الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 663
- بتاريخ: 18 - 03 - 1946
إرادة الغفلة
للأستاذ عباس محمود العقاد
زيد وعمر تاجران لهما دكانان في حي من الأحياء.
وأنت تروّج بضاعة زيد وترغب فيها أبناء الحي وبناته. فليس لك في هذه الحالة إلا وسيلة من وسيلتين: إحداهما أن تثنى على الأصناف الجميلة التي يعرضها زيد في دكانه ولا وجود لها عند غيره، وأن تشيد برخص الأسعار وحسن المعاملة التي يلقاها المترددون على ذلك الدكان.
والوسيلة الأخرى أن تتناول عمرا بالقدح والتشهير وتنحى بالعيب على سلعة يعرضها وكل ثمن يطلبه وكل معاملة يتلقى بها قاصديه، وتتهمه بالاحتيال عليهم بهبوط البضائع وارتفاع الأسعار.
دعاية مكشوفة وأخرى مستورة، ولكنهما تؤديان إلى نتيجة واحدة، وهي كساد واحد ورواج الآخر من الدكانين.
ولا شك في هذه الحقيقة ولا خفاء.
ولكنهما على ما يظهر لنا تحتملان الكثير من الشك، وتحاطان بالكثير من الخفاء عند أناس في هذا الشرق التعس يزعمون لأنفسهم أنهم (يفهمونها وهي طائرة) وهم لا يفهمون ما يحبو على أربع فوق جدار العينين.
في أيام الحرب الطرابلسية حمل المسلمون والشرقيون على الدولة الإيطالية حملة المظلوم المشترك في المصاب، فكانت حملتهم عليها حملة رجل واحد لا يشذ عنها مسلم أو شرقي كائناً ما كان مذهبه في السياسة والدين.
ثم عملت الدعاية الإيطالية عملها الذي لم تنقطع عنه قط في إبان الدولة الفاشية، فسكت عنها من كان قائماً قاعداً بالحملة عليها وعاش منهم من عاش في بلادها وبين أكناف حكومتها.
ثم نشبت الحرب الحبشية وتجددت الثورة على إيطاليا في الشرق العربي من أقصاه إلى أقصاه، وكانت الثورة عليها شاملة للمسلمين والمسيحيين وجملة العرب والشرقيين، لأنها ثورة المظلوم على الظلمة المستعمرين.
وهؤلاء أصدقاء إيطاليا الجدد ماذا يصنعون؟
لقد كانوا بالأمس يحملون عليها فكيف يحملون عليها اليوم؟
إنهم قبضوا الثمن ولا بد من الوفاء بالبضاعة.
أو قل إن الإيطاليين بذلوا المال ولن يثابروا على بذله إلا إذا استفادوا منه بعض الفائدة.
فما هي الفائدة المنظورة؟ وما هي الفائدة المستطاعة!
أما الترويج لدكان (زيد) فغير مستطاع.
فلم يبق إلا التشهير بدكان عمرو المسكين. . . ورزقه على الله!
وكذلك قد كان!
وكذلك ظهر للسادة (الغيورين) على حين غرة أن النجاشية الذين جلسوا على عرش الحبشة في ماضي العصور وحاضرها كانوا يظلمون المسلمين ويعطلون شعائر الإسلام.
ولتسقط (الحبشة) معناها (لتحي إيطاليا) في ذلك الصراع القائم.
وتمت الصفقة على هذه الصورة بين قبض الثمن وتسليم البضاعة من غير الطريق المستقيم.
أما أنت أيها الرجل الذي لم تقبض ثمناً ولم تسلم بضاعة فقد باعك هؤلاء الدجالون واشتروك وأنت لا تدري ما تفهم وما تقول.
إن دخلت في الصفقة ومضيت مع التيار الذي حملوك عليه إلى حيث يشاءون فأنت كما رأيت بضاعة تباع وتشترى.
وإن فتحت عينيك وقلت لهم إنكم دجالون منافقون، وإنكم سماسرة استعمار مأجورون - فأنت إذن لست بالرجل الغيور على الدين، ولست بالمسلم المنافح عن الإسلام والمسلمين، ولكنهم هم الغيورون المنافحون. . . هم أولئك الدجالون المنافقون، الذين يبيعون فيك ويشترون!
ودارت الأيام ورأينا مذاهب النازية ومذاهب الديمقراطية تصطدم في أخطر ميدان.
ثم دارت الأيام ورأينا الشيوعية والديمقراطية تتصارعان.
وعادت حكاية الدكاكين من جديد: دكان زيد ودكان عمرو في الحي المأهول بالشرقيين المساكين.
أما الدعاية لزيد فعرضة للاتهام الصريح.
فلماذا يتعرض لها (السماسرة الأمناء) وهم في غنى عنها بالإنحاء على عمرو في غير حرج ولا مبالاة.
لتسقط الديمقراطية معناها لتحي الشيوعية. . . والثمن مقبوض والبضاعة مسلمة، وكفى الله المؤمنين القتال.
فالديمقراطية إذن كذب وخداع، والديمقراطية إذن فخ منصوب للضعفاء، والديمقراطية إذن مسئولة عما يجنيه الديمقراطيون، والديمقراطية إذن هي مصدر البلاء وعلة الشرور.
وما شأن (الشيوعية) يا هؤلاء؟
شأنها أنها بذلت الثمن في الخفاء، فلا يليق أن تذكر في معرض النقد والاستياء.
هي ملك معصوم، أو هيشيء مسكوت عنه إلى أن يخرب دكان عمرو فيقبل (الزبائن) على دكان زيد طائعين أو مكرهين.
ومن المحقق أن الديمقراطيين يكذبون ويخدعون، ولكن من المحقق كذلك أن الديمقراطية خير من الاستبداد بعد كل ما يقال عن مساوئ الديمقراطيين.
هل تسقط الديمقراطية لأن الضعفاء في الأرض لا يعاملون اليوم معاملة الأقوياء.
هل تسقط الديمقراطية لأن الأرض البشرية لم يهبط عليها فردوس الملائكة أو لم ترتفع إلى ملكوت السماء؟
إن كانت المذاهب تعاب بذنوب أبنائها فماذا نقول في المسيحية والإسلام؟ وماذا نقول في سائر الأديان؟
منذ القدم تبشر الأديان بالخير ولا يزال الشر في هذه الأرض كما نراه، فهل نقول إن الأديان لم تنفع أبنائها بشيء لأنهم لا يسلمون من الخسار؟
منذ القدم تنص الشرائع والقوانين على عقاب الأثمة والمجرمين. ولكن الأثمة والمجرمين لا ينقطعون ولعلهم لا ينقصون. فهل نقول من أجل ذلك: دعوهم يجرمون ويأثمون وأغلقوا المحاكم وافتحوا أبواب السجون؟
منذ القدم ننادي بالإصلاح ويعمل الناس أعمال المفسدين. فهل نقول من أجل ذلك إن الفساد خير من الصلاح وإن الدعوة إلى الإصلاح سعي عقيم ورأي سقيم؟
إن الذي ينكر الديمقراطية لأن الديمقراطيين يلامون ويعملون ما يستنكره المنصفون لخليق إن ينكر القوانين والشرائع لأنها تنادي بالخير ولا يزال في الناس شر كثير.
ولكنهم مع ذلك يقبضون الثمن ويعقدون الصفقة، ويدخلون فيها تلك الرؤوس التي تستمع إلى ذلك الهراء الذميم فتصغي إليه وتقرهم عليه.
ودعوا دكان عمرو أيها الناس.
وهات يا زيد أجرتك. . . فقد أقبل عليك أولئك الناس.
كان دارون يتحدث عن إرادة الحياة أو حب الحياة.
وكان نيتشه يتحدث عن إرادة القوة أو حب القوة.
فإذا جاز لنا أن ننشئ مذهباً جديداً نستمده من غفلة الأغرار وحيلة الشطار قلنا إنها (إرادة الغفلة) قد أصابت أناساً من الشرقيين بينهم المجال لكل أفاك دجال، وأصبحوا بين أمم العالم أعجوبة من الأعاجيب، لأن أمم العالم تخيب بينهم ألف تدجيلة لكي تصيب بينهم تدجيلة واحدة بعد طول التلفيق والتدبير وتكرار المحاولة والتزييف. أما هؤلاء المصابون (بإرادة الغفلة) من شرقيينا الأعزاء، فما أسرع من ظهور التدجيلة بينهم إلا أن يقبلوها ويقبلوا عليها، لأنهم يتلذذون بالاستغفال كما يتلذذ بعض الرجال بالإغضاء عن العرض في غير سبيل. . . ولو سبيل المال.
وأقسم إننا لا نمزح فيما نقول، لأن الغفلة لذة عند المغفلين المطبوعين على هذه الخليقة. فهي نوم أو استرسال، ولا عناء في النوم أو الاسترسال، وإنما العناء في اليقضة والانتباه، ومن ترك المخدوع ينام ويسترسل فهو لا يزعجه بهذا الترك المريح، ولكنه يزعجه أشد الإزعاج حين يفتح عينيه ويصيح في أذنيه، ويحذره من اللصوص والطراق.
معشر الدجالين!
ما قولكم في مذاهب الإصلاح كلها منذ القديم؟
إن قلتم إنها باطلة فقولوا عن الديمقراطية إنها باطلة لأنها لم تحسم الشرور ولم تجعل الديمقراطيين من الملائكة الأبرار.
وإن طال بكم المطال على هذا المقال فالبركة في (إرادة الغفلة) التي تفتح لكم مجال القول فتقولون ما تشاءون.
عباس محمود العقاد
صحائف مطوية:
أول زيارة للمسجد الأقصى
للأستاذ أحمد رمزي
كان حتماً عليّ أن أسافر بالباخرة التركية (أزمير) من ثغر الإسكندرية في ربيع سنة 1935، وإذا تأخرت احتج رياض بك الصديق العزيز مدير المستخدمين، ومحبته لدي فوق كلشيء، فلم يكن هناك بد من أن ألحق قطار الصباح المبكر من محطة صغيرة بالريف المصري لأكون على الباخرة قبل موعد سفرها. وكانت الساعة الرابعة صباحاً حينما استيقظت وخرجت من منزلي في يوم برده محتمل وسماؤه لا تزال نجومها ظاهرة، ورذاذ من بعض المطر الليلي يتساقط من جريد النخل العالي، وكان أمامي أكثر من كيلو متر ونصف سرتها على شريط السكة الحديدية قفزاً على الفلنكات الخشبية، حتى دخلت القرية وأهلها نائمون. وقد ظهر ضوء المحطة من بعيد، فإذا بقهوة عبد القدوس في الشارع الرئيسي تفتح أبوابها وعلى مقعدها قارئ يرتل آيات الذكر الحكيم، ما طللنا على الزاوية إلا وهو يستقبلنا بقوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) تهلل وجهي واستبشرت وفرحت بهذا اللقاء وزال أثر التعب، وعددت هذه نعمة من نعم الله.
ولم يمض على ذلك سوى شهر أو بعض شهر حتى صدر أمر ملكي عينت بمقتضاه قنصلاً لمصر بمدينة القدس على رأس قنصلية عامة يشمل اختصاصها كل أراضي فلسطين وشرق الأردن، فانتقلت من حياة ألفتها في تركيا أو عودت نفسي عليها إلى حياة أكثر نشاطاً وإنتاجاً وحركة وأعمق أثراً، ورددت كل ذلك إلى القارئ الذي استفتحت بوجهه.
شعرت بأن نفسي قد اطمأنت وقنعت وتركزت حينما نسيتني وزارة الخارجية لمدة تزيد على سبع سنوات في أراضي الجمهورية التركية، فغدوت لا أشكو منشيء ولا أطلب الرحمة من أحد، وتحجر قلبي فلم أعد أخاف من الوعيد أو التهديد، أو يحركني التهويش، وكنت أنظر إلى الماضي فأراه قد مرّ بغير تبديل، وإلى المستقبل فأقول بأنه سيمر على وتيرة واحدة كما ذهب الماضي، وأحدث نفسي بأن أرجو لكثيرين من ذوي الأطماع والنفوس الطامحة أن ينتهوا إلى الحالة النفسية التي انتهيت إليها، ذلك لأنني بمضي
السنوات ومرورها متشابهة متلاحقة، وجدت اليقين المفقود ووصلت إلى تسكين البال وراحته، وهما أعظم ما يمكن أن يصل الإنسان إليه إذا بقى اسمه منسياً. ومر عليّ هذا الزمن وهو مملوء بالحوادث أتفرج عليها وأقيدها وأتأمل فيها، وكان أكبر انتصار على النفس هو أن يردها صاحبها عن أن تقف في الصف الأول أو يقعدها عن أن تزج بنفسها في أمور لا يتسامى إليها إلا أولو العزم الشديد والعبقرية الفائقة.
ووصلت إلىشيء من ذلك بالمران حيناً وبالضغط أحياناً حتى وفقت لحد ما إلى تكييف حياتي، فلاءمت بينهما وبين عملي وتفكيري، وعودتها الرضا مع اليقظة والقناعة مع الانتباه، ولم يمض وقت طويل حتى تبين لي أن أعظم الأشياء والحوادث من سياسية واجتماعية والتي يراها الناس بمظهر الجد ويلقون عليها مسحة من الاهتمام، تفقد رونقها الجدي وأهميتها إذا نظرنا إليها بنظرة بعيدة عن الجد، وحللنا كل موقف وكل حركة على أنها إنسانية صرفة. وقد أتاحت لي الخدمة بالخارج معاينة الكثير من هذه المواقف فأصبحت بعض المسائل ذات الصف الأول مثاراً للضحك والسخرية لو عرف الناس حقيقتها الأولى.
إن اعتقاد الكثيرين من الناس أن لديهم مزايا خارقة للعادة، وغالبيتهم من الأذكياء كان سبباً في وقوعهم في أخطاء، من ذلك توهمهم أنه بوسعهم غش المجتمع الذي يعيشون فيه أو الضحك على لحى كل من يتصل بهم، والوصول إلى تغطية الحقائق وإنكارها مدة طويلة من الزمن. إن هؤلاء قابلتهم كثيراً في أوساط الأمم الشرقية فكانوا أول الضحايا لأطماعهم، وكانوا هم المخدوعين بأنفسهم حينما حاولوا خداع الناس وغشهم. وكانت هذه الأفكار تعاودني في وقت انتهيت فيه إلى الاكتفاء بما كنت عليه، إلى الاقتناع بأن كفايتي وعمل تجاربي وهذه هي كل رأس مالي، أقول قد أوصلتني بالطرق والأساليب التي أطمئن إليها للنقطة التي تركزت فيها، فلم أكن أفكر ولا أؤمل ولا أنتظر شيئاً من التغيير أو التبديل أو المزيد.
هذه كانت حالتي حينما دهمتني حركة من حركات السلك السياسي المصري، فإذا أنا بغير تحضير أو بذل مجهود أو رجاء، أنقل من بلاد اقتطعت سبع سنوات ونصفاً من عمري في دراستها وفهمها إلى بلاد جديدة أعلم عنها أشياء وأجهل عنها أشياء، وما أجهله أكثر مما
أعلمه برغم قربها وجوارها ومحبتي لها.
وكان هذا النقل حداً فاصلاً في حياتي، إذ لو بقيت بتركيا أو نقلت لأمريكا لاتجهت حياتي اتجاهاً آخر، ولربما لم يكن لي هذا الشرف بان أكتب هذه الكلمة، وأن يقرأ لي قراء الرسالة بعض ما أكتب اليوم. ولقد جاءت هذه النقلة وليدة المصادفة والأقدار، رمية من غير رام، ذلك لأن أولى الأمر لم ينظروا فيها إلى تحقيق شيء من المصلحة العامة أو ما يلابسها من اختيار الأصلح أو الأوفق وإنما قصدوا سد خانة من بعض خانات كانت مفتوحة أمامهم فقذفوا بي إليها، وكان ذلك من حظي إذ غدوت جندياً من جنود الإسلام والعروبة حينما تفتحت أنظاري على أرض فلسطين ومنازل الوحي الخالدة والنبوة.
وحضر قوم لتهنئتي أو لتعزيتي، إذ المتفق عليه أن القدس والشرق منفى يرسل إليه من أفلس في بلاد أمريكا وأوروبا ليستجم ثم يعود إلى بلاد النور. وهذا ما تراءى لهم، وقد كان يصح أن يبدو لي شيء من ذلك، ولكن الآية التي سمعتها من ذلك القارئ الأعمى في محطة من إقليم الشرقية كانت تخفف وقع كل هذا علي وتجعلني أسلم بأن في ذلك الخير كل الخير، وأقول هذه إرادة المولى:(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
ووصلت إلى مدينة القدس في الجزء الأخير من سنة 1935 لأتولى عملاً جديداً ولألقى وجوها جديدة. وكان أول ما قمت به هو توجهي لزيارة المسجد الأقصى، وكان ذلك في شهر رمضان، ودخلته وأنا على نية ثابتة بأنه المسجد الذي ورد ذكره في الآية التي تلاها القارئ.
