الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 662
- بتاريخ: 11 - 03 - 1946
جمال الدين الأفغاني
جهاده في سبيل الشورى والحرية
(بمناسبة ذكرى وفاته التاسعة والأربعين)
في اليوم التاسع من شهر مارس عام 1897 قضى السرطان في عاصمة الخلافة على الحكيم الثائر المصلح السيد محمد جمال الدين الأفغاني، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ومسح عن عيون الشرقيين ما فتَّرها من همود الكرى، وجلا عن قلوب المسلمين ما غشاها من صدأ الجهل، فاطمأن الاستبداد، وأمن الاستعمار، وظن الذين ينقضون أوطانهم ليقيموا عروشهم، والذين يزيفون أديانهم ليملئوا كروشهم، أن الصوت قد خفت، وان المشعل قد انطفأ؛ ولكنهم نسوا أن الرسل يبلغون والله يُثْبت، وأن المصلحين يبذُرون والدهر يُنبت، وأن جمال الدين إنما كان صيحة الحق وإشراقة الهدى انبعثتا من يومهما الموعود كما ينفجر المكظوم فيدوّي، ويحلو لك الليل فيُصبح. وهل كانت الثورات الديمقراطية التي شبها العرابيون ثم المهديون ثم الاتحاديون ثم السعديون ثم الهاشميون ثم الفهلويون إلا أقباساً من تلك الشعلة المباركة التي حملها الأفغاني وتنقل بها في ممالك الشرق، يحرق ويضىء، وينضج ويُحمى، وُيقبس ويشعل، وساعده مرفوعة لا تكل، وعزيمة لا تنكل؟
وسر القوة في هذا الرجل أنه كان صاحب رسالة لا طالب مُلك: هاجم السياسة الإنجليزية في (العروة الوثقى) أعنف الهجوم أيام الثورة المهدية، فدعي إلى لندن ليلوح له اللورد ساليسُبري بُملك السودان ليطفأ الثورة ويقترح الإصلاح. فما كان جواب الأفغاني إلا أن قال:(إن السودان لأهله. وهل تملكونه حتى تملكوني عليه؟!).
وأراده السلطان عبد الحميد على مشيخة الإسلام فأباها وقال: أن وظيفة العالم فيما يزاول من تعليم، وان رتبته فيما يحسن من علم.
أما كيف تهيأت نفسه لرسالة البعث والتجديد على فترة من رسل الهدى وأئمة الإصلاح فجَر فيها الحاكم وكفر المحكوم، فذلك من علم الله الذي يصطفي من يشاء كما يشاء لنصرة حقه وهداية خلقه. وكل ما نظنه معيناً على هذا التهيؤ أنه ولد في بيت كريم الأصل يجمع إلى جلالة النسب إلى الحسين، سؤددَ الإمارة على بعض الأقاليم الأفغانية؛ وانه درج في بيئة تعتز بطباع البداوة من حرية وحميَّة وأريحية وأنفة؛ وانه درس فيما بين الثالثة
والثامنة عشرة من عمره علوم الدين والدنيا، وفنون اللسان والعقل، على منهاج محيط شامل؛ وانه حذق في مراحل حياته ومواطن رحلاته اللغات العربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية، وألم بالإنجليزية والروسية، فاتصل منها بثقافة الشرق والغرب في القديم والحديث؛ وانه طوّف ما شاء الله أن يطوّف في أقطار الهند وإيران والحجاز ومصر وتركيا وإنكلترا وفرنسا وروسيا، فازداد بصرا بأحوال الدول وأخلاق الشعوب؛ وأن موقع أفغانستان بين الهند وإيران أمكنه من أن يرى ميادين الاستعمار المدل المذل تتواثب عليها قوى الإنجليز والروس ظاهرة وباطنه، فهاله منذ شب عدوان الأجنبي على استقلال أمته وجيرته.
كل أولئك الذي ذكرت من كرم المحتد، وشرف المولد، وبداوة البيئة، وعمق الثقافة، وحذق اللغات، وإدمان الرحلة، ومعاناة الاستبداد، ومكابدة الاستعمار، لم يخلق وحده الرجل المصلح في جمال الدين، وإنما كان مساعداً لسر العبقرية الذي اكنّه الله فيه على أن يظهر مهيأ الأسباب مستكمل الوسائل.
كان رضى الله عنه متواضع النفس لأنه عظيم، جريء الصدر لأنه حر، ندى الراحة لأنه زاهد، ذرب اللسان لأنه قرشي، أبى الضيم لأنه أمير، حاد الطبع لأنه مرهف، صريح القول لأنه رجل. ولم يبتغ من وراء هذه الصفات - كما قال - إلا سكينة القلب. وكان يحمد الله على أن آتاه من الشجاعة ما يعينه على أن يقول ما يتعقد ويفعل ما يقول. ومن تمازج هذه الشمائل وتلك الوسائل فيه اتسعت حوله الأرض، وامتد أمامه الافق، وانصرف همه البعيد عن الدار والزوجة والعشيرة إلى الوطن الإسلامي كله، والشرق الإنساني كله، فجعل قصده ووكده أن يدعو إلى إنهاضهما بالوحدة الإسلامية لتدفع غائلة المستعمر، وبالحكومة الدستورية لتقمع شرَّة المستبد.
وقد آمن بهذه الدعوة إيمانه بالله حتى رأى في سبيلها السجن رياضة والنفي سياحة والقتل شهادة!
وكان الذين يقفون من سيرة الأفغاني على الهامش يظنون انه قصَر جهده في تحقيق هذه العودة على الكتابة والخطابة؛ والواقع الذي لا شك فيه انه فكر ثم قدّر ثم دبّر، ولكن الوحدة كانت من الشتات بحيث لا تلتئم، والاستبداد كان من الثبات بحيث لا ينهزم.
تولى الوزارة وهو في ريق شبابه لأمير الأفغان محمد أعظم، فجمع نفسه على الاستقلال، وأدار أمره على الشورى، فأوجس الإنجليز خيفة من هذه النزعة، فأرسلوا ذهبهم إلى منافسه فأضرم الثورة وفرق الكلمة وطرد الأمير. وخرج السيد إلى الهند يبتغي السكينة عند تاجر صديق، فاستقبله الإنجليز على الحدود، وأنزلوه بالإكراه ضيفاً على الحكومة. فسألهم الإقامة شهرين، ولكنهم حين رأوا إقبال الناس عليه، وإصغاءهم الشديد إليه، قصَّروا هذه المدة وأمروه بالخروج. وكادت الأعصاب الهندية المخدّرة تثور حين قال لزعماء الهنود وهو راحل:
(وعزة الحق وسر العدل، لو أن ملايينكم مُسخت ذباباً لأخرجت الإنجليز بطنينها من الهند. ولو انقلبت سلاحف، وخاضت البحر إلى الجزر البريطانية لجذبتها إلى القاع)!
وفي الآستانة استقبله الصدر الأعظم استقبال التجلة، وأحله أعيان الدولة محل الكرامة. ثم عُين عضواً في مجلس المعارف، فرى في التعليم رأياً، وخطب في الصناعة خطبة، احفظا عليه أعوان الجهل من رجال العلم، وإخوان الضلال من شيوخ الدين. وتولى قيادة الإرجاف شيخ الإسلام لحاجة في نفسه، فافترى على الرجال الأباطيل، وبسّ حواليه النمائم، فلم يجد الأفغاني بدَّا من النزوح إلى القاهرة.
وهنا وجد الصدر الأرحب في رياض باشا، فتجلت عبقريته في التعليم والتنبيه والتوجيه؛ وأوقد بالزيت المقدس شعلته الوهاجة في البيت وفي القهوة، فعشا على ضوئها الهادي طلاب المعرفة وعشاق الحكمة من علماء وأدباء وساسة وقادة. ثم اتخذ من المحفل الماسوني الذي أنشأه، منارة لهذه الشعلة، فقسم الإخوان العاملين فيه شعباً لكل وزارة من وزارت الدولة شعبة. فشعبة الحربية تنظر في ظُلامة الضباط المصريين، وتنذر (ناظر الجهادية) أن ينصفهم من الضباط الجراكسة. وشعب الحقانية والمالية والأشغال تنذر وزراءها أن يساووا المصريين بغيرهم في العمل والمرتب. وراع أولى الأمر ما قرءوا في تقارير الُّشعب، وما سمعوا من لغط الموظفين، وما رأوا من قلق المثقفين، فاستدعاه الخديوي توفيق وفاوضه في ذلك، فقال له فيما قال:(إن سبيل الإصلاح أن يشترك الشعب في حكم البلاد عن طريق الشورى). ثم ازداد جمال الدين إمعاناً في حملته، وانقلب الأدب كله أصداء لأحاديثه وأبواقاً لدعوته، حتى انتهى الأمر - بعد جهاد ثماني سنوات - إلى أن
ضاق الإنجليز بسعة نفوذه، فزينوا للخديوي أن يخرجه من مصر فأخرجه.
وانتقلت الشعلة إلى باريس، وسطعت في العروة الوثقى، وظلّت ألسنتها ثمانية عشر شهراً تومض في جنبات الشرق كما تومض المنارة في ظلمات المحيط، حتى دلت على أوكار الطغيان ونمت بأسرار القرصنة، فاستقدمه شاه العجم واستوزره، فلما أشار عليه بالشورى أشاح بوجهه عنه. واستزاره قيصر الروس واستخبره، فلمّا نبأه بحديث الشورى نفر منه. واستدعاه خاقان الترك واستشاره، فلما نصح له بالشورى وتقسيم الإمبراطورية إلى عشر خديويات يتولاها أمراء عثمانيون، زوى عبد الحميد ما بين عينيه؛ ولكنه ألطف الجواب للحكيم الشجاع، وظل على إكرامه واحترامه أربع سنين حاول فيها أن يكبله بحبال المنصب والزواج فلم يستطع، ولكن الموت استطاع أن يكبل الثائر الحر ليبلغ الاستبداد اجله المقدور!
وهكذا كانت حياة جمال الدين كلُّها جهاداً مضنياً في سبيل الله والعلم والحرية والشورى.
كان أينما حل تنفس الصبح واستيقظ الهجود، وأينما رحل ارتجفت العروش واضطربت القيود!
طيب الله ذكرى هذا الإمام العظيم، واجزل له ثواب المصلحين المخلصين في جنات النعيم!
احمد حسن الزيات
آمال تذكيها صحائف مطوية:
المساجد الجامعة وأثرها في حياة المسلمين وتربيتهم الدينية
للأستاذ أحمد رمزي
كانت فكرة تربية المسجد تعاودني من وقت إلى آخر. وكانت حوادث الزمن تمر عليّ فلا اشعر بمرورها. لقد قضيتُ اسعد سنوات العمر وأزهرها مغتربا عن بلادي، مشرِّقاً حيناً ومغرِّباً أحياناً، وأطلقت العنان لنفسي أقرأ وأستمع وأبحث، وأدرس الحركات الشعبية وتأثيرها، واتصل بأصناف مختلفة من الناس، وألمس عن قرب تطور العالم وتمخضه بالحركات الفكرية الكبرى، ومع ذلك كانت تلازمني فكرة حمد الله صبحي عن تربية المسجد وأثرها في حياة المسلم.
وأجتهد أن أصل إلى تكييفها وفهمها لإيجاد طريقة أو منهج لتحقيقها. وكان أشد ما يقابلني من المصاعب، ويصدني عنها هو مناقضتها بمنطق ستند على أنها بعيدة عن الإسلام وأنها تقليد للمذاهب والأديان الأخرى، وفي ذلك هدم للفكرة وإخراج لها من حيز المقبول إلى حيز التحريم والإنكار.
ففي يوم من أيام إقامتي بسوريا ولبنان مدة هذه الحرب اتجهت نية بعض الإخوان إلى زيارة الحصون والقلاع التي تركتها الحروب الصليبية. فلما زرناها وقفنا مدهشين لأن ما نقش على الحجارة ينطق بفتحها على يد ملوك مصر أمثال بيبرس وقلاوون وابنه الأشرف خليل، فبدأت اشعر شعورًا جديداً، بعظمة مصر الإسلامية العربية وأثرها في العالم العربي، وحنقت على وزارة المعارف التي أهملت هذه الناحية فلم تلقني شيئاً عن تاريخ بلادي في معاهدها سوى أنها أنقصت من قدر ملوك الإسلام الذين تولوا الحكم فيها، فلم تكشف لي عن صفحة مجد واحدة تحبب إليَّ ذلك العصر المملوء بالفتوح والحروب والمعارك والانتصارات التي منّ الله بها على جند مصر العربية الإسلامية وملوكها، ومكنتهم من هذه الحصون التي وقفت تقارع الزمن حتى مهد الله فتحها على أيديهم بعد أن عجز غيرهم عنها، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
وكان أن أخذت نفسي بقراءة المراجع كما كبها المعاصرون لتلك الحوادث، فهداني الله إلى حقائق كانت مغلقة عليَّ، إذ عرفت أهمية المساجد الجامعة وأثرها في تاريخ المسلمين،
وكيف أسند ملوك الإسلام وظائف الإمامة والخطابة للقضاء وكبار العلماء من مشايخ الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وكيف ارصدوا الأوقاف والأموال والخيرات والنعم والوافرة على مساجد الله. فأين ذهب كل هذا؟
ولم نتلق شيئاً عن هذه المساجد وتاريخها ما يدفعنا لزيارتها والتحدث عنها كجزء متمم لتاريخنا وشخصيتنا ولكن هذا النقص تكفلت به كتب التاريخ والتراجم والأدب.
فقرأنا في صبح الأعشى الكثير عن الوظائف الدينية ودرجاتها وأهميتها، فمن ذلك صورة تقليدين لمشيخة الشيوخ أحدهما للخانقاه الصلاحية (سعيد السعدا) من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله العمري، والثاني لمشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس من إنشاء السيد الشريف شمس الدين، وكلاهما تحفة من تحف الأدب الديواني، ودليل على العناية والاهتمام بمراكز الدين وأهمية الإمامة والخطابة بالمساجد في صميم الدولة الإسلامية.
فبالله عليك ماذا يكون موقفنا لو أبقى الزمن على محفوظات ملوك الإسلام بمصر بأكملها؟ وإنه لشيء عظيم يدل على أن المساجد الكبرى مثل جامع عمرو وابن طولون والجامع الأزهر بعد ذلك وجامع الحاكم والسلطان حسن وجامع الملك الظاهر، وجامع القلعة، كان يتولاها أكبر علماء العصر. ولو شئنا أن نؤرخ لكل منها وان نصف ما مرَّ من العزّ عليها، لاحتجنا إلى كتاباً لكل منها.
إذا تقرر ذلك، فما الذي يمنع أن يرد اعتبار هذه المساجد إليها؟ فتسند وظائف الخطابة والإمامة إلى أكبر علماء الدين وأعلاهم قدراً، وأكثرهم غيرة على الدين، مثل فضيلة الأستاذ الأكبر، ومفتي الديار المصرية، وقاضي القضاة وهو اسم تاريخي ما اجمل وقعه لو أطلق على رئيس المحكمة العليا الشرعية، وإلى غيرهم من هيئة كبار العلماء وأساطين الشريعة السمحاء، وان يقلدوا هذه الوظائف بمراسيم عالية تصدر بالألقاب التي كانت تستعمل في العهود الإسلامية.
فجامع عمر بن العاص متى يتولى الإمامة فيه شيخ من فطاحل شيوخ الإسلام من ذوي المراكز العالية والمراتب الكبرى؟ فيضع بطاقته مفتخراً بأنه إمام جامع عمرو بن العاص قبل وظيفته الرسمية العالية، حينئذ يأتي الكبراء إليه ويزدحم المسجد العتيق بجماهير المصلين ليؤدي لهم بحق رسالة الإسلام.
أما جامع ابن طولون فمتى يعود لسابق عهده، فمتى تعلق ستائره وتفرش أرضيته بالأبسطة والطنافس ومتى تعود أيامه وتوقد القناديل فيه؟ إنهم يرونه أثراً من آثار الجاهلية الأولى كمعابد الكرنك وإدفو، وأراه دعامة من دعائم الإسلام في هذا البلد المسلم. إنه ينتظر عالماً كبيراً بمنزلة القاضي بكار، يرجْ بصوته الجهوري أركانه ويدعو فيه إلى ذكر الله ويعلم الناس في أروقته الكتاب والدين والتقوى. وإذا سألتني ومن يأتي إليه؟ أجبتك إن شخصية الإمام العامل العالم تكفل لك أن تنقل المسجد الجامع من معبد أثري إلى بيت من بيوت الله، حينئذ يؤمه الألوف لسماع ذلك النداء الخالص الذي يدعو إلى الرسالة المحمدية.
وإذا ذهبت إلى حيّ العباسية مخترقاً الظاهر قابلك الجامع الظاهري، مفخرة العمارة الإسلامية في العصور الوسطى. لو كان ملكا لشعب من أصغر شعوب الأرض لما قبل أن يتركه على هذه الحالة. بالله هل سمعتم ان كاتدرائية ريمس حينما هدمتها الحرب الأولى أو كاتدرائية وستنمستر حينما هدمتها الحرب الثانية، اتخذ الناس أرض الأولى متنزها والثانية مرتعاً؟ أما في مصر، فقد انفردنا بهذا الفتح إذ جعلنا الجامع الظاهري الذي بناه أعظم ملوك الإسلام متنزها في حي أشعر أنه بحاجة لمسجد جامع يؤمه الناس. إن أهل العباسية في مجيئهم من محطة باب الحديد إلى مساكنهم، ألا يشعرون بشيء من الخجل حينما يرون المعابد العالية التي يقوم بالإنفاق عليها أفراد من مختلف الطوائف، وأن مسجدهم العظيم يتخذ متنزهاً؟
حينما أعادت فرنسا كاتدرائية ريمس، توالت عليها التبرعات من جميع أنحاء الأرض، ولو رغبت وزارة الأوقاف في إعادة جامع الظاهر أظن أن الكثيرين من عشاق الفن الإسلامي لا يتأخرون عن مد يد المساعدة إليها وسيكون لنا عودة لهذا الجامع فنذكر ما مر به من حوادث الزمن.
(وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).
إن الطوائف الأخرى تقيم أعيادها واجتماعاتها في معابدها، ونحن معاشر المسلمين، في حاجة للرجوع إلى المساجد في هذه المناسبات، وليس في ذلك من حرج، لأن ذلك كان سنة من تقدمنا - ذكر ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات في تاريخه عن حوادث رمضان سنة 677 أنه بمناسبة مرور سنة على وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس
(عملت عدة أعزيه بمدرسة الإمام الشافعي رضي الله عنه وجامع أحمد بن طولون والجامع الظاهري بالحسينية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الصالحية النجمية ودار الحديث الكاملية بين القصرين والخانقاه الصلاحية برحبة باب العيد والجامع الحاكمي داخل القاهرة المحروسة وذكر الختمات التي قرأت والخيرات التي عملت وفي ذلك دليل على أن المآتم كانت تقام بالمساجد وكان الناس يجلسون للعزاء، وكانت تقام فيها صلاة الغائب وينادي بالنعي من المآذن.
فهل هناك ما يمنع من الأخذ مرة أخرى بتلك السنن، وان يجتمع الناس بالمساجد الجامعة في أحيائهم لذكرى المولد النبوي، وللاحتفال بأعيادهم؟ لا أجد نصاً واحداً يمنع الأخذ بذلك، بل قد رأيت طول القرون الماضية ما يؤكد المنزلة التي كانت للمساجد الجامعة في مصر وغيرها.
ذكر صاحب الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، حديثا طويلا عن الخطباء، الذين أمرهم السلطان الغوري أن يخطبوا بين يديه في أيام الجمع، يفهم منه الاهتمام الكبير الذي كانت توليه الدولة المصرية في عهدها الإسلامي العربي لشؤون الخطابة في المساجد الجامعة، ولذلك لا نختلف مع نظرية حمد الله صبحي بك في شيء بل إن الفكرة تستند على ماض طويل، وتحتاج أولا إلى من يحييها ثم من يجعلها ملائمة لتطور الزمن. ونقول بكل صراحة: إن مظاهر الضعف والتفكك والتدهور الأخلاقي البادية في صفوف المسلمين المعاصرين، ترجع إلى اعتكاف علماء الدين، وإلى اتخاذهم المكاتب والحجرات بدل المساجد، ولو نزلوا إلى الشعب الإسلامي كما نزل الرسول وأصحابه والتابعين وتابعوا التابعين، وتولوا الإمامة والخطابة بأنفسهم، لخلقوا حول المساجد هالة من التقديس والاحترام، ولأصبحت المساجد الجامعة في قاهرة المعز لدين الله، عامرة آهلة بألوف المصلين من عباد الله.
إن المساجد الجامعة بيوت الله، يجب أن يعمل علماء الدين على اجتذاب الناس إليها، وان يربى الطفل والطفلة والشاب والفتاة والنساء والرجال على المداومة على الذهاب إليها، وان يكون الإمام والخطيب رجل دعوة وإيمان وعلم وجرأة، عالماً بشؤون الدنيا بقدر علمه بشؤون الدين، أعظم صفة لديه (الابتكار) وأن يفيض قلبه بمحبة الشعب ودعوة الناس
وخدمتهم وإقالة عثرتهم، فيقول للحيارى تعالوا: هذا هو بيت الله وهذا هو دينه وهذه شريعته وهذه سيرة رسوله، (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم).
تمر الأيام سريعاً ويتطور العالم ويسير ويواجه أزمة وراء أزمة، فهل نعيش لنرى ذلك اليوم في مساجد الله؟ وهل سيسمع لنا نداء؟ أم سيخرج من صفوفنا نحن الذين لم نلبس العمامة من يقوم بهذا الغرض الاجتماعي ويدعو لهداية الله ويحمل الأمانة التي تخلى عنها رجال الدين؟
هذه أسئلة يجيب عنها المستقبل. . .
أحمد رمزي القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
الفتح الإسلامي
للأستاذ علي الطنطاوي
لما وثب الألمان تلك الوثبة، فطحنوا جيوشاً، ودّوخوا ممالك، وطمسوا في مصور أورّبة حدوداً ومحوا دولا، وأخذتهم العزة بالإثم والعدوان فقال فرعونهم: أنا ربكم الأعلى!. . .
وقام من بعدهم اليابان فقفزوا كالجنّ على جزر المحيط، وحازوا أطراف المشرق، وتمَّ ذلك في اللمحة الخاطفة كأنه حلم نائم أو كأنه سحر ساحر. . .
. . . أذاع مذيع (عربي. . .) من محطة لست اسّميها، يمجد هذا النصر، ويفرغ فيه كل ما يملأ رأس الضعيف من الإعجاب ببطولة القوىّ، وكان مما وسوس له به شيطانه أن قال:(هذا هو الفتح، لا فتوحاتنا التي لم نملَّ من الفخر بها وقد مضى عليها ألف وثلاثمائة سنة)!
وقالوا: رد عليه، وَضعْ في فمه حجراً. قلت: لا! إنه لم َيئنِ أوان الردّ عليه، فانتظروا، فأنها ستردّ عليه الأيام.
وها هي ذي الأيام قد قالت فأبلغت، وردّت فأفحمت، ولكن أين ذلك المذيع ليستمع ويفكر، فيرى فتوح هتلر كفتوح تيمورلنك، عاصفة عاتية مدمرة، تهب على الكون فتقتلع الأشجار، وتهدم البنى، وتدحرج الصخور، ثم تضعف العاصفة وتضمحل، ولا تدع وراءها إلا الموت والخراب والفوضى! وما أسهل الهدم، وما أهون القتل! إن كلباً عقوراً يقتل أعظم نابغة في الدنيا. وأكبر عالم في الأرض لا يستطيع أن يخلق ذبابة. والبناء الفخم الذي ينشئه مائة مهندس بارع، يهدمه اللص بقنبلة واحدة، أو يحرقه بعود كبريت. . . والسفينة المدرعة العظيمة التي يجتمع على إنشائها الآلاف، ويمضي العمر، يغرقها مجنون في ساعة. . . كذلك كان فتح تيمورلنك وهتلر. . . وأين اليوم هتلر وتيمور ومن كان بينهما من فاتحين وغزاة مظفرين؟ وأين من كان قبلهما؟ لقد طواهم الزمان، فلم يبقى منهم إلا قبور تحتها رفات رميم، أو صحائف فيها مجد ميت، وربما أغرقهم النسيان في لجته، فلم يمنحهم قبرا على الأرض، ولا ذكراً في التاريخ. . . وكذلك الفتوح التي تفخر بها الأمم، ويشغل بها الطلاب في المدارس، كلها فتوح قوة وتغلب، فإذا ضعف القوىّ، أو قوي الضعيف، عاد الغالب مغلوباً، والمغلوب غالبا.
أما (الفتح الإسلامي) فنسيج وحده في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به. إن هذا (المذيع) رأى جانباً واحداً منه، وخفيت عنه جوانب: رأى الظفر في المعارك والغلبة في الميادين، فقاسها على أشباهها ونظائرها، وتحكم فيها بما أوصله إليه عقله، وما دفعه إليه هواه. . . أما الجوانب التي لم يرها، فقد وصفها الإمام العبقري ابن تيمية بكلمة جامعة، لو كان إعجاز بعد القرآن، لقلت إنها من معجزات البيان، هي:(إن المسلمين الأولين لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام). إن في هذه الكلمة القصيرة سرَّ الفتح الإسلامي ومزاياه وعلة بقائه واستمراره، وهاك بعض البيان:
إنها لم تدر في الأرض رحى الحرب، لم يطأها جيش فاتح، إلا ابتغاء أرض يضمها الفاتح إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه، هذه هي غايات الحروب، وهذه مقاصد الفاتحين.
أما المسلمون فقد خرجوا يعلنون كلمة الله، وينشرون دينه، ويبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم، لا يريدون علواً في الأرض ولا استكباراً، ولا يبتغون دنيا ولا يريدون مالا. وهذه هي المزيه الأولى.
وكانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم ومعايشهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فكانوا يحملون إليهم مفتاح هذه السعادة، وهو القرآن، فإن كانوا عقلاء وقبلوا الهداية واستجابوا لها، وارتضوا هذه السعادة ورحبوا بها، كفُّوا عنهم فلم يقاتلوهم، ولو وإن لم يقبلوا وركبوا رؤوسهم عناداً، ولم يحبوا أن يجلبوا لأنفسهم النفع ويمنعوا عنها الضرر، عدّوهم كالأولاد القاصرين أو المعتوهين والمجانين، لابد لهم من وصيّ يقوم عليهم، ويصرّف شؤونهم فيما فيه صلاحهم، وفرضوا عليهم أجرة قليلة هي كأجرة الوصيّ الأمين، فإن دفعوها برضائهم قبلوا منهم، وان والوا عنادهم وأبوا إلا الإفساد في الأرض، وأذى أنفسهم وإخوانهم في الإنسانية، دعوهم إلى الحروب، لان الإسلام يرى البشر كلهم كراكبي السفينة إذا أراد أحدهم أن يخرق موضعه، كان عليهم أن يمنعوه ويكفوه ويضربوا على يده، لئلا يهلك نفسه ويهلكهم معه، فكأن الإسلام وصل منذ أربعة عشر قرناً، إلى ما تسعى إليه الآن ولا تدنو منه (هيئة الأمم المتحدة). وهذه هي الميزة الثانية.
وكانوا إذا حاربوا، حافظوا على شرفهم، وأقاموا على كرمهم، فكانوا أشرف محاربين
عرفهم ظهر هذه الكرة، لا يغدرون ولا يمثلون ولا يجهزون على جريح، ولا يحاربون امرأة، ولا يعرضون لعاجز، ولا يمسّون معبدا ولا يؤذون متعبداً، ولا يحرقون داراً، ولا يفسدون ماء، وإن هذه الخلائق في الحرب تعدُّ غريبة في هذا القرن، الذي يسمونه (قرن العشرين)، ويزعمون أنهم بلغوا فيه نهاية الارتقاء، وذروة المدنية، فكيف وقد جاءت في القرون (المظلمة!!) التي يسمونها القرون الوسطى؟! هذه الثالثة.
ولم يكن يلهيهم عن غايتهم مال، ولا يشغلهم جاه، ولا ينسيهم هذه الغاية خطر، فكانوا إذا اشتد الخطب، وادلهمت المعركة وعبست، يلجئون إلى الله الذي حاربوا من أجله، وقاتلوا في سبيله. هذا قتيبة بن مسلم الفاتح المظفر، يثب عليه كمين من الترك، ويقع بين حجري الرحى، فيقول: انظروا إلى محمد بن واسع ماذا يصنع؟ فيقولون: هو قاتم هناك يشير بإصبعه نحو السماء، فيشرق وجهه ويطمئن، ويقول: والله لهذه الإصبع أحب إلي من عشرة آلاف سيف يشهر، أقدموا على بركات الله.
وكانوا يعملون لله وحده، لا لجاه ولا لذكر. هذا بطل الدنيا وعبقري الحروب خالد، يعزله عمر فيقاتل جندياً كما كان يقاتل قائداً، لأن الله لا يجزي القواد وحدهم ولكنه يجزي كل عامل مخلص. وهذا رجل لا يعرفه أحد، يفعل الفعلة التي تكسبه مجد الدهر ثم يخفي اسمه ولا يعلنه ويقنع بثواب الله: يلقى المسلمون في معركة من المعارك شدة وكيدا من أحد أبطال العدو، فينادي قائدهم إن من قتل هذا الرجل فله ألف دينار، فلا يصبحون إلا ورأسه ملقى في خيمة القائد ولا يعرف من قتله، ويسألون فلا يجابون، فيقوم القائد فيقول: انشد بالله من فعل هذا، إذا كان يسمع كلامي إلا خرج إلىّ. فيخرج رجل لا يعرفونه، فيسأله: أأنت فعلت هذا؟ فيقول: نعم. فيقول: خذ الجائزة فيأبى، ويقول: إنما فعلت ذلك لله وحده. فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: وما لكم ولأسمي، أتريدون أن تنشروه في الناس، فتضيعوا عليّ ثوابي، وتفسدوا علي نفسي، دعوني.
ووقعوا - وهم المصحرون المعدمون، الذين كانوا يأكلون القد، ويتبلغون بالتمرة - وقعوا على كنوز كسرى، وإن الحبة الواحدة منها يأخذها الرجل تغنيه وتغني ولده من بعده، وما يراه إلا الله، فلم يغلًّوا منها شيئا وأدوها كاملة، لأن نّبيهم نهاهم عن الغلّ، ولأنهم إنما خرجوا لله، لا للمال ولا للكنوز! هذه الرابعة.
ثم إنهم إذا دخلوا بلدة لم يحملوا إليها الإسلام في محاضرات يلقونها، ونشرات يذيعونها، وكتب يطبعونها، فيكونوا هم الأساتذة أبداً، وأولئك كالتلاميذ، ويكونوا المتقدمين إلى كل خير، والمستأثرين بكل نفع، لا ولكنهم يدلون أهلها على منابع الإسلام، ويرشدونهم إلى الكتاب والسنة، ثم يتركونهم لينتقلوا هم بأنفسهم إلى الإسلام. فلم تمر برهة حتى سبقوا العرب وبزوهم، وكان منهم أُئمة الدين، وعلماء القرآن والحديث والفقه وعاد العرب الفاتحون وجلسوا بين أيديهم، وتتلمذوا عليهم، وأخذوا الدين عنهم. وهذه الخامسة.
ثم إن الفاتحين الأولين، لم يعلنوا عن الإسلام بألسنتهم ولم يدعوا إليه بأقوالهم، ولكن أروا الناس في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة من أحكام الإسلام، فحببوه بذلك إليهم ورغبوهم فيه، وها هم أولاء في حمص بعد أن فتحت لهم ودخلوها واخذوا الجزية من أهلها، يبلغهم أن الروم قد توجهوا إليهم، ويعرفون عجزهم عن مقابلتهم، وحماية أهل البلد الذين صاروا في ذمتهم ويعزمون على الخروج منها، فيدعون البطاركة والرؤساء، ويخبرونهم بعجزهم ويردون إليهم ما قبضوا منهم من مال الجزية كاملا فيبلغ العجب والإعجاب قرارات نفوسهم، ويقولون: والله ما رأينا مثل هذا من الروم وهم أهل ملتنا، وإن ديناً يأمر أصحابه بهذا لنعم الدين هو، ولأنتم أحب إلينا منهم، هذه السادسة.
ولم يَنْجلِ الفتح، عن غالبين ومغلوبين، ولا تزال تهيج بينهم الأحقاد، وتضرم نيران الثورات والحرب، كما هي الحال في كل فتح، وإنما انجلى عن أمة واحدة لها ربّ واحد، ونبي واحد وكتاب واحد، أمة مسلمة، فلا عرب ولا فرس ولا روم، ليس منهم من دعا إلى عصبيته، بعد أن تبت يدا أبي لهب العربي القرشي عم النبيّ، صلى الله عليه، وكرمت أيدي بلال الحبشي وصهيب الرومي وكان من أهل البيت الفارسي سلمان. هذه السابعة.
بهذا استقر (الفتح الإسلامي) وخلد، وبقيت هذه البلاد للإسلام إلى يوم القيامة، وإذا كان أحياناً حروب عصبية ومعارك على الملك، فإنما كانت لمخالفة قواعد الإسلام، والدعوة إلى العصبيات والقوميات، وجعل الخلافة ملكا، وتحويلها وراثية كسروية، ولو بقيت بكرية عمرية، لما كان خلاف ولا نزاع.
هذه هي الجوانب التي لم يشهدها ذلك (المذيع) ولم يعرفها، فحسب أن الفتح الإسلامي كفتوح هتلر، فتح غلبة وقهر. . . كلا إنما هو فتح هداية وإصلاح. على أننا كنا أقوى من
جند هتلر قلباً، وأعظم بطولة، وأعجب نصراً، فلقد حارب هتلر بعدّة ضخمة وعديد، وجيش مدرب شديد، ووسائل إلى التقتيل والتدمير يعجز عن تصورها إبليس، ثم غلب هتلر ووسائله وجيوشه، وقام العرب لفتح الدنيا أمام القرآن، وهم لا يملكون جيشاً مدرباً، ولا قائداً عسكرياً متعلماً، وما سلاحهم إلا سيوف ملفوفة بالخرق، ثم طحنوا بأيمانهم أعظم إمبراطورية في معركتين اثنتين، القادسية ونهاوند، وأزاحوا عن ظهر الأرض أثقل عرش، وخلصوا دنيا القرن السابع من جبروت كسرى وقيصر، ثم انتشروا في أرجاء الكون، من جنان الشام إلى سهول العراق ومصر، إلى صحارى أفريقية وتركستان، إلى جبال الألب والقفقاس، إلى جزر البحار إلى ثلج روسيا، إلى لظى الحبشة، لم يدعوا بقعة من الأرض إلا سكنوها وحكموا فيها باسم الله وبشرع محمد، وهم كانوا القابعين في رمال الجزيرة، يخشون تابعاً من أتباع قيصر في الشام، ويرجون تابعاً من أتباع كسرى في العراق، ويسمونه ملك العرب!
هذه هي مزية الفتح الإسلامي؛ فإذا كانت الفتوح عاصفة مدّمرة فهو الغيث الممرع، وأن كانت القتل والحراب والفوضى، فهو البناء والنظام. . . فيا أيها (المذيع) قد بطل فخرك بفتح هتلر، وقد ذهب هتلر وفتوحه مع أمس الدابر، ولم يعقب إلا الفساد في الأرض، وسيذهب كل فتح قام على القهر واعتمد على الظلم. . . . ويظلّ (الفتح الإسلامي) راسخاً رسوخ الأرض، باقياً بقاء الزمان، ولا يزال مفخرة لكل من قال أنا إنسان!
فيا أيها المنتصرون؛ هاتوا مثل هذا الفتح، أو فاسكتوا، لا تفتخروا!!
(دمشق)
علي الطنطاوي
الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .).
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
البيوريتانية كمذهب:
يتلخص مذهب البيوريتانز في العقيدة الدينية، في الأيمان بالقدر المحتوم، ويرون وجوب خشية الله أشد خشية في عمق وإخلاص، فالله وحده هو الحاكم، وهو وحده القادر ذو الجبروت والجلال؛ ويعتقدون أن معينهم الذي يجب أن يستقوا منه دينهم هو كلام الله كما ورد في الإنجيل، فلا وساطة للكنيسة البابوية بشرح أو تأويل؛ وهم ينفرون أشد النفور من الكنيسة البابوية لتحكمها في العقول وانغماسها في السياسة والحكم وأخذها بالبدع والضلالات، واعتمادها على الزخرف والبهرج الزائف من النقوش والصور والغناء والتماثيل وما إليها من مظاهر الوثنية؛ وبعد رجالها عن روح الدين ورسالته، وإقبالهم على الحياة الدنيا وزينتها، وانخداعهم بغرورها ومادتها، وجرى الأشراف على كنائسهم وفق نظام (كلفن)، فلا تكون الرياسة للقساوسة، وإنما تكون لفريق منهم يختار، ويشاركهم فريق من غير رجال الدين على نحو قريب من الديمقراطية بعيد كل البعد عن الاستبداد؛ ويتمسك البيوريتاني بأهداب الدين، ويحرص على العبادة، ويغلو في ذلك كل الغلو، فكل رب أسرة هو في الواقع قسيسها ومرشدها ومنفذ ما توجبه روح الدين فيها، وقاري الإنجيل ومفسره لأبنائها وبناتها. . .
أما في السياسة، فإن شعورهم القوي بان الله هو الحاكم الأعلى، وأنه القاهر فوق عباده، الملوك منهم وغير الملوك، جعلهم يستصغرون كل سلطة غير سلطته، ويرون الناس جميعاً بالقياس إلى الله سواء،؛ وينفرون من كل استبداد أو إرهاب في أية صورة من صورهما؛
وقوى هذه الروح عندهم شعور آخر هو تمسكهم بحرية الضمير في الفكر الديني بتخلصه من آراء الكنيسة، وعلى هذا فحرية الرأي في السياسة جزء من هذه الحرية الفكرية التي بثها مذهبهم في نفوسهم واستمدها من التحرر العقلي العام الذي هو وليد النهضة والإصلاح الديني، والذي هو مظهر من مظاهر شعور الفرد بشخصه وذاتيته بالنسبة للمجتمع كله. . .
وفي آداب المجتمع نرى لهؤلاء البيوريتانز مبادئ خلقية يتمسكون بها تمسكهم بدينهم ويغلون فيها غلوهم فيه، وعندهم إن الروح فوق الجسد، فتطهير الروح من مفاسد الحياة لا يكون إلا بقهر الجسد وفطامه عن الشهوات ومحاربة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولقد أسرفوا حتى كرهوا كل زينة وخافوا من كل متعة، وعدوا طيبات الحياة مبعث النزوات ووسائل الشيطان وحبائله. والبيوريتان صريح شجاع حر الرأي، إذ هو يميل إلى الطهر في كل شيء، ويميل إلى النزاهة في جميع صورها، ولذلك يطلب العدالة والحق قولا وعملا. وكما ان الأسرة البيوريتانية تأثرت بالدين نراها تأثرت كذلك بهذه المبادئ الخلقية، فرأس الأسرة حريص على أن يغرس هذه الصفات في أفرادها في صرامة وحزم، ولقد صبغ ذلك الأسرة البيوريتانية بصبغة خاصة في المجتمع الإنجليزي. . . .
وأثرت نزعتهم الدينية ومبادئهم الخلقية في نظرتهم إلى الفن والأدب، فمن حيث نزعتهم الدينية نجد انشغالهم بالدين وما يتصل به وتأثرهم بمذهبهم وتحمسهم له، يصرفانهم عن التفكير فيما سواه من معرفة أو أدب أو فن، مما يتصل بالحياة الدنيا ومسائلها؛ بل لقد كرهوا هذه الأشياء وخافوا مغبتها على عقيدتهم ومذهبهم ومالوا إلى حصر الأدب في أضيق نطاق له. وعندهم أن في الإنجيل غناء عن كل كتاب غيره، وحاربوا في شدة وعنف دراسة آداب الإغريق لما فيها من وثنية ومادية ورجس من عمل الشيطان. . . ومن حيث مبادئهم الخلقية نجدهم يحاربون الفنون في ضروب تعبيرها، لأنهم يعدونا لهواً ولعباً من غرور الحياة وفتنتها، فلا يقرون التمثيل، بل يرون فيه أنواعاً من الإغراء والفتنة تسوق إلى الفجور والضلال؛ وهم بالضرورة يمقتون الرقص ويعدونه فسوقاً وضلالاً بعيداً وحيوانية جامحة؛ وينظرون إلى الموسيقى نظرة أخف حدة من نظرتهم إلى المسرح والرقص، فإذا كانت للعبث واللهو والفتنة، فهي باطل وإثم، وإذا ذهب الناس إلى الكنيسة ليستمعوا إلى الموسيقى فحسب، وهم منصرفون عن العبادة بعيدون عن الخشوع، فوجب
إبطالها من الكنيسة. وكره البيوريتانز إلى جانب ذلك التصوير والنقش والحلي والزينة وما يتصل بالجمال، لأنهم يرون في ذلك مدعاة للترف وصلة قوية بالدنيا توبق الروح وتميت في القلب الورع والخشوع.
هذا هو الجانب السيئ من البيوريتانية، وأي شيء أسوأ من أن تكون حرباً على الأدب والفن والمعرفة إلا ما كان معرفة دينية تستمد من الإنجيل؟
ولم يقتصر الأمر على هذه العيوب الأساسية في البيوريتانية، بل إن المذهب نفسه قد تطرق إليه الفساد، شأن كل مذهب ينشأ قوياً صالحاً، ثم يجر إليه الغلو والجهل وسوء الغرض ما يبعد به كل البعد عن حقيقته حتى ليقلب كل حسنة من حسناته إلى سيئة وبيلة.
فأول ما دخل عليه من فساد هو التعصب، فقد انقلب التحمس للمذهب والغلو في الدفاع عنه تعصباً فيه الزراية بغيره، وإنكار كل حق إلا ما يراه أصحابه أنه الحق؛ وتبع ذلك التمسك بالشكل دون الجوهر في كثير من المواقف.
وتطرق إلى بعض النفوس النفاق، فأصحابها يظهرون في العلن التمسك بالمذهب، ويأتون في سر ما ينكره ذلك المذهب أشد الإنكار، وشاع الحمق والغضب وحدة الجدل وسرعة التخاصم والتنابذ بين فريق من البيوريتانز الغالين في مذهبهم وبين الناس، وأساء هؤلاء بلا ريب إلى أصحاب المذهب جميعاً، إذ يحسبهم الناس كلهم من هذا الطراز. . .
وظهر بعض البيوريتانز بمظهر الضعف العقلي لمجافاتهم المعرفة كما ظهرت في بعضهم الجلافة والغلظة لإنكارهم الفنون ونفورهم من الجمال.
إلا أنه لا يجوز أن نحكم على هذا المذهب بما تطرق إليه من فساد؛ ولئن كان فيه ذوو العقول الضيقة والمتعصبون والمنافقون، فلقد جاء إلى المجتمع بمبادئ سامية وبث في النفوس الحمية والأقدام وحبب إليها الحرية.
هذه هي البيوريتانية أو هذا هو الصيف الصارم العابس الذي يمثل عصر ملتن والذي أعقب ذلك الربيع الطلق الرخي الذي يمثل عصر شكسبير؛ وبين الربيع الراحل والصيف القادم ولد ملتن كما أسلفنا عام 1608، ولد والبيوريتانية تستقبل فتوتها، وسيستقبل كذلك فتوته ويبلغها إذ تبلغ البيوريتانية اشدها، فيكون شاعرها الفذ الذي تتمثل فيه روحها في أسمى أوضاعها وأجمل صورها، والذي يجتمع في فنه جمال الربيع الراحل وجد الصيف
القادم.
طفولة ملتن ونشأته
أنتصف الليل أو تجاوز المنتصف ولا يزال صبي جميل في الثانية عشرة من عمره جالساً إلى مكتبه في حجرته الخاصة به في بيت أبيه بلندن يفرك عينيه الواسعتين الجميلتين بيديه الصغيرتين، وقد أخذ النعاس يداعب جفنيه، وأخذ الكلال يغمض مقلتيه، والمصباح يكاد زيته ينفد، بعد ساعات طويلة لم يكد يحول فيها الصبي عن الكتب بصره، وذلك دأبه في أكثر لياليه. وجلست على مقربه من الصبي إحدى الخادمات وقد أمرها أبوه أن تظل بقربه حتى يأوي إلى مضجعه؛ وقد أوى أبوه إلى مضجعه منذ وقت غير قصير بعد أن عزف بعض ألحانه الجديدة والقديمة كما يفعل كل ليلة ما عدا ليلة الأحد؛ وإنها لتعجب من إقبال الصبي على كتبه واستغراقه في قراءته على صورة لم تشهد مثلها قبل في صبي مثله لم يتجاوز الثانية عشرة.
وماذا يقرأ الصبي في تلك السن؟ أيقرأ القصص الخرافية وحكايات الجن وأشباهها مما يقرأ أنداده في مثل سنه؟ لا فهو لا يحب هذا النوع من الكتب كثيراً كما يحبها الصبية من أقرانه؛ ومثل هذه الكتب لا تكون إلا للتسلية، ولن يكون من أجل التسلية هذا السهر الذي تكاد تعشى منه العينان.
كان الصبي يقرأ كتب الأدب وعلى الأخص الشعر، وكان يقرأ التاريخ على قدر ما تسمح سنه، ويدرس اللغات اللاتينية والعبرية واليونانية والطليانية. وفي ليالي الآحاد حين كانت تجتمع الأسرة حول الموقد، كان يستمع الصبي إلى ما يذكر أبوه عن آخر لحن له من ألحان الموسيقى، إذ كان يشغل الأب نفسه بالموسيقى كما كان يشغل الابن نفسه بالقراءة، وكان لأبيه في صوغ الألحان حس مرهف وذوق مهذب وإن لم يكن طويل الباع؛ كما كان له إلى قرض الشعر ميل، ولكنه سرعان ما انصرف عن الشعر إلى الموسيقى إذ أعيته معاناة قرضه من أول الأمر. . .
وانه ليعجب إذ يستعصي عليه الشعر، وهو يجده سهل الانقياد إلى ابنه منذ سن العاشرة! وها هو ذا ابنه الآن في الثانية عشرة يسمع أباه وأصحابه من نظمه ما يطربون له جميعاً وعلى الأخص أبوه؛ وكان ينظر إليه أبوه في تلك الليالي التي يخلوان فيها من الجد،
ويجلسان قرب الموقد نظرات ملؤها الإعجاب والمحبة؛ ويقول لمن حوله: لقد كنت أريد أن أجعل منه كلفن ثانياً بتوجيهه الوجهة الدينية وإلحاقه بالكنيسة، فإذا به ينفر من هذا ويأبى إلا أن يجعل من نفسه هوميروس آخر، ولست أحب أن أميل به إلى غير ما يريد ويهوى، ولئن فعلت ذلك فما آتى غير العبث، فليمض فيما هو فيه من شعر وأدب.
ويرهف الرجل أذنيه إلى ابنه إذ يتكلم أو يقرأ الشعر فتملأ نفسه الغبطة، فلهذا الغلام الجميل المحيا، فضلاً عن ذكائه ورشاقته، صوت حلو النبرات، موسيقى الجرس، وكأن مقاطع كلامه أسجاع مفصلة؛ وإن أذني أبيه لتحسان ذلك إحساساً صادقاً، فليس يلقى ذلك في روعه فرط محبته إياه، ولا هي أمنية يخالها حقيقة كما عسى أن يتوهم الآباء من صفات ينسبونها لأبنائهم وان لم يكن لهم منها شيء.
