المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 667 - بتاريخ: 15 - 04 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٦٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 667

- بتاريخ: 15 - 04 - 1946

ص: -1

‌مستقبل الجامعة الأزهرية

للأستاذ عباس محمود العقاد

الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقد جامعة في العالم بأسره، فالأمة التي تملكها كفيلة أن تحافظ عليها وتستديم بقائها وازدهارها. ومن أول أسباب الاستدامة أن يتجدد التوفيق بينها وبين مطالب الزمن بغير انقطاع، وأن تكون مطلوبة لما حضر ولما سيأتي، ولا يقتصر طلبها على ما مضى وكفى.

ومع هذه الرغبة الوثيقة، لا نرى في الأمر مشكلة تعترض الراغبين في دوامها ودوام ازدهارها إلا من ناحيتين لا يصعب تذيل العواقب فيهما: أولاهما الثنائية في نظم التعليم بمدارس الأمة الواحدة، والثانية أن تكون نتيجة التعليم في الجامعة الأزهرية تخريج (طائفة معاشيه) يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش أو حاجتها هي إلى المعاش، وإنما الواجب أن يكون بقاؤها منوطا بحاجة الأمة إليها لا بحاجتها هي إلى الأمة، ولاسيما حاجتها من الوجهة المعاشية دون غيرها.

وقد أحسنتم التوصيف والتعليل حين أشرتم في عدد الرسالة الماضي إلى (بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة).

فإننا لا نعرف في البلاد الإسلامية داعيا إلى انفصال طائفة من الطوائف بمنهج من المناهج العلم أو مسلك من مسالك المعيشة، لأن رجال الدين من المسلمين لا يعتزلون الحياة ولا ينفصلون عنها ولا يلوذون بالصوامع ولا يترهبون، ويستطيع الرجل منهم أن يسلك في معاشه مسلك المهندس والطبيب والصانع والفيلسوف، وكل ذي عمل من الأعمال الدنيوية التي يزاولها سائر الناس. فإذا أستعد للدراسة كما يستعد المهندسون والأطباء والصناع والفلاسفة؛ فليس في ذلك ما يخل بوظيفته المقبلة أو ينقص من عدته التي يستعد بها لغده. بل هي عزلة التعليم التي تضيره وتقطع ما بينه وبين أبناء العصر من صلات المعيشة وأسباب التفاهم وتبادل الشعور، فلا تزال الفجوة بينه وبين عصره بابا للاختلاف والأشكال.

فمن الواجب قبل كلشيء أن نبطل الثنائية في نظم التعليم بالمدارس الابتدائية والثانوية،

ص: 1

وأن يتدرب الأزهري للتخصيص في جميع العلوم العالية كما يتدرب كل مصري للتخصص في جميع العلوم العالية مادام في دور التأهب والتحضير. فيتعلم الأزهري اللغة الأجنبية ويتعلم المبادئ الضرورية من معارف العصر الحديث، ويبدأ في التعلم وفي إمكانه بعد أن يتبين حقيقة ملكاته وميول عقله ونفسه أن يصبح من الأطباء أو علماء الفلك والرياضة كما يصبح من فقهاء الدين أو فقهاء اللغة العربية.

وقد أرتم في مقالكم القيم بالعدد الماضي من الرسالة (أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية الدين وتدمج فيها كلية الشريعة وكلية أصول الدين، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم، وقسم اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، وتشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والأوروبية، وتنفرد كلية اللغة بتاريخ الآداب العربية والأجنبية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية، وذلك بالطبع فوق ما تختص به كلتا الكليتين من علوم الدين أو من فنون اللغة، وما يتصل بهذه أو بتلك من العلوم الحديثة. . .)

وعندنا أن هذا الرأي في إجماله مقبول لا يكثر عليه الخلاف ولا أرى من جانبي ما أخالفكم فيه قبل الدخول في التفصيلات.

أما التفصيلات، فهي مما يعرض لنا عنه البحث في تقسيم الكليات، وفي مدى التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.

فنحن نعتقد أن المجال يتسع في الجامعة الأزهرية لثلاث كليات على الأقل: إحداهما للدين الإسلامي، والثانية للدراسات الدينية والفلسفية، والثالثة لدراسة اللغات والآداب، ويجد الطالب في كل واحدة منها ما يشغله سنوات قبل الوصول إلى دور التخصص والاستيعاب.

سمعت في حياة الشيخ المراغي أنه رحمه الله كان يفكر في تدريس (مقارنة الأديان) بالجامعة الأزهرية، فاستكبرت الأقدام على ذلك قبل تمكين المقدمات التي يتطلبها هذا المبحث الجسام، فأن علم المقارنة بين الأديان أخطر العلوم على من يهجم عليه بغير أهبة وتمهيد، وأنفع العلوم لمن يشارف بعد تأهب صالح وتمهيد طويل.

وهذا العلم وحده - وما يتصل به من المسائل الإلهية - يستغرق السنوات للاحاطه به والإيغال في شعابه ودروبه، وهو يدرس ببعض الإسهاب تارة وببعض التلخيص تارة

ص: 2

أخرى في الجامعات العلمية والجامعات الدينية، ويلتقي بعلوم أخرى لامحيص عن الإلمام منه بالقدر المفيد، كعلم الإنسان وعلم الأجناس البشرية. وعلم اشتقاق اللغات، ودلالات الكلمات التي تدل فيها على أسماء الأرباب وشعائر العبادات.

فدراسة هذه المباحث لازمة للطلاب الأزهريين وهم أحق بها من سائر الطلاب، ولا يتأتى لهم أن يدرسوها مع التخصص لغيرها أو التوسع في أبواب التخصص الأخرى، وإنما يتوسعون هنا ويأخذون بأطراف من علم يحتاج إليه رجل الدين.

على أن (المقارنة بين الأديان) حظ مشترك بين المسلمين وغير المسلمين، ويجوز أن يدرسه المسيحي والإسرائيلي والبوذي ومن لا دين له، كما يجوز أن يدرسه الطلاب الأزهريين.

لكن الموضوع الذي تتعين دراسته في الجامع الأزهر ولا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعات الأزهرية هو موضوع المدارس الفكرية الإسلامية التي إنشاءها المتكلمون والمعتزلة وأئمة التصوف والحكمة في المشرق والمغرب من الصدر الأول إلى أواخر الدولة الفاطمية، فإن هذا المحصول الهائل من التفكير الإنساني أمانة لابد لها من حفيظ بين الأمم والحضارة الإنسانية. فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهما، ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية؟

إن المستشرقين لا يفهمونها ولا يؤتمنون عليها، ولا اعرف فيما اطلعت من كتبهم كتابا يدل على حسن فهم وحسن إنصاف مجتمعين، فإن وجد من يفهم على الندرة، فهم متهمون في الإنصاف، وإن وجد من ينصف فليس هو من الصابرين على التعمق والتفرغ للتحصيل. وليس من المروءة أن نكل إلى غيرنا على ما نحن أحق به من واجباتنا وأعمالنا، وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال.

ومن الإجحاف أن نستخف بمحصول هذه المدارس الفكرية لأنها في الواقع تشمل على الكثير من النفيس القيم، كما تشتمل على الكثير من البخس الزهيد. ولا أخال أن المسالة من مسائل الفلسفة التي تصدى لها حكماء أوربا في قديم العصور وحديثها لم تدخل في نطاق هذه الدراسات على وجه من الوجوه، وقد وصل بعض المفكرين الإسلاميين في مسائل منها

ص: 3

إلى مقطع القول الذي وقف عنده بعدهم خلفائهم في مباحث المنطق والحكمة الإلهية من الأوربيين وغير الأوربيين، ولعل البخس الزهيد الذي أشرنا أليه يفيد في دلالته التاريخية أو دلالته النفسية ما يكافئ العناء في تحصيله ويعوض الباحثين عن غثاثته وقلة غنائه، فلا يضيع فيه الوقت بغير جزاء.

هذه المادة الزاخرة وما يقترن بها من مواد المقارنة بين الأديان السماوية والأرضية أعظم من أن تضاف كما تضاف العلاوة على حمل التخصص في الدراسات الأخرى. لأن أبواب البحث في الدين الإسلامي وحدة تستغرق السنواتبعد السنوات إذا لوحظ فيها أن تحيط بجوانب الفقه والتشريع والتاريخ والتطبيق على المذاهب الاجتماعية التي تتمخض عنها أطوار الأمم جيل بعد جيل، ومن القصور أن يفوت العالم المسلم تحصيل المعلومات من تلك المذاهب الاجتماعية، وهي تتطلب منه رأيا وردا وإقناعا لمن يحسبونها مغنية عن إصلاح الدين أو مناقضة لقواعد الدين في الإصلاح. فهل يتأتى للعالم المسلم في أربع سنوات أو ست سنوات أن يتوسع هذا التوسعفي علم دينه، ثم يتوسع في الوقت نفسه توسعا مثله في علوم الدينات ومذاهب للمسلمين وغير المسلمين؟

والذي يصدق على كلية الدين يصدق على كلية اللغة العربية لأن تعلم النحو والصرف والبلاغة لا يجدي بغير تعلم الأدب وفروعه؛ وتعلم الأدب وفروعه في لغة واحدة لا يتمم ثقافة الأديب المتخصص لهذه الثقافة مع هذا الأتساع في أفاق الكتابة وهذا التنوع في قواعد النقد ومناهج التعبير، وهذا التعدد في شواهد كل قاعدة من قديم اللغات وحديثها. فلابد مع اللغة من أدب، ولابد مع الأدب العربي من آداب أمم أجنبية، ولابد مع هذا جميعه من مشاركة في بحوث اللغة الإنسانية نفسها، وهي التي تسمى عندهم (بالفيلولوجية). لأنها دراسة لابد لها من مكان تدرس فيه، ولا مكان لدرسها غير الجامعات الكبرى ولا سيما الجامعات التي تزود الطالب بكل ما يحتاج إليه في ثقافته الأدبية واللغوية، وليست ست سنوات أو ثماني سنوات بالوقت الكثير على هذه المطالب اللازمة التي تنفق فيها الأعمار الطوال.

وأيا كان الرأي في عدد الكليات أو عدد السنوات؛ فالمهم في الأمر أن ننتهي بالتقسيم إلى نظام واحد في التعليم، فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من

ص: 4

الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق ألان بين كلية الطب والزراعة أو كلية الآداب.

ويومئذ يجد العالم الأزهري مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم، ومن لم تتسع لهم الدواوين فشأنهم في ذلك شأن المتعلمين العاملين في الحياة الخارجية، لأنها تتسع لهم وتزداد سعة كلما شاعت المعرفة وتشعبت منادح التثقيف والاطلاع. ويحق للعالم الذي تفتقر مباحثه إلى التشجيع الحكومي، ولا تقوم على إقبال الشعب وحده أن يعتمد على المرتبات والمكافئات التي رصدت في الأوقاف للعلماء الأزهريين من قبل النظام الحديث.

ويبدو لنا أن الجامعة الأزهرية لم تلقى في طريقها عقبة تزعج أبناءها إذا زالت الثنائية من التعليم، وقام التعليم فيها على إخراج أناس تحتاج الأمة إليهم، ولا يكون قصارهم من السعي أن يحتاجوا إلى الأمة في تدبير سبل المعاش.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌من صميم الحياة:

الخادمة. . .!

هذه قصة (المشكلة) التي قل ما تخلو دار مصر في الشام. . .

(ع)

للأستاذ علي الطنطاوي

قال: إن لدي قصة احب أن أقصها عليك، وإنك لتعلم أني لست ممن يؤلف القصص، ولست ممن يحسن الاستعارة والتشبيه وسائر أبواب المجاز التي تعلمنا أسماءها في المدرسة، فلا تأمل أن تسمع مني قصة أدبية معقودة من وسطها بعقدة فنية، مردودة الأول على الأخر، فيها الصورة النادرة، والفكرة المبتكرة، والأسلوب البارع، فليس عندي من ذلكشيء، وإنما هي واقعة أرويها كمار أيتها وسمعتها، وإن فيها لدرساً نافعاً لمن يرى الحياة مدرسة، فهو يدأب على الاستفادة منها والانتفاع بها، فهل تحب أن تسمعها؟

قلت نعم

قال: لا أدري من أين أبدا القصة لتجئ محكمة الوضع يرضى عنها أهل الأدب، فدعني أبدأها من نصفها، فما لك في أولها كبير نفع، وأن أولها ليلخص مع ذلك في كلمة، هي أن لي أقرباء أخوة ثلاثة شباباً عزاباً يقيمون مع أمهم العجوز التي ربتهم وقامت عليهم منذ تركهم لها أبوهم أيتاماً صغاراً، إذا كلت وهرمت، وعجزت عن خدمة الدار، ذهبوا يفتشون لها عن خادم تعينها، ولو فتشوا عن ثلاث زوجات لهم لكان ذلك أهون عليهم وأدنى إليهم، فلما طال التفتيش وزادت الحاجة، وجدوا بنتاً من (التواني) فقنعوا بها، وأن تعلم أن (التواني) قرية منزوية في حدود (القلمون) الأدنى، مما يلي (القطيفة) ضائعة بين تلك الأودية المقفرة والجبال، وأن أهلها من أقذر القروين وأجفاهم وأبعدهم عن المدينة، على صحة فيهم وجمال. وكانت بنتاً - كما يقولون - ذكية، فسرعان ما ألفتهم وألفوها، وأقامت فيهم سنين طويلة ما أنكروا منها شيئاً، ولم أرها أبداً على كثرة ما كنت أتردد على الدار، حتى كان اليوم الذي جعلته مبدأ قصتي هذه. . .

وكنت أزور أقربائي هؤلاء، فدعوني إلى الشاي، فإذا هي تدخل فتقدمه إلي، وإذا فتاة في

ص: 6

نحو السادسة عشرة قد تخمرت بخمار أبيض لفته فوق رأسها إلى ما تحت ذقنها، فعل القائمة إلى الصلاة، فسترت به شعرها وجيدها، وبدا منه وجهها مدوراً أبيض مورداً يطفح بالصحة والصبوة، ويشع منه السحر والدلال، وكانت تلبس ثوباً قصيراً لا يكاد يعلو عن الركبتين، يكشف عن ساقين بضتين غضتين ممتلئتين في غير سمن، ممشوقتين في غير هزال، مصبوبتين صب التمثال، وفوق الثوب صدار من وشي رقيق كالذي تتخذه أنيقات الخادمات، قد شد شداً، فهو يبرز من ورائه نهدين راسخين، يلقيان عليه ظلالهما خفيفاً لا يعرف موقعه من النفس إلا من قرأ سطور النهود في صدور العذارى. . . . وكانت تحمل الشاي بأكف كأنها خلقت بلا عظام، وكان جسمها ينبض بالعاطفة التي تلين أقسى الرجال، وتستخرج الصبوة من قرارات النفوس فتظهرها، ولو قيدتها قيود من الخلق المتين، ولو غطتها ستور من الهم الدفين، ولو أنساها علم يشتغل به، أو مال يسعى وراءه، ولو أن الصبوة قد ماتت، لردها هذا الجمال المطبوع حية. . . . أما عيناها، فدعني بالله من وصفهما، فما أدري ما لونهما وما شكلهما، فأن لها سراً يشغلك عن التفكير في وصفهما. . . أنهما تروعانك فتبقى معلقاً بهما، فإذا حاولت أن تضبط نفسك وتعود إلى ما كانت فيه، لم تشعر إلا وأنت قد عدت إليهما. . . إن فيهما مغناطيس يجذب الأبصار والقلوب. . .!

فلما خرجت، قلت: أهذه هي الخادم القروية التي جئتم بها من (التواني)؟

قالوا: نعم.

قلت: فأخرجوها من هذه الدار، فإنها أخطر من البارود!

فضحكوا وعدوها نكتة. . .

وعدت مرة أخرى فإذا هي بلا خمار، فسألتها عنه، فقالت - ويا ليتها لم تقل، فما كنت أدري أن لها مع جمالها هذا الصوت الذي يرن كأجراس الفضة في مواكب الأحلام. . . أو كرنات العيدان في خيال متذكر ليلة غرام - قالت:

- أني قد استثقلتهفألقيته أمام الأقرباء، وأنت منهم (مش هيك)؟

وشفعتها ببسمة من فيها، وغمزة من مقلتيها، وهزة من كتفيها. . . فما هذه البنت؟! ومن أين لها هذا كله؟! وحياتك لو أنها ربيت في مسارح (مونمارتر) في باريس لكان هذا كثيراً منها، فكيف تعلمته في مزابل (التواني)؟!

ص: 7

وعبست فما أحببت أن أوغل معها في هذا الطريق، فولت ترقص رقصاً لا تمشي مشياً، وشعرها الذهبي حقاً لا تشبيهاً، المنشور على كتفيها وظهرها، البالغ حقويها يرقص معها!

وعدت بعد ذلك، فإذا هي قد جزت شعرها على (المودة)، وأمرت يد الزينة على وجه ما يحتاج إلى زينة، وطرحت صدارها، ولبست ثياب فتاة غنية مدللة، لا ثياب خادم، فانفردت بأكبر الاخوة من أقربائي فقلت له:

- إنك أنت وأخوتك من أمتن الناس خلقاً وأقومهم سيرة، ولكن هذه البنت تفتن والله العابد، وتستذل الزاهد، وتحرك الشيخ الفاني. . . وإنها لتسحر بكل نظرة وكل حركة، ويكاد جسمها يتفجر أغراء بالمعصية، وإذا أنتم أبقيتموها في هذه الدار فما أظن الأمر ينتهي بسلام!

واستجاب لما قلت له، وراءه حقاً، فأخرجها وأدخل مكانها زوجة صالحة. . .!

قال: ودخلت البنت داراً أخرى، دار قوم مترفين منعمين لا يسألون عن المال أين ذهب، وكانوا كلهم ثلاثة: أباً تاجراً جاهلا، همه عمله في النهار، وسهراته في الليل، وأماً شغلها ثيابها وزياراتها واستقبالاتها، وولداً شاباً في العشرين طالباً في الجامعة صاحب جد ودراسة وخلق ودين، غير أنه كان - ككل الصالحين من لداته - يطوي صدروه على مثل البارود المحبوس في القنبلة إذا طار منها مسمار الأمان، أو صدمتها صدمة فرجتها تمزقت ومزقت من حولها! وكانت الصدمة لها هذه الخادمة اللعوب!

وبدأت من اليوم تولي اهتمامها صاحبنا الذي أسميه (الشاب) كراهية أن أصرح بأسمه، وتنسج حوله خيوطها. . . فإذا ناداها لحاجة له - ولم يكن له بد من أن يناديها - قفزت قفزة الغزال وأقبلت تحف بها شياطين الشهوة. . . فتراه منصرفا عنها، فتبسم له، وتسأله عما يريد، بصوت يقطر فتونا، وتسلط عليه من عينيها مغناطيس مكهرباً يذيب القلوب، ولو كانت من صفا الجلمود، وإن أعانته في رفع نضد، أو تسوية كرسي، أو ناولته شيئا، دنت الملعونة منه حتى لامست بهذا الجسم اللدن الدافئ المكهرب، جسمه القوي القرم. . . إلى (اللحم)!. . . أو قربت وجهها الفتان من وجه حتى ليحس لسع أنفاسها، ويشم رائحة جسمها، وإنها لأفتن من كل عطور الدنيا وطيبها، وأين العطر من ريح جسم المرأة؟ أو تتعمد حركة تزيح ثوبها القصير لحظة عن بياض فخذيها. وكان المسكين بشرا، اجتمعت

ص: 8

عليه صبوة الحب في نفسه، وإغراء الجمال في خادمته. . . وحماقة أبويه اللذان جاءا بها وغفلا عنه وعنها، وصارا يتركانه معها وحيدين في الدار طول النهار، حتى لقد بعثاها مرة تناوله الصابون في الحمام. . . وثار في أول الأمر عليها، وأعرض عنها، ثم أحس أن سمها سرى في جسده وروحه، فأستنفر أخر قوى الفضيلة في نفسه وألح على أبويه في إخراجها من المنزل، فأبيا، وكيف يفرطان فيها وقد وجداها بعد طول البحث، وكبير العناء؟ وهل تدع (الست) زيارتها وسينماها، وتشتغل هي: بالطبخ والكنس لمجرد أن البنت الخادمه جميلة و (دلوعة) ويخشى منها؟ كلام فارغ!

هكذا كان يفكر الأبوان المحترمان. . . وضربا بالعمى عن حقيقة لا تخفى على عاقل، هي أن الرجل والمرأة حيثما التقيا وكيفما اجتمعا: معلماً وتلميذه، وطبيا وممرضة. ومديرا وسكرتيرة، وشيخاً ومريدة، فإنهما يبقيان رجلا وامرأة، لذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم (ماخلا رجل وامرأة (هكذا على الإطلاق) إلا كان الشيطان ثالثهما!

مرض الشاب وعجز عن الاحتمال. . . فكانت الخادمة هي التي تقوم على خدمته، وتصرم الليل كله ساهرة عليه، وتبدل ثيابه فتراه كما هو وتستبيح بالنظر واللمس كل إصبع في جسده وهو لا يحس بها؛ حتى إذا تماثل للشفاء، ومرة في طريق النقاهة رآها إلى جانبه، وكان المرض قد أضعف عزمه وأوهن أرادته، فأنكسر السد وطغى الحب. . . وفي ليلة كان فيها النعاس قد نال منها، حلف عليها إلا أن تستريح وتنام، ولم يكن في الغرفة سرير، فاندست معه في سريره. . . وكان هذا أكثر من أن تحتمله أعصاب رجل في الدنيا، فطار النعاس، وكانت النتيجة المحتومة لهذه المقدمات! ودخلت (الست) في الصباح، فرأت الخادمة بين ذراعي أبنها!!

صحت البنت من سكرتها، وصحا الأهون وأرادوا إصلاح ما فسد، وهيهات! أن الماء قد انسفح على الرمل فمن يرد الماء المسفوح؟ وعود الكبريت قد احترق فمن يرد العود المحروق؟ وعرض البنت قد مزق فمن يرتق العرض الممزق؟ لا أحد!

ووثبوا يفتشون كال المجانين عن طرق الخلاص، وأقبل الشيطان مرة ثانية، وكانت المؤامرة، وانجلت عن ستر هذه الجناية بجناية أخرى، هي أن ترد البنت إلى أبيها الذي يطلبها ليزوجها من ابن عمها، وقبلت: وماذا تصنع إذا هي لم تقبل؟

ص: 9

وكان الفصل الآخر من المأساة وأني سأختصره اختصارا: هذه البنت الحلوة المستهترة الذي ذاقت طراوة الحضارة ولينها وحريتها وفسوقها وعريها، عادت إلى القرية المنقطعة في أودية (القلمون) الأدنى وجباله، لتعيش حياة قروية قذرة صعبة، ولكنها طاهرة مستورة مقيدة، لتلبس الملاءة الزرقاء الشاملة بعد (الروب) الذي لا يستر ربع الجسد، والسراويل البالغة الكعبين بعد (الكلسون) الذي لا يتجاوز طوله الإصبعين، وتشتغل في الحقل بالأكف التي كأنها بلا عظام والأظافر ذات (المانيكور)، وتأكل بعد (الكاتو) والفراني خبز الشعير، وتعاشر بعد شباب دمشق البقر والحمير، وتمشي إلى الإسطبلات بدل السيمات.

دبر الأمر على عجل، وعقد العقد، وسيقت العروس (الشامية. .) إلى القرية، وحسب أبن العم كأنما رأى ليلة القدر فدعا فهبطت عليه حوراء من حور الجنان. . . وكان الدخول، وتجسم خيال المسكين فكان واقعا، والحلم صار حقيقة، وأحتوى بين ذراعيه الخشنين ذلك الجسم الذي تتقطع عليه نفوس أبناء الأمراء حسرات و. . . فإذا الثمرة مقطوفة!

قلت: ثم ماذا؟

قال: ماذا؟ صار أبن العم في السجن، والبنت في القبر، وأفتضح الشاب فضيحة لن ينجو من أثارها مهما عاش!

علي الطنطاوي

ص: 10

‌د هلورنس

للأستاذ فخري قسطندي

لعل د. هـ لورنس أجدر القصصيين المحدثين بالدراسة والبحث وأحقهم بالذكر والتنويه. فهو ظاهرة طبيعية فذة كتلك الظواهر التي تبرز إلى عالم الوجود كلما ارتقى الفكر وتقدم العصر وتعقدت الحضارة. وهو كغيره من الكتاب له نواح من الإجادة والافتنان يغبطه عليها القارئ والناقد، وله نواح من النقص والضعف ينعيها القارئ والناقد أيضا. وتفسير ذلك هين ميسور، ذلك أن لورنس كان فنا مطبوعا، ولكنه يخشى أن يتملك الفن زمام نفسه ويطغي على حواسه، فهو يضطرب لذلك أشد الاضطراب، ويجزع لذلك أشد الجزع، ومادام في نفس الفنان اضطراب وجزع، ففي نتاجه اختلال وقصور. ولورنس أمير من أمراء الكتابة الفنية عند الإنجليز بلا مراء، لا يسبقه في هذا المضمار أحد من الكتاب القرن العشرين. ولا غرو فقد كان نادرة في انتقاء الكلمة اللائقة، وصياغة الاستعارة المبتكرة، تتصرف أنامله الرقيقة الصناع في اللغة فتخلقا خلقا جديدا، وتضفي عليها ثوبا شعريا جميلا تجعلها أقرب الشبه بالشعر المنثور منها بالنثر الرقيق الأنيق.

وينفرد لورنس من بين سائر الكتاب بالجدة والطرافة والابتكار التي تبدهك دون كبير انتباه فيما تقرأ له من وصف وقصة ومقال. وحسبه أنه كاتب الفكرة وأنه كاتب العاطفة؛ ولكنه ليس كاتب الفكرة الصرفة أو العاطفة الخالصة. فهو يقول (أنا أفكر) ثم يستدرك سريعا ويقول (أنا أحس). ومن ثم فإن الفكرة والعاطفة عنده تتدخلان وتتشابكان وتطغى كل منها على حدود الأخرى. وعهدنا بالعاطفة المشبوبة أن لها شأنا كبيرا في تلك الرنة الموسيقية الرائعة التي تشيع في كتابات كبار الكتاب وأئمة الروائيين. فلا عجب إذن أن يكون لأسلوب لورنس وقع جميل وسحر أخاذ.

ولد لورنس من آب سكير عربيد، يشتغل بالتعدين قي قرية بالقرب من نوتنجهام، وقد حرم عطف الأب منذ نعومة أظفاره، إذ كان أبوه متهالكا على اللذات غارقا في غمرة من المفاسد والموبقات، فلم يلق بالا إلى أسرته ولم يرع مصالحها، غير أن حدب ألام عوضه ما قد فقده من عطف الأب. إذ كانت أمه تنفث فيه موجه أثر موجه من ذلك الحب الحبيس الذي كانت تحتجزه لزوجها أيام أن كانت تعده رجل أحلامها ومحط أمالها. ويحدثنا لورنس في

ص: 11

كتابه (أبناء وعشاق كيف أن أماً ذاقت أهوال الجحيم كي تتعهد وليدها المريض بالرعاية والعناية، وتنقذه من التهلكة والموت.

وليس ثمة شك في أن لورنس كان يصور جزءا من نفسه وبعضا من أمسه حين يعرض لهذا الحدث وما على شاكلته من الأحداث التي اكتنفته في طفولته. وقد شعر لورنس بحب ألام المفرط يجيش في كيانه ويجري في عروقه فيأسره ويتملكه. وقد يكون حب ألام خير في عالم يمكث فيه الأطفال أطفالا غير أنه شر مستطير في عالم يشبون فيه عن الطوق ويدخلون في طور الرجولة. فكما أن المرء يفسد طفله كلما بالغ في إعزازه وتدليله كذلك أفسدت تلك ألام وليدها بما أغدقت عليه من حب جامح فياض. فقد أنقلب حب لورنس لأمه وجدا وهيما، ويتجلى ذلك بوضوح في مرثيته التي يشيد فيها بذكرها والتي مطلعها:

معشوقتي الصغيرة! محبوبتي!

أقبلت قبلة الوداع، يا أحب مخلوق إلي.

فهنا استحالت عاطفة البنوة إلى صبابة ووله، ولم يعد لورنس ينظر إلى أمه كشيء أثير عنده عزيز عليه فحسب، بل كمحبوبة خليقة بالتشبيب والتقديس. ويقول مدلتون مرري في كتابه (أبن الذي ترجم فيه للورنس (أنه لم يكن في مقدوره أن يسبغ حبه على امرأة أخرى مادامت أمه على قيد الحياة. ولقد كان لهذه التنشئة أثر ضار، إذ أشرب كاتبنا عقيدة جديدة شاذة ناضل عنها بكل قواه، وضحى في سبيلها بما كان يرتجي له في ميدان الأدب من رفعه وسمه وجاء، فما وهنت له عزيمة، وما فترت له همة وما خف له حماس حتى دهمه الموت وفارق الحياة.

ذلك أن لورنس ذهب إلى قول بأنه ما من سبيل إلى فهم الحياة على حقيقتها ما لم نتصل بالمرأة اتصالا جنسيا، فنقرب الشقة بيننا وبين الجنس الأخر ونفهم نياته وخفاياه، ونطلع على أحاجيه وأسراره ونبرزها للعيان. وما كانت الحياة عند لورنس إلا رجل وامرأة، رجلا سبرنا أغوره واستقصينا أعماقه وإدراكنا ماهيته، وامرأة تحيطها بغلالة من الإبهام والغموض والالتواء والتعقيد،

ولا أمل لنا في فهم الحياة ما لم تبد لنا المرأة كما هي مجردة عارية من جميع الدوافع والنوازع والمغريات والمؤثرات. وإذا كانت الحياة كذلك فلا غنى للرجل عن المرأة، ولا

ص: 12

غنى للمرأة عن الرجل، فلا كلاهما شطر يكمل الأخر ولا ينفصل قط عنه. ومن ثم فليس ببعيد أن تثير سيرة المسيح في لورنس الحقد والموجدة، وتؤجج في صدره نيران الغيظ والكراهية، إذ كان المسيح الشخصية الوحيدة الفريدة في تاريخ البشرية التي تهدم نظريته من أساسها. فلم يلجأ المسيح إلى المرأة يبتغى منها أن تملأ ما في حياته من فراغ وأن تسد ما بها من نقص. ولم يدع المسيح إلى الحياة الجنسية يؤازرها ويعضدها، بل فرق ما بين الروح والجسد بنطاق من الطهر والعفاف، وأحدث خرقا لا سبيل إلى رتقه ما لم نرجع إلى الحياة البدائية الأولى حيث كان اتصال الجنسين حرا طليقا لا تعوقه العوائق ولا تعترضه العقبات.

والفتح الجديد الذي فتحه لورنس في القصة هو محاولته أن يفلسف الجنسيات. ولا أدل على ذلك من أن أسلوبه بدع في مرماه ومغزاه، إذ هو يسعى في غير خجل وحياء إلي التعبير عن العلاقات الجنسية بين العشاق، وما تستتبعه من لذة ونشوة حسيتين عظمتين، وقد يصيب لورنس ويجيد ويفي على الغاية، وقد يخطئ ويقصر دون بلوغ الغاية، ولكنه علىذلك كله حاول أن يبتدع أسلوبا غير معهود من قبل فيما كتب الكتاب وألف المؤلفون. ومن الكتاب من يثنى على لورنس لنجاحه في التعبير على الجنسيات، ومنهم من يرثى لفشله في هذا الضرب من الكتابة دون الاعتبار لأي معيار من معاير الأخلاق، فما زالت تدوي حتى ألان تلك الصرخة: الفن للفن والذي يعنياه أن لورنس كان يعمد إلى كد الذهن، وإعنات الفكر ليتحقق ما كان ينشده من التعبير عن الجنسيات في لغة مثيرة غنية بالصور الحسية والاستعارات غير المألوفة. فما كانت المتعة الجنسية وما يدخل في نطاقها من لذة ونشوة غير مشاعر وأحاسيس خفية لا يسهل الإفصاح عنها إلا عن طريق المجاز، وبرغم ذلك كله فإن لورنس لم يظفر بالنجاح المنشود ولم يبلغ الغاية المرموقة.

ويبدو لنا التجديد الذي أدخله لورنس على القصة قوياً رائعاً أخاذاً في تقديمه لقصته (عشيق ليدي تشاترلي ' بقوله (إن الصورة التي يفيض عليها الشعور وينحصر هي التي تقرر حقاً مصائر حياتنا، وهنا تكمن الأهمية العظمى للقصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً، ففي مقدورها أن تقود فيض شعورنا المتسق في مواضع جديدة، وفي مقدورها أن تقود شعورنا بعيداً في ارتداده عن الأشياء التي انتهت إلى العدم. ومن ثم كان في استطاعة

ص: 13

القصة حين نتصرف فيها تصرفا صحيحاً على المواضع الخفية جداً في حياتنا، لأن فيض الشعور المرهف في حاجة إلى إن ينحسر ويتدفق منظفاً ومجدداً في الأماكن الخفية العاطفية في حياتنا)، والذي لاشك فيه أن لورنس يريد أن يصور الحياة كفيض يتعاقب عليه الجزر والمد. فالحياة أذن أفراح وأتراح، وحب وبغض، وأمال وألام، وحقائق وأوهام، وتفاهة وخطر، إلى غير ذلك مما يضمه كتاب الحياة المليء بين دفتيه. أما ما يعنيه لورنس بفيض الشعور وانحساره فهو أن النفس البشرية ذات خوالج مختلفة ونوازع متنافرة، ونحن لا نرى في الشخوص التي يعرضها علينا لورنس في قصصه الطويلة والقصيرة إلا النفس في حالة قبضها وبسطها ورضائها واستيائها.

وحين ينقم لورنس على المدينة الحديثة، ويصب جام سخطه عليها يضع نصبة عينيه فلسفته الجنسيات. فالمدينة الحديثة معتلة مموجة، مختلفة مضطربة، متداعية منهارة، لأن الإنسان الحديث أطلق العنان للعقل. وأسلم له قياده، وتركه يهيمن على عواطفه، ويسيطر على حياته. حتى بلغ الأمر بالعاطفة إنها صارت نتاجا تافها للعقل، ولورنس ينحني باللائمة على العقل، الرجل المتمدين الحديث لأنه بإذعانه للعقل، أفقر الدم الذي هو ينبوع العاطفة، ومن ثم فقد أرسل لورنس غضبته المدوية فقد أرسل لورنس غضبته المدوية بأن على المرء أن يحيا حياة عاطفية لا تكبلها الأديان ولا تحدها الطريق. ولورنس يذهب إلى ابعد من هذا فينادي بالاتصال الجنسي ويحث عليه، إذن أن فيه تحقيقا للحياة الفطرية العاطفية القديمة التي لا يشوبها تكلف وتصنع أو شاب وأدران.

ولورنس يحمل على المدينة الحديثة لأنها حطت من قدر الحياة القديمة، وشوهت من قيمتها، ذلك لأن التكالب على جمع المال، وتحصيل الثروة وطلب الجاه، وحب السيطرة والرئاسة؛ دفعت بالمرء في طريق غير مأمون العاقبة، فأخمدت شعوره بدلا من تذكيه، وأسكنت عاطفته بدلا من أن تثيرها ومن ثم فقد صار من أن يأخذ فيض الشعور وانحساره طريقه المعهود.

هذه النقادات الجارحات التي أرسلها لورنس عن طريق قصصه أثارت ثائرة النقاد عليه وأحفظهم ضده، فحملوا عليه حملات شعواء ونددوا بآرائه وكتبه وكأنه أراد أن يقابل العدوان بالعدوان، فلجأ إلى إصدار قصته الطويلة (عشيق ليدي تشارلي) التي وصف فيها

ص: 14

وصفاً سافراً العلاقات الجنسية بين الرجل والمرآة. والواقع أن رغبته الجامحة في أن يكتب لجمهرة القراء قصصاً تكشف بوضوح عن انحسار العاطفة وفيضها كان بليغ الأذى بعيد الضرر.

ولقد قصر لورنس نفسه في مستهل حياته الأدبية على وصف ذلك اللون من ألوان الحياة الذي يدور على حياة المعدنين المضطربة التعسة، ونفوسهم الحزينة الكسيرة، وآمالهم المحطمة الذابلة. ولقد وفق لورنس في هذه الناحية توفيقاً بعيداً، وأجاد أجاده كبيرة لا تتوفر إلا فيمن خبروا مثله صنوف الألم ومتاعب الحياة في مهد الصبا وميعت الشباب.

فلما تألق اسمه في سماء الأدب حين حظيت قصته الطويلة (الطاووس) بالرواج والذيوع، ترك هذا اللون من ألوان القصص إلى غيره مما لم يستكشف من قبل، وما أتينا على ذكره حين عرضنا لفلسفته. فلما كانت قصته الطويلة (عشيق ليدي تشاترلي)، لم يجد بداً من أن يشد رحاله بعيداً عن إنجلترا حيث اغضب الرأي العام، وابتدأ تجواله في طول الأرض وعرضها، فزار فرنسا وإيطاليا وألمانيا، واستقر به المطاف في المكسيك.

وهناك عاش ناعم الحال رضى البال يحيا لفلسفته ويعيش على كتبه، وهناك أيضاً خبر الحياة البدائية الطبيعية البعيدة عن أدران المادية والمدنية.

وصفوة القول أن لورنس كاتب شاعري النزعة يحتل مكانه في عالم الأدب بجانب أميلي بمرونتي، وتوماس هاردي وغيرهما من الكتاب الذين حاولوا أن يفهموا الحياة ككل، فلم يعرضوا لها من جانب واحد يقتلونه دراسة وبحثاً. ولئن كان لورنس قد تنكب جادة الصواب في بعض الأحيان، فله بعض العذر إذ عاش عيشة مضطربة قاسية أملت عليه ما أذاعه للرأي العام.

ومهما يكن منشيء فللورنس على القصة فضل كبير، إذ أدخل عليها الجرأة في التفكير والصراحة في التعبير.

فخري قسطندي

ليسانسيه الامتياز في الأدب الإنجليزي

ص: 15

‌الأدب في سير أعلامه:

مِلتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 8 -

إشارة في هورتون:

كان كل هذا العناء وكل هذا الكدح من اجل الشعر، فالشعر كان في قرارة نفسه لو حاول بكل ما في وسعه ألا يكون شاعرا ما استطاع. وهو يعتقد أن الله سواه ليكون شاعرا، ولذلك فهو يعلى قدر رسالته ويجعل لها شبه ما للرسالات الإلهية من سمو وخطر؛ فلا يقتصر على طلب الحكمة والوقوف على ما هو بسبب من تلك الرسالة والإفادة منه، بل يتطهر إلى جانب ذلك فينقى نفسه من كل شائبة ليكون لرسالته أهلا وليتنزل عليه نورها. ثم إنه يستغرق في حال صوفية يعدها كذلك من مكونات الشاعرية فيتقرب إلى الله ويبتهل إليه، لأنه يؤمن أن وحي الشعر يهبط من الله، يوضح ذلك قوله:(إن مثل هذا لن يصل إليه المرء إلا بالصلاة والقنوت لتلك الروح السرمدية، لله الذي يؤتي الحكمة ويهب البلاغة فيغني بهما الأنفس، ويرسل رسله بالنار المقدسة من لدن عرشه فيظهر بها روح من يشاء من عباده. ويجب أن يكون مع الصلاة قراءة مختارة في جد متصل، يصحبها تدبر يقظ، وتعمق للأعمال والمسائل ما هو خير منها وما يبدو كأنه خير. ولقد وصف ملتن مدة إقامته هذه في هورتون بقوله: (إنها سنوات كثيرة مليئة بالدراسة والتفكير، قضيت كلها في البحث عن المعرفة الدينية والمدنية).

وحق لاصحابه أن يعجبوا من صبره على المقام في الريف، وزهده في مباهج المدينة. وعجب حتى (ديوداني) من ذلك فكتب إليه يسأله عما هو فيه، فرد عليه ملتن قائلا: (لقد طالما تساءلت عما أنا في شغل به، وفيم أفكر، فاعلم أن ذلك بمعونة الله هو الخلود. وأرجو

ص: 16

أن تغفر لي هذه الكلمة فإنما اهمس بها في أذنك. اجل، إني أريش جناحي استعدادا لأن أطير فاحلق تحليقه).

وكان كتاب صاحبه هذا إليه، ورده عليه في أخريات أيامه في هورتون.

وما كان يريش جناحيه إلا ليطير في سماء عالية، ويحلق في أفاق فسيحة، فإن موضوعاً عظيماً لن يبرح يهجس قي خاطره، ولن يزال حديث نفس ومنتجع هواه؛ فأي موضوع هو ومتى ينهض له؟ ذلك ما لم يتبينه يومئذ على وجه التحديد؛ ولكن المرء يستطيع أن يستخلص من مادة دراسته من طول انكبابه عليها أنه يتأهب لرسالة عليا يتحقق له بها الخلود. ويقول الدكتور جونسون في هذا الصدد:(من هذا الذي يعد به وقد جمع فيه بين الحماسة والتقوى والتعقل يمكن أن نتوقع الفردوس المفقود).

على أنه لا يزال بينه وبين الفردوس المفقود سنوات طويلة، فماذا جرت به أراعته في هورتون، أو على الأصح ماذا تغنت به قيثارته؟

نظم ملتن ثلاث قصائد، وغنائيتين مسرحيتين أحدهما قصيرة تقرب من مائتي سطر، والأخرى طويلة نيفت على الآلف. ولئن عظمت شهرة قصيدته الكبرى (الفردوس المفقود) فيما بعد حتى بهر نورها القلوب والأبصار، وأنسى الناس هاتيك القصائد التي نظمها في هورتون، فإن جمهرة النقاد متفقون على أنه بلغ ذروة الفن في تلك القصائد الخمس، وعلى أنه لولم ينظم غيرها، لكانت كفيلة أن تحله في الصفوة المختارة من الشعراء المغنيين في العالم كله قديمه وحديثه، إن لم تجعل له موضع الصدارة بينهم أجمعين.

وقد نشرت تلك القصائد سنة 1645 بعد رحيله عن هورتون بست سنوات ومعها بعض أشعاره اللاتينية. وكان ما ذكره ملتن عنها أنها بمثابة امتحان لقدرته وأنها مقدمة بين يدي وعده فحسب، ولم يفتأ بعدها يعد بعمل خالد في دنيا الشعر دون أن يشير إلى تلك القصائد كأنه نسيها أو كأنه لا يرى فيها شيئا يحقق جانبا مما يعد به، وتكشف تلك القصائد الجميلة الخمس، فضلا عما ترى الناس من مقدرته الفنية، عن كثير من خلجات نفسه واستجابة حسه ونوازع قلبه، ومتجه فلسفته. لذلك كانت عظيمة الخطر كسجل لحقبة من حياته، أما تلك القصائد فهي (الليجرو) و (البنسروزو) و (اركاوس) و (كومس) و (ليساوس).

أما الأولى والثانية فكلتاهما تعيض الأخرى في موضوعها؛ فمعنى الليجرو في الطليانية

ص: 17

(الرجل الطروب) ومعنى البنسروزو (الرجل المتفكر). وتصف الأولى كيف يكون المرح واللهو في أحضان الطبيعة وفي زحمة المدنية، وتتصف الثانية كيف يكون التفلسف في الحياة والركون إلى العزلة، والتفكر بين الأوراق والكتب. وأما الثالثة فهي الغنائية القصيرة. وأما الرابعة فهي الغنائية الطويلة. وأما الأخيرة فهي في رثاء صديق.

افتتح ملتن قصيدته الأولى (الليجرو) بقوله (إليك عني أيها الأسى المتلكئ) ثم راح يصف الأسى فصوره في صورة مخيفة سوداء. وحسبك أن ينعته أنه يولد من احلك سواد في منتصف الليل، ومن الكلب الخرافي ذي الرؤوس الثلاثة والذيل الثعباني، ذلك الوحش الذي يقوم على حراسة إغلاق العالم السفلى؛ ويولد الأسى من هذين مجتمعين فهو ابنهما. . . ويعود الشاعر فيقول:(اذهب أيها الأسى فابحث عن مأوى لك بين الأشباح المرعبة والصراخ والمناظر الخبيثة حيث يمد الليل الكئيب جناحيه الحريصين على الظلام، وحيث تغني البومة طائر الليل هنالك تحت الظلالالسود وتحت الصخور المكتئبة المتداعية كذوائبك المهوشة. اذهب أيها الاسى، وابق أبداً في تلك الصحراء الخرافية القصية المظلمة التي ينتهي عندها العالم في الغرب على حافة المحيط).

وينتقل الشاعر بعد هذه الصورة الكريهة إلى مناجاة الفرح فيقول:

(اقبلي أيتها الآلهة الجميلة الطليقة التي سميت في السماء (أفروسين)، وسماك الناس السرور الذي يشرح الصدر؛ أنت يا من ولدتك فينوس وحملتك وأختين لك أخريين إلى با خوس؛ أنت يا من حملت بك أورورا، وهي تلاعب زفير حيث لقيها أول أيام مايو وهما يمرحان على سرر من البنفسج الأزرق والورود الجنية تفتحت لساعتها وغسلها الندى، فجئت ابنة حسناء بضة مرحة. ثم يمضي الشاعر يعرض صور المرح الذي تجلبه معها عذراء الأساطير التي يناديها، فهناك الشباب المتوثب الطروب، واللعب والبسمات العذاب، والضحك الذي يمسك جنبيه. ويعود فيهتف بتلك العذراء، ويسألها أن تسرع إليه تخطر على أطراف أصابعها مصطحبة معها عذراء الجبل، الحرية الحلوة ممسكة إياها بيمناها، ويشعر المرء بالبون العظيم بين ما سرده من صور الأسى وبين ما صوره من أشكال المرح وانماطه، ويقابل بين الناحيتين فتزداد كل منها انجلاء تلقاء الأخرى. . .)

ثم يعمد ملتن إلى فنه الذي امتاز به فيرمى في اسطر متتابعة إلى صور كثيرة متلاحقة

ص: 18

يرسلها واحدة تلو الأخرى، يريد أن يقول: إنها أطياف الفرح يوحيا إلى النفوس إذا لاذت به. وكلها مما يملأ القلوب بهجة ونشوة، (فهناك ضوء القمر في الليل الساجي وغناء القبرة ينبعث من برجها العالي في السماء، ثم صياح الديك بعد ذلك يبدد الظلام، بينما يسوق أمامه في نشاط حسانه إلى باب الحظيرة، ثم كلاب الصيد ونفيره توقظ في مرح الصباح الناعس، والشمس تنحدر من الباب الشرقي متشحة بالشعل فتبدد السحب، والحرث يصفر لحناً على مقربة من الأرض التي خططها بالأمس، وحالبة اللبن تغني طرب، والرعاة يتلو كل منهم قصته إلى جانب ألا لفاف الخضراء، والقطعان والمراعي والمروج الخضر، والجبال والنهيرات والأنهار الواسعة تجتليها العين في نظرة، والأبراج الشاهقة بين الأشجار لا يبعد أن تكون مقراً لذات حسن، فهي لذلك مهوى البصر لكل عين قريبة؛ ويتراءى غير بعيد دخان ينبعث من كوخ قائم بين شجرتين عتيقتين باسقتين من أشجار البلوط، حيث يطعم الرعاة طعامهم الشهي الريفي قدمته إليهم الراعيات، ثم انطلق النساء منهن والصبايا إلى الحصاد يحصدن الزرع ويسوينه حزماً؛ وثمة فرحة أخرى طليقة يبتعها مرأى القرى القريبة يلحن للعين على مرتفع، هنالك حيث تصلصل الأجراس المرحة تباعاً، ويغني المزمار الطروب فيشجي الفتيان والصبايا، إذ يرقصون جماعات في الظلال الرقطاء، وقد خرج الكبار والصغار يرتعون ويلعبون في يوم بطالة ضاح، ولن يزالوا في مرحهم حتى ينطوي ضوء النهار الطويل. ثم إن لهم بعده متعة في الصهباء تدار عليهم أكوابها إلى جانب الموقد، ومتعاً في حكاياتهم عن الحصاد وموسمه يقضون فيها شطراً من الليل. . .)

ولن ينسى الشاعر أن يورد صور المرح في المدينة، وقد وفاها حقها في القرية، فينتقل بخياله إلى المدن ذات الأبراج وما تزدحم به من أخلاط الناس وأنماطها، وفيهم زمر الفرسان وذوو البأس من البارونات، يتفق لهم في ملابس السلم نصر عال على أسراب الغواني، تمطر أعينهن البراقة السحر على من يبتغون الوسيلة إلى قلوبهن، ومن يرتقبون ما يجزين به اللباقة والفروسية، إذ تسعى كلتاهما جاهدة للظفر بعطف ملكة الجمال. ويستطرد ملتن في وصف متع المدينة ومباهجها، فيسوق منها صوراً متتالية كأنها صور فلم بهيج: فثمة حفلات الأعراس وإليها يشير في مهارة بذكر (هيمن) إله الزواج في

ص: 19

الأساطير الإغريق بملابسه الصفراء ومصباحه الذي يلوح به، وثمة الولائم والسوامر ومعالم الزينة تتخللها الغنائيات المسرحية بمشاهدها القديمة، كما يتخللها ما يحلم بمثله شعراء الشباب في أمسيات الصيف على ضفاف الغدران المنعزلة، يضاف إلى ذلك روعة التمثيل، فإما ملاهي بن جو نسن وإما ملاهي أحلى الشعراء فناً ولحناً ابن الخيال الساحر شكسبير يتغنى فيها بألحانه البرية الحان غابات وطنه ومشاهدها.

ويعود الشاعر في ختام قصيدته الرائعة إلى مناجاة إلهة الفرح فيسألها أن تحيطه بجو مليء بالأغاني الشعرية الجميلة التي تدرأ عن القلب الهم الذي يأكله، تلك الأغاني الرقيقة العذبة التي تتمثل في الشعر القوى الرصين يجمع بين جمال السبك ومهارته، وروعة الفن وفتنته، فيبلغ من السحر ما يحطم به ما يقيد النفس من قيود الحياة ومشاكلها فتحرمها من نشوة الموسيقى، ويبلغ من الجمال ما يوقظ به أرفيوس نفسه، فيرفع نفسه من غفوته الذهبية على سريره المتخذ من أزهار الجنة، ويستمع إلى تلك الألحان التي لو كان تغنى بمثلها لاستمال إليه أذن بلوتو. . .

تلك هي خلاصة قصيدته الأولى الليجرو، وشتان بين هذه الخلاصة في لباس النثر وفي لغة غير لغتها، وبين الأصل في لباس الشعر وفي بلاغة ملتن وبراعة فنه وروعة لحنه!

ويفتتح ملتن قصيدته (البنسروزر) بنقيض ما افتتح به قصيدته الأولى فيقول: (إليك عني أيتها المسرات الخادعة، من الحماقة وحدها ولدت بغير أب. ما اقل عودك على العقول الرزينة، وما اقل ما تبثينه فيها من ألاعيبك. . . استقرى في بعض الرؤوس الكليلة، وسيطرى على تلك المخيلات المولعة بما لا يحصى عدده من الأباطيل والمظاهر البراقة، تبلغ في كثافتها وعددها ما يبلغ الهباء المعلق في أشعة الشمس)

ويناجي الشاعر الشجن ليأتي إليه، وينعته بالحكمة والقدسية، بل يغلو فيجعله أقدس ما يلحق به التقديس؛ ويصف آلهةالشجن بأنها أعظم سناً من أن تطيقها عيوننا، وعلى ذلك فأننا نراها مجللة بالسواد، ولكن هذا السواد لن يشينها، فما أشبهها بمملكة أثيوبيا الجميلة التي غالبت في الأساطير جنيات البحر فبدنهن ملاحه وأغضبهن بذلك وأساءت إليهن.

ولا يفتأ الشاعر يدعو هذه الآلهة إليه مصطحبة من يليق من رفقة، ويضفي عليها صفات الحكمة والتؤدة والتعقل والوقار والدأب والجد، ويصورها تنقل بصرها من السماء إلى

ص: 20

الأرض متدبرة متفكرة، أما الرفقة التي تصطحب فالسلام والهدوء والصوم والعزلة والتأمل والصمت؛ ويجعل الشاعر من هذه المعاني شخصيات فيتحدث عنها ويصفها كأنما يتحدث عنأشخاص.

ويعرض الشاعر أنماطاً من الصور تناسب حالة التفكير التي يصف أو ما سماه الشجن العاقل. وبقدر ما كان في قصيدته السالفة من مرح وجلبة وفتون، تنطوي قصيدته الثانية على الوجوم والهدوء والسكون. وأكثر صوره هنا في الليل، فهو يحب أن يمد سمعه إلى صوت الكروان، ويحب أن يمشي في سكون تحت القمر حتى يبلغ في السماء أقصى ارتفاعه؛ ويحب أن يجلس في ضوء مصباحه في هدأة الليل لا يسمع إلا صوت خفرائه، فيقرأ فلسفة أفلاطون، ويقرأ الشعر والمسرحيات والقصص الرفيع. والليل هو الوقت الذي يعشق فهو قائمه كله لا يبرح مكانه حتى الصباح كما لا يبرح الرب الأكبر من النجم أفقه، فإذا كان الصباح فليكن صباحا تكتنفه الغيوم وتتناوح فيه الرياح الهوج، ويتساقط المطر؛ وإذا ما قدر للشمس أن تبدد الغيوم بعد لأي فليتوار عن ضوئها في كوخ أو في عش منعزل بين الشجر لا تقع عليه عين، وهناك فلينم حتى ينهض وفي إذنيه موسيقى حلوة من الحان جنة الغابة. وهو يحب أحيانا أن ينقل الخطاء متأملا في فناء كاتدرائية قوطة عتيقة عالية الأقواس، توحي إلى النفس ذكرى الدين، ثم يستمع إلى الأرغن، يتصاعد في الجو لحنه فيذيبه اللحن من فرط انتشاء روحه ويستنزل كل ما في السماء حتى يراه ماثل أمام عينيه. وأخيراً فما أحب إلى نفسه أن يقضى عمره في صومعة منعزلة حيث لا يبرح يطلب الحكمة ويستزيد من المعرفة مما هو بسبب من كل ما في السماء وما في الأرض، حتى تهيئ له خبرته الطويلة حالة حالا أشبه بحالة النبوة.

وتلك هي خلاصة قصيدة الثانية، وهي من حيث الأسلوب والبيان والفن الشعري كسابقتها روعة بناء وبراعة تصوير وقوة أداء وسمو فن، كما أنها مليئة كأختها بالإشارات إلى أساطير الإغريق والرومان فلا تكاد تخلو فقرة منها من إله أو آلهة. ولا يكاد يفرغ المرء من قراءة القصيدتين حتى يتبين أنهما تصفان حياة الشاعر في عزلته بهورتون، فذلك ألاليتجرو أو الفتى الطروب هو ملتن في إحدى حالاته، وذلك البنسروزو أو الفتى المتفكر هو كذلك ملتن في حالته الأخرى، وما هاتيك الصور التي صورها في القصيدتين إلا ما

ص: 21

كان يقع تحت بصره من حياة الريف ومباهجه وحياة المدينة ومساراتها، ثم ما كانت تحس نفسه من حب العزلة وطلب الحكمة والانكباب على الدرس، وما كان يهجس في خاطره من تطلع إلى الحالة كحالة النبوة.

أما من حيث الفن فقد بلغ ملتن في هاتين القصيدتين ذروة الشعر الغنائي، ولم يبلغ قبله ولا بعده من الشعراء في لغة قومه مثل ما بلغه من السمو فيهما. ولا تزال القصيدتان حتى اليوم ينظر إليهما شعراء الغناء نظرتهم إلى قمتين شامختين تطاولان النجم، وينطق سموها بالتحدي والأعجاز. ولا تجد في وصفهما أبدع مما ذكره ماكولي عنهما إذ يتعرض ليباين خصائص شعر ملتن، فعنده من أبرز خصائص قدرته على أن يؤثر في نفس قارئه بما توحي ألفاظه من صور وأخيلة وأفكار تتداعى من بعد، أكثر مما يؤثر فيها بالمعنى الذي يؤديه اللفظ، فكأنما ينتقل تأثيره إلى ذهن القارئ بهذه الصور وبهاتك الأخلية والأفكار كما تنتقل الكهرباء إلى هدفها خلال موصل. وكذلك من أشهر خصائصه جزالة اللفظ وإشراقه وجمالة وعذوبة موسيقاه وهي جميعاً أظهرا ما تكون في قصيدته السالفتين. يقول ماكولي: (لن تجد هذه الخاصة أظهر فيشيء مما كتبه ملتن منها في الاليجرو والبنسروزو، ويستحيل على المرء أن يتصور أن تبلغ الصيغة اللغوية درجة أرفع في الكمال مما بلغته فيهما. وتختلف هاتان القصيدتان عن غيرهماكما تختلف خلاصة العطر عن ماء الورد العادي، أو كما يختلف ذلك القدر الغالي من العطر الذي نعبه حريصين عليه عن ذلك السائل المائع الرقيق.

وما هما في الحقيقة بقصيدتين اكثر مما هو طوائف من التلميحات، يستطيع كل امرئ أن يتخذ من كل واحدة منهما قصيدة لنفسه، فكل تلميح وصف منها كافية لبناء مقطوعة)

ولم تخل القصيدتان من هنأت يتمسك بها النقاد، ولكنها أقل من أن تسبيهما أو تنزل بهما عن المستوى الفذ الذي بلغتاه وتحب أن نرجئ الكلام عن هذه الهنأت حتى نفرغ عن شعره كله في بهورتون ثم ننظر فيما له وما عليه.

(يتبع)

الخفيف

ص: 22

‌الإسلام والحكمة

للأستاذ عبد المتعالي الصعيدي

لا يزال هناك فريق من الناس ينفر من الحكمة وعلومها، ولا يعلمون ما للحكمة من شأن عظيم في الإسلام، وأن القرآن نوه كثيراً بشأنها، وذكر أن من فضل الله على بعض الأنبياء أنه أوتيها، وجمع بينها وبين النبوة، من أولئك الأنبياء الذين جمعوا بينهما، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفضله في ذلك يربو على الفضل كل الأنبياء. ولا غرو فهو الذي أخرج من تلك الصحراء القاحلة، أمة كانت ترتع في البداوة والجهالة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، شأن العلم عندها أرفع شأن، تحمل مصباحه بيمينها لتضئ به العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لا تبغي بذلك إلا وجه العلم، ولا تقصد من ورائه مغنما من مغانم الدنيا، ولا تجعله وسيلة لحكم الشعوب وإذلالها، ولا تحتكر لمصلحتها، ولا تكتمه عن الشعوب لئلا ينتفعوا به كما تنتفع به، وكان العلم مشاعا في عصرها بين كل الأمم، وكان العلماء في عهدها موضع التجلية على اختلاف شعوبهم وأديانهم، وكان علمهم موضوع التقدير والاحترام، وتشد إليه الرحال في سائر الأقطار، وتبذل نفائس الأموال في الحصول على كتبه من بلاد الروم، ومن بلاد غيرهم من الأمم السابقة في الحضارة، فلم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء، ولم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء والملوك، فأجتمع العلماء إخوانا في مجالس العلم، لا فرق بين مسلم ونصراني، ويهودي ومجوسي، وصائبي ووثني، وقد أزالت رابطة العلم ما بينهم من فوارق، وغمرتهم بفيض عظيم من التسامح، إذ كان شعار هذه الأمة التي جمعت بينهم، أن الحكمة ضالة المؤمن يطلبها أن وجدها، وأن العلم غاية المسلمين يطلبونه ولو بالصين، وأن فضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى رجل من المسلمين.

ولم يكن هذا كله إلا لأن القرآن الكريم رفع شأن العلم والحكمة على كل شأن، وجعل تعليم الحكمة من الأغراض التي بعث من اجلها الأنبياء، ليقضوا بها على الجهل والطغيان، ويجعلوا مقام العلماء فوق كل مقام، فتصلح الدنيا بعلمهم وحكمتهم، ويسعد الناس بهد يهم وإرشادهم.

وقد جاء تنويه القرآن الكريم بالحكمة على وجوه شتى، فمرة ينوه بشأنها في ذاتها، كما جاء

ص: 24

في الآية - 269 - من سورة البقرة (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا ألوا الألباب).

ومرة يعقد سورة باسم حكيم من الحكماء وهو لقمان بن باعورار الحكيم القديم، وقد ذكر الله في هذه السورة ممتناً ما آتاه من الحكمة، فقال في الآية - 12 - من آياتها (ولقد أتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد).

ومرة يجعل الحكمة مما تفضل به على بعض أنبيائه، فيذكر أنه تفضل بها على إبراهيم وآله، في الآية - 54 - من سورة النساء (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).

ويذكر أنه تفضل بها على داود، في الآية - 20 - من سورة ص (وشددنا ملكه وآتينا الحكمة وفصل الخطاب).

ويذكر أنه تفضل بها على عيسى ابن مريم في آيات كثيرة، فيقول في الآية - 48 - من سورة آل عمران (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) ويقول في الآية - 110 - من سورة المائدة (إذ قال يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وأذ علمتك الكتاب والحكمة) الآية.

ويذكر أنه تفضل بها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعثه في أمة أمية لينقلها بتعليم الدين والحكمة، من الأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة، فيقول في الآية - 129 - من سورة البقرة (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم) ويقول في الآية - 164 - من سورة آل عمران (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كان من قبل لفي ضلال مبين)، ويقول في الآية - 2 - من سورة الجمعة (هو الذي بعث في الأميين رسولا، منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وقد جاء بعد هذه الآية أية لها شأن نبينه فيما يأتي، وهي قوله تعالى (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم)

وقد اضطرب المفسرون في بيان معنى الحكمة اضطراباً كبيراً، فذهب فريق منهم إلى أن المراد بها السنة، وهي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب فريق منهم إلى أن

ص: 25

المراد بها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها العلم بأحكام الله تعالى، التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها منه. وذهب فريق منه إلى أن المراد بها الفصل بين الحق والباطل، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها معرفة الأحكام والقضاء، وذهب فريق منهم إلى أن بها العقل والفهم، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح.

ولقد تهيب هؤلاء المفسرون أن يحملوا الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، لأن كلمة الحكمة عند العرب ترادف كلمة الفلسفة عند اليونان، وتنطق عندهم (فيلاسوفيا) وفيلا معناها الإيثار، وسوفيا معناها الحكمة، وقد اشتق العرب من ذلك كلمة الفلسفة بمعنى الحكمة، كما اشتقوا كلمة الفيلسوف من (فيلوسوفوس) بمعنى الحكيم، وهو في الأصل بمعنى المؤثر للحكمة.

ثم جاء بعد هؤلاء المفسرين لم يتهيب ما تهيبوه، من حمل الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، فذهب إلى أن المراد بالحكمة معرفة الأشياء بحقائقها، وهو بعينه ما يقوله العلماء في تعريف الفلسفة، من أنها العلم بحقائق الأشياء بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا يكون تعليم الكتاب إشارة إلى العلوم العقلية، ويكون تعليم الحكمة إشارة إلى العلوم العقلية، وهي العلوم التي تدخل تحت كلمة الحكمة أو الفلسفة، وتشمل ما يشمله اسم الفلسفة النظرية والعلمية.

ولا يراد من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته إلا أن يهيئها له، بأن يعلمها الدين الصحيح، ويعمل على محو الأمية فيها، بتعليمها القراءة والكتابة، ويحبب إليها النظر في العلوم على اختلاف أنواعها، ويرشدها إلى الاستفادة ممن سبقها ممن الأمم إلى درس العلوم، لتبنى على أساسها، وتقوم بقسطها في النهوض بها، فتؤدي زكاة العقل في رفع منار العلم، والوصول به إلى ما تصل إليه الأمم قبلها، ولا تقف به عند الحد الذي وصل إليه قبل أن تتناوله. فلا يتم ذلك إلا بالتدريج، وهو سنة الله في الترقي والنهوض، وهذا هو الذي تشير إليه الآية السابقة في سورة الجمعة (وآخرين منهم لم يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم) فقد قيل إن المراد بالآخرين الفرس، ويؤيده ما روى عن أبي هريرة قال: كنا

ص: 26

جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال رجل: يا رسول الله، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال - وسلمان الفارسي فينا - فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، وقال: والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا، لتناوله رجال هؤلاء.

وقيل أن المراد بهم التابعيون، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي يصلى الله عليه وسلم، إلى يوم القيامة. وقد كان أن تلك الحركة العلمية الإسلامية أخذت في التدرج إلى أن دخل الفرس في الإسلام، وهم قوم لهم سابقة في العلم والحضارة، فوصلت بهم الحركة العلمية الإسلامية إلى ذروتها، ودونت عهدهم العلوم الدينية، ونقلت علوم الحكمة إلى اللغة العربية، فدرسها المسلمون، وبدوا فيها من تناولها قبلهم من السابقين، وحققوا بذلك ما وعد الله من تعليمهم الكتاب والحكمة، وما كان الله تعالى ليخلف وعده.

وما أخطأ المسلمون حين أخذوا علوم الحكمة عمن سبقهم إليها من الأولين، لأن الله قد حثنا على النظر في الآية - 185 - من سورة الأعراف (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد أقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) فهذا حث على النظر في جميع الموجدات والتأمل فيما أودعه الله فيها من عجائب وأسرار، لاستنباط العلوم والمعارف التي تدل على عظيم قدرته، وتشهد ببديع حكمته.

فإذا وجدنا نظراً لمن كان قبلنا في جميع الموجدات، ووجدنا لهم علوما تعنى ببحثها وكشف أسرارها، وجب علينا أن ننظر في تلك العلوم، وأن ننقل ما ألف فيها من كتب إلى لغتنا، لنستعين بها فيما أمرنا الله به من النظر في الموجدات، ولا نضيع زمناً في بحث ما سبقونا إلى بحثه فيها، فما كان فيها موافقاً للحق قبلناه منهم، وما كان غير موافق للحق صححناه لهم، ولا يصح أن يمنعنا خطؤهم من الانتفاع بصوابها، كما لا يصح أن يمنعنا من النظر فيها أن يضل بعضنا به، لنقص في فطرته أو لغيره ذلك من الأسباب، لأن هذا الضرر إنما يلحقها بالعرض لا بالذات، ولا يصح أن يترك ما يكون نافعاً بطبعه لضرر يوجد بالعرض فيه، وشأنها في ذلك شأن العسل، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يسبقه أخاه، فزاد إسهال به، فلما شكا ذلك إليه قال له: صدق الله وكذب بطن أخيك. يعني صدقه تعالى في قوله في الآية - 66 - من سورة النحل (يخرج من بطونها شراب

ص: 27

مختلف ألوانه فيه شفاء الناس).

وليست هذه العلوم وحدها هي التي عرض لبعض أصحابها ذلك الضرر، فقد عرض مثله لكثير من العلوم، كعلم الفقه الذي يعد من أمهات العلوم الدينية، فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه، وخوضه في الدنيا، مع أن صناعته تقتضي بالذات الفضيلة العملية.

ولقد حوى القرآن الكريم كثيراً من مسائل تلك العلوم، ولاسيما مسائل الحكمة العملية، لأن الدعوة إليها هي الأهم، أما الحكمة النظرية فليس من شأن الأنبياء تقرير مسائلها، وليس من شأن الكتب المنزلة شرح علومها، وإنما يوجه الأنبياء الناس إليها توجيها، وتشير الكتب المنزلة إلى بعض مسائلها إشارة مجملة.

وقد جاء ما يمكن أن يعد فصلا من الحكمة العملية في سورة الإسراء، وذلك من قوله تعالى في الآية - 23 - (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً) إلى قوله تعالى في الآية - 39 - (ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة، ولا تجعل مع الله إلها آخر، فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).

ولقد حوت السنة النبوية كذلك كثيرا من مسائل الحكمة العلمية، كما حوت كثيراً من مسائل الحكمة النظرية، كالطب وغيره، وكان من طبه صلى الله عليه وسلم ما يسمى الطب النبوي، وقد وضع العلماء فيه كتبا أثبتوا فيها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا العلم، وقد شهد له المقوقس أمير مصر بهذه الحكمة، وذلك حين أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه هدايا فيها طبيب، فقبل النبي صلى الله عليه هداياه، وقال الطبيب: أرجع إلى اهلك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع. وقيل إن رسول النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي قال ذلك للمقوقس، فقال له: أنت حكيم جئت من عند الحكيم.

وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حكيم يقال له الحارث ابن كلدة، رحل إلى مدرسة جند يسابور، فتلقى علوم الحكمة من الطب وغيره على فلاسفتها، ثم رجع إلى بلاد العرب فاشتغل فيها بعلاج المرضى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يأمر أصحابه بالعلاج عنده.

ص: 28

ولما فتح عمرو بن العاص مصر وجد من فلاسفتها يوحنا النحوي فقربه عمرو من مجلسه، وكان يصغي إليه ويستمع إلى حكمته، ويعجب بما يسمعه منها، ويكثر من الثناء عليه.

وكذلك فعل الملك الصالح عمر بن عبد العزيز مع حكماء عصره وكان في ذلك كله تمهيد للنهضة العملية الكبرى، التي حصلت في عهد العباسي، فزخرت بها البلاد الإسلامية علماء وحكمة، وصار المسلمون في ذلك العهد حكماء العالم، والفضل في ذلك النبي الحكيم، الذي قضى على تلك الأمية، ومهد لمن جاء بعده طريق الحكمة.

عبد المتعال الصعيدي

ص: 29

‌في كتاب البخلاء (طبعة وزارة المعارف)

لأستاذ عظيم

- 2 -

في الجزء الأول

جاء في صفحة 112: (واستلفت منه على الإسواري مائة درهم فجاءني وهو حزين منكسر فقلت له: إنما يحزن من لا يجد بدا من أسلاف الصديق، مخافة أن لا يرجع إليه ماله، ولا يعد ذلك هبة منه، أو رجل يخاف الشكية، فهو إن لم يسلف كرما أسلف خوفا) قال الشارحان في قوله: ولا يعد الخ، الواو للحال والجملة حال من فاعل يرجع، أي غير حاسب أن ذلك المال الذي استلفه هبة بل كأنه حق له لا يرد.

وأقول إن هذا تعقيد في الإعراب وفي التفسير إذا أخذنا عبارة المتن كما هي، إذ يكون المتعين فيها اعتبار جملة (ولا يعد ذلك) حالا من فاعل (يجد) أو من فاعل (أسلاف) الذي هو نفسه فاعل يجد، وإذن فالمعنى أن الذي يحزن إنما هو الرجل الذي يضطر إلى أن يعطي الصديق سلفة غير عاد إياها هبة. أما إذا أريد جعل جملة (ولا يعد الخ) حالا من فاعل (يرجع) كما يقول الشارحان فلابد من حذف حرف النفي (لا) قبل (يعد) ويكون المعنى: مخافة أن يمسك المستلف عن رجع السلفة عادا إياها هبة.

وفضلا عن هذه الصورة الثانية التي تقتضي حذف لا مع بقاء (يعد) مرفوعا ليستقيم تفسير الشارحين يجوز مع حذف لا أيضاً أن ينصب هذا الفعل بالعطف على يرجع.

وجاء في صفحة 114: (وكان يقول: اشتهى اللحم الذي قد تهرأ، واشتهى أيضاً الذي فيه بعضالصلابة. وقلت له مرة: ما أشبهك بالذي قال اشتهى لحم دجاجتين) وقال الشارحان في تفسير قوله (وقلت له مرة) أي لما قال اشتهى اللحم الخ. كان مقتضى الظاهر أن يقول: فقلت له الخ.

وأقول إنما يصح الاعتراض لو كان الجاحظ ذكر أن ذلك البخيل (قال) أو (قال مرة)؛ أما وقد ذكر أنه (كان يقول) فمعنى هذا أن قول البخيل تكرر مرارا، فالجاحظ أجابه على مرة منها.

ص: 30

وجاء في صفحة120: (ثم قال خالد هاأنذا مبتلى بالمضغ، ومحمول على تحريك اللحيين، ومضطر إلى مناسبة البهائم، ومحتمل ما في ذلك من السخف والعجز. ما أبالي! احتملته فيمن ليس لي منه بد، ولي عنه مذهب) وقال الشارحان: وقوله فيمن ليس لي منه بد الخ، أي في مؤاكلة من لا فرار من مؤاكلته كأولادي وأهل بيتي. وفي النسخ التي بين أيدينا:(فيمن لي منه بد، ولي عنه مذهب) وهو تحريف ظاهر لا يلائم السياق، ولاسيما أن بد لا يعرف استعمالها إلا مقرونة بالنفي.

وأقول أن هذه العبارة التي في النسخ الأخرى لا يمكن أن تكون صحيحة حتى على فرض أن كلمة بد يجوز استعمالها بغير نفي؛ ذلك لأن المعنى يكون مكرر في عبارتين تكريرا سخيفا لا يقبله الجاحظ ولا خالد القسري الذي يدعي الرواية عنه. والذي عندي أن الجاحظ يكون قد أراد أنه أحتمل ذلك المظهر السخيف في الأكل سواء مع أهل بيته الذين لا يستطيع التواري منهم ولا يخشى نقدهم إياه، أو مع أضيافه الغرباء الذين يستطيع التواري منهم فيأمن شر نقدهم. وعلى هذا تريد المستوفي لأوضاع الصورة المتعين في هذا المقام تكون جملة الجاحظ هي:(ما أبالي احتملته فيمن ليس لي منه بد، أو فيمن لي عنه مذهب) وذلك بهمزة الاستفهام وأم التي للتسوية. ويصح أن تكون الجملة تقريرية إثباتية منفصلة عن (ما أبالي) فتكون صحتها: (احتملته فيمن ليس لي منه بد، فيمن لي عنه مذهب) بإضافة كلمة فيمن في الفقرة الثانية، ليستقيم الوضع العربي.

وجاء في صفحة 132: (وقيل له أيضا: فكيف سخاؤه على الخبز خاصة؟ قال: والله لو ألقي إليه من الطعام بقدر ما إذا حبس نزف السحاب ما تجافه عن رغيف) وقال الشارحان في تفسير ذلك: لو ألقي الخ، هكذا في نسخة الشنقيطي. والطعام البر بضم الباء. أي لو أعطى من الطعام مقدارا لو جعل كومة واحدة فارتفعت حتى وصلت إلى السحاب، فمنعت ماءه من أن يصل إلى الأرض ما تجافى الخ.

وأقول: إن العبارة محرفة وإن التفسير تعسفي لوروده على أصل غير صحيح، والأصل كما أرى هو:(بقدر ما إذا يبس نزف السحاب)، أي لو أن الله رزقه من الأرغفة بمقدار لو يبس لنزف ماء السحاب وتشربه، لما نزل منه عن رغيف. وهذا كناية عن البخل البالغ درجة لا يتصور وقوعها العقل. ويلاحظ أن قوله ما تجافى عن رغيف يفيد أن الطعام هنا

ص: 31

ليس هو البر بل هذا الخبز ورغفانه.

وجاء في الصفحة157: (وأنتم أيضاً إنما اكتريتم مستغلات غيرنا بأكثر مما اكتريتموها، فسيروا فينا كسيرتكم فيهم، وأعطونا من أنفسكم مثلما تريدونه منا)، وقال الشرحان: إذا رجعنا إلى نسخة ليدن وجدنا هناك اضطراباً في الضمائر لا يفهم منه معنا. لذلك وضعنا (غيرنا) بدل (غيركم) و (منا) بدل (منه) و (منا) بدل (منهم)، وهذا ما نصه الوضع الأصلي.

والذي أراه أن العلة في هذا الغموض هو تصحيف وقع في كلمة (أكريتم) فسارت (اكتريتم). فإذا أصلحنا هذه الكلمة وحدها استقامت العبارة بدون احتياج لكل التغيرات التي لجأ إليها الشارحان؛ إذ يكون المعنى: إنكم أيها المستأجرون قد أكريتم أي أجرتم من باطنكم مستغلات مملوكة لغيركم بأجرة تزيد على الأجرة التي استأجرتم بها من أصحاب الملك، وأنتم لا تجدون على أنفسكم حرجا من اقتضاء هذه الأجرة الزائدة من المستأجرين من باطنكم، فسيروا فينا كسيرتكم في هؤلاء المستأجرين من باطنكم وأعطونا من أنفسكم مثل ما تريدونه منها.

كل ما قد يتعرض به على هذا التفسير أن أولئك المستأجرين من الباطن لم يذكروا في العبارة حتى يعود عليهم الضمير في كلمتي فيهم ومنهم - ولكن وجودهم مفهوم حتما من سياق العبارة. وكأن الوضع إشارة إلى هذا باستعمال كلمة غير على لفضها المفرد وإعادة الضمير عليها في (منه) بصيغة المفرد، ولو كان الضميران في فيهم ومنه عائدين على (غير) لراعى النسق وجعلهما هاء فقط.

وجاء في صفحة 161: (وليس كل خرق يرقع، ولا كل خارج يرجع) والأشكال (يرجع).

وجاء في صفحة168: (فإن للنفس عند كل طارف نزوة، وعند كل هاجم نزوة). وقال الشارحان: لعلها نزرة، مصدر للوحدة من نزره إذا استعجله وألح عليه، لأننا نستبعد على الجاحظ مثل هذا التكرار.

وأرى أن صواب الكلمة (بزوه) من بزا عليه يبزوا بزوا تطاول. وبزاه وأبزه وابزى به: قهره وقوى عليه.

وجاء في صفحة 171: (وأنت لم تنفق الحرائب، وتبذل المصون، إلا وأنت راغب في

ص: 32

الذكر والشكر، وإلا لتخزن الأجر. . .) وقال الشارحان: وأنت لم تنفق الخ، في النسخة (لو لم) ونعتقد أن لو مقحمة من النساخ كما هو ظاهر. وأنا أعتقد أن كلمة (لو) ضرورية. ويلوح لي أن السبب في قول الشارحين إنها مقحمة من النساخ هو أنهما قرآ هذه الجملة مفصولة من جواب الشرط، وهو قول الجاحظ في أول الصفحة التالية:(فقد سرنا لقلة عدد خبزك الخ).

وجاء في صفحة 174: (فاحسب أن البخل عليهم غالب، وأن الضعف لهم شامل، وأن سوء الظن يسرع إليهم خاصة، ثم لا تداوي هذا الأمر بما لا مؤنه فيه؟)

وقال الشارحان: فاحسب أن الخ: أي هب البخل غالباً عليه الخ، وقوله:(البخل) أي فكرة الحكم عليك بالبخل ويجوز أن تكون كلمة البخل محرفة عن الخجل.

وعندي أن كلمة البخل محرفة عن (التجني) المذكورة في السطر السابع من صفحة 173، وبها يستقيم المعنى لا بهذا التخليط، وأرى أن كلمة (ثم) في الجملة محرفة عن (فلم؟).

وجاء في الصفحة 177: (قلت هذا ما لاشك فيه، وقد علمت عندي بالصواب، وأخذت لنفسك بالثقة، إن وفيت بهذا القول) وأنا أظن أن (علمت) محرفة عن (عملت) وهي وما بعدها جواب الشرط الأتي في قوله: إن وفيت بهذا القول؛ لأنه لا محل لقوله علمت بعد قوله هذا ما لا شك فيه. وما أتى به في الشرح سهو ظاهر

(له بقية)

ص: 33

‌قصة الذرة

للأستاذ فوزي الشتوي

دوى اكتشاف آل كوري في العالم أجمع خواص الراديوم العجيبة الغريبة، وخلق مجالي حديث وبحث واسعي النطاق؛ فاحتضنه الأطباء لعلاج الأمراض المستعصية مثل السرطان، ولكنه أوجد صداعا دائما لعلماء العلوم الطبيعية الذين يريدون تفسير ظواهره وخواص وسر إشعاعاته وقوته البالغة.

أحسوا أن كل علومهم عن الطبيعية والمادة معلومات قليلة القيمة لا تزال في مهدها. فلم يعد أي عالم يستطيع الجهر بأنه يدرك شيئا عن سر المادة. فهل الذرة وحدة صماء لا تنقسم أم هي عالم آخر غير العالم الذي أدركوه وفكرة أخرى غير التفكير والمنطق الذي ساورا على هديه كل تلك السنين؟

وكان المعروف في أواخر القرن الماضي أن عناصر تتألف من سبعين عنصرا - وقد زادت الآن إلى 93 - مثل الأوكسجين والحديد والذهب وغيرها. فهل هذه العناصر هي الوحدات التي تتركب منها مواد الكون؟ أم أن الطبيعة تحتفظ بسر مازال مجهولا؟

كانت ظاهرة الإشعاع في الواقع أمراً يستدعي كثيراً من العلم والتجربة لتفسير خفاياها. وأحس العالم بحاجته الماسة إلى تجارب عظيمة متشبعة ليكشف نواحي الغموض التي تحيط بالإشعاع. فاندفاع العلماء بكل نشاط في هذا السبيل فخدمتهم المصادفة مرة وخدمتهم علومهم أخرى فتكللت أبحاثهم بالنجاح.

الذرة المعقدة

ولم يمضي وقت طويل حتى انغمر في أبحاث الذرة. فحتى تلك اللحظة كان العلماء يعتقدون أن الذرة أصغر الجسيمات فأثبتت أشعة إكس المجهولة، والنشاط الإشعاعي أن الذرة بناء شديد التعقيد مؤلف من جسيمات أصغر. وكان أول رواد هذا البحث السير تومسون أستاذ العلوم الطبيعية في كامبردج بإنجلترا. ولم يقتصر عمله على الأبحاث والنتائج التي وصل إليها بنفسه بل درب فريقا من الشبان ليواصلوا العمل وحدهم، ويكتسبوا الشهرة الدولية. ومنهم السير ارنست رذرفورد والبروفيسور ولسن والبروفيسور لنجفين الفرنسي.

ص: 34

بدأ تومسون تجاربه على أشعة إكس (المجهولة) ولكنه احتاج أن يعود إلى تجارب كروكس وأنبوبتا. وأنت تذكر أن سيالها الكهربائي كان ينحرف بالمغناطيس كما تذكر أن كروكس أطلق على الأشعة حالة رابعة للمادة سماها حالة الإشعاع. وقد أثبت تومسون أن دقائق هذه الأشعة أصغر من الذرة وسماها جسيمة ولكن العلماء أطلقوا عليها فيما بعد اسم الكهرب أي وحدة الكهرباء.

والمعرف أن الإيدروجين هو أخف العناصر الكيماوية، وأن ذرته هي أخف الذرات، وقد أدت تجارب تومسون إلى حقيقة غريبة محيرة؛ فإنه أثبت أن وزن كهربها يساوي واحد إلى 1800 من وزن ذرة الإيدروجين. فكان هذا الكشف أول فتح في مجاهل تركيب الذرة وبنائها. فمم يتألف باقي تكوينها؟

من الحقائق التي يسهل استنتاجها أن تلك الكهارب سالبة

الشحنة الكهربائية لأنها منبعثة من مهبط كروكس السالب.

وليس من شك أن الشحنة الكهربائية السالبة تحتاج إلى شحنة

موجبة تعادلها. فإن المواد في حالتها الطبيعية الساكنة يجب أن

تكون متعادلة الشحنات الكهربائية ولهذا استولى الشك فترة

على العلماء في حقيقة كشفهم للكهارب السالبة. ولكنهم لم

ييأسوا بل استمروا في طريقهم حتى يثبت ما يلغي نظريتهم

الأولى أو تستقر بكشف باقي تكوين الذرة. ألف باء الذرة

ولم تمض حتى وفق أنست رذرفورد أحد تلاميذ تومسون ومساعديه إلى تفسير معقول. فأجرى مجموعة كبيرة من التجارب البارعة لتحليل الأشعة المنبعثة من عنصر الراديوم. ومنها أثبت أنها تتألف من ثلاثة أنواع سماها على حروف الهجاء اليونانية وأولها ألفا والثانية بتا والثالثة جاما

وكانت طريقة التحليل بسيطة ولكنها كانت من أهم الأسباب في ذيوع اسم رذرفورد وأهلته

ص: 35

فيما بعد لأن يحتل مركز أستاذه تومسون. وقد ذكرنا من قبل أن العلماء عرفوا ناحية واحدة من بناء الذرة وهي الكهارب السالبة التي يتحتم أن تتعادل بكهارب موجبة فأين هي هذه الكهارب الموجبة؟

فلو أتيت بكتلة من رصاص بها جحر عميق، ووضعت في هذا الجحر قطعة راديوم فإن الأشعة تخرج من الجحر مستقيمة ولكنك لو مررتها في مجال مغناطيسي فإنها تنقسم إلى ثلاث شعب تنحرف إحداها إلى اليمين، والثانية إلى اليسار، بينما يسير الثالثة في حط مستقيم. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن ندرك أن الأشعتين اللتين تنافرتا مختلفتا الشحنة. وقد سميت الموجبة منها بأشعة ألفا بينما سميت السالبة بأشعة بتا، أما الأشعة المتعادلة فأطلقوا عليها اسم جاما.

وثبت أن أشعتي ألفا وبتا تتألفان من جسيمات صغيرة تحمل الشحنات الكهربائية ولكن أشعة جاما ليست مكهربة وهي عبارة عن إشعاعات ضوئية وإن اختلفت عن أضوائنا الكهربائية في قصر موجتها.

وأثبت رذفورد أن أشعة جاما تشبه أشعة إكس في موجتها ولكنها اقصر، أما أشعة ألفا فقد بهرته كما بهرت العالم فقد وجدها ذات شحنة كهربائية موجبة. وكانت أثقل في الوزن من أشعة بتتا السالبة كما أن سرعتها المتدرجة الزيادة كانت أقل منها، وقد قاس رذرفورد سرعة هذه الأشعة فوجدها تنطلق بسرعة عشرين ألف ميل في الثانية.

حجر الفلاسفة يتحقق

واستولت الدهشة على رذرفورد حين حلل أشعة ألفا بالمرقب الطيفي فإنه وجدها تتحول إلى غاز هليوم. وبمعنى آخر إن ذرات الراديوم تفرز ذرات هليوم، وكان الكشف غريبا. ولكن ميوله كان أغرب فقد انتقل إلى التجارب على اليورانيوم فوجد أن استخلاص أشعة ألفا وبتا منه تحولانه بالتدريج إلى مادة أخف في وزنها الذري ثم تصبح راديوم فإذا والينا استخلاص الأشعتين منه تحول إلى معدن الرصاص. وبهذا الكشف تحقق حلم الأقدمين في تحويل المعادن إلى بعضها البعض، فقد كانوا يطمعون في تحويل المعادن الحسيسة مثل الرصاص والحديد إلى ذهب وفضة من المعادن الثمينة. وقد حقق رذرفورد حلمهم، ولكن بالعكس، فاكتشف أن اليورانيوم والراديوم يتحولان إلى هيليوم ورصاص.

ص: 36

وبهذا الكشف وضع رذرفورد العالم على المفتاح الذي أتاح للعالم اختراع القنبلة الذرية، والذي يرجى بعده استغلال الطاقة الذرية. ومن يدري، فمجال التكهن واسع الآفاق لم يعده قبلة من نهاية ولا مستحيل!

فوزي الشتوي

ص: 37

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

702 -

هكذا هي النفوس البشرية

قال أبو القاسم السلوى الفخار: دخل علينا شيخنا الإبل يوما وأنا أعجن طين الفخار، فقال لي: ما علامة قبول هذه المادة اكمل صورة ترد عليها؟ فقلت أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره، فأدركه وجد عظيم حتى إنه صاح وقام وقعد، وبقى هنيات مطرقا برأسه مفكراً ثم قال: هكذا هي النفوس البشرية.

703 -

قضيب البان الموصلي

في (تاريخ ابن الوردي): عزم قاضي الموصل أن يقول للسلطان في إخراج قضيب البان من الموصل. قال: فرأيت قضيب البان مقبلا على هيئته المعروفة، فمشى خطوة فإذا هو على هيئة كردي. . . ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة بدوي. . . ثم مشى خطوة فإذا هو على هيئة فقيه. . . بصورة غير الصورة المتقدمة، وقال لي: يا قاضي، هذه أربع صور رأيتهن، فمن هو قضيب البان منهن حتى تقول للسلطان في إخراجه؟ فلم أتمالك أن أقبلت على يديه أقبلهما.

704 -

اكتف بالبلاغة. . .

كتب عبد الله زياد الحارثي إلى المنصور رقعة بليغة يستميحه فيها فوقع عليها: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا لرجل أبطراه، وإن أمير المؤمنين مشفق عليك فاكتف بالبلاغة. . .

705 -

بأي ذنب نتفت

كان بلال بن أبي بردة لا يجيز شهادة من ينتف لحيته أو يأكل الطين. قال أبن طباطبا في بعض من كان ينتفها:

يا من يزيل خلة

الرحمن عما خُلقت

هل لك عذر عنده

إذا الوحوش حشرت

في لحية إن سئلت

بأي ذنب نتفت

706 -

أسم ممدود وجمعه مفصور

ص: 38

في (بغية الوعاة) للسيوطي: هذه فائدة رأيت ألا أخلى منها هذا الكتاب: رأيت في تاريخ حلب لابن العديم بخطه قال: رأيت جزء من آمالي أبن خالويه: سأل سيف الدولة بحضرته ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا، فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟ قلت: أنا أعرف اسمين، قال: ما هما؟ قلت: لا أقول لك إلا بألف درهم لئلا تؤخذ بلا شكر، وهما صحراء وصحاري وعذراء وعذارى. فلما كان بعد شهر أصبت حرفين آخرين ذكرهما الجرمي في كتاب التنويه وهما: صلفاء وصلافي (وهي الأرض الغليظة) وخبراء وخبارى (وهي أرض فيها ندوة). ثم بعد عشرين سنة وجدت حرفا خامسا ذكره أبن دريد في الجمهرة وهو سبتاء وسباتي (وهي الأرض الخشنة).

707 -

ما رأيت رهنا مثله قط

تقدم رجل إلى بقال يسأله شيئا، فامتنع، فدنا منه فسار فدفعه إليه. فقيل له ما قال لك؟ قال: رهننا طلاق امرأته (وذلك أنه حلف بالطلاق أنه يرده غدا).

فقال بعضهم: ما رأيت رهنا مثله قط.

708 -

ولا قاص فأقضى ولا زوج فأرضي

قال أبو العباس الحضري: كنت جالسا عند أبي بكر محمد ابن داود (الظاهري صاحب كتاب الزهرة) فجاءته امرأة فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها؟ فقال: اختلف في ذلك أهل العلم، فقال قائلون: تؤمر بالصبر والاحتساب، ويبعث على التطلب والاكتساب.

وقال قائلون: يؤمر بالإنفاق، وإلا يحمل على الطلاق.

فلم تفهم قوله وأعادت مسألته، وقالت له: رجل زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها.

فقال: يا هذه، قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبتك، ولست بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي. انصرفي رحمك الله. فانصرفت المرأة ولم تفهم جوابه.

709 -

وأبناء اليهود

قال الصفدي: كان أبو البركات بن ملكا يهوديا وأسلم، وكان كثيراً ما يعلن اليهود قال مرة بحضور ابن التلميذ: لعن الله اليهود.

ص: 39

فقال: نعم وأبناء اليهود.

فوجم أبو البركات لذلك وعرف أنه عناه.

710 -

طبيب. . .

في (شذرات الذهب): قال أبن حجر: كان علاء الدين على بن نجم الدين - رئيس الأطباء بالديار المصرية - فاضلا مفتنا، وكان ذا حدس صائب جدا، يحفظ عنه المصريون أشياء كثيرة، وكان له مال قدر خمسة آلاف دينار قد أفرده للقرض، فكان يقرض من يحتاج من غير استفضال بل ابتغاء الثواب. قال المقريزي: كان يصف الدواء للموسر بأربعين ألفا، ويصف الدواء في ذلك الداء بعينه للمعسر بفلس.

711 ـ فعند بسط الموالي يحفظ الأدب

قال الحسن بن وهب لرجل رآه يعبس عند الشراب: ما أنصفتها، تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها!

إذا ذاقها وهي الحياة رأيته

يعبس تعبيس المقدم للقتل

وقد أحسن الشيخ صدر الدين حيث قال:

إذا أقطب وجهي حين تبسم لي

فعند بسط الموالي يحفظ الأدب

712 -

السكر، السكران

السكر مازال معه العقل حتى لا يفرق بين السماء والأرض، ولا بين الطول والعرض.

وقيل هو أن يجمع بين اضطراب الكلام فهما وافهما، وبين اضطراب الحركة مشيا وقياما.

ويحكي أنه لما جلس أبو بكر محمد بن أبي داود الأصفهاني الظاهري بعد أبيه يفتى استصغره فدسوا أليه رجلا وقالوا له سله متى يكون الرجل سكران؛ فسأله الرجل فقال: إذا عرت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم. فعلم بهذا الجواب موضعه من العلم. قيل للأمام أحمد بن حبل بماذا يعلم الرجل أنه سكران؟ فقال: إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره. ونعله من نعل غيره.

ص: 40

‌نجاة الربان

بمناسبة افتتاح مسجد (القصاصين) الذي أنشأته وزارة الأوقاف

تذكارا لنجاة صاحب لجلالة الملك.

للأستاذ كامل كيلاني

فاروقُ يا نورَ اليقين

ويا مَنارَ العاملينْ

يا بَسْمَةَ الأَيامِ وال

آمالِ والفوز المبين

يا باعثَ النَّهضاتِ يا

وَحْيَ الهُداة المصْلِحينْ

يا غُرِّةَ الأجيالِ مُشْ

رِقَةً على طولِ السِّنين

يا جَنْةَ الوادي الخصي

بِ وحارسَ الوادي الأمين

يا فَرحَةَ الإقبالِ وال

إِسْعادِ للعانِي الحزين

يا معْقِدَ الأَمَلِ الكريمِ

وَمَعْقِلَ الفضلِ الحصين

وملاذَ مَوْهُوبينَ تَحْ

فِزُهم لشأوِ الخالدين

بكريمِ صُنْعِكَ مقتدينْ

وبنور رأيك مُهْتدين

هَتفُوا بفاروقِ وغَنَّوْا

- حين غَنَّوْا - صادِقين

عَرَفُوكَ رائدَهُم وَأَنْ

تَ لِكُلِّ توفيق ضَمين

ألطافُ بِرِّكَ جَمَّةٌ

مَوْفُورَةٌ للعائذين

الجهلُ قد حارَبْتَهُ

والفقرُ والداءُ الدَّفين

بِحُامِ رأْيٍ حاسمٍ

وقَناةِ عَزْمٍ لا تَلِينْ

تأسُو بيُمناكَ العليلَ

وتمْسَحُ الدَّمْعَ الهَتُون

طَلْقَ المحَيَّا، نافِذَ

اللَّمحات، وضَّاحَ الجبين

نُوراً يُشِعُّ سَعادة

في قَلْبِ مَكْلُومٍ حزين

نجَّاكَ يا فاروقُ ما

يسّرْت مِنْ خفْضٍ ولين

نجَّاكَ أَمْنُ اللهِ، يا

أَمنَ الضِّعافِ الخائفين

وحَباكَ باللُّطْفِ اللطيفُ،

كما حَبَوْت القاصدين

ص: 41

كَفَّاكَ أَمْسَكتا بحَب

ل من عِنايتِهِ متين

للبِرِّ أنت نجَوتَ وال

إحْسان في دنيا ودين

نجاك بِرُّكَ بالضعيفِ،

وذاك أَجْر المحسنين

واتاكَ غَوْثُ اللهِ، يا

غوثَ اليتامَى المعُوزين

وصَنَائعُ المعروفِ تِنْ

جِي رَبَّها في كلِّ حين

نجَت الكِنَانةُ والعُرو

بَة إِذْ نجا حامي العرين

اللهِ نجاهُ فَنَجَّى

رُكْنَ نَهْضَتِنا الرّكين

إِنَّ السَّفينَ إذا نجا

رُبَّانُها نجَتِ السَّفينْ

أَبْدَعتَ في التَّعْبِير فَناًّ

رائعاً لِلمُبْدِعين

أَوْدَعْتَ شُكْرَ الله أُسْ

لُوبَ الملوكِ الصالحين

أُسلوبَ عرْفانِ الجميلِ:

جميلِ رَبِّ العالَمين

ونَظَمتَ في مَعْناهُ بَيْ

تاً عامِراً بالمؤْمنين

بيْتاً على التَّقْوى يؤَسَ

سُ آَيَةً للشَّاكرين

يَدْعُونَ للفاروق

فيه دَعْوَةَ المتَبَتِّلين

فُيُرَدِّدُ الدعواتِ أَمْ

لاكُ السَّماءِ مْؤَمُّنِينْ

ص: 42

‌وهم.

. .

للأستاذ عبد الرحمن صدقي

لقد ثار بي - مُذْ أَنْ طَفِئْتِ - التوهُّمُ

وقَرَّ بنفسي أَنَّ قّتْلِى مُحَتَّمُ

وأَنَّكَ قد عُوِجلتِ قبلَي رحمةً

من القَدَر الجارى، ومثلُك يُرْحَم

لقد شاء أن يُعْفِيك من هول مصرعي

أُوافيكِ مَحْمُولاً يُضَرِّجُني الدم

وبات يقيني أنَّ قتليَ واقعٌ

وإني له المستنظِرُ المتوسِّم

قضيتُ الليالي بعد موتك مُوجِساً

كما أَوْجس الَقتل الشريدُ المجَرِّم

أعيش وهذا مصرعي مِلءُ خاطري

منَ الوهم مرفوعٌ لعين مجسَّم

تُرَوْعني منه على الوهم مِيتةٌ

ممزَّقةٌ شوهاءُ حمراءُ عَندّم

وتمتدّ أيامي فاخطب وُدَّه

واركب مَتْنَ الليل أيْهَمُ

تدبّ بجسمي هِزِّةُ الرَوْع والرضا

إذا خِلْتُ أنَّ الهولَ آتٍ مُيَمِّم

يُسَكن نفسي أَنْ تَحقق حَدْسُها

وتَذكرُ ما أُعْفيت منه فتَبْسم

وينجاب ليلى لم يُضَرَّجْ بمَقْتَلي

أَلا انه الوهمُ الكذوب المخيِّم

فكيف أُعَزَي النفس عنك مُعَلِّلاً

وكلُّ تَعِلاّتي حديثُ مُرَجَّم

عبد الرحمن الصدقي

ص: 43

‌البريد الأدبي

إلى الأستاذ محمود أبو ريه:

في الصفحة 607 - 608 من كتاب (عمر بن الخطاب) تأليف الأخوين: علي وناجي الطنطاوي، محاولة تحقيق قضائي في مقتل عمر رضي الله عنه، فيه إدانة لكعب الأحبار وبيان لشركائه، فيا حبذا لو اطلعت عليه واتممت هذه المحاولة، وأكملت التحقيق، ومهدت ل (الحكم).

(دمشق)

ابن مصطفى

هما لعروة بن اذينة:

في عدد الرسالة 665 لاحظ فاثر الاديب ابراهيم الترزي نسبة

البيتين. قالت:

(وأبثتها وجدي فبحت به)

قد كنت عندي تحب الستر فاستتر

الست تبصر من حولي؟ فقلت لها

غطى هواك وما ألقى على بصري

لعمر بن ربيعة. والبيتان لعروة بن اذينة كما قال الاستاذ الالمع الطنطاوي في (غزل الفقهاء). ففي الشعر والشعراء والاغاني ج21 ساسي، والأمالي للقالي ج2 ص110 طبع الدار وسمط اللآلى ج1 ص137، والتنبيه على أوهام القالي ص27، وأمالي المرتضي ج2 ص73 مقنع أي مقنع.

محمد الطنطاوي

مدرس بكلية اللغة العربية

ذخائر الأدب العربي في العراق:

نوهت مجلة (الرسالة) الغراء بعددها (663) في حقل (البريد الأدبي) بان اللجنة الثقافية للجامعة العربية بحثت في جلستها الأخيرة مشروع إنشاء معهد لإحياء المخطوطات العربية

ص: 44

الموجودة في العالم، وتصوير أقيمها وأفيدها ووضعها تحت تصرف العلماء والباحثين والناشرين في أطراف العالم؛ لضمان الوصول إلى كنوز الفكر العربي وحفظ تراثه الموجود من الضياع والتشتت.

وقد تذكرت - لدى قراءة هذا النبأ - مئات المخطوطات العربية المكدسة في العراق، وبخاصة في النجف وكربلاء والحلة، وفي بعض المكتبات الخاصة الشهيرة في بغداد والكاظمية، وفي مكتبات الجوامع، وجميعها لا تزال مخطوطة لفحول علماء وأباء العربية والتي تتناول مختلف المواضيع والأبحاث العلمية والأدبية والفلسفية، وهذه المخطوطات لا تزال للآن ومنذ مئات السنين تعبث بها البلي بدون أن يقيض لها من يعيدها إلى الحياة، ويعمم فائدتها على اللغة العربية، وذلك لعدم وجود الناشر والمطبعة أولا، وللكسل المستولي على من يملك الذخائر النفسية ثانيا.

فحبذا لو توسطت اللجنة الثقافية في الجامعة العربية لدى وزارة المعارف العراقية لجمع هذه المخطوطات النفسية وإرسالها أليها لفحصها ومعرفة قيمتها الأدبية، وتقدير فائدة تصويرها ونشرها، ولا يكلف هذا العمل سوى تشكيل لجنة من بعض ذوي الاختصاص والمعرفة لجمع الذخائر من أماكنها المختلفة في العراق فتسدي بذلك خدمة جليلة لإدبنا العربي، وتحيي في الوقت نفسه هذه المخطوطات العربية وتنشر منها ما كان ذا فائدة وأهمية في الحاضر.

(بغداد)

مهدي القزاز

جامعة أدباء العروبة:

ألف فريق من رجال الأدب والفكر في العالم العربي جمعية باسم (جامعة أدباء العروبة) تهدف إلى دعم الصلات الثقافية بين أبناء العروبة في سائر أقطارها، واستقلال الفكر العربي بخصائصه ومميزاته وتوحيد الأهداف والمثل العليا للجامعة العربية.

وقد تم تأليفها بالقاهرة على أن يكون لها فروع في البلاد العربية.

وقد عقدة الجمعية العمومية جلستها الأولى في مساء الأربعاء الماضي بمقر الجامعة (196

ص: 45

شارع محمد علي) وتكونت هيئة المكتب من حضرة صاحب المعالي دسوقي اباظه باشا رئيسا، وحضرات الأساتذة الدكتور محمد وصفي نائبا للرئيس والدكتور إبراهيم ناجي وعادل الغضبان والدكتور فخر الدين السبكي ومحمد مصطفى حمام وكلاء، وطه عبد الباقي سرور سكرتيرا عاما، وجميلة العلايلي أمينة صندوق، وعباس حسن خضر، وعلى توفيق حجاج وعبد الله شمس الدين ويسن شاكر المهندس مراقبين. وتألفت الهيئة الاستشارية من الأساتذة الدكتور إسماعيل حسين وحسين منير وعبد العزيز الاسلامبولي واحمد عبد المجيد الغزالي.

طه عبد الباقي سرور

السكرتير العام

تاريخ بناء جامع نور الدين في الموصل:

اطلعت على ما كتبه الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد 662 من هذه المجلة (ص273) بشان تاريخ جامع نور الدين ورد مغلوطا في مقالي المنشور في مجلة سومر (ج1، م2) فأقول أن التاريخ المذكور هو 568، وقد وقع الغلط على يد صفاف الحروف.

ولم يكن هذا الغلط الوحيد فقد وقع في المقال المذكور أغلاط مطبعية جمة، وكنت قد أرسلت جدولا في تصحيحها إلى مديرية الآثار القديمة في بغداد، ورجوته أن يدرج في العدد القادم من مجلة سومر.

آما الجامع النوري فقد هدم من أساسه، وبوشر بإنشائه من جديد.

(الموصل)

الدكتور داود الجلبي

ص: 46

‌قصص فرعونية:

3 -

قصة سينوحيت

لأديب مصري قديم

للأستاذ محمد خليفة التونسي

(ملخص ما نشر في العددين 663و666)

(أشرك ملك مصر أمنحت الأول قبل وفاته بعشر سنوات، أبنه وولي عهده أسرتن الأول في حكم مصر، وكان أسرتن يقوم بقيادة الجيوش في حملاته على البلاد الخارجية، بينما يبقى أبوه في العاصمة لتدبير شؤون مصر.

(في إحدى حملات أسرتين على ليبيا كان يرافقه بطل القصة سينوحيت الذي كان حافظ أختام الملك ونديمه ومستشاره والقيم على شؤون الغرباء في مملكته، وبينما الجيش عائد إلى العاصمة من الغرب جاء رسول من القصر إلى أسرتن ينعى أليه أباه سرا، وسمع سينوحيت بنعيه فقرر الفرار من الجيش ومصر جميعا لا نه رأى في مصر خطرا على حياته، بعد موت أمنحت واستداد أسرتين بالآمر فيها، فاختفى في أحد الحقول حتى مر الجيش على مكمنه دون أن يراه أحد، ثم سار إلى سنفرو وثم الجميزة، ثم عبر النيل إلى الشرق وجده هناك حتى وصل الجبل الأحمر، ثم سار إلى الشمال مجتازامسلحة عند عين الشمس كانت تحمي مصر من غازات الاسويين، ثم أنحدر من وادي كيمور (طوميلات في أقلي الشرقية) وفيه كاد يهلك ظمأ لولا أن عثر عليه رجال من الساتي (بدو آسو) فعرفه أحدهم وأنقذوه وأضافه أياما عندهم، ثم رحل إلى أدرهم فيقي فيها عدة اشهر، ثم دعاه أحد أمراء فلسطين أليه فلبى دعوته، هناك سأله الأمير عن سبب هربه فلم يجيبه جواب يطمئن أليه، وحاول الأمير أن يعرف منه أحوال مصر، وأثار ريبته في قوتها بعد موت امنحعت وتولي آسرتين، ولكنه أجابه بان مصر لم تضعف بل زادت قوة بتولي آسرتين ووصفه له يدل على بلاغة وإخلاص، وكان وصفه جامعا بين ابلغ الترغيب في الملك والترهيب منه، فاقطعه الأمير أرضا وولاء ولاية يحكمها وزوجه كبرى بنائه فأنجبت له كثيرا من الأبناء الذين صاروا رؤساء للعشائر في الولاية التي يحكمها أبوهم من قبل الأمير، وولاء الأمير

ص: 47

قيادة جيشه فأبلى في مكافحة أعدائه البدو وتامين بلاده خير بلاء ثم جرت بينه وبين أحد البدو مبارزة انتصر فيها على البدوي وقتلة واستحواذ على أمواله، وقد وقعت هذه المبارزة في آخر المدة التي أقامها هناك والتي تزيد على عشرين سنة، وقد رأى بعدها أن موقفه دقيق حرج في اغترابه، فستكشر من الأموال لتكون له عونا عند البلاء، كما أرسل إلى ملك مصر رسالة يلتمس فيها أن يأذن له بالعودة إليها بعد أن صار شيخا ضعيفا، ويصف له كيف كان في أول أغرابه بائسا وحيدا ثم كيف صار حاكما هو وبناؤه والذين أنجبهم على إحدى ولايات فلسطين وعشائره. . . وهذه بقية الرسالة والقصة. . .)

(آو لم يأن لي أن يصفح مولاي عن جريمة هربي، فأعود إلى وطني، واسترد مكانتي في البلاط، واحظي بالعيشة الراضية في تلك البقعة المباركة التي تركت فيها قلبي. انه لا سعادة لي ألا بان ارجع إلى تلك البقعة حيث ولدت ونشأت، ثم أموت وادفن هناك، فما اسعد من يقضي نحبه في بلد ولد ونشا فيه! لشد ما تحملت - يا مولاي - في غربتي من آلام! وطالما صبت نفسي إلى أن أراني في وطني مرة أخرى لأنعم في جنباته بالراحة والسلام، وما اكثر ما قدمت من القرابين للآهة علها تنظر آلامي وتحقق آمالي. حبذا لو تكرم فرعون مصر العظيم فشملني بعطفه، ومكنني من انعم بإحسانه، أتقدم بولائي إلى ربة قصره، واقف على حالها وحال بنيها وبناتها أذن لرد مولاي إلى بذلك شبابي الضائع، فهاأنذا اشعر بالشيخوخة تسعى إلي، والخور ينسرب في كياني، وإكلال يرين على عيني، والاضمحلال يدب في رجلي، والفتور يتغلغل في عروقي، والبطيء ينتاب نبضات قلبي.

ويحي! فان المنية القاسية لتسعى إلى لتخطفني، وما أوحى ما تقذف بي إلى الهاوية الأبدية، فهلا يتاح لي أن الحق بسيدة القصر سلطانة العالمين، فأجد راحة الموت على يديها).

لم يمضي بعد ذلك وقت طويل حتى آتاني جواب الملك المعظم وقد حقق آمالي وما فوقها، فقد عفا عني وسمح لي بالعودة إلى وطني، وولاني ولاية من قبله في الخارج، كما أتحفى بكثير من الإتاوات، أرفقها بتحية أولاده، وهاو هو ذا آمره الملكي الكريم: (من حورس بن رع صاحب التاجين، وحاكم مصر العليا والسفلى، وروح النسل، ومانح الحياة، والخالد على مر الدهور. الأمر الملكي العالي الموجه إلى الشريف سينوحيتلأعلامه بما رأى جلالة الملك فيما التمس منه.

ص: 48

هاأنتذا قد فررت من الدلتا إلى أصقاع أجنبية، وارتحلت من أيدوم إلى تنو، وجست خلال بلاد شتى طوعا لما جال بخاطرك فتأمل، ويحك، ما أداك أليه طيشك!

لست أدري ماذا حملك على هذه الهجرة، وأنت لم تجترح جرما، ولم تحتكم إلى مجلس الأشراف لتسمع حكمه فيك أنها أوهامك الكاذبة التي دفعتك إلى تلك الهجرة.

ولقد كان ما كان من أمرك على ما علمنا وعلمت، فلا تتحول عما أزمعت من الرجوع إلى وطنك بعد أن وضحلك الذهب السوي، كما أن مولاتك الملكة لاتزار تتألق في القصر على غاية من الرغد والعافية، وقد نما أولادها وصاروا زينة القصر، واتخذوا منازلهم في القصر، ولقد ابتهجت الملكة وأولادها بنبإ مقدمك حين نمى إليهم، وسيسعدهم أن يجزلوا لك الهبات، وأن يرعوا حقوقك. ولتثق أنك، عند عودتك إلى القصر الذي فيه نشأت ستكون حيث يليق بك، فدع كل ما في يديك، وعد إلينا بنفسك، حتى إذا بلغت مصر فاجعل وجهتك القصر المعظم فانك ستكون فيه زعيما على أنداد مرة أخرى.

هأنتذا تشعر بالشيخوخة تدب إليك، والضعف يحترم قواك وقد صار التفكير في دفنك بعد موتك يقلق فكرك، ويعذبك.

لا تجزع فانك ستعود إلى الوطن المقدس، حتى إذا حان حينك زاملوك بلفائف الكتان، وصبوا عليك الزيت حنوطا، ووضعوك في نعش مذهب قد طلى رأسه بطلاء لازوردي، وغطى بغطاء في شكل السماء، وعندما تشيع جنازتك ستجرها الثيران، وبين يديها المربتون يرددون أمامك أناشيدهم، وإذا ما أنزلت في قبرك - حيث يقبر أبناء الملك - رقصوا أمامك رقصة الدفن، وقام النائحون يجأرون بصلواتهم ومراثيهم لتأبينك، ونحت القرابين على روحك، وشيد فوق قبرك هرم من الرخام الناصع.

هذا ما ستكون عليه شعائر دفنك في وطنك بين أهلك، ولن تموت كما تخشى في أرض أجنبية فيلفك الأسيويون في أديم شاة، ثم يشيعونك وهم يدقون الأرض، ويبكون على جثتك إلى أن يغيبوك في لحدك وعليك أن تبادر إلينا بالرجوع).

كنت مجتمعا برجال قبيلتي حين أتاني الجواب، وما كدت أستوعبه حتى خررت على وجهي، وعفرت بالتراب رأسي، ولم أتمالك نفسي أن أقفز وأن أطوف بفسطاطي، وأصيح قائلا: (عجبا لي كيف أجاب إلى ما طلبت، وما أنا ألا تابع تمرد على سيده، وأبق من

ص: 49

وطنه مهاجرا إلى أقطار أجنبية. لشد ما أجد من غبطة بعد أن عفا مولاي عني وأذن لي أن ارتد إلى وطني آمنا على حياتي، ولأقيم في بلاطه عالي الشأن راضي المعيشة إلى أن يوافيني أجلي).

ولم ألبث أن كتبت إلى مولاي هذا الكتاب، قدمته بين يدي رحيلي إلى وطني: (أنني خادمك سينوحيت، أتقدم إلى جلالتك بخشوعي وولائي وتحياتي، ملتمسا العفو عما جرته على حماقتي حين أبقت من مصر، وأنك لرب المغفرة أيها الآلة النبيل المهيمن على العالمين، وإني لأتوسل إلى رع وحورس وهاتور وسائر الأرباب العظام أن تهبك الخلود، وتلهمك الحكمة والسداد في كل خطاك، وتكفل لك الأمن والسلام، وتغدق عليك نعمها ظاهرة وباطنة، وتبسط سلطانك على الصحراء، وتمده على كل ما تطلع عليه الشمس من السهول والحزون.

لقد أسبغت نعمك علي أيها الآله الجليل كما يسبغ رع نعمه على مريديه، وقد اطلعت على ما حاك في صدري فشملتني برحمتك وهديتني من ضلال، وآويتني من اغتراب. وانه ليحلو لي أن أعيد ما كتبته يا مولاي إلى من روائع حكمك وآيات بلاغتك، وما كنت ألا خاما تافها لا يستحق شيئا من هذه النعم ولا بعض هذا الاهتمام، لولا أنك - في جلا لك ورحمتك - كالآله العظيم حورس تضلل برعايتك جميع رعيتك.

ولقد ضللت لك - يا مولاي - التابع الأمين الوفي في كل ما قلت وفعلت، وان أمراء هذه الجهات شهداء على ما أقول وحسبك يا مولاي أن كل السكان هناينظرون إلى جلالتك في خضوع الطلاب الوفية، ما تبدلت عواطفي نحوك، وما كانت هجرتي ألا رؤيا حالم في الشمال بأنه قد صار فجأة في أبو (قريب أسوان شمالا) أو رؤيا حالم من جيرة الوادي في الجنوب بأنه رحل إلى مستنقعات الشمال، فأنا لم أجن ذنبا أخشى مغبته، ولم ادنس أذني بالإصغاء إلى الأشرار، ولم يلهج باسمي لسان في مجامع القضاء، وما فتئت في غربتي أرفع ذكرك وأشيد بعظمتك، وما كانت هجرتي من مصر نظاما مدبرا؛ بل خاطرا فطيرا مرتجلا تلجلج في صدري فانطلقت قدماي انطلاقا، لقد قدرت الآلهة على الهجرة. ثم قدرت لي العودة، وهاأنذا أتزلف إلى جلالتك مطاطي الرأس لعلك تعفو عني، وتتجاوز عن سيئاتي. ولا على الإنسان أن يعود إلى وطنه، فما مقامي في هذه الغربة كمقامي عندك في

ص: 50

القصر، أيها الملك العظيم الذي نشر الآله رع رهبتك وجبروتك على كل البلاد، فكل سكانها ينظرون إليك خشية وهيبة بقلوب مضطربة وعيون زائغة. سأترك كل ما في يدي هنا طوعا لآمرك الكريم لمن له الآمر بعدي. غير أن أطمع أن تأذن لرسولك إلى أن يختار ما يروق له عنده وسأبقى مدين لك وحدك بحياتي التي أنقذتها من العذاب. وأدع رع وحورس وهاتور ومنث ـوأنت صفيها ومختاراـ أن تصفيك الحياة الراضية الخالدة).

وأقمت مهرجانا عاما فخما في إقليم (ياع) ثم دفعت إلى أبنائي كل ما تحت يدي من أموال وأنعام، وخلفني ابني الأكبر في زعامة القبائل فاختصبكل مالي من الحدائق والبساتين والحقول والأنعام. وما فرغت من ذلك حتى وليت وجهي شطر الجنوب في عصبة من رجال الساتي (البدو) كانت مهمتهم خفرتني في الطريق طوال رحلتي إلى مصر، ومضينا نغذي السير حتى بلغنا طريق حورس حول الفرع الشرقي للنيل حيث أقيم هنالك حصن لدفع الغارات عن الحدود، فاستقلبنا حاكم الأقاليم بحفاوة، وبعث رسول إلى البلاط يخبر الملك بمقدمنا، وما هي ألا أيام قضيناه هناك في طريق حورس حتى بعث الملك إلينا كبير المشرفين على مزرعة في أسطول من السفن تحمل الإتاوات الملكية إلى العصبة التي تولت خفرتي في أثناء الطريق من رجال السات، فأذنت فيهم، وسلمت كلا منها ما يستحق منها، وبلغتهم تحيات الملك وشكره ورضاه، فحملوني تحياتي أليه وتقديرهم لنعمته، وكروا إلى بلادهم راجعين.

أما أنا فقد تابعت رحلتي حتى بلغت ثتوى (العاصمة) وعندما تنفس الصبح وافاني رسول الملك بدعوتي إلى المثول بين يديه، فسرت معهم حتى بلغنا القصر، فصافحت أرضه، وفي فنائه وجدت أولاد الملك متهيئين لاستقبالي، ثم اقتادني رجال الحاشية إلى حجرة الملك الفاخرة، وفيها وجدت جلالته مستويا على عرشه الفخم، فسجدت بين يديه، وعندئذ أحسست بالعمى يرين على عيني، وبالانحلال يشل أعضائي فيمنعها الحركة، وشبه لي أن قلبي زال عن مكانه، وكانت قد حالت بي الحال حتى لم يعرفني جلالته، فأشفق على، وأمر رجال الحاشية أن يقيموني، وتحدث ألي برفق ولطف، ليسرى عن ما أل بي من الدهشة، ويطلق لساني مما عقله من الاستغراب، فأحسست بالحياة تعود آلي بعد الموت، وبالنطق يعود إلى لساني بعد الحصر، وبدأت أعي ما حولي وأتأهب لفهم ما يلقي ألي.

ص: 51

قال لي جلالته: (هاأنت ذا أخيرا في القصر بعد أن جست خلال القفار، وتمرست بألاسفار النائية، فقد مسك الضر، ونال منك الوهن، وصرت شيخا ضعيفا حتى ليعسر تحنيط جثتك، ماذا أنت؟ وفيما وجومك؟ أهو الخوف قد عقد لسانك وحصره عن الكلام؟).

فاستجمعت قواي، وتحاملت على نفسي، وبادرت جلالته قائلا:(ومم الخوف يا مولاي؟ أنني لم أسمع منة جلالتك ما أخشاه أمنا أنا إنسان ضعيف، لا تؤيده قوة علوية تدفع ما يحوي محضرك من رهبة في قلبه، وهأنذا أمامك، وحياتي منك واليك وقد وضعت حياتي كلها بين يديك).

وما هي ألا لحضه حتى دخلت الملكة والأمير، وشاء جلالته أن يتبسط معي، فقال مداعبا:(هذا سينوحيت قد أقبل كأنه أحد رجال العامو (بدو أسيا)!).

فتجاهلتني الملكة والأميرات، وهتفن معا:(ما هذا سينوحيت أيها الملك!).

فأجاب (بل سينوحيت نفسه).

ابتهجت الملكة والأميرات بمقدمي، وبادرن إلى جناحهن في القصر، وسرعان ما عدن وقد تقلدن القلائد، وأنطقن المناطق، وتهيأن بآلات الرقص، وطفقن يرقصن وينشدن هذا النشيد:

جادك الأربابُ بالخير العميم

أيها الملك وأصفوك الخلود

وأحاطوكَ بآياتِ النعيمْ

واحبَوْاعهدك عزاً وسعودا

ورعا مَسراك أربابُ النجومْ

أين أبحرت هبوطا وصُعُودا

جامِعَ التاجين في تاج يقومُ

حول الثعبانُ وضَّاءً فريداً

فوق رأسٍا لك جبارٍا حكيمْ

لم يزل في كلِّ ما يمضي سديدا

قد أزلت البوسَ عن مصرَ فزلاً

وغدت أقدارُها في راحتك

دان قطر أنها جنوبا وشمالاً

لك وأستخذى أعاديها لديك

كل من فيها إذا شاء سؤلاـ

لا يرى من ملجأ ألا إليك

حيث ضاق الناسَ بالعيش احتمالا

لم يكن معتمدٌ ألا عليك

دمت للخائف والعاني ثُمالا

تُبذل النعمى وترجى من يديك

قد حباك الحكَم والبأسَ الإله

فأنزل خوفك عن هذا المريبْ

ويحَ سينوحيتَ قد طال أذاه

فمحياة من الخوف كئيب

ص: 52

فر من مصر بلا ذنب جناه

وهو المولد فيها والرّبيبْ

خوفه بأسَك منها قد نفاه

فانتفي والخوف يغري بالذنوبْ

فاردُد المجدَ إليه والحياة

أنه فينا ومنا لقريب

وما انتهى الرقص والنشيد حتى قال جلالته الملك (يا سينوحيت لا تثريب عليك، فلن يصيبك ما تكره، ولن يحيق بك سوء وليهدأ قلبك، ويفرغ روعك، وأنك منذ الآن من رجال حاشيتي بل صفي من بين جميع النبلاء، فأنطلق إلى القصر الذي أختصصناك به، عد إلينا في البزة التي تليق بك).

وأمر الملك رجاله أن يذهبوا بي إلى خزانته لآخذ ما شاء من نفائسها، وخرجت مع الأميرات وأيديهن في يدي، حتى بلغنا الباب العظيم، ثم حللت قصرا من قصور الأمراء أهداه إلى الملك، وقد حملت إلى فيه خيرات كثيرة من القصر الملكي الأبيض، وجئتني نفائس من الحلل الملكية والعطور التي يصطفيها الملك.

وقد وجدت قصري فخما وأثاثه فاخرا، ورأيت له جنة ذات فواكه وأشجار، وفيه كثير من الاتباع والخدم الذين أعدوا لخدمتي، وما كدت أحل بقصري حتى انتزعوا ثيابي الحقيرة، وألبسوني حلة بيضاء فاخرة من الكتان، ورشوا على أجود عطور مصر وأطيبها، بعد أن أزالوا لحيتي وقصوا شعري ونسقوه ثم قذفوا بثيابي القديمة إلى عرض الصحراء.

ونمت هناك على فرش وثيرة، فتذكرت أيامي بالرمل وأهله وما آل إليه من نعمة في هذا القصر الفخم، بعد أن صرت في أعداد النبلاء، وعندئذ أحسست بالشباب يعود إلي بكل مزاياه.

أقمت بقصري منعما، وكان الطعام يحمل إلى ثلاث مرات أو أربعا من القصر كل يوم، وكانت الآسرة الملكية تغمرني بإتاواتها، وهب لي كل ما أمام قصري من الحقول والبساتين مما لا يهبه ألا يهبه ألا لرئيس ديوان.

ومع كل هذه النعم التي أضفاها الملك على لم يغفل عن أن يفي بوعده الخاص بمدفني، فقد أمر جلالته بأن يشاد هرم من الرخام الناصع، فوضع تصميمه كبير المهندسين في القصر، وشيده كبير البناءين فيه كإتقان واجمل ما شيد في حياته، وقد حفر قبري تحته في صخرة، وبعد أن تم الهرم قام رئيس النقاشين نفسه وزخرفته، وهكذا حظيت بما لا يطمع في

ص: 53

الخطوة به من كان مثلي تفاهة ورقة حال؛ ولست أرجو ألا أن أتقضى ما بقي من عمري مستمتعا بجوار مولاي بما آنا فيه من فضله وبره، حتى أفارق الحياة، فانقل إلى مدفن.

محمد خليقة التونسي

ص: 54