ودخلته وقد غمرتني نفحة من نفحات الله، جعلتني أشعر في قرارة نفسي بحوادث التاريخ الجلي التي حملها على هذا الصعيد، وكأن كل ركن من أركان هذا المسجد يشير إلي، وكأن كل حجر من أحجار قبة الصخرة يحادثني. ثلاث عشرة مائة من السنين، تركة ضخمة من الجهاد والمجد، هل يدرك أهلها ما هي؟
إن الأمم الإسلامية التي نعيش وسطها ونحيا، كانت تبدو في ذلك الوقت وقد أفلست إفلاساً يكاد يكون تاماً في حياتها وتنازلت عن حيويتها وعن أي مظهر من مظاهر الإستقلال، حتى اعتقد كثيرون أنها موطن الخمود والنوم والجمود والتخاذل، فهل تكون لها عودة؟ وهل تقوى أذرعتها ونفوسها الواهية على حمل الأمانة؟ أم ستقعد بها الهمم؟ يوم لم تعد
تفكر في شيء سوى ملاذها وتكالبها على المادة وما تسوقه غليه غرائزها الواهية، حينما فقدت كل عناصر القوة والأنفة، وانحطت إلى درجة الجماد فلم تعد تهمها هذه المساجد والمدارس، أو تترك في نفوسها شيئاً أو بعض الشئ، وبعد أن خيل إلى كثيرين أن ماتت لديها كل دوافع الكفاح وفنيت فيها بواعث الثورة والدعوة لخير العمل؟
كنت أطوف بالصخرة وأنا أتأمل كل ذلك وأقول متى تتحرك أم العروبة وتنهض من كبوتها وتستيقظ من نومها العميق وتخلع ما هي فيه من ذلة ومسكنة؟ إن كل ما أراه أمامي في وجوههم وسيرهم ومعاشهم وفي المدن وفي القرى يدعو إلى الأسى والألم، وهم بعيدون كل البعد عن حيوية المبادئ التي قامت عليها الرسالة المحمدية الكبرى.
سرت في أنحاء الحرم وهو متسع الأرجاء، لا أقول يكاد يكون خالياً، بل هو أكثر من أن يكون خالياً، أما أنا فتخيلته في نفسي يفيض بصفوف المصلين: كان يبدو لي صحنه ووجهاته وجوانبه يوم الفتح الأكبر، يوم دخله سلطاننا صلاح الدين بجند مصر فأقام أول صلاة للجمعة فيه، وكيف تبارى العلماء والفضلاء فجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون خطيب ذلك اليوم.
كنت أفكر كيف أذن المؤذنون على منائر المسجد الأقصى وأسواره فارتجفت المدينة بأصوات التكبير والتهليل، ومر أمامي كيف تقدم الملك السلطان المتواضع بقبة الصخرة فرسم للقاضي محي الدين محمد بن زكي الدين علي القرشي، أن يخطب، وكيف ألبسه العماد الكاتب جبة سوداء من تشاريف الخلافة العباسية، فلبسها وصعد المنبر واستفتح بسورة الفاتحة، فقرأها بأكملها، وقرأ أول سورة الأنعام، ثم قرأ من سورة الإسراء، ثم قرأ من سورة الكهف، ثم من سورة النمل، ثم من سورة سبأ، ثم من سورة فاطر، كما تجد ذلك مفصلاً في كتاب الأنس الجليل.
ثم شرع بالخطة فبدأها: (الحمد لله معز الإسلام بنصره) وصلى على نبيه الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى. . . وذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وصلى على آله وأصحابه والتابعين؛ وقال (أيها الناس ابشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام. . . وتطهير
هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه). . . لقد جددتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية. . .)
كان كل هذا يمر أمام عيني ورأسي مطرق وخطواتي سريعة وأحبس الدمع في عيني حتى انتهيت من قبة الصخرة واتجهن إلى المسجد فدخلت إلى المحراب لأقرأ أثر السلطان المجاهد بحروف ذهبية:
(أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين ما فتحه الله على يديه سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة).
فأديت تحية المسجد في هذا المحراب الخالد وترحمت على بانيه وعلى أرواح الشهداء وشعرت براحة تملأ نفسي حينما خرجت متجهاً إلى المجلس الإسلامي الأعلى، ماراً بمدرسة قايتباي سلطان مصر، واستقبلني أعضاؤه ومعهم سماحة مفتي فلسطين الأكبر، وقد غمر الإيمان نفسي وتملكتني نشوة لم أتمالك لساني عن التعبير بما يجول بين جوانحي. قلت:
(إننا في فلسطين ومصر أمة واحدة، اشترك الآباء والأجداد في هذا التراث الإسلامي العربي كما اشتركنا في السراء والضراء، فهم قد واجهوا الموت معاً، وعاينوا الهزائم سوياً، كما فرحت نفوسهم بأيام النصر المتلاحقة المتتابعة. وها نحن اليوم نلاقي من أيام الشدائد ما يذكرنا بالأيام الحالكة السواد التي عاشها السلف ومن تقدمنا، فهل كانت أيامهم أقل سواداً من الأيام التي نعيشها؟ كلا كانت أشد وأوقع، فلم يفت ذلك في عضدهم ولا لانت قناتهم أمام مصائبها، ولذلك ألقوا علينا درساً باستشهادهم وموتهم وهزائمهم ومعاركهم وانتصاراتهم، ألقوا علينا درس يقظة وصبر وأناة وعناد وتمسك بالعروة الوثقى وتعاليم الإسلام الخالدة.
يا صاحب السماحة! إن دروس الماضي باقية في نفوسنا لن تبيد أبداً، وإننا نستمد منها قوة إذا ضعفت قوتنا، ونستلهم من وحيها آمالاً إذا ضعفت آمالنا في المستقبل. وإننا لنأتي إلى هذه البقعة الطاهرة وننظر إلى هذا الجامع وإلى صحنه ورحباته وصخرته فنجدد عهدنا لكم، وتغمرنا روح الإيمان والثقة والتمسك والأمانة التي في أعناقنا نحن إخوانكم الذين
اشتركنا معكم طول القرون الماضية، ولنؤكد لكم مرة أخرى أن مصيرنا مرتبط بمصيركم وأن حياتنا لا قيمة لها بدونكم.
وأقول أننا نعيش أياماً مملوءة بالآلام والأحزان، ولكن المستقبل لله وحده، وهو الذي ذكرنا في محكم آياته، وأنزل سكينته على قلوبنا وخط في سجل القدر أن هذه الأرض لنا، وأن الأيام التي وعدنا بها مرة بعد مرة، آتية لا ريب فيها.
إن كل الدلائل لتقنعني أن الأمم ومعها مصر ستبعث بعثاً جديداً). . .
كانت عيونهم تفيض بالإيمان ودموع الغبطة، وكانت مودة وصداقة وأخوة، وبدأت حياة جديدة ودخلت دنيا يعمرها الإيمان والعمل في سبيل الله، وكان التوفيق وحقت كلمته تعالى فكانت هي العليا.
حصل ذلك في صباح يوم السبت 14 ديسمبر 1935 وكانت أول زيارة رسمية لي بالقدس وأول عمل أبدأه.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
على هامش النقد:
(بين الفلسفة والأدب)
تأليف الأستاذ علي أدهم
للأستاذ سيد قطب
عنوان يلخص موضوعات الكتاب، ويلخص الكاتب في الوقت ذاته - وهي مصادفة فذة! - فالكتاب بين اتجاهين في كل موضوعاته: إما فلسفة الأدب، وإما أدب الفلسفة. والكاتب كذلك في هذا الكتاب وفي سواه من كتبه وبحوثه يتجه إلى هذين الاتجاهين؛ فهما قطبا تفكيره وإحساسه بالحياة. سواء كتب في الأدب أو الفلسفة أو التاريخ وهي موضوعاته المختارة
أخرج قبل هذا الكتاب: محاورات رينان (مترجمة)، وصقر قريش، والمنصور بن أبي عامر، والخطايا السبع (مترجمة). والمذاهب السياسية المعاصرة. ونظرات في الحياة والمجتمع. كما نشر عشرات الفصول في شتى المجلات في مثل هذه الموضوعات.
وحيثما نظرت في عمل من أعماله لاحظت أنه ينظر للأدب بعين الفيلسوف، ويتذوق الفلسفة بحس الأديب، ويتناول الشخصيات والحوادث بشعور مزيج من الفلسفة والأدب على السواء
والأستاذ أدهم هنا في كتابه الجديد يجول في ميدانه الأصيل، ويستخدم أفضل ملكاته، فينتج أفضل نتاجه. فالكتاب مجموعة فصول متفرقة يلخصها العنوان المتقدم، وتحتوي على الموضوعات التالية بعد المقدمة:(ملتقى الشعر والفلسفة، موازنة بين أبي العلاء وشوبنهاور، أبو العلاء وفلسفة التاريخ، تولستوي وفلسفة التاريخ، شوبنهاور وفلسفة التاريخ، فكرة التقدم، فلسفة تاريخ الفلسفة، البطل والإنسان الأعلى. السياسة والأخلاق، التمرد على العقل، التاريخ والأبطال)
فهي من حيث الموضوع تلخص اتجاهاته جميعاً على حسب ما أسلفنا. وهي من حيث الشكل فصول مستقلة. وفي هذا النحو من الكتابة يتفوق الأستاذ على أدهم. وهو هنا خير منه في أي كتاب ذي موضوع واحد وفصول مترابطة داخل هذا الموضوع
ولست أدري إن كان هذا القول يسره أو يغضبه. ولكنه هو الواقع - في تقديري - فهو حين يكتب بحثاً في مقال تتجلى أفضل خصائصه من الدقة والعمق والوضوح، والإحاطة بأطراف موضوعه، وتحليلها للقارئ، بحيث تعطيه الكفاية التي يستريح إليها في حيز محدود؛ وبحيث يشعر أن في هذا الفصل غناء، ما لم يكن هواة المراجع المطولة في الموضوع الذي يطالعه
فهو كاتب مقالة جيد، بل هو في الصف الأول عندنا من كتاب المقالة.
ويحسن أن أصوب هنا خطأ أو بدعة يروّجها من يفهمون الأدب كما يفهمه عشاق الأزياء و (الموديلات)!
لدينا طائفة من هؤلاء يفهمون أن لفنون الأدب مواسم ومواعيد، ولكل فن أو لكل (موديل) باباً معيناً لا يتعداه.
فأدب المقالة قد انتهى في عرف هؤلاء المتحذلقة، كما أن الأوان هو أمان القصة، وكل ما ليس بقصة فهو فصل وتخلف في الأدب.
وفي وقت ما كان المطلوب من الأدباء أن يكتبوا تراجم أو يوميات. وكان المطلوب من الشعراء أن يكتبون ملاحم أو مسرحيات! كما يطلب من الأدباء اليوم أن يكتبوا قصة أو أقصوصة، وإلا فهم متخلفون!
كل هذه الحذلقات منشؤها ضيق الأفق وضعف التذوق، والنظرة إلى الأدب كالنظرة إلى الأزياء كما أسلفت، لكل موعد وإبان!
والحقيقة أن لكل لون من ألوان الأدب موسمه الحاضر في كل آن، والعبرة هي بطريقة التناول لا بشكله، وكل ميسر لما خلق له، وكل أدب أصيل في ذاته فهو أصيل في شكله على تعدد الأشكال وتباعد الأعصار، والمفاضلة بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي به مفاضلة زائفة، فالفنون كلها من هذه الناحية سواء
وإذا لم يكن بد من المفاضلة، فإنني أحس أن كتابة (المقالة) قد تكون أشقها جميعاً. إذا أردنا أن نحصل على مقالة جيدة، فلا بد في المقالة من فكرة وموضوع، ولا بد من تنسيق داخلي في تسلسل الموضوع، لا يقل عن التنسيق الخارجي بين الفصول المتعددة في الكتاب أو القصة أو المسرحية أو في الترجمة. وأقل فراغ في المقالة أو تقصير يظهر للقارئ بارزاً،
في حين قد تختفي هذه المواضع في القصة، لأن الحكاية أو الحبكة تغطي عليها.
ولا أحب أن أرتكب الغلطة ذاتها التي يقع فيها من يفاضلون بين فنون الأدب على أساس الشكل الذي تؤدي فيه. ولكني أريد أن أقول: إن أدب المقالة ليس أسهل ولا أقل مؤنة من سائر الآداب.
ونعود إلى كتاب الأستاذ أدهم، فأقرر أنني خرجت من كل فصل من فصوله بفكرة واضحة كاملة عن موضوعه - بمقدار ما تستطيع (مقالة) أن تحيط بحدود الموضوع - وكل فصل من هذه الفصول لا يقف عند إعطاء فكرة عن الموضوع الذي يعالجه، بل هو يصلح مرجعاً قريباً للباحث في موضوعه، وعلى الأقل مفتاحاً لمراجعه ودليلاً إلى هذه المراجع مأمون الإشارة، موثوقاً بصدقه في الهداية إلى الطريق!
ويشعر القارئ - مع سهولة الأداء ودقته ووضوحه - بأن هناك جهداً ضخماً قد بذل في التحضير، وإخلاصاً للبحث قد توافر في المراجعة، وتثبتاً وتدقيقاً أمام الجزئيات التي يعرض لها. . . وهذه الخصائص هي أقوى ما تطلبه من كاتب يقدم لك قطافه من شتى حدائق الفكر في الشرق والغرب في حيز صغير محدود
كذلك يشعر القارئ في نهاية قراءته للكتاب أنه خير منه وأوسع نظرة إلى الأدب والأشخاص والحياة قبل أن يقراه - وهذه ميزة ليست بالقليلة، وليست كذلك بالشائعة في الكثير مما تخرجه العربية من سيل الكتب في السنوات الأخيرة - بل لا أبالغ إذا قلت: إنها لا تتوافر إلا لعدد محدود من الكتب الكثيرة التي تصدر في كل عام.
ومع أن طبيعة الموضوعات التي تناولها الأستاذ علي أدهم تجعل مجال الخلق الفني فيها محدوداً، إلا أنها استعاضت عن هذه السمة سمات أخرى من الدقة والعمق والوضوح تجعلها في النهاية عملاً فنياً في هذا الحيز المعلوم، وبخاصة ذلك الفصل القيم الذي كتبه عن أبي العلاء، فهو من أفضل ما قرأت عن المعري في القديم والحديث، وقد جاء في مقدمة المؤلف قوله:
(عمل المفكرين والفلاسفة هو إعداد الجو الذي يموج بمختلف الآراء والمذاهب والنظريات. ومن طبيعة القوة الخالقة أنها لم تكشف الأفكار ولا تبتكر النظريات، ولا توجد المذاهب الفكرية، لأنها موكلة بالبناء والتركيب والإنشاء، وليس من أربها الكشف والتحليل
والتوضيح والتفسير. فهي تتناول الأفكار والمذاهب والنظريات، وتنفخ فيها روح الحياة، وتضفي عليها الحلل السابغة والألوان الزاهية، ولكي يزدهر الأدب ويسمو الفن، لا بد من وجود هذا الجو المليء بالأفكار، الحافل بالمذاهب والنظريات. ومن ثم كانت أزمة الخلق الأدبي العظيم في تواريخ الآداب قليلة نادرة؛ وبلوغ هذه الذروة في الأدب والفن يستلزم تلاقي قوتين: قوة العبقرية الخالقة، وقوة الزمن. والشاعر أو الكاتب أو الفنان يسمو ويتسع أفقه إذا عرف أشياء قيمة عن الحياة والدنيا قبل أن يتناولهما في فنه؛ والتفكير الفلسفي يجدي على الأدب ويزيد ثروة الخيال، ويعين على إطلاق العقول من قيود الأهواء والنعرات، وتصفيتها من شوائب التعصب والضيق؛ وتأمل عظمة الكون وجلاله، يكسب الفكر عظمة وجلالاً. وقد تخفق الفلسفة في معالجة مشكلات الحياة ومسائل الوجود، وربما كانت تلك المشكلات والمسائل من وراء طاقة عقولنا المحدودة؛ ولكني أعتقد أنها توفق على الدوام فيشيء واحد، وهو أنها ترينا أن الكون أرحب مما نقدر، وأعظم مما نرى).
وهذه كلمات جيدة، وهي تعطي القارئ فكرة عن طريقة المؤلف في تناول موضوعاته؛ وفكرة عن نظرته للحياة والأدب والفلسفة أيضاً، وهي جديرة بأن تفتح أعين الأدباء الخالقين من الشعراء والقصاصين وغيرهم على أن الموهبة وحدها لا تكفي، فلا بد من التزود والاطلاع، لا في موضوع فنهم وحده، ولكن في محيط أوسع، يشمل الفلسفة فيما يشمل.
ومع أنني أنا شخصياً ممن يدعون إلى تلخيص الفن، والشعر خاصة، من ربقة الذهنيات؛ إلا أن القصد والاعتدال والدقة في بيان الأستاذ أدهم لمنطقة الفلسفة ومنطقة الفن في مقدمته وفي الفصول التي تلتها، تجعلني أتفق معه في وجوب تنوع الدراسات والثقافات لمن يريد أن ينشئ فناً ذا قيمة إنسانية.
وكل ما أبديه من تحفظات هو إلا تظهر الذهنية، وقد أغالي فأقول، بل الفكرية، في العمل الفني، وبخاصة الشعر الذي أحب له أن ينطلق مرفرفاً متخففاً من أثقال الذهن المقيد، والفكر الواعي على قدر الإمكان.
وفي النهاية أذكر أن كتاب الأستاذ أدهم قد حقق في اللغة العربية قسطه المناسب من تحقيق هذا الغرض الذي يريده مؤلفه. وهو (تزويد الثقافة المصرية العربية الشرقية بطائفة من
الأفكار والآراء والنظريات التي تمهد السبيل للخلق الأدبي والفني العظيمين)
وقد حقق هذا الغرض بأكثر مما حققتها كتب كاملة ظهرت في بعض الموضوعات التي تناولها أوفى موضوعات قريبة منها. وذلك بلا شك حسب فصول مختصرة في كتاب.
سيد قطب
من صميم الواقع:
الكأس الأولى. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
أكثر الموظفين قد شربوا هذه (الكأس الأولى) فصاروا من
بعدها سكارى ما يصحون، ولا ينتصحون. . وهذه قصة
(الكأس الأولى) فانظروا من هو المسئول عنها: آالذي أخذ
الرشوة، أم الذي أعطاها، أم الذي أمر بها، أم الحكومة التي
قللت المرتب فدفعت إليها؟
كانت ليلة مخيفة من ليالي شتاء سنة 1941، وكانت تعول رياحها كما تصرخ الشياطين، وترقص في الجو كأنها مردة الجحيم قد أفلتت من قيودها، وأقبلت تلذع ووجوه الناس بمثل حد المواسي من شدة بردها، ولثلج يتطاير كأنه القطن المندوف، ويتراكم على الأبواب والنوافذ، حتى لقد بلغ سمكه على الأعتاب وفي أصول الجدران قريباً من ذراع، والناي قد فرغوا إلى بيوتهم فاعتصموا بها، وخلت الشوارع وأقفرت السبل فلا ترى فبها سالكاً. . .
في تلك الليلة، كانت نوبة عبد المؤمن أفندي في مخفر (الكسوة): يقضي ليلته وحيداً يرقب الطريق ليحرسه من المهربين والفارين من المكس (الجمرك)، ومن مخالفي أنظمة التموين، منفرداً بعيداً عن رفاقه وعن مساكن القرية، وكان قد أخذ معه على عادته طعامه وسلاحه، ولبس كل ما يملك من دثر الصوف، واشتمل بمعطفه، ولف عليه شملته، وأدخل كفيه في قفازيه، وأغلق عليه بابه، وأوقد ناره، وأضطجع على سريره مطمئناً إلى أن أحداً لن يجتاز الليلة هذا الطريق إلا إذا كان مجنوناً والمجنون لا يؤاخذ. . . وحاول أن يهجع ساعة فيدفأ فلم يستطع لا خوفاً من أن يطرقه المفتش، فما في الدولة مفتش يخرج الليلة من بيته، بل من شدة البرد، فلقد كان النفس يتجمد على زجاج الشباك. . . ثم استدارت الريح فجعلت ترد الدخان على المدفأة حتى امتلأت به الغرفة ولم يجد لدفعه حيلة، فأضطر لإطفاء النار ولبث يتقلب في البرد حتى أحس بان أصابعه قد تجمد فيها الدم، فامتلأت نفسه بالنقمة على
هذه الوظيفة وعلى حظه من الدنيا، وعلى الرئيس الذي ألقاه في هذه القفرة المنقطعة بعيداً عن زوجته وبنته وولديه بمرقب لا يتجاوز مائة ليرة سورية (نحو أحد عشر جنيهاً) وهو قد أشرف على الأربعين وقطع سن الأمل والنشاط، ونظر فإذا الذين هم دونه سناً وعلماً قد بلغوا بالوساطات والشفاعات المرتبة الخامسة أو الرابعة. . . وفكر في هذا المرتب ماذا يشتري به، وكيف يعيش. . . وأجرة داره الصغيرة المخربة التي أستأجرها من قبل الحرب ثلاثون ليرة في الشهر، وثمن رغيف الخبز من السوق عشرون قرشاً، وكيلو اللحم بخمس ليرات، وكيلو الرز المصري بأربع ليرات والسكر مثله، وكيلو الشاي بعشرين ليرة، والحذاء المتوسط بثلاثين، وثمن القميص مهما استرخصه عشرون، وأجرة الطبيب العادي المبتدئ خمس ليرات، وحبة الكينا الواحدة بأربعين قرشاً، ولوح الزجاج إن انكسر زجاج الشباك سبع ليرات. . .
وطفق يدير حسابه على الوجوه كلها، ويضرب الأخماس بالأسداس، ويتذكر كل ما تعلمه في المدرسة وفي الحياة من علم الاقتصاد وفن تدبير المنزل، وما سمعه من أشياخ قومه وعجائز أسرته، فلم يسعفهشيء من ذلك كله في الاكتفاء بهذا المرتب، وقصر مصروفه عليه، وتذكر ولده الصغير وأن أثمان كتبه بلغت أربعين ليرة. . . أما كتب ولده الكبير الطالب في الثانوية فإن مجرد التفكير في أثمانها يفقده ما بقى من عقله، وإذا هو أكمل الثانوية غداً، ودخل كلية الحقوق مثلاً. . . رأى بلاء أنكد وخطباً أشد، ذلك أن الأساتذة قد استحدثوا في هذه الأيام شيئاً سبقوا فيه التجار والمحتكرين، وأتوا بما لم يأته أحد من الأولين، فطبعوا كتبهم في مطبعة الجامعة، ثم حددوا لها أثماناً تجعل قرش أحدهم عشرة، ثم ألزموا الطلاب بشرائها إلزاماً، فلا يدخل الامتحان من لا يدفع هذه الأثمان، وحجتهم في ذلك أن الطلاب لا يشترونها إذا هم لم يجبروهم، مع أن الطلاب وغير الطلاب يشترون كتب العلماء والأدباء من غير إكراه ولا إلزام، لأنها نافعة لهم ولأن فيها متعة، فلماذا لا يجعل هؤلاء الأساتذة كتبهم ممتعة ويجعلون فيها نفعاً. . .؟ وماذا يصنع عبد المؤمن أفندي! أيدع ابنه محروماً من التعليم، ويضيع هذا الذكاء النادر الذي راعت بوادره المدرسين، ويسلمه إلى وظيفة حقيرة مثل وظيفته، لا لشيء، بل لأن المدرسين والأساتذة المحترمين ذاقوا لذة الربح، فنسوا فضيلة القناعة، ولأن وزارة المعارف وإدارة الجامعة، لا تحددان
الأسعار، ولا تمنعان الأساتيذ أن يكونوا كالتجار.
وعى عبد المؤمن أفندي بهذا الحساب، وأحس بالبرد قد وصل إلى عظامه، فازدادت نقمته على الوظيفة وعلى الحياة وعلى نفسه. وعظم سخطه حين سمع صوت سيارة. . . من هذا المأفون الذي يمر الليلة على الطريق، فيزعجه من فراشه ليخرج فيفتشه؟ إنها سيارة مهربين من غير شك، ولابد له من ضبطها لئلا يخون أمانته التي يأكل من ورائها الخبز. ثم عاد فتذكر أن الخبز الأبيض القفار لم يستطع أن يأكله من وراء هذه الوظيفة، فحمل مصباحه البترولي وخرج وهو ساخط على كل شيء. فلما فتح الباب، هبت عليه عاصفة مثلجة كاد تقتلعه من أرضه، ولكنه استند إلى الجدار وقفز إلى الطريق، فأقفله بالحواجز الحديدية قبل أن تصل السيارة. . . وصفر لها بصفارته، فضاع صوتها في هزيم الرياح؛ بيد أن السيارة كانت قد وصلت ورأى من فيها المصباح الخافت، فوقفت، فنظر عبد المؤمن أفندي فلم يجد فيها إلا السائق، ووجدها من سيارات الشحن الكبار، وكانت عادته التي يعرفونها عنه أنه يقوم بالواجب عليه على الوجه الأكمل، ولم يمد يده في عمره إلى حرام، ولكن هذا البرد، وما في نفسه من السخط والضيق عدلا به عن عادته، فاكتفى بإدخال السائق إلى المخفر ليسأله. . . وأغلق وراءه الباب، وأعد مسدسه خوفاً من أن تطمع وحدته السائق وتغريه به، وكان عبد المؤمن أفندي رجلاً جلداً جريئاً حذراً، وكانت قد تراءت على وجهه ظلال نقمته التي كان يحسها، فبدا مخيفاً مروعاً.
ونظر إلى السائق فإذا هو أحد المهربين المعروفين الذين يقودون القوافل بين عمان ودمشق عن طريق البادية، وربما بلغت أثمان ما في السيارة الواحدة منها مائة ألف ليرة. . . فهز رأسه، وأزمع أن يضربه الضربة القاضية، فما يعقل أن يأخذ السائق أجرة السفرة الواحدة عشرين ألف ليرة، ويعطى مثلها رشوة لرجال الأمن على الطريق، ثم يأكل التاجر الباقي، يسحبه من أفواه المساكين والفقراء. . . ويبقى هو الموظف المسكين على مائة ليرة كل شهر، وقال له:
- أوراقك، والبيان المصدق بما معك في السيارة. ثم إن عليك أن تنتظر ريثما تهدأ العاصفة ويطلع النهار لنتمكن من تفتيشها فإذا كان فيها مهرب، صودرت السيارة وما فيها!
قال السائق: أتحب الصدق؟
- قال: نعم.
قال: وهل تعدني أن نتفاهم بهدوء، ومن غير لجوء إلى الشدة، أو اقتراب من الهاتف (التليفون)؟
قال عبد المؤمن أفندي مستغرباً: وما ذاك؟
- قال: إن في هذه السيارة بضاعة مهربة، هي لفلان، وهو من تعلم مكانته وصلته بالنواب والحاكمين، وله فيها شريك لو سميته لك لأرعبك أسمه، وإذا أنت حجزتها، أطلقها هو، وأبت بسواد الوجه، وربما نقلك إلى الجزيرة. . .
- فصاح به: أسكت. . وقح! أتهددني؟ سترى كيف أفتشها وأحجزها، وأذهب فأعمل ما تستطيعه. إن القانون يمشي على الكبير والصغير. . .
- قال الرجل بهدوء: لقد وصفتني بالوقاحة، وإني أسامحك. إني أتكلم بلسان الواقع، وأنا أحب أن نتفاهم على مهل. إنك رجل أمين شريف، وأنا تقديراً لأمانتك أهدي إليك هدية، قد فوضني صاحب البضاعة بتقديمها إليك، تغنيك عن هذا المرتب.
فغضب وقال: أتعرض علي الرشوة؟ الآن أكتب ضبطاً بالحادث، وأريك ما جزاء من. . .
فوالى السائق كلامه وكأنه لم يسمع شيئاً فقال: وهذه الهدية هي عشرة آلاف ليرة. . .
فلما سمع بها عبد المؤمن أفندي تراخى، ورأى السائق ذلك منه، فقال:
وألف فوقها مني لتدعني أمر الآن، فهذا آخر مخفر قبل دمشق، وأنا أود أن أدخلها في هذه العاصفة كيلا يعرض لنا أحد، وإذا أنا وقِّفت فلن أخبر مخلوقاً بما كان بيننا، بل أقول أني قادم من طريق آخر. . .
لبث عبد المؤمن أفندي لحظة واجماً، ولكن فكره كان يدور كما تدور عجلة (الاكسبرس)، لا يستقر على فكرة حتى ينتقل عنها إلى غيرها. وكان ماضيه الشريف، والمستقبل الذي أطل الآن عليه يتقاذفانه. فكأنه بينهما كراكب الأرجوحة، لا يبلغ طرفاً حتى يكر مسرعاً إلى الطرف الآخر. وكان صوت ضميره يهتف به أن: دعها ولا تدنس نفسك بها، فإنها سحت، ونفسه تناديه أن خذها ووسع بها على عيالك، وعلم بها ولدك. . . ولبث كذلك وهو يسمع من داخله مثل دقات عقرب الثواني في الساعة: خذ، لا تأخذ. خذ. لا تأخذ. إلى ما لا نهاية له. . .
وفي دقة منها، كان فيها (خذ)، مد يده فأخذ المبلغ ودسه في جيبه بلا شعور، وترك الرجل ينصرف.
أفاق عبد المؤمن أفندي من ذهلته، فأحس بمثل ما تحس به الفتاة التي فرطت ببكارتها في لحظة ضعف وخور، وتنبهت في نفسه عواطف الخير التي كان يملكا دفعة واحدة، وأحتقر نفسه وأبغضها وكره المال، وتمنى لو استطاع أن يلحق الرجل فيردها إليه، ورأى ماضيه الذي فقده حلواً جميلاً، وأحب ذلك الفقر الشريف، واستحال ما كان يجد من السخط عليه رغبة فيه وشوقاً إليه، وفكر كيف يلقي غداً أهله وصحبه، وتوهم انه سيكون بينهم كمن سقط في حفرة موحلة فامتلأت ثيابه طيناً، ثم جاء ليجالس الأطهار الأنقياء، وشعر بجسمه يتلهب كأن فيه ناراً تتوهج، وبالعرق يقطر في هذا البرد من فوْدَيه. . . وصار كلما حركت الريح الباب ظن أنهم قد جاءوا لاعتقاله، وأن أمره قد افتضح، وحار في هذا المال أين يخفيه، فوضعه في جيبه، ثم خاف أن يفتش، فنزع حذاءه وجواربه، فأحاط به رجله ثم لبسها عليه، ثم تراءى له أن أول مكان يفتش هو الجوارب، أليس كذلك كان يصنع كلما فتش مهربي الحشيش والهنات الصغيرات؟ وآلمه أن يرى نفسه قد انحطت إلى دركة مهربي الحشيش، ولكنه مع ذلك مضطر إلى إخفاء هذا المال، فأخرجه ولفه في منديل، ثم خلع سراويله ووضعه في المكان الذي لا يصل إليه أحد. . . وعاد يفكر ماذا يصنع بهذا المال، وماذا يقول لأولاده إذا سألوه من أين لك هذا؟ وما ألف الكذب ولا تعوده، وان هو كذب ألا تفضحه نظراته وحركاته؟ ثم ما هي الكذبة التي يكذبها؟ وتصور نفسه أمام المحكمة العسكرية، وقد سقط في أعين أولاده وأصحابه. . . إن زوجته تؤثر أن تراه فقيراً معدماً، على أن يدخل عليها سارقاً مرتشياً. . . واستغرق في خواطره. . . فما نبهه إلا حركة في الطريق، فأيقن أنهم جاءوا لاعتقاله، ففزع إلى مسدسه ليقتل به نفسه، ثم تذكر أن أشد المصائب أهون من أن يموت عاصياً، وأنها فضيحة الدنيا بين الرفاق، ولا فضيحة الآخرة على عيون الخلائق كلها. فمشى بنفسه إلى القضاء المحتوم، وفتح الباب، وكانت الرياح قد هدأت قليلاً والثلج قد أنقطع، فرأى سيارة مطفأة الأضواء قد تعثرت بالحواجز التي كان أعادها من غير شعور منه بالذي يفعله، وحاول سائقها أن يدوس الحواجز ويفر، ولكنها علقت بالدواليب واعترضت سيرها فاضطر إلى الوقوف، بعد حركة عنيفة كاد
يطوّح فيها بالسيارة فيرميها في الأخدود الماثل على جنبي الطريق. . .
وصرخ عليه عبد المؤمن أفندي ومسدسه بيده، فخرج من السيارة وتبعه إلى المخفر وهو مصفر الوجه، مرتعد الأوصال، إذ كان حديث عهد بصناعة التهريب ليس له جرأة الأول وثباته، وأقبل على الجندي فزعاً يقول: دخيلك، أنا في عرضك، والله هذه أول مرة، وقد ورطوني، وليس لدي إلا هذه السيارة، هي مالي كله ومنها معيشة عيالي. . .
وانكب على يديه يقبلها، فتنبهت غزيرة الطمع في نفس الجندي، وعاد مثله مثل هذا الرجل الذي أقدم على الفاحشة، ثم ندم عليها وذهب يحاول التوبة، فدخلت عليه امرأة أخرى قد لبست بدل الثياب الفتنة والإغراء ودعته إلى نفسها. . . وقال للسائق:
- دعك من هذا الكلام الذي لا يفيد. لا بد من مصادرة السيارة وما فيها، إلا إذاشيءت أن نتفاهم. . .