ولطالما ارهف الصبي أذنيه إلى الحان أبيه فطرب لها قلبه واستقرت نغماتها في أعماق نفسه؛ وإن أثر هذه الألحان ليبدو جلياً في أشعاره الأولى وهو بعد غلام، فأخص ما يميزها موسيقى حلوة تختلط بالنفس، حتى ألفاظه فإنك تحس في كل لفظ منها سحر الموسيقى، وتجده منذ أول شوط له قادراً على أن يختار اللفظ الذي يؤدي المعنى إلى الذهن ويطرب بوقعه وجرسه النفس.
كان أبوه مُوَثِّقاً وتلك هي حرفته التي اكتسب منها ماله، أما الموسيقى فكانت هوايته؛ وكان يكتب للناس الوثائق والعقود والظلامات وغيرها من ضروب الكتابة، وكان الموثق في تلك الأيام رجلاً عند الناس عالي المكانة ينظر إليه عامة الناس إلى عالم خبير، إذ لم يكن الأمر مجرد الكتابة، وإنما كان نوعاً من الكتابة يقتضي معرفة الصيغة الخاصة والعبارات التي جرى بها العرف، وذلك كله يطلب عند الموثق وله أجره على ما يكتب؛ وبقدر ما يتفق له من طالبي خبرته يكون كسبه؛ ولقد مهر الرجال في عمله وبات بحرفته ينعم برغد العيش.
واحترف الموثق حرفته في لندن؛ وقد جاءها منذ أن طرده أبوه من بيته؛ وكان أبوه يعيش على مقربة من أكسفورد، وكان مزارعاً من ملاك الأرض يتعصب للكاثوليكية تعصباً شديداً، فلم يعجبه من ابنه ميله إلى البروتستنتية وإقباله على البيوريتانية وعد ذلك منه مروقاً من دينه وعصياناً لأمره، ولما لم تجد معه حيلة طرده ساخطاً عليه. فلما جاء لندن اشتغل بالتوثيق فنبه فيه شأنه، وبنى له بيتاً تمتع فيه بهدوء الحياة ونعم بالطيبات من
الرزق.
وكانت لندن غداة شخص إليها في ربيع العصر الاليزابيثي؛ فلم تشغل الموثق جون ملتن حرفته عن الأدب والفن والعلم فأخذ من كل بطرف.
(يتبع)
الخفيف
أوهام آثارية
للأستاذ صلاح الدين المنجد
العادلية أم الأشرفية؟ سنان المهندس أم سنان باشا الوالي؟ -
النصب التذكارية - قصير عمرة، أهو حمام أم قصر؟ تاريخ
بناء مسجد نور الدين في الموصل.
1 -
العادلية أم الأشرفية:
ذكر العلامة الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام بك في مقاله المسمى (في عيد المعري) المنشور في هذه المجلة (العدد 600) ما نصه:
(واجتمعنا، نحن وجماعة من علماء الشام وأدبائها أعضاء المجمع، في دار المجمع، وهي المدرسة الأشرفية التي بناها الملك الأشرف الأيوبي. اهـ).
قلت: دار المجمع العلمي بدمشق، هي المدرسة العادلية، وهي غير الأشرفية. وتنسب إلى الملك العادل سيف الدين أخي صلاح الدين. كان نور الدين أول من بدأ بها، فمات ولم يتمها. ثم شرع الملك العادل سنة 612هـ ببنائها، ومات سنة 615هـ ولم يتمها. فأتمها من بعده أبنه الملك المعظم.
وقد ذكرتها أمهات الكتب كلها بأسم العادلية.
أما الأشرف الأيوبي، فلم يبن العادلية، وإنما بنى دار الحديث الأشرفية الجوانية. وهي (جوار باب القلعة الشرقي، غربي العصرونية) وما تزال قائمة. ودرس بها في أيامها أبن الصلاح وأبو شامة وغيرهما.
وبني الأشرف مدرسة ثانية هي دار الحديث الأشرفية البرانية وهي في السفح شرقي المرشدية، وغربي الأتابكية.
(وإن شئت التفصيل فانظر من المخطوطات: النعيمي في إرشاد الطالب، والعموي في مختصر النعيمي، وبدران في منادمة الأطلال، وبدران في مختصر المنادمة، وأبن طولون في تاريخ الصالحية، وأبن كدن في المروج السندسية. ومن المطبوعات: بالعربية: أبن كثير في البداية والنهاية ج13 ص68، وبالفرنسية المباني الأيوبية بدمشق لسوفاجه ج2
ص76، ومباني دمشق التاريخية للمؤلف نفسه ص62، وبالألمانية: وتزنجر وولزنجر ، 3 ، 5. يمكن مراجعة سوفير في المجلة الآسيوية: مايس وحزيران سنة 1894. الفصل الثالث ص423).
2 -
سنان المهندس أم سنان باشا الوالي؟
وذكر فضيلة الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في مقاله الممتع عن (دمشق) المنشور في العدد 658 من الرسالة الغراء، أن مسجد السنانية سمي نسبة إلى سنان المهندس التركي المعروف.
قلت: المعروف أنه ينسب إلى بانية سنان باشا، نائب الشام والوزير الأعظم. ولى الوزارة للسلطان مرادخان، ومات سنة (1004) هـ. وقد بدأ بعمارة مسجده هذا سنة 995هـ، وتمت عمارته سنة 999هـ.
أما سنان المهندس، فهو الذي وضع تخطيط التكية السليمانية التي قامت مكان القصر الأبلق الذي بناه الملك الظاهر بيبرس في المرج الأخضر.
(انظر للتفصيل: المنادمة لبدران، ومختصر المنادمة له، وذيل العلموي للعدوي، وكتاب الباشات والقضاة لأبن جمعة، وولزنجر ووتزنجر 5. 8، ومباني دمشق التاريخية لسوفاجه ص78، 84).
3 -
النصب التذكارية:
وذكر الدكتور زكي محمد حسن في مجلة الكتاب الزاهرة في مقال له عن قصور الأمويين انه لا يوجد نصب تذكارية لتخليد انتصارات العرب.
قلت: في دمشق، فوق ذروة من ذرى قاسيون، بناء مربع مفتوح الجوانب، فوقه قبة. كانت من متنزهات الصالحية، لإشرافها على الربوة، وعلى دمشق، اسمها قبة النصر، بناها نائب الشام برقوق الذي قاتل سوار بك فأخذه غدراً، ثم أقام هذه القبة سنة 877هـ ذكرى انتصاره، وقد ذكر هذا ابن طولون.
(انظر للتفصيل: تاريخ الصالحية لأبن طولون، المروج السندسية لأبن كنان، المباني التاريخية بدمشق ص15 لسوفاجه ولزنجر ووتزنجر ويمكن مراجعة:
4 -
قصير عمرة، أهو حمام أم قصر؟
وأدخل الدكتور زكي محمد حسن، في مقالة عن قصور الأمويين، المنوه به في الفقرة السابقة، أدخل قصير عمرة، وحمام الصرخ في عداد القصور.
أما حمام الصرخ، فأسمه حمام، ولا محل لدسه بين القصور، بقى قصير عمرة، فما هو؟
لقد أصر الدكتور على جعله أو سرده مع القصور لأمرين:
1 -
لأن علماء الآثار ساروا على ذلك.
2 -
لأن فيه، وفي حمام الصرخ قاعات استقبال (؟)
قلت: قول الدكتور لا يطمئن إليه، فالرجل ذو الفكر الناقد لا يجعل الحمام قصراً ولو قال ذلك أكبر العلماء الأجانب. لأن قولاً كهذا يجدر التروي فيه قبل نقله. فالدراسات الآثارية الحديثة أجمعت على جعل قصير عمرة حماماً لا قصراً، وان أمام هذا الحمام كان قصر فتهدم واختفت معالمه. (انظر مجلة المجمع العلمي بدمشق المجلد السابع عشر مايس حزيران سنة 942).
إن تخطيط قصير عمرة، وحمام الصرخ يدل على وجود غرفة كبيرة واسعة في كل منهما، وقد ظن بعضهم أنها غرفة إستقبال (!) ونقل الدكتور هذا الظن. أغرفه استقبال في حمام؟ أمر عجب. على كل أنا أشك فيما نقله الدكتور، وأشك أن تكون غرفة استقبال، ولن يجد الدكتور أي نص قديم صحيح يثبت ما ذهب إليه، ويؤيد أن خليفة استقبل الناس في حمام.
والأقرب للعقل أن تكون هذه الغرفة الواسعة للاستراحة بعد الاستحمام أو للهو واقتناص اللذة قبل الاستحمام، أو للأمرين معا، فالملوك لا يستقبلون في الحمامات.
إن وجود هذه الغرفة الواسعة في الحمام لا يجعل الحمام قصراً، فالحمام الأموي الذي كشف في جبل سيس في بادية دمشق، يشبه تخطيطه قصير عمرة والصرخ تماماً. وبرغم الغرفة الواسعة فيه لم يقل أحد إنه قصر ولا جعله في عداد القصور (انظر:
وفي دمشق حمام أسمه حمام السروجي، فيه غرفة واسعة تشبه تماماً غرفة قصير عمرة، وقد لاحظ هذا ايكوشار، ومع ذلك فلم يجعل أحد هذه الغرفة غرفة استقبال أو يجعل الحمام قصراً. وأنت واجد مثل هذا في أغلب حمامات دمشق (انظر:
على أن ما يؤيد ما ذهبنا إليه، من أن هذه القاعة الواسعة في قصير عمرة ليست للاستقبال، وجود مشاهد مثيرة على الحيطان، لا يمكن أن يضعها خليفة في قاعة يستقبل بها الناس. فمن هذه المشاهد: مشهد امرأة ذات قامة فارعة نصفها الأعلى عار رفعت يديها فوق رأسها المحاط بضفائرها، ومشهد آخر يمثل امرأة عارية تماماً يبدو جسمها كله وهي ترقص وتقوم بحركات تظهر فتنة جسمها. ومشهد ثالث يمثل امرأة مستلقية في سريرها، وضعت يدها على ذقنها وأخذت تنظر بيأس. ومشهد رابع يمثل امرأة عارية، يخفق ثوب شفاف عند سيقانها، وهي مستندة إلى رجل نضد، كفها اليسرى على ذقنها، تحلم وترنو إلى رجل في الطرف الثاني، مستلق يتأملها أيضا ويرنو إليها، وغير ذلك. (انظر:
111 87 - 92.
وانظر هذه المشاهد مصورة في ملحق هذا الجزء).
فهذه المشاهد المثيرة لا توضع إلا في مكان يلهو الخليفة به مع قيانه قبل الاستحمام أو بعد الصيد، وهذا أقرب للعقل لو تفكر المرء فيه.
وعلى هذا يكون إدخال قصير عمرة وحمام الصرخ في عداد القصور غير صحيح.
5 -
تاريخ بناء مسجد نور الدين في الموصل:
في المقال الجيد الذي كتبه معالي الدكتور داود الجلبي عن بدر الدين لؤلؤ في مجلة سومر (ج1، م2) - التي تهنئ مديرية الآثار العراقية عليها - إشارة إلى تاريخ بناء مسجد نور الدين محمود زنكي في الموصل.
فقد ذكر الدكتور أن المسجد كملت عمارته سنة 586هـ.
قلت: أن نور الدين توفي سنة 569هـ بدمشق. والمصادر تشير إلى أن نور الدين أمر بعمارة مسجده في حياته، وما أدري أن كان المسجد كملت عمارته بعد سبع عشرة سنة من وفاة نور الدين؟ ولعل الصواب سنة 568 أي بتقديم الثمانية على الستة، ولعل الدكتور يصف لنا هذا المسجد، ويحدثنا عنه.
دمشق
صلاح الدين المنجد
7 - الزندقة
في عهد المهدي العباسي
للأستاذ محمد خليفة التونسي
وقد أيد زاردشت عبادة النار وشجع على زيادة بناء بيوتها، وذهب إلى أن يزدان في حرب دائمة مع أهرمن لتنازع السيطرة على الكون ولاسيما الإنسان، وأن من يعمل صالحاً يساعد يزدان في النصر على أهرمن، ومن يعمل سوءاً يساعد أهرمن على يزدان؛ ولذا دعا إلى عمل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان مبالغاً في التفاؤل فأدعى أن النصر سيكون أخيراً ليزدان على أهرمن فينتصر الخير على الشر ويقضي عليه، فتبطل المتاعب والفتن، وعندئذ ينتهي العالم. وبين أن الإنسان بعد موته يحاسب على أعماله فمن رجحت حسناته عبر الصراط فلقي يزدان وأنزله منزلاً طيباً، وأن من رجحت سيئاته وقع من الصراط في النار وصار مستعبداً لأهرمن، وان من استوت حسناته وسيئاته صار إلى الأعراف، وهذه الآراء تمثل آراء كثير من الطوائف الإسلامية منذ ظهر الإسلام إلى اليوم، وقد ذهب إلى أن الخير هو الأصل وان الشر طارئ، ويؤيد ذلك الشهرستاني في كتابه الملل والنحل فقد قال:(زعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن، وكان أهلها في خير محض ونعيم خالص، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن).
ويقول ماسبرو في كتابه (تاريخ الشرق) ما خلاصته: (إن يزدان خلق كل شي بكلمته، وأتخذ ستة أرواح لنفسه من طبقة سامية يعينونه على تدبير شؤون العالم وصونه، وجعل لهم أرواحاً دونهم يأتمرون بأمرهم وهم منتشرون في العالم، وحيال ذلك خلق أهرمن ستة أرواح شريرة تعادل أولئك الستة في البطش وجعل لهم جنداً دونهم من الشياطين يطيعونهم في أداء ما يكلفهم به أهرمن من أعمال، والقوتان دائماً في نضال مستمر حتى ينتصر يزدان أخيراً على أهرمن وعندئذ تقوم القيامة).
ومن تعاليمه وجوب إكثار النسل لإكثار جند يزدان في نضاله أهرمن ووجوب إصلاح الأرض وزراعتها وتربية الحيوان والجد في العمل، وتحريم الصوم لأنه مضعف للقوة وثبط على العمل في الحياة، وتفضيل العمل على العبادة، فمن يحرث الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أكرم ممن يتزلف بألف قربان أو يصلى عشرة آلاف صلاة أو يدعو عشرة
آلاف دعاء.
ويزعم القلقشندي أن زرادشت: (أدعى النبوة وقال بوحدانية الله وأنه واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند، وأنه خالق النور والظلمة ومبدعهما، وأن الله تعالى هو الذي مزجهما لحكمة رآها في التركيب، وانهما لو لم يمتزجا لما كان وجود للعالم، وانه لا يزال الامتزاج حتى يغلب النور الظلمة، ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر إلى عالمه وحينئذ تكون القيامة). والقلقشندي يخلط صواباً بخطأ فيما زعم، وأواخر زعمه تنقض أوائله، ولا يصعب تمييز الخطأ من الصواب في زعمه هذا إذا عورض بما قدمنا في بيان مذهب زرادشت وسيرته، فزرادشت - وأن كان يعتقد بان أصل الكون واحد هو النور - اضطر إلى القول في تفسير الظواهر الكونية والحياة الإنسانية بقوة أخرى ضد النور هي الظلمة ونسب إليها الشر الذي هو ضد الخير، فهو موحد في أصل الكون، ولكنه ثنائي في تفسير ما يجري فيه، ويزدان عنده ليس في تدبير الكون وخلقه واحداً لا شريك له ولا ضد ولا ند، بل له شريك وضد وند هو أهرمن، فهو يقول كالكيومرتية بأصلين. ومما أسنده القلقشندي إلى زاردشت يشبه أن يكون محاولة للتوفيق بين القول بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام، والقول بأصلين كما جاءت بها المذاهب الفارسية. وتشبه هذه المحاولة كثيراً رأى أبي العتاهية معاصر المهدي العباسي ومادحه وصاحب جاريته عتبة التي اتهم بالزندقة من أجلها حيناً، ولأسباب غيرها أحياناً أخرى فقد كان يدين بالتوحيد لله ويرى أن للكون طبيعتين على ما سنفصله في موضعه من هذا البحث إن شاء الله، ففي مزاعم القلقشندي هنا ظلال لمذهب أبي العتاهية، ومرجع الخطأ في هذا وغيره عند القلقشندي وأمثاله ممن لم يفهموا هذه الأقوال على أنها رموز - إنما هو الوقوف عند ظواهرها دون التأدي إلى البواطن المستترة وراءها، والجهل بالدوافع التي جعلت أصحابها ينزعون إليها من حيث يشعرون ولا يشعرون، وقياسها على غيرها من المذاهب الدينية دون مراعاة الفوارق كما أشرنا إلى ذلك قبل.
