المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 669 - بتاريخ: 29 - 04 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٦٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 669

- بتاريخ: 29 - 04 - 1946

ص: -1

‌يوم ولا كالأيام!

للأستاذ عباس محمود العقاد

كان يوم الاثنين الماضي في مصر يوم شم النسيم.

وشم النسيم في مصر يوم ولا كالأيام أو عيد ولا كالأعياد.

لأن العالم كله لا يعرف يوماً من أيام المواسم تلاقي فيه من المراسم والشعائر وتراث الأديان الباقية والبائدة ما تلاقي في هذا اليوم.

ففيه من شعائر الأديان البائدة أنه يوافق عيد الحصاد أو عيد الربيع، ويحتفل به الناس كما كانوا يحتفلون بعيد الخليقة قبل آلاف السنين.

وفيه من شعائر الدين الإسرائيلي أنه يوافق عيد الفصح، أو عيد الخروج من مصر مع موسى الكليم.

وفيه من شعائر المسيحية أنه يأتي يوم أثنين ولا يأتي يوم أحد، ليقترن بعيد القيامة ولا يختلط به في احتفال واحد.

والغربيون يذكرون عيد القيامة بأسماء تدل على بعض هذه التواريخ من جوانب متعددة.

فاسم (أيستر) الذي يعرف به في اللغة الإنكليزية مأخوذ من استر أو اشتار، أي عشتروت ربة الربيع.

واسم باك الفرنسي وباسكا الإيطالي مأخوذان من كلمة باسكا اليونانية وهي مصحفة من كلمة فسح العبرية وتكتب بالحروف اللاتينية، وهي في العبرية تقارب معنى فسح في العربية بمعنى الإفساح والتسريح، إشارة إلى اقتران العيد بانطلاق الإسرائيليين من أسر فرعون.

فالربيع الفصح والقيامة وشم النسيم موسم واحد متفق الموعد مختلف المراجع والأصول.

ولكل شعيرة من شعائر هذا الموسم سبب جديد وسبب قديم، أو تعليل يقول به مفسرو الأديان، وتعليل يقول به التاريخ.

فالإسرائيليون كانوا يذبحون فيه الحملان ويأكلون فيه فطيراً غير مخمر، ويقولون في تعليل ذلك إن ملك النقمة الذي ضرب أبناء المصريين بالموت كان ينظر إلى الأبواب فإن رأى فيها أثر الدم من الضحية تركها، وإن لم يره دخل البيت وأهلك أول أبنائه، وهي

ص: 1

علامة للتفرقة بين بيوت المصريين وبيوت الإسرائيليين.

ولما هب بنو إسرائيل للفرار من أرض مصر، اعجلوا عن انتظار العجين حتى يختمر فأكلوا خبزهم في ذلك اليوم فطيراً، فهم يحيون تلك الذكرى بأكل الفطير في مثل ذلك اليوم من كل عام.

أما مراجع التاريخ فتقول أن ذبح الحملان وأكل الفطير من أقدم شعائر الرعاة على سبيل القربان والاحتفال بالخير الجديد. فيتقربون إلى إله الزرع بذبح حمل مولود في عامه ويأكلون الحب الجديد غير مخلوط بخميرة من محصول قديم. وقد شاع أكل الفطير في المراسم الدينية تقرباً إلى الآلهة بين أتباع الأديان التي تعرف بأديان الأمومة، ويراد بها الأديان التي يعبد فيها الإله وأمه معاً، ويقال عن أمه في معتقداتهم إنها هي مصدر الخصب والولادة والنماء.

وقد كان المصريون الأقدمون يحتفلون بعيد الربيع في موسم قريب من موسم الفصح أو موسم القيامة بعد ذلك، وكانوا يرمزون فيه للخصب والولادة بأكل البيض لأن البيضة رمز كل ميلاد، ويرمزون فيه للمحصول الجديد بما يأكلونه من البقل الأخضر والبصل الأخضر كما نفعل في هذه الأيام.