وكان شعور عبد المؤمن أفندي، وهو يقول هذه الكلمة، وقد توترت أعصابه كلها واشتدت، وقد تجمع كالقط الذي يرى الفأر، مثل شعور المقدم على الوصال المحرّم، وهو يرى قبح عمله ولكن الميل إليه غالب عليه، فهو لا يملك لشهوته رداً، ولما رأى السائق لا يفهم، ويعود إلى استعطافه ورجائه، تجرأ وقال له:
باختصار: كم فوضوك أن تدفع؟ ثم نظر حواليه هل سمعه أحد؟ وحول وجهه حتى لا تقع عينه على عين السائق، وغلب عليه الحياء إذ كانت تلك أول مرة. . . فرأى السائق باب الفرج، وقال عاجلاً، الذي تريده، الذي تأمر به، بَسّْ أسمح لي أمر.
قال: اثنا عشر ألف ليرة! وتوهم لما قالها أنه قذف قنبلة ذرية أخرى، كالتي ألقيت على هيروشيما، وأحس رجتها في أذنيه. . . فارتاع الرجل وصاح: أرجوك، أنا داخل على حريمك، والله ما معي إلا خمسة آلاف، إن السيارة محملة غزلاً، وليس كالتي مرت قبلها، تلك فيها حرير. قال: هات وأمشِ.
وقبض عبد المؤمن أفندي المبلغ فصار معه ستة عشر ألفاً، مرتب مائة وستين شهراً في الوظيفة كسبها في ليلة، فكيف غفل عن هذا المورد أيامه الماضية كلها. . . وعاد يفكر في الشرف والطهر وفي الفضيحة. . وأحس كأنه قد جن. . . ففتح الباب وخرج يعدو مع الريح لا يدري إلى أين يذهب. . . لقد كان يريد أن يفر من المخفر ومن الحكومة، ومن
الرشوات، ومن صوت الضمير. . . ويريد أن يفر من نفسه!
ولم يدر أنه شرب (الكأس الأولى) وفسد، ولم يعد يصلحه شيء!
(دمشق)
علي الطنطاوي
الأدب في سير أعلامه:
مِلْتُن. . .
للأستاذ محمود الخفيف
طفولة ملتن ونشأته
وأحدثت الوراثة والبيئة أثرهما في جون ملتن، فأحب الأدب وأحب الموسيقى كما أحبهما أبوه، وظهرت فيه منذ صغره تلك النزعة الاستقلالية التي طرد بسببها الأب من كنف أبيه.
ولا ريب أن جون ملتن قد حرص على أن تنمو هذه النزعة الموروثة في نفس ابنه، وآية ذلك أنه لم ينشأ أن يحمله على ما لا يحب فتركه وشأنه حين أعرض عن الالتحاق بالكنيسة. والحق أن نزوع ملتن إلى الاستقلال سينمو مع الزمن حتى يصبح من أبرز صفاته.
وكان إعجاب جون ملتن بابنه عظيماً، وكذلك كان إعجاب أصحاب أبيه به، فما سمعوا أشعاره التي ينظمها وهو في الثانية عشرة من عمره إلا أفاضوا من ثنائهم عليه، وما رأوا إقباله على الدرس إلا تحدثوا بنباهة مستقبله؛ وأنهم ليرون سمات العبقرية تختلج على محياه الأبلج الجميل وهو بعد في سن اللعب واللهو. . .
وأحدثت كثرة الثناء عليه أثراً قوياً في نفسه سوف ينمو على مر الأيام؛ فقد داخله شعور منذ طفولته أنه فوق مستوى غيره من الأطفال، وأنه سوف يغدو رجلاً عظيماً، وكان يقوي شعوره بنفسه وإحساسه بمقدرته كلما أزداد إطلاعه وأتسع مجال ثقافته.
وكان أبوه عظيم الثقة في كفاية ابنه ومقدرته، فعول ألا يدخر وسعاً في تنشئته ليكون رجلاً عظيماً، فأختار له مربياً يعلمه في المنزل هو توماس ينج، وأرسله إلى مدرسة قريبة هي مدرسة سنت بول؛ وكان للمربي الذي يتعهده في البيت شهرة في فنه فائقة كما كان (لاسكندر جل) رئيس المدرسة التي ألحق بها صيت عظيم، يمتدح الناس أسلوبه وفنه في التربية والتعليم.
وكان أبوه إذا فرغ من توثيقه ومن ألحانه يعينه بنفسه على فهم ما يقرأ ويرشده إلى الكتب التي تلائم مزاجه وطبعه، وكذلك كان يعلمه الموسيقى إذا أنس منه إقبالاً شديداً على سماع
الألحان وتذوقها وتفهم تأليفها.
وشهد مربيه في المنزل ومعلموه في المدرسة أن عقل الصبي أكبر من سنه، وأن له إلى الأدب ميلاً قوياً، وأن ذوقه الأدبي مولود فيه، فهو جزء من نفسه، وهو قوام إدراكه وحسه، وما وقعت عينا امرئ عليه إلا تبينتا فيه شاعر الغد؛ فالشواهد فيه على ذلك بينة متعددة، تطالع المرء في تأمله وتفكيره وفي عذوبة حديثه وسعة ثقافته وجمال عبارته وإشراقها، وقدرته منذ حداثته على اختيار اللفظ الجميل وقعه في النفس والذهن، وانفعال نفسه للموسيقى وللبليغ من القول منثوره ومنظومه، هذا إلى ما تنم عنه ملامح وجهه الوسيم وما تنطق به عيناه الحالمتان الواسعتان من رقة وظرف وصفاء نفسي، وما يتسم به مظهره من رشاقة وأناقة وسلامة ذوق.
وكان محيط قراءته واسعاً في اللغة الإنكليزية وآدابها. وكان للشاعر العظيم سبنسر المتوفى سنة 1599 مكانة عظيمة في نفسه، تعمق دراسته وتأثر به تثراً شديداً، واستوعب قصيدته العظيمة أو على الأصح كتابه الشهير (الملكة الجنية) وأحاط بما فيها من خيال وجمال، وفطن إلى ما أراده سبنسر فيها من آراء دينية وخلقية، فقد كان كل فارس من فرسانها الإثني عشر يمثل فصيلة من الفصائل، وكان كل من هؤلاء الفرسان بطل فصل من فصول القصة يدور حول معنى مقصود اتخذت الحكاية وسيلة لإبرازه وألبسه الشعر القوي الجميل لباساً ساحراً حبيباً إلى القلوب، وكانت شخصية الفارس الأمير أرثر هي الرابطة التي تربط بين فصول القصيدة كلها؛ ولهذا كانت أهم شخصيات الكتاب وأحبها إلى القراء. ولقد كان سبنسر أعظم شعراء عصر شكسبير غير المسرحيين، ومن أشدهم تأثيراً في جيله، ويعد قمة من القمم الشوامخ في تاريخ الشعر الإنكليزي كله.
وثمة شاعر آخر أقبل على قراءته الصبي المجد، هو سلفستر المتوفى سنة 1618 أي بعد عامين من وفاة شكسبير والذي نقل إلى الإنكليزية القصة الشعرية الشهيرة التي نظمها الشاعر الفرنسي دي بارتس سنة 1578 وموضوعها يدور حول خلق الدنيا، والتي طبعت ثلاثين مرة في ست سنوات وترجمت إلى ست لغات. ولقد أعجب سبنسر نفسه إعجاباً شديداً بهذه القصيدة وبموضوعها. ولكم وجد فيها الصبي ملتن لنفسه وبخاصة موضوعها الذي ظل خياله في خاطره حتى ظهر بعض أثره فيما بعد في قصيدته الخالدة الكبرى،
الفردوس المفقود. ولقد أعجب الصبي في تلك السن بمقدرة دي بارتس الفرنسي على اشتقاق ألفاظ جديدة لمعانيه، كما أعجب بمحاكاة سلفستر إياه في الإنكليزية، فكان لهذه الترجمة أثرها في ذوقه وفنه إلى جانب أثرها في خياله وحسه.
وتطاول الصبي إلى قراءة شكسبير فقرأه على قدر ما يتسع له إدراكه، كما قرأ بعض المسرحيات الشهيرة لشعراء المسرح النابهين غيره في العصر الاليزابيثي.
وكان كثير المطالعة للإنجيل حتى وعت ذاكرته أكثر أجزائه، وألف لغته وتذوقها وتأثر بها قلبه ولسانه.
ونهل مع هذا كله من مناهل الإغريق والرومان، في التاريخ والأدب والشعر والميثولوجيا، وأحب المنهل الأخير حباً شديداً فكان لا يمله مهما استزاد منه، وصارت له خبرة بهذه الناحية من خيال الإغريق والرومان قل أن يتوافى مثلها لمن كان في مثل سنه، ولسوف يمتلئ شعره منذ حداثته بالإشارات البارعة إلى آلهة الإغريق وإلاهاتهم فيما يعرض له من وصف فيلبسه الجمال والسحر. . .
هكذا نرى الصبي في أولى مراحل ثقافته ينتقل كالفراشة الطليقة بين أفواف الربيع الاليزابيثي فيبهج نفسه جمال الربيع، ويملأ حسه اقتتان الربيع، وترن في جوانب سمعه ألحان الربيع، وتستقر في خاطره تلك الأصداء الساحرة الجميلة التي تجاوبت بها قيثارات سبنسر وسلفستر وشكسبير. . .
فتطير روحه الوثابة فتطوى العصور إلى ربيع قديم أشبه بهذا الربيع الذي انطوى مهرجانه من قريب، وذلك هو الربيع الإغريقي فتنعم روحه بزينته وقوته وسحر أساطيره وأنغام مزاميره وتختزن ذلك نفسه كما تختزن الزهرة العطر، وتحلم تلك النفس الشاعرة أحلام الخيال والجمال حتى تصرفها عن حلمها البهيج الرؤى فترة فيها كثير من الجد ولا يكاد يوجد فيها شيء من الزينة.
ملتن في الجامعة:
وفي السادسة عشرة من عمره تأهب ملتن ليدخل الجامعة، فقد اجتاز الامتحان الذي يؤهله لها في يسر، وتفوق في نجاحه تفوقاً ملحوظاً وأقدم مزهواً ليلتحق بكمبردج، وكانت الكلية التي انتظم في سلك طلابها، والتي لبث فيها من عمره سبع سنين هي كريست، ولسوف
تفتخر تلك الكلية فيما بعد بأن كان ملتن أحد أبنائها، ولكنها اليوم تتلقاه كما تتلقى غيره من الفتيان، لا تدري ماذا يكون غداً من أمره.
وأقبل الفتى على كليته فرحاً يداخله من الزهو ما يداخل كل يافع في مثل موقفه؛ يحدث نفسه في حماس عما هو عسى أن ينهل فيها من المعرفة ويصاحب من الأقران؛ وما هو عسىٌّ أن يأخذ منه بقسط من المناظرة والحوار وتبادل الرأي بينه وبين أقرانه، وكل أولئك حبيب إلى نفسه التواقة إلى الدرس الطلابة للعلم.
وتلفت الذين سبقوه إلى الكلية يتطلعون على عادة الطلاب إلى أقرانهم الجدد في أول الموسم، فوقعت أعينهم من بينهم على فتى أنيق الملبس، جميل الطلعة، حلو السِمت، في قسماته وسامة رائعة، وفي ملامحه أمارات الذكاء، وفي نظرته جد يشبه الكبرياء، وفي عينيه تأمل وحلم، وفي مشيته والتفاتته هدوء ودعة، وفي تحيته رقة ودماثة.
وسرعان ما تعرف إليه فريق منهم، فما لبثوا أن أعجبهم اتساع أفقه وحدة ذكائه؛ وإن كانوا يرون فيه كثيراً من الاعتداد بنفسه ورأيه، ويرون فيه كذلك حرصاً شديداً ما رأوا قبل مثله على قواعد السلوك واحترام النفس، يكادون يحسونه تزمتاً وانقباضاً لا يرتاحون إليه؛ وإن فيه لميلاً قوياً إلى الشعر، يحفظ منه قدراً عظيماً ويشير إلى مواضع الجمال ويستمع في شغف وطرب إلى ما ينشد أقرانه مما غاب عنه ويعجب كيف غاب عنه؛ ولما توثقت بينهم وبينه المعرفة رأوا فيه شاباً يأخذ نفسه بقواعد الطهر والعفة وهو في ذلك صلب الإرادة لا يلين ولا يحيد.
وما لبث ملتن أن أحس أنه علق من الآمال على الكلية أكثر مما يريه الواقع، فأين منه أيام قراءاته في بيته، وأين منه حريته في هاتيك الأيام الحلوة؛ إنه كلما ازداد صلة بالكلية أحس في نفسه النفور شيئاً فشيئاً من جوها، والضيق من كثيرين من القائمين بأمرها؛ ولكن ما من البقاء زمناً بها بد، وما على المرء إلا أن يحمل نفسه على الصبر حتى ينقضي أمر بقائه. . . بهذا كان يتحدث الفتى إلى نفسه، كلما ساوره من حاله ضيق أو كدر خاطره أمر.
وكانت الكلية غداة التحق بها ملتن لا تزال فيها على الرغم من النهضة بقية من العصور الوسطى، وذلك في روحها وفي مواد دراستها، وكانت أهم مواد الدراسة بها المنطق
والبلاغة والفلسفة المدرسية، واللغتين اللاتينية والإغريقية، وشئ من علوم الرياضة، وقليل من الفلك، وقدر يسير من التاريخ الروماني ومن عجب ألا يكون التاريخ الإنجليزي ولا الأدب الإنجليزي من مواد الدراسة، على أنه كان لمن يشاء أن يدرس هاتين المادتين أن يفعل ذلك إذا أبدى للكلية رغبته.
ولكن على الرغم من طابع العصور الوسطى، دبت في الكلية النهضة، فشاعت فيها رغبة الإصلاح والنهوض، وملأ جوانحها كفاح من أجل هذا الغرض؛ وكان دعاة الإصلاح يبتغون أن يصلحوا نواحي الحياة كلها، والتعليم والسياسة والدين والاجتماع؛ ففي التعليم رغب فريق أن تتخلص الكلية من بقية العصور الوسطى، وتعني في مناهجها ودراستها بما هو أقرب إلى روح العصر، وما هو أدنى إلى الإنسانية والحرية الفكرية؛ وفي السياسة تطلع المصلحون إلى إبراز حق الفرد والاعتراف بكيانه واحترام إرادته؛ وفي الدين قوي الميل إلى البيوريتانية والبروتستنتية؛ وإن كان ثمة خلاف قد دب بين الكلفنية والأرمينية، أعني بين عقيدة القدر المحتوم التي آمن بها كلفن، وبين عقيدة قبول التوبة وغفران الذنب التي نادى بها ألرمينيوس الهولندي سنة 1603؛ وفي الاجتماع دعا المصلحون إلى الفضيلة وإلى محاربة الرذيلة، وظهر أثر ذلك في تشدد القائمين على أمر الطلبة ألا يسمحوا للفتيات اللائي يتعهدن حجرات نوم الطلاب بدخول تلك الحجرات إلا إذا غادرها أصحابها.
واستجاب ملتن لهذه النزعة الإصلاحية، فقد صادفت هوى في نفسه التي تعشق الحرية وتنزع إلى الاستغلال، وتعلقت بها روحه الوثابة الفتية؛ وبدأ بها أول شوط له في الدفاع عن حرية الفكر؛ ولكن ذلك أخذ يغضب عليه القائمين بالأمر إذ اتهموه بالتمرد والثورة إلا قليلاً منهم، وسبب له كراهة بعض أقرانه ممن لم يعجبه اعوجاجهم وإسفافهم وشراسة طباعهم.
لم يدع ملتن فرصة اجتماع إلا وقف يندد بالفلسفة المدرسية معلناً إنه لا يرى فيها أية فائدة، ولئن اقتصرت الكلية على هذا المنهج فلن يكون من ورائه جدوى. وراح ملتن يسخر من تلك الكتب التي تدرس في الكلية، والتي هي آثار أشياخ ضيقي الصدر من القساوسة تشتم فيها رائحة الحجرات الضيقة المظلمة التي كتبت فيها؛ ويتساءل: أليس أجدر بنا وأجدى
علينا أن ندرس بدلاً منها طبائع الكائنات الحية وأخلاق الناس وأحوال دول العالم؟ ويوجه ملتن سهاماً لاذعة إلى مدرسي المنطق والبلاغة، فهم يتكلمون كما يتكلم المتوحشون والأطفال، وإنه يراهم أقرب إلى العصافير منهم إلى الرجال. . .
ويعجب الطلاب من حمية هذا الفتى الذي عهدوه في مجالسهم وديعاً رقيق الحاشية، وتعجبهم حماسته وجرأته وصراحته وتمرده على القيود التي طال بها العهد؛ ولكن المدرسين ساخطون عليه ناقمون على ثورته، يرمونه بالغرور ويتهمونه بالشغب والعناد والعصيان، وقد شاع أمره فيهم حتى ضاقوا به ذرعاً من يعلمه منهم ومن لا يعلمه.
