الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 666
- بتاريخ: 08 - 04 - 1946
إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف:
حل حاسم لمشكلة الأزهر
غاية الأزهر التي أتجه إليها منذ أكتمل أمره أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع عن أصوله من شتى العلوم؛ وسبيله إلى هذه الغاية أن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون؛ فالدين واللغة إذن هما علة وجوده وجوهر علمه وثمرة عمله. ومن مزية الإسلام أن يمرن مع الزمن ويتجدد بالعلم ليلائم كل عصر ويعالج كل حالة. ومن طبيعة العربية أن تتطور مع الجماعة وتتسع بالحضارة لتعبر عن كل معنى وتدل على كل ذات. وكان من ثمر هذه المرونة في الدين هذا الفقه العالمي العجيب، ومن أثر هذا التطور في اللغة هذا الأدب الإنساني الخصيب. فلما تدفقت الخطوب على حواظر الإسلام والعروبة فمال الميزان ودال السلطان وأنتقض الأمر وعجز العقل، جهل المسلمون مرونة دينهم فأغلقوا باب الاجتهاد، وأنكر العرب تطور لغتهم فصدوا عن سبيل الأدب. وتقدم الغرب وتأخر الشرق، وسيطر العلم وتعطل الإسلام، وتطور التعليم وجمد الأزهر، وولى المصريون وجوههم شطر أوربا يأخذون عنها ما كانت أخذته عنهم، ثم استأنفوا السير في ركب الحياة. ولكن الأزهر ظل في موقفه فلم يسر، وأخذته الصيحة من كل مكان فلم ينتبه، وسألوه أن يمدهم بشيوخ الدين ورجال العربية وهما غايته ووسيلته فلم يستطع. حينئذ اضطر أولوا الأمر إلى إنشاء (دار العلوم) لتعليم اللغة، ثم إلى إنشاء (مدرسة القضاء) لتطبيق الشريعة، وتركوا الأزهر المعمور متحفاً لآثار غير ثمينة من الكتب القديمة والآراء العقيمة؛ يتعبد بألفاظها قوم من فارغي القلوب قد اطمأنوا إلى الخمول، ورضوا بالدون، وعاشوا على فضل الناس، حتى دخلت النهضة المصرية في أوائل ربيعها المزهر، فهب كل وسنان وأنتعش كل ذابل. وتيقظ الأزهريون من رقادهم الطويل فإذا هم عراة من حلل الثقافة الحديثة؛ فطفقوا يخصفون على سوءاتهم مما تناثر حول الأزهر من ورق الربيع؛ ولكنهم ظلوا متميزين من سائر المصريين بهذا الورق الذي لا يدفئ ولا يستر، فنزعوا بأنفسهم عن معرة التخلف، وتنافسوا في اقتباس المعرفة، وأرادوا الدين للدنيا، وطلبوا العلم للحياة، وهتفوا وهتفنا معهم بالإصلاح. ولكن بقايا الراقدين على حطام الماضي يفزعون من هذا الإصلاح لأنه يجرفهم كما يجرف السيل الهشيم! فهم يلقون بأجسادهم إلقاءً في طريق
الشباب ليعوقوهم عن بلوغ الأمد المحتوم، والأمد المحتوم الذي سيبلغه الشباب الأزهريون ولا شك هو أن يتعلموا ليعيشوا ما دام الإسلام لا يتبنى الرهبان ولا يتبنى الأديرة. وقد أخذوا، منذ نقل الأستاذ المراغي طيب الله ذكره صورة النظام الجامعي إلى الأزهر، يفكرون في مصيرهم بعد العالمية والتخصص، وفي موقفهم من دار العلوم وكلية الآداب، ويقولون لا نفسهم حينا وللناس حينا آخر: نحن خمسة عشر ألفاً من شباب الأمة أو نزيد، فينا مواهب وعلينا تكاليف ولنا مستقبل؛ فلم نتعلم إذا قضي علينا ألا نعمل؟ وكيف تنفق أموال الدولة على معاهد قصارى أمرها أن تخرج في كل عام قوما متبطلين لا هم لأنفسهم ولا لله ولا للوطن؟ وإذا كان تعليمنا على هذا المنهج الخاص لا يؤهلنا لاكتساب الرزق إلا من تعليم الدين واللغة في المدارس، فما غاية الحكومة إذن من قيام هذه المعاهد التي تنافسنا في الحرفة وتخاصمنا على القوت؟ وإذا كان تخلف الأزهر في عهد إسماعيل قد اضطر على مبارك باشا إلى إنشاء (دار العلوم) فما الضرورة الملجئة اليوم إلى بقائها والأزهر جامعة والدرس مستقصى والمدرس مختص؟ ولكن الدرعميين والجامعيين في الجهة الأخرى يجيبون على هذه النجوى أو الشكوى بأن الإعداد مختلف والتحصيل متفاوت، وما تستوي الفوضى والنظام ولا النقص والتمام ولا التقليد والأصالة. ووقف الفريقان يتلاحيان، رأياً إزاء رأي، واضطراباً وراء اضطراب، واحتجاجا اثر احتجاج، ومن هنا نشأت المشكلة بين المعاهد وأعضلت. وجهدت مشيخة الأزهر ووزارة المعارف جهدهما أن تعالجها بالدواء المسكن لا بالطباب الحاسم، فكانت كالثوب المتداعي كلما رتق من جانب تفتق من جانب آخر.
لذلك نتقدم اليوم إلى هاتين الجهتين باقتراح نرجو إذا خلصت النيات
وصدقت العزائم، أن يكون مقطع الحق في فض الخلاف وإصلاح
الأزهر.
ذلك الاقتراح هو:
1 -
أن يلغي التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقي بمقاليده إلى وزارة المعارف، تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه. وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة
2 -
أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة
الابتدائية العامة، وتعلم فيها اللغات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتوجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاها إلى الدين وعلومه، وإما اتجاها إلى اللغة وفنونها. فإذا انقضت السنوات الدراسية الخمس تقدم طلاب الشعبتين إلى امتحان الشهادة الثانوية مع سائر إخوانهم من جميع المدارس، يمتحنون معهم فيما يتفقون فيه، وينفردون انفراد شعب التوجيهية فيما اختصوا به. والناجحون في هذا الامتحان سيجدون أمامهم طريقين هم بالخيار في سلوك إحداهما: طريق الوظيفة الوسط، وطريق الدراسة الأزهرية العليا. فإذا اختاروا طريق الوظيفة عينوا كتبة في المعاهد الدينية، أو في المحاكم الشرعية، أو في المجالس الحسبية، أو في بعض الأقسام من وزارات الأوقاف والمعارف والشؤون، أو عينوا موثقين شرعيين في المدائن والقرى. ذلك إلى أن لهم الحق بحكم شهادتهم أن يسابقوا في الامتحان إلى أي وظيفة من وظائف الدولة. وإذا اختاروا طريق الدراسة العليا دخلوا القسم الجامعي بالأزهر
3 -
أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتندمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين. وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق. ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوربية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين، أو من فنون اللغة. وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. ومدة الدراسة في الكليتين أربع سنين للعالمية أو الليسانس، وست سنين للتخصص أو الدكتوراه. ومن يرد من طلاب الكليتين الاستعداد للتعليم قضى في معهد التربية سنتين بعد الليسانس لمن يريد التعليم في الثانويات، ومثلهما بعد الدكتوراه لمن يريد التعليم في الكليات. والمتخرجون في كلية اللغة يزاولون تعليم اللغة والأدب في المعاهد الدينية، وفي جميع مدارس الدولة ابتدائية وثانوية وعالية، فضلا عن مزاولتهم الترجمة والتحرير والصحافة. وأما المتخرجون في كلية الدين فيزاولون القضاء، والمحماة، والإمامة، والوعظ، والخبرة، والتفتيش في المساجد والمعاهد، وتدريس الدين والشريعة في كل مكان يدرسان فيه.
بهذا النظام يحتفظ الأزهر بقديمه ويشارك في جديد الناس، وبهذا النظام تمحى الفروق المعنوية والمادية بين طلابه وسائر الطلاب، وبهذا النظام تتحقق وحدة الثقافة وتنقطع أسباب الفرقة ويساهم الأزهر في شركة المدينة. فأن أردتم الإصلاح فهذه سبيله واضحة؛ وان أبيتم إلا التخدير والتجبير والتقية، فأضيفوا من فضلكم كلية للدين إلى جامعة فؤاد ثم أغلقوا الأزهر!
أحمد حسن الزيات
يوم من أيام مصر الخالدة بأنقرة
الغازي مصطفى كمال
بدار المفوضية الملكية المصرية
للأستاذ أحمد رمزي
في مساء يوم الأحد 26 مارس سنة 1933 شرف أتاتورك أو الغازي مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية وزعيم تركيا بزيارته دار المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، وكان ذلك في منتصف الليل تماماً حين دقت الساعة الثانية عشر، وحدث هذا في الحفلة التي أقامتها المفوضية بمناسبة عيد ميلاد المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيب الله ثراه. ولما دخل وقف المدعوون من رجال الحكومة وأعضاء السلك السياسي وغيرهم، وقد تملكتهم الدهشة، لأنها كانت أول مرة يزور فيها الرئيس الغازي دار مفوضية أجنبية، إذ لم يسبق حدوث شيء من ذلك للسفارات أو المفوضيات التي يتولاها السفراء والوزراء المفوضون، فما بالك بزيارته لمفوضية على رأسها قائم بالأعمال!
وكتبت في مذكراتي اليومية عن أثر هذه المفاجأة وقت دخوله ما يأتي: (كنت ترى في عينيه بريقاً يشع من القوة المعنوية الهائلة التي تعتمد على إدارة راسخة فعالة، وتلمس من نظرته الحادة قدرة وثقة في النفس يدعمها إيمان ثابت وعقيدة لا تلين في الرسالة التي سلمتها الأقدار إليه لخدمة بلاده وأمته)!
كان يوماً لا ككل الأيام التي عشتها لا أدري كيف أبتدأ، ولا أشعر متى أنتهي حتى مطلع الفجر، إذ كان يحمل اليّ في كل ساعة مفاجأة، فقد أصبحنا كعادتنا لم نغير موعداً للقيام، ولكن المفوضية كانت في حركة دائمة منذ الصباح المبكر، إذ حضر (العتالون) فاخذوا ينقلون كل شيء من مكاتبنا، ويجيء الخدم بعدهم لترتيب الحجرات وتنسيقها لحفلة المساء. وفي الساعة الحادي عشر من صباح ذلك اليوم زارنا مدير المراسم أو التشريفات أو البروتوكول سمها كما شئت، وكان اسمه شوكت فؤاد بك، جاء لابساً بدلة (البونجور)، وفي يده قبعته العالية، ومعه قفازه، حضر ليعرب لحضرة توحيد السلحدار بك القائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية عن تهاني حكومة الجمهورية التركية وأمانيها الطيبة لجلالة
ملك مصر المعظم ولشعب مصر، وقد أفرغت هذه الزيارة في قالب خاص من الود الصميم والمجاملة، فكانت خير ما يعبر عن العواطف الودية الأكيدة التي تشعر بها تركيا نحو مصر، ولما تناول القهوة والمرطبات أنصرف مشيعاً بالاحترام اللائق.
وأمضينا اليوم قياماً لا نملك وقتاً يتسع لطعام أو راحة، إذ المخابرات التلفونية لم تنقطع مع استنبول، والخدم في حركة وذهاب وإياب بين المحطة والمفوضية، وبينهما وبين المدينة لاستكمال ما يلزم لمأدبة العشاء التي سيحضرها رئيس الوزراء والوزراء، والتي ستعقبها حفلة ساهرة لمئات المدعوين.
وكنت مأخوذاً ذات اليمين وذات الشمال أتنقل بين الطابقين، ولما وجدت برهة أخلو فيها لنفسي أخذت أرتب ملابس السهرة وكانت الساعة السادسة مساء، فإذا بجرس التليفون يدق ويدعوني بسرعة إلى المستشفى العسكري، لأن القائم بالأعمال الأستاذ توحيد السلحدار بك قد أصيب في حادث تصادم وقع بين سيارته وعربة نقل محملة بالرمال. فتركت ما بين يدي، وخرجت مسرعاً إلى الطريق العام، وما لمحت سيارة أجرة من نوع فورد الخشبية، وهي التي تحمل أربعة أو خمسة من الركاب يشتركون فيها، حتى أشرت إليها بالوقف وقفزت فيها، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم (قابتي قاشتي)، وأهل أنقرة ينطقون الكاف قافاً، ومعنى ذلك أخذ وهرب، أي أستلم وأسلم رجليه للريح. وذهبت إلى المستشفى وأدخلت فوراً إلى غرفة العمليات، فوجدت توحيد بك هناك والدم قد غمر بدلته وقميصه، ورأيت طبيب الغازي يعني به ويضمد جرحاً كبيراً في جبهته، ويعالج ذلك برفق وتؤدة، وقد بدا بعض الاصفرار على وجه الجريح، ولكنه لم يفقد شيئا من ثباته وهدوءه ورباطة جأشه. ولما أراد الطبيب أن يستعمل مخدراً يخفف من ألم الجرح وشدة وقع الصدمة رفض ذلك، إذ تمثلت رجولته في شجاعته وصموده واحتماله لما يشكو منه في رأسه ويده، فدهش من حضر لما رأوه يقظاً واعياً يحادثهم والطبيب يلازم عمله في خياطة جرح الجبهة.
وكان معنا في الحجرة نعمان رفعت بك وكيل الخارجية، وقائد الحرس الجمهوري، وهو ضابط يجمع في شخصيته مظاهر الجندية التركية التي خلدتها المعارك والحروب الدائمة والأخطار المزمنة، وكان شديداً فأطلقنا عليه (صاحب الضبط والربط)، قال: (إنه حضر بأمر عال من فخامة رئيس الجمهورية، وأن الأمر الصادر إليه يلزمه إلا يترك توحيد بك
لحظة واحدة حتى يستعيد قواه، وأن يتصل بالغازي مباشرة لأي حادث يطرأ. فشكره توحيد بك على هذه الالتفاته، وطلب إليه أن يرفع للرئيس شكر المفوضية وتقدير مصر قاطبة. ولما أتم الطبيب عمله وقام توحيد بك، التفت إليه وأعلمه بأن واجبه كطبيب يحتم عليه أن ينصحه بأن يستريح هذه الليلة ولا ينهك نفسه بالعمل). فأجابه بغير تردد:(كيف أقبل الراحة وقد دعوت الناس لحفلة مليكي؟ إن إخلاصي يملي عليّ أن أحضر الحفلة، أما الألم فشيء هين يسهل عليّ احتماله في سبيل قيامي بواجبي نحو بلادي، وقد اعتادت هذه الرأس أن تتحمل وتحمل الكثير). ثم التفت إلى قائد الحرس، وإلى وكيل الخارجية، وقد أبديا كلاهما ضرورة الرفق بصحته والعودة للراحة. فقال:(أبلغا الغازي والحكومة التركية أنني بخير والحمد لله، وأني لعاجز عن التعبير عن شكري لهذا الاهتمام الفائق الذي لا أعتبره موجها لشخصي، بل لمليكي وبلادي). وترك المستشفى مستنداً على ذراعي الطبيب وقائد الحرس، وركبنا سيارة أوصلتنا إلى منزله، وأستأذن وكيل الخارجية والقائد، وبقى معنا الطبيب لا يتركه حتى بدل ملابسه ولبس ثياب السهرة ووضع أوسمته، واتجهنا إلى دار المفوضية المصرية، وقد استعدت لحفلة الليلة كأن لم يحصل شيء، وكأن التصادم أمر كان لأيام مضت، ولم يظهر على توحيد بك غير رباط الجرح واليد.
وكان الوقت قد أزف لحفلة العشاء التي تبدأ في الثامنة، وأخذ المدعوون من علية القوم يحضرون ويأخذون أماكنهم، وفي مقدمتهم رئيس الوزارة التركية عصمت باشا، وهو الرئيس الحالي للجمهورية، وقبيل انتهاء المأدبة أخذ المدعوون للسهرة يفدون، وهم من كبار رجال الدولة والسلك السياسي بأكمله المكون من ثلاثين هيئة بين سفارة ومفوضية، وقد توزعوا في أركان الدار وحجراتها، وقد بدت تتألق في رونقها وحلتها.
وكان الجميع يهنئون بالعيد، ويستفسرون عن صحة توحيد بك، ويبدون إعجابهم بعزيمته، وقالت قرينة وزير النرويج:(لا أقدر أن أطيل النظر إليه وهو على هذه الحالة، فأرجو أن تنصحه ليعود إلى منزله فيستريح، إذ أخشى أن ينفتح الجرح في أي وقت فيسبب له نزيفاً). فقلت لها: (كيف يحصل هذا وطبيب الغازي يلازمه ملازمة الظل لا يتركه لحظة واحدة؟!)
وفي منتصف الليل تماماً، والناس في شغل بأنفسهم، وهم جماعات متفرقة، بعضهم يرقص
على نغمات الموسيقى، وبعضهم يلعب الورق، والمقصف عامر، دخل الغازي فاستقبلته الفرقة بالنشيد الجمهوري، ثم بنشيد مصر، واتجه بخطوات ثابتة نحو القائم بالأعمال، فعانقه على مرأى من الحاضرين، وهنأه على رباطة جأشه وقال: نه يحضر إلى بيت مصر كما يحضر إلى بيته، فهو صاحب الدار، وأن مجيئه إلى المفوضية هو تحية منه للشعب المصري في عيد مليكه المعظم، فبلغ مصر ذلك، كما أنه تقدير مني لشخصك. ثم اتجه إلى ركن صغير بإحدى الصالات فجلس ومعه توحيد بك، ووزير الخارجية توفيق رشدي بك، وانضم إليه صاحب السمو الملكي الأمير زيد وزير العراق المفوض بأنقرة، فأجلسه الغازي إلى شماله على نفس المقعد، وجلس الكونت دي شامبران سفير فرنسا، ودارت في تلك الجلسة أحاديث تناولت الكثير من الشؤون، ولم يأتي الوقت بعد لإذاعتها وفي الساعة الثالثة صباحا طلب الغازي من توحيد بك أن يستريح وألح عليه في ذلك وقال له: إنني معجب بموقفك وتصميمك، وأفهم ما يمليه عليك الواجب، ولكني أنا (مصطفى كامل) سأنوب عنك في الترحيب بضيوفك. ونزل توحيد بك على إشارته، ولازمته حتى ركب إلى منزله. ولما رجعت من توديعه، إذا بوكيل الخارجية يدعوني إلى الركن الجالس فيه الغازي، وكان قد أنضم إلى الجماعة وزير المجر، وها أنا أعطي صورة من بعض ما دار من الحديث:
استؤنف الكلام بشأن المجر، فذكر وزيرهم ما نزل بهم من الظلم وما حاق بهم من الاضطهاد، وكأنه شعر بألم عميق، أو أراد أن يستعطف الغازي على وطنه، إذ ضرب مثلا لأنواع إرهاق التي يلاقيها، فقال وقد اغرورقت عيناه:(قد أصبح والدي تشيكوسلوفاكيا وصارت جدتي رومانية ليحافظا على أملاكنا ومزارعنا في البقاع التي انتزعت من وطننا، وهكذا تشتت أسرتنا وأصبحت مجريا وحدي. فنظر إليه الغازي محدقا وقال: (إنما أنت رب عائلة، ومواطن طيب القلب، ولكنك بعيد عن أن تكون رجل سياسة. انظر إلي تجدني لست بصاحب عائلة، ولم أشغل نفسي بطلب البنين، وذلك لأكرس حياتي منذ نشأت لخدمة بلادي). وكان الجنرال ناجي باشا، وهو أستاذ الغازي في الكلية الحربية، قد أنضم إلى الجماعة فعقب على ذلك بقوله:(لك سبعة عشر مليونا من الأولاد هم أبناؤك الترك). وهنا قال وزير المجر كلمة لم تعجب القارئ وهي: (أنك تستطيع أن تدفع العدوان عن بلادك،
لأنك في الأناضول، أما بلادي فهي بين الأعداء المحيطين بها من كل جانب). فسأله الغازي مسترسلا:(إلى أي عنصر تنتسب؟) فأجاب بغير تردد: (إلى العنصر التركي كأهل المجر جميعاً) فضحك الغازي وأجابه: (لا تنسى إنكم ضللتم قرونا حتى نهاية الحرب الماضية (14 ـ 1918) كان كل رأس مالكم وفخركم اللذين تترقبون بهما إلى شعوب أوربا وحكومتها وسياستها هو أنكم أعداء الترك الألداء، وإنكم كنتم أول من تحرر من تحت نيرهم، فأنتم كما ترى تدفعون ثمن الكفارة غاليا الآن).
ثم التفت إلى سفير فرنسا، وقد دنا الكونت استرودوج سكرتير السفارة الفرنسية من المجلس بإشارة من الغازي، فقال فخامته: قل له أن يحضر ورقاً وقلماً، وأريد أن أملي عليه شيئاً ولما أحضر الورق أملاه ما يأتي:(لا أتستطيع بحال أن أقول للترك إن فرنسا صديقة لهم، إذ كيف أصل لاقناعهم بذلك؟ إن هذا لن يكون إلا بعمل ظاهر، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك، حتى المعاهدة التي عقدناها أخيراً لم تصادق مجالسها النيابية عليها للآن).
وأنتقل الحديث إلى ذكر جنيف وتخفيض السلاح ومشروع اتفاق الدول الأربعة العظمى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم (الديركتوار الرباعي) إحياء لنظام المحالفة المقدسة بعد حروب (نابليون). وهذا مشروع يبغضه الغازي، فتحمس كل التحمس وقال:(ما معنى الدول العظمى؟) وأشار إلى السفير أن يكلف استرورج بأن يكتب مرة أخرى ما سيمليه، وأن ينقل ذلك إلى دولته فيما يلي:(إن فرنسا لن تكون عليها سيطرة على تركيا، وان تركيا لن تذعن لشيء تقرره فرنسا مع تلك الدول ما دمت أنا على قيد الحياة، ولو فرضنا أن الحكومة قبلت ذلك ووافقها المجلس الوطني الكبير، فإني لن أقبل ذلك، ولو أحوجنا الأمر لوجدتم الشعب التركي بأكمله ورائي يشد أزري، ويبذل أقصى جهده، وأنه لجهد لو تعلمون عظيم، وقد سبق أن برهن على ذلك مرة للعالم، وأني مستعد أن أقوده ثانية ليبرهن لكم مرة أخرى!)
هذه صورة خاطفة لبعض ما كان يدور في أحاديثه العديدة التي حرصت على جمعها وصيانتها توفراً مني على رغبتي يوماً في نشرها، وكنت كلما أتاحت لي الظروف لقياه، وقفت أتأمل هذه القوة الدافعة المجسمة فيه، وأجب بسوقه للحديث ومجانبته الانزلاق وتوجيهه المخاطب للناحية التي يرمي الوصول إليها، فكنت أغبط نفسي على كل دقيقة
أقضيها معه، وكان يعرف ذلك عني، ويفهم روحي، ويعلم أنني أعرف بالتفاصيل كل حادث مهم مر به في حياته، وإني أداوم على قراءة خطابه التاريخي بالتركية وباللغات الأخرى. وفي أثناء جلوسي أمامه مر الخادم النوبي الذي يخدم توحيد بك، وهو يلبس ملابس الحفلات بمصر، وعلى رأسه الطربوش، ليقوم ببعض الخدمة للجالسين ولما أتم عمله وتراجع صاح به الغازي بالعربية قائلا: تعال هون اخلع طربوشك فخلعه، ثم قال البسه فلبسه وانصرف. وكنا على مقربة من حادث الطربوش المشهور الذي وقع في 29 أكتوبر سنة 1932، إذ لم تمض على وقوعه خمسة شهور، وهنا أتجه الحاضرون إلي، وكانت وظيفتي ومركزي لا يسمحان لي بمواجهته بالخطاب، فإذا هو يقول لي: متى تخلعون الطربوش؟ وهنا وقفت متردداً كيف أجيب، وأخيراً فتح الله عليّ بكلمة قلتها في تلك الليلة هي:(يا فخامة الرئيس، إن الطربوش غطاء الرأس عندنا، كما كان يوما ما عندكم، وها نحن لا نزال في الدور البدائي من كفاحنا وجهدنا في سبيل تحريرنا وتحقيق مثلنا العليا التي تتمثل في مواجهة الحضارة الحالية وأخذها والاستفادة منها، ألا ترى إن الطربوش رمز يذكرنا بعصر نعيش فيه لنخرج منه إلى عصر جديد؟ وإنه عصر هام يذكي روح العمل لدينا؟ ويذكرنا كل يوم وكل ساعة بالواجب المحتم علينا وبالسعي في خلاص البلاد؟ ولا شك أنك لم تخلع القالباق أو الطربوش إلا حينما تخلصك بلادك من قيودها وانتصرت في عراكها وكفاحها، إننا في اليوم الذي نتخلص فيه من قيودنا ونتغلب على العقبات التي أمامنا نفكر في خلعه واستبداله، ويكون ذلك بوحي إرادتنا وحدها، ولكن قبل أن نصل إلى أهدافنا الكبرى، وننقلها من عالم الخيال إلى عالم الحقائق، لا توجد إرادة في العالم تفرض علينا أو تجبرنا على رفعه، ذلك لأنه يذكرنا كل يوم بعراكنا الدائم المستمر، وبان أمامنا واجباً نعمله وأعباء نحملها وعقبات نقتحمها ومصاعب نتغلب عليها).
ولم يكن الغازي ينتظر ذلك، فتلألأ وجهه وأدناني منه، وقال كلاماً كثيراًً عن مبادئ الثورة الكمالية ويقظة الشعب التركي وآماله، وهنا تحدث الزعيم الخالد عن أدوار حياته الأولى في البلاد العربية، والتفت إلى سمو الأمير زيد ووجه إليه عبارة رقيقة، وتكلم عن عرش سوريا وما يقال بشأنه، ثم عرض لحادث الطربوش المشهور، وقال كلاماً لا تسمح الظروف لي بنشره الآن، ثم قال: (كنت أقود الأتراك في داخل حدودهم وأراضيهم، وكنت
أكتفي بذلك، أما اليوم، فسمعت صوتاً جديداً، ونغمة حلوة، جعلاني أشعر بان هناك خارج حدودنا من يفكر مثل تفكيري، ومن يأخذ نفسه بالعمل الصالح لخدم بلاده). وكان الجمع قد ازداد حولنا، إذ وصل الغازي إلى القمة في أحاديثه، فأخذ يعبر عن روحه وإيمانه، وقد ارتسمت على وجهه عظمة الخالدين، وازداد إشعاع العينين من قوته الدافعة المؤمنة، وكان الفجر قد أخذ يبدو وراء الشفق والتلول التي تحيط بأنقرة، وأمامه شباك بعرض الحائط، وقد بدأت شمس يوم الاثنين 27 مارس 1933 تقدم علينا، فنظر إلى العدد المحتشدين من الأتراك وممثلي الدول الأجنبية، وحدقّ في وجوههم واحداً واحداً ثم قال:(إن نهضة تركيا شاملة، وهي ستعم ما حولها من الأمم، إذ ليس بالتهويش والوعود تحيا الأمم، بل بالإخلاص والعمل الصالح، وإني لألمس نهضة الشرق وشعوبه وأراها قادمة لا ريب فيها، كما أرى فجر هذا اليوم وقدوم شمسه إلينا. . . انظروا إلى ضوء الشفق يحمل إلينا الشمس من الشرق مطلع سراج الدنيا، إن العالم ينتظر بعثاً جديداً، وسيعود الشرق - كما بدا - قوياً عظيماً). . . ثم نظر يميناً وشمالاً وقال: (إن الذي يتكلم هو مصطفى كمال، لا رئيس الجمهورية التركية، مصطفى كمال التركي: إنني أشعر بأن الأمم في الشرق ستتخلص من نكباتها وويلاتها، وان أول ما تشكو منه هو الاستعمار، فهذا لن يعيش ولن يبقى حينما تبدأ يقظتها ووعيها واتجاهها للحقائق بدل الأوهام والأحلام
(إن أكبر دعائم الاستعمار هم رجال السياسة المحترفين الذين تستعملهم الدول الأجنبية لأغراضها. لقد تأكدت مما رأيت في بلد من البلاد - ولا داعي لذكر اسمه - إن تسعين في المائة من المتصدين للمسائل العامة عملاء للدول الأجنبية، يخدمون مصالحها على حساب أمتهم).
وكانت الشمس قد أشرقت، فقال:(انظروا إلى طلوع الشمس، انه يمثل لنا نهضة الشرق وأممه!)
وقام الغازي من مكانه، وقد وضع يده بيدي، وسرت معه إلى الباب الخارجي ومنه إلى سيارته، حيث ركب ومعه ناجي باشا وقال:(إنه يذهب لتناول طعام الفطور لدى أستاذه الجنرال ناجي باشا). وانتهت ليلة من ليالي مصر الخالدة بأنقرة!
كثر التحدث عن تلك الليلة، وما دار فيها من أحاديث، وعلّق الكثيرون من أهل الرأي
ورجال السياسة والممثلين الأجانب عليها، وكان لها صدى في الشرق والغرب ولدى الحكومة التركية والمفوضيات الأجنبية، إلا في مصر، وهي التي قصدت بهذه الزيارة وأكرمت بها، لم يكن لها أي اثر ولا صدى ولا حماس، ولا ما يشبه الحماس فيها، وسنعرض لهذا كله في حديث لاحق.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان
أين الأقلام؟
للأستاذ علي طنطاوي
نحن اليوم في معركة مع الاستعمار، قد اندلعت نارها، وطار في كل أرض الإسلام شرارها، فهل رأيت جيشاً في معركة يدع مدافعه فلا يطلقها، وينسى دباباته فلا يسيرها، ويلقي بنادقه فلا يحملها؟ هذا ما نفعله نحن نهمل أقلامنا فلا نسخرها في هذا النضال، وان من أمضى أسلحتنا وأنفذها وأبقاها على الزمان وأثبتها للغير، لهذه الأقلام. . . فما لهذه الأقلام نائمة لا تفيق، جامدة لا تتحرك؟ وما لبعضها لا يزال يلهو ويلعب، كأنه مدفع العيد يتفجر بالبارود الكاذب وسط المعمعة المدلهمة التي جن فيها الموت؟!
إنها معركة الاستعمار: استعمار البلاد بالجيوش، والأسواق بالشركات، والرؤوس بالمذاهب، والقلوب بالشهوات، فجنود العدو تخطر على أرضنا، وشركاته تتحكم في أسواقنا، ومذاهبه الخبيثة تملأ رؤوسنا، وتقليده في إباحته وشهوته وسفوره حسوره، وتكشفه في نسائه وأدبه يفسد قلوبنا. . . فأين تلك الأقلام تنبه القوم النيام، وتطهر الرؤوس والقلوب، وتحمل نور الحق لتبدد به ظلمة الباطل؟!
أين تلك الأقلام تعرّف هذا الشعب بنفسه، وتتلو عليه أمجاد أمسه، وتذكره أنه لم يخلق ليذل ويخنع، وإنما خلق ليعز ويحكم، وان الله ما برأه من طينة العبيد، بل سواه من جذم الصيد الأماجيد وأنه أثبت من هؤلاء المستعمرين. . . أصلاً في الأرض، وأعلى فرعاً في السماء، وأكرم نفساً، وأشرف عنصراً، وأنقى جوهراً، وإنها إذا أفقرت الأيام الغنى، وأذلت العزيز؛ فأن الفلك دوار، والأيام دولاب، فلا يغتر الفقير بالغنى الحادث، ولا يأس الغني على اليسار الذاهب، فإن كل شيء يعود إلى أصله، وإن كل حال إلى زوال. . .!
أين الفوهرر الذي نطح النجم كبرياء؟ وأين الدوتشي؟ فاعتبروا يا فهاررة اليوم. . . فما أنتم بأمنع من الموت وما أنتم بأعصى على القدر، وان لهذا الكون دياناً جباراً ما شاركه أحد كبريائه إلا قصمه. . . وما أنتم حتى تشاركوا الجبار كبريائه؟!
وأين تلك الأقلام تفهم الشعب أن المستعمرين ما زهدوه في قرآنه، وصرفوه عن دينه، وشغلوه عن تاريخه، إلا ليلبسوه أحد أسلحته، ويجردوه من أمتن أدراعه، حتى إذا قابلوه أعزل عارياً، هان عليهم اصطياده، وسهل استعباده، فكان إليهم قياده! وإنه آن لنا أن ننتبه
لمكرهم بنا، وان نفيق من غفلتنا، ولا نمشي إلى الهوان بأرجلنا، ونمكن عدونا منا بملكنا. . .!
وأين تلك الأقلام تعلن للناس أن هذه القوانين الأجنبية في محاكمنا، إنما هي أثر من آثار الاستعمار الذي نحاربه، وأن لنا شرعاً أفضل من قانونهم، وديناً هو أحسن من نظمهم، وإننا نستطيع أن نأخذ القانون المدني والجزائي من ديننا وفقهنا، وأن نحكم في محاكمنا بما أنزل ربنا، وأن من العار علينا أن نفتقر إلى قوانين عدونا. . . إن كانت من فكره فلنا أفكار، وأن كانت من تجاربه فلنا تجارب، وان كانت من دينه. . . وأنىّ؟ فما في الوجود دين تستمد منه القوانين كلها إلا الإسلام. . . .!
فهل رأيت غنياً مؤلفاً (مليونيراً) أورثه أبوه صناديق الذهب، ثم يتكاسل عن القيام إليها، ومعالجة قفلها، ثم يذهب فـ (يحشد) ذليلا الملاليم والقروش من أكف أعدائه ليتبلغ بها؟
هذا مثلنا حين نترك ديننا ونأخذ قوانين المستعمرين!
أين تلك الأقلام تقول للناس: إن الإسلام جاء يكسر الأصنام وأنتم رجعتم تعبدون أصناماً من لحم ودم، تأكل الخبز والحلوى والذهب وورق النقد (البنكنوت). . . وتأكل كل شيء وتهضمه معدها. . . أصناما تسمونها (زعماء!) تجدون وتتعبون ليستريحوا هم، وتشقون لينعموا، وتنخفضون ليرتفعوا، وتدفعون إليهم ما كسبتموه بأيديكم الخشنة من العمل، وأنتم تقبّلون أيديهم الناعمة من الكسل، وتمنحونهم كل نعمة. . . ولا يمنحونكم شيئاً. . . وإن من بقايا الاستعمار هذه الأحزاب التي لا تتقاتل إلا على أكل لحمكم، وامتصاص دمكم وحكمكم!
وهذا الأسلوب الأحمق الذي يشترط في معلم المدرسة الابتدائية وكاتب المحكمة الجزئية، شروطاً في نفسه ودرسه، وامتحاناً وتجربة، ولا يشترط في الوزير شرطاً، فكل من أراد الوزارة وسلك سبيلها نالها، ومن نالها يوماً لصقت به (معاليها) إلى آخر أيامه. . .
ستقولون: وماذا نعمل وهذه سنة المتمدنين في كل بلاد الله؟ نعم هي سنة المستعمرين، ولكن في بلادهم هم علماء، فلا تلقى وزيراً جاهلاً، وشعباً يقضاً، وصحافة ساهرة، وإن فيها انتخابات صحيحة، وإدراكاً شعبياً، أما الأحزاب، ففي بلد واحد من بلادنا (كمصر مثلا) أكثر مما فيها كلها، وهل في أميركا إلا حزبان: الجمهوريون والديمقراطيون؟ وهل في إنكلترا إلا ثلاثة: الأحرار والعمال والمحافظون؟ فكم حزباً في مصر يا أيها
المصريون؟
فإذا كرهتم الاجتهاد، وأبيتم إلا أن تكونوا مقلدين، فقلدوا في المذهب كله، ودعوا التلفيق!
وأين هذه الأقلام تقول للناس، إن ثكنات قصر النيل في القاهرة، ومطار المزة في دمشق، ومعسكر الحبانية في العراق، حصون العدو وقلاع المستعمر ما في ذلك خلاف، ولكن للاستعمار قلاعاً أخرى، إن تكن أخفى فقد تكون أخطر، وهذه القلاع هي بيوتنا التي أنتشر فيها (التحرر. . .) في الشباب والشابات، و (التجدد. . .) في الصلات بينهما، فقلل الزواج وزهد فيه الشبان، وكسّد البنات، ونشر الأمراض، وشغل بالهزل عن الجد، وبالسعي للشهوة عن العمل للوطن. . . ولقد قلت إنها أخطر، لأن ثكنات قصر النيل قتلت عشرين مصرياُ في عشرين سنة، وهذه تقتل كل سنة مليوناً من أهل مصر، كان يكون منهم العبقري النابغ، والقائد البارع، والأديب الملهم، والعامل النافع، ويكون منهم حماة الحمى، ودرع الوطن، خسرناهم لانصراف الشباب عن الزواج وزهدهم فيه، ولولا هذا التحرر، وهذا التجدد. ولو عادت بنا الأيام كما كنا من خمسين سنة، إذ لا تلقى شاباً في العشرين إلا متزوجاً، ولا فتاة في الثامنة عشر إلا ذات بعل، لزادت مصر مليون إنسان في كل سنة، أفرأيتم كيف قتل استعمار البيوت هذا المليون؟
أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وتردد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير لنا أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوربا فهو خير ورشاد، وكل ما بقي لدينا من الشرق فهو شر وفساد!
وهذا من أقبح ما خلفه فينا الاستعمار
فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، وتقيم لهم الميزان العادل، وتحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون!
وبعد، فهذي المعركة، وهاهم المسلمون في كل بقاع الأرض يكتبون بدمائهم على جبين الزمان أروع قصائد المجد، وأبلغ آيات البطولة والبذل. هاهم أولاء يردون بأيديهم وبأيمانهم وبحقهم الجيوش التي لم يستطع ردها هتلر بحديده وناره. . . لا يرونها أكبر من أن تغلب، ولا يرون أنفسهم أصغر من أن تغلب. هاهي ذي المعجزات تظهر كل يوم على
أيدي أتباع محمد: في ميدان الإسماعيلية، وفي شوارع الإسكندرية، وفي بلاد الشام، وفي مدن فلسطين، وفي الهند، وفي جاوة، وفي إيران، فأين تلك الأقلام تدون خبرها وتخلد ذكراها؟!
أين الشعراء وأين ملامحهم فيها، وهناك شيء ينطق الجماد بالشعر؟ أين القصصيون وأين ما وضعوا فيها من القصص، وهناك قد جلس الزمان يقص من أفعال هذا الشعب أعجب الأقاصيص؟ أين من في نفوسهم قرائح، أفلا تفيض اليوم بالبينات هذي القرائح؟ أين من بين أصابعهم أقلام. . . ألا تلتهب اليوم بالحماس هذي الأقلام؟!
أين كتاب العربية وشعراؤها وبلغاؤها؟!
يا خجلتاه غداً من كتاب التاريخ إذا جاءوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجل الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفاً. . . لقد شغلته عنها شواغل الأيام، ومباهج الأحلام، وملذات الغرام!
(دمشق)
علي الطنطاوي
ألدوس هكسلي مؤرخ طبيعي للإنسانية
بقلم اسكندر هندرسون
مؤلف كتاب (تفسير لشخصية ألدوس هسكلي)
كان ألدوس هكسلي في وقت ما لا أدريا ولا ماديا، أما الآن فهو يؤمن بمعتقدات مستمدة من الفلسفة الدينية الهندية وهو في قصصه ومقالاته وقصائده يكشف عن شخصية شديدة التعقيد دقيقة على الفهم، ذات ميول متضاربة لا يوازن بينها إلا ذهن جبار مشغوف بالتأمل والتفكر.
فمنذ سبعة عشر عاماً، قال في كتابه (دراسات صحيحة (1927): لو ألزمت بتحديد موقفي لقلقت إنني أمرؤ مثقف يوجه اهتمامه الأكبر لدراسة العالم الخارج دون التأمل الباطني. . . وأنا أفهم التفسير المادي للحياة الباطنة.
ولكنه في سنة 1944 يقرر أن أركان عقيدته هي: (أن هناك لاهوتا، أساسا، براهما، ضوء مبينا ينير الفراغ، هو القانون غير الظاهر الذي يكمن وراء كل المظاهر؛ وان الأساس حال في الأشياء ومتجاوز لها في وقت معا؛ وأن في مقدور الإنسان أن يحب الأساس الإلهي، ويعرفه، ويتحد معه وحدة فعل بعد وحدة قوة؛ وأن البلوغ إلى هذه المعرفة الاتحادية باللاهوت هو القصد والهدف الأخير للوجود الإنساني).
ولقد كان هكسلي دائما يدرك العناصر المتضاربة في شخصيته وفي مجموعة مقالاته: (أعمل ما شئت (1929) وضع خلاصة لفلسفة (عبادة الحياة أو (الإفراط المعتدل بناها على الإيمان بمبدأ أساسي هو تعدد جوانب كل شخصية. قال: (إن عابد الحياة هو يقيني أحيانا، وصوفي أحيانا أخرى، لا أدري، ملئ بالسخرية، ومؤمن فياض بالإيمان. . . والخلاصة أنه يقبل كل نفس من نفوسه المتعددة، حين تظهر في عقله الظاهر، ويعتبرها إذ ذاك نفسه الحقة في تلك اللحظة. وهو يقبل كل نفس وجميع النفوس - حتى الخبيثة، حتى الوضيعة المعذبة، حتى العابدة للموت والمسيحية بطبعها، هو سيقبل كلا منها وسيعيش في كل منها عيشة مفرطة).
إن شخصية ألدوس هكسلي المعقدة، والقالب العلمي لذهنه، وأسلوبه النثري الجلي الساطع، يمكن اعتبارها ميزات ومواهب موروثة، فإن من سلفه الذين حملوا اسم هكسلي أفرادا
كانوا من جبابرة العقول في القرن التاسع عشر بإنكلترا.
ولد في 26 يوليه سنة 1894، وكان الابن الثالث لليونارد هكسلي وجوليا آرنولد. أما أبوه، الذي ولد سنة 1860، فكان ابن توماس هنري هكسلي العلم الذي بذل أعظم الجهد في تقريب مذهب داروين من عقول عامة الشعب. وأما أمه فكانت ابنة أخ ماثيو آرنولد، مؤلف (رستم وسهراب) وغيرها من القصائد الكثيرة، ومؤلف (الثقافة والفوضوية) وغيره من كتب الأدب النقدي الرائع. وكانت أيضا حفيدة توماس آرنولد القسيس والناظر المشهور لمدرس ركبي الذي أدخل إصلاحات كثيرة على نظام المدارس العامة الإنكليزية.
كانت البيئة التي نشأ فيها ألدوس هكسلي بيئة تهذيب وثقافة كما كان أجداده رجال تهذيب وثقافة. عين أبوه أستاذا مساعدا لليونانية في جامعة سنت أندروز ولما يتجاوز عمره الثالثة والعشرين ثم صار رئيسا لتحرير مجلة وهي من أبرز المجلات الإنكليزية. وقد احتفظ بهذا المنصب سنوات كثيرات، كما عين مستشارا أدبيا لشركة الطبع والنشر سميت والدر. وفي سنة 1872 تزوجت خالته ماري ، غاستا آرنولد بالناقد والمحرر توماس همفري وارد، وكانت من أبرز كاتبات الروايات في عصرها. وروايتها (روبرت الزمير التي نشرت في سنة 1888، قد نالت الشهرة في كل أنحاء أوربا وأميركا.
وفي قصة (التاريخ الهزلي لرتشارد جرينو)، وهي من القصص الأولى لألدوس هكسلي، إشارة إلى تلك الرواية المشهورة التي كتبتها خالته، إذ يصف البطل بأنه (قد قرأ المجلدات الثلاثة لرواية روبرت إلزمير وابتلعها ابتلاعا وهو بعد في الثامنة من عمره). فقد استمرت المسز همفري وارد تكتب سنوات كثيرات، وظهرت روايتها الأخيرة في سنة 1920، وهي السنة التي توفيت فيها. وكان زوجها الناقد هو الذي خول ألدوس هكسلي فرصة نشر مقالاته النقدية الأولى، إذ طبعت في مجموعة منتخبات شعرية إنكليزية نشرها ت. هـ. وارد في سنة 1918.
هكذا ورث ألدوس هكسلي العلم عن أسرة والده والأدب عن أسرة والدته، فليس عجيبا أن يصير أديباً، ولا أن تتجلى الروح العلمية في أدبه بصور شتى. بل إنه حين كان صبيا أراد أن يتخذ العلم مهنته، مثل أخيه الأكبر جوليان، العالم البيولوجي العظيم. ولكن عينيه أصيبتا بمرض حال بينه وبين عمله العلمي ثلاث سنوات. وتلك السنوات الثلاثة أكسبته
هذه النظرة المستقلة إلى الحياة التي تلاحظ في الكثير من كتاباته.
تعلم ألدوس هكسلي في إيتون، ثم ذهب كأبيه إلى كلية باليول بأكسفورد. وقد أحب كلا المعهدين. فهو يقول (إن ذهني من النوع الذي يحب التدريب المدرسي ويقبله قبولا تاما. فأنا ثقافي بولادتي، ذم ميل إلى الأفكار وصدوف عن النشاط العملي، ولذلك شعرت بالراحة والاطمئنان في الظلال المدرسية) وقد أحب أكسفورد حبا خاصا إذ تركت له هناك حريته الكاملة في أن يعمل كما يشاء، وكان معنى ذلك أنه أقبل على قراءة كل شيء، وفضل ذلك على مجرد تدوين الملاحظات أثناء سماع المحاضرات. فهو يقول (أما أنا فأني لم أستمع قط إلى أكثر من محاضرتين في الأسبوع).
أما في البيت فقد نشأ على حب شعر وردزورث وفلسفته، وآراء رسكن في الجمال والفن. يقول ألدوس:(لما تقوضت أركان الكثير من العقائد الدينية المتزمتة، صار الكثير من الأسرات الذكية ذات الفكر المتسامح يعتبر شعر وردزورث إنجيل ذلك النوع من الحلولية، ذلك الاعتقاد المبهم بوجود عالم روحي، الذي ملأ - إلى حد غير كاف - الفراغ الذي كانت تشغله العقائد القديمة. وحين كنا أطفالا ربينا على التقليد الوردزورثي، وغرس في قلوبنا الاعتقاد بان جولة بين التلال يوم الأحد تعادل بكيفية ما الذهاب إلى الكنيسة).
ومن قصتي هكسلي الأوليين، المليئتين بالتهكم والهزل، سنة 1920، سنة 1922، ومن روايته الأولى سنة 1921، يتبين رد فعل الذي قابل به جو الوقار الأخلاقي الرفيع الذي فيه نشأ. ففي شبابه كان بطبيعته الذهنية حذرا، متشككا، غير ميال إلى الغلو الأخلاقي، ولكنه تحت ظاهره المتهكم الساخر قد احتفظ دائما بعنصر جاد لا يقل وقارا ورصانة عن ماثيو آرنولد نفسه. وقد أخبرني مرة قائلا:(في قصصي المبكرة كنت أيضاً أرد على الناحية المتزمتة المتفيهقة من نفسي).
وكانت أهم المؤثرات في تطور أسلوبه المبكر كتابات الأدباء الفرنسيين في آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، وخاصة رمبو، ولافورج، وأناتول فرانس، وقد أخبرني في سنة 1953 قائلا:(أظن أن لافورج ذو شأن للمراهق، ولكني حين قرأته من وقت قريب لم أشعر له بإعجاب زائد. وأناتول فرانس. . . لقد كنت في وقت ما أظن أن تهكمه هو قمة الذكاء والبراعة). وقد مال أيضا إلى كتابات ريمي دي جومون، وخاصة بسبب
اهتمام ريمي بالتاريخ الطبيعي، وهو اهتمام ما انفك هكسلي يبديه، وخاصة في كتابه:(سنة 1928).
وفي أكسفورد نظم هكسلي قدرا كبيرا من الشعر، وهو دون كتاباته النثرية أهمية، ولكنه مع ذلك هام إذ يلقي ضوءا على مزاجه؛ لأنه يتجلى فيه شعور عاطفي خيالي ميال إلى المثل العليا، منهمك في الصراع بين العاطفة والعقل، ذلك الصراع الذي هو السبب في انقسام النفس، والذي تطور فيما بعد في كتابيه وسنة 1932. والقصائد المبكرة تنم أيضا عن رجل حي عزوف عن الاختلاط بغيره من الرجال والنساء، يفرج إذ ينجو من حقائق الصراع الإنساني إلى عزلة عالم الأفكار المبهمة. وأبحاثه الحاضرة في التصوف والفلسفة الدينية تثمل عودة إلى تفضيله المتأصل هذا للحياة الباطنة، هذا التفضيل الذي ظل كمينا زمنا ما إذا حكمنا بكتاباته اللاإرادية التي نشرها في العقد الثالث من القرن العشرين، وهو الزمن الذي تصادف أن كان زمن مادية وكلبية عامة في إنكلترا.
وقد ظل هكسلي عدة سنوات تحت التأثير الشخصي الشديد للروائي د. هـ. لورنس، مؤلف وغيرها من الروايات الفذة. وقد تقابلا أول مرة في سنة 1915، ولكنهما لم يكثرا من رؤية أحدهما الآخر حتى السنوات من 1926 إلى سنة وفاة لورنس. وقد كتب هكسلي 1927 قائلا:(إن لورنس من الأفراد القلائل الذين أشعر نحوهم بتقدير وإعجاب حقيقي. فالأشخاص البارزون الآخرون الذين قابلتهم أشعر بأنني على أية حال أنتمي إلى نفس الجنس الذي ينتمون إليه. أما هذا الرجل فإن به شيئا مختلفا، وهو شيء أسمى في النوع لا في القدر).
وفي سنة 1919 تزوج هكسلي بماريا نانز، وهي بلجيكية؛ وله ابن واحد. وقد قضى قسما كبيرا من حياته خارج إنكلترا؛ عاش في فرنسا وإيطاليا وقام بأسفار واسعة في الهند وبورما (التي كتب عنها وصفا ممتعا في في سنة 1926)، وفي المكسيك وغواتيمالا وهندوراس وجزائر الهند الغربية (اقرأ كتابه سنة 1934). وهو منذ قبيل الحرب التي وضعت اليوم أوزارها يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في كاليفورنيا.
وهكسلي في مظهره إنكليزي صميم، فهو طويل القامة رمادي العين، وشعره الكثيف مرتب إلى الوراء من الجبهة. وهو ذو أدب جذاب ساحر، والمرء في حضرته يلاحظ أولا صوته
الجميل ويديه الطويلتين اللينتين، وهو مشغوف بعقدهما حول ركبته حين يجلس ويتحدث، وبين حين وآخر يكتسي فمه بابتسامة هادئة تهكمية، ولكنها في العادة ذات مسحة حزينة.
(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)
اسكندر هندرسون
الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 7 -
في هورتون:
على مسافة سبعة عشر ميلا من لندن كانت تقع قرية هورتون الصغيرة الجميلة، حيث اشترى الموثق جون ملتن بعض الأرض وأقام بيتاً ليأوي إليه إذا اعتزل العمل وجنح للراحة.
وكانت هورتون قرية هادئة تحيط بها المروج والمراعي، والحقول بين ضيقة محصورة وواسعة منبسطة، والغابات والخمائل عن يمين وشمال، تتراءى بينها عن بعد أبراج وندسور، تلك القلعة العالية القديمة فيتألف من مجموعها مجتلى ساحر جميل تستريح النفس لمرآه، ويسعه البصر من أوله إلى منتهاه.
وأتخذ ملتن طريقه إلى هورتون، تاركا وراء ظهره الكلية ومن فيها من ثقلاء وظرفاء، ومن أولى الغلظة والعنت من العرفاء، ومن المتبجحين بالعلم من الأغبياء، مبتعداً عن دروسها ومناظراتها، وقد نفض قدميه من ثراها ويديه من كتبها.
وأوى الفتى إلى هورتون لا ليقضي بين ربوعها أياماً معدودات ثم يعود إلى لندن، ولكن ليقيم فيها سنين تطول أو تقصر حسبما يشاء، فهو لا يتقيد في مقامه بشيء!
وماذا عسى أن يصنع ملتن في تلك القرية؟ وهل درس ما درس في الجامعة وحصل على درجتين من درجاتها ليركن إلى البطالة والدعة في ظلال الريف؟ ليس هذا مما ألفه الناس، ولا هو مما يجري على سنن العقل، وليس يقره عليه أحد؛ بذلك كان يحدث الموثق نفسه ويحدث أصحابه، ويتناقله بينهم من يعرفونه من الناس!
ولكن الشاعر لا يأبه لما يقولون، فقد عقد العزم بادئ الرأي على رفض أية وظيفة في الحكومة، كما رفض الالتحاق بالكنيسة، وإن كان قد درس اللاهوت؛ وليس يعنيه أن يبين لهم وجهة نظره، فأكبر الظن أنهم لن يقروه عليها؛ وهل فيهم من يقره على إقامته في الريف، حيث تكون له عزلة يستريح فيها من ضجيج المدينة ولهوها وزحمتها ليتفرغ للقراءة والدرس، فيستدرك ما فوتت عليه قراءته الكلية من كتب، ويستكمل ثقافته في الإغريقية واللاتينية، فهما عدته لما يتهيأ له من رسالة؟ وهو إنما يزداد شعورا بأنه يتهيأ لرسالة، وأن عليه أن يستزيد من المعرفة والحكمة ليكون أهلا لها لما يستشرف له.
ذلك كان مأربه من إقامته في الريف، فهمه في الحياة أبعد من كسب القوت وأجل من ذلك شأناً، وما يرى العلم والحكمة بل والفضيلة نفسها إلا وسائل يتوسل بها إلى ما يبتغي من غاية؛ وإنه لواثق إن الناس ينكرون عليه ذلك، وأنهم يعدونه حلماً من الحلم يوسوس به الشباب في صدر شاعر سحره عن نفسه، وأذهله عن الصواب حب الشعر. . . وماذا عسى أن يقولوا غير ذلك وليس فيهم من يصدق أن الشعر مطلب ترصد له الحياة، وغاية يحتقر في سبيلها المال والجاه!
وكان أبوه يطمع أن يلتحق الفتى بالكنيسة، ولكنه منذ صغره لا يحب أن يحمله على ما لا يريد، فحسبه أن يمني بذلك نفسه، على أنه كان خليقاً أن يدرك بعد أمنيته عن التحقيق، فهو أعم الناس بابنه، وأخبرهم بنوازعه وآراءه.
كانت صفات ملتن تحول بينه وبين الكنيسة، فإباءه ونزوعه إلى الحرية لا يسمحان أن يتقيد بقيد، ورغبته للتفرغ لقراءته والتهيؤ لرسالته يبتعدان به على أن يشغل نفسه بغيرهما، وإنه فضلًا عن ذلك ليحس في نفسه الكراهة لرجال الدين، ويشمئز قلبه إذا ذكرت عقيدة روما الكاثوليكية، فهي عنده علة التعصب وأصل تحكم القساوسة واستبدادهم وجمودهم؛ وهو فتى يعشق الحرية الفكرية وحرية العمل، ولا يستطيع أن يتصور كيف تخلو الحياة منهما وتسمى مع ذلك (حياة)! ولا نجد ما يوضح رأيه في رفض الالتحاق بالكنيسة خيراً مما كتبه بعد ذلك ببضع سنين عن الكنيسة وأشار فيه إلى ما نحن بصدده قال: (أما عن الكنيسة التي أزمع إعدادي لخدمتها منذ طفولتي حتى بلغت مرحلة من مراحل نضجي فإني مذ رأيت مبلغ ما دخل فيها من طغيان، وأن من يلتحق بها يجب أن
يكون عبداً، وأن يقسم على ذلك قسماً، وجدت خيراً لي أن أفضل الصمت الذي ليس فيه ما يعاب على الوظيفة الكلامية المقدسة التي تشترى بالقسم سلفاً، وبالعبودية وتبدأ بهما!)
ولم يكن ملتن حتى ذلك اليوم بيوريتاني المذهب، وإن كانت عفته وطهره وترفعه عن الدنايا تمثل خلق البيوريتانية، وإن لم يقصد؛ أما عن مذهبه الديني، فكان حتى ذلك الوقت يتبع الكنيسة الإنجليزية الحرة، دون أن يعني بتحديد ما فيما يتعلق بقواعد مذهبها؛ ولقد كان يكره من هذه الكنيسة ما كان يكرهه من كنيسة روما من التعصب لرأيها والرقابة على المذاهب الأخرى وعلى المطبوعات؛ وأبغضت نفسه طريقة كبير أساقفتها (لود) في تعقبه مخالفيه والتجسس عليهم ورفع أسمائهم إلى الملك؛ ويعد ملتن في هذا الاتجاه كذلك أقرب إلى البيوريتانية في ناحية من نواحيها وإن لم يرمي إلى ذلك.
وأن شخصاً هذه نظريته إلى الكنيسة ورجالها لخليق ألا يقبل مركزاً دينياً مهماً منى أبوه نفسه أن يقبل، ومهما ألح عليه أصحابه أن يفعل!
أما القانون وقد كانت لحرفة أبيه صلة به، فقد فكر فيه عقب تركه الكلية، ولكنه ما لبث أن انصرف عنه؛ وأما الوظيفة الحكومية، فلم تكن احب إلى نفسه من وظيفة الكنيسة، وما ترتاح نفسه في الواقع، ولا يتجه قلبه وعقله إلا إلى الشعر، فلتكن له من عزلته في هورتون فرصة أجمل بها وأعظم من فرصة يتهيأ فيها لما يريد!
وعكف الفتى على محرابه في هورتون، فما يبرحها إلى لندن إلا لماماً ليشتري بعض الكتب أو ليستمع إلى الموسيقى أو يستعين بمن يفهمه بعض مسائل الرياضة، وألف حياة الريف وأستروح نسيمه، واستغرقت في هدوءه نفسه واستمتع بصفائه حسه، وتقلب في مشاهده بصره في بكره وآصاله وفي متوع نهاره، وإذا كان غيره من الشعراء قد تغنى بحياة الريف ولم يره، فلسوف يحيا ابن المدينة حياة الريف حقبة من عمره، ثم يمسها مسة العبقرية فيغنيها ويصور مشاهدها ويضيف بذلك إلى أدب لغته وفنها ما تباهي به وتعتز!
كان يقضي كثيراً من ساعات نهاره بين كتبه، وكان يقوم الليل كدأبه منذ سن العاشرة، وقد قوى جلده على القراءة واشتد صبره، ويعجب المقيمون في القرية من ذوي الثقافة من هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة، ولا يزال يكب على الكتب ليله ونهاره كأنما هو مقبل على امتحان!
أما أهل القرية فانهم لم يألفوا أن يقيم بينهم إقامة متصلة شاب من هذا الطراز؛ وقد ظنوا أول الأمر انه لاعب يستجم، أو زائر لن يلبث حتى يبرح القرية إلى حيث يكون مقام أمثاله في المدينة؛ وكانت ترمقه عيون فتيان القرية وصباياها في إعجاب ومحبة، فهم حيال شاب عليه فوق رونق الشباب وغضارته روعة الجمال وسيماء الوقار والاحتشام، وإنهم ليحسون في صوته عذوبة الموسيقى، ويرون في محياه إمارات النبل والأريحية والكرم؛ وما يطمع القرويات منه أكثر من أن يرينه ويراهن، وإن كان له في كل قلب محبة، وما عسى أن تنتظر صبايا القرية فوق ذلك من هذا الشاب الذي يتهامسن بأنه تخرج من الجامعة وأنه من ذوي المحتد؟ على أنه فضلا عن ذلك كان في شغل عنهن بعرائس شعره!
وإنه لأشد بالطبيعة ولوعا يقلب في مشاهدها بصره، ولكم يرى في مجالي القرية مما يشرح صدره ويهز قلبه؛ وكانت تعجبه الوجوه القرويات الوضاء لما توحيه سذاجتها من طهر، كما كان يطرب لأغاني الرعاة ويحس ما فيها من المعاني والأخيلة والصور القروية، التي يراها الآن تتصل بنفسه صلة قوية بتأثير بيئته الجديدة؛ وتبعث تلك الأغاني ما كمن في ذاكرته من أشعار أوفيد والحان سبنسر مما يتصل بالحياة القروية فيرجع إليها ويعيد في هذا الجو قراءتها فيستشعر من جمالها ويستبين من معانيها أكثر مما أتفق له من قبل؛ وهكذا يعيش عيشة الريف ويقرأ أدب الريف، فيكون لذلك أثره العميق في خياله وحسه، ولا يلبث أن تتضح صبغته في فنه!
ولكن الموثوق الشيخ وقد ركن إلى الراحة في القرية لا يزال يأمل أن يراجع ابنه نفسه فيرضى بوظيفة من الوظائف، فأنه ما يرى حياته هذه إلا ضربا من البطالة لا يسيغها عقله ولا يحبها لابنه، ويدأب الرجل على الشكوى إلى جيرانه ويصل نبأ شكواه إلى ابنه فتكدر خاطره حينا، لأنه يكره أن يغضب أباه ويكره في الوقت نفسه أن ينصرف عما يتهيأ له من رسالة تهجس بها نفسه.
ويرد الفتى على أبيه بقصيدة لاتينية جميلة فيتوسل إليه أن يدعه فيما هو فيه، ويرجو منه ألا يحتقر الشعر ويتساءل كيف يدهش أبوه وهو الموسيقي النابه من أن يكون ابنه شاعراً؟ لقد قسم أبولو إله الموسيقى والشعر موهبته بين الأب وابنه؛ والموسيقى والشعر صنوان، والشعر أقوى مواهب الإنسان دلالة على قداسة عنصره؛ وإنما يتظاهر الأب فحسب بأنه
يكره الشعر، ويحتقر الشاعر في قصيدته الثراء والمادة مما يدل على إن أباه قد أشار إلى رغبته في أن يعمل على كسبهما ويستطرد موجها الخطاب إلى أبيه فيقول:(يا أبت لقد عودتني منذ الصغر أن أطلب المعرفة من أجل المعرفة فكيف تطلب اليّ أن أحفل بالمال، وأنت دون الناس جميعاً من لا يخلق ذلك به. يا أبت إن الوالد الذي لا يقتصر على أن يعلم ابنه اللاتينية فيعلمه معها الإغريقية والعبرية والفرنسية والطليانية والفلك وعلوم الطبيعة، لا يسأله أن يجعل كسب المال غرضه من الحياة، يا أبت إني اخترت ما هو خير بذلك وكأن بوحيك ما اخترت. وإني أعلم انك تقر ذلك بقلبك وتشاطرني الرأي فيه. وعلى هذا فما دمت أيها الوالد العزيز لا أستطيع أن أقابل جميلك بمثله، فإني أرجو أن تكتفي مني بالاعتراف به وببقائه أبدا في ذاكرتي؛ وإذا كان لأشعاري الفنية أن تتطاول إلى الأمل في الخلود، فسوف يكون لي من اسمك موضع لشعري).
وأكبر الظن أنه قد أصلح بهذه القصيدة ما بينه وبين أبيه، فلم يعد أبوه يشكو من إقامته في هورتون، ولعل الرجل إنما صالح نفسه على هذا الوضع إذ لم يجد لشكاياته من جدوى ولم يهتد في إقناع ابنه إلى وسيلة.
وظفر ملتن بالهدوء في عزلته الريفية الجميلة، واتفق له جو شعري ساحر،، ندر أن اتفق مثله لغيره من الشعراء في مستهل عهدهم بالشعر، فما نعلم منهم إلا من لقي أول أمره عنتا وضيقا كثيرين، وانهم ليبتلون بالعذاب من الحياة ومن أنفسهم، وما كان لينعم ملتن بما نعم به لولا زكانة أبيه وسماحة طبعه وإدراكه قيمة الفن وإيمانه به.
ولكن عبئا آخر يهبط على الشاعر في عزلته من صاحب لم يعرف اسمه، فقد عثر فيما بعد في أوراق ملتن في تلك الحقبة على ورقتين بهما سطور من رسالة كان يرد بها على كاتب صاحبه، وقد جاء فيه أنه لا يرضى لملتن أن يقضي سني عمره حالما في عزلته شأن أنديميون مع القمر بينما يمضي الزمن مسرعا. ورد ملتن بأنه يقضي أرب نفسه من الثقافة والمعرفة ليكون أرفع مما هو قدرا، ولولا أنه يؤمن بهذا الذي يأخذ نفسه به في غير رفق لما وقف مصمما في وجهه كثير من غرور الحياة كالطموح إلى المناصب والرغبة في جمع المال، والميل إلى البناء بزوجة وتكوين أسرة، والإقامة في مسكن خاص. ويرسل ملتن إلى صاحبه تلك القصيدة التي نظمها وهو في الجامعة واستغل فيها ثمار جهوده ليدرأ
بها عن نفسه تهمة التبطل والخمول.
وأقبل ملتن على القراءة إقبالا عظيما؛ وكان أكثر همه منصرفا إلى الشعر في أشهر آداب الأمم، وخاصة الإغريق والرومان، واطلع إلى جانب ذلك على الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وقرأ الفلسفة القديمة وخاصة أفلاطون، وفلسفة العصور الوسطى كما قرأ التاريخ يستخرج منه الحكمة والعبرة؛ وعنى بعصر شكسبير عنايته بعصر بركليس، فكان أكثر وقته مخصصا لهما وأحب هوميروس وفرجيل وأوفيد ودانتي حبا لا يضارعه إلا حبه لشكسبير وسبنسر، وكان ولعه عظيما بما استحدث في العصر الأليزابيثي من صور البيان، وما تولد فيه من مشرق اللفظ وبديعه، وما أفتنه المفتون من أساليب الوصف والغناء؛ وأعانه على استيعاب ذلك سليقة فنية خالصة، وروح إلى الفن وجماله متعطشة، وعبقرية طامحة توحي إليه أن يجري في مضمار هؤلاء العباقرة والأفذاذ وألا يتخلف عنهم في شيء.
إما عن أدب عصره فالأرجح أنه قليلا ما كان يتناول بعض آثار ذلك العصر، لأنه قليل الإشارة إليها فيما كتب قليل التأثر بها، ولعل مرد ذلك إلى انه حصر ثقته في الروائع السالفة من أدب العالم، ولم يجد ما يكافئها إلا آثار شكسبير وأفذاذ عصره.
ولم يك يقرأ ملتن قراءة عجلان لا يقع على مطلب حتى يطير عنه إلى غيره، وإنما كان يقرأ قراءة المتثبت المتقصي، الذي يعمل فكره ويقدح ذهنه في غير ملل أو نصب؛ يتكئ على نفسه حتى ينفذ إلى أعماق ما يقرأ، ولن يبرح ينشره ويطويه ويقلبه على أوجه الرأي جميعا حتى يطمئن إليه، ويقضي في أمره بالقبول أو بالرفض. ولقد عثر سنة 1874 على كراسة من مخلفات ملتن بها ملاحظات واقتباسات من نحو ثمانين مؤلفا دونها أثناء قراءته ومنها يقف المرء على مثال لكدحه وصبره على عناء الدرس.
على هذا النحو قضى ملتن ست سنوات في هورتون؛ وما تظن إن شاعرا قبله أو بعده اتسع أفق ثقافته أكثر مما اتسع أفقه، وما نظن إن أحدا من الناس شاعرا كان أو غير شاعر قد أعد نفسه لما يريد من أمر بما هو أقوى مما أعد به هذا الفتى للشعر نفسه
وكان يزور المدينة أحيانا فلا تغريه حياتها عما وطن عليه النفس من الجد، وأقصى ما كان يقضيه فيها إذا حل بها بضعة أسابيع، ولكن ذلك كان نادرا فإن معظم إقامته فيها كانت لا
تعدو بضعة أيام؛ وكان في المدينة يسعى إلى حيث يستمع الموسيقى، كما كان يغشى المسارح ويزور علية القوم، ويمتع ناظريه بما يرى من جمال الحياة، ولكنه يملك زمام نفسه، ويسيطر عليها سيطرة قوية تامة قل ما توافي مثلها لغيره في سن كسنه، فإذا قضى أرب مشاعره من الجمال، وأرب جسده من الراحة، واشترى ما تتطلب دراسته من كتب عاد إلى هورتون فأقبل على أوراقه وكتبه.
(يتبع)
الخفيف
مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
للأستاذ كامل كيلاني
1 -
الأسلوب الجحوي
لقد كان الأسلوب الجحوي - ولا يزال - مثالا رائعا يفيض من إشراقه ومرحه على حقائق الحياة المرة فيكسوها من ألوانه الزاهية وإشراقا.
والأسلوب الجحوي الباسم: يكاد يقابل الأسلوب العلائي العابس. حتى ليبلغ جحا - أحيانا - في سبر أغوار الحياة بسخريته المرحة الباسمة ما يبلغه المعري بسخريته العابسة القاتمة.
وقد عرضت للموازنة بينهما في غير هذا المقام، فلأجتزئ بهذه اللمحة العابرة الآن.
وبحسبنا أن نعرض على القارئ أمثلة قليلة على ما نقول:
2 -
تقسيم الأرزاق
فنحن إذا استمعنا إلى صرخة (ابن الرومي) وحيرته في تقسيم الأرزاق، وما فيها من تفاوت يحار في تعليله اللب وينقطع منه نياط القلب حين يقول:
(لا تعجبن لمرزوق أخي هوج
…
حظا تخطى أصيل الرأي طرافا
فخالق الناس أعراء بلا وبر
…
كاسي البهائم أوباراً وأصوافا)
أو يقول:
(إن للحظ كيمياء إذا ما
…
مسّ كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا
…
ء متى شاء كائنا مكانا)
أو أصغينا إلى (ابن الراوندي) ونستعيذ بلله من جرأته وتنطسه في إلحاده وكفره حين قال:
قسمت بين الورى حظوظهم
…
قسمة سكران بّين الغلظ
لو قسم الرزق هكذا رجلا
…
قلنا له: قد جننت فاتعظ)
إلى آخر ما يزخر به غلاة الساخطين الناقمين من أساليب تكاد لفرط عنفها تلتهب التهابا، وتكاد لغليانها تقذف بالحمم، وترمى بشواظ من نيران الفكر، ويكاد إهاب قائلها يتفطر من الغيظ والنقمة.
ثم رحنا نستمع إلى جحا لنتعرف كيف يعبر عن هذه المعاني الحزينة بأسلوبه الباسم الذي تنطوي في ابتسامته أعنف معاني المرارة والجد، رأينا العجب العجاب:
رأينا فيلسوفنا الساخر يحتكم إليه أربعة من عارفيه ليقسم بينهم زكيبة مملوءة بلحاً.
فماذا يصنع ليعبر بأسلوبه المرح عن تلك المعاني الملتهبة التي عرض لها أعلام الساخطين على توزيع الأرزاق؟
يقبل عليهم متبالها ويسألهم متغابياً:
(أي قسمة تريدون؟ قسمتي أم قسمة الله؟).
فيجيبونه على الفور: (بل قسمة الله يا جحا).
فيعطي أحدهم بلحات خمساً أو ستاً.
ويعطي الثاني حفنتين أو ثلاثا.
ثم يعطي الثالث كل ما في الغرارة من بلح.
ثم يحرم الرابع فلا يعطيه شيئاً. ويتركه يضرب كفاً على كف من فرط الحيرة والدهش.
فإذا سألوه: (أي قسمة هذه يا جحا؟).
أجاب في تغافل الساخر العميق:
(أليست هذه قسمة الله؟ أليس يعطي واحداً دراهم معدودة، ويعطي الثاني قليلا من الدنانير، ويعطي الثالث من خزائن الأرض وكنوزها ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ثم يترك الرابع فلا يعطيه شيئا).
أليس في هذا لون من التعبير الجحوي الباسم المرح يترجم عن قول من أسلفنا من كبار الساخطين؟
أليس في هذا لون من قول المعري:
(كذلك مجرى الرزق: وادٍ به ندى
…
ووادٍ به فيض، وآخر ذو جَفْرِ)
وقوله:
(لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
…
فقير معرَّى أو أمير مدوَّج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة
…
ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج)
وقول الآخر:
(كان يحيى هالكا منَ ظمأ
…
فضل ما أوبق ميتا من غرق)
أو قول الحلاج:
(كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
…
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
…
وصير العالم النحرير زنديقاً)
إلى آخر ما قاله المبدعون الساخطون.
3 -
النطف العذاب
والى القارئ معنى ثانيا:
يقول (ابن الرومي):
(وما اللجج الملاح بمرويات
…
وتلقى الري في النطف العذاب)
فكيف يعبر جحا بأسلوبه المرح عن هذا المعنى بأسلوبه الجاد:
يخبرنا الرواة أنه كان يستحم ذات يوم في البحر، فلما اشتد به العطش جرع منه جرعة ليروي بها ظمأه، فزاده الماء المالح عطشا على عطش، وأحس كأن معدته تلتهب.
فأسرع إلى نهر قريب منه فشرب منه نطفاً عذبا، فارتوى وهدأت ثائرة العطش، فأسرع إلى وعاءٍ فملأه من النهر ثم صبه في لبحر قائلا في ثورة الغضب:
(قبح الله غرورك أيها البحر، فما أدرى فيما كبرياؤك وصلفك؟ وأدري والله كيف يسمى ماؤك الأجاج ماءً؟ إليك أيها المتعجرف هدية أحضرتها لك من الماء لترى حقيقة الماء الجدير بهذا الاسم).
4 -
فائدة المصائب
وإذا قال (ابن الرومي):
(ومحال أن يسعد السعداء
…
الدهر إلا بشقوة الأشقياء)
وقال المتنبي:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قوم عند قوم فوائد)
وقال أبو العلاء:
(غنى زيد يكون لفقر عمرو
…
وأحكامْ الحوادث لا يقسمنه
وجرمً ُ - في الحقيقة - مثل جَمْرٍ
…
ولكن الحروفَ به عكسنه)
وقال:
(وسخط الظباء بما نالها
…
تولد منه رضا الحابل)
فكيف يعبر صاحبنا عن هذا المعنى بأسلوبه الجحوي الرائع:
يخبرنا الرواة أن جحا سافر - ذات مرة - لزيارة بنتيه، وكان زوج أولاهما زارعا وزوج الأخرى فخاريا: يصنع الفخار ويبيعه.
فعرج على الأولى يسألها: كيف أنت؟
فأجابته - بخير يا أبتاه - إذا أغاثنا الله في هذا العام بما نأمله من الغيث. فادع لنا الله سبحانه أن ينزل علينا أمطاراً غزيرة تحيي موات أرضنا، وتجلب لنا ما نرجوه من رخاء وهناء.
ثم عرج على الأخرى، ولما سألها عن حالها أجابته:
نحن بخير - يا أبتاه - إذا أنقطع الغيث عنا هذا العام. فأدع لنا الله أن يكف عنا المطر حتى ينجو من البوار والتلف ما عندنا من الآنية والتحف التي جهدنا في صنعها من الفخار والخزف.
فخرج صاحبنا وهو لا يدري بأي الدعوتين يبتهل إلى الله؟ فمصيبة هذه فائدة تلك. واستجابة إحدى الدعوتين - كما ترى - شقاء إحدى بنتيه وهناء الأخرى، ولا مناص من ذلكم على أي الحالين؟
وفي هذه القصة تعبير رائع عن قول المتنبي الذي أسلفناه:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قوم عند قوم فوائد
ثم يخبرنا الرواة أيضاً: إن لصاً سرق منه عشرين دينارا. فذهب جحا إلى المسجد ضارعا إلى الله أن يعيدها إليه. وأراد الله سبحانه أن يلهم تاجراً من أهل القرية كادت العواصف أن تغرق سفينته أن ينذر لذلكم الرجل الصالح عشرين ديناراً إذا كتب الله السلامة لمركبه.
فلما ظفر التاجر بالسلامة، وفى لصاحبنا بنذره بعد أن قص عليه قصته.
فأطرق جحا برأسه إلى الأرض ثم قال بعد تأمل عميق:
(تباركت يا رب في علاك: لو إنني سلفت أحداً غيرك هذا المبلغ لأعاده في هدوء، دون أن
يخطر على باله أن يزعج أحداً ويعرض حياته للتلف، ليرد مبلغي إليّ)
وهو - كما ترى - تعبير جحوي بارع ينطوي - في فكاهته - على أقصى الجد المرير. وفي هذا يقول في بعض خواطره:
وهكذا ترك لي (أبو مرة ظالم بن الحارث) زاده كله، فرحت آكل من طعامه هنيئاً مريئاً بعد أن هيأت لي كوارثه ونكباته، ما لم تهيئه لي مباهجها ومسراته.
إلى أن يقول: وكم سعد سعيد بشقوة شقي، وللقدر تصريف خفي. وغرق مركب بمن فيه، ولم ينج أحد من راكبيه، فهلك السفر والربان، وراحوا زاداً للسمك والحيتان.
ثم هذا كله فكان ماذا؟
قامت المنادب في ديار الغرقى والمناحات، وأعلنت الأفراح في قاع البحر وعمت المباهج والمسرات. ولولا غرق المركب بمن فيه من الناس، لما تم للسمك ما يطمح إليه من بشر وإيناس، ولما أقام الولائم والأعراس. وكم للقدر من عجائب وفنون، ولله في خلقه شؤون.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني
حزب الاستقلال المراكشي
مظهر من مظاهر الكفاح العربي للحرية
لباحث فاضل
في فاتحة يناير 1944 تأسس بمراكش حزب سياسي كبير تحت اسم (حزب الاستقلال) انتظمت في سلكه جميع الأحزاب والهيئات السياسية الموجودة من قبل. وفي يوم 11 يناير 1944 حرر مذكرة قدمها إلى جلالة ملك مراكش والى ممثلي إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا يعلن ضرورة الاعتراف باستقلال مراكش استقلالا تاما وإجراء انتخابات لتأليف مجلس تأسيسي ينظم البلاد تنظيما دستوريا وتوقيع الحكومة المراكشية على وثيقة الأمم المتحدة ليصبح لها الحق في مشاركة العالم الحر في مؤتمراته ومسئولياته في تنظيمات ما بعد الحرب.
وقد وجدت الأمة المراكشية في مذكرة حزب الاستقلال تعبيراً صريحاً وصادقاً عن رغبتها فاندفعت تؤيدها بكل حماسة بوادي وحواضر، ورأى الفرنسيون والحلفاء بأعينهم إجماع أمة بأكملها طيلة ثلاثة أسابيع إلى أن انقلبت ميادين التأييد وتقرير المصير إلى ميادين قتال ودماء ووحشية مظلمة تسجل العار الأبدي على الفرنسيين.
وأقيل من منصبه ونفي إلى الصحراء صاحب المعالي وزير العدلية الإسلامية سيدي محمد بن العربي، وصاحب المعالي وزير المعارف العلامة الحاج أحمد بركاش، وسعادة محافظ العاصمة، كما اعتقل الكاتب العام لحزب الاستقلال أحمد بلافريج وقدم للمحاكمة العسكرية هو وثلة من الزعماء السياسيين، بحجة الاتصال بالألمان، وقد حكمت المحاكم العسكرية ببراءتهم جميعاً، فأخرج بلافريج من السجن العسكري إلى جزيرة كورسيكا حيث هو الآن منفي مع زوجه.
وقد أكد حزب الاستقلال في تلك الظروف السود أن موقفه لم يتغير وأن مذكرة 11 يناير هي الأساس الوحيد لكل تفاهم مع الفرنسيين. أما الفرنسيين فقد نظموا هجوما سياسياً مضاداً هو إعلان دار الحماية عزمها على إدخال بعض الإصلاحات بعد أن تؤسس لجاناً رسمية تدرس لها ما تحتاجه مراكش من الإصلاحات. وقد كتب حزب الاستقلال مذكرة مطولة قدمها للفرنسيين وأظهر فيها ما يحتوي عليه برنامج دار الحماية من مراوغة
وسخف، كما أكد إن مذكرة 11 يناير هي وحدها الحل الوحيد الممكن للتقارب بين المراكشيين والفرنسيين.
ماذا يريد الفرنسيين من مراكش؟
يريدون أن تبقى جاهلة، ولا أدل على ذلك من أن المراكشيين لم ينتجوا زهاء ثلث قرن كامل قضوه تحت تحكمات الفرنسيين سوى ثلاثة أطباء ونحو سبعة من المحامين ونزر من المدرسين!
ويريدون منها أن تكون مفككة العرى متنازعة مقسمة على نفسها، ولا أدل على ذلك من (الظهير البربري) الشهير الصادر يوم 16 مايو 1930 والمرسومات والقرارات التي تبعته والتي فرضت على سكان البوادي العربية أن يخرجوا عن الإسلام بالنار والحديد والشنق، وأن يقطعوا كل صلة باللغة العربية وأن يعزلوا عزلا عن كل اتصال ببقية مواطنيهم المراكشيين. ويريد الفرنسيون من مراكش أن يكون فلاحيها متشردين وقطاع طرق ولا أدل على ذلك من مرسوم 1927 القاضي باعتبار نزع أراضي الفلاح المراكشي لفائدة (المستعمر) الفرنسي من المصلحة العامة. وليتصور القارئ أن مراكش من الأقاليم التي تشيع فيها الملكية الصغيرة، فتكوين (عزبة) للتعمير تطلب اعتياديا نزع أراضي مئة إلى مئة وخمسين فلاحا مراكشياً يسلمون أراضيها العزيزة لسيدهم المستعمر وينزلون هم إلى المدن يائسين من الحياة يزيدون في عدد البؤساء المجرمين. وهذه السياسة مستمرة منذ صدر مرسوم 1927.
ويريد الفرنسيون من مراكش أن لا يسمع فيها صوت غير صوتهم ولا تنفذ إرادة غير إرادتهم، وليس أدل على ذلك من إن مراكش تعيش قانونياً وعملياً تحت الحصار (الأحكام العرفية) منذ سنة 1914 إلى اليوم، وهي مقسمة إلى مناطق على رأس كل منطقة منها حاكم عسكري ليس لسلطته حدود، وعلى رأس الحكام العسكريين القائد الأعلى لجيوش الاحتلال بيده تفويض عام لإصدار أوامر باسمه متى شاء وكيف شاء، فالمراسيم الملكية نفسها يوقف تطبيقها أو يناقضها أو يعدلها بحسب مصلحة جيش الاحتلال ووفقاً للمرسوم الملكي نفسه الصادر سنة 1914 القاضي بوضع البلاد تحت حالة الحصار (الأحكام العسكرية) وطبقا لهذه الحالة المؤلمة ليس للمراكشيين ولا جريدة واحدة أو مجلة، بينما
تصدر الجالية الفرنسية عشرات الجرائد والمجلات من كل الألوان والنزعات. وليس للمراكشيين الآن ولا جمعية واحدة. وقد حلت إبان حوادث يناير 1944 جميع الجمعيات والهيئات التي كان سمح بها من قبل لغايات استعمارية مختلفة. والمراكشيون محظور عليهم بحكم مرسوم 1938 أن ينتسبوا لأية نقابة، ومحظور عليهم أن يعقدوا أي اجتماع كيفما كانت صبغته، ومحظور عليهم أن يتظلموا أو يقدموا عرائض تكشف عن رغباتهم، وليس للمراكشيين أية هيئة انتخابية تمثلهم إزاء السلطة بينما ينتخب الفرنسيون في مراكش للمجالس البلدية والغرف الفلاحية (الزراعية) والتجارية والصناعية ولمجلس شورى الحكومة المراكشية والبرلمان الفرنسي مباشرة برغم وضع مراكش الدولي والوطني، والمراكشيون محظور عليهم التعليم الحر بينما أطفالهم الصغار على حد ما جاء في خطاب جلالة الملك يوم 18 نوفمبر الأخير متشردون في الطرقات العامة لا يجدون مدارس تكون منهم رجالاً قديرين، ولا تتسع المدارس الحالية لأكثر من ثلاثين ألف طفل فقط.
والمراكشيون يعيشون تحت نظام بوليسي محكم، يسير الإنسان والأرصاد الجواسيس تتبعه وأخباره يبحث عنها حتى في منزله ومع أولاده، وكل شخص من المحتمل استدعاؤه لإدارة المحافظة على الأمن حيث يذوق ألواناً من التعذيب الجسماني والكلام على تهمة مختلقة أو تافهة، ومن الممكن إبقاؤه تحت يد الشرطة في آفاق التعذيب المظلمة شهراً أو أكثر ثم إطلاقه من غير أن يمر بمحكمة أو يسمع له بدفاع يثبت براءته عند البوليس. . . ليتصور القارئ إن روح الشرف وعاطفة التضامن والشجاعة ونقاوة الضمير وكل ما يعتبر فضيلة في علم الأخلاق يعتبر في نظر الفرنسيون في مراكش جرائم خطيرة يطارد أصحابها وينكل بهم شر تنكيل؛ لأن العقلية الاستعمارية الفرنسية لا تعترف بحياد لأحد مطلقاً؛ فإما خادم لهم يدل على غيره ويتعلق لأصغر الجواسيس وهو يتظاهر بالرضى والابتسام، وإما عدو تعرقل مصالحه اليومية باستمرار وينتظر به أول فرصة ليرمى به في السجن أو ليساق إلى غرفة التعذيب في قسم المحافظ على الأمن.
هذه هي الحالة النفسية والمادية التي تعيش عليها مراكش تحت الاستعمار الفرنسي المفروض، ولكن المراكشيين يفضلون الموت على هذه الحياة التعسة التي سامتهم من البؤس الفظيع ما لا يطيقون. لذلك صرخ حزب الاستقلال حزب مراكش الأعظم الوحيد
باسم اثني عشر مليون مراكشي أن (لا حماية)، فزلزل الفرنسيون للتأييد الجارف الذي لقيته هذه الصرخة العنيفة من ملايين المواطنين ابتداء من صاحب الجلالة ملك البلاد المحبوب إلى أصغر فلاح في جبل الأطلس، ثم سددوا بنادقهم المجرمة ونيرانهم إلى صدر شعب بريء وقالوا إن يد الألمان حركته.
وهذا الشعب الذي لم يخجل الفرنسيون أن يقولوا إن يد الألمان حركته هو الشعب الذي قدم بسخاء دماء أبنائه النفيس ليحرر صقلية وتونس وإيطاليا وفرنسا ووضع جميع موارده الاقتصادية وقواعده الحربية تحت تصرف المكافحين في سبيل الحرية لتصبح العدالة فارضة على الجميع أن يحترموا له حريته هو أيضاً من غير أن يضطر إلى إراقة دمه مرة أخرى.
مراكش
(خبير)
فلسطينيات:
العزاب. . .!
للأستاذ نجاتي صدقي
تجاوز فهيم عبد الجواد الخامسة والأربعين ولا يزال عزباً. فكم من مرة نصحته أمه في شبابه أن يدخر عندها كل يوم خمسة قروش فلا تمضي أربع سنوات أو خمس إلا وتكون قد جمعت له مهر العروس. . . لكنه كان يقابل رأيها هذا بابتسامة ساخرة ويقول لها: حسن، هاك نصف جنيه عن عشرة أيام! فينساها، وتنسى أمه مسألة الادخار إلى أن تثار الحكاية من جديد، فتنصحه ويدفع، فينسى فتنسى، وهكذا ظل فهيم دون زواج.
فكان مكبوت العاطفة، رقيق الشعور نزقا في بعض الأحيان. وفي عصر أحد الأيام، بينما كان يحاول إغلاق مكتبه الذي يتعاطى فيه أعمال تأجير البيوت، جاءته فتاة أجنبية، وسألته عن غرفة مفروشة أو غير مفروشة، لكنها رجته وألحت في السؤال فوعدها خيراً. . . ولما علم منها في سياق الحديث إنها جاءت المدينة ذلك اليوم، وإنها وحيدة لا أهل لها ولا معيل، أحب إن يمثل معها دور العاطف عليها، فحدثها عن مصاعب الحياة، والحرب وذيولها، وغلاء المعيشة، وأزمة المساكن، وكانت الفتاة توافقه تارة وتخالفه تارة أخرى، وفي نهاية الأمر دعاها إلى تناول العشاء معه، فترددت، فأغراها بمآكل المدينة الشرقية القديمة وبالتفرج على بيوتها وفرشها، فترددت ثانية، لكنها استعرضت في مخيلتها صوراً خيالية براقة فرأت في هذه الدعوة ما يكشف لها أسراراً طالما طالعتها في الروايات والقصص، فأومأت إليه برأسها موافقة، وذهبا سوية إلى مسكنه في دير الأرز الواقع في وسط المدينة القديمة.
كانت الساعة وقتئذ تقارب الثامن مساء، وقد أنتشر الظلام في حارات المدينة وأزقتها، ولم ينرها سوى قناديل زيتية تكاد لا تعكس ضوءها إلا على نفسها فقط!، وكانت الفتاة تسير إلى جانب فهيم أفندي وتتعثر، فيعينها بوضع راحته تحت رسغها برفق، وإذا ما تراءى له أنها ستقع، تأبط ذراعها، فتشكره بكلمات غير واضحة متقطعة. ولما اقتربا من الدير قال لها: حذار من إحداث ضجة أثناء دخولنا الدير. سيري على أطراف قدميك قالت: وهل من شيء تخشاه؟ إنني ضيفتك، ومن يجرؤ ويمانع في زيارتي لك؟. . .
قال: للمسألة صلة بالتقاليد وليس بقواعد الأتيكيت. فمن عاداتنا أن لا تزور امرأة رجلا أعزبا في بيته.
قالت: حقاً إنها لعادة غريبة!. . .
ودخلا الدير كما أفهمها فهيم أفندي، وصعدا إلى الطابق الثاني بهدوء مطلق، وولجا الغرفة بهدوء أيضاً.
ودير الأرز هذا كان فيما مضى من الأيام ملجأ للمتعبدات اليونانيات، إلا أنه تحول إلى مسكن لرقيقي الحال من الناس، فضمت جدرانه مهاجراً بولونياً، ولاجئاً يونانياً، ومجلد كتب، وممرضاً، وبائع الخضار، وغيره بائع الألبان، وصاحب مكتب تأجير البيوت فهيم عبد الجواد، وكان جميع ساكني هذا الدير من العزاب، ولذا كانوا يفرضون على بعضهم بعضاً رقابة أخلاقية شديدة الوطأة.
وما إن أجلس فهيم الفتاة إلى المائدة حتى سمع لغطاً خلف الباب، ثم رأى وجهاً يطل عليه من النافذة التي تعلوه، فعرف فيه وجه جاره مجلد الكتب، وقد اتقدت عيناه فغدتا أشبه بالجمر وأخذ ينقر الزجاج بسبابته مشيراً إلى فهيم إن يفتح باب الغرفة.
فما كان من فهيم إلا زجره، لكن المجلد تمادى في النقر وعلى حين غرة حطم الزجاج بجم يده فأحدث فيه فجوة ومد أصابعه منها إلى المزلاج الداخلي وفتحه. . . وكان الهرج خلف الباب يتزايد، ثم بادر المجلد فهيما بقوله:
- ألا تخاف ربك يا جاري؟!
فقال فهيم: خسئت أيها اللئيم، إنها ضيفي، وحاشا أن أدنس بيتي. . .
فقال المجلد: فوالله إن لم أقضي السهرة برفقتكما أثرت سكان الحي عليكما!. . .
وكانت الفتاة ترتجف من شدة الخوف والفزع، وكان زملاء المجلد يدفعون باب الغرفة بمناكبهم وكادوا يحطمونه لو لم يسارع فهيم إلى فتحه، فإذا به يشاهد الممرض وقد رفع مجلد الكتب على كتفيه، وهو في قميص النوم، وبائع الخضار وقد التف بعباءة وهو حاسر الرأس حافي القدمين، وبائع الألبان واقفاً بسرواله الواسع وبيده هراوة ثقيلة. . .
ما هذه الإغارة؟ وما الذي يريده هؤلاء القوم؟. . .
إنهم العزاب. . . شموا رائحة الأنوثة المسكرة تعبر بأبواب غرفهم، فهبوا من فراشهم
وتتبعوا الأثر إلى أن قادتهم أقدامهم إلى غرفة فهيم، وكان منهم ما كان. . .
قال الممرض إلى جاره الذي أخل بشروط العزوبة:
- نحن جيران يا أخي منذ خمس سنوات، وهل قصرت معك في شيء؟ هل طلبت يوماً روحي ولم أضعها تحت تصرفك؟
وقال بائع الخضار: يا فهيم. . . إنني أعهدك صريحاً فلو أطلعتني منذ الأمس على قصدك لكنت مددت لك يد المعونة، ولسترت عليك الأمر، ولما درت هذه الكف ما تفعله الكف الأخرى.
وتقدم بائع الألبان مزمجرا والهراوة في يده وقال: وحق من بسط الأرض، ورفع السماء، إن لم تقبلنا في سهرتك هذه، لأنثرن دماغك في جنبات هذه الغرفة!. . .
أما المسكينة فكانت تسمع ولا تفقه، لكنها أدركت إنها بيت القصيد، وإنها قد وقعت في الفخ.
ولما رأى فهيم إن المسالة قد تأزمت، وان غرفته ستصبح مسرحاً لرواية مخزية، ولفاجعة مؤلمة، قال للفتاة بلغة لا يفقهها جيرانه: -
- لا تجزعي سأغلق عليك الباب، وسأذهب في طلب بوليس الأخلاق. . .
وأقفل الباب على الفتاة واجتاز العزاب وقد تربعوا في الممر يهدرون كالإبل. وبعد دقائق معدودات، عاد فهيم وبرفقته نفران فتبعثر العزاب هنا وهناك، وخرجت الفتاة بحراستهما، وقد سترت رأسها ووجها بمنشفة حتى لا يراها أحد، ثم تركوا الدير أربعتهم وساروا في الطريق معا، دون أن ينبسوا بكلمة واحدة. وإذ بلغوا مسكن النفرين، قف فهيم يستودعهما ويشكرهما على حسن صنيعهما. فأجابه أحدهما: لا شكر على واجب. ولكن هلا تفضلت مع الفتاة لنقضي السهرة عندنا؟!
نجاتي صدقي
في كتاب البخلاء للجاحظ
قرأ عظيم من عظماء الفكر في مصر كتاب البخلاء للجاحظ في طبعة وزارة المعارف التي ضبطها وشرحها وصححها الأستاذان أحمد العوامري بك وعلي الجارم بك، عضوا مجمع اللغة العربية الملكي فرأى فيها بعض المآخذ على التصحيح أو على الشرح آثر حفظه الله أن ينشرها في الرسالة خدمة لهذا الكتاب القيم عسى أن تفيد من اقتناه في هذه الطبعة، ومن يريد أن يعيد طبعه عنها. ونحن ننشرها شاكرين للأستاذ العظيم فضله على اللغة، وعطفه على الأدب، وصلته بهما صلة الرجل الكامل الذي يأخذ كل شيء مأخذ الجد الصارم، وإن لم يكن من صميم عمله ولا من حر اختصاصه.
في الجزء الأول
في ص28: (وإذا كان البكاء (الذي) ما دام صاحبه فيه فإنه في بلاء - وربما أعمى البصر وأفسد الدماغ ودل على السخف وقضى على صاحبه بالهلع، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع - كذلك، فما ظنك بالضحك الذي لا يزال صاحبه في غاية السرور إلى أن ينقطع عنه سببه؟)
قال الشارحان: لم تكن (الذي) في النسخ التي بين أيدينا وقد أثبتناها من نسخة الشنقيطي ليكون المعنى بها أوضح.
ثم قالا في رقم 5 من الشرح: وقوله (كذلك) خبر كان.
وأنا أرى إن كلمة (الذي) مقحمة لأنها تفسد المعنى، وأن جواب الشرط (إذا) هو قوله: فما ظنك بالضحك الخ. لا قوله (كذلك)؛ لأن كلمة كذلك إنما هي لضم (الحدث الضرع) إلى (الأمة اللكعاء) في تشبيه صاحب البكاء بهما، ومن الخطأ الفصل بين كلمتي الضرع و (كذلك) بتلك (الشرطة) - بذلك تتحرر العبارة، وتنزل على المعنى المعقول الذي يريده الجاحظ وهو أن البكاء مطلقا ما دام صاحبه متلبسا به فهو في بلاء؛ وربما أعمى البصر، وشبه بالأمة اللكعاء وبالحدث الضرع كذلك. وإذا كان هذا شأن البكاء على الإطلاق (أي لا شأن نوع منه) فما ظنك بالضحك الخ.
على أن من يريد إقحام (الذي) بعد كلمة البكاء لتقابل كلمة (الذي) الواردة بعد كلمة الضحك في جواب الشرط، لا بد أن يحذف الواو قبل كلمة (ربما أعمى) لتكون ربما وما بعدها
خبرا لكان.
وجاء في صفحة 34: (وإن من أعظم الشقوة، وابعد من السعادة، ألا يزال يتذكر زلل المعلمين، ويتناسى سوء استماع المتعلمين) وأظن إن كلمة (من في قوله وابعد من السعادة زائدة أو واجبة التقديم على (أبعد)؛ وإذا حذفت على اعتبارها زائدة فلابد من جر (أبعد) بالعطف على أعظم.
وجاء في صفحة 77: (قال أبو مازن وأرخى عينيه وفكيه ولسانه، ثم قال: سكران والله! أنا سكران). وقال الشارحان تعليقا على (قال) الثانية: كان يمكن أن يستغني عن قال هذه، والصواب في رأيي أن قال الأولى صحتها (مال) إذ لو حذفت قال الثانية لبقى الأشكال في ثم.
وجاء في صفحة 89: (قد عرفت الرأس حق معرفته، وفهمت كسر إلا كسير على حقيقته) والصواب على ما أظن سر إلا كسير لا كسر إلا كسير. وفي الصفحة نفسها (وعرفت التنجيم والزجر والطرق والفكر) وقد فسر الشارحان كلمة الفكر بقولهما: يحتمل أنه يريد بالفكر هنا طرق التفكير، والذي أراه أن المراد بالفكر هنا هو قراءة أفكار الناس لا كيفية تفكيره هو، وهذا النوع هو الشائع الآن عند كثير من المتكهنين.
وجاء في صفحة 90: (ولولا أن أكون سببا في تلف نفسك لعلمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون) وفسر الشارحان بتلف النفس هنا بما قد ينشأ بتعلم هذا العلم من طغيانها وتمردها. وأقول إن المراد صعوبة تحمل هذا العلم لما ذكره بعد من عجائبه، تلك الصعوبة التي تقتضي بذل جهود مهلكة. وفي الصفحة نفسها فسر الشارحان (صنعة التلطيف) في قول الجاحظ:(ولكني سألقي عليك علم الإدراك، وسبك الرخام، وأسرار السيوف القلعية، وعقاقير السيوف اليمينية، وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف على وجهه). فسرا صنعة التلطيف بصنعة النقش والتزيين. والأظهر إن التلطيف عملية كيميائية كما جاء في طبعة ليدن. وما لا يعرف معناها بعد مراجعة كتاب الحيوان، فالغالب أن معناها التصعيد أي تأويل الجسام إلى غازات، أو تخفيف الكثيف وجعله رقيقا.
وجاء في صفحة 91: (ولست أرضاك ولو كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لا حقاً بالآباء، لأني (لم أبالغ) في محبتك)؛ والصواب في محنتك لا في محبتك؛ لأن عبارة (لم
أبالغ) لا تتفق في هذا المقام مع في محبتك، إذ الأب يصف حالة قائمة بنفسه قبل الكلام وأثناءه وبعده، فإذا فرضنا أن (في محبتك) غير محرفة؛ فلابد أن يكون ما قبلها محرفا عن (لا أبالغ) وبهذا التصحيح قد تكون عبارة ذلك الأب مفهومة. على إن الحق إنها صحيحة، والمحرف إنما هي العبارة التالية، إذ الأب يقول لابنه إن معارفي التي شغلتني تحصيلها عنك لم تترك لي وقتا أستزيد فيه من اختباري درجة عقليتك وامتحان مبلغ استعدادك. ولذلك تمشت عبارة (لم أبالغ) مع عبارة (في محنتك) لأن الوالد يبالغ دائما في محبة ابنه.
وجاء في صفحة 93: (احتال الآباء في حبس الأموال على أولادهم بالوقف، فاحتالت القضاة على أولادهم بالاستحجار) وقال الشارحان وقد عدل عن الحجر، وهي الكلمة المألوفة إلى الاستحجار التي لم نجدها بهذا المعنى فيما بين أيدينا من المراجع. وأقول: ليس الاستحجار هو الحجر حتى يكون الجاحظ قد عدل عن هذه إلى تلك؛ بل الواضح إن الاستحجار هو طلب الحجر؛ واحتيال القاضي بالاستحجار هو سعيه بسوء نية في جعل أحد الناس يطلب الحجر على الموقوف عليه، وهذا ظاهر لا يدعو للتشكك ولا للرجوع إلى المعاجم.
وفي الصفحة نفسها يقول الجاحظ: (يا ابن الخبيثة: إنك وإن كنت فوق أبناء هذا الزمان فإن الكفاية قد مسختك) وأقول إنها مسحتك بالحاء المهملة لا مسختك كما في المتن، ولا محنتك كما في نسخة ليدن، ولا مجنتك بتشديد الجيم كما ينطق بعض المستشرقين. وذلك إن مسح الرجل أو مسحه بالتشديد معناها قال له قولا حسننا ليخدعه به؛ فالمراد إذن أن الكفاية أي رغد العيش الذي أنت فيه قد فتنتك وخدعتك عن نفسك.
وجاء في صفحة 102: (وزرته أنا والمكي، وكنت أنا على حمار مكار، والمكي على حمار مستعار، فصار الحمار إلى أسوأ من حال المذود) والصواب الزور لا المذود، والزور: الضيوف جمع زائر، مثل ركب وصحب جمع راكب وصاحب.
وجاء في الصفحة نفسها: (فأعاد المسالة فأمكنه من أذن من لا يسمع إلا ما يشتهي)، وقال الشارحان: (فأمكنه إلى آخره، أمكنه من الشيء كمكنه بتشديد الكاف منه، وفاعل أمكنه يعود إلى المكي، وضمير المفعول إلى المسألة بمعنى الطلب ليطابق المرجع. وأقول إن هذا التفسير يفسد عبارة الجاحظ، وهي من أجمل العبارات، والصواب أن صاحب البيت هو
الذي أمكن المكي من أذن صماء كما تقول: أعارني أذنا صماء. وجمال العبارة هو في التمكين الموهم بلوغ المقصود، ثم اتباع هذا التمكين ببيان أن الباب الذي انفتح لا يؤدي إليه، وإنما يؤدي إلى نقيضه.
وجاء في صفحة 103: (وصديق كنا قد ابتلينا بمؤاكلته، وقد كان ظن أنا قد عرفناه بالبخل على الطعام، وهجس ذلك في نفسه، وتوهم أنا قد تذاكرنا أمره؛ فكان يتزيد في تكثير الطعام، وفي إظهار الحرص على أن يؤكل حتى قال: من رفع يده قبل القوم غرمناه دينارا، فترى بغضه إن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتمل في رضا قلبه وما يرجو من نفع ذلك في له). وقال الشارحان بعد أن فسرا هذا الكلام على هذا الضبط: (ولا يخفى ما في هذه العبارة من إيجاز وغموض، وأقول: إن سوء الرسم هو الذي أدى إلى تفسيرهما المعقد، وصواب العبارة إن تضبط هكذا (فترى بغضه أن غرم دينارا، وظاهر لأئمته، محتملين في رضا قلبه إلى آخره) وإذن يكون معنى العبارة أنك أيها القارئ ترى إن بغضه للكرم المدلول عليه بتغريمه الدينار، والدينار أكبر قيمة من كل طعامه، ثم إكراه نفسه على الظهور بمظهر من يلوم على عدم الأكل، هاتين الخصلتين المتناقضتين قد وسعهما قلبه فاحتملهما لما يرجوه من الظفر في النتيجة.
(يتبع)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
694 -
وأنت في جد
في (مسالك الأبصار): قال عبد الله بن الربيعي: دخلت أنا وأبو النصر البصري (بيعة ماسرجس) وقد ركبنا مع المعتصم نتصيد، فوقفت أنظر إلى جارية أهواها، وجعل هو ينظر إلى صورة في البيعة استحسنها حتى طال ذلك، ثم قال أبو النصر:
فتنتنا صورةٌ في بيعة!
…
فتن اللهُ الذي صورها!
زادها الناقشُ في تحسينها
…
فَضْلَ حسن أنه نضّرها
وجهها (لا شك عندي) فتنة
…
وكذا هِيْ عند من أبصرها
أنا للقَس عليها حاسد
…
ليت غيري عبثاً كسّرها
قال الربيعي: فقلت له: شتان ما بيننا، أنا أهوى بشراً وأنت تهوى صورة.
قال لي: هذا عبث، وأنت في جد.
695 -
وصاحبها عند الكمال يموت
حكي إن إنسانا رفع قصة إلى الصاحب كمال الدين بن العديم فأجبه خطها فأمسكها وقال لرافعها: أهذا خطك؟
قال: لا، ولكني حضرت إلى باب مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها لي. فقال: عليّ به. فلما حضر وجده مملوكه الذي يحمل مداسه وكان عنده في حال غير مرضية. فقال له الصاحب: أهذا خطك؟ قال: نعم. قال: فهذه طريقتي فمن الذي أوقفك عليها؟
قال: يا مولانا كنت إذا وقعت لأحد على قصة أخذتها منه وسألته المهلة على حتى أكتب عليها سطرين أو ثلاثة. فأمره أن يكتب بين يديه ليراه فكتب:
وما تنفع الآداب والحلم الحجا
…
وصاحبها عند (الكمال) يموت
فكان إعجاب الصاحب بالشعر أكثر من الخط لأن فيه تورية لطيفة، ورفع منزلته حينئذ.
696 -
قد أبلغناه محبة
في (شرح النهج) لابن أبي الحديد: قيل لأبي مسلم الخراساني إن في بعض الكتب المنزلة:
(من قتل بالسيف فبالسيف يقتل) فقال: القتل أحب أليّ من اختلاف الأطباء، والنظر في الماء، ومقاساة الدواء والداء. فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم، فقال: قد أبلغناه محبته. . .
قال المنصور للمهدي: ما أيدت بمن أيد به من كان قبلي، أيد معاوية بزياد، وأيد عبد الملك بالحجاج. فقال المهدي: قد أيدت بمن فوقهما. فقال تعني أبا مسلم؟ قال: نعم. قال: قد كان كذلك لكنه خيرنا بين إن نقتله أو يقتلنا فاخترنا قتله. . .
697 -
وعليه زينهم
في (تاريخ بغداد):
قال أبو بكر بن شاذان: سألت أبا الطيب محمد بن الحسين اللخمي أن يملي عليّ شيئا فأبى، ثم سألته فأجاب، فقلت له: أعطني ورقة. فقال لي: والورق من عندي؟! أكتب، وأنشدني هذه الأبيات:
رب، ما أقبح عندي عاشقا
…
مستهاما يتفقّا سِمنا!
قلت من ذاك؟ أنا؟ فاستضحكت
…
ثم قالت: من تراه؟ فأنا؟
قلت: زوريني فقالت: عجبا
…
أنا والله إذن قاري مني
إذ يصلى وعليه زيتهم
…
أنت تهواني وآتيك أنا؟!
698 -
إن اهتمامك بالمعروف معروف
قال عبد الأعلى بن حماد النرسي، قدمت على المتوكل بسر من رأى، فدخلت عليه يوما فقال لي: يا أبا يحيى، قد كنا هممنا لك بأمر، فتدافعت الأيام به، فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت مسلم ابن خالد المكي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة، وأنشدته:
لأشكرنك معروفا هممت به
…
إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر
…
فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
فجذب الدواة فكتبهما، ثم قال: ينجز لأبي يحيى ما كنا هممنا له به، وهو كذا، ويضعف لخبره هذا.
699 -
لا يعقل
أبو سعيد الكرماني:
عزلت وما خنت فيما وليت
…
وغيري يخون فلا يعزل
فهذا يدل على أن من
…
يولي ويعزل لا يعقل
700 -
أهذا أيضا مما أعده؟
في (الكشاف): عن عمر بن عبد العزيز (رضى اللذه عنه) أنه شكر عبد الملك حين زوجه ابنته، وأحسن إليه وقال: وصلت الرحم وفعلت وصنعت وجاء بكلام حسن. فقال أبن لعبد الملك: إنما هو كلام أعده لهذا المقام، فسكت عبد الملك. فلما كان بعد أيام دخل عليه والإبن حاضر، فسأله عن نفقته وأحواله فقال: الحسنة بين السيئتين. فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما) فقال لابنه: يا بني، أهذا أيضا مما أعده؟. . .
701 -
حتى تغرب الشمس
قال أحمد بن طاهر: كنت في مجلس بعض أصدقائي يوما، وكان معي علي بن عبيدة الريحاني في المجلس، وفي المجلس جارية كان يحبها، فجاء وقت الظهر فقمنا إلى الصلاة وعلى الجارية الحديث. فأطال حتى كادت الصلاة تفوت فقلت له: يا أبا الحسن، قم إلى الصلاة، فأومأ بيده إلى الجارية وقال:(حتى تغرب الشمس) فجعلت أتعجب من حسن جوابه، وسرعته وكفايته.
البريد الأدبي
مجون كالجنون:
إذا جاز لغيرنا من أمم الغرب أن يستحلوا الكذب الطريف في أول أبريل لأنهم قلما يكذبون في سائر الأيام، فما الذي يجيز لنا نحن أن نتعمد الكذب في هذا اليوم، وحياتنا ومعاملاتنا وأخلاقنا ومبادئنا كلها كذب صراح في جميع أيام العام؟ لقد كان الأخلق بنا أن نستريح في هذا اليوم إلى الصدق ترفيها لأنفسنا وألسنتنا من عناء الكذب المتصل في كل ساعة وفي كل شيء. وإذا لم يكن بد من هذا التقليد البليد فمن لوازمه أن يتوخى الكذاب الطرافة والظرف فيما يكذب ليكون له من هذه الحال مبرر. ولا ندري أي طرافة وأي ظرف في هذه الكذبة المؤلمة التي صاغها ذلك الطالب الماجن حول حياة الأستاذ منصور جاب الله، وبعث بها إلى الرسالة فنشرتها في العدد الماضي! لقد روع أصدقاء الأستاذ منصور، وبخاصة صديقه الأستاذ كامل كيلاني، فقد بات بليلة الوفي المرزوء يكابد مرارة الحزن، ويعد كلمة الرثاء، ويتمنى مع ذلك على الله أن يرد علينا في الصباح خبر يكذب الخبر لأننا لم نقرأه في صحيفة ولم نسمعه من أحد. وقد حقق الله ما تمناه وجاءنا من الأستاذ منصور هذا الكتاب الذي يكذب والحمد لله ما نشرناه:
سيدي. . . رئيس تحرير (الرسالة)
تحية واحترام، وبعد، فقد دهشت أن يعمد أحد المجان غلى صحيفة الأدب الرفيع الوقور، فيتخذ منها متنفسا لمجونه العابث ومرتعا لهذه العادة السخيفة التي يسمونها (أكذوبة إبريل).
وإني ' ذ أشكر الصحب والأخوان الذين شملوني بعطفهم وأولوني برهم، أعجب لهذا العابث الذي يزعم أنه ينتسب غلى إحدى جامعاتنا، حين تزيد في القول فأدعى أني اكتب الرسائل الجامعية لأصحابها، وإني أحرر المقالات والمحاضرات للأصدقاء المعوزين.
من أين علم هذا؟ وكيف لي بهذا؟ إن مثل هذا التعريض لا يليق بشاب ينتظره مستقبل لامع وأمة ناهضة.
إنها على كل حال سانحة طيبة لأبادل إخوان الأديب وأهل الفضل شعورهم. جزاهم الله خيراً، وأجزل بين الأبرار ثوابهم. والسلام عليكم ورحمة الله.
(إسكندرية)
منصور جاب الله
رسالة في القدر:
(لصاحب ديوان (وحي المرأة))
سيدتي الفاضلة:
تلقيت كتابك الكريم الحزين، وإني لألمس فيما يضطرم فيه من لاعج الألم: وفيما ينطوي عليه من احتياج كظيم وثورة مكبوتة، مبلغ السعادة التي فجعك فيها القدر، ذلك القدر الذي فجعني مثل فجيعتك.
وما أحسب أهل الحضارات القديمة من الأمم الحالية إلا على عذر في تصورهم أن الآلهة تحسد من تهيأت لهم السعادة في تمامها وكمالها من البشر، فتبتدرهم بما يقتضب تلك السعادة عليهم.
ولقد كنت في صدر حياتي أعجب للمأساة عند الإغريق وتصويرهم فيها للقدر يقضي قضاءه لغير موجب نعقله، فلا تجدي حيلة ولا شفاعة، لا حيلة في الأرض ولا شفاعة في السماء تقف في وجه القدر الطاغية فيما يروونه من أساطير تاريخهم. وذلك انهم كانوا - مع إيمانهم بسلطان الأرباب على البشر - يجعلون القدر فوق الأرباب.
وإنني لأذكر اليوم هذه الصورة للقدر التي كنت أعجب لها عند الإغريق الأقدمين، ثم أذكر هذا الذي ما نزال عليه نحن عامة المسلمين من الاعتقاد بالمقدور المكتوب من قديم لكل واحد منا، وما يستتبعه من الدعاء بدعائنا المأثور (اللهم لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه) فلا أملك نفسي من مراجعة النظر والتفكير. أجل، إني لأديم التفكير في هذا على الرغم مني.
ولست أزعم ولا أنت تزعمين يا سيدتي أن الفجيعة التي نزلت بنا لم تنزل قط بأحد غيرنا. ولكني لا أجد في ذلك عزاء وأظنك مثلي، وإنما ذلك أدعى إلى زيادة الأسى على حظ البشر المساكين.
وكل ما يستطيعه الإنسان في رأيي ويليق بكرامته أن يواجه الحقيقة وينظر إلى وجهها سافرة معتصما بذلك الاستسلام الجليد النبيل الذي عرف به الفلاسفة الرواقيون. فهل نحن
مستطيعون؟
وقبل أن اختم هذه الكلمة اليائسة التي كنت أود لو قلت غيرها من قبل الكلام الذي تعوده الناس في هذه المناسبات الحزينة، أعتذر مخلصاً للسيدة الفاضلة عن خروجي عن المألوف، وأرجو أن تتقبل اعتذاري. أما اعتذار السيدة عن ترديدها لشعر الديوان في بكاء حبها الضائع وإلفها الراحل فهو حقها، فالديوان ديوانها مثل ما هو ديواني؛ إنه ديوان كل من أصيب في حبيب. أما ثناؤك الكريم يا سيدتي على ناظم الديوان، فأنه ينصرف إلى صاحبة وحيه ولك أجزل الشكر مني
عبد الرحمن صدقي
حول نقل الأديب
تتحف الرسالة الغراء قراءها الفينة بعد الفينة بما يعتمي الأستاذ الجليل النشاشيبي في (نقل الأديب) ويشغفه بالبيان والنقد مما لا يذر طلبة لمستزيد.
وفي عدد الرسالة الأخير رقم 665 الطرفة الأولى (قضية خمرية) التقطها الأستاذ من (شرح المقامات) للشريشي. غير انه لم يعقب عليها بالرد على تفسير القاضي عبيد الله بيتي حسان في زعمه انه يريد بقوله (كلتاهما حلب العصير) الخمر ومزاجها، فالخمر عصير العنب والماء عصير السحاب. كدأبه في التنقيب والاستيعاب.
إن تلك الطرفة الأدبية (على ما زعم القاضي) سبق بقصها الأصبهاني في الأغاني، أخبار الواثق ج9 ص 288 طبع الدار، وحكاها الحريري استطراداً في درة الغواص الوهم 108 ثم نقلها عنه أبن حجة الحموي في أوائل (ثمرات الأوراق) كما ذكر الشريشي.
وقد فند ابن الشجري في أماليه تفسير القاضي بأوجه ثلاثة: الأول أن (كلتاهما) للمؤنث والماء مذكر؛ والثاني أن (أرخاهما) للمشاركة والزيادة والماء لا إرخاء منه؛ والثالث التدافع بين قولي القاضي الخمر عصير العنب وحسان حلب العصير للزوم إضافة الشيء إلى نفسه. ثم ارتأى بعدئذ أن الشاعر أراد كلتا الخمرتين الصرف والممزوجة حلب العصير.
نقل ذلك كله عن الأمالي الشهاب الخفاجي في شرح الدرة، وكذا البغدادي في خزانة الأدب ج2 ص 240.
ولسيدي الأستاذ الجليل آي الإكبار والإجلال.
محمد الطنطاوي
مدرس بكلية اللغة العربية
المرأة ووظائف النيابة والقضاء:
(الرسالة) مهبط الوحي الشعري ومنار النثري فلا غرابة في أن يتسع صدرها لعرض موجز لقضية طريفة أثيرت أخيراً في إحدى المجلات وهي قضية المرأة وحقها في تولي وظائف النيابة والقضاء. . . فقد سألت المجلة سعادة النائب العام فتركزت إجابته في نقط ثلاث: هي أن طبيعة العمل في النيابة. وأن حرمان المرأة هذا الحق هو في الواقع - عند رأيه -
هذا رأي النائب العام. وللرد عليه نقول: أفليست المرأة تحمل ليسانس الحقوق كالرجل؟ وإذا كانت قد استوعبت قواعد التقنين وأصول التشريع ووسائل التحقيق وطرائق المرافعات كما استوعبها الرجل سواء بسواء، فما المانع الجدي الذي يحول دون الانتفاع بها في وظائف النيابة ما دامت الأداة والوسيلة بين يديها. . .؟
وإذا احتج حضرة النائب العام بأن هناك بعض القضايا التي قد تخجل من ممارستها وتحقيقها (النائبة) فاحتجاجه هذا يدفعه أن المرأة بطبيعة الحال قد درست مثل هذه القضايا، والدراسة مهما كانت تحمل لون التصور والتخيل للوقائع والتطبيقات العلمية.
وإذا طلبت المرأة أن تتولى النيابة ففي طلبها هذا رضاء ضمني منها للقيام بسائر تبعات وظيفتها. . . وعندئذ تسقط الحجة القائلة بأنهم يحرمونها لا ظلماً لها وإنما محاباة لها وإكراماً. . .
هذا ويعرض سعادة النائب العام بطلب زميلة فاضلة أرادت الاشتغال بالنيابة مع أشترطها أن تعمل وكيلة النائب العام في قضايا الأحداث. . . ولست أدري. . . أكان يجب أن تشكر على اختيارها هذا القائم على المنطق والدراية والقياس. . . أم كان ينتظر أن تمنع ويعرض برأيها. . . الحقيقة أن خير من يزن ويقدر أحوال ودوافع الجريمة عن الأحداث هن المرأة. . . وإنها وحدها التي تحمل التوجيه والتربية في عطفها الأموي. ثم ألم تتجه
الإدارة والرغبة إلى تخصيص قضاة للأحداث، فلم لا تترك هذه الوظائف للمرأة. . . وظائف قضاة الأحداث ونيابة الأحداث. . .
وبعد فهذه مشكلة نعرضها على صفحات (الرسالة) الغراء راجين من كتابها القانونيين أن يسارعوا إلى دراستها. . .
(إسكندرية)
عواطف بيومي
قصص فرعونية:
2 -
قصة سينوحيت
للأديب مصري قديم
للأستاذ محمد خليفة التونسي
(ملخص ما نشر في العدد 663)
أشرك ملك مصر أمنمحعت الأول قبل وفاته بعشر سنوات ابنه
وولي عهده أسرتسن الأول في حكم مصر، وكان أسرتسن
يقوم بقيادة الجيوش في حملاته الخارجية بينما يبقى أبوه في
العاصمة لتدبير شؤون مصر.
في إحدى حملات أسرتسن على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتسن يحمل إليه نعي أبيه سراً، وسمع سينحوت بموت أمنمحعت فقرر الفرار من الجيش بل من مصر، لنه رأى أن بقائه فيها خطراً على حياته بعد موت أمنمحعت واستبداد أسرتسن بالأمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه فلم يره، ثم سار إلى سنفرو ثم الحميزة ثم عبر النيل إلى الشرق على طوف وجده هناك حتى وصل إلى الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازاً مسلحة عند عين شمس كانت تحمي مصر من غارات الأسيويين ثم انحدر في وادي كيمور (طوميلات) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسيا) فعرفوه وأنقذوه وأضافوه عندهم أياماً، ثم رحل عنهم إلى أدوم. . . وها هو ذا سينوحيت يروي بقية القصة. . . .
لم تطل إقامتي في أدوم أكثر من ستة اشهر، وهناك وافاني من الأمير أمونشي الحاكم على مرتفعات تنو رسول يطلب مني أن ارحل إليه، إذ كان في حاشية هذا الأمير بعض
المصريين الذين كانوا يعرفونني، فوصفوني عنده، وأخبروه بمنزلتي فلبيت دعوته وأتيت، فطلب مني الإقامة معه معللا ذلك بقرب بلاده من مصر، وبأن من اليسير عليّ، وأنا في بلاده، أن أقف على ما يجري في مصر من أحداث.
وربما كان الرجل خالجه إن أمراً ما هو الذي ألجأني إلى أن أهجر بلادي، فشاء الوقوف عليه، فحاول استدراجي لأكشف له عنه، فسألني عما دفعني إلى المجيء، وعما جرى في البلاط، وما إذا كان الملك سحتب آب رع (أمنمحعت الأول) قد رحل إلى السماء.
فهمت حيلة الرجل فلم تنطل عليّ، وقلت له مداوراً حتى لا يهتدي إلى ما كان:(إنني لم آتي هنا فراراً من ذنب جنيته: فأنا لم أنطق بفاحشة ولا أصغيت إلى رأي امرئ، ولا حوكمت أمام القضاء، ولكني - إذ كنت في تمهو (ليبيا) - ترددت في السفر، غير إنني وجدت أنه لا يليق بشجاعتي أن أعدل عما أزمعت من الرحلة فرحلت، لم يكن من أمري غير ما حدثتك، فأنا لا أدري ما دفعني إلى هذا الإقليم).
قال الأمير: (إنما هي مشيئة الإله الكريم، وإن ذكره ليلقي من الروع في قلوب الأجانب ما يلقى عام القحط في قلب الفلاح).
فقلت: (غفواً فلقد تسلم ابنه مقاليد الملك، وتربع على عرشه، وإنه لفريد بين من سبقوه في أخلاقه وعظمته، فهو حازم أريب في كل ما يدبر من أساليب ملكه، وهو يسبغ عطفه على كل من يخلص له، وهو - إلى ذلك - قائد بارع دوخ بجيوشه الأقطار الأجنبية عندما كان أبوه حياً في القصر، وهو بطل صنديد فريد في قتاله: إنه - إذا دارت المعركة - ليقتحم صفوف أعدائه الطغاة غير هياب ولا وجل، فيطيح أبواقهم، ويهشم جماجمهم، ويصدع صفوفهم بضارباته القوية حتى يشل قواهم، فيكفوا عن القتال ويولوا الأدبار، وهو مقتحم لا يأبه بالأخطار، ولا فبل لأشجع الشجعان بالوقوف في وجهه كما انه عداء سريع لا يستطيع أحد أن يفلت منه، بل يتخطفه قبل أن يبلغ مأمن، وإذا ما استحر القتل انقض على أعدائه فنفضهم من حوله نفضا وهجم ذات اليمين وذات الشمال ومن الخلف ومن الأمام، وتساقطت ضارباته العنيفة الثقيلة في كل ناحية، والويل لمن حلت عليه إحدى ضارباته إنها لتجند له وتسحقه، انه هو الأسد الهصور ينشب براثينه في أعدائه بلا شفقه، فإذا هم كالكلاب الذليلة الخاشعة قد انفضوا من حوله، حتى إذا ما انهزموا لم يعفهم بل يطاردهم
حتى يلحق بهم ويمزقهم شر ممزق. لقد أمدته الإله ببطشها وجبروتها، وإنها دائما لترعاه وتكفل له الغلبة على الأعداء الذين لا يؤمنون بها، وقد جمع إلى كل ذلك فضائل جمة، فهو أنيس حلو الشمائل لطيف المعشر نافذ البصيرة قدير على أن يخلب الألباب ويستميل القلوب، وما من أحد في شعبه إلا وهو يؤثره على نفسه، ويفتديه بحياته. وقد تمرس بالحكم ومصاعبه منذ ولد، وكان مولده بشيرا بتكاثر الذريات، وشعبه متمسك به، يحبه ويستريح إلى حكمه، وهو حريص على إن يمد حدود مصر نحو الجنوب، وان كانت الأقاليم الشمالية لم تخضع له، وهذه قبائل الساتي لم تذق ضرباته، ولكن من يدري فربما اجتاح يوما هذه الأقاليم، فخير لك إن تقدم له فروض الولاء حتى يعرفك، ولا ريب أنه سيشملك بعطفه).
فقال: (ما أسعد مصر! إن موقعها حسن وشؤونها مدبرة بأحكام وسداد، وهاأنذا أعاهدك على أن أقدم إليك كل مساعدة أستطيعها ما دمت أنت بجانبي آية تقديري لمصر التي أنت منها).
وقد أوفى الأمير بعهده فزف ألي كبرى بناته، وترك لي أن أختار ما أشاء من أرضه ليقطعني إياه، وكان - فيما عرض عليّ غير ذلك - مقاطعة (له على جانب عظيم من الخصوبة ووفرة الثمرات، اسمها (ياع) كانت حافلة بالحبوب من حنطة وشعير، فياضة من عنب وتين، زاخرة بالعسل، ونبيذها كثير كالماء، وكانت تمرح فيها قطعان لا حصر لها من الماشية.
ولم يقنع الأمير أن غمرني بعطاياه، بل أقامني - رغبة في استبقائي إلى جانبه، والانتفاع بي في ولايته - أميراً على قبيلة من أضخم القبائل التي تمرح في ولايته، فكان رجالها يتكفلون بطعامي كل يوم، فيقدم لي خير الأطعمة من خبز ولحوم طيور وغزلان، وأشهى الأشربة من لبن ونبيذ، وكان يقدم لي الزبد مستخلصا من اللبن، وكثيراً ما كنت أصيد الغزلان أو تصيدها لي كلابي المكلبة فوق ما كان يقدم إلى من رجال القبيلة.
أقمت في تلك القبيلة سنوات طويلات رزقت في أثناءها عدة أولاد، ولما بلغ أولادي أشدهم جعلتهم زعماء على العشائر، وكنت حاكماً باراً كريماً أمد الطعام للجوعان، والماء للظمآن، وأبسط رعايتي على كل من يطلب الأمان، وابذل عوني لكل من أذله الزمان، وأعاقب اللصوص وقطاع الطرقات حتى عم الأمن والرخاء إقليمي، وكنت أواسي بمالي من أنتهب ماله، وكان قصري ملجأ لذوي الحاجة، وما ضننت بمساعدتي على أحد ممن لاذ بي.
وكان الأمير قد اسند قيادة جيشه إلي، فكنت في غزواتي عند حسن رأيه فيّ؛ وأظهرت من البسالة والحنكة ما ظنني أهله؛ فما غزوت قوما إلا انتصرت عليهم، وظفرت منهم بمغانم كثيرة وما عدت من حرب إلا وأنا أسوق معي أسراهم وماشيتهم، وكنت لا أنفك أدبر مكايد الحروب، والقي في المعارك بنفسي ضاربا بحسامي أو راميا بنبالي، وكانت جموع الساتي تهجم على بلاد الأمير فتعيث فيها فسادا، فاستطعت أن أوقف غزواتهم، وأنقذ البلاد من شرورهم، وأردهم إلى مواطنهم في القفار.
ولما نمت أخباري غلى الأمير عظمت مكانتي عنده، وتمكنت محبتي في قلبه.
وكان هناك في أرض تنو بطل صنديد شديد البأس لا نظير له في قوته وشجاعته ونزاله، وربما كان قد امتدت عيناه إلى ما أنا من نعم وفيرة وخير سابغ، فطمع في أن يقتلني ليستحوذ على ثروتي.
جاء هذا الرجل يوما يتحداني ويطلب مبارزتي، فلم أدر ما دفعه إلى معاداتي، ولما استشارني الأمير في أمره أجبته: (لست أعرف الرجل، ولا أراني نداً له في بطشه، ولا كفؤاً له في قتاله، ولا أذكر أنني انتهكت له حرمة، ولا هجمت دارا ولا عثت في أرض. فماذا يدعوه إلى مبارزتي! لست أظنه إلا حسودا.
ليعلمن هذا الزنيم أنني لست كالعجل بين البقر يتربص هجوم الثور عليه ليفتك به، فإن الثور المرير ولوع بالنطاح، وليس على الثور الخرع إلا الفرار. سأتدبر أمري معه ولو أنه بدوي مدرب على القتال، ولنتركه وشأنه حتى يظهر أنه شجاع مقدام ولوع بالنزال وانه يعني ما يتوعد به).
شاع خبر المبارزة في البلد وما جاوره، وبات أهل تنو ليلتهم تلك ومالهم من حديث تلوكه ألسنتهم إلا حديث المبارزة بيني وبين البدوي في الصباح. ونمت أنا تلك الليلة حتى إذا ما تنفس الصبح نهضت من نومي لآخذ للمبارزة عتادها، فأعددت قوسي ووضعت نبالي في كنانتي، وما أن طلعت الشمس حتى كانت الجموع ممن نمى إليهم خبر المبارزة في الجهات المجاورة قد تجمهرت لشهود المبارزة، وكان القوم يبكون والنساء، يعولون خوفا عليّ من خصمي الجبار الذي جاء ليبارزني وقد لبس درعه ولأمته، وحمل فأسه، وتأبط كنانته الحافلة بالنبال، وكان المتجمهرون في حزنهم يودون لو أن مبارزا غيري افتداني وتقدم
عني لمبارزته.
وحل موعد المبارزة فخرجنا، ودعوته إلى أن يبدأ الرمي ففوق نباله ألي، بيد أني حدت عن طريقها فطاشت نبلة فنبلة، وحلت نوبتي فتفترت له ثم سددت إليه قوسي، وما هو إلا أن أطلقت نبلتي الأولى حتى أصمته في نحره ومرقت من عنقه فخر مجدلا يتلوى ويصرخ من شدة أوجاعه، فاستللت فأسه الذي أعدها لذبحي، وأجهزت بها عليه، ثم وقفت فوقه وهتفت بأعلى صوتي هتاف الانتصار
عندئذ صاح المتجمهرون صيحات الفرح والغبطة، حتى لقد بلغ الأمر بمن كانوا معه أن عداهم هذا الشعور الفياض فشاركوهم في ابتهاجهم وحمدوا إلههم منث إله الحرب وأثنوا عليه، كما ركعت له وصليت إذ مكنني من عدوي. وعندئذ أقبل عليّ الأمير فاحتضنني وعانقني عناقا حارا دل على محبته وإخلاصه لي، وابتهاجا بفوزي على غريمي.
وقد انتقمت من خصمي ما وسعني الانتقام، فصنعت به مثل ما أجمع رأيه أن يفعل بي، فما كدت أفرغ من القضاء عليه حتى ذهبت إلى فسطاطه فحطمته بعد أن استحوذت على كل ما فيه من متاع، كما ضممت إلى ثروتي كل ما كان له من أنعام.
ونبهتني هذه الواقعة إلى حقيقة حالي، وأحسست بالألم ووحدتي في غربتي، وفرط شوقي إلى وطني، فعملت على تقوية مكانتي بالاستزادة من الأموال والأنعام لتكون عونا لي عند البلاء، كما بعثت إلى مولاي الملك هذه الرسالة: (لقد جعلت الإله معتمدي، فانظر - يا مولاي - ما وهبني من خير جزاء اعتمادي عليه. لقد غادرت وطني مهاجرا خاملا، فصرت ذا ولاية وسلطان، ونبه صيتي. وهاأنذا - بعد أن كدت أهلك من المخصمة - صرت أمد الناس بالطعام، وبعد أن كنت عريان أصبحت أختال في أنفس حلل الكتان، وبعد أن كنت وحيدا طريدا أصبحت ذا أسرة كثيرة الأبناء، وفي خدمتي كثير من الحشم، ولي قصر باذخ فخم، وأرض خصيبة شاسعة.
(البقية في العدد الآتي)
محمد خليفة التونسي