الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 661
- بتاريخ: 04 - 03 - 1946
الإسلام والنظام العالمي الجديد
للأستاذ عباس محمود العقاد
في سنة 1889، ظهر في بنجاب بالهند، ميرزا غلام أحمد القادياني صاحب الطريقة القاديانية المشهورة، وأخذ - وهو في الخمسين من عمره - ينشر تلك الطريقة التي تشتمل على عقائد كثيرة لا يقرها الإسلام، ولا يقبلها دين من الأديان الكتابية، ومن ذلك أنه هو نبي الله المرسل وأنه عيسى بن مريم قد بعث إلى الأرض في جسد جديد!
وفي سنة 1914 تطورت تلك الطريقة إلى حركة إسلامية تنكر نبوة القادياني، وتنكر الحكم بالكفر على من يؤمن بالقرآن ورسالة محمد عليه السلام كائنا ما كان الخلاف بينه وبين الشيع الدينية الأخرى، وتحول إلى هذه الحركة كثير من اتباع القادياني وكثير من طلاب التجديد بين السنيين والشعيين، وظهرت لهم كتب كثيرة، باللغة الأردية واللغة الإنجليزية في التبشير بالإسلام، ومع ترجمة خاصة للقرآن الكريم، وتواريخ موجزة للنبي وخلفائه الراشدين.
وليست تفسيرات هذه الجماعة للكتاب والسنة بالتي توافق مذاهب الفقهاء المتفق عليها، لأنها تصرف معاني القرآن إلى تأييد أقوال لم تخطر للأولين على بال، وليست من مقتضيات الدين في رأي الأقدمين أو المحدثين.
ولكن الحق الذي لا مراء فيه أن هذه الطائفة هي أوفر المسلمين نشاطا، وأشدهم دفاعا عن العقائد الإسلامية، وأكثرهم اجتهاداً في نشر فضائل الدين واعرفهم بالأساليب التي توجه بها الدعوة إلى العقول الأوربية، وإلى جماهير المتعلمين في الشرق والغرب على الإجمال.
وهم يحسنون انتهاز الفرص من الحركات العالمية والدعوات الثقافية حيثما ظهرت في قطر من أقطار المعمورة، فيدركونها في أبانها بكتاب يثبتون فيه أن الإسلام اصلح من تلك الدعوة لعلاج المشكلة التي تتصد لعلاجها، ويقرنون ذلك دائما بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد التاريخية، وان فسروها بعض الأحيان تفسيرا لا يقرهم عليه السلفيون أو المتزمتون.
فلما دعا النازيون والشيوعيون إلى (نظام عالمي جديد) لإنقاذ العالم من معضلاته الروحية والسياسية والاقتصادية بادر كاتب من اقدر كتاب هذه الجماعة إلى تفصيل موقف الإسلام
من هذه النظم أو من مذاهب الفلسفة التي تعتمد عليها، فصدر باللغة الأردية مؤلف قيم لهذا الكاتب القدير - وهو السيد محمد علي مترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية، ثم نقله حديثا إلى اللغة الإنجليزية فوصل إلينا عن طريق العراق منذ أسبوع.
قرر السيد محمد علي في الصفحات الأولى من كتابه أن خلاص النوع الإنساني لا يتأتى ولا يعقل أن يكون بغير عقيدة روحية عاطفية صالحة لتوحيد الناس في نظام واحد، يتكفل بحاجات الضمائر والأجساد، وان تقسيم الأرزاق بالأسهم والدوانق والسحاتيت قد ينشئ بين الناس - إذا تيسر - شركة من شركات التجارة وتوزيع الأرباح، ولكنه لا يخلق في الإنسان تلك العواطف النبيلة التي تسمو به على مطالب الجسد، وتكبح فيه نوازع الأثرة العمياء وهو مغتبط قرير الفؤاد.
قال: ولم تفلح عقائد الغرب في إحياء هذه العاطفة الروحية، لأن أوربة قد انحرفت بالمسيحية عن سوائها، ولأن المسيحية تعني بخلاص روح الإنسان في حياته الأخروية ولا تعرض عليه حلا من الحلول التي تقبل التطبيق في الحياة الدنيا بين وحدة عالمية من جميع العناصر والأقوام، ولو كانت مسيحية الغرب علاجا لمشكلات الإنسان في العصر الحاضر لعالجت تلك المادية الماركسية التي طغت على الروسيا الحديثة واقتلعتها من أحضان الدين والإيمان بالله.
أما الشيوعية فيقول السيد محمد علي عنها أنها شر من نظام راس المال، لان شرور هذا النظام تتفاقم كلما قل أصحاب رؤوس الأموال، ومن خطط الشيوعية أنها تحصر رؤوس الأموال في يد واحدة هي يد الدولة، وهي نهاية شر على الإنسان من حصر رؤوس الأموال في يد فرد واحد أو جملة أفراد، لان الدولة تصول بالقوة التي لا تقاوم ولا يملكها الأغنياء بالغا ما بلغ نصيبهم من الثراء. وقصارى الأمر إذا اجتمعت الأموال في أيدي الحكومة أن يصبح الحكام عصبة مستغلة تحل مع الزمن محل الشركات والمصارف الكبرى، وتصول على الماس بقوة لا تملكها تلك المنشات.
لكن الإسلام وسط بين نظام راس المال ونظام الشيوعية، ينفي المساوئ عن النظامين معا، ويأخذ بالمحاسن منهما بالقدر الصالح للجماعات.
فهو يكره للمسلم أن يكنز الذهب والفضة قناطير مقنطرة، ويحرم علية الربا الذي يتيح
لأصحاب رؤوس الأموال أن يستغلوا جهود العاملين بغير جهد مفيد، ثم هو يأمر بالزكاة ويسمح بالملك، ويطلق السبيل للمنافسة المشروعة، فلا يقتل في النفوس دواعي السعي والتحصيل.
وقواعده الخلقية صالحة لإنشاء الوحدة العالمية، لأنه يسوى بين الأجناس، ولا يرى للأبيض على الأسود فضلا على الأسود بغير التقوى، ويعترف للأفراد بالمساواة والحرية، ويجعل الحاكم (إماما) يقتدى به ولا يجعله ربا متصرفا بمشيئته في عباد الله.
ومن هنا يتقرر المستقبل في العالم الحديث لمبادئ الإسلام، لأنه يقود العالم كله إلى الخلاص بعد فشل راس المال، وفشل الشيوعية وقصور العقائد الروحية الأخرى عن تدارك أحوال المعاش وتدبير الحلول للجماعات الإنسانية في مشكلات الاجتماع والاقتصاد وما يتفرع عليها من مشكلات الأخلاق والآداب.
والإسلام يحول بين الإنسان وبين الاستغراق في شؤون المعاش ومطالب الأجساد، لأنه يناديه إلى حضرة الله العلي الأعلى خمس مرات في الليل والنهار، فلا تطغى عليه النزعات المادية وهو يتردد بين عالم الروح وعالم الجسد من الصباح الباكر إلى أن يضمه النوم بين جناحيه.
وقد دبر الإسلام مشكلة البيت، كما دبر مشكلة السوق والسياسة، لأنه فرض للمرأة حق الاكتساب ولم يجعلها سلعة تباع وتشترى لإشباع الشهوات، وربما دبرت لها حكومات الغرب صناعات للرزق وأجورا في حالات البطالة، ولكنها لا تدبر لها (البيت) الذي هو الزم لها من القوت والكساء.
ومما يؤكد السيد محمد علي أن الإسلام يزكى وحدة الزوجة ويفضل هذا الزواج على كل زواج، إلا ان الشرائع لا توضع لحالة واحدة، والدنيا كما نراها عرضة لطوارئ الشذوذ والاختلال، ومن هذه الطوارئ ما ينقص الذكور عدة ملايين ويزيد الإناث بمقدار هذا النقص في عدد الذكور، فضلا عن الزيادة التي تشاهد في عدد النساء من كل أمة على وجه التقريب في غير أوقات الحروب. وان تعدد الزوجات في أمثال هذه الأحوال الخير من البغاء المكشوف، فقد قبلت المرأة الأوربية مشاركة الخليلات المعترف بهن وقبلت مشاركتهن في الخفاء، وأصبحت هذه المشاركة نظاما اجتماعيا مقررا لا معنى بعد قبوله
وتقريره للاعتراض على تعدد الزوجات الشرعيات، فهو على الأقل أصون للآداب، واكرم للنسل، واجمل بمنزلة المرأة من مهانة الابتذال، واصلح للاعتراف به في علاقات المجتمع وقوانين الأخلاق.
والكتاب لطيف الحجام لا يتجاوز مائة وخمسين صفحة من كتب اللغة الإنجليزية الصغيرة، ولكنه واف بموضوعة متقن في أدائه واستدلاله، ولا نعده من كتب التبشير التي تراد بها الدعوى بين الأمم الأوربية وكفى، فقد يحتاج المسلم لقراءته والتأمل في مرامية، ليعلم أن المذاهب المادية والدعوات السياسية التي تتمخض عنها أفكار المبشرين بالاصطلاح في أوربة وأمريكا لا تحتوي من أسانيد الإقناع ما هو أقوى واجدر بالتأمل من هذه الأسانيد.
عباس محمود العقاد
آمال نزكيها صحائف مطوية:
المساجد الجامعة
وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية
للأستاذ أحمد رمزي
يوم أول مايو 1933 بأنقرة. طيف وفلسفة ثورة:
كانت دعوت غداء شائقة تلك التي أقامها الأستاذ الكبير توحيد بك السلحدار، وهو قائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، لشرف حمد الله صبحي بك، وزير تركيا المفوض في رومانيا بمناسبة وجوده بالعاصمة التركية، فجلس في صدر المائدة وعلى يمينه الوزير المحتفى به، وأمامه السيدة زوجة روشن اشرف بك، وعلى يمينها صاحب السمو الملكي الأمير زيد بن الحسين وزير العراق المفوض بتركيا، ثم تلا ذلك ترتيب مقاعد غيرهم من المدعوين. وامتازت هذه الدعوة على غيرها من الدعوات، بما دار فيها من الأحاديث الشائقة التي اهتم كل من الحاضرين بتتبعها والإصغاء أليها، وحرصت من جانبي على تدوين بعضها.
وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق أول مايو سنة 1933، ولم يكن اختيار هذا اليوم بالذات موضع تفكير وإنما جاء وليد المصادفة. وما أدراك ما أول مايو، هو يوم عيد الطوائف العمال من مختلف الأجناس والألوان، علمنا بمقدمه من العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناء سفارة السوفيت، إذ كانت حكومتهم أول دوله اعترفت رسميا بهذا العيد وكانت بنايتهم أمامنا.
أما وكالات الأنباء والإذاعة فأخذت تتحدث عن الاجتماعات والخطب والمظاهرات التي سينفرد بها أول مايو. واذكر أنني اعتكفت في صباح ذلك اليوم فراجعت بعض مؤلفات (كارل ماركس) وصاحبة (انجل) وقلبت بين يدي صفحات مما كتبه راس الثورة الروسية (لينين) وكنت مشغوفا به لدرجة أنني بحثت عن المنزل الذي كان يقيم به في مدينة زوريخ من مدن سويسرا الألمانية، وتعرفت على المقعد الذي كان يجلس عليه في قاعة المطالعة بمكتبة جامعتها، ولكثرة ما قرأت عنه وعن حياته لم تعد شخصيته غريبة عني، وكان من
تكرار ما رايته من صوره في أوضاع مختلفة أن ثبتت صورته في مخيلتي، فإذا وضعت ذلك بجانب الكتب التي قرأتها عنه بمختلف اللغات صدق قول الأديب العربي:(والبحر وان لم اره، فقد سمعت خبره) فهو أمامي كلما تلوت في كتبه، برأسه الكبير وعينيه الصغيرتين الحادتين وفمه الجبار وبروز عظمتي الوجنتين وهذا الاسم الذي يحمله، أجدها دائما مشاهد تؤكد لي اصله الأسيوي المغولي المنحدر من سلالة الفاتحين التتار الذين سادوا أنحاء روسيا مدة قرون طويلة، وصبغوها بلونهم وتركوا فيها آثارهم ودماءهم. وليس في هذا ما ينقص من قدر الزعيم الروسي والمعلم الشيوعي، إن لم يكن في ذلك ما يزيد من قدره وما يرفع من شانه كبطل أسيوي عالمي.
قلت خلوة صباح ذلك اليوم لنفسي وأطلقت لها العنان تحلق كما تشاء، فأخذت انتقل بالمطالعة من كتاب إلى كتاب غير مقيد بنظام أو قاعدة، والوقت يمر سريعا حتى وقع ناظري على جملة تقول:(هذا عصر تنظيم الجماعات وقيادة وتوجيه الحركات الشعبية الكبرى، عصر عمل ونشاط وخلق وتصميم اكبر مظاهر سيطرة الإنسان بيديه القويتين على قوانين الطبيعة وإخضاعها لمشيئته وإرادته. تعالوا إلى الفلسفة المادية وارجعوا إلى المنهج التاريخي لكي تتفتح أذهانكم لآفاق بعيدة. إننا لا نؤمن بالعاطفة إلا إذا احتجنا إليها لمحاربة الجمود والرجعية ولتحطيم الأصنام المزيفة.)
أيمان تظهره جرأة، وجرأة يدعمها علم:
وبينما أنا أقرأ هذا الكلام، إذ قرع حاجب المفوضية الباب ودعاني لاستقبال الضيوف مع أستاذنا الكبير، فقمنا للترحيب بهم. وبعد برهة اجتمعوا ودخلنا حجرة المائدة، وقد رتبت احسن ترتيب يدل على ذوق الداعي واهتمامه بالصغيرة والكبيرة من تنسيق واختيار وتدقيق في كل ما يقدمه لضيوفه. وما بدأت الخدمة حتى اخذ الحديث حمد الله صبحي ضيف الشرف، وهو محدث من الطبقة الأولى يتناوله بأسلوب عذب وصوت هادئ ويعبر عن آرائه بالفرنسية وبالتركية، فتكلم عن أمور مختلفة، وأشياء متعددة، ولفت الأنظار حينما أخذ يتحدث عن حياة المسلمين في رومانيا، فأحاط بما هم عليه في وقته وما كانوا عليه في الماضي وما تنبأ لهم به في المستقبل، وأشار إلى اللغة المستعملة في رومانيا وكيف تأثرت بالألفاظ التركية التي امتزجت بها، وكثير من هذه الكلمات عربي الاصل،
دخلت وأصبحت من لغة يتكلمها الملايين من الناس، ثم عدد مساجدهم وعلماءهم، وما عليه من التمسك بدين الإسلام وما يلقونه من حرية العقيدة والتسامح في القيام بشعائرهم الدينية، بغير حرج ولا ضغط عليهم.
ثم رايته انتقل فجأة لموضوع شائك وعر الملك لا يجرؤ أحد من الأتراك أن يخوض فيه وقتئذ، فقال:(أن الدين لازم لكل أمة وفي كل عصر) ثم استشهد بعقلية الشعب اليوناني الحديث، فقال:(أن هذا الشعب الذي يجاورنا ونجاوره ويعاصرنا، يستمد إلهامه ومثله العليا من ثلاثة منابع: تاريخه القديم، وعصر بيزنطة والدين الأرثوذكسي. فهذه دعائم ثلاث لتفكيره ولمثله العليا ولحياته).