وأدى بالضرورة مسلكه هذا إلى الشحناء بينه وبين القائم على أمره من رجال الكلية وهو (شابل) فكان يحس أن الطالب جون ملتن يحتقره بنظراته، ولعله يراه متوحشاً أو طفلاً أو نوعاً من العصافير؛ ويرى أنه يخالف عن أمره، فلا يؤدي ما يطلب إليه أداؤه كتابة من دروسه، ولا يتقيد بما يرسم له من نظام في حياته اليومية؛ يريد أن ينصرف إلى ما يحب من قراءة، ويعلن إلى معلمه أنه لا يقتنع بجدوى تلك العلوم التي هي تراث العصر المدرسي، وأنه يأسف على فقدانه حريته التي نعم بها قبل التحاقه بالكلية؛ ويرى أنه كان يد في مدرسه سنت بول من العلم المجدي ما لم يجد مثله هنا، ومن الحرية ما لا يجد بعضه في الكلية، ومن عطف معلميه ومسايرتهم إياه إلى ما يحب ما لا يتمتع هنا بشيء منه.
(يتبع)
الخفيف
السلاجقة
عنصر قوة في الإسلام
(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)
(حديث شريف)
للأستاذ حسن حبشي
ليس من شك في أن ظهور السلاجقة على مسرح التاريخ يعد نقطة انتقال هامة في التاريخ الإسلامي، فقد نشأت عدة دويلات من هذه الزمرة الصغيرة التي خرجت من بخارى يقودها سلجوق ويدفعها حبها للمخاطرة. أما من الناحية الدينية فقد كانوا حماة الإسلام، يذبون عن بيضته، وينافحون عنه، ونبغ فيهم رجال نصروا الحنيفية السمحة، كما ظهر في أيامهم أئمة أدرجوا في عداد المجتهدين، وحسبنا أن نذكر من هؤلاء حجة الإسلام الغزالي. كتب الأستاذ هربرت لوي يقول:(إنه لا يعزي إليهم فحسب ما مني به الصليبيون من فشل ذريع، بل يرجع إليهم كذلك الأثر غير المباشر للشرق على الغرب، ذلك الأثر الناجم عن الاختلاط الذي كان بين الفرنجة والمسلمين في الحروب المقدسة، وقد كان ظهور شأو السلاجقة مقوياً للمذهب السني، كما يرجع إليهم الفضل في إعادة الوحدة إلى الإمارات الإسلامية الممزقة، كما أنهم وضعوا أسس الإمبراطورية العثمانية في القسطنطينية).
هاجر سلجوق من تركستان إلى بلاد ما وراء النهر، ويعزو الأستاذ هربرت ظهور سطوته إلى هذه الهجرة وإلى اعتناقه هو وقبيلته الإسلام. وأصبحوا من دعاة المذهب السني على عكس الفرس الذين سايروا المذهب الشيعي.
ظهر السلاجقة في وقت كانت عوامل الضعف والانحطاط تعمل في جسم الخلافة العباسية، فقد أحاط الخلفاء العباسيون أنفسهم بالحرس التركي، وذلك يرجع كما يذهب الأستاذ شفيق غربال بك إلى موازنة النفوذ الفارسي الذي كان قد تغلغل في جميع مصالح الدولة، وقصة البرامكة - وهم من أشراف الفرس - وما نكبوا به، أجلى برهان على ما وصلوا إليه من عليا المراتب في الدولة (حتى غدوا الحكام الحقيقين لها مما جعل الخليفة (هارون) يجمع العزم على التخلص من العائلة بأكملها).
لما تسلم بنو العباس أزمة الحكم، لم يكن معنا ذلك استتباب الأحوال لهم، فقد أنقلب عليهم بنو عمهم العلويون الذين لولاهم لكان نجاح العباسيين ضئيلاً، وكان بجانب هؤلاء الخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرها من الفرق الإسلامية، وكان الشيعة أعداء أقوياء الشكيمة، وإن كان ينقصهم التنظيم. ودب الضعف في الدولة العباسية، فانسلخ منها كثير من الولايات الخاضعة لها (فكان قيام دولة الأدارسة في مراكش (788م) على يد إدريس بن عبد الله، والأغالبة في تونس (800م) على يد إبراهيم بن الأغلب، ودولتي الطولونيين والإخشيديين في مصر. كان قيام هذه الأمارات خسارات فادحة للخلافة منيت بها في نواحيها الغربية، ولم يكن الشرق أوطد مركزاً من ذلك، فقد كان من أثر السياسة التي سلكها الخليفة المأمون أن ظهرت في فارس وبلاد ما وراء النهر روح قومية عظيمة، كان من نتائجها قيام دويلات مثل الصفراوية (867 - 903م) والسامانية (874 - 999م) كما نشأ من الأخيرة الغزنويون، لأن البتجين مؤسس هذه الأسرة الأخيرة كان مملوكاً تركياً في البلاط الساماني، كما أن سلطان آل بويه قد شل قوة الخلفاء وألزمهم قصورهم) ومع أن هذه الدول اعترفت بالسلطان الديني للخليفة إلا أن هذا الاعتراف كان اسمياً. ويذكر السيد أمير علي أن هذا الاعتراف كان لإكساب هاتيك الدول قوة ظاهرة، وحتى تعتبر كل ثورة ضدها ثورة غير شرعية.
لكن متى بدأ الضعف في الدولة؟
التاريخ سلسلة متصلة الحلقات، ومعنى لا نستطيع أن نحده. ولو فعلنا ذلك، كان اعتمادنا عادة على الظواهر العامة البارزة التي يمتاز بها عهد من عهد.
وقد ذهب الأستاذ نيكلسون إلى تقسيم الخلافة العباسية قسمين: أحدهما عهد القوة، ويبدأ باعتلائها العرش حتى حكم الواثق وهو قرن من الزمان. أما عهد التدهور، فيبدأ بالمتوكل (847 - 891م)، ويمتاز بأنه عهد انحطاط سريع أعقبه سقوط هائل خابت كل الوسائل في علاجه. أما أبو المحاسن فيذهب إلى أن تدهور الخلافة بدأ باعتلاء المستكفي عام 902م. وربما كانت علة هذا التدهور أيضاً سعة الأقطار التي كانت تحت إمرة الخلافة العباسية، إذ كانت دولاً كبيرة متعددة لا يربطها بها غير دفعها الجزية.
والملاحظ في الدولة العباسية أن السلطة - أيام قوتها - كانت في يد الخليفة، أما حيث بدأ
الضعف يدب في أوصالها، فقد انتقلت هذه السلطة إلى أيدي الوزراء، فأين وزراء المنصور والسفاح، من هذه الوزارات الست في عهد المأمون؟
هذه مقدمة وجيزة لتبيان حال الضعف التي وصلت إليها الدولة العباسية وكاد يؤدي بها لولا أن قيض الله لها (السلاجقة)، فأنقذوا الإسلام (كما أن شخوصهم شطر الغرب أضاف عنصراً جديداً إلى الإسلام مكن المسلمين من الوقوف ضد الغزاة الأوربيين، ووحدوا الإقليم الممتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى حدود الهند تحت زعامة واحدة وإن كان لفترة محدودة، وردوا الصليبيين والبيزنطينيين ماذين في حياة الخلافة العباسية التي ظلت قائمة حتى تخريب المغول لبغداد عام 1258م، ويعزى إليهم قيام الدولة الأيوبية في مصر).
من هذه العبارة نستدل على ما كان للسلاجقة من شأن عظيم في تاريخ الإسلام والشرق عامة، وبخاصة أنهم ظهروا في وقت قد تمزقت فيه أوصال الخلافة أو كادت، (وما كان من قبل مملكة متحدة تحت إمرة حاكم مسلم أصبح الآن عدة دويلات مبعثرة لا رابط بينها) ومما زاد في تفرق بعضها عن بعض هذه المذاهب المختلفة، فكان قيام السلاجقة رجحاناً لكفة أهل السنة ولم يطل بهم الزمن حتى أسسوا ممالك سلجوقية خارج العراق في الهند وتركيا.
وحد السلاجقة دويلات كثيرة منها فارس والعراق والشام وآسيا الصغرى، فرفرف علم إسلامي واحد على آسيا من حدود أفغانستان الغربية حتى البحر الأبيض المتوسط.
عرف السلاجقة بالجرأة والقوة والحول، وتعاور الحكم كثيرون من أمرائهم، وحسبنا إشارة موجزة لبعضهم.
كان لسلجوق أربعة أبناء يدعى أحدهم إسرائيل، ألقى القبض عليه السلطان محمود وأسره وظل في أسره سبع سنوات ومات في أسره، فأثر ذلك غضب أهله. ورأى ابنه قتلمش الخير في الهرب، ومن ثم اتخذ طريقه إلى بخارى حتى يكون بمنجاة من نقمة السلطان، وهناك أثار حمية أقاربه للأخذ بثأر أبيه، والثأر عند القبائل - كما يقول نيكلسون - مرض من أمراض الشرف هو أقرب إلى الجنون، أورد الأستاذ براون (عن الراوندى) أن هجرة قتلمش وأهله، كانت في أيام السلطان محمود وبأمره.
وأول من يهمنا أمرهم طغرل بك، دخل هذا الزعيم السلجوقي بغداد في ديسمبر عام
1055م، (وأجلس على عرش وألبسوه لباس التشريف). ومما زاد في توثيق العلاقات بين طغرل وبين الخليفة القائم زواج الأخير من ابنة أخي الأول وتدعى خاتون خديجة، وتذكر الأقاصيص أن هاتفاً جاء لطغرل في المنام يدعوه للخروج لغزو بلاد الموصل وديار بكر وسنجار، فلبى الهاتف ثم عاد إلى بغداد فشكره الخليفة لنصرته الدين، وسماه ملك المشرق والمغرب.
لم يقنع طغرل بك بما نال من سلطة واسعة، وما هو فيه من نعمة يتقلب في مطارفها، بل تاقت نفسه لتوثيق صلاته أكثر بالخليفة، فهداه تفكيره إلى الزواج من ابنة السلطان، وتدعى سيدة النساء، ويظهر أن الخليفة لم يكن راضياً عن هذا الزواج ولعله كان يرى في ذلك طمع طغرل في أن يكون خليفة من بعده. ومن يدري؟ فلربما كان يريد الاستئثار بالحكم من دونه، ذكر ابن الأثير أن الخليفة انزعج من ذلك وأرسل في الجوب أبا محمد التميمي، وأمره أن يستعفى فإن أعفى وإلا تمم الأمر. وعقد له عليها، لكن عاجله الأجل إذ توفي في العام التالي في مدينة طغرشت، فرجعت ثانية إلى بغداد، وقد وصفه ابن الأثير بقوله:(إنه كان حليماً عاقلاً من أشد الناس احتمالاً، وأكثرهم كتماناً لسره، ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك، ولا تغير عليه، حتى أظهرها بعد مدة طويلة لغيره).
جاء بعده ابن أخيه جغري داود، ويدعى ألب أرسلان، وقد حدث قبل توليته أن مال عميد الملك الكندري لتولية أخيه سليمان بدلاً منه، غير أنه أخفق في مسعاه مما أثار ضغينة ألب أرسلان، فما كاد يتبوأ العرش حتى نفي الكندي إلى مرو، ولم يطل عليه الزمن في السجن فقد لقي مصرعه وقتل بأمر ألب نفسه، وهذا ما ذهب إليه الأستاذ براون، وكان مقتله كما يذكر أبن الأثير بعد سنة في الاعتقال، وفي ذلك يقول أحد الشعراء مخاطباً السلطان:
وعمك أدناه وأعلى محله
…
وبوأه من ملكه كنفاً رحبا
قضى كل مولى منكما حق عبده
…
فخوله الدنيا وخولته العقبى
واختير مكانه الأديب العالم (نظام الملك). وأهم ما يذكر به عهد ألب أرسلان انتصاره على ملك الروم أرمانوس كما انتصر على قتلمش، وامتدت رقعة مملكته حتى ليقول ابن الأثير إن ملكه امتد من أقصى بلاد ما وراء النهر إلى أبعد أطراف الشام. ولقد أجمل الأستاذ
براون في كتابه تاريخ الفرس الأدبي (ص 177) كل أعماله، وهي جديرة بأن تجعله في مصاف أعظم السلاطين. أما مصرعه فكان على يد مستحفظ قلعة يدعى يوسف الخوارزمي إذ ضربه بسكين في خاصرته. وكان قد أخذ البيعة في حياته لابنه السلطان ملك شاه، وهو آخر السلاطين السلاجقة الذين ظلت أزمة الحكم في يدهم، ولم تتوزع الأهواء بينهم.
حسن حبشي
قصص فرعونية:
قصة سينوحيت
لأديب مصري قديم
بقلم الأستاذ محمد خليفة التونسي
الأدب المغبون:
أما قبل أن نضع القصة بين يديك فلنقف وقفة قصيرة لننظر ما حل بأدب مصر التي تدين لحضارتها بالفضل العميم كل الحضارات التي أعقبتها منذ فجر التاريخ حتى حضارتنا الراهنة في جميع بقاع الأرض.
نعرف لكل أمة أدبها: فلكل من الإغريق والرومان والعرب والأتراك والفرس والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والروس أدبهم، ولأدب كل أمة قراء يقبلون على قراءته ودرسه للتمتع والانتفاع، وله في ثقافتنا نصيب كثير أو قليل، ولكن أدب مصر القديمة لم يقدر له حتى اليوم في اللغة العربية أنصار يقدمونه إلى أبنائها - ولا سيما المصريون - كمل قدر له أنصار مقتدرون في سائر اللغات الأجنبية الحية، ولا يعدو ما كتب باللغة العربية حتى اليوم أن يكون محاولات فردية ضئيلة لا تجد معيناً ولا موالياً، وهوشيء قليل لا خطر له، فهو لا يعرفنا بحقيقة هذا الأدب الرائع وآفاقه التي امتد إليها، ولم يقدر له أن يكون ذا أثر في ثقافتنا الراهنة التي لأدب كل أمة فيها نصيب.
ومحاولتي هذه لا غنى بها عن قراءة ما كتب في هذا الباب في المؤلفات الأجنبية المطولة والمختصرة، فهي محاولة ضئيلة لتعريف القارئ العادي ببعض آثار الأدباء الأقدمين في بعض نواحي الأدب؛ فليعلم أنها جهد المقل إن شاء قنع به في غير مقنع، وإن شاء المزيد اتخذ سبيله إلى التواليف الأجنبية الحافلة بكل ما يشتهيه، وكل ما يقنعه بخطر هذا الأدب الرائع. ولعل هذا يصادف قارئاً أوسع مني فراغاً وأغزر ثقافة وأوفر صبراً فيكون أقدر مني على النهوض بإنصاف هذا الأدب المغبون، وإعطائه ما له في اللغات الأجنبية الحية، فيصحح نظرتنا إلى أولئك الأجداد الكرام حتى نعرف لهم فضلهم ونقدر أدبهم قدره، وذلك في نظري مظهر للوطنية لا يقل جمالاً وفضلاً عن سائر مظاهرها الأخرى.
عصر القصة:
أما بعد فربما كنت أيها القارئ محتاجاً إلى أن يتهيأ لك جو القصة لتكون أكثر فهماً لها وإحساساً بها، فقليل ما وقفنا عليه في تعليمنا المدرسي والجامعي من تاريخ المصريين الأقدمين، وهأنذا أقدمه على قدر المستطاع.
أمر ملك مصر بطليموس فيلادلفوس كاهناً مصرياً كان يعيش في مدينة سمنود ويسمى ما نيثون أن يكتب تاريخ الفراعنة قبله، فصدع بما أمر وابتكر تقسيمهم إلى طبقات أو أسرات.
ومنذئذ حتى الآن وكثير من المؤرخين الذين أعقبوه يتابعونه في ابتكاره فيسلسلون الفراعنة في ثلاثين أسرة، ويقسمون هذه الأسر إلى ثلاث دول: الدولة القديمة وتبدأ بالأسرة الأولى ومؤسسها مينا أو نارمر على خلاف وتنتهي بالعاشرة. والدولة الوسطى وتنتهي بالسابعة عشرة. ثم الدولة الحديثة وتمتد إلى الثلاثين حين أحتل الفرس مصر حتى أجلاهم عنها الإسكندر الأكبر.
قبل أن تأفل شمس الدولة القديمة، وانشيءت الدقة فقل في عهد الأسرة السادسة الذي أعقب عهد بناة الأهرام بدأت مصر تضعف بضعف ملوكها، وظهرت في كل إقليم أسرة قوية على رأسها أمير أغتصب من الملك وظائف الدولة كالإدارة والقضاء وصار له فيه شبه استقلال، وبذلك ظهرت الإمارات أو ما يسمى العهد الإقطاعي.
وكان لكل من هذه الإمارات عاصمة، فكانت تلك العواصم كأرمنت وطيبة وأسيوط تتنازع السلطان وتحترب فيما بينها طمعاً في توسيع رقعتها بالاستيلاء على أملاك جاراتها، وامتدت تلك الفوضى حتى نهاية الأسرة العاشرة.
كان اظهر أسرتين إذ ذاك أسرة هركليوبوليس (أهناسية) وأسرة طيبة (الأقصر) وقد ظلتا تحتربان زمناً وتم الغلب أخيراً لأمراء طيبة فبدأ شأنها يعظم وسلطانها يمتد حتى شمل مصر، وكان ذلك بدء نشوئها وارتقائها حتى نالت شهرتها التاريخية الخالدة. وكما انتصرت طيبة على سائر العواصم انتصر إلهها أمون على سائر الآلهة المصرية فصار أبرزها، وعمت عبادته أرجاء مصر وصار لكهنته السلطان على سائر الكهنة والمصريين.
وقد ساعد على نشوء طيبة وتفوقها موقعها الجغرافي. فهي تتوسط سهلاً خصيباً واسعاً
أمامه أرض قاحلة ذات أخاديد ووهاد مما يساعد على حمايتها وسد وادي النيل عندها في وجوه غزاتها، كما ساعد على ذلك قوة حكامها، وبسالة رجالها الذين يؤلفون جيشها، وتلك طبيعة رجال الجنوب الأقصى حتى الآن بحكم ذلك الموقع الجغرافي. . .
وقد استطاع أميرها أن يوحد مصر، ويخضع سائر أمرائها لسلطانه، وذلك بدء الأسرة الحادية عشرة (الدولة الوسطى) ولعقبتها الأسرة الثانية عشرة التي يعد عصرها أزهر عصر في الدولة الوسطى، وأول ملوكها أمنمحعت الأول (سحتب آب رع) الذي شق طريقه إلى عرش مصر واستوى عليه فرعوناً جباراً برغم كل الاضطرابات التي كانت تسود مصر، واستطاع ضم مصر في وحدة قوية ضماً تاماً بأن استمال بعض الأمراء بتوسيع إقطاعاتهم وتأديب العصاة منهم، وأهتم بمصالح الفلاحين، ووضع الحجارة لتكون حدوداً بين الأراضي، وبين لكل منهم أرضه، وأمده بالمياه التي تكفيها، وجيش جيوش ورمى بها من كانوا يهددون حدود مصر ولا سيما في الجنوب لإخضاع بلاد النوية (كما ورد في القصة عن خليفته) وملأ جو مصر رغداً وأمناً، حتى قال بحق: لا جائع ولا ظمآن تحت حكمي.)
ومما يدل على حصافة الرجل وبعد نظره أنه ربى ولي عهده أسرتسن أفضل تربية، وأسند إليه قيادة كثير من حملاته التي وجهها لدفع الغزاة عن مصر أو لتوسيع أملاكها، وقبل أن يقضي نحبه بعشر سنوات شعر بضعف الشيخوخة فأعتزل الملك وأقام أسرتسن خلفاً له، وظل إلى جانبه يرعاه ويسدد خطاه في السياسة والإدارة والحرب، ويشرف على أعماله أثناء غيابه عن العاصمة في غزواته، إذ أنه كان يقود جيوشه بنفسه.
وحوادث هذه القصة تبدأ في هذه الفترة أثناء عودة أسرتسن من إحدى حملاته في غرب (ليبيا) قافلاً إلى عاصمته طيبة في الجنوب، ففي طريقه جاءه رسول من القصر ينعى إليه أباه، وكان من رجال حملته الأمير سينوحيت الذي أورد الكاتب القصة على لسانه - واقفاً بجانبه والرسول ينبئه بالنعى، ففر بحياته المهددة مجتازاً وادياً شرقي إدهى (الدلتا) ثم الصحراء الشرقية ثم شمال سينا حتى بلغ فلسطين التي كان يسكنها العامو، وبهذا الاسم ورد ذكرهم في القصة.
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن سينوحيت الذي أجرى الأديب القصة على لسانه كان ابناً
لامنمحعت، وقد يزيد بعضهم انه ابن غير شرعي بدليل ما ورد في القصة من اتصاله المكين بالملكة والأميرات، وهذه الألقاب الضافية التي أسبغها عليه الأديب مما يدل على قوة قرابته من الملك.
ويذهب البعض أيضاً إلى أنه لم يهرب من مصر إلى خوفاً على حياته من أسرتسن أن يقتله حتى لا ينازعه بعد موت أبيه العرش الذي استولى عليه قبلئذ بعشر سنوات في حياة أبيه.
وهذه القصة تصف كثيراً من أحوال مصر وأمنمحعت وأسرتسن والبدو من قبائل الصحراء الشرقية وسينا وسكان فلسطين وعلاقة مصر بجاراتها في ذلك العهد البعيد (نحو 2000 سنة ق. م) وكل اولئك ينطبق على ما هو معروف في التاريخ عن ذلك العهد حتى أن أثريا ثقة هو العالم الإنكليزي السير فلندرز بترى يذهب إلى أنها قصة دونها صاحبها لإثبات حوادث تاريخية كما كان الملوك قبل ذلك يدونون وقائعهم على جدران قبورهم وآثارهم. ويرى أنه لا يبعد أن يعثر المنقبون يوماً على قبر هذا الأمير سينوحيت، وأن يجدوا هذه القصة منقوشة في قبره.
القصة
حدّث الأمير سينوحيت حافظ أختام الملك ونديمه الوفي، والفيصل في المشكلات، والقيّم على أحوال الغرباء. قال: كنت في حاشية سيدي الأمير وقرينته العزيزة عنخت أسرتسن سليلة الملوك وشريكة حياة ولي العهد.
وحدث في السابع من بابة من العام الثلاثين أن تسلل الإله القصر، وقبض روح الملك الطيب سحتب آب رع (امنمحعت الأول) التي صعدت إلى السماء راجعة إلى مصدرها، وهكذا قدر للقصر الزاهر أن تطبق عليه الكآبة، فتوصد أبوابه، ويخر خدمه على وجوههم حداداً على مولاهم العظيم.
حدث ذلك بينما كان جيش مصري جرار يخوض غمار معارك طاحنة في الغرب، إذ كان الملك قد بعث قبل موته بهذا الجيش إلى تمهو (لوبية) وزوده بطائفة من خير قواده، وكانت قيادته العليا للإله الباسل الملك أسرتسن ابنه وخليفته في ملكه، وما انتهى الجيش من حروبه حتى قفل راجعاً وقد غنم كثيراً من الأسرى، وقطعاناً لا حصر لها من الأنعام.
قرّ رأي رجال البلاط أن ينهوا إليه خبر الفاجعة، فبعثوا إليه برسول يحمل النعي إليه أثناء رجوعه من الغرب قبل أن يصل، ولما جاءه الرسول كان الظلام قد أطبق على الأرض فأفضى إليه برسالته قائلاً:(لقد طار الصقر).
كان غرض الرسول بهذه التعمية ألا يقف أحد من رجال الجيش على جلية ما حدث، غير أني لم أكن بعيداً حين أفضى إليه الرسول برسالته، فسمعتها، وما كدت أسمعها حتى وعيتها فزلزلت لها زلزالاً شديداً.
استحوذ الخوف عليّ، واشتدت خفقات قلبي، وسرت في أوصالي هزة هائلة، وإذا بساقيّ تنطلقان بي بعيداً عن الجيش، وكانت عيناي أثناء عدوي لا تنفكَّان تنقبان ذات اليمين وذات الشمال عن مأوى إليه من مخاوفي، فما ظفرت بعد لأي إلا بنباتات قليلة انطرحت خلالها مختفياً عن أعين الجيش، متربصاً أن يمر علىّ فلا يراني.
وعَبر بي الجيش فلم يرني أحد، ولم أكد آمن نظراته حتى انطلقت أعدو إلى الجنوب، ولكن لا لأعود إلى العاصمة بل لأهرب بحياتي؛ فقد رسخ عندي أن لا حياة لي بعد أن مات الملك.
وطفقت أغذ خطاي حتى انتهيت إلى الجميزة فجعلتها خلفي، وواصلت سراي حتى بلغت سنفرو فبت ليلتي تلك فيما حولها من المزارع.
وعندما أشرقت الشمس شرعت أسير، وفي أثناء الطريق لقيني رجل فخاف مني، وطلب مني الأمان، فتركته وتابعت رحلتي، وقبل حلول الليل رأيتني عند كرأهاو، وهنا وجدت طوفاً على شاطئ النهر لا سكان له، فامتطيته تاركاً نفسي تحت رحمة التيار الذي دفع طوفي إلى شرق آكو، وهي للرّبة حربت ربة الجبل الأحمر، وكان بها كثير من المحاجر، وهناك بلغت الضفة الشرقية فهبطت من الطوف وتركته.
ولم أتمهل هناك بل انطلقت إلى الشمال حتى بلغت مسلحة أقامها الملك في ذلك الثغر لمدافعة جموع الساتي، فأعتراني الخوف من أن يراني رجال الحامية الذين كانوا يتناوبون حراسة الحدود من فوق الأسوار، فاختبأت وراء شجرة هناك حتى لا تقع أنظارهم عليّ.
وقد أفلحت فيما أردت، وبقيت في مخبئي حتى إذا عسعس الليل برزت أحْدس في مناكب الأرض إلى ان تنفس الصبح، وإذا أنا عند بتن، فتركتها وانحدرت في وادي كيمور.
وفي هذا الوادي مرت عليّ تجربة قاسية شعرت معها بأني هالك لا محالة، فقد عراني ظمأ ملح، جفف حلقي، وحشرج أنفاسي، وجعل صدري ضيقاً حرجاً. ولكني لم أيأس ولم أهن، بل اعتصمت بالصبر، وأجمعت أمري، وإذا أنا بأصوات تطرق أذني، وغناء عذب يهبط علىّ بالسكينة والأمل، ثم إذا رجال من الساتي كانوا يتجولون هناك، وكان فيهم رجل رحل إلى مصر فعرفها وأحبها، وقد عرفني الرجل فأكرم وفادتي، وسقاني ماء ولبناً فرويت وشبعت، وقادني إلى خيمته، وأضافني هو ومن معه فأحسنوا ضيافتي، ثم دعتني قبيلة أخرى إلى الإقامة بينهم فلبيت دعوتهم، ونزلت فيهم أياماً، ثم رحلت شرقاً حتى بلغت بي الرحلة أدوم فنزلتها.
(البقية في العدد القادم)
محمد خليفة التونسي
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
673 -
عزله بنقرة
ولى عبد الله بن طاهر بعض بنى أعمامه مرو، فاشتكاه أهلها، ووفد جماعة منهم على عبد الله وشكوه إليه وأكثروا القول فيه. فقدر أنهم يتزيدون عليه فلم يعزله، فلما انصرفوا قال بعض المشايخ أنا أكفيكموه، وورد على عبد الله فسأله عن حال البلد، فأخبر بالهدو والسكون، ثم سأله عن خبر واليهم، فوصفه بالفضل والأدب وما يجمعه والأمير من النسب، وبالغ في ذكر الجميل ثم قال: إلا أنه، ونقر بإصبعه على رأسه نقرة (يعني أنه خفيف الدماغ).
فقال عبد الله: ما للولاة والطيش: اعزلوه فعزله.
وأنصرف الشيخ إلى مرو فأعلمهم انه عزله بنقرة. .
674 -
أبو نؤاس والعباس بن الأحنف
في (المثل السائر) لأبن الأثير:
لما دخل أبو نؤاس مصر مادحاً للخصيب، جلس يوماً في رهط من الأدباء وتذكروا منازه بغداد فأنشد مرتجلاً:
ذكر الكرخ نازح الأوطان
…
فصبا صبوة ولات أوان
ثم أتم ذلك قصيدة مدح بها الخصيب. فلما عاد إلى بغداد دخل عليه العباس بن الأحنف وقال: أنشدني شيئاً من شعرك بمصر، فأنشده (ذكر الكرخ نازح الأوطان) فلما استتم الأبيات قال له: لقد ظلمك من ناواك، وتخلف عنك من جاراك، وحرام على أحد يتفوه بقول الشعر بعدك.
فقال له أبو نؤاسوأنت أيضاً يا أبا الفضل تقول هذا، ألست
القائل:
لا جزى الله دمع عيني خيراً
…
وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتم شيئاً
…
ووجدت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
…
فاستدلوا عليه بالعنوان
ثم قال ومن الذي يحسن أن يقول مثل هذا!
675 -
العيوق
أبو تمام:
إن لله في العباد منايا
…
سلطتها على القلوب عيون
البحتري:
قال بطلا وأفال الرأي من
…
لم يقل: إن المنايا في الحدق
676 -
هذا لا يدعها أبداً
قيل لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن بنيك يشربون الخمر. فقال: صفوهم لي. فقالوا: أما فلان فإذا شرب خرق ثيابه وثياب نديمه. فقال: هذا سوف يدعها. قالوا: وأما فلان فإذا شربها تقيأ في ثيابه. قال: وهذا سوف يدعها. قالوا: وأما آدم فإذا شربها فأسكن ما يكون، لا ينال أحداً بسوء. فقال: هذا لا يدعها أبداً. ومن قول آدم بن عبد العزيز:
شربنا الشراب الصرف حتى كأننا
…
نرى الأرض تمشي والجبال تسير
إذا مر كلب قلت قد مر فارس
…
وإن مر هر قلت ذاك بعير
تسايرنا الحيطان من كل جانب
…
نرى الشخص كالشخصين وهو صغير
677 -
وعيس بنى الدنيا لقاء بناتها
في (ثمار القلوب): بنو الدنيا هم الناس، وقيل لعلى (رضى الله تعالى عنه): أما ترى حب الناس للدنياء؟!
فقال: هم بنوها.
وسمعت الخوارزمي يقول: أحسن ما قيل في مدح النساء، قول الشاعر:
ونحن بنو الدنيا وهن بناتها
…
وعيش بنى الدنيا لقاء نباتها
678 -
فلم يفتلذك المال إلا حقائقه
نصيب:
إذا المال لم يوجب عليك عطاَءه
…
صنيعةٌ تقوى أو صديق توامقه
بخلت وبعض البخل حزم وقوة
…
فلم يفتلذك المال إلا حقائقه
679 -
فنفشت أذنابها
في (خزانة الحموي): كتب ابن جلنك الحلبي إلى قاضي القضاة كمال الدين بن الزملكاني. رقعة يسأله فيها شيئاً فوقع له بخبز، واستحى أن أقول: انه رطلان، فتوجه ابن جلنك يوماً إلى بستان يرتاض فيه، فقيل: أنه لقاضي القضاة المشار إليه فكتب على حائط البستان:
لله بستان حللنا دوحه
…
في جنة قد فتحت أبوابها
والبان تحسبها سنانيراً رأت
…
قاضي القضاة فنفشت أذنابها
680 -
اتفاق عجيب
قال صاحب المسهب: كنت بمجلس القاضي ابن حمدين وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها وفي الجملة هلال شاعر غرناطة ومحمد ابن الاستجى شاعر استجه الملقب بحركون. فقام الاستجى وأنشد قصيدة منها:
إليك ابن حمدين انتخلت قصائدا
…
بها رقصت في القضب ورق الحمائم
أنا العبد لكن بالمودة اشترى
…
إذا كان غيري يشترى بالدراهم
فشكره ابن حمدين ونبه على مكان الإحسان، فحسده هلال البياني، فلما فرغ من القصيدة قال له هلال: أعد على البيت الذي فيه ورق الحمائم، فأعاده. فقال له: لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق.
فقال له محمد الاستنجى في الحين: ولو أزلت أنت النقطة عن العين كنت تحسن (وكان على عين هلال نقطة) فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب.
681 -
من زاوية إلى زاوية
كان مهيار الديلمي الشاعر الأديب صاحب المحاسن والشعر العذب الرائق مجوسياً فأسلم على يد السيد المرتضى وكان يتشيع.
قال له القاسم بن برهان يوماً: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية.
قال: وكيف ذلك؟
قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب محمد في شعرك. . .
682 -
فلا يسب أبا بكر ولا عمر!
قال ابن قطرال: كنت بالمدينة إذ أقبل رجل بفحمة في يده، فكتب بها على جدار هناك:
من كان يعلم أن الله خالقه=فلا يحب أبا بكر ولا عمرا
وأنصرف، فألقى على من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل، فجعلت مكان يحب يسب. ورجعت إلى مجلسي، وجاء فوجده كما أصلحته، فجعل يتلفت يميناً وشمالاً، كأنه يطلب من صنع ذلك ولم يتهمني، فلما أعياه الأمر أنصرف.
محمد اسعاف النشاشيبي
يوم في الجامعة
مسرحية في مشهد واحد
لصاحب السعادة عزيز أباظة باشا
مثلها طالبات معهد التمثيل وطالباته في حضرة صاحب الجلالة الملك بقصر صاحبة السمو الأميرة شويكار في ليلة عيد الميلاد الملكي السعيد.
الممثلون:
شفيق. يحي. عباس. طلبة بالجامعة
زينب. سعاد. سميرة. طالبات بالجامعة.
(يدخل الخمسة الأولى)
زينب: (لشفيق وهو منهمك في قراءة صحيفة):
صاح ما الأنباء؟
شفيق: عن ماذا؟
سعاد: عن الدنيا
شفيق: مهازل!!
عالم يذخر بالخلف
…
ويغلي كالمراجل
يقلب الباطل حقا
…
ويرد الحق باطل
يحي: وبلاد تخلف الوعد=وسُوَّاس تماطل
وشعوبٌ في ظلال الس - ـلم بالختل تقاتل
شفيق: (في اشمئزاز)
قيل دويلات صغيرات
…
ودولات كبيرة!!
عباس: قولة الظلم وإن لم=تطمس الحق كبيرة
قيل ضم الناس عدل
…
وعلى الأرض السلام
ظلموا العدل فما العدل
…
اعتداء واهتضام
شفيق: لن يعيش الكون في سلم=ولن تطوي شروره
ما استمر العالم
…
المغرور يحدوه غروره
يحي: كل يوم صور للعس - ف والغصب جديدة
احتلال فانتداب
…
فوصايات رشيدة؟؟
عباس: حفظوا المعنى وزافوا=اللفظ والدنيا شهيدة
يحي: يا دهاة العصر رو - ح العصر عدل وتصافي
يا حماة السلم ليس الس - لم إذلال الضعاف
زينب: روِّحوا عنكم فمصر=حرسَ الله عُلاها
هي بالفاروق قد أو - فت على أسمى مناها
سعاد: ملك منًّ به الله=عليها فاجتباها
وحماها كل مكروه
…
وبالنفس افتداها
يحي: مصر والفاروق صنوان=جلالاً وعلاء
هو يحبوها خلوداً
…
وهي تحبوه ولاء
عباس: ذكرت الولاء لمولى البلاد=وباعث نهضتها الرائعة
وأولى العباد بهذا الولاء
…
شباب البلاد بنو الجامعة
شفيق: رعانا وأنشأنا نشأة=نباهى بها في الشعوب الشبابا
زينب: وهيأنا لغد صالح=فكان الدعاء وكنا الجوابا
عباس: وشجع من نبغوا بيننا=فزدنا دنواً له واقترابا
شفيق: (في فخر وادعاء)
دعانا فأنزلنا قصره
…
وبوأنا المنزل المستطابا
زينب: (في استنكار مرح)
دعاك؟ وهل كنت فيمن دعا؟
سعاد: (في حال كحالتها)
ومثلك ما همَّ إلا وخابا
شفيق: (ينظر لهما في غيظ مرح ويقول في نغمة يائسة):
دعاهم فأنزلهم قصره
…
فنالوا المنى عنده والرغابا
يحي: وأطعمنا قبل حلو الطعام=رضا فزكا الحمد منا وطابا
وكرمنا فحنينا الرؤوس
…
بأعتابه وخفضنا الرقابا
شفيق: وحملنا
(ثم يستدرك ويقول)
وحملكم مشعلاً يهتدي
…
به الجيل بين طوايا الظلَم
عباس: وأيقظ فينا شعور الجهاد=وزودنا بالحجى والهمم
وقال إذا شدتمو للبلاد
…
صروحاً على الفضل لم تنهدم
زينب: وعلمنا السبق للمكرمات=وكرم من بيننا من سبق
شفيق: وقال بأخلاقكم فابدأوا=فإن عتاد النجاح الخلٌق
سعاد: وكان لنا مثلاً نحتذيه=فأنعمْ وأكرمْ بهذا المثل
يحي: رعى شعبه واتقى ربه=على سنة الراشدين الأوَل
فبوأه الله عرش القلوب
…
وأسكنه الشعبُ بين المقَل
(تدخل سميرة وهي تكاد تعدو وتشير إليهم بأوراق في يدها في فرح وزهو)
الجميع: سميرة
سميرة: بشراكمو إخوتي=وأبناء جامعتي النابهينا
بلغنا مني العمر فزنا بما
…
حسبناه حلماً
بعضهم: (في لهفة): ألا خبرينا
سميرة: مدينة فاروق زين الملو - ك للطالبات وللطالبينا
عباس: ألا إنها أمل لم يكن=به الدهر إلا شحيحاً ضنينا
يحي: قطعنا الزمان وأحلامنا=تداعبه وعبرنا السنينا
سميرة: ألا فاهنأوا قد ظفرتم به
شفيق: أحقاً تقولين أم تهزلينا
سميرة: أأهزل في منة للمليك=ستلزم أعناقنا ما حيينا؟
زينب: بربك قولي الذي تعرفين
شفيق: وقولي كذلك ما تجهلينا
(تتكلف سميرة التحفظ في مرح)
سعاد: (في صبر نافد):
ألا تنطقين!!
سميرة: (تشير بيدها إشارة لا)
شفيق: (في حركة صبيانية): سنمضي إلى=العميد فنعلم ما تعلمينا
(يهمون بالخروج فتقف سميرة في سبيلهم مادة ذراعيها لمنعهم)
سميرة: تعودوا الصبر
يحي: إن الصبر عادتنا=في النائبات. وهذي فرحة العيد
شفيق: بحق فاروق قولي ما أحطت به=فما سكوتك عن هذا بمحمود
سميرة: (في فخر ومرح):
إذن خذوا أكرم البشرى وأروعها
…
وتوجوها بتحميد وتمجيد
مدينة الجامعيين التي وعدوا
…
قدما ًفكانت سراباً في المواعيد
قد هيأ العاهل الفاروق مولدها
…
على يديه. فكانت خير مولود
قال ارفعوها وساق المال عن سعة
…
وذاك أقدس تعضيد وتوطيد
وساهمت أمراء البيت تَقْدمهم
…
أميرة الفضل والإحسان والجود
شفيق: قد كان يعلم ما يلقى الغريب إذا=نبت به الدار من هم وتسهيد
عباس: رمت بنا مصر من أقصى أطرافها=فلم تزل بين إرهاق وتشريد
يحي: (يشير لشفيق):
وبيننا فئة لجِ الشباب بهم
…
سَمْت العثارِ فألقوا بالمقاليد
شفيق: لأنهم حرموا دوراً تزف لهم=رقابة الأهل في عطف وتسديد
يحي: ما زال فاروق يهدينا ويكلأنا
سميرة: في ظل مُلك منيع الركن ممدود
(الجميع في صوت واحد):
هذي مدينتنا كدنا نطيف بها
…
يا عيد فاروق. هذي منحة العيد
ستار
البريد الأدبي
عود إلى لقب السفاح:
كنت ذهبت في مقالات نشرتها بالأعداد (346، 347، 349) من مجلة الرسالة الغراء، إلى أن لقب السفاح لم يكن اللقب الحقيقي لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وإنما هو لقب أطلقه عليه بعض المؤرخين، وأخذه من قوله في بعض خطبه (فأنا السفاح المبيح، والثأثر المنيح) فغلب عليه في كتب التاريخ، وغطى على لقبه الحقيقي، ثم ذكرت أن لقبه الحقيقي كان القائم أو المهتدي أو المرتضي، كما ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والقلقشندي في صبح الأعشى.
وقد ذكر الأستاذ ميخائيل عواد نصاً جديداً في العدد الأول من السنة العاشرة من مجلة المعلم الجديد العراقية، نقله عن هلال بن المحسن الصابي صاحب كتاب رسوم الخلافة، وقد جاء في هذا النص أنه اختلف في لقب أبي العباس، فقيل القائم، وقيل المهتدي، وقيل المرتضي، لما غلب عليه السفاح، وإنما ذكر بذلك لكثرة ما سفح من دماء بني أمية.
ولا شك أن هذا النص يؤيد الرأي الذي ذهبت إليه، ويثبت أن لقب السفاح قد وصف به أبو العباس من بعض المؤرخين، ولم يكن لقباً حقيقياً له.
عبد المتعال الصعيدي
اللجنة الثقافية للجامعة العربية:
عقدت اللجنة الثقافية العامة جلستها الأخيرة في الأسبوع الماضي فبحثت في مشروع إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية الموجودة في العالم وتصوير أقيمها وأفيدها ووضعها تحت تصرف العلماء والباحثين والناشرين في أطراف العالم.
وقد قابلت اللجنة هذا المشروع بتحمس شديد لأنه يضمن الوصول إلى كنوز الفكر العربي ويحفظ تراثه الموجود من الضياع والتشتت، وقد أقرت هذا الموضوع، وطلبت عرضه على مجلس الجامعة العربية في دورته المقبلة، ثم نظرت في مشروع مؤتمر عام يجتمع فيه عدد كبير من علماء العرب الذين يعنون بالثقافة العربية فيبحثون في أمرين على غاية من الأهمية في تقوية الروح القومية والثقافية العربية.
أولهما: وضع مناهج للحد الأدنى من الثقافة العربية في التاريخ والجغرافيا والأدب والأخلاق ينبغي أن يتلقاها طلاب العرب في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية لتقوي فيهم الروح العربية الفاضلة، ويطلعون على ما ينبغي عليه من الثقافة العربية.
وثانيهما: بحث وسائل تحسين الطرق والأساليب التي تدرس بها اللغة العربية، فأقرت اللجنة فكرة عقد هذا المؤتمر وعهدت إلى مكتبها الدائم بأن يؤلف لجنة من خبراء في الثقافة العربية يعدون وسائل عقد المؤتمر ويحضرون موضوعاته ويدعون إليه.
إلى فضيلة الأستاذ الطنطاوي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قدمت - أعزك الله - في معرض حديثك عن حرية الكتابة، مثالين اعتمدتهما سناداً لما رويته عما يرتكب في هذا الزمن من خطيئات، وما ينشر من مفاسد وإهانات، تسئ إلى أرباب العلم والأدب، فيكون نشرها جرماً بالنسبة إلى المجتمع العلمي والأدبي، كما يكون السكوت عن مثل هذه الافتراءات، وترك أصحابها يسرحون ويمرحون كمل يحلو لهم جرماً أشد وقعاً على ذلك المجتمع، وقد كان أول المثلين عن كتاب أو ديوان. . . (قالت لي السمراء)، الذي أر فيما قلته عنه إلا الحق الصراج، والنقد المباح الذي لا يترك في نفس المطالع حقداً ولا تميزاً، وإنما هو الإقناع مأتي من أحسن نقاطه، لكل من تهمه الأخلاق، ويهمه أن يكون الدين أو المجتمع مبنياً على ركيزها.
وأما المثل الثاني، فكان عن كتاب يدرس في الصف المنتهي للمدارس الثانوية، هو:(مختصر في تاريخ الحضارة العربية).
وهنا أيضاً لا أرى مانعاً من نقده بما حواه من تخليطات يكفر بمثلها المؤمن، وغلطات علمية لا تغتفر، يجب أن يحاسب المؤلف عليها حساباً عسيراً، وإنما الذي راعني وراع كثيرين غيري ممن يحفظون لكم كبير المقام، ويرمقونكم بنظرات الإكبار أن تأخذوا على المسيحي، أو غير المسلم، تدريس علم التاريخ، والعلوم كما يراها كل الناس، مشاع لا يجوز أن يحتكرها المسلم أو غيره، وليس عجيباً أبداً أن يدرس هذا العلم المسيحي ما دام يقوم بتأدية قسطه العلمي على أتمه، ويؤدي واجب هذا الفرع من العلم بما يرضي الله عباده العالمين الراسخين بذلك العلم.
لقد قلت - حفظك الله - قبل الآن: (أفسمعت بأعجب من تدريس الخواجة ميشيل والخواجة توما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر؟)، وما يمنع - يا سيدي - الخواجة ميشيل من ذلك إذا رأيناه عند تدريس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، متحمساً لها، متعمقاً بدراستها، لا يترك كبيرة أو صغيرة، ولا شاردة أو واردة من تلك السيرة إلا أتى عليها، ولا مصدراً إلا كشف عنه وبين محاسنه ومساوئه؟ وما الفرق بين عدنان وغسان، أو (نظيم) و (ميشيل) أو سواهم، والكل درس في فرنسة، وتلقى علمه وأدبه ونال شهادته التي هو موظف بموجبها، ويتقاضى راتباً بموجب درجتها، من تلك البلاد الأجنبية؟ ليس من فرق بين هذا وذاك، سوى أن الأول رجع إلينا بمذهب شيوعي وزوجة فرنسية. . . ولم يرجع الأخر وهو أحرى بذلك - إلا بعلمه.
إن معظم هؤلاء المعلمين يا صاحب الفضيلة، ملحدون، ولأمور دينهم ودنياهم لا يفقهون، وعن طريقها القويم ضالون، وما أنت - أيها الأستاذ - بغريب عن كل ذلك، وما المشادة التي حصلت بينك وبين بعضهم في زمن ليس بالبعيد، وكانت السبب الأول في تركك التعليم في المدارس الثانوية، وتوجهك وجهة القضاء الشرعي، إلا من أدعم البراهين لما أقول.
أنا أول من يقول بإبعاد من لم يكن كفئاً للتدريس عن مسارح التعليم، كائناً ما كان دينه، وأول من يؤيد فكرة القيام بفحص عام لهؤلاء الذين يحملون شهادات الجامعات الفرنسية، وبينهم من يحمل الدكتوراه في الأدب العربي، وكانت أطروحته عن أحد الخلفاء الراشدين، والمجاز في علم الجغرافيا، ولا يعلم حدود بلاده على التحقيق! ويقول أثناء إلقاء دروسه:(هؤلاء الجبال يمتدون مرتفعين) وإذا كنت كذلك فلا أراني معارضاً إبقاء من هو أهل للتعليم من هؤلاء - وهم كثرة أيضاً - في مركزه.
وأخيراً، أرجو أن لا أكون أغضبت فضيلة الأستاذ، بما أقدمت على لفت نظره إليه، وهو الواسع الصدر؛ وما دفعني إلى ذلك إلا حبي لصراحته وأسلوبه النقدي أولاً، ثم لأدفع عنه تهمة أحب البعض ممن يدعون التجدد من الشباب إلصاقها به، وهو بعيد عنها، حيث قالوا: إن فضيلة من (المتعصبين) أو ممن يدعوهم مركزهم الديني ووظيفتهم الشرعية إلى مثل هذا الكلام في صدد بعض المعلمين المسيحيين، وأنا أول من يشهد بأن الأستاذ - وهو
الجرئ في كلشيء - لم يقصد بما قال إلا وجه الحقيقة والدين والأخلاق، وهو عما ينعتونه بعيد، ومما يلصقونه براء
وعلى كل حال فالرأي له، وهو أجدر بالرد على هؤلاء، بما عرف به من لسان فصيح، ونطق بليغ، وحجة قوية؛ بشرط أن يميز بين هؤلاء وأولئك ممن عنيتهم في صدر كلمتي هذه، والسلام.
دمشق
عزت عثمان
مجاز في الأدب والفلسفة
القصص
قصة البانية:
المهد الذهبي
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 3 -
اتجه الشابان إلى المقهى الذي اعتادا الجلوس عليه، وقبل أن يصلاه قابلهما صديقهما (شفيق حامد) ومر بهما دون أن يحييهما، فظنا أنه لم يرهما، أو أن شاغلاً شغله عنهما، ثم إنهما انتحيا في المقهى ناحية خالية من الناس واتخذا مقعدين متقابلين وبعد صمت لم يدم طويلاً قال فريد:
- لا يعلم إلا الله وحده أين أكون بعد شهر من هذا التاريخ؟
- من الرأي ألا تبرح المدينة إلا إذا دعت ضرورة ملحة.
- وهل أنا مجنون؟ كيف لا أبرحها وعندي جبل من النقود؟
- لا تبرحها لنرى أولاً مقدار النقود التي ستحصل عليها من هذا الكنز.
- إنها عدة ملايين على أقل تقدير.
- ما دمت تريد الملايين يجب أن تظل هنا مؤقتاً.
- أظل هنا لأخرج كل يوم إلى المتجر وأقضي نهاراً متعباً في البيع والشراء كما كنت قبلاً! إن ذلك لن يكون.
- أمهلني لأتمم حديثي. يجب أولاً أن تعرف قيمة الآثار المادية، ثم يجب ثانياً أن تبحث عن طريقة لبيعها، فإذا ما تم ذلك وأصبحت النقود معك فيجب إبقاء عليها من الضياع أن تضع مقداراً كبيراً منها في بنوك سويسرا وانجلترا، ومن النقود الباقية يجب أن تنشئ معهداً خيرياً يعلو به ذكرك، ويخلد اسمك.
- نعم! في مقدمة مشروعاتي أن أعمل شيئاً خدمة للوطن وليكن معهداً كما تقول للتعليم بالمجان.
- معهد خيري لتعليم المواد المختلفة ويتبعه مستشفى لمعالجة الفقراء، وتجلب لهما كبار العلماء، ومشاهير الأطباء في العالم، عدا من يقع عليهم الاختيار من أبناء الوطن المبرزين، وتدفع لهم أجوراً طبية.
وماذا أيضاً؟
- تريث فحديثي لما ينته، ثم تنشئ أيضاً ملجأ للعجزة والمعوزين الذين نكبهم الدهر في أنفسهم وأهليهم. . . وتؤسس مكتباً للمحاماة يضم أشهر المحامين ليقوموا بالدفاع عن أولئك القرويين الذين تضيع كثير من حقوقهم لجهلهم بالقضايا وعدم ترددهم على المحاكم. وتلحق بهذا المكتب داراً للكتب! ولكن اترك أنا هذه الأخيرة فأني أريد أن أقوم بها.
لماذا؟
هل تريد أن تعمل أنت الآخر شيئاً؟ قال فريد هذه العبارة بتعجب رداً على استدراك صديقه كأنه لم يرقه. فأجابه محمود:
نعم! أريد أن أخلد أنا الآخر اسمي ولكن ذلك يتوقف على المقدار الذي ستتنازل لي عنه، فإن كان كثيراً فسأقوم أنا أيضاً بتأسيس معهد آخر.
ومن أي أنواع المعاهد يكون هذا المعهد؟
معهد ثقافي أجمع فيه علماء اللغة، وأقوم بطبع مجلة شهرية، وأدون مفاخر الألبان وقصص القدماء وأشعارهم وأغانيهم وعاداتهم بحيث لا أترك بقعة من بقاع الدنيا إلا سردت تاريخها وطبائع أهلها، وكل ما مر بها، وأخرج كل ذلك في كتب مفيدة، وأكافئ مؤلفيها أحسن مكافأة تشجيعاً وحثاً على الاستزادة، وسأؤلف لجنة تقوم بتصحيح وطبع القواميس وترجمة كتب من عيون الأدب العالمي، وسأنشئ داراً عظيمة للكتب وصالة عظيمة للمحاضرات.
هذا حسن، وستقوم به إن شاء الله.
ثم إنه يلزم بعثة من رجال ممتازين ممن تفوقوا في مدارسنا لإرسالها إلى الخارج لتتخصص في الفنون التي ستقوم معاهدنا بتعليمها. وفي هذه اللحظة داخل المقهى صديقهما شفيق حامد وتلفت عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه كأنه يبحث عن شخص بعينه، ولما
وقع نظره على فريد ومحمود اقترب منهما فحياهما وسألهما عن السيد لطفي فأجابا أنهما لم يرياه فاستأذنهما وخرج يواصل البحث عنه، ولم تمض بضع دقائق على خروجه حتى دخل السيد لطفي يتلفت هو الآخر ولما مر بجانبهما قال له فريد: لقد كان هناك منذ قليل (شفيق) يبحث عنك.
وإلى أين ذهب؟. ألم يقل لكما؟
لا ندري! فقد خرج دون أن يقول إلى أين ذاهب؟
لعله يرجع، فإني متعب من البحث عنه، ثم أدنى كرسيه منهما وقال: هل لديكما ما يمنع من أن أتشرف بالجلوس إليكما فقالا له:
تفضل فليس أحب لدينا من ذلك.
خلع السيد لطفي معطفه ووضعه فوق مسند الكرسي ثم جلس مع الشابين تبدو عليه مظاهر الحزن ودلائل التفكير مما حمل فريداً ومحموداً على سؤاله.
ماذا عندك؟ وفيم تفكر؟
لا شيء، فلم يجد للآن جديد وإني أعتقد أنه بعد قليل من الزمن سيكون لدينا أخبار جديدة مهمة.
وهل تعتقد أن شيئاً مهماً سيحصل؟
أقصد أخباراً شخصية خاصة لا مصلحية عامة.
طبعاً، إنك تعرف أننا نحب أن نسمع عنك كل خير ونتمنى لك كل سعادة.
أعرف ذلك جيداً وأشكركما.
على كل حال فإننا نهنئك مقدماً بما تنتظر من خير.
آه! لو تعرفان ماذا أنتظر؟ ثم رأى صديقه شفيقاً قد دخل من باب المقهى فقال لهما: هذا هو شفيق؛ وناداه فاقترب منهم وقال للسيد لطفي: أين كنت؟ فقد فتشت عنك كثيراً، إني أريد أن أحدثك على انفراد في موضوع هام.
انتظر قليلاً حتى أشرب الشاي فقد أوصيت عليه.
المسألة مهمة، لا تحتمل الانتظار، فاعتذر السيد لطفي للشابين ولبس معطفه وخرج مع شفيق.
قال فريد لصاحبه ضاحكاً ماذا بهما؟
قد سمعت إنه يقول: أعمال خصوصية، ولست أدري ماذا يريد بها؟
لا يبعد أن يكون قد التحق بوظيفة؛ فإنه يسعى لهذا من زمن بعيد، وأنا أعلم أن حاله سيئة جداً.
مسكين والله؛ فقد كانت أسرته من أغنى الناس، وكانوا جميعاً يرتعون في بحبوحة النعيم ولكن! هي الأيام.
يقال في المثل: ارحموا عزيز قوم ذل، فإن مصيبته أكبر من مصيبة من لم يذق للعز طعماً.
لقد باعوا كلشيء بالمزاد؛ فقد كانت بيوتهم مجاورة لبيوتنا. . . وبعد فترة سكوت قصيرة رجعا إلى ما كانا فيه من حديث قبل مجيء السيد لطفي، فأخذا يتباحثان في أحسن الوسائل وأنجح الطرق لإنفاق هذه الأكداس المكدسة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. . .
ولما دقت الساعة الثامنة خرجا من المقهى وفي الطريق دعا فريد محموداً للمبيت معه في منزله، ولكن محموداً اعتذر؛ فقد شم من بعيد أن والد صديقه قد ثقل عليه أن يراه مع أبنه في البيت.
وقال لفريد. سنتقابل في الصباح المبكر، ثم افترقا بعد أن تمنى كل منهما لصاحبه ليلة سعيدة.
عندما وصل فريد إلى منزله قصد إلى حجرة والدته التي كانت مريضة مرضاً مزمناً من سنوات مرت، وليست تستطيع أن تفارق الفراش ولا أن ترى الموقد غير مشتعل ليلاً أو نهاراً، وكان فريد يقضي معها بعض الوقت كل يوم في الصباح قبل الخروج إلى المتجر وفي المساء بعد العودة منه، ولم رأته في هذه الليلة والسرور يشع من قسمات وجهه قالت له بعد أن صرفت الخادم التي تقوم بشئونها: لقد أخبرني والدك بما حدث فهل أنت مسرور؟ فرد عليها بصوت تعمد أن يكون رزيناً هادئاً فقد ضبط شعوره حتى لا تتأثر والدته. . . نعم أنا مسرور جداً؟ فإن الحظ قد ابتسم لنا وأصبحنا نستطيع أن نمد يد المساعدة للآخرين. وأنت ماذا قلت عندما بلغك الخبر؟. فابتسمت ابتسامة لطيفة وإن ظل بريق الحزن المكبوت في قلبها يشع في عينيها؛ فقد كانت محرومة من كل نعيم في الدنيا،
وقد علمها المرض أن التقديس لا يكون إلا للكنوز المعنوية وهي العمل الصالح الذي ستلقاه شفيعاً لها أمام الله يوم الضيق، والضنك، يوم القيامة ولذلك أجابت:
لم أقل شيئاً! وإنما سررت كثيراً جداً من أجلك أنت. فقال بصوت امتلأ حناناً وإجلالاً وتقديراً: سيكون أول عمل أبدأ به أن أرسل في طلب أشهر الأطباء العالميين المتخصصين ليقتلع جذور هذا المرض الوبيل من جسمك الطاهر. فأخذت يده في يدها وجعلت تضغط عليها تعبر بذلك على أنها سعيدة بسعادته وأنها تتمنى له كل خير. . .
غادر فريد حجرة والدته، وعطف إلى حجرة المائدة فوجد والده يتناول عشاءه وهو عبوس الوجه، مقطب الجبين، شارد اللب، مبلبل التفكير، ورد تحية ابنه بصوت ضعيف حزين، ثم خيم سكون شامل، لم يكن يقطعه إلا رنين الشوك والملاعق وخشخشة السكين في الأطباق، وإن فريد - وقد تناول عشاءه مع بيرام ومحمود مبكراً - جلس ساجي الطرف، مطرق الرأس متحيراً، لا يدري السر في حزن والده المفاجئ، ولا يعرف من أين ولا كيف يبتدئ الحديث معه؛ فقد انسدت عليه مسالك القول من هذا الجو القاتم، ولم ير من المستظرف أن يغادر المكان دون أن يتكلما في الموضوع على انفراد ليكونا طليقين. . . وأخيراً وبعد صمت طويل قال الوالد في تأثر ظاهر: كان يسرني أن تكون أبعد نظراً، وأسد رأياً، وأكثر حكمة، فلا تقع في هذا الخطأ الذي وقعت فيه فإن قعودك عن مرافقة القروي إلى الكهف قد يفوت عليك الفرصة، ففي المثل (إذا خرج الطير من الوكر فإن القبض عليه ثانية مصادفة قد لا تكون). وهاهي السيارات تحت تصرفك فلم لم تركب إحداها وتذهب معه؟ ألا تخشى أن يذهب القروي إلى غيرك؟
لست أعتقد ذلك، فقد خرج شاكراً لأني أعطيته جنيهين.
وهذا أيضاً تصرف سيئ؛ فإن جنيهين مبلغ لا يعري كان الواجب أن تعطيه خمسة على أقل تقدير.
أنه غير محتاج؛ فقد سألته عند انصرافه أن يأخذ غيرها فرفض.
سكت التاجر لحظة والغضب يشيع في وجهه، ثم قال فيشيء من الحدة: ولماذا أطلعت محموداً على هذا الموضوع؟ ألا تعلم أنك بهذا العمل قد برهنت على قصر نظرك، وقصور عقلك، وعقم تفكيرك، وأن محموداً سيطالب هو الآخر بمثل نصيبك في هذا الكنز؟ ولن
تستطيع أن تدافع عن أحقيتك منه. . . فنكس فريد رأسه ولم يقل شيئاً بل جمد في مكانه يستمع إلى والده وهو يقول: أتستبعد أن يتسلل محمود في هذا الوقت إلى القروي ويعرض عليه شروطاً أسخى؟ وطبيعي لا يرفض القروي، بل إنه يرحب به وينساك وينسى هذه الساعات التي قضاها معك هنا. . . إنك دائماً لا تحسن التصرف في الأمور التي تتولاها وأنا غائب! فرفع فريد رأسه وعارض والده فيما نسبه لصديقه وقال له في قوة: لا يا والدي! إن محموداً لا يفكر في مثل هذا.
يا بني، مثل هذه الأعمال يجب على الإنسان أن يخفيها حتى عن أقرب الناس إليه، فقديماً قيل:(اسْتعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) وأنت لا زلت فتى غراً، قليل الدراية بأخلاق الناس ومعاملتهم. . .
إنني يا والدي لم يصادفني مثل إخلاص محمود ولا مثل مروءته وحفظه لحقوق الزمالة.
قد يكون ما تقول حقاً، ولكن على الإنسان أن يحتاط لنفسه. ثم ساد بينهما الصمت حتى فرغ الوالد من طعامه وقال: متى يأتي القروي؟
سيأتي في منتصف هذه الليلة.
أذن عليك أن تنتظره حتى يجيء بالعينات لنراها ونعمل حساباً مبدئياً لما قد نحصل عليه من مكسب. فإنه قبل الشروع في العمل يجب أن نتعقل ونتروى؛ لأن أقل خطأ يتركنا صفر اليدين. وإن عليك ألا تسير خطوة واحدة في غير الطريق التي أرسمها لك، فالآثار ذات القيمة يلزم نقلها على الخيل أو السيارات أولاً وإخفاؤها في الدور الأسفل من هذا المنزل، وإن كان في الأزيار نقود - كم أعتقد - فإنه لا بد من سفرك إلى الخارج لتبيعها على دفعات متواليات. وأما الأشياء الأخرى فما نستطيع تصريفه منها نبقيه وما لا نستطيع تصريفه نرسله إلى الخارج أيضاً.
هذه يا والدي عملية شاقة تحتاج - كما تقول - إلى كثير من التبصر والحكمة.
نعم يا بني! ومن أجل ذلك فإن المكسب سيكون عظيماً وسيعيننا على توسعة تجارتنا وإنشاء متجر كبير لنا في (تيرانا) العاصمة. . . إنك لم تقص عليّ ما اتفقت عليه مع بيرام، وماذا يكون نصيبه من المكسب؟
لقد اتفقت أن نبذل له معونتنا، وأن نقتسم ما نحصل عليه مناصفة.
أبك جنون؟ كيف تتفق معه هذا الاتفاق؟ ولكن لا بأس! فسأعرف كيف أرضيه. إن مائتين من الجنيهات نفرغها في جيبه - بعد أن ننقل من الكهف كلشيء - مبلغ لن يحلم به ولن يقدر أنه سيحصل عليه. فقال فريد: وماذا نعطي محموداً؟
إنك قد أدخلت محموداً في هذا الموضوع من غير داع، وهذا خطأ كبير، فلنترك له تماثيل الأحجار، واللوحات المكتوبة وليذهب بنفسه ليأخذها بعد أن ننتهي من بيع الأشياء الأخرى
قد يكون ثمن التماثيل واللوحات أكثر من ثمن تلك الأشياء؟
إن ذلك هو الواقع! ولكن من المستحيل تهريبها خارج القطر، ثم إن الحكومة ستعلم - إن عاجلاً وإن آجلاً - بشأنها وتستولي عليها، والمهم أن ننجو نحن بما نريد.
مكث التاجر مع ابنه طويلاً يتحدث إليه في هذه المسألة وكان كل هم الوالد أن يؤسس لهما تجارة جديدة في (تيرانا) وفي العاصمة الثانية (دورس) أكبر مواني ألبانيا. ولكن (فريداً) كان غير مرتاح لهذا الرأي فكان إذا أبداه والده اعتصم بالصمت، وقد كان من رأيه أن التوسعة في التجارة لا فائدة منها ما دامت لديهم هذه الكثرة من النقود. . . ثم إن (السيد عفت) أوى إلى فراشه وترك ابنه في انتظار (بيرام) فقام (فريد) إلى الموقد - وكانت ناره قد خبت - فأشعله، وجلس بجانبه يتصفح جريدة صباحية؛ إذ لم يكن إلى هذا الوقت قد استطلع الأخبار؛ ولكنه عجز أن يحصر انتباهه في الجريدة فقد كان بعيداً بعقله عنها وعن كل ما حوت. وإن عينيه لم تغادرا السطر الأول؛ فقد احتلت اقتراحات محمود بؤرة شعوره، وسيطرت على تفكيره؛ فرأى نفسه على رأس معهدين كبيرين ومشى وراء خياله في تلك الشوارع الواسعة التي ضمت المؤسسات الخيرية التي أنشأها، وتحدث كرئيس أعلى لتلك المؤسسات إلى كبير الأطباء، ومديري المعاهد، وأمناء دار الكتب، وإلى المؤلفين، وإلى غيرهم من الموظفين الذين يأتمرون بأمره؛ فكانوا جميعاً يحوطونه بهالة من الإكبار والإجلال، كسباً لعطفه، واغتناماً لمودته، ثم طار في عالم اللذات فرأى أن المؤسسات تحت رعاية طبية لا تحتاج إلى الكثير من الرعاية، وأن في استطاعته أن يقوم بسياحات واسعة في أوربا، وأمريكا، وأفريقية، ليمتع نفسه تمتع من يملك مثل ثروته. وإنه لفي هذه الأحلام اللذيذة وإذا بأجراس الكنيسة تعلن انتصاف الليل فتدق اثنتي عشرة مرة، فاهتز جسمه، واضطرب قلبه، وأرهفت حواسه، وانقطعت سلسلة أفكاره؛ فقد اقترب موعد
(بيرام). . . ولقد طغت عليه موجة من الخوف والحزن كادت تعتصر قلبه، وتسلبه شعوره، حينما دقت الساعة الأولى بعد منتصف الليل، فأخذ يدور في الحجرة في غير وعي؛ وظل هذا حاله إلى أن دقت الساعة دقتين فثاب إليه بعض الرشد وقصد إلى حجرة الأضياف وأطل منها على الطريق غير عابئ بقارس البرد؛ فإن حرارة جسمه، وثورة غضبه، وإشفاقه من أن يتحكم فيه سوء الطالع وتلعب به يد الأقدار، جعلته في حالة لا يحس معها برداً. . .
أمسكت السماء عن المطر، وانجابت السحب في بعض الأماكن، وأرسلت النجوم من عليائها على الأرض ضوءاً خافتاً ضعيفاً، ومضى الوقت وئيداً وئيداً، واشتد الحزن بفريد شيئاً؛ فشيئاً؛ فملأت الدموع عينيه وضاق به المكان، فرجع ثانية إلى حجرة المائدة، ووقف بجوار الموقد - وقد نسي أن يضع عليه وقوداً - جامداً كالتمثال، إلى أن طلع الفجر، واستنار الكون فأيقن أن رجاءه قد خاب، وأن أمله قد ضاع لأن (بيرام) لم يرجع.
(يتبع)