المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 668 - بتاريخ: 22 - 04 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٦٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 668

- بتاريخ: 22 - 04 - 1946

ص: -1

‌يوم عظيم لسورية العظيمة!

وأي يوم أعظم من يوم الجلاء: جلاء المحتل عن أراضي الوطن، وجلاء الذل عن نفوس الناس؟ ولكل أمة جعل الله من نوره هذا اليوم، يشرق في أمسها إشراق العيد، أو يمض في غدها وميض الأمل. وهو أجل من آجال الله إذا جاء لا يؤخر! إنما يسبقه ليل طويل بالألم، مظلم باليأس، مرعد بالهول، مطلول بالدم، هواديه خطوب وأعجازه ضحايا!

ولقد كان ليل سورية الباسلة من أطول هذه الليالي وأهولها! كابدت في أوائله مشانق جمال، وفي أنصافه مدافع غورو، وفي أواخره قواذف أليفا روجيه!

ثم خفقت أشباح الشهداء بيضا على حواشيه، ولمعت بروق الآمال تباعا بين غواشيه، فانصدع الظلام المكفهر، واستبان الطريق المبهم، واستطاع المجاهدون الجاهدون أن يسمعوا على مآذن (الأموي): حي على الفلاح، وأن يبصروا تباشير الفوز على غرة الصباح!

وفي الصباح المسفر حمدت سورية الحبيبة سراها الطويل المرهق، فضمدت جروحها الدامية، وكمدت جفونها القريحة، ثم ذهبت إلى (المزه) فركلت آخر جندي من جنود الاستعمار ورفعت فوق مطارها العلم، ورجعت إلى (الغوطة) فحملت ورودها الجنية إلى قبور الشهداء وعزفت أمامها النشيد. ثم خرجت في زينتها وبهجتها تستقبل وفود الدول العربية التي جاءت تشاركها السرور في يوم حريتها المشهود وعيد استقلالها المشترك. ثم أطلقت لنفسه المحتشمة عنان الفرح والمرح، فصدحت شوارعها بالأهازيج، وهتفت منازلها بالأغاني، ودوت مساجدها بالأدعية، وفاض النور والحبور على دمشق وأخواتها، فجلون عن أنفسهن في يوم واحد ما ركمته المحن والأحداث في قرون!

حياك الله يا سورية! لولا ليلك الطويل الحالك ما أسفر لك هذا النهار الضاحك! ولولا جهادك الصادق الصابر طيلة ربع قرن ما أتم عليك الله هذا النصر المؤزر! ولولا دماؤك المسفوحة على ثرى وطنك الغالي ما جنيت هذه الثمرة التي تتحلب لها الأفواه في أكثر الدول! ولكنك يا سورية خرجت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر! خرجت من جهاد الطمع والعدوان في غيرك، إلى جهاد الهوى والأثرة في نفسك! والانتصار على العدو الخارجي سهل كالانتصار على الداء الظاهر، ولكن الانتصار على العدو الداخلي صعب كالانتصار على الداء المضمر. والمجاهدون في سبيل الوطن لا يبتغون عاجل الثواب؛ فإذا

ص: 1

سول لهم الشيطان أن يبتغوه وكلهم الله لأنفسهم فيخسرون ما ربحوا، ويفسدون ما أصلحوا، ويسلبهم الله مجد الجهاد فلا ينالون سعادة هنا ولا شهادة هناك!

ما أزهى نفوسنا بجلاء المحتل عنك يا سورية! وما أبهج قلوبنا بكشف الضر عنك يا دمشق! فهل آن لأكدار النيل أن تصفو يا بردى، ولعار (التل الكبير) أن يغسل يا مبسلون؟!

ابن عبد الملك

ص: 2

‌الأزهر في مفترق الطرق

كان للاقتراح الذي عرضناه على مشيخة الأزهر ووزارة المعارف لحل مشكلة الأزهر رجع واحد في مختلف البيئات هو المشايعة على الأصل فيه والاتفاق على الغاية منه. والأصل فيه توحيد التعليم الابتدائي والثانوي بين أبناء الأمة؛ فلا يكون الفرق بين المتوجهين إلى الدين أو إلى اللغة، إلا كالفرق بين المتوجهين إلى الحقوق أو إلى الطب. والغاية منه تجديد الأزهر ليساير الزمن، وتنظيمه ليزامل الجامعة، فيخرج للعالم العربي كله رجالا للدين وعلومه أو للغة وفنونها يكون لهم ما للجامعيين من فضيلة المشاركة ومزية الإخصاء. إنما كان الاختلاف في مدد الدراسة، أو عدد الكليات، أو حفظ القرآن من المناهج، أو تصفية الحال القائمة، وهو اختلاف في الفروع لا في الأصل، وفي الوسائل لا في الغاية. والذي يعنينا الآن أن يقبل القائمون على أمر الأزهر هذا الاقتراح. فإذا قبلوه أمكن المختصين والمفكرين يومئذ أن يديروا الرأي فيه فيفصلوا المجمل ويكملوا الناقص.

على أن أخوف ما أخافه على هذا الاقتراح أن يطول استئذانه على المكاتب الرسمية حتى ينسى، أو تحول بعض الحوائل النفسية دون النظر فيه حتى يهمل. والشائع الذي يثبته الواقع أن الرأي أو الأمر إذا لم يدل عليه إلحاح الضرورة، أو يدفع إليه ضغط الحوادث، لا يخطره أحد بباله مهما كان أثره في سياسة الدولة أو خطره على حياة الأمة. والأمر من قبل ومن بعد إنما يعني شباب الأزهر، فإذا تركوه رهن الطوارق أو جعلوه في أيدي المقادير، ظلوا كما كانوا: طلابا من غير علم، أو علماء من غير عمل.

الأزهر يقف الآن في مفترق الطرق، ولا يذهب به إلى الأمام إلا طريق واحد، فإذا ضله رجع إلى الوراء أو خبط في مجاهل الأرض لا يصيب غرضا ولا يبلغ غاية. والنتيجة الحتمية لهذه الحال أن ينتقل معنى الأزهر إلى الجامعة ويبقى لفظه المبارك حيث كان. ومن بوادر هذا الانتقال المعنوي انضمام دار العلوم إلى جامعة فؤاد الأول؛ فإن معنى ذلك الانضمام سلب الاختصاص اللغوي من الأزهر. ولن يجدي على كلية اللغة العربية ما يعدونها اليوم من التسوية بينها وبين دار العلوم في معهد التربية؛ فإن دار العلوم ستفيد من نفوذ الجامعة ونظمها ما يوسعها ويعمقها حتى تستوعب شؤون العربية وآدابها استيعابا لا يترك وراءه فضلة.

بقي الاختصاص الديني للأزهر، والكلام في سلبه حديث قديم لا يزال يتردد على أفواه

ص: 3

ذوي الرأي كلما فكروا في توحيد القضاء الأهلي والشرعي والمختلط؛ فهم يشيرون بأن تتعمق كلية الحقوق في تدريس الشريعة ليستطيع المتخرجون فيها أن يكونوا قضاة أو محامين في الدوائر التي ستنشأ للأحوال الشخصية في كل محكمة أهلية، شأنهم في ذلك شأن زملائهم في الدوائر المدنية والتجارية والجزائية.

أما أصول الدين فقد فكرت كلية الآداب - وأظنها لا تزال تفكر - في أن تنشئ لها معهداً أو كلية تدرسها على المنهج الجامعي في التقصي والاستيعاب والموازنة. فإذا أصبح تراث الأزهر نهباً مقسماً بين كليات دار العلوم والحقوق والآداب، وأضفت إلى ذلك أن التعليم الابتدائي والثانوي سيكون كله بالمجان - والمجانية ميزة الأزهر - شككت في أن يتقدم بعد ذلك اليوم إلى المعاهد الدينية طالب يريد أن يتعلم ليعيش.

الأمر إذن جد؛ وجده أخطر من أن يعالج بالتهوين أو التسكين أو المطل. وليس من الإخلاص للأزهر أن نقول إن علوم الدين والدنيا فيه، وأن له من جلالة الأثر في نفوس المسلمين ما يقيه ويكفيه؛ فإن (المجاورة) بمعناها الموروث عهد قد انقضى، والتعبد بدراسة الفقه للفقه تقليد قد مضى؛ وانتقال القيادة العالمية اليوم إلى رجال العلم الخالص أمر يبعث على طول التفكير في إعداد النشء لمجابهة الحياة بأنظمتها المتنوعة وأسلحتها الجديدة. والكلمة الآن للشباب من الأساتذة والطلاب، فإلى هؤلاء وهؤلاء نسوق الحديث. والحزم الجدير بأهل الذكر أن ينضجوا الرأي في هذا الاقتراح قبل أن يجاوزوا (منعرج اللوى)، فإني لأخشى ألا يتبينوا وجه الرشد فيه إلا بعد ذهاب الفرصة وزوال القدرة. وإن فيمن يفاخر بهم الأزهر من أمثال الأساتذة: شلتوت وعرفة والجبالي والغمراوي ودراز وأبي العيون والمراغي والمدني والبهي والصعيدي، من نربأ بهم أن يتركوا جامعتهم القديمة العظيمة في مهب الأعاصير تزلزل أركانها وتهدد كيانها، وقصارى ما يملكون لها دعاء لا يصنع معجزة، أو بكاء لا يدفع مضرة!

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌بطون جائعة وأموال ضائعة

للأستاذ علي الطنطاوي

ولد لي في هذا الأسبوع مولود جديد، فأهدى إلى أمه أكثر من عشرين علبة شكولاته، من هذه العلب التي جدت في دمشق، وصارت (مودة) الوقت، كل علبة منها لعبة كبيرة بأشكال وألوان، ما عرفناها قبل الآن، منها ما هو على صورة طيارة بأجنحتها وذنبها ومحركاتها ودوالييها، ومنها ما هو على شكل عربة بخيولها ولجمها وسائقها، كل ذلك مصور مشكل دقيق الصنعة؛ ومنها ما هو على هيئة سرير له فراش ووسادة من الحرير، وفي كل منها قبضة من السكر والشيكولاته، وهي ملفوفة بالورق الصقيل الشفاف، معقود عليها شريط من خالص القز، لا يقل ثمن إحداها عن عشرين ليرة سورية. . . فلما ذهبنا نفتحها تقطع الشريط وتمزق الورق. . . ثم تسلمها منها أولاد الدار، وأبناء الضيوف، لأنها لعب خلقت لهم لا للكبار، فلم تكن إلا أيام حتى تكسرت في أيديهم، وكيف لا تتكسر وهي مصنوعة من قطع الخشب الملون الملصق بعضه ببعض، لا تحتمل صدمة ولا نقرة؟ وعادت حطبا انتهى به الطريق إلى المدفأة، فاحترقت أربعمائة ليرة كان يمكن أن يشتري بها من (خبز البلدية) عشرون ألف رغيف، ومن الثياب النسائية المستعملة (التي توزعها وزارة التموين) أربعمائة ثوب، ويمكن أن يتزوج بها من الفقراء أربعة رجال. . . هذا وأنا رجل معتزل الناس لا أديم مواصلتهم، ولا أؤدي حقوقهم، خارج على مواضعاتهم، ثائر على عاداتهم، لا أصنع إلا ما أجده نافعاً معقولاً، ولي من جرأة جناني، ومضاء لساني عاصم من لحومهم وتعنيفهم، وهذا هو المولود الثالث لا الأول، فكيف تكون الحال لو كنت من الأثرياء الذين يخالطون الناس، ويقومون بحقوقهم؟ وكيف لو كان المولود صبياً بكراً؟

ففكروا كم ننفق من الأموال في أشياء لا يأتي منها خير، وما في تركها ضرر، ونحن نشكو الفقر والمرض والجهل؟

أعرف رجلاً تزوج فأهدي إليه يوم زفافه، من أصدقائه وصديقاته وأقربائه وقريباته، مائة وست عشرة باقة زهر، ثم أدناها خمس ليرات، وقد يبلغ ثمن أعلاها العشرين، فحار أولاً أين يضعها، ومن أين يأتي لها بالكؤوس والأواني، ثم بدا له فجعلها حول سرير العروسين، فكان لها منظر رائع خلاب، ثم مرت الأيام ففسدت وجفت فاستأجر رجلا يحملها ليلقيها في

ص: 5

إحدى. . . المزابل!

ألف ليرة تلقى على مزبلة، ونصف الأمة يتضور جوعاً!!

وأعرف آخر من التجار أبى له سفهه وتبذيره وكفره بنعم الله إلا أن يوزع السكر على نحو خمسمائة مدعو لحضور عقد ولده في علب من الفضة في كل منها صحن من البلور، لا أدري من أين جاء بها فما في بلدنا منها، قالوا، إن ثمن الواحدة منها خمس عشرة ليرة، فهذه سبعة آلاف وخمسمائة ليرة، دون باقي المصروفات، في الفرش والزينة والثياب. . وإن من نساء هؤلاء التجار الفجار الأشرار من تشتري المعطف الواحد بألف ليرة، وإذا لم تصدقوا فاسألوا تجار الفرو!

والتبذير في أتراح هؤلاء الأغنياء لا يقل عنه في أفراحهم، فلا تخرج جنازة أحدهم حتى يمشي معها رجال المولوية بقلانسهم التي تشبه علب اللبن، وثيابهم التي تحكي إذا داروا المخاريط الناقصة التي وصفوها لنا في درس الهندسة أيام المدرسة، ولا يمشون حتى يقبض شيخهم الرسم المقرر، خمسمائة ليرة. . . وأمام الجنازة الآس والحناء، وبعدها حفلة (التنزيلة)، ثم (الصباحية) و (العصرية) وللنساء فيها كسوة خاصة تشترى من أجلها، فلا يصل الميت إلى القبر حتى ينفق عليه إن كان من الموسرين خمسة آلاف ليرة، ما أنفق قرش واحد منها في طاعة الله!

وإن حول كل دار من هذه الدور التي تهدر فيها الأموال لمساكن فيها ناس مثلنا، من بني آدم، من إخواننا في الدين وفي الوطن، وفي اللسان، يشتهون عشر معشارها، أو أقل منه ليشتروا به طعاماً يملأ بطون أولادهم، وثيابا تستر أجسادهم، وإن لهؤلاء الناس (لو عرف الأغنياء!) عيوناً تنظر كعيوننا، وقلوبا تتألم كقلوبنا، ولهم بنون وبنات هم قطع أكبادهم، وهم على هلهلة ثيابهم ووساخة أبدانهم أحبة إليهم أعزة عليهم كعزة أولادنا علينا، وربما كانوا أزكى من أولادنا نفوسا وأطهر، وأذكى عقولاً وأمهر، وكانوا أرضى لله وأنفع للوطن منا، ولكن الفقر عطل قرائحهم، وكف أيديهم، وكبل أرجلهم. إن هؤلاء وإن لم يكن في أعراسهم باقات الزهر، ولم يكن في جنائزهم مولوية ولا آس، ولم يعرفوا طريق المدارس والملاهي، ولم يزهوا بغالي الثياب، ولم يتمددوا على أرائك السيارات، ولم يعرفوا المشيخة التي يأكلون بها الدنيا بالدين، ولا الزعامة التي يجمعون بها المال بالوطنية، إنهم هم عماد

ص: 6

هذا الوطن، وهم جمهرة أهله، وهم يزرعون القمح ويقدمونه إلينا ثم يعيشون على الذرة والشعير، وهم يبنون لنا القصور ثم يقيمون في الأكواخ مع البقر والحمير، وهم يصنعون بأيديهم الشيكولاته التي لا يذوقونها، ويحيكون الثياب التي لا يلبسونها، وهم يسهرون في الطرقات ليحرسونا ونحن نيام، وهم يمشون إلى الميادين ليدافعوا عن أوطانها ونحن آمنون، وهم قد دفعوا ثمن الاستقلال مهجهم وأرواحهم، ثم لم يأخذوا من خيراته شيئا. . .

إن هؤلاء هم ركن الوطن وعماده، وهم أهله وقطانه، فحرام علينا أن ننساهم ونهملهم! حرام أن تبقى هذه الأموال ضائعة، وهذه البطون جائعة! حرام في دين الله، وفي شرعة الإنسانية، وفي قانون الشرف، فأين المصلحون، فأين المصلحون؟ أين رجال الجمعيات؟ أين أرباب الأقلام؟

لقد كنت أصفح (أعداداً) عتيقة من مجلة الهلال، فوجدت في (عدد) منها أن في بلاد السويد جمعية اسمها (جمعية أمناء الأزهار) عملها جمع الأموال التي يشتري بها أهل الميت وأصدقاؤه باقات الزهور التي تحمل مع الجنازة ثم توضع على القبر، وإنفاقها في بناء مساكن صحية للعمال والفقراء، يسكنون فيها بأجر يسير، وأنها أنشأت (إلى تاريخ ذلك الخبر) نحوا من ألف مسكن.

فلماذا لا يكون فينا رجال مثل رجال هذه الجمعية، يأخذون المال من هنا، فيضعونه هناك، فيصلحون به أخلاق الأمة بإنقاذها من داء التبذير والأثرة والمفاخرة بالباطل، ويدفعون عن أغنيائها حسد فقرائها وبغضاءهم، ويعودون عليها بالخير لها في أجسادها وعقولها وصناعاتها وحضاراتها إذ ينفقون هذا المال فيما هو أولى به من وجوه الإصلاح؟

لماذا نأخذ عن الأوربيين السم وندع الترياق؟

كم ينفق في الشام ومصر والعراق وسائر بلدان هذا الشرق الإسلامي في الزفاف وحفلاته، والمأتم وملحقاته. . . والأعياد والمواسم وأيام الولادة والختان، فيما لا ينفع أحداً ألبته، ولا يعود عليه بعائدة، ولا تناله منه فائدة؟

حتام تهدر الأموال ويراق الذهب، اتباعا لعادات قبيحة وتقليدا كتقليد القردة، وجمهور هذا الشعب يشكو الفقر والمرض والجهل؟

هل تذهب بشاشة العيد ويمحى رواؤه، لو اصطلح الناس فيه على تقديم السكر الملبس

ص: 7

الوطني بدلاً من الشيكولاته وصرفوا فوق الأثمان في بناء مدرسة أو مستشفى في كل بلد؟

هل يبطل أنس العرس، وتضيع بهجته إذا لم يكن إلا باقتان من الزهر؟

هل يكتب على العروسين الشقاء الدائم إذا وزعت الحلوى على المدعوين في قراطيس بدلاً من العلب؟

هل يحرم الميت التقى من نعيم الجنة، ويضاعف على الشقي العذاب إذا لم يمش في جنازته رجال الطريقة المولوية التي لا يقول بها عقل ولا نقل، ولا يقرها شرع ولا طبع؟

فإلى متى نضيع أموالاً نحن اليوم أحوج إليها من كل يوم مضى لأننا في عهد تجديد وبنيان، ولأننا في أول طريق الاستقلال؟

فيا أيها الأغنياء لا تغتروا فإن النعم لا تدوم، وإن بعد اليوم غدا، وإن بعد الحياة موتا، وإن بعد الموت لحساباً عسيرا، أمام رب الأرباب الذي خلقكم وخلق الفقراء من طينة واحدة، لم يخلقهم من التراب ويخلقكم من الأسمنت المسلح. . . ولم يميزكم عنهم إلا بمال أعاركموه ليكون محنة لكم وليطول عليه حسابكم.

ويا أيها المصلحون هذا باب من أوسع أبواب الإصلاح فلجوه بارك الله فيكم إن فعلتم، وأيدكم.

ويا رب منك أنت التوفيق، فأعط المخلصين مقدرة، وأعط القادرين إخلاصاً، فإننا نشكو إليك شكاة عمر: ضعف التقى وفجور القوى!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 8

‌على هامش النقد:

همزات الشياطين

مجموعة أقاصيص: عبد الحميد جودة السحار

للأستاذ سيد قطب

كان هذا الكتاب - وهو حلقة من سلسلة لجنة النشر للجامعيين - مفاجأة كاملة لي. فأنا أعرف مؤلفه الشاب، فأعرف أنه أديب مجتهد؛ وقد قرأت له ما سمح وقتي المحدود بقراءته من كتبه الكثيرة التي يتجه بها غالبا إلى التاريخ الإسلامي ليعيد عرض وقائعه الجافة في صورة قصصية يحافظ فيها على دقة التاريخ مع سهولة العرض وتشويقه، وهو عمل نافع مشكور.

وقرأت له قصته الأولى عن: أحمس بطل الاستقلال، وهي لا تبشر بشيء! ثم قرأت - على وجه الخصوص - كتابه (في الوظيفة) وأعجبني فيه قدرته على التصوير السريع باللمسات الخاطفة، وقلت عنه في عدد (الرسالة) بتاريخ 22 يناير 1945:

(إن صاحب هذه الصور الانتقادية موهوب في فن التصوير السريع. ومهما أخذت عليه من عيوب في عمله الفني، فإنك لن تخطئ الملامح التي يريدها، والسحنة التي يبغيها، وهذا وحده يكفي.

(إنه ذو عين لماحة، تسجل الحركة الحسية، كما تسجل الحركة النفسية. ثم تغلف اللمحة المرسومة بروح السخرية، وتمزجها بعنصر الفكاهة، حتى ليخيل إليك أنه ينظر إلى الدنيا كما ينظر إلى ملهاة كبيرة؛ تأخذ عينه فيها لمحات التناقض، وتأخذ حسه فيها مواضع السخرية، وتأخذ نفسه فيها مواطن الدعابة. . .)

ولكن هذا كله شيء، و (همزات الشياطين) شيء آخر، ومع أنها موسومة بهذه السمة التي عبرت عنها في تلك الفقرات، إلا أن الشقة بينها وبين جميع أعمال المؤلف الشاب بعيدة، فهي وثبة واسعة المدى، لا بالقياس إلى جميع أعماله، بل بالقياس إلى أقصى ما كان يتوقعه الناقد لهذه الأعمال!

وقبل أن أبعد في طريق التعميم أخصص ماذا أعني بأنه وثبة واسعة المدى: تحتوي هذه

ص: 9

المجموعة على اثنتي عشرة أقصوصة، وقد صدرها المؤلف ببحث مختصر مفيد عن الرواية والأقصوصة يؤلف مع الفصل الذي احتوى عليه كتاب (فنون الأدب) عن القصة والمسرحية تأليف (هـ. ب تشارلتن) وتعريب الأستاذ زكي نجيب محمود. والفصل الذي كتبه الأستاذ محمود تيمور عن (فن القصص). . . كل ما تحويه المكتبة العربية تقريبا عن هذا الباب الضخم من أبواب الأدب: باب القصة!

من هذه المجموعة أقصوصة طويلة بعنوان (وسوسة الشيطان) تستغرق أكثر من ثلاثين صفحة، وهي الأقصوصة الرئيسية في المجموعة. . . وهذه هي الأقصوصة الفذة البارعة في المجموعة، وفي أعمال المؤلف كلها منذ أن أخذ يكتب وينشر. أما بقية المجموعة فشيء عادي فيه الخطأ وفيه الصواب، وبعضها تبدو فيه العجلة التي لا تغتفر لمن يملك أن يخرج مثل هذه الأقصوصة الرئيسية!

وهذه الأقصوصة التي هي فاجأتني مفاجأة تامة، جعلتني أعاود النظر في كل ما قرأته للمؤلف، لعلني أكون قد أخطأت في تقديري أول الأمر، أو لعل بعض كتبه التي لم أكن قرأتها توحي بهذه الوثبة الواسعة!

ثم عدت بعد هذا كله مقتنعا بأنها وثبة واسعة، ومفاجأة كاملة! وقادتني هذه المفاجأة إلى أن أراجع كل ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المؤلفة باللغة العربية - وهي تكاد تشمل كل ما تحويه المكتبة العربية في هذا الباب فوجدت هذه الأقصوصة تقف وحدها متفردة بين هذا الحشد من الأقاصيص.

وأردت أن أتابع الموازنة، فعدت إلى ما تحويه مكتبتي من الأقاصيص المترجمة - وهي تكاد تشمل كذلك كل ما نقل إلى اللغة العربية - فوجدت هذه الأقصوصة تقف رافعة الرأس مع أعظم ما أعجبت به في هذه المجموعة. . . ترتفع على معظمه، وتساوي أقله، وتنحني أمام عدد صغير جداً لا يبلغ عشرة أقاصيص من حوالي المائتين!

تصور هذه الأقصوصة تجربة نفسية كاملة للخطيئة. وهي تمثل - مع استقلالها وأصالتها - صراع كل (بافنوس) أمام (تاييس) وكل (عبد الرحمن القس) أمام (سلامة)، بل صراع كل (آدم) أمام فتنة الفاكهة المحرمة. وهي تصور هذا الصراع باللمسة الهينة، والإيماءة القصيرة، واللفظة الموحية، والحركة المعبرة، وتلم في الطريق بكل خلجة وكل خاطرة

ص: 10

وكل تأثر وكل انفعال، وتجمع بين السرعة المتحركة في السياق، والدقة الكاملة في رسم الخلجات الخفية، والوسوسات الخافتة، وتصور (فلما) كاملا للصراع النفسي في موقف خاص!

وذلك كله دون حذلقة، ودون إبراز للتحليل النفسي الذي يأخذ هيئة التفسير العلمي فيفسد الفن القصصي، إلا في موضعين عابرين ألم بهما إلماما سريعا لحسن الحظ، فلم يفسدا السياق، وإن غضا من قيمته الفنية قليلاً.

والصعوبة التي تواجه ناقد القصة أنه لا يملك عرض الجمال الفني فيها كما يريد، فالتلخيص عبث وقتل لهذا الجمال، فهو - على أحسن الأوضاع - يلخص الفكرة، وماذا تجدي الفكرة إذا لم يستطع تصوير طريقة العلاج؟ وكل وصف لطريقة العلاج يعد تشويها بالقياس إلى حقيقة العمل الفني في السياق!

ولكنني بعد هذا كله ملزم أن أعرض على القارئ هذا التشويه:

صلاح شاب في الثلاثين، متدين، واثق بنفسه وبإيمانه، فقد وصل إلى هذه السن ولم يرتكب معصية قط - على الأقل حسبما يعتقد - فهو صاحب حق في الجنة لا منازعة فيه، ولأنه لم يعان من قبل أية تجربة نفسية، فهو يقسو على الخطيئة والخطاة، ولا تنفسح نفسه لأي عطف عليها أو عليهم، ولا يحاول أن يستمع لأية معذرة من الظروف والملابسات والاضطرار.

وحين يسمع من الواعظ تحذيره من النفاق وتخويفه للناس من عذاب النار، لا يحفل ولا يجفل، فإنه ناج من النار! وحين يقص على زوجته نبأ طرد عبد التواب أفندي من عمله لأنه اختلس يعلق على هذه الجريمة بقسوة، ولا يقبل من زوجه التماس أية معذرة لهذا السارق الأثيم! وحينما تتقاعس زوجه عن صلاة الفجر لأن حلاوة النوم تقعد بها في السرير، يلح عليها حتى تقوم، لأنه (يود أن يزحزحها عن النار. . .) وحينما يعلن أن فتاة يتركها أهلها لتشتغل بالتدريس بعيدة عنهم، يهم بأن يذهب إليهم ليوبخهم على هذا الاستهتار! ويخرج صلاح لعمله بعد الصلاة وقراءة (الحزب) وهو يحلم بالجنة التي دخلها فلم يجد (سميرة) زوجه، ثم إذا هي تدخلها إكراما لخاطره!. . . يخرج حيث يعد له المؤلف، أو تعد له الحياة، الفتنة الأولى مع هذه المدرسة ذاتها:

ص: 11

(أغلق صلاح باب مسكنه خلفه، وقبل أن يهم بالنزول في الدرج، فتح باب المسكن المواجه له، وخرجت منه فتاة واسعة العينين، ناهدة الصدر، نحيلة الخصر، وما إن تلاقت عيناه بعينيها حتى غض من بصره، وتأخر خطوات ليفسح لها الطريق؛ فمرت من أمامه، وملأت خياشيمه رائحة عبقة أنعشت نفسه، ولكنه ظل مطأطئ البصر، وهبطت الدرج قافزة، ولم يقدر صلاح على أن يقمع شهوة التطلع طويلا، فنظر من بين أهدابه المسبلة، فوقع بصره على ثديين يترجرجان صاعدين هابطين، فأغمض عينيه، وتعوذ من الشيطان الرجيم، وخفت وقع أقدامها وتلاشى، فوجد نفسه يهبط مسرعا - وما كان لينزل إلا متمهلا وقورا، متخذا سمة الكهول الموقرين - وسأل نفسه عما دفعه إلى الهبوط السريع، فرد ذلك إلى جو الربيع الذي أنعشه، ودب فيه نشاط حبيب إلى النفس، وبلغ الطريق فلمحها تغذ في السير، وتصعد إلى الطوار خفيفة رشيقة، وما تقع في الطريق خطوات، حتى تعود لتقفز إلى الطوار ثانية كأنها خيال يطير، لا يبغي المكوث على الأرض ولا يطيق اللصوق بها. ووجد نفسه يغذ في السير، ولكن علام الإسراع، وما هناك حاجة إلى الإسراع، فما زال في الوقت متسع؟ وأحس همسا خفيفا ينبعث من داخله يستفسر: ترى أتغذ في السير لتلحق بها وتتطلع إليها؟ وما همس هذا الهاجس في نفسه حتى تفزع وجفل، وضيق من خطوه، وتعوذ وابتدأ في قراءة المعوذتين!)

ثم تتابع الحياة دورتها، ويتابع المؤلف خطوات صلاح. وصراعه مع نفسه، ومغالطته لها، وهواجسه وخطراته، وتناقض أحاسيسه، وإقدامه وإحجامه، واقترابه في كل إقدام وكل إحجام من الهزيمة والاستسلام؛ في أسلوب بارع فائق لا نستطيع مجاراته فيه ولا نملك تلخيصه، حتى نلتقي بالبطل في موقف الهزيمة الأول:(وانطلقا في الطريق الهادئ الساكن الممتد على النيل، وسارا صامتين كأنما استعارا صمتهما من صمت المكان، واقتربت (بديعة) منه حتى التصق كتفها بكتفه، واصطدمت يدها بيده أكثر من مرة، واستقرت يدها في يده أخيرا، فراح يضغطها ضغطا خفيفا، فكان يحس بنشوة لذيذة تسري فيه، ما كان يحسها لو أن اليد التي كانت في يده يد (سميرة)، واستمر السكون مخيما عليهما، وكان سكونا خارجيا، ولم تكن نفساهما ساكنتين، بل كانتا تعتلجان بشعور فوار، فقد كان كل منهما يتمنى أن يضم صاحبه إلى صدره ليطفئ ناره!

ص: 12

(وبلغا مقعدا خشبيا، فجلسا يحدقان في النيل برهة، ثم زحفت (بديعة) على المقعد بخفة حتى التصقت به، فملأ عبيرها الشذي أنفه، وحرك نفسه، فتاق إلى أن يضمها إليه، ويطوقها بذراعيه، ويمطر وجهها قبلات، ولكنه قمع شهوته، وقاوم رغبته، ورمى بنظره إلى النيل، وجعل يرقب موجاته المتكسرة محاولا أن يتشاغل عن هواتف نفسه، ولكن رغبته خنقته وسيطرت عليه، فارتد بصره إليها، وراح يتطلع إليها في وله واشتهاء. . . والتقت العيون، فترجمت عما تخفي الصدور، فمالت (بديعة) وأسندت ظهرها إلى صدره، فخفق قلبه، وارتفع نبضه، وسرى الدم حارا في بدنه، حتى أحس به يكاد يشوي وجهه، وانبهرت أنفاسه قليلا، وضاقت حدقتا عينيه قليلا، واضطرب كثيرا، وأحس شعرها الأسود السبط الجميل الذي تمنى يوم جلست أمامه في السينما أن يمر بيده عليه، يلمس خده، فسرت رعدته في جسمه، وارتفعت يده دون أن يتكلف ذلك، وراحت تمر على شعرها في حنان، فرفعت عينيها المتكسرتين إليه وهي مستلقية على صدره، واستدارت قليلا كأنما استدارت للقبل. . . ورنت إليه في دلال، وزمت شفتيها تدعوه في خبث إلى اللثم والعناق. . . فلم يستطع أن يقاوم تلك الفتنة المرتمية في أحضانه، ولا نداء العينين الواسعتين الساحرتين، ولا الشفتين المزمومتين المرتجفتين قليلا، المغريتين كثيرا!)

وهكذا يمضي المؤلف بصلاح المسكين في سياق مصور دقيق على هذا الطراز حتى يصل به إلى الدار: (وتذكر في الطريق دعاء ما كان يجري له ببال قبل اليوم، ولم يتحرك به لسانه أبدا، فأخذ يردده في نفسه في حرارة يحس نارها تصهر صدره، ولأول مرة يحس جلال ذلك الدعاء، واستمر يردده وهو يصعد الدرج: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي. . . اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي)!

(ودق الباب ففتحته زوجته، فدخل وأغلقه خلفه، ثم طوقها بذراعيه، وراح يقبلها في لهفة وهو يغمغم: (سميرة. . . سميرة؟) كأنما كان في سفر طويل عاد منه، وخطر داهم يهدد حياته، وأحس كأنه يود أن يفضي لها بكل شيء، وأن يقص عليها قصة ضعفه، ولكنه تريث، وتخلصت منه في رفق، وسألته في ارتياب: ما بك الليلة؟ فقال: لا أدري، إني إليك مشتاق كأني لم أرك منذ سنين! فقالت: أأعد العشاء؟ فقال: انتظري حتى أصلي العشاء!

(ودخل حجرته، وأخذ يخلع ملابسه، ولم ترحمه نفسه المهتاجة، بل راحت تخزه، فسمع

ص: 13

صوتا يهتف به من أغوار نفسه: (يا لك من منافق! كيف سمحت لنفسك أن تضع شفتيك الآثمتين على شفتيها الطاهرتين؟ وكيف رضيت أن تلف ذراعيك الملوثتين بخصرها؟ وأن تلصق صدرك الخبيث بصدرها؟ يا لعارك!)

ثم يعتزم التوبة والتكفير بألا يلقى بديعة مرة أخرى. ويصر على ذلك إصرارا ونفسه تهتف به إليها هتافا، ويصمد في الظاهر وهو يقرب من الخطيئة الكبرى. . . ثم تقع هذه الخطيئة في أشد لحظاته إصرارا على ألا يلمح (بديعة) أو يراها!. ثم يصبح الصباح!. (واستمر ضميره يخزه وخزا شديدا، وهو يتلوى من العذاب، وضاق صدره فترقرق الدمع في عينيه فلم يستطع حبسه، فجرى على خديه، واستمر في عذاب حتى ارتفع صوت المؤذن يؤذن بالفجر. فأحس كأنه نار تصب في أذنيه. فوضع إصبعه في أذنه ليصمها عن سماع الأذان الذي يزيد من أشجانه، ولكن صوت المؤذن كان يقرع سمعه فكأنه شواظ من نار سددت إلى قلبه فحرقته حرقا، وارتفعت النار إلى صدره فأضنته، وأحس (سميرة) تنهض من فراشها، فأحس عرق الخجل يتصبب منه حتى يغمره، واقتربت من سريره فود أن تبتلعه الأرض قبل أن تمسه، ولكن يد (سميرة) لمست كتفه في رفق، وهمست في حنان: صلاح. . . صلاح. . . انهض قد أذن المؤذن. . .

(فهم بأن يصيح فيها أن تبتعد عنه، وألا تلمسه، ولكن صوته انحبس، ولم يجد مخرجا. فعادت تهزه وتهتف: - صلاح قم. الصلاة خير من النوم. واقتربت بوجهها من وجهه، فلمحت دموعه تجري على خده. فهمست في فزع: - صلاح. ما بك؟ أتبكي؟. . . قم يا حبيبي. قال: دعيني. قالت ما بك يا حبيبي؟ قال: رأيت رؤيا مفزعة. رأيت نفسي أطرد من الجنة).

ولا تنتهي الأقصوصة حتى يكون هذا الواثق في نفسه وقوة إيمانه، المستعز بمكانه في الجنة، القاسي على الضعف والخطيئة. . . معذبا مولها، لا تهب عليه نسائم الرحمة إلا من الإقرار بالضعف والخطيئة والرجوع إلى التواب الغفار عن طريق الخطأ والاستغفار! (ونهض صلاح ليغتسل من إثمه، وانطلق حزينا كئيبا يحتقر نفسه، ويعجب لضعفه، وسمع صوتا آتيا من أغوار نفسه كأنه همس ينبعث من مكان سحيق، ولكنه بلغ أذنيه واضحا قويا، وانساب فيها عذبا نديا:

ص: 14

(كل ابن آدم خطّاء. وخير الخطائين التوابون)

فتمتم والدموع تخضب وجهه: (اللهم إني استغفرك وأتوب إليك)

هذا عمل فني رائع لا تصوره تلك المتقطفات بل تشوهه!

وإن المؤلف الشاب ليستطيع أن يلقى بكل أعماله إلى البحر، ثم يقف بهذا العمل الفني وحده. فإذا قدر له أن يخرج عشر أقاصيص فقط من هذا الطراز، فليكن على ثقة أنه سيسلك في سجل العظماء من رجال الفنون! ولكن هذا عمل عسير!!!

سيد قطب

ص: 15

‌مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب

للأستاذ كامل كيلاني

(بقية المنشور في العدد 666)

5 -

صغار الأشياء

يقول شيخنا المعري:

العمل - وإن قل - يستكثر، إذا اتصل ودام، لو نطقت كل يوم لفظة سوء، لاسودت صحيفتك في رأس العام.

ولو كسبت كل يوم حسنة، عددت - بعد زمن - من الأبرار.

إن اليوم ائتلف من الساع، والشهر اجتمع من الأيام، والسنة من الشهور، والعمر يستكمل بالسنين. .

الرجل مع الرجال عصبة، والشعرة مع الشعرة ذؤابة (وهي الضفيرة المرسلة من الشعر) والحجر فوق الحجر جدار، والنخلة إلى النخلة حائش (جماعة من النخل).

ويقول بعض شعراء أوربة.

(قطرات المياه منها محيط

وصغار الحصى تكوّن أرضاً

ودقيقاتنا تؤلف جيلا

بعد جيل في إثره يتقضى

وقليل الحنان والحب مما

يجعل الأرض جنة الخلد خفضاً)

فكيف يعبر صاحبنا عن هذه المعاني بأسلوبه الجحوي الفاتن:

6 -

برميل العسل

يقول:

(كان والينا الجديد - فيما سمعت وسمع غيري من الناس - مما ترامى إلينا من أخباره يحب العسل حباً شديداً، ويؤثره على غيره من ألوان الحلوى ولذائذ الفاكهة جميعا.

وقد احتشدنا لاستقباله وتأهبنا للاحتفاء بمقدمه بعد أن اجتمع رأينا على أن نهدي إليه برميلاً كبيراً نملأه بأحب الطعام إليه وهو العسل.

وتعاهدنا على أن يسهم كل واحد منا في تلك الهدية بأيسر نصيب. فيلقى في ذلك البرميل

ص: 16

الكبير بمقدار فنجان صغير.

وخطر ببالي - حينئذ - خاطر عجيب فقد سولت لي نفسي أن أهرب من أداء هذا الواجب اليسير الذي لا يكلفني شيئاً. وقلت في نفسي، والنفس أمارة بالسوء:

إن مئات غيري من الناس، سيقومون بأداء هذا الواجب عني. ولن تقدم هديتي شيئا ولن تؤخر. فلو ملأت الفنجان ماء أو عسلا لما نقصت الهدية شيئا ولا زادت، ولما شعر أحد بتقصيري.

ولكن شد ما دهشت حين فتح الوالي برميل العسل أمامنا. فوجده مملوء ماء كله. وليس فيه قطرة واحدة من العسل.

لعلكما أدركتما السر في ذلك - يا ولدي - فإن تلك الفكرة الخاطئة التي مرت على بالي ودفعتني إليها الأثرة والأنانية إلى إنفاذها قد مرت على بال كل واحد من أصحابي المئين الذين اجتمعوا لتكريم الوالي.

وهكذا كانت هديتنا إليه برميل ماء لا برميل عسل. وقد تركت الهدية في نفس الوالي بعد ذلك أسوأ الأثر، وكانت سيرته معنا كما كانت سيرتنا معه من أقبح السير.

وكان هذا أبلغ درس وعيته في شبابي، وأدركت مغزاه، فلم أنسه طول حياتي.

7 -

دولاب الزمن

يتمثل بعض الشعراء، فيما يتمثلون من أخيلتهم البارعة؟ أن الزمن بحر، ونحن راكبوه على سفائن - من أعمارنا - لا تلبث أن تحطمها الأمواج المصطخبة الثائرة. وفي هذا يقول شيخ المعرة:

(ركبنا على الأعمار والدهر لجة

فما صبرت للموج تلك الصفائن)

ثم يتمثل شاعر آخر أن سفينة الحياة تخيل لرائيها أنها واقفة على حين يجري بها الزمان، وفي هذا يقول (مهيار الديلمي):

وإنا لفي الدنيا كركب سفينة

نُظَنُّ وقوفا والزمان بنا يجري)

ثم يتمنى شاعر ثالث لو استطاع أن يلقى بمراسي هذه السفينة في ذلكم البحر الزمني، لتقف ولو يوما واحدا، فيقول الشاعر المبدع (لامرتين) في قصيدته البحيرة وهو من المعاني التي افتن الشعراء فيها وأبدعوا في صوغها وتصويرها إبداعا:

ص: 17

(هكذا وأبدا، نظل مدفوعين إلى سواحل جديدة من الحياة في ليل الأبدية المظلم، لا رجع ولا عود. فهل يتاح لنا أن نلقى مراسي سفينتنا فوق أوقيانوس الزمن؟ وهل يقر قرارنا يوما واحدا؟)

وقد أبدع البحتري - قبل لامرتين - في هذا المعنى أي إبداع حين قال:

(ليت أن الأيام قام عليها

من إذا ما مضى زمان يعيده)

ومن قبلهما التفت (امرؤ القيس) إلى طول الليل التفاته فريدة، فتمثله خياله المبدع الوثاب، كأنه واقف لا يتحرك، بعد أن شدت نجومه - إلى جبل يَذبَلَ - بأوثق الأسباب، وأمتن الحبال لتمنع الليل عن الحركة وتعوقه عن الانتقال. فقال في معلقته الخالدة:

(فيالك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدت بيذبل)

ثم جاء المعري فمثل لنا العاشق الولهان يود لو استطاع أن يديم ظلام الليل فلا ينتهي، ويتمنى لو يزيد في سواده سواد قلبه وسواد عينه ليطيله قليلا. فقال:

(يود أن ظلام الليل دام له

وزيد فيه سواد القلب والبصر)

وقال صَرَّدر:

(يا ليت عمر الفتى يُمَدُّ له

ما امتدُ منه الرجاء والأمل)

وقال:

(فليت الفتى كالبدر جدد عمره

يعود هلالا كلما فنى الشهر)

ثم جاء (ابن الفارض) فقال:

(يا ليل طل، يا نوم زل

يا صبح قف: لا تطلع)

ولو شئنا أن نتقصى ما قاله الشعراء في هذا الباب لامتد بنا نفس القول دون أن نبلغ من ذلكم مداه. ولكن حسبنا أن نشير إلى قول الشريف الرضي:

(يا ليلة كاد من تقاصرها

يعثر فيها العشاء بالسحر)

وقوله:

(ردوا عليّ ليالي التي سلفت

لم أنهن ولا بالعيش من قدم)

وقول مالك بن الريب:

(فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشي الركاب لياليا)

ص: 18

وقول الشريف أيضا:

(ولو قال لي الغادرون ما أنت مشته

غداة جزعنا الرمل: قلت أعود).

يحسبنا هذا القدر على وجازته. وقديما قالوا:

(حسبك من القلادة ما أحاط العنق).

فلننتقل إلى الدعابة الجحوية لنرى كيف تعبر في سذاجة نادرة عن هذه الأعماق والدقائق المعنوية، التي صاغها المبدعون في دورة الفلك ودولاب الزمن:

يسأل جحا وهو صغير:

(أيكما أكبر: أنت أم أخوك؟)

فيقول:

(أخي يكبرني بعام واحد، فإذا جاء العالم القابل تساوينا في العمر).

ويسأل وهو كبير:

(كم سنك يا جحا؟).

فيقول: (أربعون عاما!).

فيقول له بعض سامعيه:

(ألم تقل لنا ذلك منذ سبعة أعوام؟).

فيجيب جحا في غير تلعثم ولا ارتباك:

(وهل يغير الحر كلامه؟).

فأنت ترى في القصة الأولى: تدفعه الرغبة المفكرة، أو التفكير الراغب إلى أن يتمثل: أن دولاب الزمن قد وقف بأخيه عاما ليدركه جحا.

فإذا كبر: دفعته الرغبة أن يتمثل قدرته على وقف دورة الفلك عند سن الأربعين لأنه لا يريد أن يتخطى هذه السن أبدا. وحسبه أن يعيش على هذه الأمنية ما دام في تخيلها سعادته.

ورحم الله الشاعر الذي يقول:

(مُني إن تكن حقا تكن أحسن المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا)

8 -

المرأة والسن

ص: 19

ومن بديع لفتاته حين رأى صديقا له مكتئبا حزينا، فسأله عما يحزنه، فقال:

(لقد نشب بين زوجي وأختها عراك عنيف لا أدري كيف ينتهي، وقد جئت لأستعين بك على فض ذلك النزاع بحكمتك وكياستك).

فسأله جحا: (أتراهما تشاجرتا لاختلافهما على عمريهما؟)

فقال له: (كلا يا صاحبي لم يدر لهما هذا المعنى على بال).

فقال جحا: (عد إلى بيتك مطمئنا فلن يطول شجارهما يا صاحبي).

9 -

الإسراف والاعتدال

يقول الشاعر:

(يتمنى المرء في الصيف الشتا

فإذا جاء الشتا أنكرهُ

ليس يَرضَى المرء حالا واحدا

قتل الإنسان ما أكفرهُ)

ويستمع صاحبنا جحا إلى رجل يشكو زمهرير الشتاء ويلعن برده القارس، وينبري للشاكي أحد المتحذلقين فيعنفه على شكواه، ويقول له: (لقد كنت تشكو في الصيف الماضي وقدة الحر، وعنف القيظ، فما لك تبرم بالشتاء إذا جاء؟

فيعجز الشاكي وأصحابه عن الإجابة، ويلتفت جحا التفاته رائعة. فيقول:

(لقد طالما شكا الناس زمهرير الشتاء، وقيظ الصيف، فهل رأيت أحدا يشكو: اعتدال الربيع؟).

وكأنما أوحى بهذه الإجابة البارعة إلى ابن الوردي قوله في ذم الإسراف والغلو:

بين تبذير وبخلَ رتبة

وكلا هذين، إن زاد قتل

10 -

مناجاة النفس

ويقولون: إنهم سمعوا جحا يتحدث في غرفته وليس معه أحد، وكأنما يحدث شخصا آخر؛ فلما فتحوا باب الغرفة ليتعرفوا جلية الأمر وجدوه يحدث نفسه. فسألوه (كيف تحدث نفسك يا جحا؟).

فقال: (لقد برمت بغباء الناس وضيق عقولهم، وعجزهم عن فهم الدقائق التي تقصر أفهامهم عن بلوغها. واشتقت إلى محادثة بارع فطن ذكي يفهمني وأفهمه، فلم أجد غير نفسي،

ص: 20

فرحت أناجيها وأفضي إليها بدخلتي).

ألا تذكرنا هذه القصة بقول الشاعر الأندلسي المبدع (ابن حمديس).

(سواي من يعتد من أنسه

ما نال من حظ ومن كأسه

وحق مثلي أن يرى خاليا

بنفسه يبحث عن نفسه)

وقد نسبت هذه القصة إلى الساحر المبدع (برناردشو، كما نسبت إلى جحا من قبله. ولعلها من مختلقات الرواة؛ فإذا صحت نسبتها إليه أيضا فهي من توارد الخواطر، وما أكثر ما تلتقي العقول الكبيرة كما التقت عقول جحا وبرنارد شو وابن خفاجة الأندلسي.

كامل كيلاني

ص: 21

‌الأدب في سير أعلامه:

ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

أشعاره في هورتون:

وكانت قصيدة ملتن الثالثة في هورتون هي الغنائية المسرحية أركادس، وهي في الواقع نبذة من غنائية مسرحية فهي لا تعدو مائتي سطر، ويمكن أن نعدها قصيدة مدح لولا هذه الصورة المسرحية التي وضعها فيها الشاعر.

نظم ملتن هذه الغنائية الصغيرة سنة 1633 تكريما لسيدة عظيمة علت بها السن هي كونتس سلسبري؛ وقد مثلها بين يديها أحفادها وهم أبناء إيرل بردجووتر وابنته؛ ووضع ألحانها رجل من أشهر ملحني العصر جميعا هو لو وكان صديقا حميما لملتن، ما ذهب ملتن إلى لندن مرة إلا قضى عنده ساعات يستمتع بموسيقاه، وكان ملتن يقدره حق قدره ويعجب بألحانه إعجابه هو بشعر صديقه الشاعر. وتبدأ المسرحية بأغنية صغيرة مدح للكونتس يتقدم بها منشدين بين يديها أحفادها بين بنين وبنات في ملابس ريفية، ويبلغ ملتن في هذه الأغنية أعلى درجات الإجادة والإمتاع؛ فثمة ألفاظ حلوة ولحن بديع ومعان جليلة تكافئ مقام السيدة التي يمتدحها. وبينما يتقدم المنشدون والمنشدات بين يدي السيدة يظهر جني الغابة فيتجه نحوهم ويوجه إليهم الحديث ممتدحا السيدة في شعر من النسق العالي بالغ الروعة والسحر؛ ويختتم الجني حديثه بأغنيتين إحداهما موجهة إليهم، والأخرى موجهة للقرويين والرعاة جميعا، وفيها يثني الجني على السيدة ويتغنى بمجدها وأنعمها.

وفي سنة 1634 نظم ملتن قصيدته الرابعة في هورتون فقد طلب لو إلى صديقه الشاعر نظم غنائية مسرحية أخرى لتكريم إيرل بردجووتر بمناسبة ولايته المنصب الرفيع الذي كان قد رقي إليه منذ ثلاث سنوات وهو منصب الرئيس اللورد لمجلس مقاطعة ويلز وذهابه ليقيم في قلعة لادلو. ولقد أقيمت الحفلات للورد في جهات كثيرة وبالغ عشيرته

ص: 22

وأصدقاؤه في تكريمه، ومن هؤلاء لو الملحن النابغة، وكان لو أستاذ الموسيقى لابني اللورد وابنته، ولم يقتصر على تلحين الأغاني في هذه الغنائية المسرحية، بل أشترك كذلك في تمثيلها. . .

وكانت أليس ابنة اللورد وهي فتاة ناهد في نحو الخامسة عشرة من عمرها، وأخواها وهما دونها في العمر أهم الشخصيات في تمثيل هذه الغنائية.

تخيل الشاعر سيدة تاهت في مسالك الغابة وأحراشها وهي في طريقها وأخويها إلى قلعة أبيها، وظلت تبحث عبثا عن أخويها وظلا يبحثان عنها في غير جدوى، وتمثل لها كومسي الجني الشهواني الساحر في زي أحد القرويين، وتظاهر أنه يهديها السبيل، ثم إذا هو غوى مبين أخذ يحتال عليها ويراودها عن نفسها فاستعصمت، ولكنه دأب في غوايته حتى حضر أخواها فتغلبا على كومسي وقبيله إلا أنهما ألفيا أختهما لا تستطيع التحرك بما صنع بها سحر كومسي فأخذتهما الحيرة، ولم يخرجهما من ورطتها إلا سابرينا إحدى العذارى الخرافية التي أبطلت سحر كومسي وهي من خلق ملتن؛ وتنطلق الفتاة وأخواها بعد ذلك إلى القلعة، وكان يحمي الفتاة ويعصمها من الزلل من البداية حتى النهاية من عالم الأرواح روح ساهر عليها يتنكر في زي أحد الرعاة، وكان لهذا الروح فضل عظيم في القضاء على كومسي، وبعد انتصاره انطلق إلى عالمه الذي هبط منه.

هذا هو موضوع الغنائية، ولقد تأثر ملتن في بناء هذا الموضوع على هذه الصورة بما قر في خاطره من قراءاته المتنوعة الواسعة، فالشبه عظيم بين غنائيته في بنائها وبين (قصة الزوجات العجائز) لبيل، وملخص هذه القصة أن سيدة حملت من تسالي إلى برتين بسحر ساحر لعين يسمى ساكربنت تعلم من أمه ميرو وهي ساحرة شهيرة كيف يغير صور الناس، وتبقى السيدة في برتين مسحورة عن نفسها تنسى ذاتها كما تنسى أصدقاؤها، ويبحث عنها اخوتها فيرد عليهم صدى يتبعونه حتى يقعوا في يد ساكر بنت فيسحرهم ويسخرهم في أداء أعمال حقيرة. وينجي السيدة حبيبها بعد ذلك وقد اطلع على سر ساكر بنت على يد عفريت رجل فقير كان قد صاحبه. ويموت الساحر ولكن تبقى السيدة مسحورة ولن يفك السحر عنها حتى يحطم وعاء زجاجي له بيد أنثى لا هي عذراء ولا زوجة ولا أرملة، وينطفئ بتحطيمه ضوء كان يلقيه، وبعد لأي توجد الأنثى المطلوبة

ص: 23

فيحطم الوعاء وينطفئ الضوء، وتنطلق السيدة المسحورة وغيرها من فرائس الساحر. . .

وثمة شبه كذلك بين غنائية ملتن ومسرحية جون فلتشر (الراعية الوفية) وهي مسرحية ريفية كتبها صاحبها سنة 1610 وأعاد نشرها سنة 1634 وهي السنة التي كتب فيها ملتن غنائيته. ومن هذه المسرحية أخذ ملتن فكرة انتصار العفة في النهاية كما أخذ فكرة الروح الحارس الذي يحمي العذراء. ففي المسرحية سيدة كانت عفتها في خطر لولا هذا الروح الحامي. وفي مسرحية فلتشر يبزر إله النهر فينجي العذراء كما تنجى سابرينا عذراء غنائية ملتن. ويستعمل في كومسي نبات لشفاء الجروح كما يستعمل نبات غيره في الراعية الوفية، وفوق ذلك تنطوي غنائية ملتن على فقرات لها أشباه في المعنى والفكرة في مسرحية فلتشر.

أما شخصية كومسي الذي سميت باسمه الغنائية، فهي من ابتكار ملتن فقد جعل لكومسي أبوين من المثولوجيا، فأما أبوه فهو باخوس إله الخمر، وأما أمه فهي سيرس الساحرة التي كانت تحيل من يشرب سائلا لها إلى حيوان، وعلى ذلك فقد جمع كومسي بين المرح والعربدة ورثهما عن أبيه، وبين السحر ورثه عن أمه، وامتاز كومسي عن أمه بأنه لا يحيل أشكال الناس إلى حيوانات فحسب، ولكنه يغير عقولهم حسبما يشاء فيوحي إليهم ما في نفسه من شهوة وفسوق.

وتعج غنائية ملتن بتلميحات مأخوذة كلها من ميثولوجيا الإغريق والرومان، كما أن فيها ألفاظا وعبارات وصفات تشبه نظائرها في شعر من سبقه من شعراء قومه، وعلى الأخص سبنسر وشكسبير.

أما فلسفة ملتن في الغنائية، فمشتقة من فلسفة أفلاطون وآرائه في الفضيلة. وقد تعمق ملتن دراسة هذه الفلسفة وأحبها حبا شديدا، إذ صادفت هوى في نفسه، وقد كانت نفسه حريصة على العفة كوسيلة إلى السمو الروحي والبياني.

ولكن على الرغم من هذا كله نجد الغنائية في جملتها وعليها طابع ملتن، فهي ملتنية الروح واللفظ والأسلوب والموسيقى والفلسفة، وفيها سمات عبقريته وشواهد قوته، بحيث لا يمكن ردها إلا إليه كما ترد آثار فحول الشعراء إليهم بمجرد سماعها، ولو لم يذكر أول الأمر أنها لهم، ففي إماراتها وخصائصها وروحها ما يشير إليهم إشارة تغني عن ذكر الاسم، وتلك

ص: 24

ميزة هي مقياس فحولته، إذ لولاها لكان كغيره من سائر الناس، ومن هؤلاء الفحول الأفذاذ (ملتن) صاحب هذه الغنائية يومئذ وصاحب الآية الكبرى يوم يملي الفردوس المفقود. . .

مثلت أليس ابنة اللورد السيدة التي ضلت في الغابة، ومثل أخواها دور الأخوين، أما الملحن (لو) فقد أخذ دور الروح الحارس، ومثل أحد الشبان دور كومسي، كما مثلت إحدى الفتيات دور سابرينا، وهؤلاء هم أشخاص الغنائية جميعا، فهي كما ترى نوع من المسرحيات القليلة الحوادث والأشخاص تعني بالموسيقى والشعر وتقوم فيها الأرواح والأشباح إلى جانب الناس.

تبدأ الغنائية بمنظر يمثل غابة وحشية، ثم يظهر على المسرح أو يهبط عليه الروح الحارس، فيتكلم في شعر رقيق بليغ عن موطنه ورهطه في عالم السماوات، ويشير إلى دنيا الناس وما فيها من آثام بقوله:(هذه البقعة المظلمة التي يسميها الناس الأرض) وينعى على الناس حياتهم المضطربة وغفلتهم عما تهيئه لهم الفضيلة بعد ارتحالهم من عالم الفناء، ولكنه يغتبط بأن بين الناس قلة يطمحون إلى وضع أيديهم على ذلك المفتاح الذهبي الذي يفتح لهم قصر الخلود؛ ولهذه القلة مهبطه ومن أجلها رسالته، ثم يشير إلى اللورد بأنه من أنصاف الآلهة الذين يحكمون في الجزر مستمدين سلطانهم من نبتيون إله الماء، ويمتدح خصاله ويتحدث عن أبنيه وبنته وعن مسيرهم في الغابة، وأنه أرسل من قبل جوف كبير الآلهة ليحميهم في ظلمات الغابة، ومم يحميهم؟ هكذا يتساءل ليسترعي الأسماع، ثم يقول: إنه سوف يقص ما لم يرد مثله في شعر ولا في قصص، في كوخ كان ذلك أو في قصر. ثم يذكر في إثر ذلك كومسي ومولده وما ورثه عن أبيه وعن أمه، وما هو في مقدوره من السحر، فيصور للأذهان صورة عجيبة حقا، ويشوقها إلى ما عسى أن يقع على يد كومسي، ولكن جوف يكف شره عمن يرعاهم من الناس، ولذلك أرسل هذا الروح في مثل لمحة النجم ليحمي هؤلاء المدلجين، فليتنكر في زي شخص يعرفونه، وليكن هذا الشخص هو أستاذ الموسيقى، وهنا يثني الروح أعظم الثناء على فنه ووفائه؛ ثم يرهف سمعه ويقول: إنه يسمع خطوات بغيضة تقترب، فعليه أن يختفي؛ وبهذه الوسيلة يعبر ملتن عما يريد أن يقول عن اللورد وعن صديقه الموسيقي على لسان ذلك الروح في فيض من الشعر المرسل الرصين الرائع الذي يملك الأنفس عذوبة جرس وحلاوة معنى، والخيال الساحر البارع

ص: 25

الذي يذهل السامعين عن أنفسهم وعن عالمهم برهة.

ويظهر كومسي في المنظر الثاني وفي إحدى يديه عصاه السحرية وفي الأخرى زجاجته، وفي إثره يمشي قبيلة تمثل رؤوسهم أنماطا من الوحوش، ولكن أجسامهم آدمية، ومنهم الذكور ومنهم الإناث، ويلبسون جميعا ملابس براقة، ويقبلون في زياط وجلبة يتواثبون ويتراقصون وفي أيديهم المشاعل، وتسكن ضوضاؤهم بعد برهة، ويتكلم كومسي وقد سكتوا، فيصف مولد الليل، ويجري الشاعر على لسانه وصفا رائعا لمغرب الشمس في شعر مقفى جميل اللحن، فالنجم الذي يوحي إلى الرعاة موعد العودة بقطعانهم يتخذ سمته في السماء، ومحفة النهار الذهبية تبرد في ماء الأطلنطي، والشمس على الأفق الغربي تطلق آخر شعاع لها صوب القبة قد تغشاها الطفل، ثم تهبط متخذة طريقها إلى غرفتها الشرقية في الجهة الأخرى. . .

ويدعو كومسي قبيلة بعد هذا الوصف إلى اللعب واللهو تحت أستار الظلام، ويصف ما عسى أن يجري في الليل من صور المرح، ويشير إلى الناس وكيف يغطون في نومهم ومعهم مواعظهم ونظراتهم وحكمهم فهم من الطين؛ ولكن كومسي وقبيلة من النار فهم لذلك أكثر خفة وانطلاقا، والليل كفيل أن يغطي لهوهم ولعبهم، وما دام الصبح الذي يكشف نوره العيوب لا يزال بعيدا، فهلم إلى اللهو والزياط والمجون؛ ويدعو كومسي أتباعه أن يمسك كل منهم بيد صاحبه ثم ليضربوا الأرض بأقدامهم راقصين. . . ويأخذ هؤلاء في رقصهم لاهين عابثين، ولكن كومسي لا يلبث أن يدعوهم إلى السكون ثم الاختفاء فانه يسمع أقداما قريبة وينبئه سحره أنها عذراء ضلت في متاهات الغابة، ويتحدث فرحا عما يعده لها من السحر ويصف كيف يحتال عليها وكيف يتنكر لها في زي فلاح تأخر به سعيه من أجل عيشه عن العودة إلى كنه حتى هذه الساعة، ثم يعلن إلى قبيلة أنه سوف يسمع ماذا تقول العذراء.

وتتقدم السيدة فتظهر على المسرح، وتحدث نفسها قائلة إنها سمعت لتوها جلبة وأصوات مرح وغناء ومزمارا كمزامير الرعاة والفلاحين، وتقول إنها توجس خيفة من عبث هؤلاء وتوقحهم، ولكن ماذا عساها تصنع، وإلى أي طريق في متاهات الغابة تلوي وجهها عما تحذر؛ وتذكر أخويها قائلة بأنهما تركاها لتستريح وقد بلغ بها الجهد وذهبا ليحضرا لها شيئا

ص: 26

يمسك صلبها من ثمار الغابة وما تظن أنهما قد ضلا، وقد سرقهما الظلام منها. ثم تلتفت حولها وتقول إنها تظن أن هذا هو المكان الذي كان ينبعث منه الغناء والمرح، ولكنها لا تجد إلا الظلام وحده، وتهجس في نفسها المخاوف فكأنها تسمع أصوات رجال ينادونها وترى أشباحا تهتف بها وتتخيل ألسنة هوائية تنطلق بأسماء رجال، وهذه أشياء كفيلة بأن تلقى الخوف في النفوس ولكنها لا تزعزع عقلا يستمسك بالفضيلة ويمشي أينما اتجه في حمى حارس قوي هو الضمير، وتلوذ السيدة بالأيمان ذي العين البريئة وبالأمل ذي اليد البيضاء، وبالعفة الملك ذي الجناحين الذهبيين الذي لا يقهر، وتعوذ بهؤلاء أن يدرءوا الأذى عن حياتها وعن شرفها.

ثم تغني العذراء أنشودة جميلة توجهها إلى اكو تسألها عن أخويها قائلة (إيه يا اكو الحلوة يا أجمل عذراء، أنت يا من تعيشين خافية في قوقعتك الهوائية. يا من يطيب لك أغنية البلبل الحزينة يرفعها إليك متواجدا في لياليه على ضفة ميندر الخضراء وفي واديه الموشي بالبنفسج؛ أيتها العذراء ألا تدليني على اثنين جميلين أشبه ما يكونان بفتاك نرجس؟ أو إذا كنت أخفيتهما في كهف من كهوف الزهر فدليني عليهما يا ملكة الرجع ويا ابنة قبة السماء، ولئن فعلت لأدعون لك أن تبلغي السماوات فتكوني هناك الصدى الجميل الرشيق لكل ألحان الجنة).

(يتبع)

الحفيف

ص: 27

‌فلسطينيات

قصة فتاة. . .!

للأستاذ نجاتي صدقي

قيل لي إن في الدار فتاة تحمل رسالة إلي، وتود مقابلتي. . فتوجهت إليها، فوجدت نفسي أمام فتاة في العشرين من عمرها، مكتنزة الجسم، (مبتسمة) العينين، وشعرها أسود كثيف، ووجهها لا يحمل المساحيق، فهو بطبيعته ناصع البياض، وخداها ورديان يعلوهما القليل من البثر، المعروف بين الناس ب (حب الصبا)، وقد عصبت رأسها بمنديل حريري ملون، ولبست ثوبا قصيرا، وكانت ساقاها عاريتين، وتحتذي حذاء صيفياً.

دعوت الفتاة إلى غرفة ربة البيت. . . وبعد أن تبادلنا التحية ناولتني رسالة ففضضتها، فكانت من صديق محام يقول فيها:

(أخي العزيز. . .

. . . وحاملة هذه الرسالة هي الآنسة سلمي ليان من سريان الجليل، وهي فتاة تحب الغناء، وأعتقد أن لها صوتاً جيداً، فهل لك أن تساعده في إبراز مواهبها. . .؟

خذ بيدها، ولك عند الله الأجر والثواب) (. . .)

ودار بيني وبين الفتاة الحوار التالي:

- ألك أهل في هذا البلد؟

- كلا. . . وهذا أول عهدي بالمدينة. .!

- وكيف تأتين إلى مدينة ليس لك فيها أهل تلجئين إليهم؟. . .

- سأعود اليوم إلى بلدي بعد أن آخذ ردك.

- غير أن ما تطمحين إليه لا يأتيك على وجه السرعة، يجب أن تنتظري بعض الوقت.

سأنتظر إذا ما رأيت في الأفق بارقة أمل. . .

- وكيف تؤمنين معيشتك إلى أن تبلغي مأربك؟. .

- أقوم بأي عمل كان. . . خادمة في بيت. . . أو ممرضة في مستشفى.

- وأهلك؟

وما يهمني أهلي!. . أريد أن أكون فنانة. . . إن صوتا يهمس في أذني دائما: قومي أيتها

ص: 28

الفتاة، واطرقي أبواب الاستوديوهات، والإذاعات، والفرق الموسيقية. إنك ستكونين مطربة كبيرة، أو ممثلة بارعة. . . مارسي الآن الفن في هذا البلد الصغير، ومتى بزغ نجمك فارحلي إلى مصر التي تقدر المواهب والعبقريات. . .

- وهل تحملين رسالة إلى أحد غيري في هذه المدينة؟

- أجل أحمل رسالة إلى حميد أفندي صباره مدير ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . .

- عجباً. . إنني أدري بهذه المدينة ومؤسساتها الفنية، ولكني لم أسمع قط بأن فيها ستوديو للتمثيل السينمائي!. .

- كيف لا. . . وقد تلقيت من هذا الأستوديو لائحة التوظيف وطلب مني تعبئتها، ثم دعيت للحضور إلى المدينة، كي نشرع بالمفاوضة. . . وإليك صورة من تلك اللائحة إن كنت تود الاطلاع عليها. . .

وقرأت فيها:

(حضرة الآنسة سلمى ليان المحترمة.

تحية وسلاما، وبعد، تلقينا كتابك الذي تطلبين فيه الانضمام إلى ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي. . ويسرنا أن نحيطك علما بأن الهيئة الإدارية للستوديو نظرت في طلبك، ورأت قبل مفاوضتك أن تتلقى منك أجوبة على الأسئلة التالية: هل تحبين الرياضة؟. . أتركبين الخيل؟. . أتسوقين السيارة؟. . أتسبحين؟ وأي نوع من الرقص تحسنين: الشرقي أم الغربي؟. . . وهل أنت اجتماعية في حياتك العامة؟. . . أتعزفين على آلة ما؟. . أتحبين الغناء؟. . وإن كنت تغنين فهل صوتك من درجة سوبرانو أم آلتو؟. . وإلى أي ناحية من المطالعة تميلين. . . الرواية - القصة - الشعر؟. .

نرجو إعادة هذه اللائحة بعد الإجابة على ما جاء فيها من أسئلة، مرفقة بثلاث صور لك في أوضاع مختلفة، الأولى نصفية تتطلعين فيها بكامل وجهك. . . والثانية تمثل جانب وجهك. . والثالثة تبين هيكلك بأجمعه. . . ونأمل أن تأتي هذه الصور بعيدة عن التكلف، ومشبعة بالروح الرياضية. وتفضلي بقبول الخ. . . إدارة ستوديو الزهرة للتمثيل السينمائي.

ثم تابعت الفتاة حديثها قائلة: وذهبت في ذلك اليوم إلى ستوديو الزهرة فوجدته غرفة صغيرة تحتوي على طاولة، وتلفون وملفات، وأربعة كراسي، ومتكأ، وصور لجميع ممثلي

ص: 29

هوليود، وكان حميد أفندي منهمكا في دراسة بعض الأوراق يدخن ويشرب القهوة. . ولما عرفته بنفسي، ورأى إمارات الدهشة بادية على محياي اضطرب وقال: المعذرة أيتها الآنسة، إننا نشغل هذه الغرفة مؤقتا الآن إلى أن يتم بناء الستوديوهات. . . نرجو ألا يزعجك ذلك. . فالفنانة يا آنستي لا تعير مثل هذه التوافه اهتماما. . الأيام أمامنا، وكل شيء مع الصبر جميل. . . أتعرفين كيف بدأ ستوديو مصر عمله؟. . لقد كانت حالة مؤسسيه مثل حالتنا تماما، استأجروا في بادئ الأمر غرفة في شارع كلوت بك، ثم نهضوا شيئا فشيئا إلى أن بلغوا درجة الكمال. تصوري أن الممثل السينمائي أستهل حياته في ستوديو مصر بعشرة جنيهات في الشهر؛ وهو يتقاضى اليوم خمسة عشر ألف جنيه لاشتراكه في فيلم من الأفلام. . التضحية يا آنستي هي مفتاح النجاح والسعادة. . .

هيا ضعي يدك في أيدينا، وقولي توكلت على الله. نحن عشاق فن مثلك، ومبتدئون تشجعي واعملي معنا. . لا تجعلي المال رائدك الآن. وثقي بأنه سيأتي عليك يوم ترفلين فيه بأثواب السعادة والهناء، وسننشر صيتك في كل أقطار العرب، وسيصير لك معجبون، وسترد لك الرسائل من كل حدب وصوب تحمل لك عبارات الثناء والإطراء، والكل يطلب رسمك أو توقيعك، وأنت لا تبخلين عليهم بذلك مطلقا. . . وإذا ما خرجت بسيارتك وقف الناس على جانبي الطريق يهتفون لك وأنت توزعين عليهم الابتسامات ذات اليمين وذات الشمال!

هيا يا فتاتي شمري الردن عن ساعد الفن!. . . أما شروط الاتفاق فستكون مدار حديثنا هذا المساء على مائدة العشاء.

وتركت حمدي أفندي على أن أعود إليه. . .

قلت لسلمى: أيتها الفتاة، احذري المدينة، ولا تغرنك مظاهرها، فهي أشبه بالمستنقع الذي تنمو على سطحه الحشائش الطرية الرقيقة، وأزاهير اللينوفر والأقحوان، فيظنها الإنسان مرتعا من مراتع أمنا الطبيعة، فينطرح عليها طالبا متعة النفس وراحة الجسم، فإذا بالأزاهير تغوص، وبالحشائش تزول، ويظهر مكانها حمأ أسود تنبعث منه رائحة المياة الآسنة، وهيهات للإنسان أن ينجو من براثنه، فهو كلما حاول الإفلات من الحمأ تشبث به وامتصه قليلا فقليلا حتى يختفي تماما.

قالت الفتاة: إني لا أفقه شيئا مما تقول، جئت المدينة لأكون ممثلة أو مطربة وأنت تحدثني

ص: 30

عن المستنقعات!. . أتشك في حسن صوتي. أأغني لك (أيها الراقدون) أم (أضحى التنائي)!

قلت: ما هذا الذي تقولينه أيتها الفتاة؟. . . نحن لم نعتد أن نرى فتياتنا يتركن بيوتهن ليطرقن دور الفن، فالمطربة عندنا تكتشف صدفة أن صوتها جميل. . . هلا أطلعتني على حقيقة أمرك؟. . أفصحي القول، واسردي عليّ قصتك. . .

ارتبكت سلمى، وامتقع وجهها، وطأطأت رأسها قليلا، وروت لي مأساتها، ومفاد هذه المأساة أن قلبها مال إلى شاب من شباب الحي لكن أهلها منعوها من الاتصال به، وهددوها بالضرب والقتل إن هي حاولت التحدث إليه، ودعوها مرة لتقدم القهوة إلى ضيوف أبيها، وإذا بالضيوف أطباء جاءوا ليفحصوها، ولما تبين لأهلها أنها عذراء زوجوها من أبن عمها الذي تكرهه، وكان عاجزا في حياته الجنسية، والتحق بالجيش بعد شهر من زواجه، فأحب الفتاة أن تنفصل عنه، وقدمت شكواها إلى المحكمة الكنسية، فحولت هذه أوراق القضية إلى روما، وانقضت ثلاث سنوات والفتاة تنتظر النتيجة، فكانت مقيدة بزوج لا تشعر بكيانه، وكان أهلها يدفعونها إلى الخدمة في البيوت لتعول نفسها، وكانوا يهينونها، ويسمعونها لاذع الكلام، فضاقت ذرعا بهذه الحياة، وعقدت النية على أن تفر إلى المدينة لتمتهن التمثيل علها تأخذ فيه دور المآسي!. . ولتحترف الغناء علها تبث فيه ما في نفسها من لوعة وألم!. . .

استمعت إلى مأساة سلمى، ثم أقنعتها بضرورة العودة إلى ذويها. . . وبعد مضي سنة علمت أنها فرت ثانية من بيت أبيها، وأحبت شابا مسلما وسألته أن يتزوجها.

فقال لها - لكنني أريد أن تعتنقي الدين الإسلامي؟

قالت - أسلمت!. . .

قال - ولا أريدك أن تكوني سافرة.

قالت - سأتشح بالسواد من أجلك. .

قال - ولا أريدك أن تخرجي من البيت.

قالت - لن أخرج من البيت إلا إلى مثواي الأخير!. .

وأعلنت إسلامها في الجريدة الرسمية، وانزوت في بيتها الجديد. . . فقد مثلت دورها. .

ص: 31

وغنت أغنيتها، ولا ينغص عليها حياتها إلا أهلها الأولون الذين يحاولون عبثا الوصول إليها فجاءها شقيقها مرة كبائع زيت. . . وجاءها عمها كبائع أقمشة متجول. . . وجاءتها شقيقتها كبائعة زهور. . وآخر من جاءها أبوها فكان يقرع باب الدار قرعا عنيفا ويصرخ قائلا: سلمى سلمى. . . ابشري يا ابنتي. . ابشري. . . لقد جاءك الطلاق من روما!. . . .

نجاتي صدقي

ص: 32

‌نظرات فلسفية:

(الذات). . .!

للأستاذ زكريا إبراهيم

أجل (الذات)! صاحبة الجلالة (الذات)! حولها تدور كل موضوعات الفلسفة، ونحوها يتجه كل بحث إنساني. هي المركز في دائرة الوجود، وهي المحور في كرة الإنسان! غفل عنها الفلاسفة حينا، ثم اهتدوا إليها، فاهتدوا إلى نفوسهم، ومنذ ذلك الحين أصبحت هي نقطة البدء ونقطة الانتهاء.

أي موضوع لم يتطرق إليه شك المفكرين، وأية حقيقة لم ترق إليها شبهات الفلاسفة؟ لقد امتدوا بشكهم إلى كل موضوع، ونشروا شبهاتهم حول كل حقيقة؛ أما (الذات) فقد بقيت دون متناول الشك، وفوق كل شبهة! أستغفر الله، بل (ذاتي) هي وحدها التي لا سبيل لي إلى أن أشك فيها، لأن بيني وبينك هوة لا يمكن عبورها! فكل منا عالم مغلق على ذاته، وذاتك نفسها هي بالنسبة إلى (موضوع) كسائر الموضوعات الخارجية! أما الوجود فلا علم لي به إلا عن طريق شعوري الخاص؛ وهذا الشعور هو الحقيقة الوحيدة المباشرة التي يمكن أن تدركها (الذات). فالذات هي كل شيء بالنسبة إلى صاحبها، وكل حقيقة لا بد أن تكون موسومة بطابعها.

إننا لا نتلقى الحقائق التي نؤمن بها من الخارج، بل نصنعها في الأعماق الباطنة من نفوسنا. وكل حقيقة لا تنبثق من ثنايا النفس، لا بد أن تكون زائفة مموهة. فالحقيقة من شأنها دائما أن تكون (ذاتية)؛ وحتى إذا لم تنبع الحقيقة من أبعد أغوار النفس، فإنها لا بد أن تمر على (الرقيب) الذي يطبعها بالطابع الذاتي الخاص! ولعل هذا هو المعنى الذي قصد إليه جيته حين قال:(إن ما ورثته عن آبائك وأجدادك، لا بد لك أن تحصله بنفسك حتى يصبح ملكا لك). فالإنسان لا يفهم تماما إلا ما فكر فيه بنفسه، وهو لا يؤمن إيمانا قويا إلا بما هداه إليه عقله. أما ما قاله الآخرون، أو ما روي عن السابقين، فهذا ما لا يمكن أن يفهمه المرء جيدا، إلا إذا دلته عليه نفسه، وأثبته له عقله. فكل حقيقة مهما كان من انتشارها وسيادتها، لا بد أن تهبط إلى الأغوار السحيقة التي تصنع فيها الحقائق، حتى تتلقى من (الذات) اعترافا بصحتها، وإقرارا بصدقها. ولهذا فإن كل إيمان لا بد أن يكون

ص: 33

(فرديا) حتى يكون إيمانا حقيقيا. . .

ولكن، هل جاءت قيمة (الذات) من أنها صانعة (الحقيقة) فحسب؟ كلا، بل هي أيضا خالقة (الشخصية). ففي أبعد أغوار الذات، تكمن قوى الفرد التي تحدد شخصيته وتعين سلوكه في الحياة. وهذه القوى الكامنة التي لا تظهر بوضوح في (الطبقة السطحية) من الذات، بل تنتشر في المسارب الخفية منها، مكونة وجودها الفردي الخاص بمعناه الحقيقي.

وكثيراً ما تكون هذه القوى الكامنة التي تكون جوهر الذات مجهولة لدينا، فتجيء أفعالنا مفاجئة للآخرين. وقد نزعم أن إمكانياتنا قد استوعبت واستهلكت، فإذا بنا نجد أن من الممكن أن ينبثق من أعماق نفوسنا شيء جديد. ولهذا فإن من الخطأ البالغ أن نحكم على نفوسنا بأنها ليست أهلا لهذا العمل أو ذاك، لأن التجربة كثيرا ما تظهرنا على أن في استطاعتنا أن نعمل ما كنا نعتقد أن ليس لنا عليه يدان!

وليست الحياة الفردية سوى تحقيق مستمر لكل القيم المتضمنة على شكل قوى أو إمكانيات في ثنايا الذات. وتحويل القوة إلى فعل هو جوهر الحياة الإنسانية ومعناها الأوحد. وهذا التوتر الذي يوجد بين ما حقق، وما لا بد أن يحقق، هو القوة المحركة الأولى في الحياة الإنسانية. فإذا حقق إنسان كل ما لديه من قوى مدخرة، وإمكانيات كامنة في أعماق نفسه بحيث لم تعد لديه قوة جديدة يمكن أن يحققها، فلا بد أن تصل حياته إلى نهايتها؛ لأن ذاته أقفرت، وإقفار الذات معناه الموت.

ولكن ما دام المرء حيا، فلن يكون في وسع أحد أن يقول عنه، ولن يكون في وسعه هو أن يقول عن نفسه، إن شيئا جديدا لا يمكن أن ينتظر منه! فطالما كانت الذات حية خصبة، كان لا بد لها أن تزهر! وقد تعرض للذات أحداث بسيطة، فتكون مدعاة لظهور أمور جديدة، أو إيقاظ أفكار كامنة، أو تولد معان لم تكن منتظرة!

أجل! إنها الذات؛ والذات عالم يعج بالأفكار والمعاني؛ ومن أعماق هذا العالم الصاخب تنبثق الأفكار العظيمة، والمعاني الجليلة؛ فهل من حرج على الفلاسفة إذا لخصوا رسالتهم في عبارة موجزة، فقالوا على لسان شيخهم سقراط:(أيها الإنسان: اعرف نفسك)

إن (الذات) هي الحقيقة الأولى والأخيرة، فليس بدعا أن تؤكد الذات نفسها بكل قوة على لسان شوبنهور قائلة:(إن العالم من تصوري) وهل يقوم للعالم الخارجي وجود بدون الذات

ص: 34

المفكرة، التي تخلع عليه معنى من عندها؟ إنها الذات وكفى!

(مصر الجديدة)

زكريا إبراهيم

مدرس الفلسفة بالمدارس الثانوية

ص: 35

‌طنجة والنظام الدولي

ضرورة تقرير وحدة مراكش واستقلالها في المؤتمر الدولي

القادم

للأديب عبد المجيد بن جلون

تقع مدينة طنجة عند المدخل الغربي للبحر الأبيض المتوسط وهي مدينة جميلة خضعت لمؤثرات غريبة وحكم عليها موقعها الجغرافي بأن تنفرد عن أمها مراكش بالنظام الدولي.

ولسنا نريد أن نتحدث هنا عن النظم المطبقة فيها بقدر ما نريد أن نلفت النظر إلى ما لهذا النظام من أثر سيئ في حياة المراكشيين الذين يقطنونها.

وأول ما يلاحظ هو أن المدينة أصبحت وكرا من أوكار الجاسوسية في العالم، ففيها تلتقي أجناس مختلفة لا حصر لها، تفد إليها من الشرق والغرب، وبذلك تلتقي فيها الأخبار ويسهل إذاعتها والتقاطها، ولكل من الشيوعية والفاشية والديمقراطية فيها عيون ساهرة أو أفواه ناطقة. وقد كان لوجود هذا المزيج البشري الغريب تأثير عميق على أحوال المدينة العامة، فانتشرت المراقص والحانات وأمكنة المقامرة ونقل إليها هؤلاء الوافدون عليها - وهم من طبقات منحطة في الغالب - كل ما يوجد في العالم من موبقات.

ثم إن هؤلاء الوافدين عليها قد تجاهلوا أن هناك غيرهم في المدينة مع أن عدد المراكشيين ينيف على مئة ألف يشتط الأجانب في اغتصاب حقوقهم من الإدارة الدولية، ولما كانت هذه الإدارة تتأثر بعوامل مغرضة، ولما كان الفرنسيون والأسبانيون يخشون من أن يستفيد المراكشيون من الأنظمة الحرة التي يعمل الأجانب على استصدارها، فقد استطاعوا أن يصلوا إلى غاياتهم بالتفريق بين التشريعات الخاصة بالأجانب والتشريعات الخاصة بالوطنيين؛ وبذلك صدرت قوانين استثنائية لحق الأهالي منها ضرر بليغ.

صحيح أن جلالة ملك مراكش الممثل بواسطة مندوب هو السلطة التشريعية العليا للمدينة، وأن كل ما يخصها يصدر بمراسيم ملكية، ولكن كل هذا من الناحية الشكلية فقط، أما الحقيقة الواقعة فهي أن حق الاعتراض الذي يتمتع به أعضاء مجلسها قد أفقد المراكشيين كل سلطان؛ وبينما يدفع الأهالي الوطنيون 90 % من ضرائب المدينة، إذا بالأجانب

ص: 36

يتمتعون بالمدارس الخاصة والقوانين الاستثنائية والامتيازات المجحفة، أي إن الأجانب يعيشون فيها على حساب المراكشيين.

ولما كانت لبعض الدول الممثلة في المجلس أغراض معينة تعمل على تحقيقها، ولما كانت هذه الأغراض المعينة تتضارب في بعض الأحيان، ولما كان النفوذ يتنقل بالدور بين الأعضاء تحت الرياسة الاسمية لمندوب جلالة الملك - فقد تعرضت المدينة ونظامها للخلل بسبب كثرة الإبرام والنقض وفوضى الأهواء والنزعات.

ثم بعد ذلك نجد أن المدينة كانت تتمتع قبل النظام الدولي بنهضة ثقافية واجتماعية قد تعرضت في حياتها للشلل بسبب استفحال أمر الأجانب فيها؛ وهكذا تعطلت فيها مشروعات الإصلاح كما تعطلت فيها الصحف العربية وهي التي كانت يوما ما المهذ الذي نشأت فيه الصحافة العربية المراكشية، ويكفي أن نقول لكي نبرهن على مبلغ الضرر الذي ألحقه الأجانب بها، أنه لم تصدر فيها صحيفة واحدة باللغة العربية منذ نشأ النظام الدولي فيها، وأن الصحف تصدر فيها بعدة لغات أخرى، ذلك أنه يوجد في القانون الذي صدر سنة 1923 بند خطير يمنع الأهالي من القيام بأي نشاط سياسي مهما كان طابعه مراكشيا، وهذا البند ينص على منعهم من مطالبة فرنسا وأسبانيا بإصلاح الموقف في مراكش تحت ستار (منع الدعاية للقضية المراكشية) أو (عدم القيام بأي نشاط ضد نظام الحماية في منطقتي مراكش الخاضعتين للحماية الفرنسية والأسبانية).

ولعل الأجانب قد أدركوا مساوئ هذا النظام، ولذلك قرروا إعادة النظر فيه بواسطة عقد مؤتمر في خلال الشهور القليلة القادمة، وأملنا هو أن يدركوا هذه الحقائق التي سردناها، فيعيدوا إلى مندوب جلالة الملك سلطته الحقيقية، ويفكوا عن مئة ألف من المراكشيين القيود الثقيلة التي فرضها عليهم نظام سنة 1923 بحيث تكون الأغلبية الساحقة من المراكشيين بنسبة 10 إلى 100 بحجة أنهم يؤلفون هذه النسبة الضخمة. ونحن نعرف أن المؤتمر سوف يتألف من أعضاء دول الجزيرة كما نعرف أن مراكش إحدى هذه الدول، ولذلك يجب ألا تمثل فيه فحسب، بل يجب أن يكون صوتها مسموعا وأن يكون هذا الصوت صادرا عن الشعب المراكشي ذاته.

ونحن متأكدون من أن أي نظام دولي مهما كان لونه لن يحقق مصالح هذه المدينة ولا

ص: 37

مصالح القطر كله، ولذلك يجب أن ينظر المؤتمر في مسألة مراكش كلها لا في مسألة طنجة وحدها، على اعتبار أن المدينة غير منفصلة عن أمها الكبرى، فلأجل بحث مسألة طنجة يجب البحث عن مسألة مراكش كما يرجع الباحث في الفروع إلى الأصول.

إن الداء الوبيل الذي لن يستقر معه نظام في أي شبر من الأقاليم المراكشية هو نظام الحماية، نظام التقسيم والتبديد والفوضى، ذلك أن الأساس الذي يقوم عليه نظام الحماية في مراكش أساس فاشل، وهو أساس يعبر عن قصر في النظر شنيع، وهذا الأساس هو تقسيم مراكش إلى عدة مناطق. فلو فرضنا أن الإخاء والحرية والمساواة والعدالة تحققت - ولو في الخيال - في كل منطقة من هذه المناطق، فإن ذلك لن يغني فتيلا في إرضاء المراكشي، لأنه ممنوع من أن يمد يده لمصافحة أخيه، ولأنه قد انتزع انتزاعا من أمه مراكش.

وإذن فليس هناك حل لهذه المشكلة المراكشية سوى إلغاء الحماية، وإلغاء التقسيم، وتقرير مبدأ جديد هو مبدأ الوحدة المراكشية، ولا سبيل إلى تحقيق هذه الوحدة - من وجهة النظر العملية - إلا بإلغاء الحماية وتقرير مبدأ الاستقلال، ثم بعد ذلك تجتمع دول معاهدة الجزيرة الخضراء - ومنها مراكش - لتنظر في نظام جديد يحفظ كرامة المراكشيين ومصالح الأجانب في وقت واحد.

مبدأ الحماية والتقسيم مبدأ جائر تحمل المراكشيون بسببهما أفظع التضحيات، ومبدأ الاستقلال والوحدة هو المبدأ الذي يجب أن يقوم عليه كل بحث يتعرض لأي جزء من أجزاء مراكش؛ وكل حل غير هذا بعيد عن أن يثبت الأمن والنظام، أو يضمن الديمقراطية لشعب حارب في سبيل الديمقراطية عشر سنوات كاملة في حربين عالميتين!

الديمقراطية! إنها النظام الذي ساهم المراكشيون في تدعيمه بأعز ما يملكون من دماء ومع ذلك ما يزالون إلى اليوم محرومين من التمتع بأبسط مزاياها.

عبد المجيد بن جلون

ص: 38

‌وادي الخلود.

. .

(مهداة إلى وفد الجنوب)

للأستاذ سيد قطب

على ضِفاف الخلودْ

وفي شِعاب الزمنْ

والدهرُ طفلٌ وليد

قد كان هذا الوطن

يا فجرُ من ذا رآك

تطوف تلك السماء

وليس حيٌّ سواك

تُهدي إليه الضياء؟

رأتك تلك الضِّفاف

رأتك تِلك البُرور

رأتك قبل المطاف

وأنت طفلٌ غرير

وشبتَ والدهر شابْ

وحنَّكتْكَ الحياة

والنيلُ بادي الشباب

والزهرُ يقفو خطاه

ينساب مثل النغم

في عزف نايٍ طروب

وكانسياب الحُلم

تُضِفي عليه الغيوب

خريرُه صلواتْ

مُعطَّراتُ النشيدْ

وموجُه أغنياتْ

مرتَّلات القصيد

يا نيلُ كم من شِراع

يا نيلُ كم من سفين

أسْلَمْتَها للوداع

على مدارِ السنين!

يا نيلُ كم من جُموع

ماجتْ بتلك الضفاف

يا نيلُ كم من زروع

وذي وذي للقطاف!

وأنت صِنْو الخلودْ

وفي يديك الزِّمامْ

وكل عامٍ تعود

مجدَّدَ الأيام

تَجري فتجري الحياة

ويُمرِع الشاطئانْ

ويتسفيق الرُّعاة

وتمرحُ القطعان

وينشط الزرزور

فيجمعُ العيدان

وعشُّه معمور

بفرخهِ الوسنان

ص: 39

أكاد خلفَ القرون

أحسُّ رِكزَ الجموع

أراهُم مُهطِعين

في موكب للربيع

قد شمَّروا للحصاد

وخلَّفوا (أمشير)

في فرحة الأولاد

تسابقوا للبُكور

وموكب للرَّوَاح

في كل يوم يَؤُوبْ

يزفُّه الفلاَّح

على مدار الغُروب

من الحقول المريعة

إلى الحِمَى والديار

تضمُّ فيه الطبيعة

عيالها الأبرار!

لُحونُهُ من صِياح

ومن رُغاء النَّعمْ

ومن رجيع النُّباح

ومن ثُغاءِ الغَنَم

على مدار القرون

يسيرُ فيه الرُّعاه

كأنهم خالدون

ما بُدَّلوا في الحياة!

أحبُّ فيك الخلودْ

يا أيها الوادي

أحب فيك الصمود

للقاهر العادي

تصبُّ فيك الوفود

وأن يقظانُ ساهر

تصوغهم من جديد

كأنما أنت ساحر!

يا مهبط الأسرار

من الغيوب العميقة

يا موطن الأسحار

من القرون السحيقة

يأوي إليك الزمان

خوف البِلى والفناء

يأوي لحصن الأمان

فيستمد البقاء!

ووجهُكَ الفتان

بلونِه الأسمر

يا طالما يزدان

بزرعك الأخضر!

ترنو له عيناي

في فتنة العاشق!

يا أرض يا دنياي

يا آية الخالق

يا أرض كم تحلمين

بالزهر أحلام شاعر

ص: 40

رؤاك طولَ السنين

يا أرض تلك الأزاهر

وريحك المعروف

يشَمُّه أنفي

في خاطري مألوف

ممَّيزُ العرف

يا أرض هذا الصعيد

مقدس في ضميري

سرى عليه الجدود

وأخلدوا للقبور

يكاد فرط الحنين

إليهمُ في شعوري

يردُّهم شاخصين

إلىَّ خلف الدهور!

يا أرضُ سرٌ دفين

مغيَّبٌ في ثراك

يردَّنا مُوثَقين

إليكِ أسرَى هواك

هذا الثرى المنثور

في صفحة الوادي

عرفتُه في الضمير

رفاتَ أجدادي!

يا أرض هذا النشيد

من وحيك العبقريِّ

فنوِّليه الخلود

بسرِّك القدسيِّ

ص: 41

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

713 -

إن ذا من العجب

أمر بالكرم إن عبرت به

تأخذني نشوة من الطرب

أسكر بالأمس إن عزمت على الشرب غدا إن ذا من العجب

714 -

ولكن أعلل قلباً عليلاً

جحظة:

إذا ما ظمئت إلى ريقها

جعلت المدامة منه بديلا

وأين المدامة من ريقها

ولكن أعلل قلبا عليلا

715 -

على ما يقال

قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد:

وأطيب شيء إذا ذقته

رضاب الحبيب على ما يقال

716 -

أبو نؤاس الناسك

من مجون أبي نؤاس أن الأمير لما نهاه عن الخمر وحبسه، فكلمه فيه الفضل بن الربيع وأخرجه كتب إليه:

أنت يا بن الربيع علمتني الخي

ر وعودتنيه والخير عاده

فارعوي باطلي وراجعني الحل

م فأحدثت عفة وزهاده

لو تراني ذكرت بي الحسن البص

ري في حال نسكه أو قتاده

التسابيح في ذراعيّ والمص

حف في لبتي مكان القلادة

فإذا شئت أن ترى طرفة تع

جب منها مليحة مستفادة

فادع بي لا عدمت تقويم مثلي

فتأمل بعينك السجادة

لو رآها بعض المرائين يوما

لاشتراها يعدها للشهادة

أثر لاح للصلاة بوجهي

توقن النفس أنه من عباده

ولقد طالما شقيت ولكن

أدركتني على يديك السعادة

ص: 42

717 -

يعبد الله على حرف

قال أبو عمرو الزاهد: دلك بعض الزهاد المرائين جبهته بثوم وعصبها ونام ليصبح بها أثر السجود، فانحرفت العصابة إلى صدغه، فأخذ الأثر هناك.

فقال له ابنه: ما هذا يا أبت؟

قال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.

718 -

وبيانها سحر مقلتها

وصف أحمد بن أبي خالد جارية كاتبة فقال: كان خطها أشكال صورتها، ومدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وقلمها بعض أناملها، وبيانها سحر مقلتها.

719 -

ينسي المصيبة

قال المبرد: لما توفيت والدة إسماعيل بن إسحاق القاضي ركبت إليه أعزيه وأتوجع له، فألفيت عنده الجلة من بني هاشم والفقهاء والعدول ومستوري مدينة السلام، ورأيت من ولهه ما أبداه ولم يقدر على ستره، وكل يعزيه وقد كاد لا يسلو، فلما رأيت ذلك منه ابتدأت بعد التسليم فأنشدته:

لعمري لئن غال ريب الزما

ن فينا لقد غال نفسا حبيبه

ولكن علمي بما في الثوا

ب عند المصيبة ينسي المصيبة

فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه ورأيته بعد قد انبسط وجهه، وزال عنه ما كان فيه من تلك الكآبة، وشدة الجزع.

720 -

أنت الفداء لمن ابتدأ هذا فأحسن

قال عون بن محمد الكندي: كنا مع مخلد الموصلي في مجلس وكان معنا عبد الله بن ربيعة الرقي، فأنشد مخلد قصيدته التي يقول فيها:.

كل شيء أقوى عليه ولكن

ليس لي بالفراق منك يدان

فجعل يستحسنه ويردده، فقال له عبد الله: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول:

سلبتني من السرور ثيابا

وكستني من الهموم ثيابا

ص: 43

كلما أغلقت من الوصل بابا

فتحت لي إلى المنية بابا

عذبيني بكل شيء سوى الصد

فما ذقت كالصدود عذابا

فضحك الموصلي. . .

721 -

خليا سبيل الصبا يخلص إليّ نسيمها

تزوج أبو الفرج بن الجوزي امرأة اسمها نسيم الصبا فأقام معها مدة، ثم وقعت بينهما وحشة ففارقها فاشتد كلفه وزاد غرامه وراسلها فأبت عليه وطال بينهما الأمر. ثم حضرت مجلس وعظه يوما فلاحت منه نظرة فرآها وقد استترت بجاريتين، فتنفس الصعداء وأنشد قول قيس بن الملوح (مجنون ليلى):

أيا جبل نعمان بالله خليا

سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حزازة

على كبد لم يبق إلا صميمها

فاستحيت ثم ذهبت وقد داخلتها الرقة، فحكت لبعض النساء ذلك فمضت فأخبرته فراسلها فأجابت فتزوج بها.

722 -

الأقيشر والشرطي

في (الأغاني):

شرب المغيرة بن عبد الله الملقب بالأقيشر يوما في بيت خمار في الحيرة، فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه فغلق الباب دونه فناداه الشرطي: اسقني نبيذا وأنت آمن.

فقال: والله ما آمنك. ولكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده وأنا أسقيك منه. ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثقب، وصب فيه نبيذا من داخل والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر. فقال الأقيشر:

سأل الشرطي أن نسقيه

فسقيناه بأنبوب القصب

إنما نشرب من أموالنا

فسلوا الشرطي ما هذا الغضب

723 -

وقع بين موسى وفرعون شمرية

قال الأصمعي: سألت أعرابيا وقد خرج من الصلاة: ما قرأ الإمام؟ قال: ما أدري إلا أنه وقع بين موسى وفرعون شمرية

ص: 44

724 -

مصيبتان

كتب أحمد بن يوسف الكاتب لبعض إخوانه من الكتاب وقد ماتت له ببغا، وقد كان له أخ يضعف:

أنت تبقى ونحن طرا فداكا

أحسن الله ذو الجلال عزاكا

فلقد جل خطب دهر أتانا

بمقادير أتلفت ببغاكا

عجبا للمنون كيف أتتها

وتخطت عبد الحميد أخاكا

كان عبد الحميد أصلح للمو

ت من الببغا وأولى بذاكا

شملتنا المصيبتان جميعا

فقدنا هذه ورؤية ذاكا

ص: 45

‌زوجتي.

. . .!

وفاء ورثاء

للدكتور أحمد زكي أبو شادي

سافر إلى نيويورك يوم الأحد الماضي الدكتور أحمد زكي أبو شادي ليقيم بها هو وأسرته، وقد أرسل إلينا ليلة سفره هذه القصيدة ومعها كتاب يقول فيه:

(كان بودي أن أزورك مودعاً قبيل مبارحة وطني الذي لم تسمح لي الظروف بخدمته كما أود، ولكن أحوالي الخاصة لم تمكني من مغادرة الإسكندرية لهذا القصد، وسأبحر منها مع أولادي على الباخرة فولكانيا يوم الأحد 14إبريل وعلى فمي بيت المتنبي:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

ألا تفارقهم فالراحلون همو!

وكان بودي لو حملت رسالة توديعي طاقة باسمه لا هذه المرثية الحزينة لزوجتي ولكنها أغلى ما أملكه الآن وقد ارتسمت فيها ذكرياتي وعواطفي وأشجاني)

كتب الله للدكتور السلامة، ومن عليه في مهجرة بطيب الإقامة.

ماذا تفيدُكِ لوعتي وبكائي؟

هذا فَناؤكِ مُؤْذِنٌ بفنائي!

أسديتِ عمرك للحياة فما وفت

ومضيت للأبرار والشهداء

لهفي عليكِ وقد أتيتُ مودِّعا

فبكيتُ فوق جبينك الوضاءِ

زات الممات جمالَه وتناثرتْ

مني الدموعُ عليكِ كالأنداءِ

كانتُ حشاشتيَ المذَابةَ حرقةً

وبقيَّةَ المكنوز من نَعمائي

فترنحتْ بفجيعتي، وتضوّعتْ

بسريرتي، وتلألأت بوفائي

ورَوَت مُحياً كان جنةِ نِعمتي

وملاذ تفكيري ووحي ذكائي

وطرحتِ آلام الحياة عزيزةً

فبدوْتِ بين سماحةٍ وصفاءِ

وأقبلُ الوجه الحبيب، وطالما

أودعتُ فيه صبابتي ورجائي

شملَ السلامُ هدوَءه وتبدَّدت

غيرُ السنين، وزال بَرْحُ الدَّاءِ

وأكادُ أنسى للمماتِ خُشوعه

لما نسيتُ تجلدِّي ومضائي

كم كنتُ أعْلقُ بالخيال توهماً

وأرى الشِّفاَء ولاتَ حين شفاءِ

ويغالطُ القدرَ العتيَّ تفاؤلي

وأنا الخصيمُ لخِدْعةٍ ورياءِ

ص: 46

آبىَ اعترافا بالممات، كأنني

لما بكيتُكِ قد أضِلَّ بُكائي

أو أن هذا الموت حق ثابت

إلا على الأحبابِ والخلصاءِ

أو أن عيشي أن أراكِ بجانبي

مهما هُزلتِ فلا يهدُّ بنائي

أعتاضُ باللمحات عن أُغنيَّةٍ

وعن الحديث العذب بالإيماء

وأعدُّ أنفاسا وهَبْتِ، ذخيرتي

وحفيفَ ألفاظ همسْتِ، رخائي

وأموِّهُ الألم الدفين وأتَّقي

عِلما به، وأصدُّه بغبائي

وأكادُ أقسو في مُجانبةٍ له

أوَ ليسَ جسمكِ رمزٍ كل نقاءِ؟

متنزِّهاً عن كل ما شان الورى

مترفعا عن عِلَّةٍ وعناءِ

حتى صدمتُ، ولا كصدمةِ شاهق

متحطمٍ بصخوره الصمَّاء

فجننتُ من حُزني وعِفْتُ حصانتي

ودَفنتُ كلَّ رجاحتي العمياءِ!

لهفي عليك زميلتي في رحلتي

وشريكتي في الصفو والضراء

لم أرْض غيري أن يسيرُ مُشيّعا

أو أن تُوزَّع حرقتي وعنائي

وكتمتُ نعيك، كم أضن بذكره

وأحوطُه بنُهايَ واستحيائي

لبيتُ رغبتك الزَّكيةَ دائما

ووعيتُها نبلاً ولطفَ حياءِ

وجعلت مأتمك الرهيبَ عواطفي

وبخِلْتُ بالتنويهِ والإفضاءِ

حتى تفجر بي الأنين مَلاحما

وجرى النظيمُ بأدمعي ودمائي

ما كنت أحسب أن يومك سابقي

أو أن أيامَ الحياةِ ورائي

كنا نهيئ للرحيل متاعنا

وننسق الآمالَ غيرَ بطاءِ

ونهيب بالدنيا لتشهدَ حظنا

ونهشُّ للأيامِ والأنباءِ

ونردُّ عاديةَ الأنامِ تسامُحاً

مستغفريْنِ لجاحدٍ ومرَائي

متسابقين لنملأ الدنيا سَنىً

بالحبِّ والإيثارِ والإيحاءِ

فإذا رحيلكِ للنّوىَ ووداعنا

للحظِّ، والباقي الكليمُ ذَمائي

غدرت بيَ الدنيا، كأني لم أصُغْ

فيها الثناَء فما أفادَ ثنائي

ووهبتها - كرما - عزيز مواهبي

فجنت عليَّ شهامتي وعطائي

اليومَ أدركُ أيَّ عبءٍ فادحٍ

عني رفعتِ وما مدَى أعبائي

ص: 47

كم كنت أحلم بالهناءةِ والرَّضى

لك في نهايةُ عمركِ المتنائي

فأودُّ من قلبي بقاَءكِ بعد ما

أفنَى وأحسبُ في هواكِ بقائي

وأعدُّ عمركِ وحده عمري وما

أرضَى سِواكِ من الحياة جزائي

فتناثرَ الحلمُ الجميلُ وأقفرَت

دنيايَ من حُلمٍ ومن أضواء

وبقيتُ وحدي لا عزاءً أرومُه

والذكرياتُ تزيدُ من بُرحائي

يا طالما ناجيتها في نشوَتي

واليوم قد اصبحْنَ من أعدائي

ما نعمتي فيها؟ وأنتِ هي التي

جعلتِ بصُحبتها الأسى نعمائي

يا من فتنت بكل ما هو رائعٌ

وخلقتِ ألوان الجمالِ إزائي

ورسمتِ لي دنيا مُنوَّعة الشذى

قدسَّيةَ الألحانِ والأصداء

وبثثت بي حبّ الطبيعة فاغتدت

أميّ، أضعْتِ عزاَءها وعزائي

يا منِ غناؤكِ شدْوُها وحنينها

وصداهُ في قلبي الشجي غنائي

لما سكتِّ تقاطَرتْ عبراتها

واستسلمتْ للَّوْعةِ الخرساء

ومضى الرَّبيع مع الشتاء فلم أجد

إلا مظاهر وحشة وخلاء

تبكيكِ أخلص من وفت لروائها

وتصوفت بمروجها الغناء

ورأت بها الخير اللباب فما شكت

منها وناجتها أرقّ نِجَاء

وتناولت ألقَ النجوم فأترعت

منه دنان الحب للشعراء

كم ألهمتني من عيونكِ صورة

جمعت أحبَّ عواطفٍ ومرائي

وتبسمٌ تتبسَّم الدنيا له

ويغيب عن معنى وعن خيلاء

ورشاقةٌ معسولةٌ ملحونةٌ

كقصيدةٍ خلابةٍ عصماء

كم كنت أهتف بالنشيد ولم يكن

إلا خطوط جمالك الوضاء

تجري اليراعةُ في يدي مزهوةً

بتغزلي، ويهزني إملائي

مترنماً بالحبِّ بين ولائمٍ

للزهر والأمواه والأضواء

وإخالُ في دعةِ المروج جناننا

وأشيم في ألقِ الغدير سمائي

أيامَ كنا والشبيبةُ والهوى

حلفاء في أمنٍ من الغرماء

أيام كنا نستعيدُ ثراءنا

قُبلا، ونضحك من غنى وثراء

ص: 48

أيام كنا الحاكمين بأمرنا

الساكنين منازلَ الجوزاء

أيام كنا ذاهلين عن الرَّدَى

نجري ونمرح في الربى الفيحاء

ونخوض موج البحر ملء دعابة

متعانقين على هدير الماء

متحمسين كأنما خمرُ الصبا

خمر الألوهةِ من أعزَّ سماء

متلمسين بكلّ شيء لذةً

ومطوعين المستحيل النائي

وإذا غضبنا عاد حبك غافراً

وتعثرت شكواك عند ندائي

وفرحت بي فرح الحبيب بإلفه

قد عادَ بعد مخاطرٍ هوجاء

عشنا السنين كأنها أنشودة

علويةٌ جلَّت عن الضوضاء

متجددين، وإذ فقدتك لم يكن

فقدِي لغير فتاتيَ الهيفاء

من رامها أهلٌ الفنونِ نموذجاً

للمبدعين ومن لها أهوائي

من صوتها الحلو الشجي سلافتي

وحنانها العذب السخي دوائي

من لم تدع غير البشاشة وحدها

تفشي خواطرها لنقدِ الرائي

من أشربت حب الدعابة سمحة

واستضحكت لمصاعب الأشياء

من لم تر الدنيا سوى تغريدة

فأبت هواجسها أشدَّ إباءِ

من لم تردّدْ غير آمالِ الصبا

لتردَّني لطلاقتي ورضائي

من عشت أفديها بكل جوارحي

فإذا الفداء يهونُ وهي فدائي

من علمتني أن أقدس واجبي

مهما شقيت فأستطيب شقائي

من لم تودِّع في السقام وفاءها

للناس حين مضوْا بكلّ وفاءِ

من لم تفارقها الشجاعةُ مرة

حتى الممات، شجاعة العظماءِ

فمضت وخلتني وحيدا عابرا

قفر الحياة أنوءُ بالأنواءِ

هيمان، قربك وحده مستنقذي

ظمآن، ليس سواك ريَّ ظمائي

أقتاتُ بالحزنِ المبرَّح راضياً

وأعافُ كلَّ ملاحةٍ وسناء

وأضعت فني بعد موتك في الأسى

وكأنما صوَرُ الجمال بلائي

من طالما ناجيتها متغزِّلا

غرداً، فمات بهاؤُها وبهائي

كانت لروحك منك أنسَ مدامة

ومجالَ أشواقٍ ونبعَ صفاء

ص: 49

ومثلتِ أنتِ بكلِّ ما أحببتهٌ

فالآنَ أينَ تهافتي ونجائي؟

أين ابتسامتكِ الشذيةُ بالمنى

والنورِ حين أهيمُ في الظلماء؟

أين ابتداعكِ للحديثِ تفنُّناً

وتسلسلا يغْنى عن الندماء؟

أين اغتباطك بالمروءة والندى

والعطف والغفران والإسداء؟

قبرَتْ كما غاب النهارُ أشعةً

وكأنما أشلاؤُها أشلائي

وتركت في دنيا القساوة والأذى

متهالكا أمشي على الرمضاء!

قالوا: تصبر! إن حولك رفقة

منها، وحسبك صفوةُ الأبناءِ

ورثوا مكارم خلقها وسماتها

إرثاً تُدلُّ به على الآباء!

يا ليتهم عرفوا شمول عواطفي

ووفاء وجداني وصدْقَ ولائي

شيم شقيت بها وما عف الورى

فأثارُهْم شممي وفرطُ إبائي

وبقيت أسخر من جراحي هازئاً

بفواجع الآلامِ والأرزاء

مستلهما من لم تدعني مرة

في الحادثات أضيقُ بالأحياء

فالآن بعد ذهابها ومصابها

لم يغنني شممي ولا استعلائي!

تمضي الحوادثُ والسنونُ وتنقضي

أممٌ على أممٍ صباحَ مساءِ

ويظلُّ قلبي هيكلا لكِ خالداً

أبداً يرتّل لوعتي ورثائي!

أحمد زكي أبو شادي

ص: 50

‌البريد الأدبي

رواية من النسق العالي:

ليت الذين ينتصرون لعامية المسرح يشهدون رواية (تاج المرأة) في

دار الأوبرا الملكية فيروا كيف تتسلسل العربية البليغة على أفواه

الممثلين تسلسل الذهب، وترن في أسماع المشاهدين رنين الفضة،

وتؤدي معاني الكاتب الفرنسي النابغ أداء صادقا قويا لا تضيع فيه

لمحات النظر، ولا لفتات الذهن، ولا براعة الحوار، ولا حلاوة النكتة.

لقد كان تمثيل هذه الرواية نصرا عظيما للغة العربية وللفرقة القومية في وقت واحد: كان نصرا للغة العربية لأنها استطاعت بدقة الترجمة وقوة التمثيل أن تبرهن لخصومها على أنها اللغة الطبيعية للمجتمع الحديث والمسرح المهذب. وهل تكون الطبعية شيئا آخر غير هذا الانسجام العجيب بين الحركات والكلمات، وبين المواقف والعواطف، وبين التمثيل والواقع؟

كانت اللغة لسلاستها ومرونتها أداة جيدة التوصيل بين المؤلف والمترجم، وبين المترجم والممثل، وبين الممثل والجمهور؛ فالممثلون مندمجون في أدوارهم لا يحسون نبوا في العبارة ولا حرجا في الأداء، والمشاهدون مأخوذون بسحر التمثيل وجاذبية الرواية لا يشعرون بوجود مستقل عن هذا الوجود الذي خلقه في الفرنسية اسكندر دوماس، وصوره في العربية الأستاذ كامل البهنساوي!

ثم كان نصرا للفرقة القومية لأنها أقامت الدليل العملي على أن في مقدورها أن تؤدي رسالة الفن على وجهها الصحيح إذا تهيأت لها الإدارة الرشيدة والتوجيه المصيب، فقد كان الأداء خاليا من الشقشقة الخطابية، والتمثيل بريئا من البهلوانية المسرحية، وهما البليتان اللتان باعدتا من قبل بين اللغة والطبع وبين المسرح والحياة.

فإلى المترجم الفاضل التهنئة الصادقة على جمال الترجمة وحسن الاختيار، وللأستاذين والأستاذات: سراج منير، وجورج أبيض، وفاخر فاخر، وإحسان شريف، وأمينة رزق، وروحية خالد، الثناء الحق على روعة التمثيل وطبيعة الحوار.

ص: 51

إلي الأستاذ بن مصطفى

لم يكن ما نشرناه في (الرسالة) الغراء عن (كعب الأحبار) تفصيلا لتأريخه، أو استيعابا لترجمته، وإنما هو - كما ذكرنا - طرف صغير من أمر هذا الكاهن قبسناه من فصل طويل كسرناه في كتابنا (حياة الحديث) - الذي لم يطبع بعد - على (الإسرائيليات في الحديث)، وحشدنا فيه كل ما عثرنا عليه من أدلة وحجج لاستيفاء بحثنا وتأييده.

على أنه مما يسرنا أن نقرأ كتاب (عمر بن الخطاب) الذي ألفه الأستاذان علي وناجي الطنطاوي، حتى إذا وجدنا فيه ما لم يكن في كتابنا، زدناه على بحثنا، وجعلنا هذا الكتاب من مصادرنا.

هذا، وإني أشكر لك ما تفضلت به من لفت نظرنا إلى هذا الكتاب القيم.

(المنصورة)

محمود أبو ريه

معرض الكتاب العربي الأول لسنة 1946:

تعتزم وزارة المعارف إقامة معرض يطلق عليه (معرض الكتاب العربي) لمدة أسبوع يبدأ من يوم الخميس 30 مايو سنة 1946 بالسراي الصغرى بالجزيرة. والغرض من إقامة هذا المعرض هو التعريف بالمسائل الآتية:

تطور حركة التأليف من فجر النهضة الفكرية الحديثة حتى الوقت الحاضر.

تطور حركة الطباعة منذ إنشاء مطبعة بولاق الأميرية

تطور الصحيفة اليومية الإخبارية والدوريات الأدبية منذ قيام الصحافة في مصر

تطور فكرة توضيح الكتب بالرسوم والصور

تطور الكتاب المدرسي من حيث موضوعه وطبعه.

تطور حركة التأليف للأطفال والشباب

نهضة التأليف والترجمة في عهد المغفور له الملك فؤاد

النهضة الفكرية في عهد صاحب الجلالة الملك فاروق.

هذا، ويسر الوزارة أن يتفضل كل أديب بالمساهمة في إقامة هذا المعرض بما يستطيع

ص: 52

تقديمه على سبيل الإعارة.

وقد كلفت الوزارة مندوبها الدكتور إبراهيم جمعة مدير قسم المتاحف والمعارض الثقافية بالاتصال بعزتكم في هذا الشأن رجاء التكريم بإعارتنا ما يمكن تقديمه في موعد غايته يوم السبت 27 أبريل سنة 1946

(مراقب الثقافة العامة) محمد عبد الواحد خلاف

(وكيل المعارف) محمد شفيق غربال

(تاج المرأة) على مسرح دار الأوبرا الملكية

ما ألذ ساعة يقضيها الإنسان في دار التمثيل يشاهد صورة حية من صور المجتمع، ينقلها بوضعها الصحيح، ووقائعها المحسوسة الملموسة، ممثلون كأنهم أصحاب الصورة في إبراز الشعور وفي أداء الأغراض التي رمى إليها المؤلف في الابتداع، وفي تقسيم الفصول، وفي التفنن في التمهيد لكل حدث يقع، ولكل كلمة تلمح إلى ما يليها، والنكتة المضحكة وما يتبعها من لذعة مؤلمة، وأين تقع العقدة وأين ومتى يحلها وفق ما هو مفروض لمثله الأعلى الذي تصوره في ذهنه قبل خلق روايته.

ما أحلى تلك الساعة وما أشهاها لنفس تعلم جيدا أن التمثيل سيبقى أبد الدهر برغم مزاحمة السينما له ودفعها إياه بمناكبها الجبارة من طريقها، وأن بقاءه منوط بالحياة ذاتها، والاستمتاع بها نفسها، عن طريق المشاهدة والسمع، بانتشار العلم بين جميع الأوساط، وذيوع الثقافة الفنية، والإحساس الواعي بفتنة الفن وسحره.

ما أحلاها ساعة يرى فيها نصير التمثيل أينما تلفت مقاعد دار الأوبرا ومقاصيرها وشرفاتها حافلة بأيقاظ الذهن والروح والشعور يطمئنون دعاة الأدب والفن على أن البلد بخير وعافية، وأن نهضته صحيحة سليمة، وأنهم يتلقفون صور الحياة، ناطقة بالحياة، حبا للحياة.

بل ما أحلى أن يعي جيدا، ويدرك جيدا، ويعمل جيدا أولئك المشرفون على إبراز التمثيل إلى عالم الواقع، إن من أقدس واجباتهم، وأسمى غاياتهم إظهار ثقافة الأمة على حقيقتها، والأخذ بيد هذه الأمة لتتوقل معها مدارج الصعود، وأن هذا ميسور لها إذا قدرت أن مذهب

ص: 53

الفن للفن هو رسالتها، وأن كسب المال الوفير هو وسيلة لا غاية.

لقد نعمت بهذه الساعة السعيدة في دار الأوبرا حيث كانت فرقة التمثيل تمثل رواية (تاج المرأة) لمؤلفها دوماس العظيم، ومترجمها الأستاذ الفاضل كامل البهنساوي.

لقد نعمت فعلا بساعة سعيدة، كانت تتجاذبني خلالها انفعالات شتى، وأحاسيس متنوعة، واضطرابات تميل بي تارة إلى كل جانب استجابة لعواصف الحياة وهي تعصف هوجاء دائما على غير قياس وبدون تدبر، وقد نسقها فأبدع تنسيقها مؤلف عظيم موهوب فطر على انتزاع أسرار الحياة ليبسطها على المسرح، وتارة تجذبني جمل وألفاظ، وإيماءات وإشارات وتنقلات، وانخفاضات في الصوت وارتفاعات، ولين في خارج الكلمات أو شدة، وانفعالات واضحة في قسمات الوجوه، واللواحظ والابتسامات أتقنها الممثلون والممثلات أجود إتقان. ولم تصدم سمعي كلمة واحدة نابية، أو جملة واحدة مخلخلة قلقة، أو لفظة تدل على أن المترجم لم يؤد الأمانة حقها، أو إلى ضعف في التوفيق بين اللغتين الفرنسية والعربية، أو التصرف والتهاون ولو قليلا في مقاصد المؤلف، أو التراخي في إبراز روحه العظيمة على حقيقتها في العظمة والجلال، هكذا يكون الانسجام الحقيقي بين المؤلف والمترجم والممثل والمخرج، فيمثلون روح الرواية الواحدة كل من ناحيته متساندين.

إنها لساعة تدفع بي بغير تحفظ إلى إسداء الشكر لهذه الفرقة التي أتحفتنا بتمثيل هذه الرواية في هذا الفصل، وكنت أود أن أطالبها المزيد من هذه الروايات الرفيعة، لأنها على الأقل تنفع كتاب الرواية المسرحية منا فتفتح أمامهم آفاقا لم يجرءوا بعد على ولوجها، فضلا عن أنها تعالج مشكلات اجتماعية لا تختلف عن مشكلاتنا الاجتماعية والخلقية والعائلية في وسطينا الراقي والوسط، ولكني أوفر على نفسي مطالبة هذه الفرقة التي لا تريد أن تعترف بأن لها رسالة ثقافية، وأن عليها واجبات نحو الأمة والحكومة.

حبيب الزحلاوي

ص: 54

‌الكتب

الأوذيسة. . . .!

بين هوميروس ودريني خشبه

للأستاذ زكي المحاسني

أين أنت يا عولس بعد أن دكت العصور عهدك القديم، وهدمت حرب الأمس قومك الحديث، وضاع كل شيء من آثارك إلا كتابا خلدك بين أناشيده هوميروس أبو الشعراء؟

هلم عولس من أطباق ثراك إن كان معروفا ثراك، وجيء حمى العربية تلق كتابك فيها منشورا، وذكرك بلسانها مسطورا.

تلك هي (الأوذيسة) تنشر في لغة العرب اليوم أول مرة، ولئن سبق الأستاذ دريني خشبه فأخرج للناس (قصة طروادة)، فإنما كانت (الإلياذة) معروفة لدى العرب المحدثين منذ نظم ملحمتها الكبرى سليمان البستاني بلغة الضاد.

ولئن لم يكن للأستاذ خشبه في (قصة طروادة) سابقة التعريب، فقد كانت له فيها طرافة الرواية ورقة البيان، وقد كثر فيها صليل السلاح وعراك الحروب، فدارت حوادثها في البطولة والحماسة. أما (الأوذيسة)، فأكسبت الأستاذ خشبه سابقة النقل إلى العربية منذ نظمها (هومير) باليونانية العتيقة، وكانت سيرة الأخطار في البحار، وغرائب الحدثان في الحب والوفاء.

وقد ذكر المؤرخون أن العرب في العصر العباسي عرفوا (الإلياذة) وترجمها المرحوم (الرهاوي) أحد المقربين من الخليفة المهدي. أما (الأوذيسة)، فلم أجد أحدا من المؤرخين وأهل الأدب القديم قد ذكر أن العرب ترجموها أو عرفوها، فأكبر عندي ذلك أن أجدها اليوم بالعربية في جملة آثار النهضة الثقافية التي تهب في هذه الآونة على وادي النيل.

لكن الأستاذ خشبه لم يلزم ترجمتها في النص، ولا رعى الأناشيد في الشعر، وإنما ابتكر طريقة أخذ نفسه بها في سرد الأدب اليوناني القديم منذ أخرج كتابه الأول (أساطير الحب والجمال عند الإغريق)، وهي طريقة تنزع إلى الفن ومرانته أكثر مما تلم بالتاريخ وجموده. إن حوادث (الأوذيسة) لفي وعي راويها الأديب الذي يجيء بها على أنماط

ص: 55

قصصية آخذ بعضها بهامات بعض، وهو بهذه الطريقة ذو سابقة أيضا في أخبار الأساطير.

يتجهم لهذا الفن القصصي ناس يؤثرون عليه ترجمته بالنص، وقد يعسرون فيطلبون أن تكون الأوذيسة شعرا في العربية على نمط ما فعل البستاني بالإلياذة، لأن ذلك أبقى للأثر وأقرب تقليدا لأصله، وإن المذهب هؤلاء النقاد في نثر كان شعرا هو مذهبهم في ماء كان خمرا.

لكن أمثال أولئك الناقدين إذا ألموا بهذه الأوذيسة وتركوا مذهبهم قليلا، أنساهم أسلوب الأستاذ خشبه تلك الشروط، فراحوا مغمورين بسحر من القول وبراعة في الوصف، فجاسوا بأنظارهم خلال الحدثان منذ انتهت الحرب الطروادية، حتى عاد عولس إلى بلاده، فإذا فرغوا من كل ذلك حصلوا على السيرة الثانية التي تركها هوميروس ميراثا للآداب العالمية.

ضاع عولس في اليم وتفرق شمل صحابه، وأروع ما على اليم من أخطار تلك الجزيرة التي كان يملك عليها بوليفيم زعيم السيكاوب الإنسان الجبار. أما وصف بوليفيم، فنسج أسطورة مغرفة في الخيال. كان على هيئة إنسان ضخم كجذع شجرة السنديان عريض الألواح، وكان طوالا جسيما، يداه كغصنين، ورأسه كصخرة كبيرة، إنه ليستطيع أن يضع في كفه إنسانا، وأن يطبق أصابعه عليه. أما جبهته، فصفحة مبسوطة في بهرتها عين واحدة كفم البئر.

ومشى مهرولا، فاهتزت الجزيرة التي أرسى عليها مركب عولس وصحابه، وأحس عولس ورفاقه أن الكهف الذي أووا إليه يكاد يكون لهم مرقد المنية، فها هو ذا بوليفيم مقبل نحوهم بقطيعه يهش عليه بشجرة لها فرعان، كل فرع منهما كعمود المركب الكبير. أما أغنامه فكالثيران مرسلة الشعور إلى الأرض لحومها غذاؤه ولبنها شرابه.

ودخل الكهف البوليفيم فوجد ضيوفه، فلم يحسن لقاءهم؛ وإنما أخذ باثنين منهم فألقاهما في الفضاء حتى نطحا برأسيهما سقف الكهف ثم انحطا على الأرض هشيمين، فأكلهما شيا على النار بغير سفود، وجلس يتلمظ فسد باب الكهف بجسمه وأخذ يغط في نوم عميق.

فريع عولس وصحبه وعرفوا موتهم عند انتباهته، فاحتالوا له في يومهم الثاني. فتقدم إليه

ص: 56

عولس بكيده ودهائه وسكب في فمه زق خمر معتقة من دنان القس فوبوس إله آزماروس. فكرعها الوحش وسكر بنشوتين، ثم نام. فهب عولس وجمعه إلى النار فأوقدوها وأشعلوا رأس ذلك الغصن الذي يهش به الوحش على غنمه، وفقئوا عينه كما يطفئ الحداد عمود الحديد المشتعل بحوض من الماء.

وكان عولس حين تقدم إلى الوحش بخمره فسأله عن اسمه أجابه: اسمي أوتيس. ومعناها (لا أحد). فلما أحس الجبار بهول النار صرخ صرخة دوت في الجزيرة حتى مادت. فريع الجبابرة وجاءوا ركضا يسألونه الخبر، وكان الظلام مطبقا على الكهف وما حوله. فسألوا من آلمك أو قتلك. فقال وهو يجود بالنفس الأخير: لا أحد.

فانصرفوا وهم به هازئون.

تلك حوادث عولس وهي كثيرة منذ أنصرف الآشوريون إلى أمصارهم بعد أن فتحوا طروادة وخربوها. عاد ملكهم آغا ممنون جريحا إلى بلاده متحاملا على نفسه، وارتمى البطل مينيلاس على شواطئ مصر، وغرق آجاكس عند الصخور التي تتلاطم عليها أمواج البحر. أما عولس فقد كتب له أوفى نصيب من العذاب فظل السنين العديدة في جزيرة كاليبسو أسيرا عند الجن، أو مطروحا على ثبج البحر بمركبه القلق من جزيرة إلى جزيرة، وكان ابنه تليماك يقطع الآفاق بالبحث عنه راكبا على عجلة مجنحة أعطاه إياها نسطور الساحر.

يقول (كروازي) في كتابه عن الأدب اليوناني القديم: (لئن كانت الإلياذة قصة السير إلى الغزوة، أو الغزوة ذاتها، فإن الأوذيسة إذن هي قصة العودة).

وعلى مثال كروازي يحاول من يدرس الأوذيسة أن يؤرخها وينقدها، وبين وجوه الصحة والأصالة فيها، ووجوه الوضع والاختلاق، وكل ذلك لم يتعرض إليه الأستاذ دريني خشبه لأنه أسلف الكلام عليه مجملا في مقدمة الإلياذة، ولو فصل الكلام فيهما بعض الفصل فجعل لكل منها مقدمة خاصة لكان ذلك به أجدى وبفنه أوفى.

وكأن المقادير قد سيرت قلم الأستاذ خشبة، فقد أخرج الإلياذة والحرب في دنيانا قائمة. وكانت الإلياذة تاريخ حرب مصبوغة بالدماء يشتجر فيها الحديد وتستعر النار. فلما وضعت الحرب أوزارها وسكنت أصوات المدافع أخرج أمس للناس قصة الأوذيسة وكانت

ص: 57

الأوذيسة سيرة الصداقة والمحبة، والوفاء والألفة، بعد الشقاء والعذاب.

زكي المحاسني

ص: 58