وهنا التفتت السيدة زوجة دوشين اشرف بك، وكان زوجها نائبا بالمجلس ثم وزيرا مفوضا وسفيرا، وهو كاتب من المع كتاب الأتراك وأدبائهم، وسبق أن شغل منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية في أول عهد الغازي كمال اتاتورك، فأبدت الكثير من الشك في أقوال الوزير التركي وكان مما قالته:(هناك أشياء أخرى غير الدين ومبادئه، تستلهمها الأمم في حياتها وجهادها ونهضتها، ثم ما هو الدين؟ أليس هو المثل الأعلى الذي يكونه الفرد منا لنفسه)، وعبرت عن المثل الأعلى باللفظ التركي المستحدث.
أما حمد الله بك فاستمر في حديثه لا يبالي بالرد على ما يوجه إلى كلامه من اعتراض، وكان صوته يعبر عن أيمانه العميق وشعوره بالألم والحسرة، فخرجت كلماته وهي تلهب الصدور، ولذلك بقيت عالقة بأذني، قال:(نحن معاشر أهل الإسلام في اشد الحاجة إلى ما اسميه تربية المسجد، وأقول بكل أسف أن المسجد لا يلعب في حياتنا الدور الذي تقوم به الكنيسة في حياة المسيحي أو المعبد في حياة الإسرائيلي، ونحن أحوج ما نكون إلى رجل الدين الذي يوفق بعلمه وروحه وشخصيته وجرأته لان يحيط المسجد أو الجامع بهالة من القدسية والاحترام، وان يتخذه مركزاً لعمله الروحي والاجتماعي، الرجل الذي يمكن أن يطمئن الناس إليه في تربية النشء وتثقيفهم وتلقيتهم قواعد الدين الصحيح وأسسه وفضائله، أن المساجد بيوت الله وبيوت العبادة وبيوت المسلمين، فيجب أن تتجه أنظارهم إليها وان تجمعهم وقت الصلاة وفي أعيادهم ومنا سباتهم المفرحة والمحزنة، وارى إن تربية المسجد عنصر أساسي من عناصر نهضة المسلمين).
واخذ يشرح هذه الناحية يوجهه نظر جديرة بكل اعتبار وتقدير، ويؤيدها بمنطق الرجل المسلم الشاعر بأهمية العمل الروحي، والمؤمن أيمانا لا يتزعزع بقوة المبادئ والدوافع التي قامت عليها الرسالة المحمدية.
وكنا نشعر وقتئذ بما بين تركيا وروسيا السوفيتية من علائق الود والصفاء والتحالف، وكنا نعرف أشياء عن محاربة البلاشفة للعقائد ولنظام الأسرة، وكان الأتراك يقلدون الروس في أشياء، ولكن حمد الله بك صرح بما يعتقد انه الصواب بقوله (لا يمكن لمجتمع بشري يحترم نفسه أن يحارب الاسرة، إذ هي الرابطة الأساسية والأولى التي تصل بين الفرد والمجتمع وبين الطبيعة والبشرية وبين المادة والروح)
كنا نستمع إليه جميعا ونحن نسلم بان هذه الكلمات تخرج من وحي أيمانه وعقيدته فهي ليست من قبيل المجاملة، بل نتيجة تفكير طويل ورأى ناضج. وكان يتحدث عن الشعب التركي حديث رجل يفيض قلبه بمحبة هذا الشعب الإسلامي الكبير، كما يتحدث والد عن اعز بنيه أو احب شئ لديه. وكان وطنيا بغير تعصب، قوميا مع سعة صدر. واذكر انه ختم كلامه بقوله:(ليس اصعب على السياسي أو المتصدر لقيادة نهضة أمة وهي في غمرات تحررها ويقظتها، من أن يلقنها كيف توفق بين الشعور بالوطنية الصحيحة ومراميها وأهدافها المشروعة وما يلابسها من حماسة وتطرف، وبين الإيمان بمحبة الأمم الأخرى والأخذ بالتساهل معها والشعور بأهمية العمل في حقل التعاون الدولي وما يتطلبه من تفاهم وتساند).
أن قليلين من رجال السياسة الذين استبقوا حوادث الزمن ونظروا هذه النظرة، وان هذا المبدأ من المبادئ التي تحاول أن تحققها الأمم بعد الحرب العالمية التي انتهت اخيراً، ولكني انقلها كما هي من مذكرات عام 1933.
من هو الرجل؟
إلى هنا انتهى حديثه، وانفض بعد ذلك جمع أناس من أهل الرأي والفضل، كان أستاذنا الكبير توحيد بك السلحدار يعرف كيف يجمعهم في دار المفوضية، حينما مثل مصر تمثيلا عاليا ورفع من شانها، وجعلها موضع احترام الأمة التركية وحكومة الجمهورية، فكان أول ممثل لدولة أجنبية جاء إليه رئيس الدولة، وعد ذلك بين الأتراك ورجال السلك الأوربي
وبين من يفهم من الناس، اكبر توفيق حصل عليه ممثل دبلوماسي لمصر منذ أنشئت علاقات سياسية بين المملكة المصرية والجمهورية التركية.
وتعجب معي كيف يتحدث حمد الله صبحي بهذه الشجاعة وكيف يجاهر بآراء لا تتفق مع الرأي السائد لدى السلطات العليا بتركيا، ولكن الرجل القوي المخلص لمبادئه لا يبالي بان يجهر بما يقول وبما يشعر، وكان حمد الله بك عالما فاضلا، والعلم قوة دافعة تسبغ على صاحبها شجاعة وجرأة وثباتا، وكان تاريخه نقيا صافياً، فقد خدم بلاده اجل الخدم، يوم كان زعيما لحركة (التورك أوجاغي) وهي التي أيقظت غريزة الشعور القومي لدى شباب الأتراك، ونفخت فيهم روحا جديدة، ومهدت الطريق لثورة مصطفى كمال التي قادتهم إلى حرب الاستقلال، فهو رجل من صميم الشعب، خرج من صفوفه وأمضى السنوات يعلم الشعب ويلقنه ويقوده، ولما اختلفت وجهة النظر بينه وبين الغازي سلم لرئيس الجمهورية مقاليد الحركة، التي أمضى عشرات السنين في بنائها وقنع بمنصب دبلوماسي خارج بلاده، ولكنه يحن إلى الشعب التركي ويتحدث بفضائل الإسلام ويأبى أن يفرق بين الترك والإسلام، ويجاهر بما يعتقد ولا يخشى إلا الله، وتلك منزلة لا يرقى إليها كل الناس كما نعلم ونلمس لدينا.
كان ذلك في عام 1933 وها نحن في عام 1946، وقد مضت السنوات وتغيرت الأيام، وتبدلت الأوضاع، وبينما اكتب مقالا للرسالة عن مساجد الفسطاط، وجدت مجلداً من مذكراتي اليومية، فإذا أنا أمام حديث حمد الله بك عن تربية المسجد. فرأيت أن انقله كما هو وان اعلق عليه بما دار في خلدي طول السنين الماضية، واجعله تتمة لحديث الفسطاط ودمعتها الغالية على مساجدها وآثارها.
(يا أيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)(المائدة)
بهذه الآية الكريمة خاطب الله رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأدى النبي رسالته، فهل اتبع المؤمنون سنة رسولهم، وقاموا بتبليغ الأمانة التي حملوها في هذا العصر الذي نعيش فيه؟
إن الرسالة المحمدية للعالم قائمة، فإذا أدّاها أصحابها، نشروا بين الخلق تعاليم ومبادئ
ودوافع تنفخ فيهم روحا جديدة، وتكون كشعلة لا يلبث ضياؤها أن يزيد يوما بعد يوم حتى تعم أجزاء الأرض فتؤثر في حركة العالم وسيره وتطوره، وفي تكاتف الأمم وتساندها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
هذا هو أيمان كل مسلم دخل في زمرة طائفة المؤمنين، وهذه آماله نعبر عنها، ونحن على ثقة منها؛ ولكن كيف الوصول إلى تحقيق ذلك؟
(البقية في العدد القادم)
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
منطق الدماء البريئة في يوم الجلاء
للأستاذ سيد قطب
أيا كان الألم الذي يعتصر قلب كل مصري لمنظر الدماء البريئة تراق، والأرواح الطاهرة تزهق، والبيوت العامرة تخرب، وقلوب الآباء والأمهات تقطر دما على فلذات الأكباد تخرج في الصباح ولا تعود في المساء!
أيا كان هذا الألم الدافق الحار في حنايا كل مصري لتلك الدماء البريئة التي أريقت في (يوم الجلاء) الذي أرادته الأمة المسالمة تعبيرا بريئا عن الحق الطبيعي في إبداء الشعور؛ وأراده المستعمرون القساة، معركة دموية تهرق فيها الدماء!
أيا كان هذا الألم، فإن له ثمنه الذي لن يضيع. فالدم هو عربون الحرية في كل زمان ومكان، والاستشهاد هو ثمن الكر أمة على تغير الازمان، وان لليوم لغدا، وان للحرية لفجرا، وان النصر لآت!
لا، بل أن ثمن تلك الدماء البريئة لحاضر، وأنا لنقبضه الآن
أن لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا، يكذب ويجبه أمته الكتاب المصريين والعرب أجمعين الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويدعون لهم في أمتهم، ويقربونهم إلى قلوب مواطنيهم، مأجورين أو مخدوعين. فالمخدوع في حق أمته لا يبعد كثيرا عن المأجور.
وان لتلك الدماء البريئة لمنطقا واضحا صادقا يكذب ويجبه، أمته الزعماء والساسة من المصريين والعرب اجمعين، الذين وقفوا يناصرون الإنجليز في محنتهم، ويؤيدون لهم جميع الخدمات التي تكفل النصر، دون أن يحصلوا في ذلك الوقت حتى على وعد قاطع بالجلاء، اعتمادا على شرف الضمير السياسي البريطاني المزعوم!
أن ثورة واحدة مدة ثمان وأربعين ساعة، إبان معركة العلمين، وتوالى الإمداد والذخائر، ثورة واحدة تعطل المواصلات، كانت كفيلة بترجيح كفة النصر، وانقلاب وجه الحرب كلها - باعتراف القادة البريطانيين والأمريكان في هذا الأوان - ولكن مصر لم تعملها، وثوقا بشرف هذا الضمير المزعوم. ولم تنتفع بهذا الظرف في قضيتها الوطنية، ضعفا، أو جهلا، من الساسة والزعماء المصريين!
ولقد ظل هؤلاء جميعا: الكتاب المأجورون، أو المخدوعون. والساسة الضعفاء، أو الجهال. . . . ظلوا يسكبون في سمع الأمة المصرية، وال أمة العربية كلها، منطقا زائفا مدخولا عن الديمقراطية الغربية، وعن الضمير البريطاني، وعن ميثاق الأطلنطي، وعن الحريات الأربع، وعن الحرية والإخاء والمساواة، إلى أخر تلك الخدع الماكرة اللئيمة، التي ألقاها الأقوياء للضعفاء، فتلقفها هؤلاء، وغنوا بها كالببغاء!
ظل هذا المنطق البائس المجرم يسكب في سمع الأمة، حتى انبعث أخيرا ذلك المنطق الحق الصارم، الذي لا عوج فيه ولا خفاء. ذلك منطق الدماء!
انبعث هذا المنطق من جراحات الجرحى، ومن طعنات القتلى، في ميدان الإسماعيلية، وانطلق كذلك من أفواه البنادق الآثمة، التي دوت بالموت والجراح، في الأبدان والأرواح. فغطى هذا المنطق الحاسم الصارم، على ذلك المنطق المريب الكذوب، الذي ظل الكتاب المأجورون أو المخدوعون، والساسة الضعفاء أو الجهلاء، يسكبونه في سمع الأمة ستة أعوام!
وإذا كان المنطق الزائف البائس، قد وصل إلى سمع الأمة ووقف هناك، فلقد اخترق المنطق الحق الحاسم سمعها، واستقر في قلبها، وردده ضميرها. . . فهيهات هيهات أن تخدع بعد اليوم! وهيهات هيهات أن تنسى منطق الدماء!
انتهينا. . . . انتهينا أيها الحلفاء!!!
لقد قبضنا اللحضة الثمن الغالي لتلك الدماء!!
قبضناه وعيا وصحوا لن تخدرنا المخدرات! قبضناه حزما وعزما لن تفلهما المغريات! قبضناه احتقارا ومقتا لكل تلك الدعايات!!
الحمد لله. لقد انكشف الغطاء!
انكشف في مصر في يومين خالدين في تاريخها الحديث، على ما يثيران من آلم فاجع في صدور المصريين أجمعين: يوم 4 فبراير المشؤوم. ويوم الجلاء. . . المضمون!
وانكشف في لبنان يوم انقضت السلطات الغاشمة الفرنسية على رئيس الجمهورية ووزراء الجمهورية، فأودعتهم بطون السجون! وانكشف في سورية يوم انطلقت المدافع المتبربرة تصب حممها على دمشق، وتنثر الأشلاء، وتقتل المجاهدين الأبرياء!
وانكشف في فلسطين، يوم قام (ترومان) يطالب بفتح أبواب الهجرة لمئة ألف من اليهود، وقام (بيفن) يسحب كلمة (الشرف) في الكتاب الابيض، ويبيح الهجرة للصهيونيين!
وانكشف في إندونيسيا يوم قامت القوات البريطانية، تقتل الأندلسيين المسلمين، وتسلط عليهم الفرق اليابانية، وتزعم إنها جاءت لتجريد الجنود اليابانية!
أن النضال بين الشرق والغرب في الحقيقة يثيره الإنجليز والأمريكان والفرنسيون والهولنديون، على الشرقيين عامة، والبلاد الإسلامية على وجه الخصوص.
هذه عقيدة يجب أن تستقر في ضمائر الشرقيين. في ضمير الهنود الإندونيسيين والمصريين والسوريين واللبنانيين والعراقيين والحجازيين والنجديين والفلسطينيين والطرابلسيين والجزائريين والتونسيين والمراكشيين. . . وهم كما يرون حشد عظيم، حين يواجهون الاستعمار الغربي متكاتفين.
إنه النضال. . . والويل فيه للمتخاذلين!
وبعد. . . .
فبوركت هذه الدماء الزكية التي كشفت عن عيوننا القناع! بوركت هذه الدماء التي أسكتت بمنطقها الحق الواضح، كل منطق مبهرج أو مدخول!
لقد ارتفعت صيحة الجلاء البريئة، فقوبلت بصيحة الرصاص الأثيمة، هذا منطق، وذلك منطق. ولقد شهدت الإنسانية في مواقع كثيرة انتصار الصيحة الأولى مهما بدت ضعيفة، على الصيحة الثانية مهما بدت عنيفة. بل لقد شهدنا نحن انتصارها في عام 1919.
هنالك فارق واحد بين الموقعتين:
في سنة 1919 كان على راس الأمة سعد زغلول، ولم يكن هذا الرجل يعرف ذلك المنطق المخنث الضعيف. منطق الثقة بالضمير البريطاني المزعوم. وكان الشعب مثله لا يقر مثل هذا المنطق المضحك في تلك الظروف!
فيا أيتها الأمة!
اعرفي طريقك، واعرفي زعماءك، واعرفي أبناءك!
انبذي كل من يحدثك عن ثقته في الضمير السياسي البريطاني.
فالضمير السياسي البريطاني هو هذا الذي يضربك بالرصاص، لأنك تهتفين هتافا سلميا
بالجلاء! والذي يدعوك من أبنائك إلى الثقة بهذا الضمير، يطعنك اشد من طعنات الرصاص، لأنه يطعن ضميرك، وهو ملاذك الأمين!
أيتها الأمة!
لقد هتفت مرة بالجلاء، وإنه لهتاف مطرب رخيم، وهتاف شريف كريم. . . فاهتفي أيتها الأمة بالجلاء، وصفقي لمن يهتفون معك به من الساسة والزعماء، على أن تكوني أنت الرقيب عليهم فيما يقولون وفيما يفعلون!
سيد قطب
مقالات في كلمات
للأستاذ علي الطنطاوي
1 -
حرية الكتابة
لست أدعو في هذا الكلمة إلى سلب الكتاب حرية الكتابة، ولكني أدعو إلى الإبقاء على حرية الناس في التدوين والتخلق بكريم الأخلاق. وان لكل حرية حدوداً، لا ينبغي لها أن تعدوها وإلا كانت حرية المجنون الذي يفعل ما شاء وشاء له الجنون. أنت حر في دارك ولكنك لا تستطيع أن تتخذ منها أتونا للفحم ولا ماخورا للفجور، ولا تستطيع أن تحرقها أو تنسفها بالبارود. وأنت حر في نفسك ولكنك لا تقدر أن تبسط سفرتك فتأكل في المحراب يوم الجمعة والناس في الصلاة، ولا تقدر أن تلقى الصحون وتصلي على المائدة ساعة الوليمة في الحفل الحاشد، أو أن تحضر المحاضرة بلباس الحمام، أو أن تصرخ في المستشفى أو تغنى في المأتم. وأنت حر في قلمك، ولكنك لا تملك ان تدعو إلى هدم استقلال وطنك، والخروج على قوانين بلادك. إنهم يمنعونك ويسكتونك ويضربون ان فعلت على يدك.
فلماذا لا يمنعونك أن تكفر بالله، وتهدم الأخلاق، وتخرج الناس على الدين، والأخلاق أساس الاستقلال والدين أولى من القانون؟ وكيف صح ذلك المنع، وساغ، ولم يمش حرمة هذه الحرية، ولم ينل من قدسيتها، ولا يصح هذا ولا يسوغ ولا يكون إلا عدوانا على حرية الكتابة، وإلحادا فيها.
أو ليس من عمل الحكومة الذي كانت من اجله الحكومات ان تقر الأمن والسلام في الأمة، وتضمن لها العزة والسيادة بين الأمم؟ إنه لا يكون أمن أو تكون عزة إلا بالخلق المتين وبالدين، فإن ذهبا لم يخلفهما شئ. . . وما القانون؟ هو الشرطي. . فإن أمن العاصي أن يراه الشرطي أو يدري به القاضي، أو يناله العقاب، ركب في طريق الغواية رأسه فلم يرده شئ، أما المؤمن فيردعه عن المعصية علمه أن الله مطلع عليه في سره وعلنه، وأما صاحب الخلق فربما رده خلقه، وعصمه الله به، فلماذا نهدم بأيدينا هذين الحصنين، وندع الضعف والهوان يدخلان علينا بدخول الإلحاد والفجور.
أو من العدل أن تحفظ الحكومة أموال الناس من اللصوص وتضيع عقائدهم؟ وتحمي
جسمهم من القتلة وتبيح قلوبهم؟ وتقيم الحراس يحرسون البيوت والأثاث وتدع أعراض البنات وأخلاق الصبيان هملا يسرقها ويعبث بها، كل صحفي مفسد، وشاعر ماجن، وكاتب خبيث؟
سيقولون: حرية الكتابة. . .
نعم إنها حرية ينبغي أن تصان وتضمن، ولا يعتدي عليها، ولا ينال منها، ولكن الدين والأخلاق، ينبغي كذلك أن يصانا وان يضمنا، وألا يعتدي عليهما ولا ينال منهما، فإن تعارض الأمران، فلنحمل أخف الضررين، ولنقبل بأهون الشرين، وأهونهما أن نخسر حرية الكتابة (أحيانا) لنحفظ الدين والشرف، لا أن نخسر الدين والشرف لنحفظ (حرية الكتابة)، ونقول لكل صاحب نحلة ضالة، أو هوى خبيث، أو رأي هدام: اكتب ما تريد، واطبعه، وهاته نقرأه على أبنائنا وبناتنا، ونصبه في عقولهم وننشئهم عليه!
ونحن اليوم في مطلع حياة جديدة، وقد غيرت هذه الحرب المقاييس، وبدلت قيم الأشياء في إفهام الناس، وكانت امتحانا قاسيا للأمم لم تنجح فيه أمة فشا فيها الفجور، وعمت الفاحشة وضعفت الرجولة، ونسيت العقيدة، ولن يدوم نجاح لأمة لا تزال تستهين بالعفاف وتميل إلى المجون وتؤمن بالكفر. . . وحسبنا فرنسا مثلا معروضا لكل ذي عينين تبصران وعقل يفكر فلنعتبر بغيرنا قبل أن نصير عبرة للمعتبرين، ولتفهم حكومتنا انه لا حياة لنا إلا إذا أنشأنا من أبنائنا جيلا مؤمنا متين الخلق، ظاهر الرجولة، مقبلا على الجد، عارفا بالواجب عليه فإذا تركت الحكومات الصحفيين والكتاب (اعني بعضهم) ينقض كل يوم حجرا من صرح الأخلاق، ويوهي جانبا وينشر في الناس حديث الشهوة الهيمية، ويستكثر من القراء بإثارة أحط الغرائز البشرية، لم ننشئ والله إلا جيلا رخوا ضعيفا همه شهوته، ومطلبه لذته، قد ضاعت رجولته وذهبت قوته ثم نبي بهذا الجيل مجدنا ونقيم عزنا ونأخذ بين الأمم مكاننا!
أن المسالة اكبر من أن نلوك فيها هذه الألفاظ (حرية الكتابة)(وحرية الفكر). . . إنها مسالة حياة أو موت!
2 -
أمثلة على حرية الكتابة
وما في نشر الفاحشة صعوبة، ولا يحتاج إلى عبقرية أو بلاغة أو أدب أو نبوغ، وحسب
الرجل ان ينشر في كتاب ما يطوى في الخلوة، أو أن يظهر في صورة ما يستر من العورة، حتى ينال منه ما يريد.
فتجرأ الناس على الأدب، واقتحموا حماه من غير أن يعدوا لذلك عدته من وقوف على اللغة وأساليبها، واطلاع على صرفها ونحوها، ونظر في رسائل بلغائها ودواوين شعرائها. وفيم هذا العناء كله، وأدب الشهوة، لا يحتاج إليه، ولا يعتمد عليه؟ وما هي إلا سهرة في الخمارة، أو ليلة في (المرقص. . . .) حتى تجمع أسبابه كلها ومقوماته.
طبع في دمشق منذ سنة كتاب صغير، زاهي الغلاف ناعم ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علبه (الشكولاته) في الأعراس، معقود عليه شريط احمر كالذي أوجب الفرنسيون أول العهد باحتلالهم الشام وضعه في خصور (بعضهن) ليعرفن به، فيه كلام مطبوع على صفة الشعر فيه أشطار طولها واحد، إذا قستها بالسنتمترات. . يشتمل على وصف ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرسة المتوقحة وصفا واقعيا لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غني، عزيز علي أبويه وهو طالب في مدرسة. . وقد قرا كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات.
وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه فلم يكن بدمن هذا التجديد. ومع ذلك فقد قرانا في الجرائد من نحو شهر، أن صاحب هذا الكتاب قد دعي إلى محطة الإذاعة في القاهرة، ليذيع منها شعره، رغبة منهم بنشر الأدب السوري، وتوثيقا للتعاون الثقافي بين الأقطار العربية!!
وهاكم مثالا اخر، هو الكتاب الذي صدر في دمشق منذ عهد قريب، واسمه (مختصر تاريخ الحضارة العربية)، وقد وضع لطلاب المدارس الثانوية ونصف مباحثه، في القرآن وعلومه، والحديث وفنونه والفقه أصوله وفروعه، والكلام، والفرق الإسلامية وعقائدها، والذي راع صدوره العلماء لما فيه من التخليطات التي يكفر بمثلها المؤمن، ويجهل العالم، ويضحك منه على ذقن قائله، وألف مفتي الجمهورية لجنة للنظر فيه فنظرت فوجدت فيه من الغلطات ما لا ينتهي العجب من صدوره ممن ينتسب إلى العلم ولو من وراء خمسة
جدود. . . فكان مثال مؤلفيه فيه - كالنحوي إذا ألف في علم التشريح، والكيميائي إذا كتب في فن التمثيل.
على أن النظر في الغلاف إلى اسم مؤلفيه يبطل هذا العجب، لأن أحدهما اسمه جورج حداد - والأخر اسمه من أسماء المسلمين ولا اعرف عنه ولا عن زميله شيئا، ولكن أبحاث الكتاب تدل على ان هذا المسلم اجهل بعلوم المسلمين من الخوجه جورج! إنها (حرية الكتابة)، فليتعلم طلابنا الأباطيل على إنها حقائق، والأوهام على إنها الإسلام، ويحفظونها ليؤدوها يوم الامتحان، ما دامت هذه الحرية مصونة، والكلام في الحد منها عدوان على الفكر المقدس.
(دمشق)
علي الطنطاوي
الأدب في سيرة أعلامه
ملْتن
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
بين عهدين: منشأ البيوريتانية
وما ذلك المذهب الذي جر على اتباعه كراهة مخالفيهم زمنا، والذي قدر له أتخر الأمر أن يظفر بخصومه جميعا ويسيطر على البلاد حقبة من الزمن؟
إذا أردنا أن نعرف كيف نشأت البيوريتانية في إنجلترة، وجب ان نرجع إلى تلك الحركة التي انبعثت في أوربا في أوائل القرن السادس عشر، والتي اصطلح المؤرخون على تسميتها الإصلاح الديني ففي هذه الحركة الإصلاحية أرومة البيوريتانية، على أن نراعي في نظرنا إلى حركة الإصلاح الديني مشاعر الإنجليز التي هي نتيجة ما أحدثته بيئتهم من اثر في ميولهم ومزاجهم وفلسفة حياتهم؟ لتبين كيف استجاب فريق منهم لدعوة الاصلاح، نرى من ذلك أن استجابة هذا الفريق على نحو اختصوا به هو روح البيوريتانية؛ فما كانت البيوريتانية في إنجلترة إلا صورة معينه من صور الإصلاح الديني العام الذي شملت دعوته أوروبا في النصف الأول من القرن السادس عشر.
كانت هذه الحركة الإصلاحية ثمرة من ثمار النهضة الأوربية العامة ومظهرا من مظاهرها فقد نفذ نور النهضة إلى كل ركن من أركان الحياة ومنها الدين؛ وما كان لوثر بطل الدعوة الإصلاحية في ألمانيا وأول رجل تحدى البابوية إلا معبرا في الواقع عن معان وآمال كانت تهجس في نفوس كثيرة من المفكرين غيره، وإنما كان له فضل البدء والسبق في مضمار الجهاد، وكان بدء دعوته سنة 1517.
وكانت دعوة لوثر في جوهرها ثورة على دعوى البابوية أنها تحكم مفوضة من الله في
أمور الدين والدنيا، وعلى امتيازات القساوسة واطماعهم، وعلى ما ورثته المسيحية من مظاهر الوثنية القديمة؛ فهي من ناحية وثبة على سلطان الكنيسة ومن ناحية أخرى رغبة في العودة بالدين إلى جوهره الخالص من شوائب البدع والضلالات. . .
رأى لوثر أن في وسع كل مؤمن أن يتصل بربه مباشرة لا عن طريق قسيس كما تزعم الكنسية، بل إن في وسع كل امرئ أن يكون قسيسا إذا اخلص قلبه لله. وأنكر لوثر عقيدة الكنيسة في العشاء الرباني إنكارا شديدا، فما يقبل عقله أن صلاة القسيس لدى قربان من الخبز والنبيذ على المذبح تحيله فعلا إلى مادة المسيح نفسه لحما ودما. وطعن لوثر اشد الطعن على زعم البابا انه يملك الغفران والحرمان، وسخر اعظم السخرية من بيع الكنيسة صكوكا تمحو الذنوب والآثام. وخطا لوثر خطوة إيجابية فترجم الإنجيل إلى الألمانية، وطلب إلى الناس أن يكون مصدرهم الإنجيل وحده لا تعاليم الكنيسة. وتداول الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم ولم يأخذوه عن القساوسة وشاع فيهم هذا الكتاب عامتهم وخاصتهم بفضل ما استحدث من وسائل الطباعة فرأوا مبلغ ما دخل على الدين من زيف، وعجي الناس إذ وجدوا في الإنجيل أن القديس بطرس نفسه لم يعصم من الخطأ وأنه أنب على أخطائه. وإذا كان هذا شان بطرس القديس فما بال رجال الدين، وقد بعدوا عن المسيح وعهده هذا البعد الزمني، يزعمون العصمة لأنفسهم من الأخطاء؟
وأمعن لوثر في إظهار مبلغ ما صار إليه رجال الدين من إقبال على الدنيا وبعد عن الزهد، فما يهم الرجل منهم إلا جمع الهبات والصدقات، وانهم ليديرون الأراضي الموقوفة على الكنيسة منذ الاقطاع، ويشغلون أنفسهم بأمور دنيوية بحتة، ويتدخلون في الشؤون السياسية يطمعون أن تكون له سلطة كما للأمراء سلطة، حتى قلد نسوا رسالتهم الروحية ولم يبق لهم إلا مظهر يتجلى في ملابسهم وفيما يشخصون فيه من طقوس الأدعية والصلوات وما إليها مما لا يعد من جوهر الدين ولا من رسالته العليا. وألقى لوثر تبعة هذا الفساد على عاتق البابوات الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الدنيوية في العالم المسيحي أثناء العصور الوسطى مخالفين بذلك آباء المسيحية ولأولين الذين كانوا يدعون ما لقيصر وما لله لله. . .
ولم يكن مرد ما أحدثه من عظيم الأثر في ألمانيا ثم في أوروبا كلها إلى آرائه وحدها، ولكنه اثر في الأذهان اعمق الأثر بمسلكه كذلك؛ بهذه الجرأة البالغة التي خيل إلى الناس
أنها اعظم من أن تكون صيحة بشر؛ فهذا أحد رجال الدين يتحدى البابا ويسخر من الكنيسة، وكان من يفكر بينه وبين نفسه آن أحد القساوسة يخطئ بله البابا نفسه يأثم بهذا إثما لا يمحوه إلا التوبة والندم!
وكثيرا ما يؤثر العظماء في الناس بأعمالهم ولو لم يقولوا شيئا فتكون أعمالهم ابلغ من كل مقال، هذا لوثر بقوله وعمله، فهو لا يتردد أن يحرق رد البابا على آرائه وفعل ذلك على أعين الناس، ثم يقابل قرارا البابا بكفرانه وطرده من رحمة الكنيسة، بكل ما في وسعه من عدم مبالاة وسخرية. . . ويعد عمل لوثر هذا في الحق فصلا رائعا في تاريخ حرية الفكر منذ أن بدا الناس يعشقون حرية الفكر وينادون بحرية الفكر، وستظل وثبته وقوته وجرأته حديثا عذبا تجري به الألسن وتبتهج له النفوس كلما اتجه الناس بأذهانهم إلى ذلك الأمل الحلو اعني به انطلاق الفكر من قيوده. . .
عصفت دعوة لوثر بسلطة الكنيسة وزلزلت القساوسة ومكنت لحرية الفرد اكبر تمكين، فلكل امرئ الحق أن يفكر في أمر دينه تفكيرا حرا لا يتقيد فيه بقيد؛ وكانت ترجمة للإنجيل إلى الألمانية فتحا ونورا، بهر العقول، وحرك النفوس الجامدة، وكشف للناس العقيدة الأولى نقية من شوائب الوثنية سليمة من ضلالات الكنيسة.
وما لبثت دعوة الإصلاح أن نهض بها زعماء غير لوثر، نخص منهم بالذكر كلفن الفرنسي الأصل الذي أحدثت آراؤه من عميق الأثر في أوروبا كلها ما لم تبلغ إلى مثله أراء لوثر نفسه.
وقد بدأ هذا الداعي دعوته سنة 153، وكانت أول خطوة خطاها هي توجيه الطعن إلى كنيسة روما وإظهار معايبها على نحو ما فعل لوثر.
ولئن اثر لوثر بإقدامه وحميته وتحديه وفصاحته، فلقد اثر كلفن بفلسفته القوية، ومنطقه الصارم الواضح الذي لا عوج فيه، ثم بمبادئه الخلقية التي استمسك بها ولم يسمح في تنفيذها بأية هوادة.
آمن كلفن بعقيدة القدر المحتوم؛ فكل إنسان مقدر عليه أمره من قبل أن يبرأ؛ والناس من اجل ذلك فريقان: فريق هدى وفريق حقت عليه الضلالة، وليس يتسنى في هذا العالم أن يعرف من هم أهل النعيم ومن هم أهل الشقاء، اعني لا نستطيع أن نحكم على امرئ أمن
الذين شقوا هو أم من الذين سعدوا.
وإذا كان لوثر قد مكن لحرية الفرد وشعوره بذاتيته وكيانه، فإنه في الوقت نفسه مكن لسلطة الأمراء، وذلك لأنه استعان بهم واعتمد عليهم واستغل رغبتهم في التخلص من سلطان الكنيسة ومطالب الكنيسة. أما كلفن فقد كانت فلسفته ترمى إلى التحرر من كل سلطة استبدادية، سواء أتمثلت في الكنيسة أم في الأباطرة والملوك والأمراء؛ وكانت نزعته ديمقراطية ترمي إلى الاعتماد على جمهور الناس، وكان يرى أن القوى هو الله وحده وان الذي يخشى هو الله وليس غير الله؛ فالناس جميعا ملوكهم وسوقتهم أمام قوة الله سواء، وليس على الأرض من يتمتع بما يسمى حقا إلهيا وإنما الحاكمون هم ممثلو إرادة المجموع، وكان يرمي بآرائه هذه إلى تدعيم نظامه الكنسي الذي كان قوامه قوما يختارون من عدد من القساوسة وعدد من غير رجال الدين لإدارة الكنائس الكلفية، فلا سلطة على كنائسه لبابا ولا لأمير.
وثبتت عقيدة الخوف من الله وحده في نفوس اتباعه عدم الخوف من غيره بل والتمرد على كل مستبد من ذوي الطغيان؛ ولكن إذا كانت هذه الحرية حقا للفرد، فعليه فيما يقابلها واجب يتلخص في اتباع المبادئ الخلقية التي رسمها كلفن، وكان صارما كل الصرامة في تنفيذها. وعنده أن الفضائل تطلب لذاتها أولا قبل أن تطلب طمعا في ثواب أو خوفا من عقاب.
حرم كلفن الخمر والميسر والرقص والخلاعة وأعمال السحر والشعوذة والربا الفاحش وفرض لكل منها عقوبة صارمة وجعل عقوبة الزنا الموت، وكانت وظيفة كنائسه إرشاد الناس ومراقبتهم وأخذهم بالشدة إذا فرطوا في جنب الفضيلة.
شاعت اللوثرية والكلفنية في أوروبا، ثم انتقلت آراؤهما إلى إنجلترة؛ فكان أثرها هناك على صورة خاصة توضحها مشاعر الإنجليز واثر البيئة في تلك المشاعر.
ونقصد اثر البيئة الطبيعية وما يتصل بها من مؤثرات مناخية، فما لا شك فيه أن لهذه البيئة فعلها في تكوين مزاج أهلها على نحو معين، ثم فعل الوراثة متمما لفعل البيئة فتتكون مشاعر الأمة بمرور الزمن وهذه المشاعر هي مزاجها العام.
وكان لبيئة الضباب والسحاب والبرد الشديد ولأعاصير الهوج والغالات الموحشة والبحر المخوف أثرها في بث نوع من الظلمة العابسة والجد الصارم يشبه أن يكون كآبه في
مشاعر الإنجليز والأمم التيوتونية على العموم؛ وقر في مشاعرهم أن صعوبة الحياة وقسوتها ضرب من القدر يقاوم في شجاعة وتحد، ويذعن له في رضى واستسلام؛ وذلك على خلاف ما كان في الطرف الجنوبي الشرقي لأوروبا مثلا حيث الشمس والدفء والنور كانت تبث المرح والحيوية في مشاعر الإغريق، وتميل بهم إلى متع الحياة ومسراتها.
فلما تحررت العقول نتيجة للنهضة الأوربية العامة، لم يكن عجبا أن يتجه الإنجليز بعقولهم المحررة إلى أمور الدين أكثر مما اتجهوا إلى مسائل العلم والفلسفة والفن، وأحدثت آراء كلفن أثرها العميق في نفوسهم وعلى الأخص رأيه في القدر المحتوم الذي لا سبيل قط إلى تغيير حكمه.
وعم تيار النهضة فغمر الحياة العامة وأشاع فيها البهجة والمرح والجمال والزينة، والرغبة في الاستمتاع بجمال الحياة ولذاذاتها، فكان منه ربيع حافل يتمثل في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير
ولكن الربيع لم يطل؛ وما ذلك إلا لأنه كان أمرا طارئا على مشاعر الأمة غريبا على مزاجها العام. وما أسرع ما استيقظت تلك المشاعر من حلم العصر الأليزابيثي فكانت يقظتها هي البيوريتانية وفلسفتها التي أخذت تسيطر على المجتمع الإنجليزي. والفرق بين ما أنتجته العقول في الأدب والفن في العصر الأليزابيثي أو عصر شكسبير وبين ما أنتجته في العصر البيوريتاني أو عصر ملتن، يرينا مدى التغير الذي اخذ يطرأ على الحياة بعد حلم النهضة. ولقد لوحظت شواهد ذلك التغير في فن شكسبير نفسه في أخريات ايامه، وتجد أمثلة لذلك في روايتيه (العاصفة) و (قصة الشتاء).
هذه اليقظة من الحلم البهيج الفاتن، أو هذه الفلسفة التي عادت بمشاعر الأمة إلى طبيعتها هي روح البيوريتانية، ولكن رد الفعل كان شديدا؛ فداخل الحياة الإنجليزية نوع من التزمت الشديد كان أكثر مما تطيق النفوس في مواطن كثيرة، والبرهان على ذلك ما شاع في الأمة من سرور مع الملكية العائدة بعد زوال عهد كرمويل.
وقد رأينا كيف ظهر البيوريتانز كجماعة أول الأمر حين أصدرت الملكة اليزابيث مرسوم توحيد العبادات عام 1559، ورأى فريق من رجال الدين انه كان ينبغي أن يكون المرسوم أكثر تخلصا من مظاهر روما والكنيسة البابوية، فهؤلاء هم البيوريتانز. ونستطيع أن نلمح
اثر اللوثرية والكلفنية في رغبة هذا الفريق في التخلص من مظاهر الكنيسة البابوية. ولقد كان لغضبة هنري الثامن على البابا وفصله كنيسة إنجلترة عن كنيسة روما أثره كذلك في نفوس هذا الفريق، فلئن كان ذلك الفصل من حيث الرياسة فحسب، مع بقاء العقيدة الكاثوليكية وطقوسها على ما هي عليه، إلا انه زعزع هيبة البابا في نفوس الإنجليز إلى مدى واسع، وجعل نزعة الإصلاح تستند إلى دعوى مشايعة السلطة الحاكمة ضد البابوية.
واخذ يزداد عدد هؤلاء الذين رغبوا في التخلص من مظاهر البابوية، وأخذت تشيع فيهم مبادئ الإصلاح الديني العام وعلى الأخص آراء كلفن وتعاليمه الخلقية، فلم ينته القرن السادس عشر حتى كان منهم فئة دينية رأينا كيف سميت باسم البيوريتانز؛ وأصبح لهذه الفئة نظرة إلى الحياة خاصة بها، لا في العقيدة الدينية وحدها، ولكن في السياسة كذلك وآداب المجتمع والأدب والفن؛ ولما تم لهم السيطرة السياسية استطاعوا أن يأخذوا المجتمع بمبادئهم أخذا قويا لا هوادة فيه، ولكنهم غلوا في تلك المبادئ غلوا كبيرا حتى تجاوزوا ما تطيقه مشاعر الأمة.
(يتبع)
الخفيف
الكذب والنسيان
كما يراها (أبو العلاء المعري)
للأستاذ كامل كيلاني
(تتمة ما نشر في العددين السابقين)
18 -
شعر الضب:
ويندد في رسالة الأغريض بالرواة الكاذبين فيقول: (وقد تمادى بأبي يوسف - رحمة الله - الاجتهاد في إقامة الاستشهاد، حتى انشد رجز الضب، وان معدا من ذلك الجد مغضب. أعلى فصاحته يستعان بالقرض، ويستشهد بأجناس الأرض. ما رؤية عنده بنصير، فما قولك في ضب دامي الأظافير.
19 -
كذب النجوم
وقد خشي أن يصل الكذب إلى الكواكب والنجوم فقال:
(فيا ليت شعري هل تُراعُ من الروى
…
وتركَعُ نُسكا بالعشاء وبالظهر
وتكذب أن المين في آل آدم
…
غرائز جاءت بالنفاق وبالعهر
20 -
حديث مهلهل
ويسأل عدي بن ربيعة المعروف بمهلهل التغلبي، اخبرني لم سميت مهلهلا فقد قيل إنك سميت بذلك لأنك أول من هلهل الشعر، أي رققه. فيقول: إن الكذب لكثير. وإنما كان لي أخ يقال له امرؤ القيس، فأغار علينا زهير بن جناب الكلبي، فتبعه أخي في زرافة من قومه، فقال في ذلك:
لما توقل في الكراع هجينهم
…
هلهلت اثأر مالكا أو حنبلا
وكأنه باز، علته كبرة
…
يهدي بِشِكته الرعيل الأولا
فسمى مهلهلا، فلما هلك شبهت به، فقيل لي مهلهل. فيقول الآن شفيت صدري بحقيقته اليقين.
21 -
حديث المرقشين
ويسال المرقش الأكبر عن الأبيات التي يرويها له بعض الناس:
(تخيرت من نَعمانَ عُودَ أراكة
…
لهند، ولكن من يبلغه هِندا
خليلي جوزا - بارك الله فيكما
…
وان لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولهما لها:
ليس الضلال أجازنا
…
ولكننا جُزنْا لنلقاكم عمدا)
ويقول له: ولم أجدها في ديوانك، فهل ما حكي صحيح عنك؟) فيقول المرقش:(لقد قلت أشياء كثيرة، ولكني سرفتها (أي: غفلت عنها وجهلتها) لطول الأبد.
وينعطف إلى المرقش الأصغر، فيسأله عن شانه مع بنت المنذر، وبنت عجلان فيجده غير خبير، قد نسى لترادف الأحقاب. فيقول:(ألا تذكر ما صنع بك جناب. فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقودين (أي: الدواهي) وشربت الأمرين.
22 -
نطق اللسان
ومن ابرع ما قاله في التنديد بالكذب قوله في رسالة الغفران: (وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان، لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان لان العالم مجبول على الكذب والنفاق ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تدينا، وإنما يجعل ذلك تزينا يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض من أغراض الخالية أم الفناء. ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن (دعبل بن علي) لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب، وكم اثبت نسبا بتنسب.
ولا ارتاب إن دعبلا كان على رأي الحكمي وطبقته. والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشية.
23 -
الكذب الفني
أما الكذب الفني الذي كان يضطر إليه إليه الخيال، فقد أبدع شاعرنا في الاعتذار عنه في مقدمة سقط الزند - كما قلت في رسالة الهناء - حين عرض لتسويغ اضطراره إلى حذف أسماء من غلي في مجاملتهم، وأسرف في تخيل المزايا الباهرة التي نحلها إياهم في قصائده، معتذرا عما ارتكبه من الشطط بأنه لم يعن أحدا منهم بما قال، ولم يقصد - بما
نظم في ربان الحداثة (أول الشباب) وجن النشاط (شدة المرح) إلى غير مرانة الطبع ورياضته، ثم شفع ذلك الاعتذار بآخر فقال:(ولم اطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس (الطبع) فالحمد لله الذي ستر بعفة من قوام العيش، ورزق شبعة من القناعة أوفت على جزيل الوفر).
ولكنه لم يلبث أن عزف عن هذا الباطل ونفر طبعه من تلك الأكاذيب فهجر الشعر قائلا في مقدمة سقط الزند: (ثم رفضته (يعني الشعر) رفض السقب غرسه، والرأل (ولد النعام) تريكته (بيضته التي خرج منها وهو فرخ)، رغبة عن أدب معظم جيده كذب ورديئة ينقص ويجدب (يعيب) وهنا يقول: (وما وجد لي من غلو، علق - في الظاهر - بآدمي، وكان مما يحتمله صفات الله - عز سلطانه - فهو مصروب إليه.
وقد اخذ نفسه - في قابل أيامه - بهذا العهد فوقف تمجيده وإجلاله على خالقه وحده، كما ترى ذلك في اللزوميات ورسالة الغفران، والفصول والغايات.
24 -
المثل العليا
وقد أشار في تلك المقدمة النفيسة إلى مبدأ جليل ما اجدر محبي الأدب العربي أن يتنبهوا إلى خطره ونفاسته، فآثر أن يوجه مدائحه إلى المثل العليا - حيثما وجدت - في أفذاذ الموهوبين، من سالف القدامى الغابرين، وقابل الذراري القادمين، فقال:(وما صلح لمخلوق سلف من قبل أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به). ثم أعلن براءته مما جمح به طبعه فقال مستغفرا نادما: (وما كان من محض المين لا جهة له، فأستقبل الله الثرة فيه).
ثم وصل إلى ذروة التوفيق في تعليل الكذب الفني وتسويغه، فقال:(والشعر للخلد، (للنفس أو القلب) مثل الصورة لليد، يمثل الصانع مالا حقيقة له، ويقول الخاطر (القلب)، ما لو طولب به لأنكره).
ثم لخص دستور الشعراء ومن لف لفهم من رجال الفنون فقال: (ومطلق - في حكم النظم - دعوى الجبان: انه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير، وتحلى العاجز بحيلة الشهم، الزميع (النشيط الجريء).
ومما نقتبسه في هذا الباب قوله في رسالة الشياطين 139:
وزعم صاحب المنطق في كتابه الثاني من الكبت الأربعة: أن الكذب ليس بقبيح في
صناعة الشعر والخطابة. ولذلك أستجازت العرب أن تقول فتفرط، وتسرف في الشيء فتغرف.
كامل كيلاني
فلسطينيات:
أخيال أم حقيقة؟
فلسطين بعد ربع قرن!. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
سيقول ولدي: اذكر أنني في ليلة من ليالي الشتاء القارس جلست إلى جانب والدي وقد حاطني بذراعيه وكان يمتحنني في دروسي، ولما تطرقنا إلى الجغرافيا وأوضاع الدول والأمم، سألني في أية سنة تم تقسيم فلسطين يابني؟ فاجبته على الفور: سنة 1950 يا والدي!.
فربت على كتفي وقال: عافاك الله، حقا انك لتلميذ نبيه، ولكن هل طالعت شيئا عن تاريخ ذلك التقسيم وكيف حصل؟
قلت: قرأت في كتاب تاريخ فلسطين للأستاذ سعيد الزيتاوي الصادر في يافا سنة 1965، والذي أقرته وزارة المعارف العربية الفلسطينية، أن مشروع التقسيم لاقى وقتئذ مقاومة عنيفة من العرب واليهود على السواء. وكانت وجهة نظر العرب في ذلك كما أوجزها الأستاذ الزيتاوي في كتابه تتلخص في أن الموافقة على التقسيم يعني الاعتراف بحقوق اليهود في جزء من فلسطين وانه يخول اليهود حق إقامة دولة لهم في أراضيهم وتأليف جيش وفتح باب المهاجرة إليها على مصراعيه، ثم انه يمكنهم من تصميم الصناعات في دولتهم الأمر الذي يهدد كيان الدولة العربية الاقتصادي، وان الدولة اليهودية في ذلك الجزء من فلسطين ستصبح المخفر الأول للرأسمال الأمريكي في الشرق الأوسط!. . كما أنها ستكون مصدر متاعب لا نهاية لها للجمعية العمومية الدوليه، ولمجلس الأمن العالمي!
وهنا قاطعني والدي وقال: ولكن ألم يكن اليهود أحرارا في تل أبيب والمستعمرات اليهودية؟ ألم تكن لهم مجالسهم البلدية وصناعاتهم المحلية، ومدارسهم الأهلية؟ وهل كان العرب يتدخلون في شئون اليهود الخاصة؟ أو هل كان بمقدور أية أسرة عربية أن تسكن تل أبيب؟ أو هل كان يحق لعربي أن يقيم له حانوتا في مستعمرة (بني براك) مثلا؟ أذن كان التقسيم واقعا فعلا قبل سنة 1950، وكل ما فعلته لجنة التقسيم الدولية أنها خططت
الحدود، وعينت منطقة الحرام!.
ارتبكت لدى سماعي اعتراض والدي هذا والتزمت الصمت، إلا انه ابتسم وقال: يظهر أن معلومات الأستاذ الزيتاوي كانت غير كافية، فجاء كتابه التاريخي هذا ناقصا، وهذا عيب لا يغتفر للمؤرخ النزيه.
واسترسل والدي قائلا: شرحت لي وجهة نظر المعارضين من العرب لمشروع التقسيم فهل لك الآن أن تبين لي وجهة نظر ذلك الفريق من العرب الذين أيدوا مشروع التقسيم بواسطة حزبهم المعروف بحزب الديمقراطية الأحرار العرب؟
قلت: روى لنا الأستاذ الزيتاوي في الصفحة 97 من كتابه المذكور، أن أنصار التقسيم من العرب رأوا في التقسيم الحل الوحيد للقضية الفلسطينة، لأنه يضع حدا فاصلا للمطامع الصهيونية، ويمكن العرب من إقامة دولة مستقلة لهم في فلسطين، فيضربون حولها نطاقا حديديا قوامه الخنادق والمخافر والأسلاك الشائكة المكهربة، والجيش العربي الفتي المتيقظ المجهز بأحدث الأسلحة؛ ثم أن العرب إذا ما رأوا أنفسهم في جوار دولة مالية صناعية مخيفة تمسكوا بناموس المنافسة والتطور واستنجدوا برؤوس الأموال العربية وأرسلوا أبناءهم إلى البلاد الراقية ليتخصصوا في مختلف العلوم والصناعات، وهكذا فلا تنفضي حقبة من الزمن حتى يكون العرب قد أقاموا في فلسطين مجتمعا عربيا راقيا فاضلا تتضاءل إزاءه أخطار الدولة اليهودية، ويصير مصيرها إلى التلاشي أو إلى البقاء في الشرق كما هي أمارة تنشتاين في الغرب!
قال والدي: أحسنت الجواب. . . لكن هلا حدثتني عن موقف اليهود من مشروع التقسيم وكيف قبلوه؟
قلت: هذا ما افتقر إليه كتاب الأستاذ الزيتاوي ولم يتطرق إليه إلا لماما واذكر انه قال: أن غلاة الصهيونيين عارضوا مشروع التقسيم بشدة. فمنهم من نعته ب (غيتو) يهودي كبير ومنهم من قال أن الدولة اليهودية بمقتضاه تكون بمثابة (معتقل) للمهاجرين اليهود! وان المهاجرين لن يجدوا متسعا لهم في تلك الرقعة الضيقة فيزاحم بعضهم بعضا فينغص عليهم عيشتهم، وتتحول دولتهم إلى جحيم لا يطاق! أما أنصار التقسيم منهم، فيدحضون هذه المخاوف بقولهم: ستنمو الدولة اليهودية عموديا لا أفقيا!
فقاطعني والدي قائلا: وما الذي تفهمه بالنمو العمودي لا الأفقي؟
تلعثمت بالجواب واحمر وجهي خجلا، وقلت: لا ادري!
فقال: عيب عليك أن تتلفظ باصطلاحات وأنت تجهل معناها أأنت ببغاء؟ فالتطور العمودي هي ناطحات السحاب التي تراها اليوم في بعض مناطق الدولة اليهودية المجاورة، والتي أقامها أصحابها لضيق الرقعة، وكثرة السكان. . . أما التطور الأفقي فهو التوسع على حساب الأراضي العربية، وهذا غير ممكن، لأنه يؤدي إلى وقوع حرب بين الدولتين، لن يسمح بها مجلس الأمن الدولي!
وإذ هم والدي بطرح أسئلة مضنية أخرى، طرق باب الدار، وكان الطارق السيد عبد الحليم الملاح صاحب جريدة (الكوكب) وكان من عادته أن يسهر ووالدي ويتبادل وإياه أطراف الأحاديث. فرحب به والدي كعادته، وأجلسه على الأريكة إلى جانبه، وكان مدار حديثهما أخبار الحدود، فروى السيد الملاح خبر اكتشاف قوة الحدود العربية نفقا نقبه اليهود تحت الحدود، كانوا يهربون منه البضائع المصنوعة في تل أبيب، وان مصلحة الجمارك اليهودية القائمة بالقرب من مرج بني عامر أو (ايمك) صادرت سلعا عربية غير مجمركة، وان عربيا حاول الانتقال من يافا إلى تل أبيب بلا جواز سفر، فاعتقل وظل طيلة يومه في استجواب مستمر، ولم يفرج عنه إلا بعد أن اثبت للمسئولين انه يجهل وجود دولة يهودية مجاورة، وما إلى ذلك من أخبار الحدود المتعاقبة يوميا!
وهنا أخذني النعاس واستغرقت في نوم عميق، تاركا والدي وصديقه يتناوبان أحاديث السهرة. . .
نجاتي صدقي
تحقيق علمي واستنتاج
الأبيوردي. .
ولادته ووفاته
للأستاذ ممدوح حقي
تتجه أكثر عناية مؤرخينا القدماء إلى تعيين وفاة من يؤرخون وقد يقدرون عمره يوم وفاته أحيانا ولكن ذلك نادر، أما يوم ميلاده فاقل ما يأبهون له أو يتحرون صدقه. وانك لواجد كتاب وفيات الأعيان وفوات الوفيات ولكنك لا تجد كتاب ميلادهم غالبا. ومع هذا فإن الاختلاف على سني الوفاة عظيم جدا قد يبلغ الخطأ فيه أحيانا نصف قرن، ووفاة أبي المظفر الأبيوردي مثال لهذا الاختلاف بينهم، فبن خلكان ومن نقل عنه يعينون سنة وفاته في عام557 هـ. وياقوت ومن روى عنه يعينونها في عام507 هـ. ولقد قرأت كل من ترجم للأبيوردي من قدماء ومحدثين مما عثرت عليه مخطوطا ومطبوعا، فلم الق واحدا تنبه لهذا الاختلاف بله أن يبحثه ويحققه مع طول المسافة بين التاريخين وإنفساح مجال البحث فيهما، فدائرة معارف البستاني وشارح الديوان والزركلي الشاعر في أعلامه من المحدثين يتبعون رأي ابن خلكان ولعلهم نقلوا عنه ساهين سهوت العلماء، ودائرة المعارف الإسلامية تؤكد رأي ياقوت فأيهما الصحيح يا ترى؟ أو أيهما اقرب إلى الصحة أن شئنا التوفيق؟!
إن في تحليل الوقائع التاريخية شفاء من هذا الكسل العقلي، ولنقرا ديوان الشاعر نفسه ونتجه إلى من مدحهم أو اتصل بهم، فإن تجاوز أحدهم نصف القرن السادس، فالابيوردي زميله.
واكثر قصائد شاعرنا في المقتدى (توفى عام 487هـ) والمستظهر (توفى عام 521هـ) ونظام الملك (قتل عام 486هـ) وعميد الدولة (قتل عام 493هـ) وسيف الدولة صدقة بن دبيس (قتل عام 501هـ) وشيرويه (توفى عام509 هـ). . فهؤلاء جميعا ماتوا حول أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس مما يؤكد رأي ياقوت أن وفاة شاعرنا كانت سنة 507هـ إذ كانوا كلهم معاصريه.
ولو قبلنا رأي ابن خلكان لأضعفه الحساب التالي: نفترض أن الأبيوردي اتصل بالمقتدى - وهو أول خليفة اتصل به الشاعر - وعمره لم يتجاوز الثلاثين، فيكون عمره يوم وفاته نحو مئة عام، والمسافة بين رأيي ياقوت وابن خلكان نصف قرن بالضبط فكيف أنفقها الشاعر؟ وبمن اتصل مادحا أو مصاحبا؟! ونحن لا نجد لذلك أثرا في ديوانه وكله بين أيدينا، اتفق عليه كل من أرخه بأنه هو نفسه نسقه ونظمه بيده وقسمه إلى فصول ثلاثة سماها: النجديات والوجديات والعراقيات،. نعم لا نجد إلا قصيدة واحدة رثى بها الملك أحمد معز الدين المتوفى عام 552هـ فيكون عمره يوم نظمها - على الحساب المتقدم - خمسا وتسعين سنة. ولو رجعنا إلى القصيدة، لوجدنا فيها روح شاب متفلسف لا روح شيخ هرم وضع قدميه على حافة القبر. فنحن هنا بين أمرين: إما أن نقول بان القصيدة مدسوسة عليه - وهذا رأي يبرزه النقد - وإما أنها له لكنها قيلت في إنسان أخر اسمه أحمد عاصره الشاعر. ونحن إلى الرأي الثاني أميل، لأن روح الأبيوردي ترفرف عليها في كل مقطع (ولعله أحمد بن مروان صاحب الموصل المتوفى عام 453هـ بعد أن حكم إحدى وخمسين سنة وكان كعبة شعراء زمانه).
هذا وان من أوائل من نوه بالشاعر تاج الإسلام ابن السمعاني المتوفى عام 562هـ، وهو ينقل عن شيرويه المتوفى عام 509هـ. فلو قبلنا رأي ابن خلكان لكان معناه أن شيرويه حدد وفاة الأبيوردي قبل سبع وأربعين سنة، وهل يعقل أن يحدد من سبق نهاية من لحق؟ ولقد كان السمعاني ثقة لا شك فيه ونعتقد أن ابن خلكان لم يخطئ وإنما جاء الغلط إلى كتابه عن طريق النساخ والكتبة الذين شغلوا من رسالتنا هذه صفحات لتحقيق صفر كوروه فكبروه فرقم كخمسة في العدد!!
ويؤكد هذا الرأي الأبيوردي تسلم خزنة الكتب في المدرسة النظامية بعد الاسفرائيني المتوفى عام 498هـ، وهذا المنصب لم يكن يتولاه إلا ذو مكانة علمية كبيرة وللسن قيمتها فيه، ولا نعتقد أن الأبيوردي وصل إليه إلا بعد أن اجتاز مرحلة واسعة من عمره تسلح فيها بعلم وفير وظهرت مؤلفاته ونبهت شهرته وانتشر شعره.
إذا تأكد لدينا هذا، وعرفنا أن الأبيوردي توفى عام 507هـ ففي أي سنة ولد يا ترى؟ وكم كانت سنه يوم وفاته؟ هذا ما لم يذكره أحد فلنرجع إلى ديوانه، ولن نطوف فيه كثيرا حتى
نقع على قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدولة المتوفى عام501 هـ وبصور له فيها ألمه لبياض شعره إذ ألم الشيب برأسه قبل بلوغه الأربعين فيقول:
اقبل بلوغ الأربعين تسومني
…
صروف الليالي أن أشيب واهرما
ونحن نعلم أن سيف الدولة ولي الإمارة مدة اثنتين وعشرين سنة، فلو فرضنا انه مدحه سنة توليه الملك أي عام 479هـ لكانت ولادة الأبيوردي عام 439هـ على ابعد تقدير.
غير أنا لا نلبث حتى نرى له قصيدة أخرى يشكر بها الوزير محمد بن منصور المتوفى عام456 هـ فيكون عمر الشاعر يوم نظمها - على حسابنا المتقدم - سبعة عشر عاما فقط وهذا غير معقول إذ لا يحتمل أن تكون شهرته في هذه السن المبكرة قد بلغت من الذيوع درجة تجمل شرف الدين منصور يترع تبرعا بجميل يسديه إليه التماسا لشعره وشكره كما يدعي في القصيدة فنسها إذ يقول:
تبرع بالمعروف حتى كأنه
…
يعد اقتناء المال إحدى المثالب
ونحن أميل إلى الظن انه ولد قبل هذه السنة، وما وصفه الشيب الذي حدث عنه سيف الدولة إلا حكاية ألم متقدم مزمن، وانه حين توفى عام 507هـ كان قد بلغ من العمر طولا مديدا ظهر أثره في شعره المحكم حين اتصاله بالمقتدي والمستظهر وسيف الدولة وكلهم عاصروه أواخر القرن الخامس.
ممدوح حقي
أبي.
. . .!
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
راحل! يا ضلالَ هذا الوجود
…
هو باق في خاطري ونشيدي
ومن الرحلة البعيدة لقيا
…
بين روحين فوق دنيا القيود
هامتا بعد فرقة الجسد الفاني
…
إلى غير فرقة أو شرود
تنثران الأشواق همساً ونجوى
…
وتعيشان في ادّكار العهود
السرار الخفي يسري بسمعي
…
سريان الحنين بين العود
يا أبي. . . شاهت الحياة بعيني
…
والجديد البهيج غير جديد!
الق لي الحكمة الكبيرة واملأ
…
مِسمعي من يقينها المنشود
قد عبرت الحياة من شاطئ دانِ
…
إلى شاطئ قريب بعيد
واجتليت الأسرارَ في حلَك الدنيا
…
بهاد من فطرة التوحيد
عشقت روحك الرياضة والسَّبْح
…
بواد لا ينتهي لحدود
أنت أطلقتها فهامت بسرّ
…
أدركته على رماد الشهيد
ما انطلاق الأرواح؟ ما هجعة الجسم؟ وقد قرَّ فوق هذا الصعيد
ما انطفاء الحياةِ حين ُتوّلى؟
…
ما حياة الأرواح فوق اللحود؟
ما اللقاء الكبير في الجدث الضيق؟
…
ما السر بين تلك السدود؟
ما ارتياد المجهول من سبل الغيب؟
…
أنمشي لغاية أم نودى
طالما قلتَ لي تحدثُ عنها
…
وتعيد الحديث للمستعيد
كاشفاً عن صفاءٍ حقائق الكون دقتَّ
…
وتابّت على اللجوج العنيد
ترسل القولةَ الصريحة لله
…
وما عن رضائه من محيد
صادراً عن صفاءِ نفس تسامت
…
وتعالت عن الهوى والحقود
عشقت عالم السماء وباعت
…
عالمَ الأرض بإرضاء الحميد
عشت لم تدخر سوى العمل الصالح
…
لله لا لجاه العبيد!
لهف نفسي، وقد ضمت وليدي
…
قائلا: ذاك طارفي وتليدي!
واثباً حوله تناغيه فرحان
…
فيهتز هِزَّة الأملود
وتغنيه في ضجيج وشدو
…
ناسياً عنده وقار الجدود!
من له بعد رحلة لك طالت
…
فيناديه صائحاً: يا حفيدي؟!
لكأني به يسائلني الآ - ن وتلك الدموع سؤل الوليد
حين يلقى بنظرة لي حيرى
…
ويجيل العينين بين الشهود
دافق الدمع في صراخ كئيب
…
ذقت منه مرارة التسهيد
يرسل النظرة الأسيفة ولهى
…
تتندّى في طرفه المكدود
موحش شافه حنوُّ عطوفٍ
…
ما جفاه في يقظة وهجود
حينما يشتكي تهده شكوا - هـ ليغفو في صدرك المجهود
فإذا نام كنت أحلى رؤاه
…
أي حلم يرف فيها سعيد؟!
جلَّ فيك العزاء يا والدي البر
…
وآه من يومك المشهود!
شئت أن ترتقي لربك في الفجر
…
مع النور هادياً في الصعود!
سمةُ المؤمنين، يسعى سناهم
…
بين أيديهم بدار الخلود
وُعَد المتقون جنة عدن
…
فتمتع بظلها الممدود
وانهل السَّلسَل النمير رحيقاً
…
شعشعوها في حوضها المورود
يا أخي والعزاء منك جميل
…
ما لجرح القصيد غير القصيد
مسحت ادمعي دموعك تنثا
…
ل عقوداً؛ اكرم بها من عقود
نثروها فوق الضريح وروداً
…
فتندى بدمع تلك الورود
يا بن أمي. . . .
للمرحوم أبي القاسم الشابي
خلقت طليقا كطيف النسيم
…
وحراً كنور الضحى في سماه
تغرد كالطير أين اندفعت
…
وتشدو بما شاء وحي الإله
وتمرح بين ورود الصباح
…
وتنعم بالنور أنى تراه
وتمشي كما شئت بين المروج
…
وتقطف ورد الربى أنى تراه
كذا صاغك الله يا ابن الوجود
…
وإلقتك في الكون هذي الحياء
فما لك ترضى بذل القيود
…
وتحنى لمن كبلوك الجباه
وتسكت في النفس صوت الحيا
…
ة القوى إذا ما تغنى صداه
وتطبق أجفانك الناعسا
…
ت عن الفجر والفجر عذب ضياه
وتفتح بالعيش بين الكهوف
…
فأين النشيد؟ وأين الأباة؟!
نمشي نشيد السماء الجميل؟
…
أترهب نور السما في فضاه؟!
لا انهض وسر في سبيل الحياة
…
فمن نام لم تنتظره الحياه
ولا تخشى مما وراء القلاع
…
فما ثم إلا الضحى في صباه
ولا ربيع الوجود النضير
…
يطرز بالورد ضافي رداه
ولا أريج زهور الصباح
…
ورف الأشعة بين المياه
ولا حمام المروج الأنيق
…
يغرد مندفعاً في غناه
إلى النور! فالنور عذب جميل
…
إلى النور! فالنور ظل الإله!
شفتاها. .!
للأستاذ أحمد أحمد العجمي
كلما قبَّلتُ فاها
…
أسكرتني شفتاها
وهما كأسان من صَهْ - باءَ لا أسلو هواها
صَبَّها باخوسُ في فيـ - ها وكوبيدُ احتساها
فغدا باخوس رباَ
…
وكيوبيد إلها
شفتاها غنُوَتا نج
…
وى لعشَّاق صباها
اسمعُ الأنغامَ بالأذ
…
ن وبالعين أراها
أي لحن ذلك اللح
…
ن الذي قبَّل فاها؟!
شفتاها منهل الأش
…
واق للصب المشوق
وشعاعان من الشم
…
س زهتْ وقتَ الشروق
وهما عاشقةٌ ما
…
لت على صدر عشيق
مَن رأي جمرة نارٍ
…
فوق قوسٍ من عقيق؟
أو رأي الورد زها واخ
…
ضلَّ في كأس رحيق؟
تنهلُ الأنظارُ منها
…
رِيَّها وهو صداها!
ويودُّ الثَّغر لو كا
…
ن محيَّاها شفاها!
فما ذاك الفم الور
…
ديُّ ريُ وعبير
شفتاه من صفاء النَّ
…
فس ورح وضمير
وهما من رقة الإح
…
ساس شعر وشعور
ومحياها هو الجن
…
ةُ والثغر سعير
وهي الحسناء من خفَ
…
تها كادت تطى!
أنا أهواها وتهوا
…
ني ولن أهوى سواها
شفَّها الوجد ولكن
…
شفتاها. . . شفتاها!!
قصة الذرة:
تلك الأشعة المحيرة!
للأستاذ فوزي الشتوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
المصادفة أيضا
وقضى اكتشاف أشعة اكس على أحدوثة القرن التاسع عشر من انه ختم الاكتشافات الطبيعية العظيمة ودفع العلماء والباحثين في شتى أنحاء الأرض لكشف مجاهل هذه الأشعة وموادها.
3 -
اكتشف أنطون هنري بكرل العالم الفرنسي أن اليورانيوم دائم الإشعاع فأجرى العالم انطون هنري بكرل في باريس مجموعة من التجارب أراد بها أن يعرف إن كانت المواد التي تضئ عند عرضها في الشمس تخرج أيضا أشعة اكس. ولحسن حظه وحظ العالم اختار أحد أملاح اليورانيوم فلف ورق التصوير حساسة في ورقة سوداء ووضع فوقها صليبا ثم عرض ملح اليورانيوم لضوء الشمس ثم وضعه فوق الصليب. فلما حمض الورق الحساس ظهرت عليه صورة الصليب.
وكأن المصادفة تأبى إلا أن تتحكم في كل كشف بالغ الأهمية. ففي أحد الأيام أراد أن يكرر تجربته، واعد الورقة الحساسة في لفتها السوداء وفوقها الصليب. وانتظر أن تبزغ الشمس ليعرض في ضوئها ملح اليورانيوم ولكن الغيوم تجمعت فحجبتها تماما فوضع الملح فوق الصليب، وحفظ الجميع في أحد أدراج مكتبه.
ومضت أسابيع فتذكر بكرل تجربته وعاد ليكررها. ولكن إحساسا غريبا دفعه لان يحمض الورقة الحساسة بغير أن يعرض اليورانيوم للشمس، فأصابته الدهشة التي أصابت رونتجن فإن صورة الصليب ظهرت فيها أيضا. وأدرك من فوره أن عرض اليورانيوم في أشعة الشمس ليس له من قيمة في إرسال ذلك الإشعاع الغريب وان ملح اليورانيوم مجهول يرسل باستمرار أشعة غريبة تشابه أشعة اكس.
المواد المشعة؟
وكان بيير كوري وزوجه ماري يعملان في معمل بكرل. وكان كلاهما مغرما بالأبحاث فلما أعلن بكرل كشفه في عام 1896 استأذنته مدام كوري في مواصلة البحث وكان هدفها أن تعرف أن كانت هناك أملاح أخرى غير ملح اليورانيوم ترسل هذا الإشعاع الغريب فوجدت ملحا واحدا أخر هو ملح الثوريوم يرسل مثل هذا الإشعاع.
ولكنها اكتشفت أيضا أن خام اليورانيوم يرسل إشعاعا قوي أربع مرات من إشعاع ملحة الملح النقي. وكان معنى هذا أن خام اليورانيوم يحتوي على مادة غنية بإشعاعاتها العجيبة. وعزم بيير كوري على أن يتخلى عن إكمال بحثه ويعثر هو وزوجه على تلك المادة الفذة.
الراديوم
وتبرعت لهما الحكومة النمساوية بطن من اليورانيوم الخام. فأخذا يحللانه بكل حذر، ويستخلصان مواده مادة بعد أخرى. فكانت نتائج عملهما العثور على مادة تعطي (أشعة بكرل) وقد أطلقت عليها مدام كوري اسم (بولونيوم) تكريما لبلادها بولونيا. ولكنه لم يكن غنيا بالأشعة ليحقق أحلام البحث فواصلاه حتى كانت سنة 1898 فاستخلصا آل كوري من الطعن اقل من قمحة من مادة تشع مليونين ونصف مليون ضعف إشعاع مادة اليوارنيوم وسمياها (الراديوم).
4 -
في عام 1898 عرف آل كوري الراديوم كما عرفا الدرجات
وكانت ذات خواص أخاذة فتشع الحرارة. وتكهرب الجو حولها وتجعل كثيرا من المواد مضيئة إن قربت منها. كما كانت تقتل أنواع الميكروبات والأحياء الدقيقة. وأصيب العالم والعلماء بهزة عنيفة، ففي سنوات ثلاث فوجئ العالم بأكبر اكتشافات عرفها التاريخ، وأولها أشعة اكس عام 1895 ثم أشعة بكرل عام 1896. ثم الراديوم عام 1898.
ولكن الأيام لم تترك آل كوري ينعمون بنتائج بحثهم ففي أبريل عام 1903 دهمت سيارة بيير كوري وقتلته. وأسدلت الستار على حياة عالم وضع أساسا جديدا لأبحاث العلم الحديث. ففي جميع أطراف العالم وعلى أثر اكتشاف الراديوم بدأ العلماء يبحثون عن سبب الأشعة المجهولة، والنشاط الإشعاعي. وان يحصلوا على تفسير معقول للمواد الطبيعية ومنها هاتان الظاهرتان.
فوزي الشتوي
البريد الأدبي
إلى معالي دسوقي أباضة باشا:
(كان معاليه في الصدر ممن نالوا رضا المليك فانعم عليهم، وقد كان من نصيب معاليه الوشاح الأكبر من نيشان النيل)
يا سيدي، اقل من
…
كما أراك نِلْتَهُ!
ما زانك اليوم الوسا
…
مُ. . . إنما قد زنته
صدرك يوحي مجده
…
لكلّ ما حمَلْتَهُ
المجد بحر خضته
…
ومنهج سلكته
المجد معنى مبهم
…
وأنت قد أوضحته
بيت الأباظيين أف
…
ق قد رفعت سَمتْه
يألق بالنور من الأق
…
مار. . . . لكن زدته
أعزك البيت الكري
…
م قدر ما أعززته
فإن اكن جعلته
…
منك. . . فقل أنصفته!
من الفراش ذلك الشع
…
ر إليك يرسل
ما عاقني عن نظمه
…
أني بسقمي مثقل
خلا هواك. . كل شي
…
ء في النهى معطل
إن لم اقله. . . إنه
…
في خاطري يرتل
إن بك حب صادق
…
فالنظم شئ يسهل
يا سيدي. . أنت الذي
…
نحبه ونأمل!
فنل علاء دائماً
…
وأننا نسجل!
وابق وازدد علا
…
أنت بذاك امثل
العوضي الوكيل
إلى من يكتبون باللغة العربية:
من المعلوم أن رقم (100) يكتب (مائة) بزيادة الألف ويلفظ (مئة) وهذه قاعدة قديمة في
اللغة لجأ إليها الناس تحاشيا من الالتباس بين (مئة) و (منه) وذلك حين لم يكن للشكل والأعاجم وجود. قال ابن قتيبة (و (مائة) زادوا فيها ألفا ليفصلوا بينها وبين (منه) إلا ترى انك تقول: (أخذت مائة) و (أخذت منه)؟ فلو لم تكن الألف لالتبس على قارئ).
أما ألان فنحن نستعمل الشكل والإعجام ولم يبق ما يدعو إلى الالتباس في القراءة بين الكلمتين المذكورتين أنفا أو غيرهما أو لم يبق ما يدعونا إلى أن نكتب (مائة) بزيادة الألف.
وبديهي انه إذا زالت العلة زال المعلول.
ولست أسوق كلمتي هذه عبثا، فإن كثيرا ممن يحسنون قراءة اللغة العربية يغلطون في هذه الكلمة فإذا رأوا (مائة) لفظوها (مائة) حسابين أن الألف اصلية، وربما توهم السامع فظنها (ماءة) أي ماء، وهنا نكون تجاه التباس أخر ناشئ من غلط فظيع حتى أن جماعة من مذيعي الإذاعات العربية يقعون في هذه الغلطة ولا شك في أن ملايين من المستمعين يتعلمون ذلك واذكر أني كنت يوما مع أستاذ جليل في بيته نستمع إلى المذياع فوقع المذيع في هذه الغلطة؛ فتأوه الأستاذ وقال:(لقد فسدت لغتنا فإنا لله وأنا إليه راجعون)
وأخيرا: اقترح على كل من يكتب باللغة العربية أن يكتب (مئة) ويلفظ (مئة) جاريا على القول الذي قدمناه: (وإذا زالت العلة زال المعلول).
(بغداد)
صبحي البصام
من خماسيات الأميري:
من الذين يزورون القاهرة في هذا الشتاء الأستاذ عمر بهاء الأميري، وهو من شعراء حلب المجيدين، ومحاميها النابهين. وقد اعتاد أن يجالس الأستاذ كامل كيلاني رجلا استثقله في فندق (الكونتنتال) فمر به ذات ليلة فوجد في مجلسه ثقيلا فجرى لسانه بهذه الأبيات يقابل فيها بين ظرف صديقه وسماجة جليسه:
شتان بين مهفهف
…
غض الحواشي، كالفراشة
يصغي إليك، ووجهه
…
زانته أضواء البشاشة
وغليظ أوداج، إذا
…
لاطفته، أبدى انكماشه
فظ السكوت، وإن يناقش
…
قلت: ما أذرى نقاشه
هذا يضيع به الحشي
…
ش، وذاك يفدى بالحشاشة
البعثات الأزهرية إلى الخارج
إلى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر:
أنت يا مولاي أزهري نلت أرقى الشهادات الأزهرية، وهي (شهادة العالمية من الدرجة الأولى) ولكنك لم تقنع بهذا الزاد العربي الشرقي مع خصبه ودسامته، بل أردت أن تجمع بين علم الشرق الموروث وعلم الغرب المستحدث، فرحلت إلى فرنسا، وطلبت العلم في رحاب (السوربون) وأجدت الفرنسية، وكنت أستاذا في الجامعة الفؤادية سنوات وسنوات، وبذلك أدركت أكثر من سواك مبلغ الخير الذي يحصله الأزهري إذا ما جمع بين القديم والحديث، وقارن بين تراث العرب وتراث الغرب؛ فهل يكون عجيبا بعد هذا، أو غريبا أن نلجأ إليك هاتفين بك لتسارع بتنظيم البعثات العلمية الأزهرية إلى الخارج من شباب الأزهر المعمور الذين أتموا دراستهم في الكليات الأزهرية، وعندهم استعداد وقدرة على الارتحال ومواصلة الطلب أكثر من الطاعنين في السن المقتربين من هدوء الشيخوخة والهرم؟!.
لقد سارعت الجامعات المصرية، والوزارات والهيئات في مصر فكتبت كتائبها وحشدت جموعها، وأوفدت بعثاتها إلى الخارج، عقب الحرب مباشرة مع أن هذه الجامعات والوزارات تجد من أبنائها القدامى والمحدثين من ينوبون عن هذه البعثات أو يحلون محل أفرادها. . . .
أما الأزهر الشريف الذي يحتاج إلى البعثات أكثر من غيره فلم نر من أبنائه فردا واحدا يرسل إلى الخارج في بعثة من البعثات!
أن الأزهريين في أمس الحاجة إلى دراسة اللغات الأجنبية، وإلى الوقوف على شبه المستشرقين والملحدين ليدافعوا عن دينهم وإلى معرفة الحياة الاجتماعية والثقافية عند الغربيين، ليستفيدوا منها في بناء مجتمعهم الإسلامي الجديد! فمتى يتمكنون من تحقيق هذه الأهداف!!. . .
لقد تشرفت يا مولاي الأستاذ الأكبر بالحديث أمام فضيلتكم منذ حين عن موضوع البعثات، وتفضلتم بتقدير هذه اللهجة التي تهدف إلى الخير العام، وتتحدث عن الرغبات الإصلاحية الشاملة، واعتذرتم بان العام الدراسي قد انتصف أو كاد ينتهي، ولا يمكن أيفاد أحد من المبعوثين الأزهريين في هذا العام، ووعدتم بتنفيذ هذه الرغبة في بداءة العام القادم؛ ولكنا نخشى يا مولاي أن تشغلنا الأيام القادمة بشواغلها فلتستخر ربك ولتصدر أمرك بتنظيم لجنة تنظر من الآن في تنظيم البعثات حتى إذا ما بدا العام الجديد أو اقبل كانت الكتائب مجهزة، والبعوث مهياة، والله يسدد خطاك ويديم عليك هداك، ويحقق بك الآمال
أحمد الشرباصي
المدرس بالأزهر الشريف
ابن حكينا:
في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد): الحسن بن أحمد بن حكينا الشاعر المشهور، قال العماد الكاتب: اجمع أهل بغداد على انه لم يرزق أحد من الشعراء لطافة طبعه. وقيده في تاج العروس بكسرتين مشدد الكاف (في حكن)، ومع شهرته وقع في (فوات الوفيات) و (دائرة معارف البستاني) و (الأعلام للأستاذ الزركلي) مصحفا إلى (جكينا) بجيم مفتوحة وكاف مكسورة.
عبد القادر محمد
الكتب
الملك. . .
ديوان شعر للأستاذ محمود حسن إسماعيل
للأستاذ زكي طليمات
في عنوان هذه الديوان كفاء للدلالة على ما تضمنه ولن أجد ابلغ ما أقدم به مقالي عنه غير هذه العبارة التي اقتطعها من إهداء الشاعر شعره إلى سيد الكنانة وأمير البلاد.
(هذا هتاف الفن لأنوارك الجديدة في كل آفاق الحياة، سكبته من دمي غناء يفيض للدنيا بحبك، وينبض في جوانح الزمن بآيات وطنيتك)
وفي الحق انه لهتاف يشق أجواز السماء، أرسله الشاعر في تواجد الصوفي وفي نشوة الفتى الشابل، فإذا الهتاف تارة تمتمات وتسبيح وترانيم تشع منها أضواء الروح، وتارة أخرى إرنانات مدوية تشهر في الفضاء شهر السيوف تحي مقدم للبطل وتشيد يفاخر البطولة، وترفع رفع أعلام الأعياد ومشاعل الزينات.
ومباعث هذا الشعر مآثر (الفاروق) حفظة الله، وقد فاضت به يداه في مناسبات فكانت أمن الخائفين والمروعين، وأفراح المحزونين والمكروبين، وبشائر الخير والفرج للمحرومين والصابرين مآثر سجلها الشعر الموفق الآثر، فإذا هي دستور للبر والإحسان، في زمن قل فيه البر والإحسان، فهبت النظم الاجتماعية تفرض على الغني أن يشاركه الفقير في ماله وتقضي على المتخومين ذهبا وفضة بان يخففوا مما ثقلت به بطونهم بان يبذلوا مما بين أيديهم. ثم يشرق الشاعر إشراقة أخرى فإذا بالشعر بين يديه يحكى قوله الحق في (الفاروق)، قولة تتلخص. . في انه ملك بنفسه وبشعبه وليس ملكه لنفسه وبدون شعبه.
كرم الباعث الذي فجر الشعر عيونا ونبل، كما طاب قول الشاعر ونبه.
ولكل قصيدة في هذا الديوان مناسبتها وفي كل مناسبة تسجيل لمأثرة فاروقية هذا والقصيد يجرى على غرار ما هو مألوف في شعر المدائح والمناسبات، فهو عرض لمآثر من سيق الشعر في ركابه، ثم تنويه بفعل هذه المآثر في كشف الغمة وزوال الكروب، ثم رسم لأصداء هذه المآثر في نفوس متلقيها. . .
ولو قصر شعر (محمود حسن إسماعيل) عل هذا فحسب، ولم يتجاوزه إلى ما هو اعرق في الشاعرية، لقصر كلامنا على التنويه بشعر شاعر دفعه إخلاصه لمليك البلاد إلى أن يصدر ديوانا يحمل اسمه الكريم فالمدائح وشعر المناسبات يتسم أكثره بفيض في المبالغة والاجتلاب وبوشي محمل بالتزاويق البيانية، هذا والأدب العربي، قديمه وحديثه، ينوء بأحمال ثقيلة منه، وما كان ليؤبه بهذا اللون من الشعر لو لم ينسب منه عرق رفيع يعتبر تحق من جيد الشعر مبنى ومعنى، إذ يحمل طالع الصدق والاعتدال في التعبير، ويلمع باشرا قات الحذق الفني في الصياغة والأسلوب، ويتسم بالاتزان إذ فيه يعوض الشاعر عن شطحاته وهو يزف آيات المديح، غوص على المعاني وتوفيق في استخراج طريفها ولطيفها، ويتجاوز استيحاؤه صفات الممدوح إلى الاستلهام من القيم الإنسانية العامة، فتكون للشاعر التفاتات تجئ من غير افتعال وكأنها هجس الخاطر، فتشد إلى القصيد صورا أخرى كم من الحياة لا تلبث أن تزوده بجديد من المعاني فيتسع أفق الشاعر فيما يقول وتعظم متعة القارئ أو المستمع له وكأن الشاعرية الدافقة في نفس الشاعر لا يكفيها محور واحد تدور عليه، فهي تتجاوزه قادرة إلى سواه من غير أن تجعل العرض يطغى على الجوهر، وبدون أن تنفصم عرى التلاحم بين المعاني الأصيلة والواردة عليها.
والمتأمل شعر (محمود حسن إسماعيل) في هذا الديوان، لا يعدم موطنا يطالعه بهذا.
انظر إلى قصيدته (نور من الله)، فبعد مديح في الفاروق يبلغ ذروته في هذا البيت:
(مُمَلَّكٌ في شباب العمر تحسبه
…
لحكمة الرأي تحدوه القدسات)
إذ بك منقول على جناح خياله، وقد يمم شطر الأهرام في لفتة لطيفة، ليحيط بك في رحاب البطل (إبراهيم)، وأذ بالشاعر يقول:
أهرام خوف تهاب الجن ساحتها
…
كأنما هي الأقدار خيمات
مخيمات وأسرار السماء بها
…
كأنما هي الأفلاك جارات
وخيل رمسيس ما زالت سنابكها
…
تلقى حديث الوغى عنها الفتوحات
والسيف في يد إبراهيم ما فتئت
…
للنصر ترعش حديه الخيالات
واد أشم العلى، مرت به حقب
…
أيامهن بكف الدهر رايات
واسمع الشاعر يقول في قصيدته (تشهد الفأس). . .
قل لسارينا مشوا فوق الثرى
بقلوب كخطاهم داميات. . .
ومشت أيامهن بين الورى
في ظلام البؤس حيرى حافيات
اسبغ التاج عليكم نوره
ورعاكم وحباكم بره
فاطرحوا الشكوى وان طال الثرى
أيقظ الله لكم جفن الحياة.
في عبير الحقل أو رمل الهجير
تشهد الفأس على آلامكم
الخ. . . ما ورد في هذه القصيدة. . . . .
هذا شعر يتفجر من القلب وليس مما يخرج من اللسان، من قلب رجل لابس حياة الفالح وشاهد حفاه وعريه، وصلى في محراب أحزانه وآلامه، واشترك في ضراعاته. وفي هذا الشعر ما ينبئ عن أن قائله إنما يصدر مخلصا عما يحسه، وليس عن هوى في زف الكلام الموزون الموشي، ومثل هذا الشعر ياسر القارئ وغريه بإعادة تلاوته، لا لجودة الحبكة في الصياغة ولا لطف التعبير ولكن لما يتمشى في جنبات الشعر من نفس حار يشع منه الصدق واليقين.
وفي الديوان ما يماثل هذا، ولكن في ألوان أخرى من المعاني والمناسبات، فلا عجب أن يجئ أكثر الشعر فيه، تارة زفرات وتنهدات، وأخرى ابتهالات وتمنيات، والشاعر في كل هذا فتى الريف، سليل حملة الفؤوس، وعروس شعره جنية من الريف لها خفر أهله، تطيف به وتهوم فوق رأسه في دلال المرأة اللعوب، أن اقبل عليها أدبرت، وان أغضى عنها أقبلت، كما وصفها الشاعر في قصيدته (تكلم أيها البحر).
ومحمود حسن إسماعيل قد عرفناه بهذا ولهذا في ديونه الأول (أغاني الكوخ) وهي قصائد يجري فيها الشعر جريان السيل الجارف، ويحمل من الريف غبار مساربه، وعبقة حقوله، كما يتنفس عن آلم الفلاح وسقم العامل، ويصف وصف المستبطن دخائل النفوس، من
طرحتهم عبودية الفقر والجهالة في كهوف النسيان.
ونرى أن الصلة بين ديوانه (أغاني الكوخ) وبين ديوانه الجديد (الملك) قائمة على احسن حال من حيث الباعث اللاشعوري لإطلاق شعره، بيد أن الشعر في الديوان الجديد يتسم بمسحة ظاهرة من الأناقة ولا أقول التأنق، لأنه يحني الرأس في ساحة المليك، فإذا الشاعر الذي عرفناه في (أغانيه) وغيرها يهدر هدر الأمواج الصاخبة وينطلق بيانه كالسيل العرم الذي يحمل من الأرض كل ما يعلوها يستحيل نهرا صافي الأديم، رقراق الماء ينساب منمقا حوافيه على إيقاع نسمات الأصيل. .
فإذا افتقدنا هي هذا الشعر الجديد الفورة المزبدة، فقد أعاضنا الشاعر عنها الهدءة المؤنسة الموحية، ولهذه كما لتلك، جمال ودلال، ومذاق ومتعة.
ولا عجب أن يبدو محمود حسن إسماعيل أنيقا منمقا في شعره هذا، فأي امرئ لا يصلح من هندامه ونفض عنه ما عسى أن يكون عالقا به ويأخذ بأسباب الأناقة والنظام ما دام يعرف انه سيمثل بين يدي مليك البلاد!!
وثمة ظاهرة جديرة بالتوضيح في هذا الديوان، فإن أبياتا من الشعر قد وردت وهي تأبى إلا تكشف عن معانيها إلا بعد ممانعة ومماطلة، فهي تلوح ولا تفصح، وتومئ ولا تبين. وقد يتوهم البعض أن هذا غموض أو أغراب من جانب الشاعر في سوق المعاني، وما هو كذلك، وإنما هو طبع في الشاعر يدفعه أحيانا - وقد يصدر في هذا عن وعي أو في غير وعي - إلى أيراد بعض من معانيه في صيغة (التركيب) أو الأجمال. فتكون مناوشة ومصاولة بين المعنى وذهن القارئ ذي النظر والتأمل، وتكون متعة ذهنية دونها كل متعة يحسها القارئ بعد أن يمانعه الشعر في الكشف عن كل مفاتنه عند النظر العجلي
وقد تكون إلى جانب هذا الطبع الغلاب، نزعة من جانب الشاعر إلى أيراد غير المطروق والمبذول من المعاني فيأخذ بأسباب التنقيب والتوليد، ويمعن فيهما إمعانا قد يحوطه شئ من التعقيد الذي ينشط التأمل، فإذا الخطوط التي تستوي فيها معانيه منكسرة وليست مستقيمة، وقد تلم بأكبر قسط من حيز المعنى كما يشغل الخط المنكسر أطول مسافة وهو منطلق من نقطة إلى أخرى تقابلها في حيز المرسوم، ولكن المعنى على هذه الحال قد يأتي على غرار لم يألفه من تعود أن يلم بالأشياء في كامل كيانها عند النظرة الأولى، وعلى نمط لا يروق
من داب على أن يأخذ الأشياء في يسر ومن غير كد وإنعام نظر.
في شعر (محمود حسن إسماعيل) ما يعطي طواعية ومن غير حساب وما لا يعطي إلا بعد مطالبة وممانعة وحساب، والناس أما هذا وذاك أذواق وإفهام.
زكي طليمات
مدير المعهد العالي لفن التمثيل العربي
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 1 -
كانت الساعة تدق السابعة صباحا، حين طرق الخادم باب المكتب ودخل قائلا لسيده فريد أن بباب المنزل قرويا يلح في طلب الدخول لأنه سيتحدث إليك في أمر على جانب كبير من الخطورة كما يقول، فبماذا تأمر؟
- قروي؟! ّ
_ نعم يا سيدي!
- يريد أن يتحدث إلى أنا أم إلى والدي؟
- لقد أخبرته أن سيدي الكبير خرج مبكرا إلى السوق، وهو ألان في متجره، وانك أنت الذي هنا، فقال: سيتحدث إليك.
- وهل أخبرك من هو؟
- لا، ولست اذكراني رايته قبل ألان.
- ما دام الأمر كما تذكر فأذن له. قال (فريد) هذا ثم اخذ يحرك يده في سرعة على الآلة الكاتبة لأنه كان يريد أن يتمم الرسائل التجارية الخارجية قبل الحادية عشر ثم يذهب ليساعد والده في المتجر لذلك لم يرفع رأسه ليرد على تحية الزائر إلا بعد أن اكمل السطر ثم قال: خيرا تريد أيها الفاضل! فتلفت الرجل يمنة ويسرة وكان قصيرا واسع الصدر، عريض المنكبين، يرتدي حلة واسعة من حلل الجيش، وقد ربط رأسه بمنديل احمر تدلى تحت ذقنه، وامسك بيده عصا عجراء، فوقعت عينه في جانب من جوانب الحجرة على
مكتب رصت فوقه أكداس مكدسة من الدفاتر والملفات التجارية، ورأى الكاتب قد انهمك في تقيلها واحدا واحدا، وقد امسك القلم بيده يثبت في ورقة أمامه ما يلزم منها؛ وانه لم يشعر بدخول القروي لانصرافه إلى ما بين يديه. ورأى أيضا الخادم الذي قاده ما زال ممسكا بمقبض الباب في انتظار أمر سيده ثم قال: أريد أن أقول لسيادتك كلمة على انفراد. فأومأ (فريد) إلى الخادم أن ينصرف والتفت إلى الكاتب وقال:
- (يا اكرم)! اعتقد انه ليس لديك ما يمنع أن تشرب القهوة في حجرة الاستقبال وان تأمر لنا بقهوتنا هنا، فغادرهما الكاتب صامتا. ثم أن فريدا ابتعد بكرسيه عن المكتب وجلس قريبا من الموقد وأذن للقروي أن يجلس بجواره، ثم اخرج علبة (التبغ) وقدمها للضيف فاعتذر بأنه لا يدخن فقال له فريد: وأية كلمة تلك التي تريد أن تتحدث ألي بها؟
- وهل أنت السيد عفت
- نعم أنا هو.
- اعذرني يا سيدي! فقد أزعجتك وأنت مشغول ولكني - أطال الله عمرك - أظطررت إلى ذلك لأني في مسيس الحاجة إلى صادق معونتكم، وحسن إرشادكم، لنصبح في وقت قصير ذوي مال وفير وجاه عريض
- وأي معونة تحتاج أليها منا. . .؟
- أنت - ولله المنة - في بسطة من العيش؛ فقد وهبك الله فوق ما يتمنى الإنسان من الغنى. وأنا - والحمد لله - لا أشكو ضيق العيش فحالتي المادية ليس بها من باس ولكن قل أن يقنع المرء.
دهش فريد من هذا الكلام وأراد أن يطلب إلى الضيف أن يختصر هذه المقدمة وان يأخذ في الموضوع الذي جاء من اجله، ولكن مهارة (بيرام) - وهكذا كان يسمى - في إلقاء الكلام حملته على أن يصغي إليه ليتم حديثه فقال: منذ أيام وأنا أواصل البحث في (اشقودراه) عن رجل جمع إلى شرف النفس، مضاء العزم، وأصالة الرأي، وغزارة المعرفة، وسل أمة التفكير، وأني اعتقد أني قد وصلت الآن إلى ما كنت ابغي فأني أقرا في صفحات وجهك آيات الحزم والوفاء وأني واجد - لا محالة - في قلبك حصنا للأسرار حصينا.
- هو ما تقول. ولك - أن شاء الله - ما تريد
- لست ادري يا سيدي من أين ولا كيف أبدا الكلام؟ فإن موضوع الحديث مستغرب وستشاركني في الدهش والحيرة عندما تسمع ولا أخالك إلا متعجبا وهنا أدنى فريد كرسيه من القروي حتى تلاصقا، فقد استهواه أن يقف على جلية الخبر بعد هذه التقدمة الشائقة وقد شرع (بيرم) يتكلم في موضوعه بعد أن تحرك في كرسيه فقال: لقد عثرت في الأدغال على أشياء كثيرة ذات قيمة عظيمة جدا وهي لا بد أن تكون غالية الثمن. فصوب إليه فريد نظره في هذه اللحظة ليستدل من ملامحه على نصيب حديثه من الصحة، فلم ير أمامه إلا وجها كساه جمال الرجولة، وبدت عليه سمات الجد، ومخايل الذكاء، وحب المغامرة. أما بيرام فقد استمر يقول: لا تيئس أيها السيد فإني أود أن ابسط لك الموضوع من بدايته كما حدث وأرجو أن نفسح لي صدرك وتلقى إلى بالك فانه من الخطورة بمكان.
لك ما تشاء وستجد منى صدرا رحبا.
- أني امتلك قطعة أرض قريبة من بيتي وقد نبت العشب والكلأ فيها بكثرة وبها كثير من الأحجار الصالحة للبناء ولما كنت على عزم تجديد البيت واستصلاح الأرض رأيت أن اجمع تلك الأحجار لانتفع بها ولأنظف الأرض منها لتصير صالحة للإنبات، ولم يكن يساعدني في ذلك غير والدتي وبينما نحن نعمل بجد وقعت فأسي على حجر كبير ودفعني حب الاستطلاع إلى إزالة ما عليه من الأتربة وإخلاء ما حواليه فدعوت والدتي لتعاونني في ذلك العمل ولتعينني على نقله وبد جهد ومشقة استطعنا أن نحركه من مكانه فإذا به غطاء لبئر عميقة يصل الإنسان إلى قاعها بواسطة سلم طويل قد نحت في الصخر، وكانت البئر حالكة الظلمة فأرسلت والدتي إلى البيت فأحضرت المصباح بسرعة!. . . أني عاجز يا سيدي عن أن أصور لك حالتي في تلك اللحظة وقد كنت اسمع والدي - عليه رحمة الله - دائما يقول: لو حفر إنسان هذه الأرض لثر على كنوز قيمة
جدا كان فريد يستمع إلى (بيرم) وهو مبهوت وكانت عيناه لا تبرحان النظر إلى شفتيه وهو يتكلم وحينما وصل من حديثه إلى هذا الحد سأله: هلا دخلت البئر؟
- وكيف لا يا سيدي؟ سأحدثك بكل شئ فلا تتعجل فانه لما عادت والدتي بالمصباح امسكنه بيدي ونزلت وكل همي أن اعرف عن المكان كل شئ: عددت درجات السلم فوجدتها
خمسين درجة، وبعدها انتهيت إلى حجرة واسعة تبلغ مساحتها ضعف مساحة هذه الحجرة ثم فرك (بيرم) عينيه وغير من نبرات صوته مما زاد في التأثير على فريد الذي كان بجواره جامدا كالتمثال، كله انتباه وإصغاء حتى لا يفوته من حديث القروي شئ، لذلك نراه يستعجله بقوله: وأخيرا ماذا رأيت؟
- رأيت يا سيدي أشياء غريبة جدا! لا ادري عن أيها أتكلم أولا: رأيت تماثيل لرجال من الأحجار ورأيت كثيرا من الأواني الكبيرة المصنوعة من الفخار التي يطلق الناس على الواحد منها اسم (الزير) ويبردون فيها مياه الشرب؛ هذه الأواني ملأا بتراب ثقيل لامع ورأيت كرسيا كبيرا من الذهب فاستعاد (فريد) في استغراب وفي صيغة سؤال عبارة بيرام الأخيرة: (كرسيا كبيرا من الذهب)؟ ثم مال بجسمه نحوه كأنه يريد ان يفصح أكثر من هذا وقال له: وماذا رأيت أيضا؟
- ماذا أقول لك يا سيدي؟ أن ذاكرتي لا تعي كل ما رأيت فأنها كثيرة جدا، وستراها بنفسك عندما تذهب معي!. . . هناك أسلحة كثيرة مزينة بالأحجار الكريمة. وهناك لوحات كبيرة من الرخام على الجدران نقشت عليها نقوش قديمة ثم سكت برهة كأنه يستذكر ما رآه وعاد يقول: فأنني أن أقول لسيدي أن في وسط الحجرة أن كرسيا طويلا جدا وهو دقيق الصنع جميل الشكل فاقع الاصفرار، وقد ثبتت في الأرض بمسامير وتتدلى فوقه من السقف سلسله طويلة من الذهب الخالص تنتهي بقنديل صغير الحجم اصفر اللون لم أرى قي حياتي اجمل منه. . . وفي ركن من الأركان مهد م الذهب تجلت فيه آية الفن القديم، وأبدعت فيه يد الصانع فكان تحفه نادرة المثال. هذا كل ما اذكره الآن يا سيدي من تلك الأشياء التي تخلب اللب وتبهر العين. ثم سكت ونظر إلى فريد إيذان بان حديثه قد انتهى وليعرف مدى تأثره بما سمع. وفي هذه اللحظة كان الخادم يدق الباب حامل أليهما القهوة فصاح فيه فريد بصوت الذي أستيقظ من نومه دون أن يتم حلمة الذيذ: لا نريد قهوة، فاخرج واتركنا وحيدين. ثم التفت إلى بيرام وقال له: هل أنت متأكد أن أحد غيري لم يطلع على هذا الموضوع
- قلت لسيدي أنني قضيت أكثر من سبعة أيام أفتش في (اشقودراه) عن رجل أستطيع أن اعتمد عليه. وأنا يا سيدي رجل ولدت ونشأة في الجبل ولم تمكني ظروفي من الاختلاف
إلى المدرسة ولذلك تنقصني الشجاعة لأقوم بمثل هذا العمل وحدي لجهلي بقيمته من ناحية، ولان حالتي المادية وحالتي الاجتماعية لا تساعدانني، ولخوفي من أن أحد يكتشف أمري فيرشد ولاة الأمر على من ناحية أخرى. وان القدر ساقني إليكم؛ فقد علمت من أهل الناحية أنكم - أنت ووالدك - أهل ثقة وكرم، ومروءة وشرف، فكن على ثقة يا سيدي من إنني لم أتحدث إلى أحد قبلك في هذا الشان وانه لا يعلم به الآن سوى ثلاثة: أنت، وأنا، ووالدتي.
انتصب فريد وافقا واخذ يذرع أرض الحجرة ذهابا وجيئة؛ فقد هجمت عليه جيوش جراره من الأفكار؛ ساوره أولا قليل من الشك لم يلبث أن تبدد وحل محله إيمان راسخ بكل ما قال بيرام حينما اقترب منه وألقى عليه نظرة جبارة لم يتأثر القروي منا، فاعتقد فريد إنما ما سمعه لم يكن حلما يزول بالاستيقاظ من النوم، ولا قصة اعمل الكاتب فيها خياله، ولا أكذوبة لفقها بيرم؛ فإن سذاجته وعدم تعلمه ومظهره العام وما يدل عليه من طيبة نفس، وسل أمة ضمير، ونقاء سريرة كل ذلك يباعد بينه وبين الكذب. لا شك أن هذه حقيقة واقعة وان الحظ قد ساقها ألي والحظ هو كل شئ في الدنيا. والآن نحن في حاجة إلى سرعة العمل، وحكمة الإرشاد وكتمان الخبر. ثم كف فريد عن المشي في الحجرة وتيار هذه الأفكار يدور في رأسه ونظر إلى القروي الذي كان يشم في اطمئنان عبير ورده كانت في يديه مما لا يجعل للشك اثر في نفس فريد، ولذلك قال له: أنت تعرف يا آخى أن مثل هذه الحكاية يجب إلا يطلع عليها أحد حتى لا يتسرب خبرها إلى أذن الحكومة فتتركك صفر اليدين لان الآثار ملك للدولة، وقد أحسنت صنعا بالمجيء إلى هنا فهذا عمل لا يستطيع امرؤ أن يقوم به وحده، أو هل تعتقد في نفسك القدرة على الاستفادة من هذه الكنوز من غير أن تستعين بأحد؟
- لو كان الأمر كذلك لما كلفت نفسي مشقة البحث عمن اطمئن إلى معونته.
- أؤكد لك - وأنا صادق - أن التوفيق قد حالفك حين اهتديت إلينا وإني أعاهدك عهد لا احنث فيه أن كل شئ نكسبه من هذه سنقسمه مناصفة وهذي يدي وعلى عهد الله وميثاقه وهو على كل ما نقول شهيد، فمد ليه بيرام يده وتعاقدا على ذلك، ثم اخذ فريد يقطع الحجرة ثانية ذهابا وإيابا تاركا العنان لأفكاره التي تضاربت وتعددت وتشعبت، فمن رحلات البلاد النائية، إلى مشروعات تجارية واسعة إلى تمرغ في أعطاف النعيم وتمتع بما لذ وطاب من
أنواع المتع، إلى إنشاء فنادق فاخره، وابتياع سيارات فخمة وعبث مع النساء وغيرها هذا وذاك مما يمليه الهوى وتسعف به النقود. ثم انه تذكر فجأة أن الوقت اثمن من يضيعه في مثل هذه الأفكار، ونما يجب العمل السريع الحاسم، فرجع إلى بيرام وجلس بجانبه. وقال له: قل ثانية ماذا رأيت في هذا الكهف العجيب؟ فاخذ القروي يعيد تعداد الأشياء التي سردها أنفا مسهبا في وصفها وفريد يستزيده ويستوضحه ويمطره توابل من الأسئلة فقد سأله ما عدد الأزيار؟
- أربعة عشر كل واحد منها أطول من قامتي
- وهل أدخلت يدك في أحدها؟
- لا! ولكني رأيت فيها تراب اصفر اللون
- وهل هو ذهب
- لا أستطيع أن أؤكد هذا
- وماذا في الكهف غير ما ذكرت؟
- فيه كل شئ!. . فيه تمثال لإنسان في ناحية منه وحجمه كبير جدا وفي وسط التمثال باب من الحديد.
- وهلا فتحت ذلك الباب؟.
- في اليوم الأول اعتراني خوف شديد فلم افتحه وإنما فتحته بعد يومين اثنين.
- وماذا رأيت؟
- رأيت أشياء لا يكاد العقل يتصورها، فالباب الحديدي الذي في وسط التمثال إنما هو باب حجرة تبلغ مساحتها مثل مساحة الأولى سبع مرات تقريبا. وهي مملوءة على سعتها بأعمدة من الرخام وتماثيل رجال من الأحجار وكراسي كثيرة صنعت من معادن مختلفة وكلها موضوعة في نظام دقيق غريب.
- وهل هذه المقاعد من الذهب؟
- لست ادري لآني لم اقترب منها.
- ولماذا لم تأت بقطعة منها (كعينة)؟
- نحن يا سيدي أناس جهلة! تصور أن والدتي ترتعد خوفا عندما تراني أهم بالدخول،
وهي لا تتركني ادخل إلا إذا أقسمت لها اغلظ الإيمان إنني لن أمس شيئا من الآثار بيدي. وهي تؤمن بالخرافات أيمانها بالله فتعتقد ان هذه الكنوز أمانات للموتى تحرسها الأرواح وان هذه الأرواح تنال بالأذى من تمتد يده إلى تلك الأمانات.
- هذا كلام فارغ! واعتقاد فاسد ووهم باطل. كم من الوقت تستغرق المسافة بين هنا وبين منزلكم؟
- تستغرق ساعتين أو ساعتين ونصفا على أكثر تقدير.
- أني أود أن أرى قطعة من هذه الآثار فما رأيك! أود أن أراها لأتحقق اذهب هي أم فضة أم ماذا؟ فرجائي أن تذهب ألان وتعود بقطعة منها.
- أمرك نافذ يا سيدي! ولكني أرى أن القيام بهذا العمل في النهار غير مناسب، وإنما يناسبه الليل؛ لأنه احفظ للأسرار ثم أني على ميعاد ولا بد من الذهاب إليه قبل العودة إلى المنزل.
- أنصحك بترك كل عمل أخر لنتفرغ لعملنا نحن؛ فإننا سنعيش منه مترفين ولن نحتاج لشيء ولا لأحد مدى الحياة.
- الحق ما تقول، وأنني لن اذهب إلى السوق لقضاء مصلحة وإنما لمقابلة صديق ينتظرني فسأله فريد في صوت الخائف الشاك ومن يكون ذلك الصديق؟
- رجل لا تعرفه. وساكون بعد غروب الشمس في بيتي، ومهما تأخرت فسأرجع إليك الليلة (بالعينة) موضوعة في غرار تين مملوءتين بالفحم.
- وأي شئ تأتى به من هذه الآثار؟
- سآتي - أن استطعت - بشيء من القنديل ومسامير المقعد الكبير وما يمكنني قطعه من المهد.
- لا! لا! لا تمس المهد بسوء ولكن ادخل يدك في قاع (زير) وات بشيء مما تحت الغبار وان لم تجد غير الغبار فيكفي أن تأتي ببغضه في منديل
- أنها يا سيدي مهمة شاقة؛ فأني كلما أردت الدخول بكت والدتي وملأت الدنيا صياحا ولكني سأفعل المستحيل لإرضائها، والقيام بما أمرتني به. . وهنا ادخل فريد يده في جيبه واخرج كيس نقوده واخذ منه جنيهين من الذهب ووضعهما في يد بيرام وقال له: خذ هذا
المبلغ الضئيل واشتر لوالدتك هدية وحاول أن تقنعها أنها أن تركتك حرا فستصبح بعد زمن يسيرا من أغنى الناس وان ما تدعيه من أن ما في الكهف أمانات تحرسها الأرواح إنما هو خرافة فاخذ بيرام المبلغ ووضعه في جيبه ثم استأذن في الخروج على أن يعود ثانية بعد الظهر.
فقال له فريد: سنتعشى هنا معا.
- لا! يا سيدي أشكرك.
لا! لا! لابد بعد عودتك من السوق أن نتناول العشاء معا ثم تخرج إلى بيتك.
- أمرك سيدي!
- سأنتظرك ولما هم بيرام بالخروج ناداه فريد وقال: هل تسمح أن تشرفني بمعرفة اسمك.؟ فأني نسيت.
- اسمي بيرام يا سيدي. . . . قال هذا ثم انصرف.
(يتبع)
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله