش
(ب) وحدة الإقليم المراكشي
(جـ) سياسة الباب المفتوح من الوجهة الاقتصادية.
ولا نعرف بالضبط إلى أي حد ستساعد الظروف روسيا على الاستفادة من هذا الأساس
الذي وضعته لسياستها في مراكش والذي قد يؤيده الشعب المراكشي المقدام على ما نظن إذا وجد فيه ضماناً لاستقلاله ووسيلة لتحريره من استعمار الفرنسيين الرجعي.
وإذا كان الأنجلو ساكسون لا يستطيعون أن يبقوا مكتوفي الأيدي وخاصة الأمريكيين حتى تنفذ روسيا خطتها في مراكش ويصبح بذلك البحر الأبيض بحيرة روسية والنفوذ الأمريكي تحت رحمة القوات السوفياتية المرابطة بالدار البيضاء واجادير فمن المحقق أيضا أن الأنجلو سكسون لا يستطيعون أن يدافعوا عن الوضعية الحالية التي تعيش فيها مراكش تحت السيادة الفرنسية والإسبانية.
وذلك لثلاثة أسباب:
(أ) لأن فرنسا وإسبانيا دولتان ضعيفتان لا يمكن التعويل عليهما مطلقاً في فرض حياد مراكش حتى لا يستغلها قوة عظمى ضد قوة عظمى أخرى لدى وقوع اعتداء ما.
(ب) لأن وجود فرنسا وإسبانيا بمراكش يعتبر كوجود الأعضاء الفزيولوجية الزائدة في الجسم الحي، أي كنتيجة باقية لسياسة سرية بائدة تغيرت عليها مقتضيات الأحوال ولا سيما بعد التصريح الروسي الذي لا يعترف بأي اتفاق أو تعهد وقع بعد 1909 وفي مقدمة العقود التي لا تعترف بها روسيا عقد 30 مارس 1912 الذي حول مراكش عملياً إلى مقاطعة فرنسية خالصة في صورة حماية.
(جـ) لأن حالة جديدة تكونت في البلاد العربية بسبب فكرة الجامعة العربية التي تستند على أساس دبلوماسي واضح ومعترف به، وهذه الجامعة تعتبر مراكش امتداداً طبيعياً لها ولذلك للأسباب نفسها التي تعتبر بها مصر مثلاً ولبنان وسوريا امتداداً طبيعياً لها، ففصلها عنها - بالنظر لشعور المراكشيين - قد يمهد الجو لجعل (اللغم المراكشي) أكثر حدة ويفتح الشهية للمتآمرين، ولاسيما وفرنسا قد فشلت في استمالة قلوب المراكشيين إليها وأصبحت الأحزاب السياسية هناك بعد أن تألفت في كتلة واحدة هي حزب الاستقلال تحرك الرأي العام بمشيئتها ساعية به لتحرير البلاد وحمل فرنسا على التصريح بإلغاء الحماية المفروضة، ويعتبر جلالة ملك مراكش على ما يقال من المؤيدين لهذه الاتجاهات التحريرية. ويظهر للإنسان خطورة الحالة من الآن عندما يرى في صحافة اليمين الفرنسية من حين لحين قلقاً على مستقبل الحماية وضغطاً على حكومة فرنسا بأن تبدل المندوب
السامي الحالي بجنرال حازم يضبط الأمور ويزود بأوسع السلطات.
لهذه الأسباب نرى أن الأنجلو سكسون لا يستطيعون أن يدافعوا عن الوضعية الحاضرة في مراكش وهم في الحقيقة من الخاسرين فيها، فماذا إذاً سيكون موقفهم وماذا سيكون عمل روسيا بعد أن أعلنت موقفها أولاً وأكدته بصفة غير مباشرة في قضية طرابلس. . .
من الصعب التكهن بالأمر، ولكننا متحققون بأن مسألتها ستوضع تقريباً بنفس الحدة التي وضعت بها مسألة اليونان والمضايق التركية وسوريا ولبنان.
(باريس)
(خبير)
قصة الذرة:
تلك الأشعة المحيرة!
للأستاذ فوزي الشتوي
- 1 -
وكذبه صدى صوته
وللذرة أيضا قصتها المثيرة المليئة بشتى أنواع المفاجآت. تقرأها مرة، فإذا أنت حيال قصة بوليسية شائقة لا يكاد متعقبو طلاسمها يوفقون إلى حل لغز حتى يتعثروا ويفاجئوة بألوان من العجائب والطرائف التي لم يفكروا فيها ولم تكن لهم على بال.
وفي وسعك أن تقسم قصتنا إلى ثلاث مراحل: أولاها في الاستنتاجات الفلسفية الكلامية، والثانية حين عثر رونتنجن على أشعة إكس المجهولة فانتقلت القصة من مجرد الفروض والتخمينات إلى الحقائق الثابتة على الحقائق الملموسة. والثالثة حين ألقيت القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما اليابانية، فسجلت ختام الحرب العالمية الثانية. كما بدأت عصراً جديداً يسعى فيه العلماء إلى القبض على لجام الذرة، وتطبيق معلوماتها على الكون، وكشف غوامضه وأسراره.
ولا تعجب لأن عالماً كبيراً وقف في عام 1893 ليعلن على الملأ أجمع أن الاكتشافات والأبحاث الطبيعية وصلت إلى ذروتها، وأن العلماء في المستقبل لن يجدوا من المكتشفات الحديثة ما يستحق الذكر، وأن كل ما سيعلمونه مجرد تكرار وصقل للتجارب البارعة التي أجراها القرن التاسع عشر.
الأشعة الغريبة
لا تعجب لأن صدى صوته أرتد إليه يكذبه ويستنكر عبارته، فما كاد شهر ديسمبر عام 1895 ينتهي حتى أعلن البروفسور رونتنجن اكتشافه لأشعة إكس المجهولة وأرفق إعلانه بصور لعظام اليد، وبمفاتيح ونقود تظهر من خلال أكياسها الجلدية. فهذه الأشعة ذاتها هي التي نستخدمها الآن في الكشف عن العظام والأعضاء الداخلية للجسم.
ومحا الكشف العلمي الجديد الغريب صوت العالم. وأثبت أن العلماء ومكتشفاتهم لا تزال
ترسم الحرف الأول من حروف الهجاء ولم ينتقلوا بعد إلى الحرف التالي، فقد عثر رونتنجن على أشعة بالغة الغرابة تخترق الأجسام المعتمة كما تخترق أشعة الشمس لوح زجاج شفاف. فما هي؟ وكيف تحدث؟ ولماذا تحدث؟ ومن أين أتت؟ وما خواصها؟
أسئلة لم يجب عنها علم القرن التاسع عشر بحرف واحد، ولم يعرف لها علة ولا تعليلاً. فلقبوها بالأشعة المجهولة (إكس). ولو توفرت المصادفة لكثير من العلماء الذين كانوا يجرون نفس تجارب رونتنجن لاكتشفوها، فإن أنبوبة كروكس الكهربائية التي كان يسعى لمعرفة خواص أشعتها كانت من الأجهزة المشاعة بين العلماء.
أفادت الطب والصناعة
وقد تلقى الأطباء أبحاث رونتنجن وأشعته بكثير من العناية، فعلى هديها تسير لهم الكشف عن الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، ولاسيما في حالات كسر العظام ووجود أجسام غريبة في الجسم. فإذا أطلق الرصاص على إنسان حددت أشعة إكس مكان القذيفة ليخرجها الجراح. وإذا تكونت داخل الجسم أجسام غير طبيعية أصابته بالمرض استطاع الطبيب بأشعة إكس أن يتأكد من وجودها أو ينفيه، وعلى هذه الصورة يعالج العلة.
وعلى هدى أشعة رونتنجن أيضا يستطيع بعض الصناع فحص الأدوات الدقيقة التي يشترط فيها النقاء ومعرفة ما بها من مواد غريبة. ومثال ذلك كرة البليارد وغيرها. وقد أصبحت أشعة إكس الآن من مستلزمات الطب الحديث، وكثير من العمليات الصناعية.
ولكن رونتنجن نفسه لم يدرك شيئاً من خواص الأشعة الجديدة سوى طريقة صنعها التي عثر عليها بمحض المصادفة فقد كان كسواه من أكثر علماء تلك الفترة يجري تجاربه على أنابيب كروكس الكهربية. وهي أنابيب تشبه في نورها أضواء النيون التي تشهدها كل ليلة في شتى أنحاء البلاد في تلك الإعلانات الضوئية الوهاجة.
ولكن الأشعة المنبعثة من الجانب السالب لأنبوبة كروكس كانت ضعيفة وذات خواص عجيبة إذ تسير في خط مستقيم مرسلة أشعة خضراء ذهبية تنحرف إذا سلطت عليها مغناطيساً. كما كانت مصدر قوة. فلو وضعت في مسارها عجلة دوارة فأنها تديرها. وكانت أيضا ترسل الحرارة في الأجسام التي تعترضها، وتضئ الماس وغيره من الأحجار الكريمة.
الحالة الرابعة
وكان السير وليام كروكس مكتشف هذا الأنبوب يعتقد أن هذه الأشعة فريدة من نوعها، واستنتج أن الأنبوبة تحوي حالة رابعة للمادة غير الحالات الثلاث المعروفة وهي الصلابة والسيولة والغازية، وتكهن بأن الحالة الرابعة هي تفوق الغازية أو الإشعاع. فكان من الطبيعي أن يدرس ظواهرها أكثر العلماء.
ولأنبوبة كروكس أم استنبطها هينريش جيسلر صانع الأدوات العلمية؛ وهي تتألف من أنبوبة زجاجية فرغ أكثر هوائها وفي كل من طرفيها قطعة من المعدن. وقد أثبت جيسلر أنه إذا وصل أحد طرفي هذه الأنبوبة بمورد كهربائي، فإن الأنبوبة كلها ترسل ضوءاً لماعاً. وقد كانت هذه الأنبوبة بالذات الأساس الذي صنعت منه أنابيب أضواء النيون.
وتختلف عنها أنبوبة السير وليام كروكس في أنها أكثر تفريغاً من الهواء نتيجة لاستنباطه لمضخة أقوى وأدق من طريقة جيسلر، ومن ثم خالفتها في خواص أشعتها وغرابة تطوراتها ودفعت بالعلماء إلى دراستها.
وكان رونتنجن كسواه من العلماء، فأجرى عليها التجارب العديدة. وفي أحد الأيام غطى الأنبوبة بمادة سوداء فكانت دهشته بالغة. فعلى مقربة منه اتفق وجود لوح مغطى بمادة مضيئة وجدها تلمع وتضئ في الظلام. وأدرك من فوره أن أشعة الأنبوبة اخترقت المادة وانعكست على اللوح، وعرض كيس نقوده فإذا هو يرى محتوياته أيضاً، وواصل تجاربه حتى أدرك أن أشعة كر وكس ترسل أشعة غريبة لا تراها العين، ولكنها تضئ الأجسام اللامعة. كما وجد أنها تخترق المواد الصلبة وتسجل صورتها على ورق التصوير الحساس. فاستمر في تجاربه حتى قدمها للعالم في ديسمبر عام 1895.
وكان من السهل على أكثر العلماء أن يتحققوا بأنفسهم من اكتشاف رونتنجن، فما لبثوا أن وجدوا أن أنابيب كر وكس التي لديهم كانت دائماً ترسل تلك الأشعة الغريبة فحسنوا أنبوبة كر وكس وأضافوا إليها مهبطاً من البلاتينيوم وسموها (أنبوبة أشعة إكس).
(البقية في العدد القادم)
فوزي الشتوي
الزنبقة الذابلة
للمرحوم أبي القاسم الشابي
أزنبقة السفح مالي أراك
…
تساورك اللوعة القاسية؟
أفي قلبك الغض صوت اللهيب
…
يرتل أنشودة الهاوية؟
أأسمعك الليل ندب القلوب؟
…
وأرشفك الفجر كأس الأسى؟
أصب عليك شعاع الغروب
…
نجيع الحياة ودمع المسا؟
أوقفك الدهر حيث يفجر
…
نوح الحياة صدوع الصدور؟
وينبثق الليل طيفاً كئيباً
…
رهيباً ويخفق حزن الدهور؟
إذا أضجرتك أغاني الظلام
…
فقد عذبتني أغاني الوجوم
وإن هجرتك بنات الغيوم
…
فقد لزمتني فتاة الجحيم
وإن سكب الدهر في مسمعيك
…
نحيب الدجى وأنين الأمل
فقد أجج الدهر في مهجتي
…
شواظاً من الحزَن المشتعل
أصيخي فما بين أعشار قلبي
…
يرف صدى نوحك الخافت
معيداً على مهجتي بحفيف
…
جناحيه همس الردى الصامت
فقد أترع الليل بالحب كأسي
…
وشعشعه بلهيب الحياه
وجزعني من ثمالاته
…
مرارة شجو تفت الصفاه
إليَّ فقد وحدت بيننا
…
قساوة هذا الزمان الظلوم
فقد فجرت فيّ هذى الكلوم
…
كما فجرت فيك تلك الكلوم
إذا جرفتني أكف المنون
…
إلى اللحد أو سحقتك الخطوب
فحزني وحزنك لا يبرحان
…
أليفين رغم الزمان العصيب
فيصدع عند سكون الدجى
…
إذا نسيتنا عذارى السحر
صدى يتهادى كنغم شجى
…
تطاير من خفقات الوتر
يرنمه شجن المستكين
…
لدى القبر تحت ظلال المسا
فنهجع تحت الثرى الهاجع
…
جميعاً على نغمات الأسى
إلى الشاطئ
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
فاض بي شوقي وناداني إليك
…
فهفا قلبي وأصغى للنداء
آه. لو ترجع أيامي لديك
…
وشبابي من فتون ونماء
نبصر الفرحة في الشط الحبيب
والتماع النور في الأفق الرحيب
قبلما تذهب شمس للمغيب
ويولي من سنا العمر الرواء
أيها الشط وهل تذكرَني؟
…
أنا من غنى بألحان الوفاء
والرمال البيض هل تنكرني
…
عندما يسأل عني الأوفياء
أبلغ الأحباب يا شاطئ عني
أن نيران الهوى تأكل مني
لتمنيت إذا أجدى التمني
لو على رملك نازعت البقاء
كم أتيناك مع الصبح سكارى
…
نتساقى الكأس من خمر الضياء
نتبع الصفو ونمشي حيث سارا
…
ونرى الفرحة في نعمى اللقاء
تسكر الارواح منا قبلات
وتشيع الأنس فينا صبوات
وعيون الدهر عنا غافلات
والليالي من فتون وهناء
ذكريات كلما مرت ببالي
…
أسرفت عيني وقلبي في البكاء
لأمانٍ باسماتٍ وليالٍ
…
كسنا الحلم وإقبال الرجاء
كن أنسى وأناشيدي وخمري
والذي أينع من يقظة عمري
والسنا اللماح في ظلمة دهري
والربيع الطلق. أمن وصفاء
الكتُب
رأى معالي عبد العزيز فهمي باشا في كتاب:
اللغة والمجتمع
تأليف الدكتور علي عبد الواحد وافي
(تفضل حضرة صاحب المعالي الأستاذ الجليل عبد العزيز
فهمي باشا فأرسل إلى الدكتور علي عبد الواحد وافى رأيه في
كتابه (اللغة والمجتمع):
تفضلتم فبعثتم إليَّ بكتابكم (اللغة والمجتمع)، فتناولته مسروراً شاكراً، ثم قرأته بكل عناية واهتمام. وقد وجدتكم تناولتم فيه موضوع تطور اللغات وبحثتموه لأمن (كل أطرافه) كما يقول الأدباء، بل فليتموه وفحصتموه من (شوشته إلى قدمه) كما يقول أهل قريتنا. ولقد نهجتم في عرضه طريقة البيان السهل الممتع الممتنع، وزدتم التنوير والإيضاح بما تزيدتم من التشقيقات والتفريعات، وبما ضربتم الأمثال من ماضي اللغات وحاضرها وقاصي البيئات ودانيها، وانتهيتم من استدلالاتكم القيمة إلى تقرير تلك الحقيقة الأبدية وهي:(أن اللغات وما يتفرع عنها من اللهجات كانت وما زالت ولن تزال في تطور مستمر، وأن هذا التطور قانون ثابت يجري مجراه ويأخذ حكمه حتماً كلما توافرت دواعيه وعوامله، وأن هذه الدواعي حاصلة لا محالة وإن أبطأ ظهورها حيناً طويلاً أو قصيراً). وأن هذا القانون - الذي حصَّلتُ بيانَكم إياه بالعبارة السابقة - هو قانون عام ما شذت ولا تشذ عنه أية لغة من لغات العالم قديمها وحديثها. فهو متمش على العربية كما تمشى من قبل على اللاتينية وغيرها، وكما هو متمش وسيتمشى حتماً على الألمانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها.
كل هذا يا سيدي من جانبكم كلام صحيح معقول مقبول رضى الناس أو أبوا؛ فإن القوانين الاجتماعية لا تعرف المحاباة، ولا ترعى لبني آدم حرمة ولا عاطفة ولا شعوراً، بل هي كقوانين الطبيعة من نشوء وشباب وهرم وموت، تسري على الناس كافة بغير تفريق بين أجناسهم ولا دياناتهم ولا لغاتهم.
وأكرر أن هذا خلاصة رأيك، وهو حق كل الحق، وجميل كل الجمال.
غير أنني لاحظت أنك، وأنت في معرض الكلام على اللغات وتطورها، قد تعرضت - وبحق - إلى رسم كتابة اللغات. وهنا أشرت - فيما أشرت - إلى شكوى الناس قديماً وحديثاً من رسم الكتابة العربية. ولكن سعة علمك، وجميل منطقتك، وسلامة ذوقك، كل هذا أبى عليك إلا الاحتراس في التقرير، فقلت في آخر صحيفة 38:(ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو من أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد، ومطابقة للنطق).
بقطع النظر عن سلامة القول بأن في رسم العربية دقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق، أو عدم سلامته، فمن رأيك أن هذا الرسم محتاج للإصلاح، ولكن لا لكثير من الإصلاح. ما هو هذا الإصلاح الذي يستلزمه رسم العربية قلَّ أو كثر؟
إن سيدي الأستاذ يعلم حق العلم أن الشكوى من رسم العربية ليست آتية من جهة أن أهلها يصعب عليهم إخراج نغماتها الصوتية، فإن كل الأطفال الذين يقرءون شيئاً من القرآن الكريم بكتاتيب القرى، وكل أطفال المدارس الأولية يعرفون كيف ينطقون نغمات الثاء والجيم المعطشة والذال والظاء والقاف، تلك النغمات الخمس التي ليست أصيلة ولا عامة عند أهل اللهجات العربية البعيدة عن الفصحى. أما سائر حروف الفصحى كالباء والتاء والحاء والخاء والدال والراء. . . إلى آخر الأبجدية، فنغماتها يعرف المصري وغير المصري من أهل البلاد العربية أن ينطق بها نطقاً لا شائبة فيه، بلا فرق في هذا بين متعلم وأمّي. لكن هذه النغمات ليست هي اللغة العربية الفصحى المراد خدمتها، وإلا لما تعذرت على أحد. بل الفصحى هي هذه النغمات موجهة في الكلمة الواحدة توجيهات مختلفة يقوم بها في اللغات الأجنبية حروف الحركات ولا يقوم بها عندنا إلا الشكل الذي أفلس. هذا هو موطن الصعوبة عندنا ومثار الشكوى. وما يهم فيما يتعلق بنا أن تكون كتابة اللغات الأجنبية فيها مساوئ أو لا يكون، إنما الذي يهمنا هو رسم كتابتنا دون غيرنا. فعندما تقول إن رسم العربية هو من أكثر أنواع الرسم (سهولة ودقة وضبطا في القواعد ومطابقة للنطق)، اسمح لي أن أقول إن هذا لا يطابق الواقع إلا من جهة السهولة أي الاختزال المخل فقط. أما من جهة الدقة وضبط القواعد والمطابقة للنطق، فإن هذا تجوّز في التعبير.
إذ معنى الكلمة العربية لا يتأدى بمجرد نغمات الحروف، بل هذه النغمات محركة في اتجاهات مختلفة. وهذا الغرض لا يؤديه الرسم العربي مطلقاً، أو هو يؤديه ويؤدي كثيراً غيره في آن، مما يوجب التشوش والاضطراب. وهيهات أن يسعفنا هذا الرسم العاجز، ولو أضيف إليه الاضطلاع المتين بقواعد اللغة من صرف ونحو وغيرهما - وما تقوله في صدر صحيفة 39 مما حاصله أن لجمود الرسم فائدة تخليد ما خلّفته قرائح أهل اللغة من الآثار، فاسمح لي أن أقول إن هذا كلام جيد معقول، ولكن على شرط واحد وهو أن تكون هذه المخلفات ممكناً لأي عارف بالقراءة والكتابة أن يقرأها على الوجه الذي أراده واضعها. وما أظن السيد يعارض في هذا الشرط أو يرى سهولة تحققه، خصوصاً مع تطور اللغة وعدم استقرارها على حال واحدة، ذلك التطور الذي وضع كل كتابه لبيانه. وإذن بقينا مرتطمين بالصعوبة التي نحن فيها الآن.
لا أريد أن أقول إن حضرة الأستاذ الفاضل يستعمل في عرض أفكاره القيمة التَّقِيَّةَ التي طالما استعملها الجاحَظ وغيره من كبار السلف المحترمين، بل كل ما أريد أن أقوله للسيد هو أني أنست كثيراً بكتابه وفرحت بسعة علمه. وإني أرجو الله أن يكثر من أمثاله وأن يوفقه في عمله ويأخذ بيده فيه، والسلام مع أوفى الشكر والاحترام.
عبد العزيز فهمي
المدينة المسحورة
للأستاذ سيد قطب
بقلم الأستاذ وديع فلسطين
عز على الأستاذ سيد قطب أن تتوفر شهرزاد على العناية بأطفالها بعدما أمضت ألف ليلة وليلة تقص فيها على زوجها الملك شهريار قصصاً جذابة تستهوي فؤاده، وتحفزه إلى طلب المزيد. وعز عليه أن تسكت شهرزاد عن الكلام المباح وفي جعبتها تلك القصة الرائعة (المدينة المسحورة) التي استطاع الأستاذ سيد أن ينتزعها من صدر الملكة بقدرة فائقة.
فلم تكد تمضي مئة ليلة على صمت شهرزاد، حتى دب الملل إلى قلب الملك شهريار وخرج يعسعس في الظلام صوب حجرة زوجه، تراوده نفسه على إيقاضها لتستأنف أحاديثها الشهية، ولكن العزة الملكية تحاول تنحيته، وسرعان ما تحس شهرزاد بحركته وهو بين الإقدام والإحجام، فتستوضحه الأمر، وهي به من قبل عليمة، ثم ترضى أن تمنح الملك عشر ليال من أجمل ليالي حياته، تقص فيها عليه قصة حب عجيب وقصة انتقام أعجب.
ملك تيمه حب راعية شويهات، فلم يطب له مستقر، ولم يستطع أن يستوي على أريكة عرشه، حتى تزوجها مؤثراً إياها على قريبة له من الأسرة الملكية أوصى والده بالزواج منها.
وينجب الملكان أميرة ذات قد مياس، ووجه مشرق، وجمال يشع على بدنها نوراً علوياً.
ويدور دولاب الزمن، فيستهوي قلب الأميرة راع من رعاة الغنم؛ ولكن المرأة المنبوذة التي أبى الملك أن يقبلها زوجة له احترفت السحر، ثم انتقمت من نابذها - ويالها من نقمة - في شخصه وابنته وعائلته ومدينته، فأخالت المدينة بسكانها تماثيل، وماتت هي بدورها مقتولة تضم بين جنبيها سر هذه المدينة المسحورة وكيفية فضه.
وبعد ألف من السنين، يجيء مثَّال من سلالة راعي الغنم الذي كان يزمع الزواج بالأميرة، لزيارة تلك المدينة المسحورة، فيستلبه تمثال الأميرة إعجابه، ثم لا يلبث أن يهوى هذا التمثال ويعشق صاحبته عشقاً مبرحاً، وإذ ذاك يُفَكُّ عن المدينة نطاق السحر الذي ضرب حولها، فما يشفى داء الحب سوى الحب، وما يبرئ المريض من كلَبِه سوى مصل الكلب.
فتدب الحياة ثانية إلى المدينة، ولكن عوامل البلى التي أوقفها السحر ألف عام، سرعان ما تعمل في جسوم قطان المدينة بعد ما ردوا إلى الحياة، فتتحلل أجسادهم تراباً مذوراً.
أما الأميرة، فقد عجزت عوامل البلى عن إصابتها لأنها كانت تحب! وما حيلة الزمان أمام قلب يحب؟!
ذلك إيجاز القصة المسحورة التي كتبها الأستاذ سيد قطب. وما كنت أحسب أن الصديق سيداً يعرف عن الحب كل هذا، بل ما كنت لأتخيله بمستطيع أن يصور تلك العاطفة النبيلة في هذه الصورة الرائعة الأخاذة.
ويحق للقصاص أن يغتبطوا لأن ملقن شهرزاد - أعني الأستاذ قطب - أبدى في كتابة هذه القصة ميلاً فطرياً إلى مراس هذا اللون من الأدب، بل التمهر فيه. فالأسلوب له مطواع، والصورة في مخيلته مجلوّة، والتفكير متجه اتجاهاً صائباً والحبكة الروائية في مقدوره. فلا عجب إذن إذا أصاب الأستاذ سيد قطب من التوفيق قدراً كبيراً، وإذا كانت كتفه من النجاح راجحة
وديع فلسطين
القصص
من أدب القصص الأمريكي
هدية عيد الميلاد. . .
للكاتب الأمريكي برت هارت
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
عيد الميلاد في (كلفورنيا) من أروع فصول السنة. . . فهو الفصل الذي تنحدر فيه المياه من جو السماء إلى أديم الأرض، فإذا به يهتز ويربو ويفيق من غفوة الشتاء، وإذا الأرض مجلوة مزهوة بما انبسط عليها من زهور الربيع وأقاحيه. . .
وكانت الشمس تسرب شعاعها خلال السحب المنعقدة - التي تتهادى أمام موكب الريح - فيلقى الروابي في روعة وجلال فإذا مظاهر الحياة قد تجمعت: الموت والحياة، والفناء والبعث، والألم والبهجة. . . نعم. . . فالروابي التي كان يطويها مطرف الموت والفناء قد زهت. . . وسرت نسمة الحياة تراودها، فإذا البعث والنشور يدب في أكنافها، وإذا البهجة والحبور تجول في أطرافها. . . وإذا الريح التي كانت تنوح في ثورتها تداعب براعم الأزهار وقد استقرت مكان الأوراق الذابلة الذاوية. . .
ربما كان هذا كله علة هذا الرونق الذي أحله عيد الميلاد في حجرة الاستقبال. . . والذي أكسب الحضور منظراً خلاباً فريداً وأكسب الأزاهر فتنة وجمالاً. . .
قال الطبيب وهو يدنو بكرسيه من النار: (والآن:.) ثم قلب طرفه في لطف ودماثة ولكن في حزم وثبات بين الوجوه الملتفة حوله. . . وقال:
- أود قبيل أن أمضي في قصتي. . . أن أحذركم من مقاطعتي بتلك الأسئلة الساذجة المضحكة. . . فعلى كل غلام منكم ألا يعبث برجله أو بذراعه. . . وإلا فسيكون جزاؤه الطرد والحرمان. . . أفتعدونني بذلك؟!)
فأجابته الجماعة في صوت واحد فيه غضاضة الطفولة ورنة الصبية - (أجل. . . يا سيدنا!)
فعاد الطبيب يقول في صوته الرقيق الحازم:
- (إذن عليكم بالسكون. . . (بوب). . . دع رجالك. وارغب عن صليل هذا السيف الصغير. . . وستجلس (فلورا) جواري كالسيدة الصغيرة، وتكون في هدوئها وإصاختها السمع مثلاً يحتذيه باقي الجماعة. . . (تانج) اجلس كما يحلو لهواك وبغيتك، ولكن في هدوء وإصغاء. . . والآن. أديروا صنبور الغاز قليلاً لكي تستعر النار وتتوهج. . . وينبغي على كل صبي أن يجنح إلى الصمت. . . ومن يسبب أدنى ضوضاء، فلن يبقى بين جدران هذه الغرفة. . .)
وسادت إثر ذلك آونة من الصمت العميق. . . فأسند (بوب) سيفه إلى جانبه. . . وداعبت (فلورا) دميتها قليلاً، ثم أرقدتها وجلست جوار الطبيب. . . أما (فنج تانج) - ذلك الطفل الوثني الصغير الذي أتيح له أن يحضر مباهج (عيد الميلاد) - فقد ارتسمت على ثغره ابتسامة عذبة فيها حلاوة وفيها براءة.
وكانت الدقات التي تنبعث من الساعة الفرنسية المستقرة فوق المدفأة. . . تعكر صفو ذلك الهدوء الذي خلعته روعة (عيد الميلاد) على حجرة الجلوس حيث تناثرت اللعب، والعلب المصنوعة من خشب الأرز الطيب الرائحة. . . والأزهار الفياحة عطراً. . .
بدأ الطبيب يسرد قصته قائلاً:
(منذ أربع سنوات - في مثل هذا الوقت - حضرت حفلة (عيد الميلاد) في منزل صديق من أصدقائي المدرسين. . . وشملني شيء من المرح، إذ سيتاح لي أن أرى إبناً من أبنائه على الرغم من أنه في الثانية عشرة من عمره إلا أنه كان على مبلغ وافر من العبقرية والنبوغ. . . فقد حفظ من قصائد الشعر اللاتيني والإنجليزي ما لا أستطيع له حصراً. . .
كما كان في مقدوره أن يؤلف قصائد وأشعاراً رقيقة لها روعتها ولها جمالها. . .
وليس بمقدوري أن أحكم على أشعاره، فما أنا ممن أوتوا القدرة على النقد، ولكن ثمة بعض النقاد أعجبوا بما أوتي من الموهبة الفائقة على نظم الشعر في مثل سنه المبكرة. وتنبأوا له بمستقبل زاهر في ساحة الشعر والأدب. . . بيد أن والده كان على الضد من ذلك: رجل حقائق وعمل لا رجل خيال وأدب. . .
كانت الحفلة مبهجة مرحة. . . وكان الأطفال قد تجمعوا من كل صوب ومكان. . . ووقف معهم ذلك الغلام - وهو في طوله مثل (بوبي). . . وفي أدبه وخلقه مثل (فلورا) التي
بجواري. . . كان الجميع يدعونه (روبرت). . . أما صحته فكانت معتلة ضعيفة واهنة. . . وطالما شكا إليّ أبوه من قلة لعبه مع من هم في سنه من الصبية وتفضيله اللبث في البيت مغموراً بين الكتب والأوراق يطالع ويكتب. . .
وكان ثم (شجرة لعيد الميلاد) كشجرتنا هذه. . . وكثيراً ما ضحكنا في عبث ولهو مع الأطفال الذين راحوا يتسلمون هداياهم المعلقة في الشجرة. . . وشملنا جميعاً جو من المرح والصفو. . .
وبغتة ندت عن غلام صيحة فيها مزيج من العجب والطرب وقال: (هاك!! شيء لروبرت! فماذا أنتم قائلون؟!)
فراح يخمن كل منا:
- (قلم من الذهب.)
- (كتاب للشاعر ملتون. . .)
- (قاموس للقوافي. . .)
بيد أن الغلام قال على دهش منا:
- (ليس شيء من ذلك إنما هو!. طبل.)
- (ماذا؟!!)
- (طبل. . . وعليه اسم روبرت)!
فارتفعت صيحات الضحك من أفواهنا. . . فقد كانت دعابة حقاً. . . وقال أحدنا: (هه. . . أرى أنك ستحدث في العالم دوياً هائلاً يا روبرت!.) وقال آخر (ما هذا الطبل إلا لوزن الشعر!) وترت الأقوال وتعددت فيها دعابة وفيها عبث. . . بيد أن روبرت أبى أن ينبس بكلمة. . . وشحب لون وجهه. . . وأطلق صيحة فيها حقد واضطراب، وبرح الغرفة. . . فأحس هؤلاء الساخرون شيئاً من التألم والتأنيب. . . وانهالت الأسئلة فيمن أتى بهذا الطبل. . . ولكن دون جدوى. . . ولم يعد (روبرت) إلى الغرفة ثانية تلك الليلة. . .
وضرب النسيان ستارة على هذه الحادثة فقد اشتعلت حرب العصيان الأهلية في الربيع التالي. . . وعينت في أحد الفيالق.
وفي طريقي إلى ساحة القتال مررت بالأستاذ المدرس. . . فكان أول سؤال - إبتدره به
لساني - عن (روبرت). . . فهز الأستاذ رأسه في حزن وألم! وقال:
- (ليس على ما يرام! فقد أصيب بانحراف ظل ملازمه منذ عيد الميلاد حينما رأيته. . . حالة غاية في الغرابة. . . ولكن اذهب فانظره لملك تستطيع أن تزيل عنه ما يعتريه!)
فذهبت من فوري إلى منزل الأستاذ حيث وجدت روبرت مضجعاً في مقعد طويل. . . وقد تناثرت ثم حوله كتبه وأوراقه وعلق الطبل فوق رأسه. . . وكان وجهه شاحباً ذابلاً. . . ولكن عينيه كانتا في بريق ولمعان. . .
ابتهج وسر حينما رآني. . . ولما علم بوجهتي. . . طفق يسألني كثيراً عن الحرب. . . وظننت أني بحديثي إليه قد سليته عن مرضه، غير أنه فجأة أمسك بيدي وقربني إليه قائلاً في صوت خفيض كالنبأة تسري في الفضاء.
- (سيدي الطبيب. . . أرجو ألا تسخر مني حينما أخبرك بعض الأشياء! إنك لتذكر ذلك الطبل. . .) وأشار إلى الطبل المعلق في الحائط فوق رأسه. . . (وتعلم كيف أتى إلى من حيث لا أدري ولا تدرون. . . فبعد بضعة أسابيع من عيد الميلاد وكان الطبل معلقاً هكذا فوق رأسي. . . وكانت عيناي بين النعاس واليقظة. . . إذ يطرق أذني صوت قرعات خافتة تنبعث من الطبل ثم إذا بها تعلو وترتفع. . . ثم توالت وتتابعت سريعاً، ودوّى صوتها جليلاً رهيباً. . . حتى لكأنها ملأت البيت ضجة ودوياً. طرقت أذني ثانية عندما وافى الليل نصفه ولم أجرؤ على أن أنبئ أحداً بخبرها. . . ولكني كنت أسمعها كل ليلة إثر ذلك. . .
وانقطع صوته برهة. . . ولكنه لم يلبث أن عاد يقول في قلق واضطراب (أحياناً تكون القرعات خافتة هينة. . . وأحياناً تكون مرتفعة مدوّية. . . ولكنها ظلت سريعة متتابعة حتى كنت أخشى أن يسمعها أحد من أهل البيت فيسألني فلا أجد جواباً. . .
بيد أني أعتقد يا سيدي الطبيب، ونظر إليّ نظرة فيها ألم وفيها قلق (أعتقد. . . أن أحداً لم يسمعها سواي. . . إنها تأتيني من هذا الطبل مرتين في اليوم. . . عندما أكون غارقاً في القراءة أو الكتابة. . . أسمعها. . . فكأنها غاضبة حانقة في قرعها. . . وتعمل على أن تستلب عقلي من بين كتبي. . .).
وكانت عيناه تلمعان وتتألقان، وصدره بين ارتفاع وانخفاض، فحاولت أن أخبره أن هذا
ليس إلا ضعفاً وإنهاكاً عقلياً وجسمانياً أدى إلى اضطراب في الحواس، كما يحدث لكثير من الناس. فأنصت إلى ما أقول، وعلى ثغره ابتسامة حزينة كأنه لا يعتقد ما أقول، ولكنه شكرني، ثم لم ألبث أن ودعته ورحلت، وقابلت الأستاذ في طريقي، فأوضحت له رأيي عن حالة ولده فقال:
إذن فهو يحتاج لهواء منعش، وجو رائق، ورياضة جميلة!
ولم يكن الأستاذ بالرجل السئ البغيض، ولكن كان كثير الألم والإشفاق لما يعتري ولده.
وغادرت المدينة في نفس ذلك اليوم، وكاد داعي النسيان أن يأتي على هذه الذكرى فيطويها ويمحوها، فقد انهمكت في تمريضي للجرحى، ومعالجتهم في مستشفيات القتال. . . لولا أن قدر لي أن ألقى رجلاً عسكرياً، كان على صلة صداقة بالأستاذ فأخبرني أن (روبرت) أصيب بلوثة وخبال في عقله، وفي إحدى النوبات التي كانت كثيراً ما تعتريه، فر من المنزل، ولم يعثر له على أثر، وكان الخوف من أن يكون النهر قد طواه في أعماقه.
فاهتزت نفسي في فرق وروع لهذه الفاجعة، ولكن لم يقيض لي الله وقتاً أجلس فيه حزيناً لما أصاب (روبرت) الصغير.
ومضت الأيام بعد هذا النبأ، وإذ بفيلق من جيشنا قد أتى عليه الثوار، وفتكوا به في وحشية وجنون.
فنقلت من ساحتي إلى مستشفى هذا الفيلق لأعاون زملائي الأطباء في معالجة حياة هؤلاء المنكوبين والصرعى.
وعثرت برجل طويل القامة عملّس بتع، كان مثخناً بالجراح في فخذيه، ولكن رجاني أن أدعه وأنصرف إلى زملائه الذين هم أحوج منه بالعناية والرعاية، بيد أني لم أكترث لرجائه في بادئ الأمر، لأن هذه الرحمة وإنكار الذات سائدة شائعة بين رجال الجيش جميعاً، ولكنه ما لبث أن عاد يقول:(بالله أيها الطبيب دعني، فثمت غلام كان يقرع الطبل، غلام باسل جسور، يجود بأنفاسه الآن، فاذهب إليه وانظره لعلك مستطيع له علاجاً، لقد أنقذ هذا الغلام ببسالته وجسارته كثيراً من رجالنا، لقد أنقذ شرف فيلقنا بما أتاه من جليل الأعمال هذا الصباح فأنقذه بالله أيها الطبيب!).
أثرت في نفسي روح هذا الرجل وسجيته أكثر من منظر هؤلاء الجرحى وهم مبعثرون في
كل مكان يئنون ويصيحون في حشرجة ورحير مما بهم من ألم وعذاب. فمضيت بينهم إلى حيث كان ذلك الغلام - قارع الطبل - راقداً وجواره طبله ملقى. . . فلمحت وجهه فإذا به (روبرت).
ولم أكن في حاجة إلى وصف ذلك الرجل الجريح ولا إلى البرودة التي سرت إلى جبينه. . . لكي أعرف أن ليس ثمة من أمل في حياته - ناديته باسمه؛ ففتح عينيه وعرفني. . . وقال في صوت هامس فيه ضعف يسري (إني لمسرور بلقائك. . . ولكن أحسب أن القضاء حم ولا مفر من الحمام)، فلم أجد في نفسي القدرة على أن أكذبه القول، ولا القدرة على أن أخبره بالحقيقة، فأمسكت بيده وضغطت عليها في رفق ولطف أحثه على التجلد، وتابع حديثه في صوت أوهن وأضعف.
(. . . ولكنك سترى والدي، فاسأله أن يغفر لي، ويصفح عني، وقد يلام كل إنسان سواي، لقد تقضي وقت طويل قبل أن أدرك علة إرسال هذا الطبل لي كهدية في عيد الميلاد! وكذلك علة هذا النداء الذي ظل ينبعث من دقاته يدعوني ويدعوني. . . وأخيراً عرفت ما كانت تدعوني إليه، وإني لراض بما فعلت، فبهذا تحدثني نفسي: خبّر والدي أن هذا أفضل من لبثي معه، أنغص عليه عيشه، وأكدر عليه صفو حياته، لما يعتريني من شذوذ واضطراب ومرض).
وتوقف حديثه هنيهة، ثم إذا به يمسك يدي ويقول:(انصت!). . . فأصخت السمع، ولكن لم يطرق أذني سوى أنات الجرحى وزحير المرضى، فقال في صوت خافت:(الطبل! ألا تسمعه؟ إنه يدعوني)، ومد راحته إلى حيث ألقى طبله كأنه يود لو عانقه، وعاد يقول:(انصت! أفلا تسمع دقات الطبل وهي تنبعث في رهبة وجلال؟! ها هي الصفوف تنتظم. . . أفلا ترى الحراب والأسنة وهي تتألق تحت شعاع الشمس؟! إن وجوههم مشرقة طلقة يعلوها البشر والرضا. . مه! ها هو القائد إنه ينظر إلي وعلى ثغره بسمة الرضا والبر!) وانطبقت شفتاه، وارتخت أهدابه على عينيه، وسكن سكنته الأبدية!!
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي