الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 664
- بتاريخ: 25 - 03 - 1946
أعداؤنا الثلاثة
كانت (الرسالة) أول من حصر أعداؤنا الثلاثة في الجهل والفقر والمرض حين اقترحت على وزارة الشؤون الاجتماعية أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت هذه العناوين، لأنها جُمّاع الملل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؛ وقالت يومئذ: إن هذه الوزارة تجديد رسمي لدعوة النبوة، فملاك الأمر فيها الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. ثم انتظرنا وانتظر الناس، فإذا هي وزارة كسائر الوزارات: مكاتب وكتاب، وسعاة وحجاب، وأوراق تفرق وتجمع، وأرزاق تقّدر وتوزّع، ثم علم من غير عمل، أو عمل من غير علم؛ وإذا نحن بعد ثماني سنوات من عمرها لا نزال من الأمية والفاقة والعلة في الموضع الذي كنا فيه إذا لم نكن تأخرنا عنه. ذلك لأنها وزعت جهدها الضئيل ومالها القليل على ما سلبت من اختصاص الوزارات فعجزت عن أداء ما خلقت له؛ وتعاقب عليها الوزراء والوكلاء تعاقب الظلال الخفاقة ثم يمهلوا حتى ينضجوا الرأي ويرسموا الخطة ويبتغوا الوسيلة. فإذا سنح لها خاطر في الإصلاح بدأته من آخره أو أخذته من طرفه فينتشر عليها الأمر وتلتبس أمامها الوجهة. فالأمل إذن في استعدائها على الجهل والفقر والمرض وهي مصابة بهن جميعاً أشبه الأشياء باستثمار الصفصاف واستيراد العقيم. ولكن علل الشقاء المصري كانت قد برزت في وعينا القومي بروز العقيدة الراسخة والضرورة الملحة، فهي تثب إلى العيون وثوب الحصى، وتقع في القلوب وقوع النبل، فمن حاول أن يفر منها أو يغضي عنها كان كالمصحر في وسط الزوبعة أنى اتجه وجد الرمل في وجهه والظلام في وجهته. وذلك مثل الذين تزعموا نهضة الأمة في مدى ربع قرن فقصروا الجهود وحصروا الأفكار في مكافحة العدو الرابع وهو الاحتلال. ولو كتب الله لهم التوفيق لشبوها على الأعداء الأربعة في وقت واحد؛ ولو مهد لهم سبيل الفوز لجعلوا الميدان الأول للعدو الأول وهو الجهل؛ لأنه هو الذي ولد الفقر والمرض ثم استعان بهما على سلب الاستقلال، وجلب الاحتلال، وقتل الروح القومية في الشعب، فلم يكن له رأي عام لنقص إدراكه، ولا خير مشترك لضعف إنتاجه، ولا كيان صحيح لوهن جسمه. ولكن زعماءنا اختاروا أسلم الميادين، ونهجوا أسهل الطرق، وابتغوا عرض الحياة، لأن محاربة الاحتلال لا تكلفهم غير تأليف المظاهرات وإنشاء المقالات وإلقاء الخطب، ثم تنتهي بهم وشيكاً إلى الحكم والثروة والجاه عن طريق
الدستور أطال الله عمره وأعز نصره! أما محاربة الجهل والفقر والمرض، فجهاد لا يثبت له ولا يصبر عليه إلا أولوا العزم من المجاهدين المخلصين المضحين الذين يعملون ليرضى الله، ويشقون ليسعد الناس، ويموتون ليحيى الوطن!
على أن الزعيم الحكيم يستطيع أن يدرك من وراء السياسة والحكم رضا قلبه ورضا شعبه ورضا ربه إذا تأبّى على المطامع، وتعالى عن الشهوات، ووجّه قوى الحكومة والأمة كلها إلى هذا الجهاد المقدس. إنه إن أحسن التنبيه وأخلص التوجيه وأحكم القيادة، أبلى بلاء الرسل دون أن يتصدى لمخاطر الرسالة، وجوزي جزاء الملوك دون يتعرض لمكاره المُلك، فأجناده يضحون وهو يعيّد، وقواده يحاربون وهو ينتصر، وأنداده يفنون وهو يخلد!
ليت شعري هل كان يفكر في ذلك صاحب الدولة رئيس الحكومة
القائمة حين قطع العزم على أن يكون برنامجه في الحكم مفاوضة
الاحتلال في مصر والسودان على الجلاء، ومجاهدة الجهل والفقر
والمرض حتى الفناء؟!
نعم، طوى برنامجه السياسي على هذين المطلبين، ثم أخذ يهيأ لهما الأسباب ويرصد الأهب، فألف وفد المفاوضة من رجالات السياسة، وفي الوقت عينه ألف مجلساً أعلى لشؤون الطبقات الفقيرة من وزراء المعارف والشؤون والصحة والزراعة والتجارة، وجعل لنفسه الرياسة في الوفد المفاوض وفي المجلس الأعلى، ثم بدأ العمل في الميدانين على السواء. والذي يعنينا اليوم ذكره أن هذا المجلس الأعلى قرر القيام بطائفة من اضخم المشروعات الثقافية والاقتصادية والصحية، تحقق العدالة الاجتماعية، وترفع مستوى العيش لجمهور الشعب وهو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه؛ ورأى تنفيذاً لتلك الأعمال الخطيرة أن يعقد لها قرضاً وطنياً بخمسين مليون جنيه يثمّر فيه عفو المال وفضلات الرزق فتجدي على صاحبها مرتين: مرة في نفسه، وأخرى في جنسه!
من تلك المشروعات العتيدة ما يعالج الجهل كإصلاح التعليم الإلزامي، ومحو الأمية فيمن شبوا عن الطوق وجاوزوا حد الإلزام. ومنها ما يعالج الفقر والمرض كتقسيم القطر إلى وحدات اجتماعية عامة، تنقسم كل منها إلى عشرة آلاف وحدة، تتمثل في كل وحدة جميع
الوزارات المشتركة في هذا المجلس الأعلى فتكون سفيراً بين الحكومة والفلاح، وصلة بين العلم والزراعة، ورسولاً من الطب إلى المرضى، ووسيطاً بين التاجر والمنتج، وبرزخاً بين الناس والمعرفة؛ وتلك هي الأعمال التي أنشئت لها وزارة الشؤون فلم تستطع النهوض بها، ولم تصارح الناس بالعجز عنها؛ وظلت تعمل على هامش الحكومة: تصدر المجلة، وتعلن الموالد، وتسجل النقابات، وتزور المساجين، وتستقبل العمال، وتأخذ شيئاً من كل شيء، ولا تؤثر أبدا في أي شيء! وكان من وسائلها المرجوة لو رزقت ملكة الابتكار، أن تدبر المال والرجال بمثل ما يدبره اليوم رئيس الحكومة فتذلل العقبة التي وقفت دونها خائرة حائرة لا تعرف لأمرها قِبلة ولا دِبرة.
لقد عبأ رئيس الوزراء قوى الحكومة والشعب لمحاربة أعدائنا الأربعة، وليس في الأمة اليوم كما يقول شبابها ويردد كهولها من يضن بماله ونفسه على هذه الحرب، فهل آن لمصر السادرة في الخلاف والغي أن تدرك سر النهوض، وتعرف حقيقة الإصلاح، وتعلم أن الأمة لا تكون متمدنة إلا إذا امحت هذه الفروق المخيفة بين الخاصة والعامة، وبين المدينة والقرية؟ إنك ترى الفقير القروي في جسمه الضاوي وثوبه الخلق وجهله المطبق، ثم ترى الغني الحضري وعليه زهرة العيش ونضرة الصحة ونور العلم، فلا تصدق أن هذين الرجلين يرامهما وطن واحد، وترعاهما حكومة واحدة!
إن معرة الاحتلال العسكري تصيب المحتل في شرفه وضميره، لأنه يبرره بضعفنا ويؤيده بقوته؛ ولكن معرة الانحلال الفكري والجسدي والاجتماعي تصيب الشعب في كرامته ودينه، لأنه يرضاه وهو قادر على الإفلات من رقبته.
لذلك كنا أحياء أن نفكر بعض التفكير في عاقبة هذه الأمور؛ فأن الوزارة الصدقية محدودة الأجل بنتيجة المفاوضات، فإذا أخفقت مفاوضة الاحتلال، أو مال ميزان الانتخابات إلى الشمال، اعتزلت الوزارة الحكم لا محالة. وإذن يحق لنا أن نتساءل عن مصير العملين العظيمين اللذين بدأهما صدقي باشا؛ فأما المفاوضات السياسية فسيستأنفها وفد يتلوه وفد إلى أن يرث الله الجزر البريطانية ومن عليها، لأن هذا النوع من الجهاد كلام ونحن نجيده، وسلام ونحن نريده. وأما هذه الهبة الإصلاحية فأغلب الظن ألاَّ تستمر، لأنها بناء ونحن نحب الهدم، وعناء ونحن نؤثر الراحة، ومجد ونحن نكره أن يكون لغيرنا الإكرام! والله
سبحانه وتعالى قادر على أن يخيب هذه الظنون. وأن يقول للشيء كن فيكون!
أحمد حسن الزيات
كافور الإخشيدي
للأستاذ أحمد رمزي
احتدم الجدال في إحدى الليالي بين مصري وعراقي، فقال الأول:(رحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي)؛ ورد عليه الثاني وقد تملكته سورة الغضب: (رحم الله كافوراً الإخشيدي). وأشتد حنق المصري إذ وجدها كبيرة على نفسه أن يحكم بلاده كافور، فلما ألقى إليَّ ذلك قلت:(يا صاحبي لا تحزن، إن أبا المسك الأستاذ كافور كان أميراً من أكبر الأمراء، وعاهلاً من اعظم ملوك المسلمين بمصر، ويزيد بلادنا فخراً أن تولاها مثله كما لا ينقص من قدره سواد لونه، بل في ذلك دليل على علو همته. وأن لونه لم يقعد به عن بلوغ أعلى المراتب، ودليل على إننا لا نفرق بين الأبيض والأسود، لأننا جميعاً سواء. وإذا اخذ عليك ولاية كافور علينا، فقل أن ملكة شمس مصر والشام، وإنه كان يخطب له على المنابر بمكة والمدينة والحجاز جميعه ودمشق وحلب وإنطاكية والثغور وفيها طرسوس والمصيصة وغيرها من الأقاليم التي خضعت لسطوته ودامت لسلطانه كما ذكره الفرغاني ونقله ابن خلكان في ترجمته لكافور. فإذا وجدت معرة بكافور فاسأل غيرنا تجدهم قد شاركونا فيها، فكيف وليس في الأمر ممرة علينا، بل مفخرة لنا؟)
(أليس كافور من أبناء السودان، وكلنا ننشد الوحدة الشاملة؟ فكيف تستكثر على أحد أبنائه ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته؟ وهل كان كافور عاطلاً هملاً حتى تؤاخذنا به، أو نبرأ من ولايته وإمارته، وهو الذي قال فيه أبو الطيب المتنبي برغم تحامله بعد ذلك عليه:
قواصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
…
وخلَّت بياضاً خلفها ومآقيا
وهو القائل فيه:
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هُمُ
…
فإنك أحلى في فؤادي وأعذبُ
وكل امرئ يولي الجميل محبب
…
وكل مكان ينبت العز طيب)
قال: (أو لم تسمع بقارع الهجاء وشنيع الذم؟) قلت: (إذن فلنتخذ ما تنشره جرائدنا ومجلاتنا الحزبية دليلاً على إفلاسنا وفنائنا، فمتى كان يقام وزن للهجاء والتشنيع الذي يمليه الحقد والنفس الموتورة؟)
أما أنا فآخذ بما ذكره الذهبي عن كافور إذ قال: (كان يدني الشعراء ويجيزهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية. وكان عظيم الحرمة، وله حجاب)؛ ثم قال: (إنه تقدم لدى الإخشيدي صاحب مصر لعقله ورأيه وسعده إلى أن صار من كبار القواد، ثم أتابك ولده أبي القاسم أنوجور، ووصل إلى زاد ملكه على ملك مولاه الإخشيد). وتكلم على مقدرته وكفايته وحسن تدبيره فقال: (إنه كان خبيراً بالسياسة فطناً ذكياً جيد العقل داهية)، وضرب مثلاً لذلك حين قال:(إنه كان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه وكان يذعن بالطاعة لبني العباس، ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء حتى تم له الأمر). أليس في ذلك دليل على قوته؟
وأذكر لك ما عثرت عليه من أن كافور كان أول من غزا، ولازمه التوفيق في فتح الأقاليم النوبية، فقد هاجمها قبله أبو منصور تكين التركي هي وبرقة في عام واحد، ولم يتم فتحها على يديه. ولما غزاها كافور كان التوفيق حليفه، لأن جيش المسلمين كان من السودان، وفي ذلك يقول الشاعر:
ولما غزا كافور دنقلة غدا
…
بجيش كطول الأرض في مثلها عرض
غزا الأسود السودان في رونق الضحى
…
ولما التقى الجمعان أظلمت الأرض
فهو أول من تمت الوحدة على يديه. وهو حامل لواء الإسلام والعروبة في أراضي السودان. ولو شئت أن تعلم عن كافور وأيام كافور وأياديه البيضاء وأنفاسه الطاهرة ومجده وسلطانه وحسن بلائه، فعليك بكتب التأريخ تنبئك عن عقل ودراية وحكمة وسياسة وحسن تصريف للأمور وفهم للناس وطباعهم، وهذه أشياء شهد له بها المعاصرون ووفوه حقه فيها. أما نحن فنرى فيه رجلاً عظيماً من عظماء القرن الرابع الهجري، خدم بإخلاص مولاه الإخشيد، وصان استقلال مصر لسنوات، وواجهته المصاعب والمشاكل والحروب فتغلب عليها وخرج من مآزقها، وهو بطل من أبطال تأريخ مصر العربية، ولذلك تجدني من أنصار كافور ومن المعجبين به ومن الداعين لحفظ ذكراه، ولو كان من الأمر شيء، لبحثت عن قبره، وأقمت قبة عليه، ثم لطلبت من أولي الأمر في مصر والسودان أن يطلق أسمه على ميدان أو شارع بالقاهرة وأم درمان والخرطوم، صيانة لذكره وإقراراً لفضله، وتوكيداً لصلات مصر والسودان.
فإذا كان الأميركان من الملونين يبحثون عن صورة بوشكين الشاعر الروسي المشهور، ويضعونها في أحسن مكان لصلة القربى معهم لسمرة لونه، فكيف ينكر فضل كافور وهو ملك من اعظم الملوك؟ ولم لا يقوم السودان ويقعد له ويحتفي به وهو منه وإليه منسوب؟
إنني يا صديقي لا أتفق معك ولا أجاريك في قولك بأن الوطنية والكرامة تمليان حذف أسمه وسيرته وعهده من كتب التأريخ، بل أقول: إنهما تمليان علينا نشر فضائله ومحاسنه؛ وإنني كلما تأملت في عصر أستاذنا أبي المسك كافور وقرأت عنه وعن أخلاقه وسيرته بين الناس، بدت شخصيته ممتازة محبوبة عليها وقار واحترام وحشمة، لا بأعماله السياسية وحياته العامة، وهي ليست موضع نزاع، بل بأدبه وتواضعه وخضوعه لأحكام الله، وكرمه وإخلاصه لمن حوله، ولصلاته ودأبه على عمل الخير وإسداء المعروف، وهي نواح إن أهملتها بعض كتب التاريخ، فقد وجدت مبعثرة، ولذلك رأيت أن أشير إليها.
قال إبراهيم بن إسماعيل إمام مسجد الزبير: (إن كافوراً كان يداوم الجلوس بالغداة والعشي لقضاء حوائج الناس وكان يتهجد ويمرّغ وجهه ساجداً ويقول: (اللهم لا تسلط عليّ مخلوقاً). وكان لا يأنف من أصله ومولده، ويحمد الله إن رفع من قدره، وينسب ما لقي من خير إلى توفيق الله ونعمته. فقد ذكر أبو بكر المارداني، وكان وزيراً لكافور ولأبي منصور تكين التركي:(إن كافوراً كان دائم التحدث بنعمة الله عليه، ويذكر أيامه بالسودان، وكيف جيء به إلى مصر وعمره أربع عشرة سنة). وحدّث أنه كان بمدينة الفسطاط في السوق المنسوية لبني حباسة طباخ يبيع الطعام، فعبر كافور في شبابه وطلب منه شيئاً من الطعام، فضربه بالمغرفة على يده وهي حادة، فوقع مغشياً عليه فأخذه رجل ورشّ عليه الماء، وأواه حتى وجد العافية. قال:(فكلما عزّت عليه نفسه يذكر ما أصابه من الطباخ، وقد يركب ويأتي إلى ذلك الزقاق، ويسجد شكراً لله على نعمائه). وكان يفعل ذلك في إبان ملكه ومجده وعظمته.
قلت لصاحبي وقد يكون في ذلك بعض المبالغة من أصحاب السير؛ ولكن ما الحكمة في ذلك وكافور لم يعقب نسلاً ولم يترك أهلاً ولم تصمد دولته بعده ليتملقها الكتّاب والمؤرخون؟ وهذه ناحية أخرى تحبب إليّ الرجل: هي فهمه للناس وعطفه عليهم وأخذهم باللين مع تعاليه عن تصديق الوقيعة وقبول الفتن. فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة الشريف
ابن طباطبا ولا يزال قبره يزار بقرافة الإمام الشافعي: (أنه كان طاهراً كريماً فاضلاً صاحب ضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية؛ وكان يرسل لكافور في كل يومين جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم، فحسده بعض الأعيان وقال لكافور (الحلو حسن فما لهذا الرغيف فأنه لا يحسن أن يقابلك به) فأرسل إليه كافور يعتذر عن قبول الرغيف، فركب الشريف إليه وعلم أنهم قد دسوا عليه، فلما اجتمع به قال له:(أيّدك الله إنا لا ننفذ الرغيف تطاولاً وتعاظماً، وإنما هي صبية حسنية تعجنه بيدها وتخبزه فنرسله إليك على سبيل التبرّك، فإن كرهته قطعناه) فقال كافور: (لا والله لا تقطعه ولا يكون قوتي سواه).
وكان محدثي قوياً لا يلين، فيه عنجهية من بقايا القرون التي سبقت الإسلام والرسالة المحمدية، فهو مصر على التفرقة بين الناس حسب ألوانهم كما قسم هتلر الناس وصنف الشعوب أصنافاً، فقلت له إن ابن زولاق، وهو حجة في الموضوع، قد اعترف لكافور فقال:(إنه كان ديِّناً كريماً)، فانظر ما نقله صاحب الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة عن ابن المجلي في تأريخه، إذ قال:
حدثني أبو الحسن البغدادي قال: (وردت إلى مصر وأنا مع أبي وكنت دون البلوغ في أيام كافور الإخشيدي، وكان أبو بكر المجلي يتولى نفقة كافور ومصالحه وخواص خدمته، فانتسجت بينه وبين أبي مودة، فكان يأتي إلى أبي ويزوره، فجلس في بعض الأيام يتحدث ويتذاكر أخبار كافور، فقال أبو بكر لأبي وأنا أسمع: إن هذا الأستاذ كافور له في كل عيد أضحى عادة، وهو إنه سلّم إليّ بغلاً محملاً ذهباً وورقاً وأمضى مع صاحب الشرطة ونطوف من بعد العشاء إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك لكل من أجد أسمه في تلك الجريدة فأطرق أبوابهم وأقول لهم هذا من عند أبي المسك كافور.
وقال أبو جعفر مسلم بن عبد الله بن طاهر العلوي النسابة: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يوماً وهو في موكب نظيف يريد النزهة وبين يديه عدة جنائب، فوقعت مقرعته من يده، ولم يرها، فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض، فقال: أيها الشريف أعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت أن الزمان يلفّني حتى تفعل أنت هذا معي، وكاد يبكي. . . فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ داره ودّعني. ولما سرت ألتفت، فإذا بالجنائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل مركبه إليك بجنائبه. فأدخلته داري،
وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار!
تلك أقاصيص موزعة مفرقة أوقعتني الصدف عليها في مواضع متعددة، وهي تكشف الطريق لنا لبحث نفسية كافور، فهذا رجل وصل إلى درجة من أعلى درجات عصره وكانت تهابه الدنيا، فانظر إلى تواضعه وخجله، وإلى نفسه الهادئة المطمئنة، وقس على ذلك فقاقيع الرجال ممن نلقاهم كل يوم، وهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم من الأمر شيئاً تراهم يخفون ضعفهم بالتظاهر بالقوة، وجهلهم بتعاليهم على الناس، وهم في مشيتهم وغطرستهم وحديثهم وما يبدو في وجوههم مضحكة ومهزأة للعصر الذي نعيش فيه وللعصور القادمة: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الناس، ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب) صدق الله العظيم.
وفي ذي القعدة سنة 362 هـ، وهي السنة التي قدم فيها المعز لدين الله إلى القاهرة من بلاد المغرب، ركب لكسر خليج القنطرة، فكسر بين يديه، ثم سار على شاطئ النيل حتى بلغ إلى بني وائل، ومر على سطح الجرف في موكب عظيم، وخلفه وجوه أهل الدولة، ومعهم أبو جعفر أحمد بن نصر يسير في ركابه، ويعرفه بالمواضع التي يجتاز عليها، وتجمعت الرعية للدعاء له، ثم عطف على بركة الحبش، ثم على الصحراء، وسار على الخندق الذي حفره القائد جوهر، ومر على قبر كافور، وعلى قبر ابن طباطبا الحسني، ثم عاد إلى قصره.
عثرت على هذا النص عرضاً، فوقفت مندهشاً أمام النصوص التي تقول: بأن تابوت كافور نقل إلى القدس ودفن بها وكتب على قبره:
ما بال قبرك يا كافور منفرداً
…
بصحصح الموت بعد العسكر اللجب؟
يدوس قبرك آحاد الرجال وقد
…
كانت أسود الثرى تخشاك في الكتب
ودخلت بحراً يموج بالمسائل، وكلها تحتاج لتحقيق، وسنرى ما يكون من أمرها.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
من غَزل الفقهاء
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي شيخ من المشايخ المتزمِّتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب:
مالك وللحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزَّه الله نبيه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرَّح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك لكان أشعر من لبيد. . .
فضحكت، وقلت له:
أما قمت مرة في السَحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق. . . وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟
أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغن حاذق قد خرجت من قلبه، فهزت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟
أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهداً كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغاً في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟
أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟
أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤساءك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس. . . فمن هم أهل القلوب؟
إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!
إن البشر يكدون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة هي
هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدى وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وأن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال يعدُ أس الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدّمنة المقفرة، على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
فكيف يكون فيها من يكره الشعر، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضياً، ولم يرجُ مستقبلاً، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألماً، فليس بإنسان.
ومن قال لك يا سيدي إن الله نزّه نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر لأن الشعر قبيح؟ إنما نفى عنه أن يكون شاعراً كمن عرف العرب من الشعراء، ورد عليهم قولهم:(إنه شاعر). لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه الوحي من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردّها الله عليهم!
وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعوراً نبيلاً؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.
ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم في الحب والغزل ووصف النساء؟
أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد. . . ويصفها بما لو ألقى عليك مثله لتورعت عن سماعه. . . وتصاممت عنه، وحسبت أن ذلك يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عنه قائلة. . .
وما سعاد غداة البين إذ برزت
…
إلا أغنُّ غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظَلم إذ اابتسمت
…
كأنها منهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرةً
…
لا يشتكي قصر منها ولا طول
وأن عمر كان يتمثل بمثل ما تكره أنت. . . من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى
إمام الغَزِلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:
اليوم عندك دَلها وحديثها
…
وغداً لغيرك كفها والمعصم
وأن سعيد بن المسبب سمع مغنياً يغني:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إن مشت
…
به زينب في نسوة خفوات
فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:
وليست كأخرى أوسعت جيب درعها
…
وأبدت بنان الكف للجمرات
وعلّت بنان المسك وحْفاً
…
على مثل بدر لاح في الظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فافتنت
…
برؤيتها من راح من عرفات
فكانوا يرَون هذا الشعر لسعيد بن المسبب!
ومالي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذ اسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من مال الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمت فؤادك ملها
…
خُلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكما
…
يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حبٌّ لها
…
لو كان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها
…
يوماً وقد ضَحيَت إذن لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
…
شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
…
بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
…
ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا، فقال لعلها معذورة
…
من أجل رقبتها، فقلت: لعلها!
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاماً إلى الليل!
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليداً، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:
قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به):
…
قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:
…
غطى هواك وما ألقى على بصري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه ناراً لا يطفئها إلا الوصال:
إذا وجدت أوار الحر في كبدي
…
عمدت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
…
فمن لحر على الأحشاء يتقد؟!
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لَمجلس بن عبيد الله لو كان حياً أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئاً كثيراً، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا ليس في يدي شيء!
وهو مع ذلك الشاعر الغزِل الذي يقول:
شققت القلب ثم ذررت فيه
…
هواك فليم فالتام الفُطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حزن ولم يبلغ سرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذ القيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: (لا بد للمصدور من أن ينفث) فلا ينكر عليه ابن المسيب. هو القائل:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم
…
ولامك أقوام ولومهم ظلم
نم عليك الكاشحون وقبلهم
…
عليك الهوى وقد نم لو نفع النم
وزادك إغراء بها طول بخلها
…
عليك وأبلى لحم أعظمك الهم
فأصبحت كالنهدى إذ مات حسرة
…
على أثر هند أو كمن سقى السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
تجنبت إتيان الحبيب تأثما
…
ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
فذق هجرها إن كنت تزعم أنه
…
رشاد ألا يا ربما كذب الزعم
ألا إن هذا هو الشعر!
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي
-
طبيعة البلاد العربية
للدكتور جواد علي
على الرغم من الموقع الممتاز الذي تشغله البلاد العربية في وجه الكرة الأرضية، وعلى الرغم من الأهمية العسكرية التي تتمتع بها هذه البلاد باعتبارها قنطرة عظيمة تصل بين قارات ثلاث هي قارات العالم القديم، فإنها كانت ولا تزال قليلة السكان جداً بالنسبة إلى سعة مساحتها واتساع أرضها، وفيها بقعة كبيرة تكاد تكون خالية من السكان تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، هي البقعة المعروفة بالربع الخالي، وحولها منطقة واسعة قليلة السكان كذلك. ويغلب على هذه المناطق الجفاف والتغير السريع في درجات الحرارة بين الليل والنهار تغيراً يؤثر في طبيعة المكان تأثيراً كبيراً، فيصعب على الإنسان والأجسام الحية تحمله.
على أن في الروايات اليونانية القديمة وفي المصادر السريانية والعربية ما يشير إلى أن بعض هذه المناطق الصحراوية الجرداء في الوقت الحاضر لم تكن في السابق على ما هي عليه الآن، بل كانت مخصبة معشبة كثيرة الكلأ والماء، معتدلة نوعاً ما في درجات الحرارة. ولم يكون هناك بطبيعة الحال فروق كبيرة بين الحرارة والبرودة في الليل والنهار، وإنها كانت عامرة توجد فيها المدن المأهولة والقرى.
وتلاحظ في الوقت الحاضر آثار أنهار وعيون ونبات وواحات لا بد وأنها كانت مأهولة معمورة، ثم تغير الطقس فيها وحدثت فيها كوارث طبيعية دعت إلى هجرة سكانها عنها وإلى تحولها إلى تربة صحراوية. ولما جاء الإسلام كانت هذه الأراضي نسياً منسياً، فتصور الناس أنها من أعمال قوم عاد أو من أعمال الجن.
وقد عرف أكثر الرواة العرب مثل تلك الانقلابات الطبيعية والتقلبات الجيولوجية، فأشاروا إليها فقالوا إنما حدث ما حدث انتقاما من تلك الأقوام القديمة والشعوب التي أجابت داعي الهوى وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله سوء العذاب.
وفي القرآن الكريم ـوهو أصدق مرجع بين أيديناـ إشارات كثيرة إلى تلك الأقوام التي عاشت في الأيام الخالية في شبه جزيرة العرب تؤيد هذا الرأي وتقويه. ففي كتاب الله آيات مفصلة عن عاد وأرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها البلاد وقوم ثمود الذين جابوا الصخر
بالواد. وعن الأيكة. وردت عرضاً على سبيل القصة والموعظة.
وقد عرض المفسرون لهذه الآيات وأطنبوا في وصف تلك الأماكن والمحلات وذكروا شيئاً مما كان قد رسخ في مخيلتهم عن تلك الأقوام. وهي صورة وإن كان رواء الوضع يتغلب عليها، ومادة الخيال فيها خصبة، إلا أنها صورة مهما قيل فيها فأنها مستمدة من واقع قديم تؤيده الآثار والتجارب العلمية الحديثة.
وكانت عناية الأهالي بالسدود عظيمة على ما يظهر من آثارها في هذا اليوم. فعلى تلك السدود التي كانت تحافظ على مياه الأمطار أو مياه الأنهار والعيون كانت تتوقف حياة الأرض والسكان. والظاهر أن الناس في ذلك الوقت كانوا على علم بأصول خزن المياه كالذي نشاهده من آثار سد مأرب، ومن آثار السدود الأخرى في اليمن أو قرب يثرب في الحجاز (المدينة) وفي أرض بني سليم. وكانت تعرف بأسماء مختلفة تختلف باختلاف القبائل ولهجاتها فتعرف باسم (مسك للماء) أو (مسد) أو سد أو مساك للماء.
ولم تخل البلاد العربية الشمالية من السدود. وقد استمر العرب على إنشاء السدود حتى بعد تدهورهم في العصور الجاهلية التي سبقت الإسلام واتصلت به بل حتى في العصور الإسلامية كالعصر الأموي.
وامتازت منطقة يثرب بكثرة ما أنشئ فيها من النواظم والسدود والترع الفنية. ففي وادي بطحان وهو واد من أودية المدينة سد للماء. وفي وادي العقيق سد آخر عند جبل شوران وثالث في وادي محزول وقد كان حتى زمن الرسول ثم سد رابع هو سد معونة قرب الأرحاضية جنوب المدينة، وخامس في وادي أظم.
وحتى نجد لم تكن لتخلو من هذه السدود. وقد وجدت السدود بكثرة في جنوب الحجاز، وفي أراضي قبائل هذيل وبني سليم. وقد حافظت أراضي بني سليم على خصبها وإنباتها حتى العصر العباسي. ولما أهمل أمرها في هذا العهد بسبب الفتن والكوارث السياسية تحولت منذ هذا الوقت إلى أرض قاحلة صحراوية غادرها الناس وعافوها حتى غدت اليوم من المناطق المظلمة المقفرة التي لا تزار.
وقد اشتهرت بنو سليم على ما يظهر بنشاطها وبذكائها الخارق، فابتكرت ولا شك طرقاً فنية لاستنباط الماء ولخزنه إلى وقت الحاجة. فلما أراد الحجاج حفر آبار على طريق الحج
لم يجد من يحسن حفر الآبار واستخراج الماء غير رجال هذه القبيلة.
وطبيعي أن يكون للعرب علم خاص بطرق استنباط الماء وإقامة الحواجز، وكيفية حفر الآبار والتعرف على نوع الأراضي التي يمكن استخراج الماء منها وإلا فكيف يعقل أن تنشأ هذه الحواجز وأن تحفر تلك الآبار لو لم يكن لهم علم بذلك؟ ثم إن النصوص اليمانية التي عثر عليها حتى الآن وهي قليلة تؤيد هذا الرأي وتدعمه.
وقد انتقل هذا الفن إلى المسلمين فظهر نفر من العلماء في العصرين الأموي والعباسي نظموا صرف المياه وكيفية السيطرة عليها وتوزيعه. وألف بعضهم في (كتب المياه) وفي إحياء الأراضي (الموات) وقد أضافوا إلى معلوماتهم العربية الخالصة ما أخذوه عن الأعاجم من آراء ونظريات وما قرءوه في كتبهم من أبحاث.
على أننا نسمع في نفس الوقت أصواتاً ترتفع من جوف البلاد العربية ومن مختلف الأنحاء تشكو الجفاف وتتألم من تراكم الأتربة في مجاري الأنهار. ومن جفاف مياه الواحات فجأة ومن موت النباتات والأشجار وتحول الأرض إلى صحار رملية، وقد استمرت تلك الشكاوي بدون انقطاع حتى القرن التاسع عشر.
وقد تكون من بين أسباب هذا الجفاف وتحول المياه أسباب سياسية نشأت عن تضعضع مركز الخلافة والثورات والانقلابات العسكرية الكثيرة التي كانت تدبرها الأسر الشريفة أو أصحاب القوة والبسطة من الأعاجم وأصحاب العساكر والأتباع. فلم يعد في وسع الحكومة الاهتمام بشؤون الزراعة والري وسائر الشؤون الأخرى. وقد تكون عوامل طبيعية وقتية أو طوارئ طبيعية فجائية سببت انحباس الأمطار وإلى غور المياه إلى الأعماق. على كل فهي كوارث مزعجة حولت تلك الأماكن المنبتة المأهولة إلى أماكن صحراوية رملية لا يمكن لأحد النزول بها لعدم ملاءمتها لشروط الحياة.
وقد خلقت هذه الكوارث الطبيعية والتقلبات الجيولوجية التي حدثت في الأزمنة التي سبقت الإسلام قصصاً مختلفة وحكايات توارثها الناس جيلاً بعد جيل عن هلاك تلك الأقوام وتبدل وجه المعمورة وتحول الأرض المأنوسة إلى أرض موحشة. وقد تردد صداها في الكتب العربية؛ ففي كتب الأدب والتأريخ سيل من هذه الأخبار من عاد وثمود وطسم وجديس ووبار.
تكون الكوارث الطبيعية في بعض الأوقات على صورة انحباس مياه الأمطار مدة طويلة مقرونة برياح شديدة جافة حادة تحرق المزروعات، وتجفف الأرض. وقد يعقب ذلك هزات أرضية لا تترك شيئاً في تلك البقعة التي تتحول عندئذ إلى صحراء جرداء يتركها سكانها إلى منطقة أخرى تصلح للزراعة والرعي والعيش.
يقول المستشرق موريتس لا بد وأن تكون هنالك حقيقة تاريخية فيما يروي عن هلاك قوم عاد وثمود. فإذا عرفنا أن منطقة الحجر كانت منطقة ثمود، وأن هذه المنطقة هي منطقة بركانية كثيراً ما كانت تثور وتلقى بحممها على ما جاورها وأن (الحرات) هي فوهات تلك البراكين وأماكن حممها عرفنا لِمَ هلكت ثمود وزالت معظم آثارها من عالم الوجود.
والحرّات هي مناطق بركانية خمدت براكينها وبقيت حممها وموادها التي كانت تقذفها، وقد بردت منذ مدة قبل ظهور الإسلام، إلا أن الدخان كان لا يزال يخرج من بعضها حتى في العصور الإسلامية. فقد ذكروا أن النيران كانت تخرج من حرة النار في جنوب شرقي المدينة، وكانت تشاهد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وتحدث الناس عن نشاط بركاني ظهر فجأة في الحرة الكبرى التي تقع على مقربة من المدينة سنة 1256م. وقد دام ذلك عدة أسابيع، وذكروا أن حمم هذه الحرة أخذت تسيل وتزحف نحو المدينة حتى أصبحت على مسافة كيلومترات قليلة من المدينة التي لم تنج منه إلا بمعجزة.
ولم نعد نسمع بحوادث بركانية مهمة منذ سنة 1253 للميلاد في أكثر أنحاء شبه جزيرة العرب غير ما ذكرناه آنفاً. ففي هذه السنة حدث انفجار بركاني عظيم في منطقة عدن ثم خفت صوت البراكين منذ ذلك الحين ولم نعد نسمع بحوادث حرات تخرب وتدمر كما كانت تفعل في السابق. ومعنى هذا أن تطوراً جيولوجياً عظيماً حدث في هذه المنطقة بدون شك.
وقد بحث العلماء في طبيعة البلاد العربية من حيث الوجهة الجيولوجية ورأوا أن هذه البلاد قد جابهت عدة انقلابات وتطورات أرضية حدثت فيها منذ العصور الجيولوجية حتى الآن. ورأى الجوابون آثارا صدفية ومحاراً في الربع الخالي استدلوا منه على إن هذه المنطقة كانت مغطاة بالمياه ويجوز أنها كانت تحت مياه البحر.
وبنى المستشرقون على هذه الفرضيات العلمية نظرياتهم عن الأصل السامي وعن موطن
الأصل السامي وهجرات الساميين. كما بحثوا عن موطن العرب الشماليين، ووطنهم الأصلي هل كان في اليمن أو شمال اليمن، وهل كانت الكوارث الطبيعية هي العوامل الأساسية في الهجرة أو عوامل أخرى.
تتحدث الكتب عن حادثة انفجار سد مأرب وكيف أن هذا الانفجار سبب جفاف منطقة كبيرة من أرض اليمن كانت تتغذى منه وكيف تمزق الناس أيدي سبأ وكيف هاجرت القبائل من الجنوب نحو الشمال.
وقد أدى ذلك الجفاف والتحول إلى تبدي القبائل المستقرة وتنقلها من مكان إلى مكان على سنة الإعراب. وهي ظاهرة تحدث كثيراً في شبه الجزيرة، فتتنقل على أثرها العشائر المتحضرة إلى البادية حيث تتخذ عيشة البدو الرحل. وقد حدث مثل هذا التطور في العصور الإسلامية أيضاً ولا سيما في الأوقات التي تردت فيها الحالة السياسية وضعف فيها نفوذ الحكومة فلم يعد في إمكانها صيانة الأمن ولا السيطرة على النظم الاقتصادية؛ فكانت القبائل المتحضرة أو النصف متحضرة تضطر لحماية نفسها إلى الالتجاء إلى الصحراء حيث لا تصل إليها لهيب الحروب السياسية والثورات وحيث لا تضطر إلى الاشتراك في حروب لا نفع لها منها ولا ضرر.
ويشاهد السواح في الوقت الحاضر آثار بيوت ومنازل في أمكنة قاحلة رملية لا يمكن أن يستقر بها الإنسان في مثل هذه الظروف بأي حال من الأحوال. وقد كانت مأهولة فيما مضى كما يظهر ذلك من هذه الآثار. فكيف حل فيها هذا الخراب وحوّلها هذا التحول!
وفي المصادر اليونانية أسماء مدن وقرى رآها الكتبة اليونانيون وحلوا بها وقد أعجب بها هؤلاء. إلا أنها اندثرت فيما بعد ولم يبق منها أي أثر حتى عند ظهور الرسول الكريم. وفي المصادر العربية مثل هذه الأسماء أيضاً زالت من عالم الوجود. وقد أنشأ المسلمون عدداً من المدن والقرى لم يبق منها اليوم أي أثر. وقد حدث مثل هذا الحادث في العصور الحديثة كذلك.
إن الجفاف هو أعظم عدو هدد البلاد العربية وحارب الحضارة والعمران في شبه جزيرة العرب. وهو الذي حول الجزيرة العربية إلى صحار رملية لا تصلح للإنبات ولا للسكنى. وللجفاف عوامل مساعدة هي الشمس والتغير السريع في درجات الحرارة وهبوب الرياح
وتبدل مجاري المياه.
وقد بحث عن هذا العامل العالم المستشرق كيتاني فتوصل إلى هذه النتيجة، وهو أن جو بلاد العرب قد تغير وتبدل، ولما حل به الجفاف لم يعد في إمكان الإنسان ولا الأجسام الحية البقاء. فتركت تلك الأراضي التي تحولت إلى صحراء مقفرة.
والظاهر أن جو بلاد العرب كان مشبعاً في الأزمنة القديمة التي سبقت الإسلام بالرطوبة وكانت الأرض مخصبة منبتة لوجود المياه ثم جف الجو وتوسعت منطقة الجفاف هذه وارتحل عنها السكان.
جواد علي
الأدب في سير أعلامه:
ملتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
وكان تشابل عنيداً ضيق الصدر، وكانت وظيفته تقتضيه ألا يتساهل فيما كلفته به إدارة الكلية، ولم يكن في وسعه أن يتغاضى عن مرد ذلك الطالب وإلا تتعرض لمؤاخذة القائمين بالأمر، فما يحب هؤلاء أن تشيع العدوى في بقية الطلاب؛ لهذا لم يكن بد من معاقبة جون ملتن عل في ذلك رادعاً له وعبرة لغيره.
وعوقب الفتى بإبعاده من الكلية إلى حين؛ وقيل إنه عوقب بالضرب إلى جانب ذلك، كان أكثر المترجمين له ينكرون ذلك أو يستبعدونه؛ على أن الضرب في ذاته يومئذ كان أمراً يقع في الكلية، فلم تكن العقوبة البدنية محرومة حتى في الكلية.
وقضى ملتن فترة النفي في لندن غير آبه بما حدث؛ يظهر في كل حين عدم مبالاته، فلن تنال منهَ قسوة مدرس يتجنى عليه، كما ذكر في بعض رسائله إلى (ديوداتي) أحد خلانه في مدرسة سنت بول؛ وإنه ليفضي إلى ديوداتي أنه جد سعيد بأبعاده عن كمبردج فما يطيب بها المقام لرهط أبولو؛ وأنه يستمتع بفراغه فيغشى المسارح كثيراً، ويقرأ من الكتب ما يحب غير مقيد بقيود تشابل؛ وأنه يسرح الطرف في شوارع المدينة إذ يذرعها جيئة وذهابا، ويمد عينيه إلى حسان لندن وقد لُحن له بعد أيامه الجافة في كمبردج أروع مما كن حسناً وأرشد فتنة، حتى إنه ليرى من الحكمة أن يبادر بالرحيل قبل أن تمسه جراح كيوبيد.
وتكشف لنا رسائله المنظومة والمنثورة إلى صاحبه عن بعض نوازع نفسه، فهو يحب المسرح ويكثر غشيانه؛ ولن يفعل ذلك متزمت يرى من أدلة الاستقامة أن يحرم على نفسه زينة الله التي أخرج لعباده؛ وهو يمد عينيه إلى الغيد ولكنه هنا يخشى الغواية فيطلب النجاة؛ وكان حريا أن يقع في حبالهن وأن يقمن في حباله بما توفر له من الجمال والوجاهة
وأناقة الملبس ورشاقة الجسم، ولكنه حريص على عفته متمسك بطهره، تهفو إلى الجمال روحه إلا أنه يحلق ويأبى أن يرد. . .
وعاد ملتن إلى الكلية، وقد انقضى أمر النفي؛ ولكنه لم يعد إلى تشابل فقد نقل إلى غيره، وهو إجراء له مغزاه، إذ لم يكن مثل هذا النقل بالعمل المعتاد في تلك الأيام، ومنه يفهم أن القائمين على أمر الكلية يحملون تشابل شيئاً من اللوم.
ولم يفل النفي حدته ولا أوهن نشاطه ولا أذل كبرياءه؛ وعادت نفسه الحرة تنشد الإصلاح، وانطلق لسانه الفصيح يندد بما يرى من عيوب أيا كان أصحابها؛ فلا تنقطع له شكوى، ولا يفتر له نقد.
ونال أقرانه شئ غير قليل من نقده؛ وكانوا أحرياء إلا قليلا منهم، ألا يرتاحوا إليه، وأن أعجبهم كثير من خصاله وراقهم شخصه، فأن تمسكه بالفضيلة وتشدده في الطهر والعفة هو في ذاته تأنيب صامت أما يظهرون من نقائص، ناهيك بما يقول في كل فرصة، وبما يرسله كل آونة من عبارات التهكم أو نظرات الازدراء. وقف يخطب ذات مرة فقال (كيف آمل أن أجر فيكم الرغبة إلى الخير وأنا أرى في حفل عظيم كهذا الحفل وجوهاً تنطق بالعداوة يكاد يبلغ عددها عدد ما هنا من رؤوس).
وكان جزاؤه على ذلك العنت من الكثير من طلاب الكلية، فأخذوا على طريقة الطلاب يعابثونه ويهوشون عليه ويلاقونه أينما تكلم بشغبهم وزياطهم، ويسخرون منه كما سخر منهم، وجعلوا عفته موضعا لاستهزائهم به، وكانوا قد أطلقوا عليه من قبل اسم (السيدة) لما رأوا من رقته وظرفه ودماثته، فأخذوا الآن يعيدون هذه التسمية في موضع الإعنات والاستهزاء، فإذا سأل أحدهم صاحبه عنه قال هل رأيت سيدة الكلية، أو هل رأيت سيدة كريست، ويقصدون أن يسمعوه هذا وهو على مقربة منهم ليغيظوه، فيكظم غيظه ويحاول أن يغيظهم بترفعه عنهم وازدرائه إياهم.
ولم يأبه ملتن بما يقولون؛ ففيه على رقة حاشيته صبر على النضال، يلذ له الأذى في سبيل إعلان رأيه والدفاع عن مبدئه، ولذلك تراه ينهض ذات مرة خطيباً، فيشير في خطابه إلى هذه التسمية، فيقول متهكما إنه يعتقد أن ليس مردها إلا حسن وجهه وقصر قامته وجمال هيكله فحسب، ولكن إلى طهره كذلك ورقة حاشيته ودماثته وحسن سلوكه؛ ثم يتساءل في
ازدراء عما إذ اكان يقصر اسم الرجولة على من كانت لهم القدرة أن يعبوا أقداحاً كبيرة من الخمر، أو الفلاحين الذين غلظت أيديهم وجمدت من أثر المحراث، أو على من يبرهنون على رجولتهم بالعربدة والفجور والفسوق؟. . . ويستخذى الجميع أمام حماسته وشجاعته ورباطة جأشه.
ولا يفوته أن يقارن بين نفسه بين من اتهموا قبله من النابهين الأعلام بمثل ما اتهم به، قائلا إن ديموستين نفسه لم ينج من اتهام أعدائه إياه بالنقص في رجولته!
والحق أن مرد هذه التسمية لم يكن إلى ضعف فيه ولا إلى خور، فقد كان منذ يفاعته شجاع القلب والرأي، ولسوف يقيم الدليل في المستقبل أيامه على أنه ما حمل القلم يوما أشجع منه؛ وكان في الكلية لا يهمل المران على استعمال سيفه يوماً؛ وكان لا يرهب التحدي، ولا يحب أن يصانع ذا غلظة أو يتواضع لذي كبرة، وإن كان في غير ذلك من المواقف جم الأدب مرموق الوداعة. . .
وما سماه أقرانه هذا الاسم أول الأمر إلا لأنهم أساءوا فهم وداعته ورقة حاشيته، ثم عادوا يرددونه رغبة منهم في إغاظته وإمعانا في إعناته، ولا يجد الشباب عادة في الزراية على من لا يتابعهم إلى ما يحبون من العبث واللهو الخشن أنكى من نعته بالأنوثة.
وكان مرد عفته واعتصامه بالفضيلة إلى معنى طريف يضاف إلى وازع الدين وداعي الخلق؛ وذلك أنه كان يرى أن الشاعر الذي يعد نفسه لرسالة سامية، ينبغي قبل كل شئ أن يكون أهلا لما يستشرف له، ولن يكون لذلك أهلا إلا إذا سمت نفسه وخلت من الأوضار، واتصلت في كل متجه بالمثل الأعلى لا تتخلف قط عنه، أو على حد تعبيره ينبغي أن يكون هو قصيدة سامية.
ولقد نجح ملتن نجاحاً عظيماً في توقد عاطفته وشاعرية روحه، وتفهمه أسرار الجمال، وتفطنه إلى موطن الفتنة في دنيا الطبيعة وفي دنيا الناس، وهذا إلى ما اتصف به من فراهة الجمال وروعة الشباب؛ ولذلك فأن سيطرته على نفسه مع هذا أعظم من أن تكون نجاحاً، فأنها تشبه أن تكون معجزة.
وحق لهذا الشاب أن يفخر بقهر نفسه، أو على الأصح بقهر شهوات نفسه، فقد أطلق نفسه على سجيتها بعد إذ جنبها مزال الضلال ومهاوي الفتنة لتنطلق حرة في مسارح الجمال
ومواطن. الرأي. . .
وكان ملتن يؤمن بأن من يسمو بنفسه لا بد أن تواتيه قوة خارقة على التعبير عما يريد من معاني السمو، وبقدر ما يكون من طهر نفسه يكون ما يتوافى له من البيان فيما ينهض لبلوغه من معارج القول
وإلى جانب ذلك كان ملتن كثير الذهاب بنفسه، يعتقد أنه فوق غيره في الذكاء والعلم، يتداخله منذ صغره شعور قوي بتفوقه وامتيازه، وهو نوع من الاعتداد بالنفس حري أن يسمى الكبرياء العقلية، جعل ملتن الشاعر يؤمن بفكرة هي تغلب العقل على العاطفة، وهذه هي الحكمة، ثم يأخذ نفسه من غير هوادة بما تقتضيه منه الفكرة، فلا ينقاد لعواطفه يعيش حكيماً معتصماً بالزهد والعفة.
وإنه ليعتقد أنه خلق لعظيمة من العظائم في دنيا الشعر، وأن الزمن يهيئه فيعزله عن الناس ويرفعه فوقهم درجات ليتسنى له أن يأتي بما لا يستطيعون أن يأتوا به، وكان ولوعه بالأدب وشغفه بالبيان واستمساكه بالفضيلة، كل ذلك إرهاص يكون بعده الإعجاز!
ولم تصرف ملتن عنايته بالأدب والشعر عما فرضت عليه الكلية من دروس. كذلك لم تصرفه عنها كراهيته إياها ودعوته القائمين بالأمر إلى إصلاحها، وتوجيه المطاعن إليها، فهي أمر لابد منه إذا شاء أن يظفر بالإجازة الجامعية؛ وهو منذ صغره دؤوب على العمل صبور جليد، فما ينوء اليوم بأن يجمع بين دروسه الرسمية ومتعة نفسه من الأدب والشعر وغيرهما مما لا يدخل في محيط الدروس المقررة.
ويشهد أكثر القائمين على أمر الكلية أنه طالب مجد في عمله، نشط في طلب المزيد من العلم، يحب أن يحيط بما يدرس إحاطة، ولولا نزعته الاستقلالية ونفوره من القيود ورغبته أن يختار الوقت الذي يحب لينجز ما كلف من عمل، ما شكا منه أحد، ولا كان بينه وبين تشابل عريفه الأول ما كان من شحناء وتنابذ.
ولم يتخلف ملتن عن أقرانه على الرغم من فترة إبعاده عن الكلية، فحصل عند نهاية الأجل المقرر للدراسة الأولى على درجته العلمية الأولى، وكان اللاهوت هو العلم الأساسي الذي اختار من أول الأمر أن يمتحن فيه، ويحصل على درجته، فدرسه ودرس ما يتصل به أو يتفرع منه من معرفة.
ولئن درس اللاهوت على عسره دراسة جد، واستوعب ما يحيط به، فإن قلبه كان يجد العزاء في مجال آخر محبب إليه، وأي مجال أحب إليه من الشعر وأنغامه وأحلامه؟ وهل يشغله عنه شاغل مهما جل، وهو من افتتن به وظن أنه خلق له منذ من العاشرة؟ لذلك كان يعمد إلى قيثارته يغنى عليها أناشيده كلما نفض من اللاهوت يده!
ففي أول سنة له في الكلية، وقد دخل في سنته الثامنة عشرة، نظم الفتى باللاتينية - أول ما نظم - قصائد ست، ثم نظم واحدة بالإنجليزية، ولعله اختار اللاتينية لأنها لغة أوفيد، وهو به متعلق مشغوف منذ صغره؛ وكانت معظم أشعاره اللاتينية مراثي في مناسبات على نحو ما يفعل عادة من يستطيع النظم من الطلاب؛ ولكن طموح ملتن وثيقته في نفسه ألقيا في روعه أنه شاعر حقاً، وأنه لا يتكلف النظم كما يتكلفه غيره، وأنه ما يسطر على القرطاس شيئاً إلا استحق أن يشيع في الأدباء! ولكن الذين كتبوا تاريخ حياته، ممن لهم علم باللاتينية، يرون التقليد في هذه الباكورة يغلب على الأصالة. وكان ملتن يقلد أو قيد، وقد اتجه بقلبه وخياله إليه، كما يصنع الأفراخ النواهض من الشعراء أن يتأثر كل منهم في صدر شبابه بواحد ممن حلقوا قبلهم في سماء الشعر!
وكانت القصيدة الإنجليزية كذلك مرثية بكى بها الشاعر الشاب طفلة من ذوي قرباء، وعنوانها (في موت طفلة جميلة أودت بها سعلة). ونلمس في هذه المرثية خصائص ملتن الأولى في الشعر: فموسيقاه حلوة، وألفاظه تنساب في يسر وإشراق، وإن لها في السمع لجرساً ساحراً جميلاً. . . وهو كثير الإشارة إلى الميثولوجيا الإغريقية والمسيحية، يكثر من ذكر الآلهة؛ وهو يأتي بالصفة تتداعى بها إلى الذهن المعاني المتصلة بما يصف في قوة ومهارة، فتوحي بذلك الأبيات القليلة معاني كثيرة، بل لقد يجعل للكلمة الواحدة معنى واسعاً بما يسبقها أو يلحقها به من الكلام، فيرمز للموت هنا مثلا بالشتاء، وقد ناجى الطفلة في مبتهل القصيدة باسم زهرة من أشهر زهرات الربيع يكفي النطق بها لتذكر الأنفس الربيع وموسمه الحفل؛ ثم يعود فيتحدث عن الطفلة كأنها ملاك عاد إلى أفقه، وقد اتخذ صورة الإنسان لحظة، لُيري الناس كيف يحتقرون هذه الأرض، وكيف تهفو إلى السماوات أرواحهم، ويسأل أمها تبعاً لذلك ألا تحزن، فما فقدت شيئاً. . .!
وبعد ذلك بسنتين ينظم باللاتينية أولى غرامياته، وفيها يذكر أن عينيه وقعتا في سرب من
حسان لندن على فتاة استأثرت بلبه ونفذت نظرتها إلى أعماق قلبه. . . فتاة هي فينوس حسناً وشكلاً. . . وسرعان ما جرحه كيوبيد بها في ألف موضع من جسمه. . . ثم غابت عن بصره وتولت وقد شغفته حباً. . . فأحس كأنه يحترق وكأن اللهب يحتويه. . . ولم يرها بعد ذلك أبداً، وأصبح بعدها كغيره من العشاق ينعم بشقاء حلو!
وأردف هذه القصيدة بأخرى لاتينية غرامية كذلك يصف فيها الحب، ولا يشير فيها إلى موقف بعينه كما فعل في سالفتها، ولكن. . . إلى الهوى وأسقامه وأحلامه. . .
ويحرص ملتن دائماً أن يسمو بحبه، فما تم كلماته ولا إشارته عما يستهجن من قول أو فعل، وما يصدر عن مثله إلا كل سام نبيل، وقد جعل سمو النفس وطهرها كما رأينا وسيلة إلى سمو التعبير؛ على أنه يفصح أحياناً عما يظهره أنه يحس شيئاً من المرح إذ يصف هيام الحب وأحلامه ومتعه؛ ولعله أراد بذلك أن يوحي إلى لذاته أنه يتخفف من تزمته، أو مما يأخذونه على أنه تزمت منه، وما هو فيما يرى إلا التوقر والاحتشام والجد؛ ولقد أشار في بعض خطبه إلى شئ من هذا المرح الذي يصف والذي يحبذ، وفي هذا الحب الذي يصوغ ألحانه، ما يرد به على من أطلقوا عليه ذلك الاسم السخيف الذي ضايقه بعض الثقلاء به!
(يتبع)
الخفيف
فلسطينيات:
أولجا رومانوف
للأستاذ نجاتي صدقي
يعرفها الناس باسم (السيدة المسكوبية)، وهي تجيد خمس لغات أوربية، كما أنها تتحدث قليلا بالعربية العامية، ويعجبها أن تعرب عن أفكارها أحياناً بالفظ العربي الفصيح فتقول مثلاً:(يتغلب على ظني أن الأمر كذا وكذا و (ثق يا عزيزي بأنني متمسكة برأيي)، و (أجل)، و (ربما). . .
والسيدة المسكوبية هذه تقع في حدود الخمسين من عمرها، قصيرة القامة، نحيفة الجسم، عظيمة الهيئة، مجعدة الوجه، غائرة العينين، مصفرة الأسنان، وبعضها قد نخره السوس، لكنها تحتفظ بشعر أشقر طويل تضفره وتعقده حول رأسها، وهي تحاول دائماً أن تكون ضحوكا لعوباً، ميالة إلى تقليد الفتيات اليافعات الطارقات حديثاً أبواب الحياة. . .
وتسكن هذه السيدة في دير الأرز الواقع بين منعطفات المرحلة الثالثة من طريق الآلام في مدينة القدس القديمة. . . وغرفتها على قدرها، طولها أربعة أمتار، وعرضها متران، ويتألف أثاثها من سرير مفرد، يستند إلى قوائم أربع، إلا أن فراشه يُقبل الأرض! وخزانة ضيقة عتيقة عرجاء، يقف في الزاوية كما يقف المسكين مستعطياً. . . ومائدة صغيرة تستعمل لكل شئ: للطبخ والأكل والزينة، فغدت سوداء براقة لاختلاط دهانها بالزيوت التي تنساب عليها من الصحائف والملاعق، وبساطاً (موزاييكا) حيك من مختلف الشرط البالية، وصورة علقت على الحائط تمثل (الخضر) راكباً على فرسه وهو يلقم التنين رأس حربته. . . وألبسة وقبعات نشرت على مشجب خشبي. . . أما باب الغرفة، فقد دقت فيه من الداخل مسامير صغيرة تستعمل لتعليق بعض المناشف وأوائل منزلية أخرى. . . وألصقت عليه من الخارج رقعة كتب عليها:(أولجا نيقولا يفنا رومانوفا)
وتدعى السيدة المسكوبية بأنها منحدرة من آل رومانوف قياصرة الروسيا، وأن (الدهر الخؤون) طوَّح بها إلى بلاد العرب، وأنها فقدت زوجها، ولم تنجب منه أولاداً، فتفرغت للعبادة والخدمة في الصليب الأحمر، وهي تعتقد أن لها (صلات قدسية) مع بعض القديسين، وبوسعها أن تكون وسيطة فيما بينهم وبين قاصديهم من طلاب الحاجات.
وللسيدة المسكوبية جيران يشفقون عليها فيمدونها بين حين وآخر بما تيسر من حواضر البيت، وتغتنم هي الفرص في كثير من الأحايين فتقف عند باب غرفة جارها وتناديه، فإن كان داخلها ورد عليها سألته:
- هل لي أن أعرف الوقت الآن؟
وإن كان خارجها دفعت الباب صارخة:
- ما بك يا جاري. . . عساك بخير؟ فإن لم تجد في الغرفة أحداً تناولت شيئاً، وانسحبت على عجل!
وفي أحد أيام شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1943 حلَّ في الدير ضابط بولوني اسمه (يوزيك غروزني) سرح من الجيش لعدم صلاحيته للخدمة العسكرية، وأستأجر غرفة في الطابق الأسفل من الدير، وكان متاعه ما جلبه معه من الجيش من سرير عسكري وأحرمة وألبسة وأدوات أكل. . .
وهنا تبدأ القصة:
فبينما كان يوزيك مستلقياً على سريره ذات مساء، يستعرض بحرقة وألم الأيام العصيبة التي مرت به منذ أن فر من بولونيا، حتى اشتراكه في معارك ليبيا ووقوعه جريحاً، وإحالته إلى هذا الدير عاطلا، إذ به يلمح امرأة تقف عند نافذة غرفته وهي تبسم له وتقول بالبولونية:
- حضرتك جارنا الجديد؟
- نعم!
- أأنت جندي؟
- ومن أية بلدة بولونية أنت؟
- من لودز
- أحقاً أنت من لودز؟ يا لغريب المصادفات! إنني قضيت شطراً من شبابي في هذه المدينة الجميلة!
- وحضرتك ما اسمك؟ ومن أين؟
- أنا أولجا نيقولا يفنا رومانوفا! (ورفعت رأسها إلى العلاء قليلاً) إن الدم الأزرق يجري
في عروقي، دم آل رومانوف!
فانتقض يوزيك في سريره وانتصب واقفاً وهو يحدق النظر ب (الأميرة) المشردة، وكان ينتابه عاملان خفيان: عامل الكره للروس، وعامل الحاجة إلى المعونة. يود أن يصرخ في وجه (سليلة) آل رومانوف، ويسمعها قارص الكلام في حق أبيها وعمها والحاشية القيصرية كلها، لكنه أحس أنه أصبح من مساكين هذا الدير، وهو في مسيس الحاجة إلى من يساعده ويواسيه، وعليه أن يكون سمحاً متواضعاً، فخرج إلى حيث تقف السيدة المسكوبية، وقرع قدمه اليمنى بقدمه اليسرى، وحياها بإصبعيه التحية العسكرية البولونية، ثم انحنى على يدها وطبع عليها قبلة رشيقة!
وتوالت الزيارات فيما بعد بين يوزيك وأولجا، فكانت هي تدعوه إلى شرب الشاي عندها، وكان هو يشتري لها بعض الهدايا من المعاش الذي يتقاضاه من الوكالة البولونية. وهكذا توطدت أواصر الصداقة فيما بينهما، وشعرا بالدفء إلى جانب بعضهما. . . وفي ليلة كانا يتبادلان فيها أنخاب الفودكا، فاتحها يوزيك بالزواج، فأسبلت عينيها خجلاً وتمتعت قائلة: (حقاً إنك لعفريت يا يوزيك. . . أيتزوج عملاق لم يبلغ الأربعين من امرأة ضعيفة قد ناهزت الخمسين؟!
قال: ولم لا؟ الحب يا سيدتي لا يقر بحد للأعمار، ولا يعترف بالسمن أو الهزل. . . الحب هو تبادل العاطفة المشبوبة بين نفسين متجانستين متفاهمتين. . .
قالت: أتحبني إذن؟
قال: فلتشهد السماء على حبي لك. . . ولنشرب نخب الحب والزواج. . .
ولم تمضي أيام على هذا الحديث حتى عرف كل من في الدير أن أولجا أصبحت زوجة ليوزيك، وأنهما سعيدان في زواجهما هذا. ومن مظاهر هذه السعادة أنهما كانا دائماً منطويان على نفسيهما في غرفة أولغا، يشربان الشاي نهاراً، والفودكا ليلاً، ويدخنان ويتماجنان ويقهقهان عالياً، ويعربدان أحياناً بصورة تقلق راحة الجيران، إلا أن هؤلاء كانوا يتسامحون مع العروسين الجديدين، ويغضون الطرف عما يبديانه في الدير من طيش ناتج عن انفعالات النفس والعاطفة. . .
وحدث في منتصف الليلة الثانية من الشهر الثاني لزواج يوزيك باولغا أن هبّ سكان الدير
مذعورين على صراخ عنيف، وقرع شديد على باب الممر المؤدي إلى الغرف، وسمعوا أولغا تكيل السباب والشتائم ليوزيك، فتقول له: - اذهب أيها السكير إلى غرفتك. . . إنني آويتك وأحسنت إليك. . . اذهب أيها المتشرد. . . وكان يوزيك يجيبها: لقد سرقتني يا فاعلة كذا وكذا. . . والله لأبطشن بك. . . واحتدم الجدل فيما بينهما وحطم يوزيك باب الممر، ثم اقتحم غرفة أولغا ولكمها على عينها لكمة قوية تركت حولها هالة زرقاء، فاستنجدت بالجيران، ولكن أحداً منهم لم يجرؤ على التدخل، فاستنجدت مرة أخرى بأهل الحي، فجاءها الحراس واعتقلوا يوزيك، واقتادوه إلى دائرة الشرطة حيث حرر الضابط المسؤول محضراً، وكانت أولجا هي المدعية والمشاهدة، فقالت في إفادتها: - (لقد حطم زوجي الأبواب وضربني، فإنني أطلب له أقصى درجات العقوبة). . . ولما عادت إلى بيتها وسكنت إلى نفسها أخذ ضميرها يؤنبها، فراحت تبكي وتنتحب وتتساءل قائلة: - (رباه؛ من الذي سبب لزوجي الاعتقال غيري؟. . . ومن الذي أسكره، وسرقه، وقاده إلى سطح الدير سواي؟).
يبدو أن الإنسان مهما انحطت أخلاقه وفسدت، ومهما تدهور إلى مصاف الأسافل وتخبط في حضيض الحياة، يظل حاملاً في نفسه القليل من الكرامة، واليسير من المعنويات، فتراه إذا ما هزَّته مساوئه يثوب إلى رشده، ولو إلى حين، فيذكر أنه لازال ينتمي إلى بني الإنسان، وأن ما يقوم به من أعمال شريرة لأمر يناقض الأنظمة العامة التي اتفق عليها الناس، يخالف الطبيعة البشرية على الجملة.
وهكذا أحست أولغا يعامل خفي يدفعها لأن تسعف يوزبك، فعادت للتوّ إلى دائرة الشرطة وقالت للضابط المسؤول: - أود إدخال بعض توضيحات في إفادتي.
فقال - وما هي؟. . .
قالت: وأنني لأقر بأن زوجي لم يقصد من تحطيم الأبواب إلحاق الأذى بي، أو العبث بحوائجي، وإنه فعل ذلك وهو تحت تأثير الخمر فقط، وأما اللكمة التي أصابتني منه فقد كانت عفوا. . .
وبالرغم من هذا التوضيح في الإفادة حكم على يوزيك بالسجن أسبوعين: وفي السجن قص على زملائه قصته فقال فيما قاله:
(. . . وكان من عادة زوجتي إذا ما وجدتني ثملا تفتش جيوبي، وتأخذ ما تجده من مال. وحدث مرة أن قبضت معاشي وجئت البيت، فوجدتها قد أعدت لي زجاجة كبيرة من الفودكا فأتيت عليها. ولما لعبت الخمر برأسي قالت لي: (هيا يا منى قلبي لنتنزه في ضوء القمر!) فقمت أترنح مستندا إلى ذراعها، واقتادني إلى حيث أرادت. ولا إذ كر كيف أفقت فوجدتني ملقى على السطح فتفقدت معاشي فلم أجده. . . فأدركت للحال أن (الأميرة) سرقتني.
فقال أحد المساجين: - ماذا تقول. . . أميرة؟. . .
فأجاب يوزيك: - أجل، تدعي زوجتي أنها من سلالة آل رومانوف!. . .
فقال سجين آخر: - ومن تكون زوجتك إذن؟
قال: - ليست زوجتي سوى امرأة مقامرة في حياتها.
فرت من روسيا إبان الحرب الأهلية، ثم قامت بأعمال مظلمة هنا وهناك، وتجولت بين تركيا والبلقان وعمان!. . . وهاهي اليوم تبارك الناس في النهار وتسطو علي في الليل.
ولما خرج يوزيك من السجن كانت أولجا تنتظره، وكانت هي قد أعدت له كعكا وشايا، فجلسا إلى المائدة، ودار بينهما حديث عتاب. وحديث آخر عن الإنسان وحظوظه العاثرة. . .
نجاتي صدقي
وأيضاً، تهجم على التخطئة!
للأستاذ محمود محمد شاكر
إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فيخيل إلى - والله أعلم - أنك رجل واسع المعرفة، مغرى بالتحصيل، دقيق البصر، تطلب الكلام وإسناده ووجهه ومكانه وضوابطه. وحسب طالب المعرفة أن يكون كمثلك.
وقد طلع على مقالك في الرسالة، فما أدري والله من أي أمريك أعجب؟ من واسع معرفتك، أم من حسن تهديك إلى مواطن الشبهة في كلامي. أم لعلي أعجب من استجلابك للحجة بعد الحجة في تخطئة شيء كان الناس في غنى وراحة عن اضطرابهم بين صوابه وخطئه؟
ومختصر القول هو أنك تريد أن تقول إن الكتاب ينبغي أن يبدأ كما بدئ في بعض كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب أصحابه بقولك: (سلام عليك) فإذا كان الختام قيل: (والسلام عليك)، وأن من بدأ الكتاب بقوله:(السلام عليك) فقد أخطأ. أفهذا شيء من أدب الكتابة واتباع السنة وحسب، أم هو قاعدة توجب الاتباع نحواً ولغة ورواية، فيكون من بدأ بقوله:(السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ في حق النحو واللغة والرواية؟ وكلامه كله يدل على أن البدء بالسلام المعرف خطأ من قبل النحو واللغة والرواية. أليس كذلك؟
فإذا كان ذلك كذلك، فقد رويت لك قول صاحب اللسان في مادة (سلم):(ويقال السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذف عليكم)، وهذا ولا ريب قول اللغة والرواية والنحو فيما رواه لنا الرواة، في تحديد بدء السلام (الذي هو التحية). هذه واحدة.
ثم ذكرت لك قول الأخفش الذي رددته علي، وقلت إنه لا يعتمد به (هكذا)، لأني لم إذ كر مصدره الذي نقلت عنه، وفيه تصريح بين كتصريح صاحب اللسان، ثم زاد فأظهرنا على العلة فقال إن (سلام عليكم، حذفت منه الزيادة (وهي الألف واللام) كما يحذف الحرف الذي هو من أصل الكلمة في قولنا: (لم يك). وعلة أخرى هي أنه لما كثر استعمال (السلام عليك) بالألف واللام حذفاً لكثرة الاستعمال. وهذا تقرير يدل على أنه اللغة والنحو والرواية تجعل الأصل في السلام المبدوء به هو التعريف.
فإن شئت أن تعرف أن وقع هذا الكلام عن الأخفش فاطلبه في ص 152ج1 من كتاب
تهذيب الأسماء واللغات للنووي وفي غيره أيضاً. هذه ثانية.
فإذا شئت أن تزداد علماً فخذ كتاب (المخصص) لأبن سيده ج12 ص 311 وأقرأ قوله: (فأما قولهم: سلام عليك، فإنما استجازوا حذف الألف واللام منه، والابتداء به وهو نكرة، لأنه في معنى الدعاء، ففيه وإن رفعت معنى المنصوب. يريد كأنك تدعو فتقول: (سلاماً). وقوله (استجازوا) دليل على أن الأصل هو التعريف بالألف واللام في ابتداء التحية، وأن الحذف ترخُّص منهم، وهو شبيه بقول الأخفش. هذه ثالثة.
فإن شئت أن تضرب الأمثال لنفسك بالشعر كما ضربتها لي، فاقرأ قول جرير في ديوانه ص 443 وفي النقائض ج1 ص212
يا أمّ ناجية السلام عليكم
…
قبل الروح وقبل لوم العذّل
هذه رابعة.
وأن شئت أن تقرأ قول لبيد في الخزانة ج1 ص 217 - 218، وفي ديوانه:
إلى الحول ثم السلام عليكما
…
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فافعل تجد قولهم أن كلمة (اسم) مقحمة، وتقدير الكلام فيما يقول النحاة:(ثم السلام عليكم) وتجد أيضاً في إحدى روايات (إلى سنة ثم السلام عليكما). هذه سادسة.
فانظر لنفسك هل أخطأ كل هؤلاء وأصبت أنت؟
واعلم مشكوراً أن المقام في هذا كله مقام ابتداء لا مقام ختام مسبوق بسلام منكرَ غير معرف.
وأما نص ابن قتيبة فهو كلام لغموض فيه، فالرجل يقول لك:(تكتب في صدر الكتاب: سلام عليك، وفي آخره السلام عليك) ولم يقل لك إنه ينبغي، ولا أن القاعدة (أن تكتب في صدر الكتاب كذا. . .)، وهو إنما ذكر هذا في كتابه في (باب الهجاء) لا في باب أدب الكتابة كما ترى، ولم يأمر الرجل ولم ينه، ولم يقل لك إن من قال في أول كتابه (السلام عليك) معرفاً فقد أخطأ، كما شئت أنت تقوَّله. وأما ما ذكره من أمر التعريف، فإنه أراد أن يعلمك لم عُرّف ثانيا وقد جاء منكراً وهو أول، وكان حقه أن يأتي في الآخر منكراً مرفوعاً كما جاء في الأول فقال لك: (لأن الشيء إذ ابدئ بذكره كان نكرة، فإذا أعدته صار معرفة، وكذا كل شئ تقول: مر بنا رجل، ثم تقول: رأيت الرجل قد رجع. فكذلك لما
صرت إلى آخر الكتاب، وقد جرى في أوله ذكر السلام عرفته أنه ذلك السلام المتقدم)، ويريد أن يقول إن التعريف هنا (للعهد لا للجنس). هذا كل ما في كلام الرجل، لم يوجب شيئاً ولم يمنع شيئاً.
وأما الآية التي في سورة مريم من قول عيسى عليه السلام: (والسلام على يوم ولدت ويوم أموت. . .)، وما جاء من قول الزمخشري فيها:(قيل أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله) يعني في قول الله تعالى ليحيى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت. . .) فذلك تفسير من الزمخشري لمعنى (ال) في قول من قال إن التعريف هنا للعهد. وأبي الزمخشري أن يكون كذلك، لأن العهد هاهنا باطل عنده، فالسلام المذكور في قصة يحيى كان من قول الله سبحانه قبل مولد عيسى، وهو آت في أول السورة في الآية (15)، ثم مضى بعدها (واذكر في الكتاب مريم) وذكر الله سبحانه قصتها، حتى أفضت إلى كلام عيسى وهو في المهد إذ قال:(والسلام على يوم ولدت. . .) في الآية (33)، فبين السلام الأول والثاني (1) انقطاع في المدة (2) وانقطاع في السَّرد (3) واختلاف في مبتدئ السلام وملقيه، فالأول من الله والثاني من عيسى. هذا وسلام عيسى في الآية الثانية المعرف فيها السلام، ابتداء ولا ريب.
ومن أجل ذلك ذهب الزمخشري إلى أن التعريف هاهنا للجنس لا للعهد (وهذا كما ترى يخالف كل المخالفة ما أراده ابن قتيبة في كلامه). ثم ذكر الزمخشري نكتة البلاغة في التعريف فقال إن تعريف الجنس هو الصحيح لا تعريف العهد (ليكون ذلك تعريضاً باللعنة على متهمي مريم وعلى أعدائها من اليهود). وهذا عندي تعليل ضعيف جداً من الشيخ رضي الله عنه، وكان خليقاً به أن يصرف عنه وجهه. ولولا أنه كان مولعاً بنكت البلاغة لما وقع في مثل ما وقع فيه. وأن شئت أن تزداد فقهاً ومعرفة بما قلت فاقرأ تفسير الشهاب الخفاجي والآلوسي والقونوي وأبا حيان وكتاب الأنموذج للرازي وتدبر ما فيها كل التدبر.
وأما قوله في الآية الأخرى من سورة طه: (والسلام على من أتبع الهدى) إن معنى التعريف هاهنا التعريض بحلول العذاب على من كذب وتولى، فهذا جيد وحسن لقوله تعالى في الآية التي تليها:(إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى). وهذا أيضا طلب لنكت البلاغة، وتبيان لأن التعريف هاهنا للجنس. ولكن الزمخشري لم يقل لك، ولا غيره
فيما أحسب يقول لك: إن تعريف الجنس ينبغي أبداً أن يكون متضمنا معنى التعريض بشيء كالعذاب أو الويل أو الهلاك أو سوى ذلك كله.
ولو كان ذلك كذلك أيها الصديق لكان قصر تعريف الجنس على التعريض عجناً من العجب المضحك، فانظر إلى قولك (سلام عليك) التي كان أصلها (سلاما عليك) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى السلام واستقراره، مع بقائها في معنى الدعاء، فأنت إذا عرفتها تعريف الجنس فقلت (السلام عليك) اقتضت التعريض، فعندئذ تقول لي كما قلت:(وبديهي أيها الأستاذ أنك لا تعني بقولك (السلام عليكم) في بدء كتابك الأول تعريضاً بأحد إذ لا حاجة إلى التعريض).
فخذ عندئذ أختها وهي قولهم (حمد الله) التي كان أصلها (حمداً لله) منصوبة بفعل محذوف، والتي عدل بها من النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات معنى الحمد واستقراره، مع بقائها في معنى من معاني الشكر والدعاء. فإذا عرفتها تعريف الجنس فقلت:(الحمد لله رب العالمين) أفيقتضي ذلك تعريضأً أو توبيخاً أو تهكماً!!! ألا يكون هذا عندئذ عجباً من العجب المضحك. . .
ومن أجل تعريف الجنس ما أتعب الزمخشري نفسه في آية مريم وفي آية طه، وفي سورة الفاتحة من تفسير قوله:(الحمد لله) فاقرأه هناك وتدبره كل التدبير.
وأما مسألة حديث التشهد فأراك جُرت فيها على الحق. ولقد قلت في مقالك: (أما أهل القبلة فتشُّهدهم بعد الصلاة مختلف فيه، فمنهم من يقول (للسلام عليك). وقبل كل شئ، فتشُّهد أهل القبلة لا يكون (بعد الصلاة) وهو (من الصلاة) ومن تركه أو بدّل فيه بطلت صلاته. هذه واحدة، وأما الثانية، فاختلاف أهل القبلة ليس يقال كما رويتَ، فالصحابة جميعاً والتابعون من بعدهم، وأئمة المذاهب من عرفت منهم ومن لم تعرف، مذهبهم تعريف السلام في التشهد كله إلا (ابن عباس) من الصحابة، والشافعي من أصحاب المذاهب، فإنه ارتضى تشهد أبن عباس وآثره لأنه عنده (هو) أتم الروايات وأكملها، ولكنه لم ينكر التعريف، ولا استنكره المزني ولا سواه من أئمة مذهبه. فلو أنت عنيت نفسك فرجعت إلى شرح البخاري كابن حجر (ج2 ص 261 وما بعدها) والعيني (ج6 ص 109 وما بعدها) لعرفت أن الصحابة والتابعين مجمعون على روايته بالتعريف في التشهد إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يعلمهم التشهد كما يعلم السورة من القرآن، ولرأيت النووي وهو من أصحاب الشافعي يقول:(قوله السلام عليك أيها النبي، يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل). أبعد هذا يا سيدي تطالبني بأن أطلعك أنت (على نص يوثق به يشير إلى أنهم منذ زمن الرسول (ص) يقولون في التشهد السلام عليك أيها النبي)! عسى ولعل، ولعل أهل القبلة أخطئوا جميعاً وأصبحت أنت! بما أوتيت من التدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق!!
وأما إنكارك الحديث على ما خيّلت لك، وأنه مما لا يستشهد به أهل اللغة والنحو، واحتجاجك على ذلك بشيء اقتطعته من بحث في خزانة الأدب ج1 ص 6، ولم تتمه على وجهه بالتدقيق والتحقيق والفحص وطلب المواثيق كدأبك وعلى عادتك، فهذا باب وحده لو ارتطمت فيه لم تعرف مخرجك منه. وما الذي ألجأك إلى هذا أيها العزيز؟ الآني أتيتك بحديث المسند ج4 ص 439 وفيه النص على أن المسلمين كانوا يبدءون التحية بقولهم (السلام عليك)؟
والحديث الصحيح الذي استخلصه رواتنا رضي الله عنهم، فنفوا عنه كذب الكاذبين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين حجه في اللغة ولا في اللغة والنحو، ولو زعم لك أنه لا يكون حجة في اللغة ولا في النحو فاعلم أنه مبطل، وأنه غافل لا يدري ما يقول. ولو رجع إلى الخزانة التي نقلت عنها (وحسبك ولا أزيدك) علمت أن صاحبك نقل الذي نقلت لي في كلامك، وأنه رجل عالم طالبُ حق لا مغرور بباطل، فقد ذكر وجوه اعتراض المطلبين في الاحتجاج بالحديث ثم نقضها حجة حجة، وصرح بأن تدوين الأحاديث وضبطها وقع في صدر الأول من قبل أن تفسد اللغة وترتضخ الألسنة باللكنة الأعجمية، كما يعلم ذلك من درس تاريخ رواية الحديث وتدوينه حقّ دراسة، ثم صرح في آخر كلامه بأن لا فرق بين جميع روايات الحديث مهما اختلفت ألفاظها، في صحة الاستدلال بها في اللغة والنحو. وكنت حقيقاً أن تقرأ كلَّ هذا قراءة طالب العلم، فلا تسألني أن أغلق باب الاستشهاد بالحديث، من أجل كلمات رويتها لم تحسن وضعها في مواضعها.
وإلا فحدثني أيها العزيز لم ترى اللغة، كصاحب اللسان، وابن الأثير، والزمخشري صاحبك وصاحب كتاب الفائق، وسواهم ممن عرفت ومن لم تعرف كتبهم استشهاداً بالحديث على
معان لم توجد في غير، ولو طلبت لها شاهداً من الشعر أو غيره لم تجد. فإما أن يكونوا هم المطلبين، وإما أن تكون أنت على حق، فنبطل من نصف اللغة ونصف النحو وأشياء أخرى كثيرة.
ثم انظر إلىّ أيها الصديق! لست أنت الذي تقول هذا، وتقول لي أيضاً في صدر من كلامك ومنهما ومقرعاً إنه (فإنني أن الحديث لا يستشهد به اللغة والنحو). هو أنت الذي لم يلبث في آخر كلامه أن يناقض هذا كل المناقضة، فنقلت كتاب رسول المقوس، وهو من الحديث، وكتاب أبي بكر إلى المرتدين، وهو من رواية أهل الحديث، ثم أردفت ذلك بقولك:(ومعلوم أن هذه الكتب مدونه ويستشهد بها اللغوين والنحاة)؟! يا عجبا كل العجب! فمن الذي روى لك هذه الكتب سواهم الذين رووا لك الحديث، وحديث التشهد، وحديث سلام في المسند؟ وأين دونت هذه الكتب إلا في الكتابة دوّن فيها الحديث؟ وما فرق ما بين تدوين الحديث وتدوير هذه الكتب؟
وإن كنت قد ارتضيت هذه (الكتب المدونة) حجة يوثق بها، فخذ كتاب الزمخشري، وهو المسمى بالفائق ج2 ص 3، واقرأ فيه وفي غيره:(من محمد رسوله. . .) إلى آخر الكتاب، ولم يعترض الزمخشري أيضاً على هذا البدء، ولم يقل إنه خطأ في اللغة ولا في النحو.
ثم خذ صاحبك الطبري ج3 ص 156 الذي نقلت منه كتاب رسول الله إلى المقوقس، وكتاب أبي بكر، وصاحبك (كتاب صبح الأعشى) ج6 ص 465، الذي نقلت عنه كتاب الرسول إلى كسرى، ثم أقرأ هداك الله:(لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم من خالد بن الوليد. السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. . .) إلى آخر الكتاب.
فهل قنعت أيها العزيز بما سقت إليك؟ وأمحضك النصح أن لا تتبع تلك الناجمة التي نجمت بين أهل اللغة تريد أن تتبجح بالعلم والمعرفة والفقه، فتأتي صواب الناس ترميه بالخطأ على الشك والتوهم وسوء التأويل وفساد الفهم. واعلم أن العربية تعَلم العقل، فمن شاء أن يطلبها بحقها فليصبر عليها صبر المؤمن. وأنت امرؤ فيك خير فلا تضيع ما آتاك الله بالعجلة والتسرّع، فتثبت قبل أن تحكم، وتدبر قبل أن تقطع، واستقصِ قبل أن تستوثق، وانظر لنفسك قبل أن تزل بك قدم، واعلم أن شر أخلاق الناس اللجاجة، وشر
اللجاجة لجاجة العالم، وشر لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلم أو فيما لا يحسن، وأن نصف العلم قول المرء فيما لا يدري لست أدري، فالفهمَ الفَهمَ فيما تلجلج في صدرك، هداك الله وأعانك وسدّد خطاكَ. والسلام عليك ورحمة الله.
محمود محمد شاكر
من مذكراتي في أمس القريب:
حول إنعام. . .
للأستاذ فؤاد صروف
في 26 أبريل 1945:
شرف الملك أمس حفلة افتتاح معمل المصل الجديد، وأنعم على الدكتور شوشه بريبة باشا. فنعم المنعم ونعم المنَعم عليه. . .
وقد كنت منذ سنوات في مجلس أديب كبير، فدار الحديث على الرتب والأوسمة. وكان أغلب الرأي بين المتحدثين أن تلغى الرتب كما فعلت العراق وسوريا ولبنان، ولكن الكبير قال: إذا ألغيناها فكيف نستطيع أن نميز الرجل الذي يستحق التقدير والتميز لما يتفوق فيه على الأقران من علم أو أدب أو فضل؟ وكانت الكلمات الأخيرة في السؤال لا تزال تضطرب على شفتي السائل، حين دخلت المجلس سيدة ذكية حصيفة، فوجه السؤال إليها، فقالت دون أن تتردد لحظة واحدة: حسبه تقدير النخبة من المثقفين. فكان قولها فصل الخطاب.
والدكتور شوشه، ظفر أمس بعد إنعام الملك السامي، بالحسنيين: تقدير الملك المتمثل في رتبة عالية، وتقدير النخبة من المثقفين، الذين عرفوه فأنزلوه من تقديرهم في المنزلة العالية.
وحين قرأت ذكر الدكتور علي توفيق شوشه أمس، تزاحمت الخواطر على ذهني، فقد عرفته أول ما عرفته، حين كان وكيلا لمعامل الصحة فمديرا لها. فكان يومئذ مكباً على البحث العلمي الأصيل، مستغرقاً فيه دون أن ينصرف عن شئون الإدارة. ولم يكن بحثه بحثاً في فراغ - على ما يقول علماء الطبيعة، بل كان بحثاً في مشكلة معينة، لها صلة بالإنسانية التي تتعذب، وبالإنسانية المصرية على وجه خاص. فقد كان همه أن يكشف سبيلا لمكافحة سم العقرب الذي يكثر المصابون به في مصر. وقد فعل.
ثم عرفته محاضراً مجيداً بالإنجليزية والعربية، وقد قيل لي إنه أحسن محاضر بالألمانية، ولكن لا أعرفها. وعرفته زميلا محترم في المجتمع المصري للثقافة العلمية، وكنت سكرتير
المجمع حين تولى رئاسته. فتجلى لي في كل هذا رجلا آخر: فهو رجل ليس واسع العلم دقيق البحث وحسب، بل يستطيع أيضا أن يبسط العلم وينقله من لغة إلى لغة نقلا بارعاً، تعلو عبارته العلمية الدقيقة سمة من طرافة الأدب. وقد أتيح لي أن أنشر في المقتطف، وفي كتب المجتمع السنوية، نصوص أربع من محاضراته في الغازات الحربية، وسيرة كوخ وأعماله، والمعركة اليومية في الجسم البشري، وتقدم الطب خلال خمسين سنة. وكان لابد من أن أديم النظر فيها عند تصحيح التجارب، وكنت أتوسل بتلك التجارب لكي أذهب إليه في المعامل لأظفر بشيئين: أن أفحصها معه فأضمن دقتها، بين إدارة المعامل وبحثه العلمي الأصيل، أن أقدر أسلوبه البارع في تقريب العلم، وحسه اللغوي الدقيق في التعبير عن المعاني العلمية ومصطلحاتها، قديمها وجديدها على السواء.
ثم عين وكيلا لوزارة الصحة، وكأن السنين الطويلة التي قضاها في تحصيل العلم وممارسة بحوثه الأصيلة، وإعدادٍ المحاضرات لقريب معانيه وإلقائها، وما علمه بالتجربة من حاجة مصر إلى الإصلاح الصحي من وجوهه الكثيرة، وما فطر عليه من حب الخير والعمل - قد احتشدت جميعاً، لتكون الأساس لمشروعات الصحية المتعددة التي وضعها أو محصها مع الوزراء الذين تولوا الوزارة، والمتخصصين من رجال الوزارة ورجال كلية الطب، فصح فيه يومئذ ذلك القول المأثور:(هذا المنصب لهذا الرجل).
هذه المعاني الثلاثة: البحث العلمي الأصيل الذي يحول بعض المجهول معلوماً - والمحاضرة العلمية المثقفة التي تجعل بعيد معاني العلم دانياً منقاداً، وتطبيق قواعد العلم وأغرض العلم في أعمال الحكومة والإدارة لتحقيق خير الشعب - هي التي تألقت في ذهني حين علمت بأن جلالة الملك تفضل فحصه بأنعام سام، كان إنعاماً على العلم النافع جميعاً.
وهذه المعاني الثلاثة تقرر حقيقة، وترسم دستوراً لجميع العاملين. اما الحقيقة، فمسطورة في سجل خدمته، واما الدستور فزكن من الخطة العظيمة التي لابد لمصر من أن تختطها - منذ اليوم بل منذ الساعة، لكي تعد نفسها لمواجهة مشكلات الغد وحلها، حتى تستطيع أن تقيم في هذا الوادي عالماً افضل من عالم امس الغابر، عالماً يقوم على الوفر دون العوز، وعلى الصحة دون السقم، وعلى العلم دون الجهل، وعلى أخلاق الرجال.
وفي وضع هذه الخطة وانفاذها لابد لنا من أن نربي العلماء الذين يتولون العلم ببحوثهم الأصيلة. ولست في حاجة الى إقامة الدليل على أن العلم قوة، وينبغي أن نطلبه ولو في الصين. فليس ثمة ناحية من نواحي حياة الفرد او المجتمع لم يتغلغل فيها العلم فرفع من شأنها وأصلح من أمرها: الزراعة والصناعة والغذاء والصحة والمواصلات والمخاطبات. وكثير مما أنجبه العلماء في سائر بلاد الناس، يصلح لنا فيصح أن نتعمق فيه ونتدرب عليه ثم نتخذه في ما يصلح له من شؤننا. ولكننا نجد في بيئتنا مشكلات خاصة، لا يصلح لبحثها أو حلها إلا علماؤنا. وهم ماضون في ذلك بحمد الله، ولكن عددهم يجب أن يزداد أضعافاً. وتأييدهم من الحكومة والشعب يجب أن يستفيض في الميزانية، وعلى ألسنة الناس وفي مجالسهم وصحفهم، وصلتهم بالصناعة المصرية ينبغي أن تتوثق. وحبذا لو طالع القراء الكتب السنوية التي أصدرها المجمع المصري للثقافة العلمية - وهذا المجمع الذي كان الدكتور شوشة أحد مؤسسيه، ثم احد رؤسائه - إذن لوجدوا في مئات من الصفحات، في خمسة عشر مجلداً نفسياً أو تزيد، عشرات من المسائل القومية في الزراعة والصناعة وتوليد الطاقة، وحفظ التربة، وكفاح المرض، وتجويد الغذاء وتحسين الصحة العامة لا يصلح لبحثها وحلها إلا الاكفاء من المصريين، الذين جرى على حب البلاد والسعب في عروقهم، وتدربوا على البحث العلمي الأصيل. وما خبرية الدكتور شوشة وسم العقرب، ومرشحات الماء في المنازل الريفية والقرى الصغيرة والمتوسطة الذي أخرجها منذ سنوات، سوى مثلين وحسب.
أما تبسيط العلم وتقريب معانيه البعيدة، وبث روحه العالية في جماعات الناس التي لم تظفر لسبب من الأسباب بالقسط الذي تتوق إليه منه، فقد أصبح لزاماً في هذا العصر الذي اتسع فيه نطاق المعرفة اتساعاً لا عهد لنا بمثله في عصر سابق من عصور التاريخ. فكل علم من العلوم القديمة قد نما واتسع نطاقاً وتشعب فروعاً، فتولدت منه علوم جديدة كل منها أدق من سابقه معنى وأشد عناية بالتفاصيل، فهو لذلك أشق على الحصر والإحاطة به. فقد كشف المنظار عن كواكب ونظم منظومة من النجوم والسدم يتعذر على عقل واحد أن يلم بها جميعاً، وأصبح رجال الجيولوجيا يذكرون ألوف الملايين من السنين على حين كان رجال العصور السابقة لا يذكرون إلا الألوف، وأماط علم الطبيعة اللثام عن كون منتظم في
الذرة، والبيولوجيا عن كائن حي في الخلية. وأبان علم وظائف الأعضاء طائفة يتعذر حصرها من أسرار الأعضاء، وأثبت علم النفس وجود عوالم من الفكر والشعور في كل حلم، وجاء رجال علم الإنسان فوصفوا لنا صورة عجيبة عن قدم الإنسان على سطح الأرض، وجاراهم رجال الآثار فأخرجوا من جوف الأرض مدناً وحضارات، وتبعت ذلك المخترعات العجيبة لتي يسرت أساليب الحياة، ولكنها خلقت طائفة كبيرة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية تكاد تستعصي علي الحل.
وفي هذا كله روعة تأخذ بمجامع النفس، ولكن يكمن فيه خطر لابد من تبينه والتحذير منه وصار لكم علم، ولكل فرع من علم ألفاظ خاصة لا يفهمها إلا المتخصصون. وصار زعماء معظم الأبحاث عاجزين عن وصف ما يكشفون بلغة الناس.
ومن هنا اشتدت الحاجه إلى المعلم الذي يستطيع أن يفهم الشعب ثم يحطم الحاجز الغوي القائم بين المتخصص والأمة، أو الحاجز الغوي بين لغة ولغة أو كليهما، كما هي الحال عندنا الآن.
ومن آيات التوفيق في كفاح هذا الطراز من العلم المثقف. والدكتور شوشه مثال بيننا لما أسداه أولئك العلماء إلى قومهم. فعلمه الواسع الدقيق يمده بالقدر على الغوص على المعاني البعيدة في العلوم التي توفر عليها، وخياله الخصب يمهد له تصوير تلك المعاني صورا شائقة قريبة، وحسه اللغوي الأدبي يمكن له إفراغها في عبارات ناصعة عربيه وبيان عال. والقوى الثلاث تضبط إحداها الأخرى: فالعلم يضبط الخيال فلا يشذ، ويمسك القلم فلا يغرق، وإذا العبارة القصيرة، أو المحاضرة الطويلة، آية في الوضوح والرواء والإحكام.
وهذه مهمة شاقه كالصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها، ولولا العمل العظيم الذي يضطلع به الدكتور شوشة في وزارة الصحة، وما لمشروعاتها من أثر خطير في مستقبل الشعب المصري، لكنت رجوته، ولكتبت أحثّ الحكومة، على أن ينقطع للمحاضرة في الموضوعات التي توفر عليها وشغف بها.
ولكن العمل الذي يضطلع به في الحكومة ينزل في الصميم من مستقبلنا. فصحة الشعب، من أي النواحي أتيتها، هي والأرض رأس مالنا الأول، وواجب محتوم على كل قادر أن يشارك في دراسة المشكلات واقتراح حلول لها والعمل عملا جاداً متصلا على تنفيذها. وقد
مضت سنون على الدكتور شوشه، وهذه الناحية من حياة مصر في المركز من عنايته، وقد طالما سمعه يتحدّث فيها مع زملائه حين كانت وزارة الصحة وكالة، ثم في وزارة الصحة وكلية الطب ومعهد الأبحاث وغيرها من الهيئات.
وما قطعه هو وزملاؤه. ليس إلا مرحلة قصيرة من طريق وعر، في حرب تُشن على الجهل والمرض والفاقة، وستظل أرحاؤها تدور، حتى تصبح الكنانة جنة على الأرض.
فؤاد صروف
من الأغاني العالمية:
حنين الغريب
(لناظمها فوستر)
بقلم الأستاذ كامل كيلاني
ذكرنا في العدد 614 من الرسالة أن جمعية مصرية ألفت لتعريب الموسيقى العالمية قوامها الأساتذة علي مصطفى ومشرفة باشا وكامل كيلاني ومحمد زكي علي اسماعيل راتب وعلي بدوي، وأنها أختارت عشر أغان لعباقرة الموسيقى ذكرنا فنقلها نظماً إلى اللغة العربية الأستاذ كيلاني، ثم نشرتها على الناس منظومة مدونة. ونزيد اليوم أن الجمعية لا تزال دائبة على تنفيذ هذا المشروع العظيم، وإنها على وشك أن تخرج للناس مجموعة أخرى من هذه الأغاني. ويسرنا أن ننشر منها هذه الأغنية الجميلة لتكون لعشاق هذه الفكرة ومرتقبيها عجالة لهفان وعلالة مشوق.
يا نهر سْوَاني: نفسي تهواك
…
قلبي حَيّاكَّ
من كلَّ أرضٍ فكري يَرْعاكْ
…
قَلْبي يَهْوَى نجْواكْ
في التّلَّ العالي فوق الَوديانْ
…
أمُشِي حَيْرانْ
في الروْضِ الحْالِي تَحْتَ الأَفْنْان
…
تَقْتُلني الأحزانْ
يا صِحابي: يا رفاقي:
…
بلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي: كَمْ تُلاقي
…
من لاعِجِ السَّقامْ
يا عهْدَ الْوادي، يا عَهْدَ النُّورْ
…
عَهْدَ صِبايْ
أجري وأغِّني وأدُورْ
…
وأناجِي لَْيلايْ
يا عَهْدّا وَلَّي والدَّهْرُ سَعِيد
…
حُلْوُ التغريدْ
ترعاني أُمَّي، والعَيْشُ رَغِيدْ
…
أتُراهُ يَعُودْ!
يا صِحابي يا رِفاقي:
…
بَلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي كَمْ تُلاقي
…
من لاعِجِ السَّقامْ
أوطانيِ فِيها كُوخٌ أََرْعَاهُ
…
أنا لا أنْساهْ
كم تَكْوي قَلْبي حُزْناً ذِكْراهْ
…
سَحَرتْني رَيْاهْ
والنَّحْلُ تَجْنِي النُّورَ البَسَّامْ
…
بَيْنَ اْلأَكمامْ
أَفْدِي بَحَياتي تلكَ الأيامْ
…
أََفْدي عَهْدَ الأحْلامْ
يا صِحابي يا رِفاقي:
…
بَلِّغُوا السَّلامْ
يا فُؤادي كَم تُلاقي
…
مِنْ لاعِجِ السَّقامْ
ليتني.
. .!
للمرحوم أبي القاسم الشابي
(أيها الشعب ليتني كنت حطَّا
…
با فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سا
…
لت تهد القبور رمسا برمس
ليتني كنت كالرياح فأطوي
…
كل ما يخنق الزهور بنحسي
ليتني كنت كالشتاء أغشي
…
كل ما أذبل الخريف بغرسي
ليت لي قوة العواصف ياشع
…
بي فألقي إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن
…
أنت حي تقضي الحياة برمس
أنت روح غبية تكره النو
…
ر وتقضي الدهور في ليل ملس
أنت لا تدرك الحقائق إن طا
…
فت حواليك دون مس وجس
في صباح الحياة ضمخت أكوا
…
بي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرق
…
تَ رَحيقي ودست يا شعب كأسي
فتألمت ثم أسكتُّ آلا
…
مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي
…
باقة لم يمسها أي أنسي
ثم قدمتها إليك فمزق
…
تَ ورودي ودستها أي دوس
ثم ألبستني من الحزن ثوباً
…
وبشوك الصخور توجت رأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شع
…
بي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
ها أنا ذاهب إلى الغاب علِّي
…
في صميم الغابات أدفن نفسي
ثم أنساك ما استطعت فما أن
…
ت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشي
…
دي وأفضي لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري
…
أن مجد النفوس يقظة حس
ثم أقضي هناك في ظلمة اللي
…
ل وألقي إلى الوجود بيأسي
ثم تحت الصنوبر الناضر الحل
…
وتخط السيول حفرة رمسي
وتظل الطيور تمشي حواليَّ
…
كما كن في غضارة أمس
أيها الشعب أنت طفل صغير
…
لاعب بالتراب والليل مغس
أنت في الكون قوة لم تسسها
…
فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها
…
ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلي
…
في حساسيتي ورقة نفسي)
هكذا قال شاعر ناول الشع
…
ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا
…
واستخفوا به وقالوا بيأس:
قد أضاع الحياة في ملعب الجن
…
فيا بؤسه أصيب بمس
طالما خاطب العواطف في اللي
…
ل وناجي الأموات في كل رمس
طالما رافق الظلام إلى الغا
…
ب ونادى الأرواح من كل جنس
طالما حدث الشياطين في الوا
…
دي وغنى مع الرياض بجرس
إنه ساحر تعلمه السح
…
ر الشياطين كل مطلع شمس
أبعدوا الكافر الخبيث عن الهي
…
كل إن الخبيث منبع رجس
اطردوه ولا تصيخوا إليه
…
فهو روح شريرة ذات نحس
هكذا قال شاعر فيلسوف
…
عاش في شعبه الغبي بتعس
جهل الناس روحه وأغاني
…
ها فساموا سوء بخس
فهو في مذهب الحياة نبي
…
وهو في شعبه مصاب بمس
هكذا قال ثم سار إلى الغا
…
ب ليحيا حياة شعر وقدس
وبعيدا هناك في معبد الغا
…
ب الذي لا يظله أي بؤس
في ظلال الصنوبر الحلو والزي
…
ون يقضي الحياة حرسا بحرس
في الصباح الجميل يشدو مع الطي
…
ر ويمسي في نشوة المتحسي
نافخاً نايه حواليه تهتز
…
ورود الربيع من كل قنس
شعره مرسل تداعيه الري
…
ح على مكتفيه مثل الدمقس
والطيور الطراب تشدو حوالي
…
هـ وتلغو في السرو من كل جنس
وتراه عند الأصيل لدي الجد
…
ول يرنو للطائر المتحسي
أو يغني بين الصنوبر أو ير
…
نو إلى سدفة الظلام المعبسِّي
فإذا أقبل الظلام وأمست
…
ظلمات الوجود في الكون تقسي
كان في كوخه الجميل مقيما
…
يسأل الكون في خشوع وهمس
عن مصَب الحياة أين مداه
…
وصميم الوجود أيان يرسي
وعبير الورود في كل واد
…
ونشيد الطيور ساعة تمسي
وهزيم الرياح في كل فخ
…
ورسوم الحياة من أمس أمس
وأغاني الرعاة أين يواري
…
ها سكون الدجى وأيان تمسي؟
هكذا يعرف الحياة ويفنى
…
حلقات السنين حرصاَ بحرس
يا لها من معيشة في صميم ال
…
غاب تضحي بين الطيور وتمسي
يا لها من معيشة لم تدنس
…
ها نفوس الورى بخبث ورجس
يا لها من معيشة هي في الكو
…
ن حياة غريبة ذات قدس
أبو القاسم الشابي
البريد الأدبي
كليتان تتنافسان:
بين كلية اللغة العربية وكلية دار العلوم تنافس طال أمده، وكنا نحب أن يكون هذا التنافس بينهما في ميدان التجديد الذي مات بموت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ولكنهما يتنافسان على وظائف التدريس في المدارس الأميرية، وفي دخول معهد التربية، وما كان يصح أن يكون بينهما تنافس على ذلك، لأن المدارس الأميرية بعد أخذ الحكومة في تعميم التعليم الابتدائي وتوسيع التعليم الثانوي ستسع أبناء الكليتين، وربما تحتاج الحكومة إلى كلية أخرى من نوعهما، ويجب أن يعلم أبناء الكليتين أنه يوجد كلية آداب بجامعة فؤاد وكلية آداب بجامعة فاروق، كما يوجد بهما كليتان للطب وغيره، وليس بين هذه الكليات مثل هذا التنافس على الوظائف، مع أن باب الوظائف لا يتسع أمام هذه الكليات، كما يتسع أمام كلية اللغة العربية وكلية دار العلوم. ويجب على الحكومة أن تبادر بإزالة أسباب ذلك التنافس، لأنه مما يضر بمصلحة الوطن، ونحن في أشد الأوقات حاجة إلى جمع الكلمة، وإزالة أسباب الخصام بين طرائف الأمة.
عبد المتعال الصعيدي
إلى الأستاذ وديع فلسطين:
قرأت بشغف تلك التي أهديتها إلي، وإذا كنت لم أر فيها أفكارك الخاصة، فقد رأيت فيها أسلوبك الخاص الذي أضفيته عليها، كما لمست في مقدمتها شخصيتك واستعدادك اللذين عرفتهما من قبل.
إنك تسير في الطريق الصحيح، وإنني أرى من الآن تلك المكانة التي ستتبوؤها قريباً بفضل اجتهادك ومثابرتك ومواهبك، فإلى الأمام.
حماده الناحل
موقف اليهود العرب من الصهيونية
كتب شيخ الصحافة في الشام الأستاذ يوسف العيسى صاحب جريدة (ألف باء) مقالا بليغاً
عن الموقف الأخير الذي وقفه اليهود العرب من الصهيونية ذكر فيه أن ممثل اليهود أمام لجنة التحقيق السيد عبادي أجاب هذه اللجنة حين سألته عن الفرق بين اليهودية والصهيونية بقوله:
إن اليهود والعرب يسلمون كل التسليم بالفكرة الصهيونية، وبوجوب إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، وبلزوم هجرة اليهود والعرب من العراق ومصر وشمالي أفريقية إلى هذه الدولة اليهودية الجديدة
قال الأستاذ العيسى: (وهكذا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وانتهى التدجيل الكلامي الذي دأب زعماء اليهود العرب يسمعونه مواطنهم المسيحيين واليهود من أنهم يشجبون ويلعنون ويمقتون كل من يقول بالصهيونية لأنهم يعتبرون أنفسهم عرباً).
ثم قال الأستاذ: (كنا دائماً نتجنب إدخال اليهود الوطنين في القضية الصهيونية ونحافظ على التفريق بينهما كلما كتبنا في الموضوع؛ أما اليوم فقد أراحنا هؤلاء المواطنون من هذا التكلف وصاحوا بأعلى أصواتهم أنهم لا شأن لهم معنا بل هم مع الصهيونية ضدنا، أما اليوم وقد صرّح الزبد عن الخمر وأظهروا حقيقتهم برضاهم واختيارهم، فقد حذفنا من قاموسنا كلمة صهيونيين وغير صهيونيين لأن الخصام السياسي أصبح محصوراً بين عرب ويهود على الإطلاق).
(دمشق)
ناحي الطنطاوي
حول لفظ البيوريتنز:
لست أرى ما ذهب إليه الأستاذ وديع فلسطين مع احترامي له وثنائي على حسن عنايته، فليست هذه الألفاظ صفات، وإنما هي أسماء لها مدلول أوسع مما تدل عليه الكلمة في اشتقاقها اللغوي. وهل نترجم الكاثوليكية مثلا والبروتستنتية إلى العربية، والمعتزلة، والمرجئة، والقدرية، والشيعة، إلى الإفرنجية؟
هذا، ولست أنكر أن إيراد تلك الأسماء الإفرنجية وسط الكلام العربي فيه شئ من الثقل، ولكن ذلك هو الصواب فيما أعتقد والسلام.
الخفيف
حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية:
قَدم الدكتور محمد شرف الدين سليمان منذ عامين في حفلة المعهد الملكي للموسيقى العربية للأستاذ علي محمود طه (أرواح وأشباح) وقد اختار لحفلته هذا العام أوبريت (دموع الرشيد) وهي للشاعر عبد القادر محمود وسيقوم بإخراجها الأستاذ عثمان أباظة فنرجو للمعهد التوفيق في عهد الجديد.
عين
القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي. . .
(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 4 -
أخذ (محمود) طريقه إلى بيته - بعد أن فارق فريداً - وهو يكاد يطير من شدة الفرح، يلقي التحية على من يقابله من إخوانه، ويريد تحياتهم بثغر باسم، ووجه باش، وصوت يشيع فيه السرور. . . وإن رأسه لميدان فسيح تتسابق فيه الأفكار حول المشروعات العمرانية والثقافية التي أراد أن يشق بها طريقه إلى الخلود والمجد، فسيكون أول مكشف يجلو عن جبين التاريخ الألباني العظيم ما غمض من حقيقة. وسيتسع بذلك أفق حياته، ويصبح إنساناً آخر غير محمود المدرس الذي خرج في صباح هذا اليوم إلى المدرسة يعمل جاهداً طول نهاره، ويعود متعباً مع الليل. سيصبح (مليونيراً) ترنو إليه العيون، وتشير إلية الأصابع، ويسير في ركابه الاحترام. وإنه لمشغول بهذه الأفكار إذ مر به صديقه فتحي ماشياً على حذر خشية أن تزلق رجله فيسقط في الوحل، ولقد اختلس النظر إلى محمود على ضوء الكهرباء التي أنارت الطريق، لكنه لم يخطر له على بال أن محموداً سيكون - بين عشية وضحاها - مذكوراً على كل لسان، وموضوع حديث كل إنسان، وأن اسمه سيتداول مع الأجيال المقبلة، لما وفق إلية من اكتشافات غيرت وجه التاريخ، وسجلته مع الخالدين. . .
إن المظاهر الخارجية قد تعتبر تعبيراً صادقا عما تنطوي عليه نفس الإنسان، من نعيم أو شقاء، أو حزن أو سرور؛ فإن فتحي قد رأى محموداً ولم يلحظ فيه التحول، وكذلك لم يلحظ فيه هذا التحول، وكذلك لم تلحظه أمه ولا أخواته الثلاث عندما جلس معهن على المائدٍة، ليؤنسهن، ويسامرهن، فقد تناول عشاءه في منزل فريد. ولقد رأيته أكثر سروراً منه في كل
وقت، ولكن لم يمتد بهن الخيال أبعد من أن نجاحه في عمله المدرسي وتمتعه بثقة أصدقائه هو الذي يضفي عليه ثوب هذا السرور دائماً.
إن الإنسان ليضيق به المكان، ولا يستطيع الاستقرار فيه إذ اأفعمه الفرح، وكذلك كان محمود؛ فقد استحال عليه أن يقنع نفسه بالبقاء في المنزل، بعد أن فرغت أمه وأخواته من عشائهن، وانصرفن لبعض الشئون، فغادر البيت وليس له مقصد معين. ولما كان الوقت قريباً من شهر رمضان: والناس جادون في الاستعداد له، فإن المحال التجارية والمقاهي كانت تعمل إلى وقت متأخر من الليل، فراق لمحمود أن يذهب إلى المقهى ثانية يقضى فيه شطراً من هذا الليل، وقدر أنه سيتلاقى - حتما - مع فريد، فإنه لن يستطيع الصبر على الانتظار في البيت، ولكنه أخطأ التقدير، فلم يجد إلا شقيق التحية وقال: ما دمت قد حضرت فلن أكون وحدي. ثم جلسا متقابلين ونظر محمود إلى شفيق وقال وهو يبتسم: إن ملامح وجهك، ونبرات صوتك، تدلنا على تغير طرأ عليك فماذا بك يا شفيق؟
- لاشيء! وكيف أتغير؟
- لا أدري! ولكنك لست كما أنت في كل يوم.
- إن الإنسان لا يدوم على حال واحدة، وتلك سنة الطبيعة وناموس الوجود. وعسى الله أن يأتي بالفرح. وعندما نطق شفيق بهذه العبارة اجتهد أن يملك زمام نظرات محمود النفاذة إلى القلوب. ولكن محمودا وقد أراد التسلية، وقتل الوقت، فقد أمطر شفيقا وابلا من الأسئلة؛ فقال له: ألست من أصدقائك، ومن حقي أن أعرف ما حل بك؛ فقد أستطيع أن أمد لك يد المساعدة؟
- لم يحل بي مكروه، والحمد لله. ثم لماذا تسألني هذا السؤال؟
لأني رأيتك هذا اليوم في الطريق مهموما، وآية ذلك أنك لم تحينا. فتحرك شفيق في كرسيه في حركة عصبية وقال في شئ من الغضب: ذلك لأن لدي أشغالا هامة، فليس صديقك فريد هو المشغول وحده.
- ولماذا تقحم فريداً في الكلام وهو ليس معنا.
- إنه متكبر، يدل بثراء والده، ويضع نفسه في غير موضعها، وأولى له أن يطرح هذا جانباً وإنني أمقته لذلك.
- لو تعلم عنه مثل ما أعلم، ماخالجك شك في سمو خلقه، وصفاء نفسه، أنه مثل من أمثلة المروءة والنبل.
- أنا لا أعلم عنه إلا أن ثراء والده أفسد خلقه، ووأد مروءته، وإن الغني الذي يفاخر به ليس وقفا عليه؛ فربما أصبح أناس آخرون في وقت قريب أكثر منه ثراء، وأيسر منه حالا
- (اشقودراه) كبيرة وبها كثير من الأغنياء.
- نعم! ولكن أقصد أن من الممكن أن يظهر في سمائها أغنياء جدد فجأة لا يستطيع الخيال أن يصل إلى ما يملكون من مال. فاضطرب قلب محمود خوفا من أن يكون شفيق قد التق ببيرام وعلم من أخباره شيئا، ولكنه اجتهد في إخفاء تأثره وقال: نعم! ذلك ممكن وميسور، وإنه ليكفي الإنسان ليكون غنياً أن يربح (يا نصيب دوبلين).
- وما قيمة (اليانصيب)؟. إن سبلا كثيرة للغنى تنفتح أمامك، إذا أسعدك الحظ، وواتتك الظروف.
- وماذا تكون هذه السبل؟ بربك دلني على إحداها!
- ها أنت تسخر من كلامي! ولكن حقا توجد طريق كثيرة
- أنا لا أنكر أنها توحد! ولكني أومن بأن الحظ لن يحالفك أبداً.
- وأنى لك ذلك؟ ألأنه خدم صديقك فريداً، أم ماذا؟
- وما شأن فريد هنا، لكل إنسان خطة في الحياة.
- على كل حال، سأحدثك بعد قليل. ثم سكتا وقتاً تشتت فيه فكر محمود واعتقد أن شفيقاً قد اشتم عبير الكنز - لا محالة - وأن بيراما - لابد - وأن يكون قد خانهما. ولم يتحول عن هذا الاعتقاد إلا عندما قال شفيق: هل تعرف شيئاً عن مادة (أبونوس).
- نعم أعرفه! ولماذا؟
- ما قيمة هذا المعدن بين المعادن الأخرى؟
- إن قيمته عظيمة! كالذهب تقريبا، ولكن لماذا تسألني عنه؟ هل اكتشفت منجما؟
- إن لم أكن قد اكتشفته فسأكتشفه قريبا. فقال محمود ضاحكا - بعد أن اطمأن أن بيرام لم يفلت من يدهم، وأن شفيقا إنما يحلم بآبار من (أبونواس): أرجوك ألا تنساني يا شفيق، ثم أخذ الحديث مجري آخر إلى أن انتصف الليل فقام كل منهما إلى منزله. وقد آثر محمود أن
يسلك إلى بيته طريقا طويلا يمر بمنزل فريد، رجاء أن يقابله بيرام عائداً فإن ميعاده قد حان، ولكنه لم يصادفه.
قضى محمود ليلة (نابغية) فقد أخذ موضعه من سريره، ولكن النوم ضل طريقه إلى عينيه، فلم يغمض له جفن. وقد تمثلت له حوادث النهار حقائق لا يعتريها شك، ولا يتسرب إليها وهم. ولقد امتد به الخيال فذهب يرافقه السيد عفت ونجله فريد إلى (دومن) وقابلو بيراما في بيته وأرشدهم إلى الكهف وقادهم في مسالكه ورأوا بأنفسهم ما احتواه الكهف من ذهب نضار، وتماثيل عجيبة، انفسح لها مجال الفخر بأن يد الزمن عجزت أن تمتد لها بسوء طوال هذه القرون البعيدة، التي مرت بها، وفي هذا دلالة على أن صانعها في ذلك العهد الغابر قد ضرب في جودة الفن بسهم وافر. وأن الألبان أهل حضارة قديمة، ومدينة عريقة، وهذا الكهف بما فيه شاهد عدل، وحجة دامغة على من يدعى الإنكار.
وهاهي ذي الأزيار الكبيرة قد امتلأت بالذهب ولا يعلم إلا الله وحده متى جمع هذا الذهب؟ ومن أين جمع؟ ومن جمعه؟ فقد تكون الجنود الألبانية المنتصرة قد غنمته من عدو مغلوب في ذلك العهد البعيد، أو تكون الحكومة القائمة آنذاك قد استبدلت به الأسرى والسبايا التي عادت بها جيوشها المظفرة، أو تكون قد جمعت من أفراد الشعب ظلما بأيدي حكام طغاة ضلت الرحمة طريقها إلى قلوبهم. . .
وهاهي ذي قد زالت من الوجود الوسائل والغابات التي جمع بها ومن أجلها هذا الذهب، وبقي هو ليبدأ اليوم صفحة جديدة في حياة أناس آخرين لا صلة تربطهم - في الواقع - بمن جمعه، ولم يقدروا في يوم ما أن القدر قد كتب لهم في سجل حياتهم هذه السعادة، وهذا النعيم.
ها هو ذا القنديل المعلق في وسط الكهف يقرأ علينا من أخبار ذلك القصر العظيم الذي كان يشع فيه ضوؤه، ويقص علينا من تاريخ أهله العجب العجيب، فهؤلاء أمراء الأجناد وأبطال الحرب ينتظم عقدهم كل مساء إذا أوغل الليل، يدبرون مع الحاكم خطط الهجوم على العدو، ويتشاورون في أنجح الطرق وأضمن الوسائل للتغلب عليه، وإن عددهم ليتناقص واحداً واحدا على مر الأيام حتى لم يبق منهم أحد، فقد فنوا جميعا، ولحق بهم الملك بعد قليل - سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولقد قام على أنقاضهم
جماعة فهموا الحياة فهما آخر فكان وقتهم موزعا بين الرقص والغناء وغيرهما مما يشيع البهجة والسرور في النفس، ويمسح عن القلب ما يكون قد علق به مما يباعد بينه وبين الانشراح.
وقد طوى الزمن هؤلاء وأولئك فأصبحوا تاريخا يسرد وبقيت وحدي تذكاراً لذلك الماضي البعيد. . .
المهد في زاوية من زوايا الكهف يتحدث في صلف عن أولئك الملوك الذين تأرجحوا فيه أطفالا وداعبوا فيه صغارهم حكاما كباراً، وهم معقد رجاء الأمة، وملتقى آمال الشعب.
دارت كل هذه الخواطر في رأس محمود فباعدت بينه وبين النوم إلى أن طلعت الشمس، فهب من سريره واستبدل ملابسه وأسرع إلى منزل فريد، وكله شوق إلى رؤية ما استحضره بيرام من العينات.
ولكنه لما دخل على فريد، ورأى الألم والحزن مرتسمين على صفحة وجهه، والقلق والاضطراب في حركاته وسكناته قال له: ماذا بك؟ ألم يأت بيرام بعد؟
- لقد انتظرته إلى طلوع الشمس. لكنه لم يأت.
- كيف ذلك؟ أتراه كان يهزأ بنا؟
- لا أدري! وإني متعب جداً ولم أذق طعم الراحة طيلة الليل وأود أن أستريح فأذن لي، فخرج محمود وترك فريداً يستعد للنوم. ولما كان في الطريق غير بعيد عن منزل فريد رأى السيد لطفي يذهب ويجئ - في طول الشارع وعرضه - كأنه يراقب من في المنزل، أو كأنه على موعد مع أحد، فعجب من وجوده هذا الوقت المبكر في هذا المكان، الذي ليس لأحد فيه صلة به، ثم في سرعة البرق تذكر ما دار بينه وبين شفيق في الليلة المنصرمة، وبدأ يتسرب الشك إلى قلبه، وكان قد حاذاه، فحياه تحيه الصباح، فرد لطفي تحيته في صوت مضطرب خافت، وبدا عليه شئ من الارتباك، فقد كان يود ألا يراه أحد من أصدقائه في وقفته تلك. أما محمود فقد أسرع في طريقه إلى المدرسة شارد التفكير، حائر اللب، يود أن يعرف لماذا تأخير بيرام؟ ولماذا وقف لطفي أمام منزل فريد بالذات في هذه الساعة المبكرة وقد أحس في نفسه شعوراً قويا بأن شفيقا وصديقه لطفي إنما يقومان معا بعمل مشترك، وليس بعيداً أن يكونا قد أوقعا بيراما في الشرك. ولقد طغى هذا الشعور
على محمود - وكان قريباً من المدرسة - فرأى أن من الحيطة أن يرجع، ويقف فريدا على ما كان من شفيق ليلة أمس، وأنه رأى السيد لطفي الآن يدور حول منزله، ويطلعه على إحساسه من أن شفيقاً ولطفي يعملان معاً لغرض مشترك. وبينما هو عائد لمح من بعيد السيد لطفي يتحدث في كثير من الاهتمام إلى قروي ربط رأسه بمنديل أحمر ستر كثيراً من وجهه، بحيث يصعب على إنسان لم يكن رآه كثيراً - أن يعرف من هو، ولكن محموداً أحس إحساسا قويا أن هذا القروي لن يكون غير بيرام، فاندفع نحوهما بغضب وقال بحدة:
- أين كنت يا بيرام؟ لماذا لم تجئ الليلة كما وعدت؟ أتكذب علينا؟
- تمهل يا سيدي! ولا تجعل للغضب سبيلا إلى قلبك، فسأقص عليكم كل شئ.
وهنا يدخل السيد لطفي، وقال لمحمود بصوت شاع فيه الغضب. . . . . .:
- إن هذا الرجل لا سلطان لك عليه، فقد تكلم معي أولا وليس من حقك أن تقف معنا، فامض في طريقك، ولا تتدخل فيما ليس من شأنك.
- كيف تقول إنه تكلم معك أولا؟ إنه أكد الأيمان أنه لم يسبقنا إلى معرفة أمره أحد.
- لا أريد أن أعرف ماذا قال لكم، ولكن أريد أن تفهم أنه مرتبط معي فقط.
- معك أنت؟ قال محمود هذه الكلمة بغضب شديد، دل عليه احمرار وجهه، وبريق عينيه، وتقلص شفتيه، وخشونة صوته
ثم تراميا بألفاظ شديدة اللهجة قوية الوقع. . . ولكن بيراما قد وضع حداً لهذا التراشق بالشتائم؛ فقد صاح فيها:
- مهلا أيها الفاضلان! فلست مرتبطا مع أحد منكما، فلا تقتتلا من أجلي، فمهمتي في هذا المنزل. وأشار إلى منزل السيد عفت والد فريد: فقال محمود:
- حسن! عليك أن تذهب إلية الآن.
فابتعد السيد لطفي عنهما وقال مهدداً متوعداً:
- اذهبا حيث شئتما، وسنرى.
(البقية في العدد القادم)