أما اتهام القلقشندي وأبن الأثير زرادشت بادعاء النبوة فأرى أنه غير صحيح، فأبن خلدون يقول فيه إن المجوس يزعمون نبوته ولم يقل إنه ادعى النبوة، وهناك أبو الريحان البيروتي، وهو أولى أن من تسمع شهادته في هذا الموضوع، لأنه أقدم من أبن الأثير
والقلقشندي وقد كان فارسياً عارفاً بالثقافة الفارسية واللغة الفارسية ومؤلفاً بها وأطلع بنفسه على بقايا الطوائف التي تدين بالزرادشتية وغيرها في عهده واتصل بهم، وهو أكثر استقصاء وإحاطة بهذا الموضوع من سائر المؤرخين الذين خاضوا فيه وليس لهم ثقافته ولا استقصاؤه ولا عبقريته ولا علمه الواسع بأخبار الأمم الشرقية في عصره وقبله وإطلاعه على حوادثها وأساطيرها وأخلاقها لسياحته فيها ومعرفته بلسانها واتصاله بها ووقوفه على كتبها وآثارها. فلقد عقد هذا العالم الكبير في كتابة (الآثار الباقية) فصلاً عنوانه (القول على تواريخ المستنبئين وأممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين) وذكر فيه كثيراً منهم سواء من كانوا قبل زرادشت مثل بوذاسف الذي ظهر بأرض الهند ومن كانوا بعده مثل ماني ومسيلمة ولم يعد فيهم زرادشت، وكل ما ذكره في هذا الفصل أن الملوك البيشداذية وبعض الملوك الكيمانية ممن كان يستوطن بلخ كانوا يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت.
فزرادشت لم يدع النبوة كما نفهمها، وما كان الفرس ليفهموها ولا ليتصوروها كما نفهمها ونتصورها نحن حين نسندها إلى الأنبياء الحقيقيين كموسى وسواه من أنبياء بني إسرائيل وكمحمد صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، أو حين نفهمها ونتصورها كما ادعاها المتنبئون كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي، فهذه نظرة في أساسها يهودية، لم تصل إلى فارس إلا في القرن الثالث الميلادي على عهدماني كما سنذكره مع سببه عند الكلام فيه، وأمر آخر يؤيد ذلك هو أن هذا المذهب المنسوب إلى زرادشت ليس له من فضل فيه يتفرد به إلا التنقيح والبيان إذا بالغنا في إسناد الفضل إليه فانه قام بجولة في أنحاء البلاد الفارسية للاستطلاع ومشاورة حكماء الفرس لإصلاح العقائد التي كانت قبله مملوءة بالخرافات وتطهيرها من الشوائب، ولا يتفق الادعاء بالنبوة التي تقضي بنزول وحي من السماء حاسم القول في كل شئ مع هذه الرحلة والمشاورات الواسعة، ومما يؤيد ذلك أيضا أن كيستاسف الملك الذي أعتنق الزرادشتية، منع من تعليمها العامة حين منع تعليمهم كتاب زرادشت، فالزرادشتية كما اصطفاها زرا دشت كانت تحتوي على تعاليم وآراء لا قبل للعامة بفهمها واستساغتها فهي بذلك مذهب خاص وضع كثير منه للخاصة، وذلك لا يتفق وآثار النبوة التي يقصد بها الناس عامتهم وخاصتهم، وبذلك يكون كيستاسف قد سبق كثيراً
من الفلاسفة الذين أوجبوا قصر بعض المعارف على الخاصة دون العامة لأن العامة لا تطيقها ولا تفيد منها وقد تتأذى وتؤذى بها: من هؤلاء الفلاسفة سقراط الذي أنكر الكتاب لأنه مفتوح لكل من يقع في يده وآثر التعليم بالاختصاص، ومنهم الفارابي الذي حرم تعليم العلم الرفيع على السفلة، ومنهم الغزالي الذي نادى بأن من المعارف (المضنون به على غير أهله) وألف كتابه (لجام العوام عن علم الكلام) لأن الناس كما قال في كتابه هذا، وكما يعرف العارفون بعقول الناس قد خلقوا أشتاتاً متفاوتين في المدارك، فهم كالمعادن تختلف صورة ولوناً وخاصة ونفاسة، وكذلك القلوب معادن فبعضها لمعدن النبوة، وبعضها للولاية، وبعضها للشهوة البهيمية والأخلاق الشيطانية، وكل ما قدمنا ينفي ادعاء زرادشت النبوة وإن كان لا ينفي ادعاء أتباعه النبوة له، والمرء غير مسؤول إلا عما يقول ويفعل لا على ما يتقوله عليه الناس ويسندون إليه من أعمال لم يأتها سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء، ونحن نعلم أن العظمة في كل زمان ومكان مبتلاة من هذه الناحية بأصدقائها ابتلاءها بأعدائها والعامية لا العظمة هي المسئولة عن كل ذلك.
وقد كان مما دعا إليه زرادشت إبطال عبادة الأصنام ووجوب التوجه للشمس أو النار عند الصلاة، وعدم تدنيس العناصر الأربعة: النار والهواء والتراب والماء، والشفقة على الحيوان، والتزام الفضائل في المعاملة، والامتناع ما أمكن عن أكل اللحم.
نجح زرادشت في إقناع الملك كيستاسف بالدخول في مذهبه وكان لذلك أثره من دخول الناس فيه وإيمان الشعب به، ولا سيما انه لم يكشف لهم منه إلا ما تطيق عقولهم، وبذلك صارت الزرادشتية المذهب الرسمي في البلاط الملكي والمذهب الذي ارتضته العامة طوعاً وكرهاً. ومن أسباب نجاح الزرادشتية أنها ولا سيما ما كشف منها للعامة لم تبعد كثيراً عما كان عليه الفرس قبله، فأعظم جهده ينحصر - كما قدمنا - في التنقيح والتبيين لما كان قبله، ومكانه في ذلك لا يزيد في رأينا كثيراً عن مكان الفيلسوف الهندي الكبير رابندرانات تاجور في الفلسفة الهندية البرهمية، حين نقحها وعبر عنها كما ارتضاها عقله. وما كتاب زرادشت الذي سنتحدث به بعد، إلا كمثل كتاب تاجور (السدهانا) ودواوينه التي نظمها عبر فيها عن آرائه واحساساته تجاه الكون الذي يحبه ويعد نفسه جزءاً منه، فلا نبوة ولا تهجم على المشاكل الغيبية عند زرادشت ولا تاجور، بل فلسفة وفن مردهما الشغف
بالكون. والخطأ كل الخطأ أن ننتظر من البراهمة العوام أن يحدثونا حديثاً صحيحاً بفلسفة البراهمة كما فهمها تاجور، وكذلك الخطأ في انتظارنا أن نسمع حديث عوام الفرس بفلسفة الفرس القدماء كما ارتضاها زرادشت ومن شاورهم من حكماء فارس، وكان كيمستاسف سديد الرأي حين حرم تعليم العامة كتاب زرادشت. ومن أسباب نجاح المذهب الزرادشتي أنه كان ينزع إلى التفاؤل والإقبال على الحياة ويبشر العاملين فيها بالخير وهو في هذا وغيره بل في شخصيته إجمالاً يشبه شخصية تاجور شبهاً قوياً. ولا ريب عندنا في أنه بهذا التفاؤل كان بشيراً معبراً تعبيراً صادقاً عن الآمال القوية الطامحة التي كانت تثقل قلوب الفرس قي ذلك الحين، وانه كان ممهداً وصاحب فضل كبير على النهضة السياسية التي انتهت بقيام الملك الفارسي كورش الأكبر على تخليص الفرس من عبودية الميديين، ثمّ مد حدود الدولة الفارسية الناشئة إلى خليج البسفور، وهدم الدولة الليدية في آسيا الصغرى.
كان زرادشت بنهضته العقلية، بشيراَ وممهداً لهذه النهضة السياسية، فقد استطاع - وهو ينقح تعاليمهم القديمة - أن يحدد لهم طريق النجاح في الحياة ويدفعهم إلى حبها والكفاح فيها، ويركز آمالهم ومطالبهم منها، وربما كان ذلك أيضا سبباً من أسباب إقبال الملك كيستاسف المتطلع إلى المجد والسيطرة على الزرادشتية.
ولا ريب أن من أسباب نجاحه أنه عرف في تجوله خلال البقاع الفارسية ومراجعة أعلام الفكر فيها نفسية قومه والحالة التي كانوا عليها، والغاية التي يتوقون إليها، كما كان لانتسابه إلى أصل أرستقراطي أثر كبير في اتزان آرائه وذلك مما يسهل له حمل كيستاسف على مذهبه، ولا ريب أن مما ساعده على ذلك فهم كيستاسف حالة شعبه وما يتوق إليه وما يطيق وما لا يطيق من مذهبه، وكل أولئك مما ماز الزرادشتيين من غيرها من المذاهب التي بعدها على ما سنوضحه، فأنالها من الذيوع والثبات وإقبال الخاصة والعامة عليها ما لم ينل غيرها.
(يتبع)
محمد خليفة التونسي
(فلسطينيات):
الأب جريجوري. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
(كلارا هاينز) فتاة يهودية ألمانية في الثلاثين من عمرها. . .
نشأت وترعرعت في (ليبزيغ) من أعمال ألمانيا. ولما بلغت الثامنة عشرة، أحبت (ريشارد كراوز) أحد زملائها في مدرسة ليبزيغ الثانوية، فعقدا النية على الزواج رغم مسيحيته ويهوديتها. غير أن هتلر استولى على الحكم - فجأة، فانضم ريشارد إلى الشباب الهتلري، وفرت كلارا إلى فلسطين.
وبينما كانت كلارا ذات مساء في زيارة صديقة لها في القدس، تعرفت إلى قسيس روسي في الخامسة والخمسين من عمره يدعى (جريجوري فون فيخت) وينتمي إلى عائلة روسية ألمانية أرستوقراطية كان قبل سنة 1917 ضابطاً في الجيش الروسي، ثم فر إلى فرنسا، واشتغل في جريدة (الترانسيجان)؛ وإذ حلت أزمة سنة 1925 في فرنسا، رحل جريجوري إلى فلسطين، واندمج في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، بمثابة قس. . . وكان رجلاً متعلماً ذكياً، يجيد اللغات الروسية، والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية.
ودعي الأب جريجوري مرة لكي يلقي محاضرة خاصة في حلقة أصدقاء كلارا وصديقاتها فلبى الدعوة، وكان موضوعه (ديستوفيسكي) واتجاهاته الدينية، فأجاد فيها وأفاد، وبرهن على أن ديستوفيسكي رجل صوفي يؤمن بان الله هو المثل الأعلى للفن، وان روحه تكمن في الحب، والجمال، والعظمة، والعبقرية وفي كل شيء بديع. . . وإن الناس - في حبهم للفنون إنما يحبون روح الله المتجسمة في كل جزء من أجزائه. . .
طربت (كلارا) لهذه المحاضرة. وأعجبت بالمحاضر، وأمطرته أسئلة كثيرة مستفسرة مستفهمة. . . وعند الوداع سألته إذا كان يقبل إعطاءها دروساً باللغة الإنجليزية في بيته، فرحب الأب جريجوري بهذه الرغبة، ووعدها ألا يتقاضى منها أجراً، لأنه رجل زاهد في الحياة، لا تهمه المادة ما دامت الكنيسة تعني بمسكنه وقوته. . .!
وهكذا أخذت كلارا تتردد على بيت الأب جريجوري في القدس فقرأت عليه الدرس الأول والثاني بالإنجليزية، وكانت في هذين الدرسين تكتفي بجلب كتابها ودفترها، وأما الدرس
الثالث فقد ذهبت الفتاة لتتلقاه على أستاذها، وهي تحمل حقيبتين تتضمنان كل ما لديها من ألبسة ومتاع. . .!
قال (زيد) احتجت في أحد الأيام إلى ترجمة مادة اللغة الإنجليزية فقيل لي: (عليك برجل روسي يدعى الأب جريجوري فهو مترجم من الطراز الأول، فذهبت إليه وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول (تفضل. . . تفضل. . .) ولما وطئت قدماي الغرفة وجدت في ركنها الأيمن رجلاً ذا لحية شقراء طويلة، وقد استلقى على سريره. فسألني أن أجلس وأفهمني بأنه يشكو قرحة في معدته، وبعد ثوان دخلت علينا من غرفة داخلية فتاة فتانة، آرية الهيئة، خرنوبية الشعر، عسلية العينين، ممشوقة القد، بارزة النهدين، وكان وجهها إذ ذاك ممتقعاً وعيناها تميلان إلى النعاس، وشعرها مشعثاً، وقد علت شفتيها ابتسامة مغتصبة، فمدت إلي أنامل طويلة رقيقة، ورحبت بي. . . فقلت للرجل: ألي الشرف بالتعرف إلى أبنتكم؟. . . ففتح جريجوري من بين شاربيه ولحيته فماً وأصدر منه ضحكة مزعجة وقال: كلا إنها ليست أبنتي. . . وأخذ يدها بين راحتيه وطبع عليها قبلة. . . وإنما هي سكرتيرتي. . . وزوجتي. . . وهي يهودية ألمانية. . .
لم يصدق الزائر ما سمع، وراح يجيل النظر في جريجوري تارة وفي الفتاة تارة أخرى، فاحتشدت في رأسه أسئلة عديدة حار في تعليلها. . . أقسيس ويهودية؟ أشيخ وصبية؟. . . أقبح وجمال؟. . . أموت وحياة. . . إلهي، كيف جمعت هذين الضدين؟ وكيف وفقت بين هذين العالمين؟
وخرج (زيد) من لدن الأب جريجوري وخرجت كلارا في أثره تشيعه، ولما بلغا الباب الخارجي قالت له: - لقد أصبحت الآن من معارفنا. . . فلا تبخل علينا بزيارات أخرى. . .
ورمقته بنظرة عميقة ساحرة. . .
وأقفلت الباب. . .
قضى (زيد) أياماً وليالي وهو يفكر في أمر ذينك المخلوقين، وكلما حاول تناسيهما عادا إلى مخيلته فتصور الأب جريجوري بلحيته الراسبوتينية، وهو يضحك، ويتألم من مرضه، وأرتسم أمامه هيكل المرأة الحسناء الغريبة الأطوار، فأحس بدافع الفضول أو حب المعرفة
يدفعه إلى القيام بزيارة خاصة لهما فلعله يظفر هذه المرة بما يحل له تلك الرموز والمعميات. . .
وإذ بلغ (زيد) باب بيت القس شم رائحة البخور تنبعث منه، وسمع صوت تراتيل دينية تتصاعد من أرجائه، فدفع الباب برفق، وأطل برأسه إلى الداخل، فشاهد الأب جريجوري يلفظ النفس الأخير، ومن حوله رهط من الرهبان والراهبات الروس يصلون من أجل روحه وكلارا جاثية إلى جانب سريره تذرف الدمع السخين، فألتاع لهذا المشهد وأرتد إلى الشارع مضطربا مذهولاً.
ومضت أيام علم الشاب العربي في أثنائها أن الأب جريجوري مات، وان كلارا ظلت وحيدة حزينة فزارها مرة ليعزيها، فاستقبلته بوجه شاحب وبعينين غائرتين ووجد عندها (قواصاً) كان من معارف زوجها، وكان يعزيها بقوله:(موش لازم يبكي) مش لازم يزعل. . . مافيش جوزك، في. . . أنا!). . . ثم خرج القواص، وجاء رجل آخر من معارف المرحوم أيضا فسلم عليها وعزاها. ثم قال لها: -
(أوفدني أبونا أنسطاس كرياكوس رئيس دير (. . . . . .) وسألني أن أبلغك رسالة شفهية. . . يقول لك أبونا إنه تأثر جداً لفقدك زوجك. وان المرحوم كان من أصدقائه الحميمين، ولما علم انك غدوت وحيدة أحب أن يمد لك يد المعونة فهو يعرض عليك الإقامة في جناح من الدير ويتعهد لك بكل ما يلزمك من ملبس ومأكل أفلا تبلين سؤاله؟
فأجابته كلارا وقد أسندت رأسها بين يدها: قل لرئيسك إذا كانت كلارا قد تزوجت قسيساً وتوفاه الله فذلك لا يعني أنها مستعدة لأن تتزوج رهبان ديره. . .!
وتوطدت عرى الصداقة بين (زيد) كلارا وعلم منها الشيء الكثير عن علاقتها بذلك القس الروسي الراحل، علم منها انه كان يعلمها اللغة الإنجليزية، فسرعان ما سلبها عقلها بأحاديثه الطلية وبفلسفته الصوفية، وبآرائه الاعتزالية، فسألته بان تتلمذ على تعاليمه، فسألها بان تسكن وإياه، فلم تمانع وانتقلت للحال إلى مسكنه.
وإذ علم رؤساء الكنيسة بفعلته هذه ثارت ثائرتهم وتسائلوا كيف يبيح قس لنفسه الزواج بفتاة يهودية؟ فطردوه من الكنيسة وحرموه من لقب قس ومنعوا عنه كل مساعدة وألصقوا به شتى التهم. . .
أما أهل الفتاة فقد حنقوا جداً على فعلتها هذه وقالوا كيف تبيح فتاة يهودية لنفسها أن ترتمي في أحضان قسيس روسي كان فيما مضى من الأيام ضابطاً في الجيش القيصري، وساهم في أعمال الاعتداء على اليهود، واغتصب نساءهم وقتل رجالهم؟. . .
وبعد مضي ستة أشهر على حياتهما المشتركة أحس جريجوري بألم في معدته وتبين له أنها قرحة، فلزم الفراش وكانت كلارا تشتغل وتقدم له القوت، ومرت بها أيام لم تعمل في أثنائها، فكانا يقتاتان بالشاي والخبز فقط، ولما أشتد عليه المرض نقلوه إلى المستشفى وأجروا له عملية، وتطوعت الفتاة بنقل دمها إلى جسمه فلم تنجح العملية، ومات ذلك الشيخ الذي أحبته كلارا بكل جوانحها. . .
لم يترك جريجوري لزوجته أو لخليلته من حطام هذه الدنيا سوى الوصية التالية: (أنا جريجوري فون فيخت، قس في هذه الكنيسة الروسية، أوصي بان ينتقل كل ما في هذا البيت من أثاث - سريران، وخزانة، وطاولة، وكرسيان، وأدوات منزلية - إلى السيدة كلارا هاينز وذلك مقابل ما قدمته لي من خدمات أثناء مرضي!).
وجرى مرة حديث بين (زيد) وكلارا حول الدوافع التي حدثت بها إلى معاشرة ذلك القس فقالت وهي تذرف الدمع بغزارة من ما فيها، أنني أحببته لأدبه وعلمه. . . إنني عشقته لخبرته وبعد نظره. لقد تهافت على عدد كبير من الشبان من أبناء جنسي ورفضتهم كلهم، لأنني لم أبحث عن مال. . . أو جمال. . . أو قوة جسدية، إنني بحثت عن رجل يشبع نهمي الروحي، ويرضي مطامحي الأدبية والفنية، فعثرت عليه في نهاية الأمر في شخص القس جريجوري.!. . .
لقد كان المرحوم جريشا (تصغير لجريجوري ويستعمل غالباً في التحبب) أستاذي الروحي، وزوجي الغيور، ووالدي الحنون!.
لم يود جريشا مفارقة هذا العالم. . . وكان وهو على فراش الموت يصرخ قائلاً: - لا أريد الموت. . . أريد الحياة. . . أريد البقاء إلى جانبك. . . لدينا رسالة روحية سنديها معاً. . . فلم يجبه الله على سؤاله وفاضت روحه بين ذراعي.
انظر إلى ملابسه. . . فها هي معلقة حيث تركها. . هاك كتبه اللاهوتية، وسريره وعصاه، وسترة نومه، ثم هاهي صورة (يسوع) لا تزال حيث أحب أن تكون. . . كلا، أن جريشا
لم يمت. انه حي في قلبي. وقد قطعت على نفسي عهداً بأن لا أعاشر رجلاً سواه!. . .
فالداخل إلى بيت كلارا اليوم، يرى صدره تمثالاً نصفياً للقسيس جريجوري، وقد علقت أرملته فوقه قنديلاً زيتياً لا تنطفئ شعلته، وإذا ما جاء يوم الأحد من كل أسبوع ارتدت السوداء، وابتاعت باقة من الزهور واتجهت إلى مقبرة تقع على جبل صهيون في القدس لتبكي ذلك القس الغامض الراحل.
نجاتي صدقي
الصهيوني الأول
(مهداة إلى الأقلام النبيلة المجندة لنصرة فلسطين)
للأستاذ محمد سعيد الأفغاني
في الفاجعة الكبرى: فتنة الجمل:
سقط الخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان مضرجا بدمه، ضحية المؤامرة الخطرة التي دبرها بإحكام عبد الله بن سبأ مالئ الأرض فتناً وشروراً وفساداً. فضج الناس من هول الفاجعة وفداحة الخطب وجأروا يطالبون بثأر عثمان. فانبلج ذهن أبن السوداء عن خطة مضاعفة ينجو بها هو ومن معه من القصاص، ثم يتحفز هو لأحكام مؤامرة أكبر، وسوق هذه الجماهير نحو فاجعة أكبر، وكارثة لا تذكر إلى جانبها الكارثة بعثمان رضي الله عنه.
انضم هو ومن تابعه إلى علي بن أبي طالب، حين انبرت السيدة عائشة وطلحة والزبير يؤلبون الجماهير للطلب بدم عثمان، فكان لابد للأمام علي من الخروج لرد السيدة ومن معها خشية أن ينبثق صدع جديد، فلما وصل إلى الكوفة كان أبن السوداء وأعوانه انشط جنده في الدعوة لأمره، وبذلك كانوا في حرز حريز من الثائرين لعثمان الذين احتلوا البصرة يستعدون.
جرت بين علي وأصحاب الجمل مكاتبات ثم سفراء ووفود، وتفاهم الفريقان، وفرح الناس بانقشاع الغمة، وتراضي المسلمين وجمع الكلمة على المشاورة في كل أمر، وعلى أن يكون أول الأمور حلاً أن يأخذ علي في قصاص قتلة عثمان، ورتق هذا الفتق الذي أحدثه أبن سبأ وأعوانه في أرض الجزيرة.
أرسل علي إلى رؤساء أصحابه بما تم عليه الإجماع من اتفاق وكذلك فعل طلحة والزبير، واتفقوا على الصلح، وبات الناس بليلة لم يبيتوا بمثلها فرحاً وابتهاجاً بما أشرفوا عليه من العافية والسلامة. أما أبن السوداء وأصحابه فقد باتوا بشر ليلة باتوها قط، وجعلوا يتشاورون ليلتهم في سر من الناس خشية أن يفطن أحد لما يبيتون من الشر.
المؤامرة:
أشرف الفريقان من أصحاب علي وأصحاب الجمل على الصلح والاجتماع، واطمأنوا إلى
نوم هنئ لما وفقهم الله إليه، وكان في هذا ما يسر الناس جميعاً، إلا هذا الفريق الذين لا يطيب لهم عيش إلا بتأريث الشر، وهم هؤلاء السبئية المؤلبة على عثمان والوالغة في دمه، عرفوا أن لا مقام لهم سواء انتصر علي أم خصومه. لان علياً لم يسكت عن إقامة حد متى تم له الأمر وأمكنته الفرص، وكذلك أصحاب الجمل أن ظفروا لم يتركوا أحداً ممن شرك في دم عثمان، لقد كان هم الناس من الفريقين قتلة عثمان أينما كانوا.
جمع أبن السوداء هؤلاء النفر في ظلمة الليل إليهم، وكان منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وخالد بن ملجم وسالم بن ثعلبة العبسي وشريح بن أوفي والأشتر. . .، في عدة ممن وقعوا في شرك الطاغية عبد الله بن سبأ فلعب بعقولهم وسيرهم وأتباعهم إلى عثمان، جمعهم فتداولوا بينهم هذا الكلام:
(ما الرأي؟ وهذا والله على - وهو أبصر الناس بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك - وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا قتلة عثمان والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام (نظر) القوم وشاموه، وإذا رأى قلتنا في كثرتهم؟؟. . . انتم والله ترادون، وما انتم بأنجى من شئ).
الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم. ورأى الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا فعلى دمائنا. . . فهلموا - يا قتلة عثمان - فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان، فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.
أبن السوداء: بئس الرأي رأيت: انتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا أبن الحنظلية (القعقاع أبن عمرو) وأصحابه في خمسة آلاف: بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً، فارقأ على ظلعك.
علباء بن الهيثم: - انصرفوا بنا عنهم ودعوهم؛ فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم. دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به، وامتنعوا من الناس.
أبن السوداء: - بئس ما رأيت، ود - والله - الناس أنكم على جديلة (ناحية) ولم تكونوا أقوام برآء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء.
عدي بن حاتم: - والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في
خوض الحديث؛ فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس هذه المنزلة، فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح محموداً، فإن أقدمتم أقدمنا وان أمسكتم أحجمنا).
أبن السوداء: - أحسنت.
سالم بن ثعلبة: - من كان أراد فيما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزيد على جزر جزور. وأحلف بالله: إنكم لتفرقون من السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف.
ابن السوداء: - إن هذا قد قال قولا.
شريح بن أوفي: - أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون بنا غداً إذا ما هم التقوا.
ثم تكلم أبن السوداء بعد أن أدلى كل بدلوه فقال:
(يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر: فإذا من انتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون).
وعلى ذلك انفض الاجتماع الأثيم، وأحكمت الخطة.
قاتل الله ابن السوداء، فو الله ما أراه إلا شيطاناً خلق من مارج من نار، ما أبصره بطرق الفتنة وبث العقارب، وما أدق توهينه تلك الطرق التي أشار بها أصحابه، ما أفطنه إلى ضعفها وقلة غنائها، ثم كيف آل به تقليب الرأي حتى اهتدى إلى التي ليس بعدها شر منها: قاصمة الظهر ومبيدة الأمم.
ومنذ الذي يقرأ هذه المؤامرة، وكيف أدار أصحابها الآراء على وجوهها المختلفة، ثم لا يرجع ذهنه بسرعة البرق إلى ما ذكره أصحاب السير عن مجلس كفار قريش في دار الندوة: يجيلون الرأي في محمد صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وقد حضر اجتماعهم ذاك إبليس بهيئة شيخ نجدي، فجعل كما عرض أحدهم رأياً في القضاء على دعوة محمد وهنه وأظهر فساده، حتى أعيى القوم جميعاً بحجته، فسألوه: ما عنده؟ فقال: تختارون من كل قبيلة رجلاً جلداً، فيجتمعون ويضربون محمداً ضربة رجل واحد
فيضيع دمه بين القبائل، ولا طاقة لبني هاشم بقبائل العرب كافة).
أليست تلك المؤامرة نسخة (طبق الأصل كما يقولون) عن هذا المجلس؟
أليس أبن السوداء هذا إبليس بعينه؟ وأستغفر الله، فأين يقع منه إبليس؟ لهو والله أبلغ نكاية بهذه الأمة من إبليس، وأبعد أثراً في الدس والكيد. وأخشى أن يكون الذي ظنوه إبليس أبناً من أبناء السوداوات أبطال الشر والمكر والفساد من اليهود: تنكر لهم شيخاً نجدياً أحكاماً لدسيسته.
لما كان الغلس انسل هؤلاء المؤتمرون - وما يشعر بهم جيرانهم - إلى الأمر الذي أجمعوا عليه انسلالاً وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين بغتوهم، وحيرتهم الصدمة فقد كانوا باتوا على صلح تغشاهم الطمأنينة والسكينة.
فجئ الناس جميعاً، وخرج طلحة والزبير فسألا:(ما هذا؟) فقالوا: (طرقنا أهل الكوفة ليلاً). فقالا:
(قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة، وانه لن يطاوعنا).
ثم خرجا في وجوه الناس من مضر، فبعثنا إلى الميمنة - وهم ربيعة - عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يعبئها، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وثبتا في القلب.
استطاع أهل البصرة أن يصدوا أولئك المعتدين حتى ردوهم إلى عسكرهم، فسمع على الصوت - وكان السبئيون المتآمرون قد وضعوا طبقاً لخطتهم رجلاً قريباً منه ليخبره بما يريدون - فلما قال:(ما هذا؟) قال ذاك الرجل:
(ما فجئنا إلا وقوم منهم قد بيتونا، فرددناهم من حيث جاءوا فوجدنا القوم على رجل، فركبونا وثار الناس).
فقال علي لصاحب ميمنته (ائت الميمنة) وقال لصاحب ميسرته: (ائت الميسرة) ثم قال: (قد علمت أن طلحة والزبير غير منهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلا الحرمة، وانهما لن يطاوعانا).
والسبيئة مجتهدون في إنشاب القتال لا يفترون، والتحم الناس بعضهم ببعض، ودارت المعركة فاصطلى بنارها الناس جموعاً، وكاد هؤلاء الناس الذين باتوا مصطلحين على
غير حال، كادوا أن يتفانوا، وانحسرت المعركة عن خمسة عشر ألفاً من القتلى وما لا يحصى من الجرحى، وكان فيمن قتل رؤوس المهاجرين والأنصار وزعماء الناس وعدد جم من القراء والعلماء والمجاهدين الأولين، وسجل التاريخ أفجع نكبة حلت بالمسلمين منذ كان للناس تاريخ.
وبعد، فهل ألب الأمصار على عثمان إلا أبن السوداء؟
وهل غرهم أحد بمثل ما زور لهم من كلام ترويجاً لدعوته؟
وهل دم عثمان إلا نجاح خطة أبن السوداء هذا؟
وهل استطاعت الروم وفارس أن تنال من هؤلاء الفاتحين بمثل ما نال منهم أبن السوداء؟
وهل هذه العشرات الألوف من دماء المهاجرين والأنصار من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم إلا ثمرة خبه وكيده ومكره بهذا الدين وأهله؟
وما زال المسلمون من يومهم ذاك إلى الآن في شرور متتالية يزجها إليهم أبناء السوداوات في مختلف الإعصار والأمصار: دساً في دينهم وتفرقة لكلمتهم، واستهانة بتاريخهم، واستخفافاً بتقاليدهم ومقوماتهم، ووضعاً من شان لغتهم، وإفساداً لأخلاقهم، وتهويناً من سلامة نظمهم، وإشادة بكل مذهب أجنبي يفكك عراهم ويأتي بنيانهم من القواعد. والغريب أننا قوم (طيبون جداً) لا نرى غضاضة في توسيد أمورنا الصغيرة أو الكبيرة إلى الذين كانوا مطايا الاستعمار وجواسيس الأجانب، وأجراء لكل دعوة هدامة ودولة طماع. نفعل ذلك عن غفلة تارة وعن غرور تارة، وقد كتب الله على هذه الأمة ألا تفطن إلى أبناء السوداوات هؤلاء إلا بعد أن يبلغوا منها ما أرادوا ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ترى هل بدأنا نتعظ؟؟
سعيد الأفغاني
من أغاني الحرية:
صدى القيد!!
) إلى قطرات من دم رآها الشاعر في ميدان قصر النيل يوم
هب شباب الوادي هاتفين بالجلاء! (
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
صدئ القيد ألا نا
…
رٌ من الوادي تذيبه. .
بعد ما طال النيل أساه ولهيبه؟!
صدئ القيد، وهذي
…
صرخة الأرواح منه
زفرات، ودماء
…
تنقل الأحزان عنه!
وهتاف زمجرت فيه أناشيد الضحايا
ظامئ للموت نشبوا
…
ن إلى خمر المنايا!
صدئ القيد، وناح الغاشم الطاغي عليه
وتعايا كل ظلم
…
وظلام في يديه!
دقت الأجراس. . فلنضرب على تلك السلاسل
بيد ملت هوان الطير في تلك الخمائل!
بيد للنار والنو
…
ر بها ريٌّ وزاد
من دم الأحرار يغذو
…
ها، ويسقيها الجهاد
غضب النيل، وإن يغضب، فقل: ذاب الحديد!
وانبرى كالعاصف المجنون شيخْ ووليد
دقت الأجراس، فلنسمع لها في كل صدر
ولنسر صفاً لنحيا
…
أو نحطم قيد (مصر)!
عزاء.
. . .!
للأستاذ أحمد مخيمر
العزاء العزاء يا مبدع الشع
…
ر عزاء لكل قلب عميد
أنا لولا مخافتي موقف الحز
…
ن لما كنتُ باكياً من بعيد
وبكائي كتمته في ضلوعي
…
ثم رقرقرتُ دمعه في نشيدي
حجزته عن المسيل قوافي
…
هـ، فكانت لفيضه كالسدود
وأشد البكاء في النفس لذعاً
…
ما تواري عن أعين وخدود
سهَّد القلب يا غزاليّ أن بتَّ
…
تعاني مرارة التسهيد
وأن ارتبتَ في خطوب الليالي
…
عندما حان باليقين السديد
وجعلتَ الحياة يأسَ سجينٍ
…
ورجاء الحياة شجو طريد
وعبرتَ الزمان للغيب ملهو
…
دا، ً وما كنتَ قبل بالملهود
ساخراً من حقيقة العيش والمو
…
ت، ومن كل كائن في الوجود
كلما جاءك المواسون دافع
…
تَ ابتسامات موجع مجهود
باهتات كأنما هن أكفا
…
ن رجاءٍ مَيْتٍ، وبشر فقيد
بسمات من غور صمتك تنمو
…
كورود نمون فوق اللحود
كشفتْ ما كتمت من لهب شب
…
لظاهُ بأضلع وكبود
وأبانت عما دفنتَ من البش
…
ر، وعما كفنتَ من تغريد
ولقد يبسم الحزين إذا لم
…
يلق في الدمع غاية المستزيد. .
يا صديقي العزاء لا تبعث السخ
…
ر عنيداً من الزمان العنيد
إنما الوالد الكريم سيبقى
…
خالد الذكر، باقي التمجيد
زودته الحياة بالحكمة الأو
…
لى، وبالسر أيما تزويد
وأتاحت لقلبه نبعها الأس
…
مى، ليحظى هنيهة بالورود
خبر العيش فطرة، ورأى الدن
…
يا بعيني مجرب محمود
وتعالي عن الدنايا، وصفّى
…
قلبه من عداوة وحقود
فهو ناهيك من صفاء وحلم
…
وهو ناهيك من عفاف وجود
تشتكي الأرض منه من طول ما عفَّ
…
ر في الترب وجهه بالسجود
وتظل الطيور تسأل عن مُلْ
…
قٍ بمنقارهن حب الحصيد
فطرة ذلك الحنان، وهذا ال
…
عطف في ذلك الأبيّ المجيد
العزاء العزاء يا مبدع الشع
…
ر عزاء لكل قلب عميد
وإذا كانت الحياة إلى خل
…
دٍ، فإن البكاء غير حميد
شهد الله أن والدك البر
…
رجاء الحياة للتخليد
غاب في الرحلة إلى العالم الأسْ
…
مى بوادي فردوسه المفقود
البريد الأدبي
إلى الأستاذ محمود محمد شاكر:
سلام عليك. وبعد فقد قرأت ردك علي فاستغربته، فإنك ذكرت الآية الشريفة (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) واتخذت منها شاهدا على صحة عبارتك وعلى غلط رأيي فيها. والحق أن هذه الآية دليل على بطلان قولك ودليل على صحة قولي. ففيها عبارة (والسلام علي) معرفة بأل لأنها تشير إلى (سلام عليه) في آية قبلها هي (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا). قال الزمخشري في الكاشف عن هذه العبارة المتصلة بأل:(قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله كقولك: جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلى). وإن لم ترض بهذا أيها الأستاذ فانظر إلى تعقب الزمخشري عليه، قال:(والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضاً بالأصل وباللعنة على متهمي مريم وأعدائها من إليهود، وتحقيقه أن اللام للجنس فإذا قال: وجنس السلام على خاصة، فقد عرض بأن ضده عليكم. ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى، ويعني أن العذاب على من كذب وتولى).
وبديهي أيها الأستاذ انك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة للتعريض.
ولو أعدت النظر في تعقيب الزمخشري لوجدت رداً على شاهدك الآخر في الآية الشريفة: (فأتياه فقولا أنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى).
وبعد أن أظهرت لك الحقيقة بآيتين تناولتهما أنت من القران الكريم للرد علي، أقول:
إنك دللت على صحة عبارتك بالاستشهاد بصحيح البخاري ومسند ابن حنبل، وفاتك أن الحديث لا يستشهد به أهل اللغة والنحو لان كثيراً منه مروي بالمعنى وفي خزانة الأدب للبغدادي أقوال للعلماء كثيرة تؤيد ذلك. قال السيوطي:(فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا وقدموا وأخروا وأبدلوا ألفاظا بألفاظ - ج1ص6).
وقال سفيان الثوري وهو أحد رواة الحديث المعول عليهم (إن قلت لكم إني أحدثكم كما
سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى ج1ص6). وجاء في الكتاب نفسه لأبي حيان يفيد أن أئمة البصريين والكوفيين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء وغيرهم لم يستشهدوا بالحديث، وعلل ذلك بما تقدم من العلل.
وأظنك الآن أيها الأستاذ توافقني على إغلاق باب الاستشهاد بالحديث.
أما أهل القبلة فتشهدهم بعد الصلاة مختلف فيه فمنهم من يقول (سلام عليك. . . . .) ومنهم من يقول (السلام عليك. . .) وحبذا لو أطلعتني على نص يوثق به يشير إلى انهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد (السلام عليك أيها النبي.).
وأما الأخفش الذي اتخذت منه حجة لقولك فلا يعتمد به لأنك لم تذكر المصدر الذي نقلت عنه.
وحسبك أيها الأستاذ أن تجد القاعدة مختصرة في هذا البيت القديم:
سلام الله يا مطر عليها
…
وليس عليك يا مطر السلام
والحق انه لم يكن ينبغي لي أن آتيك بشواهد من آي الذكر الحكيم أو الشعر لأني لست بصدد ذلك.
والمسألة هي أن العرف الجاري بين الكتاب القدامى أن يبدءوا كتبهم بـ (سلام عليك أو عليكم) ويختموها بـ (السلام عليك أو عليكم). وحسبي أن اثبت كلام أبن قتيبة الذي تحاملت عليه في ردك عليَّ، قال:(وتكتب في صدر الكتاب: سلام عليك وفي آخره: السلام عليك، لأن الشيء إذا بدء بذكره كان نكرة فإذا أعدته صار معرفة. وكذا كل شيء نكرة حتى يعرف بما عرف، تقول: مر بنا رجل. ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. وتقول: رأيته قد رجع. فكذلك لما صرت إلى آخر الكتاب وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته انه ذلك السلام المتقدم - أدب الكاتب ص 254).
وحسبي أن أعزز قول ابن قتيبة بالأدلة، فتفضل بالاطلاع على قسم من الكتب للعصر الإسلامي.
كتب الرسول (ص) إلى المقوقس ما يأتي:
(من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام. . . الخ - فتوح مصر لابن عبد الحكم ص42، والطبري ج3
ص287).
وكتب الرسول (ص) إلى كسرى فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله. الخ صبح الأعشى ص276) وكتب أبو بكر (ر) للمرتدين:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا عامة أو خاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه. سلام على من اتبع الهدى. . الخ. . الطبري ج3 ص276)
ومعلوم أن هذه الكتب مدونة ويستشهد بها اللغويون والنحاة. .
واعلم يا سيدي أني - كما تقول - (قنعت لك ولنفسي وللناس بالنقل مجردا. . .) والسلام عليك.
بغداد
صبحي البصام
يا ابن أمي:
قرأت في الرسالة المباركة في العدد الأخير: قصيدة للمرحوم أبي القاسم الشابي تحت عنوان (يا ابن أمي) فدهشت لتلك القصيدة العصماء يجيء فيها هذا التعبير الذي تأباه قواعد اللغة.
ذلك أن القاعدة التي ذكرتها كتب اللغة لاستعمال هذا العبارة هي: إذا أضيف المنادي إلى مضاف إلى ياء المتكلم وجب إثبات الياء إلا في ابن أم وابن عم فتحذف الياء منهما وجوبا لكثرة الاستعمال. وتكسر الميم أو تفتح فتقول يا ابن أم ويا ابن عم بفتح الميم وكسرها.
قال الله تعالى (قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) وقد قرر ابن ما لك هذه القاعدة بقوله:
وفتح أو كسر وحذف اليا استمر
…
في يا ابن أم يا ابن عم لا مفر
محمد عبد المقصود هيكل
إلى الأستاذ محمود الحفيف:
لاحظت أنكم جريتم في مقاليكم بالعددين الأخيرتين من الرسالة على كتابة كلمتي (بيوريتان) و (البيوريتانية) كما هما. وأرى أنه كان يحسن أن تستخدموا بدلا منهما تعبير (الطهريين) لان هذه ترجمة للكلمة الإنجليزية تؤدي بالضبط المعنى المقصود، فضلا عن أنها سهلة فصيحة لا تعقيد فيها.
فلعلكم ترون رأيي والسلام.
وديع فلسطين
نسبة بيت:
نسب الأستاذ العقاد في مقاله عن (حمام الحرم) هذا البيت:
يسقط الطير حيث يلتقط الح
…
(م) ب وتغشى منازل الكرماء
إلى الطائي وهو بالطبع يعني أبا تمام، والمعروف أن البيت لبشار بن برد من قصيدة يمدح بها عقبة بن سلم، ويقول فيها:
إنما لذة الجواد ابن سل
…
م في عطاء، ومركب للقاء
وأكبر الظن أن هذا الخطأ في النسبة وقع من استأذنا الكبير سهوا كما هو ظاهر.
محمد احمد عبد
في عالم الكتب:
حواء الخالدة
) للأستاذ محمود تيمور بك (
بقلم الأستاذ وديع فلسطين
أفردت مجلة (الكتاب) في عدد يناير الماضي فصلا مسهبا عن التآليف التي ظهرت في عام 1945 سردت فيه هذه الكتب بعدما بوبتها ونسقتها وفقا لموضوعاتها. وقد استوقف نظري آنذاك أن المسرحية لم تظفر من هذا الحصاد الوافر بأكثر من أربعة كتب هي: مسرحيتان ترجمهما الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك عن شكسبير وهما: (الليلة الثانية عشرة) و (أنطوني وكليوباترة) ومسرحية شعرية للأستاذ عامر محمد بحيري عن (خالد بن الوليد) ومسرحية ترجمتها عن الكاتب السويدي أوجست سترندبرج وهي (الأب). ودفعني هذا إلى السؤال عن سبب تخلف الإنتاج المسرحي في مصر برغم أن المسرح أصبح من دعائم الثقافة ووسائل التهذيب، فضلا عن التسلية. فجاء الجواب من صديق من أصحاب دور النشر بان المسرحيات لا تصادف إقبالا من القراء وأنهم يصدفون عنها ويولون عنايتهم شطر الأقاصيص.
وإنه لأمر يدعو إلى العجب حقا، لأن المسرحية في الأدب الغربي لها مقام ممتاز، بل إنها كثيرا ما تتقدم على القصة. وما ذلك إلا لأن المسرحيات عامة - ولا سيما الأدبية منها - تعتمد إلى حد كبير على جودة الحوار وقوته، بينما الأقاصيص لا تعلق مثل هذا الشأن على الحوار لأن الوصف يغلب في معظم الأحيان على عنصر الحوار فيها.
ومما يدعو إلى الدهشة كذلك أن غالبية الكتاب العظام في العالم كتبوا المسرحية أمثال شكسبير (الذي اقتصر على كتابة هذا اللون من الفن) وإبسن وتشيكوف وجوركي وشنتزلر وجورج برنردشو، أما الأدب العربي فهو معرض عن هذا الفن لأسباب قد يكون منها المحافظة على القديم. والمعروف أن العرب الأقدمين لم يكتبوا المسرحية، وأن المرحوم أحمد شوقي بك كان من رواد هذا الضرب من الأدب بما أنتجه من مسرحياته الشعرية:(مصرع كليوباترا) و (مجنون ليلى) و (قمبيز). . . الخ.
لهذه الأسباب مجتمعة، سرنا أن أقدم الأستاذ محمود تيمور بك على كتابة المسرحية الطويلة - إذا جاز أن يكون في المسرحيات طويل وقصير كالقصص - فهو ولا شك يمهد السبيل لازدهار هذا الفن الذي لم يرتد مجاله من كتاب الضاد سوى القليلين. وهؤلاء لم يكتبوا للأدب بقدر ما كتبوا للتسلية، مما أفضى إلى هزال حركة التمثيل المسرحي، لا في مصر وحدها، بل في الشرق قاطبة.
ومسرحية (حواء الخالدة) التي نحن الآن بصددها، قطعة من حياة العرب، بطلاها عنترة العبسي وعبلة بنت مالك.
أحب عنترة عبلة فتدللت وتمنعت بعدما حملته المشاق والصعاب وسخرته في معابثاتها ومغازلاتها ليقنص لها أسدا ويجيء إليها بجلده، ولما انصرف عنها أحبته وأخذت تتسمع أنباءه وانطوت على نفسها يوم أنبأها رسول كاذب أن عنترة لقي حتفه. ولكن عنترة لم يمت وعاد إلى بلده بعد غربته، ثرياً تعلم كيف يجرد الجيوش ويستل الحسام، وينازل الأعداء، ويحترب الحروب. عاد وقد غادرته ليونته وطراوته وتدلهه في الحب، وأصبح رجلا شديد المراس معتزاً بنفسه، يأبى أن يسأل أحداً أمراً ولو كان هذا الأمر حبيباً إلى قلبه.
وكأنما أرادت عبلة أن تسخر منه، فرضيت بالزواج من أمير ولكن عنترة بارز ذاك الأمير وبذه وسبى عبلة وشد بها الرحال.
هذا محصل (حواء الخالدة)، صور تيمور فيها تثني المرأة ودلالها، إعراضها وإقبالها، غيرتها، تشفيها ومخاتلتها، حبها وبغضها، وطمعها وطموحها، حشمتها وتبذلها. وجعل تيمور بك يوجه عنايته القصوى إلى لغة الحوار حتى إن المرء ليحتاج أحيانا إلى الرجوع إلى المعجم ليقف على معاني بعض الكلمات من أمثال:(الطباهج الرشراش) و (اللوزبنج) و (النياق العصفورية) وسواها.
ولعل المؤلف اضطر إلى الالتجاء إلى هذه الكلمات وأترابها لأنه تخير موضوعا عربياً تدور حوادثه في بيداء العرب، وهم حريصون على الفصاحة والعناية باللغة لأنها تجارتهم الوحيدة التي يتعاملون بها في الأسواق.
وحسبنا من المؤلف أنه ولج هذا الباب المسرحي وسلك هذا الطريق غير المطروق، وأنه
حاول فيه محاولة موفقة سبقتها منه محاولات مماثلة. ولسنا نزعم أن تيموراً بلغ في (حواء الخالدة) حد الكمال، وإنما يمكن القول انه يسير في هذا الاتجاه.
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي
(مهداة إلى الأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 2 -
. . . يلعب الحظ أدواراً عجيبة في حياة الإنسان؛ فبينما هو يستيقظ من نومه مبكراً ليباشر كعادته عمله في غير رغبة ولا اشتياق، وهو لا يفكر إلا أن يومه سيمضي كأمسه في عمل آلي لا يشعر معه بلذة روحية ولا بقيمة ذاتية، وإذا بيد القدر تمتد إلى مجرى حياته، فتحولها إلى ناحية مضادة كلها نعيم وكلها سرور. . . إن نقطة التحول في حياتي بدأت منذ زارني القروي اليوم، فكأني به قد نزل من السماء ليهيئ لي حياة أهنأ وأسعد، حياة تلمع بأشعة الذهب الذي يمكن تبديله بأرقام ليست لها نهاية من النقود. . . .
حقا، إن بيرام نقطة الفصل في حياتي بين منطقتين: منطقة الماضي الصامت العابس، ومنطقة المستقبل الزاهر الباسم، وعلى ذلك فأنني سأمتع النفس بكل أنواع المتع ما دمت أمتلك نقوداً بهذه الكثرة. . . سأجوب كل البقاع، وأشتري يختا كبيرا أستخدمه في رحلاتي. . . . إن والدي سيدهش عندما يطلع على الموضوع. ترى هل في الكهف حجر لم يرها بيرام؟ وكم يكون عدد الكراسي؟ وهل كلها ذهب؟ إن العالم كله ستعتريه موجة من الاستغراب وسيقول: من أين لهذا الشيطان بكل هذا المال؟ لعل بيرام لا يتحدث إلى أحد في هذا الشأن. كان يجب أن أكم فاه بمبلغ كبير، عشرة جنيهات على الأقل، ليكون ذلك تشجيعاً له على السكوت، وإغراء لوالدته على تركه حراً. . . . ترى من هذا الذي هو معه على موعد؟ كم سينال الاستغراب من صديقي الوفي الأديب (محمود)؟ سأهدى إليه مكتبة قيمة تقديرا لإخلاصه. سأجهز له مكتبا فخما. لا أدري إن كان من المستحسن أن أقص
عليه القصة، أم أترك الظروف تتولى عني ذلك؟ وإن كنت على يقين أنه يستطيع أن يرشدني إلى ما يحسن عمله، كما يستطيع أن يعرف عهود تلك الآثار وقيمتها التاريخية؛ فهو أكثر مني ثقافة، وأطول تجربة، واعظم خبرة، وهو فوق ذلك مدرس نابه، وأديب ذائع الصيت؛ ولكن. . . . كم يكفيه من النقود للقيام بهذه المهمة؟ إنه يكاد يجب من فرط السرور عندما يقف على قيمة الكنوز المادية والتاريخية! على كل حال سأذهب إليه الساعة لأسرد له حكايتي، أنا في مسيس الحاجة إلى مخلص يأخذ بيدي إلى الطريق السوي، فهذا عمل شاق ومن غير المعقول أن أقوم به وحدي!
هذه هي بعض الخواطر التي كانت تمر بمخيلة فريد وهو يقطع الحجرة بعد أن غادره القروي على أن يعود إليه في المساء، ولم يقطع عليه سلسلة هذه الأفكار إلا دخول الكاتب يسأله عن رسائل اليوم وليستأذنه في الانصراف!
حرك فريد يديه حركة عصبية ولعن في نفسه المراسلات والمكاتبات، ثم إذن للكاتب أن ينصرف. ودعا الخادم وأمره أن يخبر الطاهي أن بعض الأصدقاء سيتناولون العشاء معه هنا في الساعة الخامسة، وأنه يود أن يكون الطعام فخما. وتناول عصاه وخرج ميمما صوب (الليسيه) ليقابل صديقه (محموداً) فقد وطد العزم على أن يستعين بنصائحه ويستفيد من إرشاداته. ولقد كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر لا يكف عن الانهمار، والطريق بما تجمع فيه من ماء ووحل يتعب المارة ويلوث ملابسهم، ولكن فريداً كان عن كل ذلك في شغل، فهو لا يبالي، بل لا يشعر: أفي جفاف يمشي أم في وحل. فقد طرأت عليه فكرة سيطرت على كل حواسه وصرفته عن كل ما يحيط به، هذه الفكرة كانت في مبدئها فرضاً، ثم لم تلبث أن صارت في قوة الحقيقة الواقعة عنده، وهي لا يبعد أن تكون الأزيار مملوءة بنقود ذهبية قديمة، ثم غطيت بهذا الغبار حتى لا تمتد إليها يد عابثة. . . أربعة عشر زيراً. . . يالها من ثروة طائلة. . . سأهرِّب الأشياء ذات القيمة في أسرع وقت إلى الخارج، وسأضع النقود في بنوك سويسرا وإنجلترا، لأنها بنوك مضمونة. . . وإلى هنا كان قد وصل إلى المدرسة وعلم انه قد بقي عشر دقائق على خروج التلاميذ، فرأى أن ينتظر في الحديقة بعيدا عن الناس، وليخلو إلى نفسه ويواصل حديثها. وما إن أخذ موضعه منها حتى تساءل: ترى ما هي اللغة التي نقشت على اللوحات؟ أهي اللاتينية أم اليونانية
القديمة؟ كم من المكتشفات ستحتل الميدان في الأيام القليلة المقبلة؟ سأترك فخر الاكتشاف لزميلي وصديقي (محمود) إني واثق انه سيعجب كثيرات حينما أشرح له مقابلتي لبيرام. . . وفي هذه اللحظة دوى في الفضاء صوت المؤذن منبعثا من مئذنة مسجد (فوش كلَس) يملأ الأرجاء:: (الله أكبر. . . الله أكبر!) دعوة يلبيها المؤمنون الصادقون الذين امتلأت قلوبهم من خشية الله، وترطبت ألسنتهم بذكر الله. . . فيسرعون لصلاة الظهر شكرا لله على نعمائه، وابتهالا إليه أن يوفقهم لرضائه. . . في نفس الوقت دقت أجراس الكنائس القريبة تستحث أتباع المسيح عليه السلام أن يبادروا إليها للتبرك! وفي هذه اللحظة أيضا بدأ الطلبة يخرجون من المدرسة زرافات ووحداناً مسرعين إلى بيوتهم لتناول الغداء، وكلهم يتأبط كتبه وأدواته؛ فرأى فريد صديقه محموداً خارجاً مع زميل له، فناداه، فاستأذن صديقه ولحق بفريد. . . وبعد أن تصافحا قال له: لماذا أنت هنا يا فريد ولست في المتجر؟
- جئت آخذك لتناول الغداء معاً، ولأقفك على موضوع هام.
- ماذا؟ هل تمت خطوبتك؟
- لا! ولكن لدي أخبار في نهاية الغرابة. فتعال معي إلى المنزل.
لا أستطيع؛ فإني سأعود بعد الظهر لا تمام دروسي.
- إنك عندما تعرف الخبر ستنسى الدروس ولن تفكر فيها بل ستلعنها ولا تذهب إليها.
- ما دمت تقول ذلك فسأجيء معك وأفوض أمري إلى الله. ثم أخذا طريقهما إلى منزل فريد الذي بدأ يقول لصديقه: لا شك يا محمود أننا سندهش (أشقودراه) بل العالم بأسره.
- لست أفهم هذه الألغاز يا عزيزي فأرجو أن تفصح.
- لقد عثرت على كنز! فنظر إليه محمود في استغراب وقال: بربك قل الصدق ماذا بك اليوم؟ فقد تغير فيك كل شيء.
أؤكد لك أني وجدت كنزا.
بالله لا تهزأ بي، أنت الذي وجدته؟
- لا! ولكن قرويا جاءني في صباح اليوم وأفضى إلي أنه عثر عليه مصادفة، وشرح له فريد ما كان من بيرام فتعجب محمود وقال: وهل وقع كلام القروي منك موقع الصدق؟
- ولم لا؟ ومن أين لقروي مثله خيال يحسن سبك مثل هذا الموضوع بمثل هذه المهارة؟
إن من يفعل ذلك لا بد وان يكون قد قرأ على أقل تقدير عجائب الكشف عن آثار (توت عنخ آمون) ذلكم الملك المصري القديم. ولكن أني لبيرام وهو الأمي الذي لا يقرأ أن يطلع على ذلك ويخترع مثله؟ وإنك ستسمع منه بأذنيك وستحكم كما حكمت أنا - استنادا على طيبته - بصدق قوله.
حرك محمود رأسه دهشة واستغرابا وكانا قد وصلا إلى البيت واستدار حول المائدة، وأخذ كل منهما يتكلم بهواه ويدلل لرأيه، قال فريد: إن قيمة الكنز المادية - وان كانت عظيمة - إلا أنها ليست بشيء يذكر بجانب قيمته التاريخية.
لا زلت أشك فمن المستحيل أن تكون هذه حقيقة؛ إن الرجل قد رأى كل هذا في المنام.
- في بعض اللحظات كان يعتريني مثل هذا الشك، ولكن نظرات القروي، وملامح وجهه، وسذاجة حديثه، جعلني أعتقد صدق خبره، وستجعلك كل هذه الأشياء تعتقد مرغما كما اعتقدت.
- كل شيء ممكن في هذه الدنيا!
ألا تكون هذه الآثار يا محمود من زمن أجدادنا (الإلير)؟
- لا أعتقد، فإن التاريخ لم يحدث عنهم أنهم برعوا في النقش على الأحجار وعمل التماثيل وأن كان غير بعيد أن يكونوا قد أخذوا هذه الآثار وهذه التماثيل من معابد يونانية؛ فقد ذكر التاريخ أنهم أغاروا على شواطئ بحر اليونان كثيراً. وقد يكون الملك (غنس) قد خبأ هذه الكنوز قبل معركته الأخيرة مع الرومان التي أسر فيها.
- لو كان هذا الفرض صحيحاً لكان كشفاً عظيما جداً. ونسى محمود أنه يأكل من فرط سروره بهذا الفرض، بل نسى انه فرض وتخيله حقيقة ناصعة، وأنه أول من اهتدى إليها فذاع صيته وخلد اسمه في صفحة كبار المكتشفين فقد أزاح الستار عن فترة من تاريخ ألبانيا كانت في زوايا الجهل فانتصب واقفاً والشركة لا زالت في يده وأخذ يخطو في الحجرة إلى نهايتها ثم يعود ببطء ثم كف المشي فجأة وقال بصوت ضعيف: لعل الحروف المنقوشة في الرخام تلقي لنا ضوءاً على اللغة الألبانية، ولعلنا نجد لهذه المسألة أدلة (إليرية) وان كان الشك لا زال يساورني. وكنا نستطيع أن نحكم على أفكار (هاهن) الذي يقول: إن أصل اللغة لهجة (البلازغ) وكذلك رأي (ماير) الذي يقول: إن أصلها من لهجة
(إليرية). . . مستحيل أن يكون هذا حقيقة، وإلا كانت سعادة لا تعدلها في الدنيا سعادة، وكان فتحا جديداً في تاريخنا القومي العظيم.
لم يفهم فريد من كلام صديقه شيئاً فقد كان مشغولا بتقدير الأرقام الكثيرة التي يمكن تبديل الكنوز بها من النقود وكيفية إنفاقها. لكنه نادى محموداً وقال له: إن شهرتي - كصياد - ذائعة في (أشقودراه) فإذا حملت بندقيتي ورافقني كلبي واتجهت خارج المدينة نحو الغابة، فإن الأنظار لا تلتفت إليّ، وبذلك أستطيع أن أرى بنفسي محتويات الكهف على أن أكون مع بيرام على موعد، ولكن! بعد أن أطلع على الأشياء التي سيأتيني بها الليلة.
ترك محمود دروسه بعد الظهر وبقي مع فريد في حجرة الطعام يشربان القهوة بعد القهوة، ويدخنان (السيجارة) بعد (السيجارة) ينتظران بصبر قليل وشوق كثير عودة بيرام، وكانا كلما سمعا طرقاً بالباب قفزا من مقعديهما يستبينان الطارق، وقبيل الساعة الخامسة وصل بيرام وبعد أن تصافحوا قال فريد لبيرام مشيراً إلى محمود:
- الأستاذ محمود، صديق مخلص، ومدرس نابه، يحمل أرفع الشهادات، ويكتب في أرقى الصحف والمجلات. وإننا في أشد الاحتياج إليه ليقفنا على قيمة الكنوز التاريخية. فقال القروي في غير استغراب، تشرفنا يا سيد محمود؛ ثم التفت إلى فريد وقال: أنت أعرف بما يفيدنا وبمن يفيدنا في هذه المهمة، وقد اعتمدت بعد الله عليك فتصرف أنت حسبما تريد. فقال فريد: ولكن لينمحي كل أثر في نفس محمود يود أن يسمع منك وصفاً مجملا لكيفية عثورك على الكهف من الوقت الذي وقعت فيه فأسك على البلاط لأول مرة، فشرع القروي يقص عليهما في هدوء ما سبق أن تحدث به فريد الصباح. وقد حاول محمود أن يتأكد إن كان صادقاً حقاً، فأمطره وابلا من الأسئلة التفصيلية كان يجيب بيرام عليها بمهارة حملت محموداً على الاعتقاد بأن ما يقوله حق لا مرية فيه.
كانت المائدة قد أعدت فأخذوا يتناولون الطعام ونظر فريد ومحمود لم يرفعا عن بيرام الذي كان يأكل في غير نهم ولا شره وهو يجيب على ما يوجه إليه في هدوء ورزانة. وبعد أن انتهوا من طعامهم شربوا جميعاً القهوة واستأذن بيرام في الانصراف، وقبل أن يأذنا له أكد عليه ألا يتأخر عن المجيء بالعينات الليلة مهما تكبد من مشقة. وذكره فريد بما يلزم الإتيان به فطمأنهما بيرام بقوله: لكما ما تريدان. والتفت إلى فريد وقال: سآتي بما أمرت
به يا سيدي. ثم مد يده مصافحا، فاستوقفه فريد وأسر إليه: هل أنت في حاجة إلى نقود أخرى؟ فقال بيرام بصوت مسموع. - لا يا سيدي لا يلزمني شيء! ماذا أفعل بها؟ ثم خرج. ولما عاد فريد إلى مجلسه نظر إلى محمود يستطلع رأيه في إجابات القروي وكل حديثه، وسأله عن الأثر الذي تركته مقابلته له. فقال محمود: ألا تعتقد معي أننا لو أدمنا التفكير في هذه المسألة لذهبت عقولنا من فرط السرور؟ وأي إنسان يعتوره أدني شك في كلام هذا الرجل الساذج؟
وبينما هما منهمكان في حديثهما هذا وإذا باب الحجرة يفتح ويدخل السيد عفت والد فريد ويحييهما تحية المساء. ثم صافح صديق ابنه والتفت إلى فريد وقال: لقد انتظرتك في المتجر فلم لم تجيء؟ فقال فريد في سرور:
- شغلني عن المجيء أمر مهم سيدر علينا مالاً كبيراً، فرفع الرجل عينيه وتأمل ابنه مليا في دهشة واستغراب كأنه يستوضحه فقال له فريد: سأقص عليك حكاية غريبة. فأخذ الرجل يجيل طرفه في وجهي الشابين اللذين كانت تلمع عيناهما سرورا؛ فلم يشأ فريد أن يطيل حيرته فأخبره بمجيء القروي في الصباح وما كان منه وانه كان معهما منذ قليل، وقد فارقهما على أن يعود حاملا عينة مما وجد. . .
تعجب السيد عفت مما سمع، ولم يصدق بادئ ذي بدء لكنه أذعن أخيراً عندما أكد له محمود الخبر وأنه ناقش بيرام كثيراً، ووجه إليه أسئلة عديدة وأن بيرام كان يجيب دون تردد ولا تلعثم، ثم هو فوق ذلك أكبر من أن تحوم حوله الشبهات، فهو سليم القلب، طيب النفس، نقي الضمير. . . ومع إذعان السيد عفت لم يبد عليه أن هذا الخبر سره كثيرا كما فعل الشابان فقد جلسوا معا وقتا غير قصير تدور أحاديثهم حول الموضوع، فلما لمس الشابان أنه لا يشاركهما الفرح استأذناه في الخروج.