فأخذ الإسرائيليون شيئاً من مراسم هذا الموسم، وجاء المسيحيون فمزجوا بين عيد الربيع الذي تبعث فيه الأرض وعيد القيامة الذي يبعث فيه السيد المسيح، واعتقد بعض شراحهم أن السيد المسيح حوكم وقضي عليه بالموت في يوم احتفال اليهود بعيد الفصح وهو اليوم الرابع عشر من شهر نيسان، وعدل فريق منهم عن هذا الموعد إلى الاحتفال بعيد القيامة في يوم الأحد الأول بعد أول قمر كامل يلي موعد الاعتدال الربيعي، أو موعد دخول الربيع.

ويأتي شم النسيم في الاثنين التالي لعيد القيامة، فهو يوم ولا كالأيام، لأنه من أيام الطبيعة وأيام العقيدة وأيام التاريخ، وفيه بيان ولا ككل بيان لمبلغ الاتصال بين الأديان من قديم وحديث، ولو تقصينا فروعه وشعابه في تاريخ كل زمرة وشعائر كل نحلة لما وسعه سفر كبير.

ولم يكن هذا العيد معروفاً باسم شم النسيم في العصور التاريخية القديمة، ولكنه سمي بذلك

ص: 2

بعد شيوع اللغة العربية في البلاد المصرية، ولا يذكر على التحقق سبب هذه التسمية ولكننا قد نفهمه من مصطلحاتنا التي نجري عليها اليوم في الدلالة على معناه.

فالمصري يسمي الرياضة فسحة أو شم هواء، وليس أقرب من تحويل عيد (الفسحة) أو عيد الفصح إلى عيد شم الهواء أو شم النسيم، ولا سيما في الموسم الذي تستطاب فيه النسمات، وتضيق فيه الصدور برياح الخماسين.

وقد شاع بين المصريين المحدثين أن (شم النسيم) يوم تختلس فيه النسمات فجراً، وتباكر فيه الحدائق والبساتين قبل امتلاء الفضاء بأشعة النهار، ومن لزم منهم المساكن ولم يخرج للنزهة في ظلال الأشجار فالرأي عندهم في الاستمتاع بطيب الهواء خلال ذلك اليوم أن يغلقوا عليهم النوافذ من الصباح ليحفظوا في البيوت بقية من هواء الليل الرطيب قبل أن تلهبه حرارة الشمس بأنفاس الطريق.

وتذكرنا هذه العادة بطريفة من طرائف الزعيم الكبير سعد زغلول رحمه الله، وقد تحدث إليه بعضهم عن حصافة (ذوي الرأي) في البلاد، وكان الموعد كموعد هذه الأيام.

قال رحمه الله: إني محدثكم عن حصافة ذوي الرأي هؤلاء، ولا أعفي نفسي مما يصيبهم في هذه الأحدوثة، فقد اتفقنا قبل يوم من أيام شم النسيم أن نقضيه في دار صديق من أصدقائنا، ونحن جماعة من ذوي الرأي كما تسمونهم سامحكم الله، وكان فينا العالم والكاتب والفقيه والمنطيق ومن يشار إليهم بالبنان في كل معضلة من معضلات الزمان.

وتوقعنا حرارة الجو المعهودة في موسم شم النسيم فاتفقنا على أن نتقيها بإغلاق النوافذ والأبواب منذ الصباح، ثم أغلقناها كما اتفقنا وقضينا سويعات من بكرة النهار في هواء رطيب محتمل، ونحن نغبط أنفسنا على هذه الحيطة ونرثي لمن فاتهم أن ينعموا بهواء البيوت وخرجوا إلى القيظ في الخلاء.

غير أن الحجرة ضاقت بأنفاس من فيها، وزادهم ضيقاً على ضيق كثرة المدخنين من نزلائها، وجعلوا يقولون فيما بينهم أنه قدر أهون من قدر، وأن احتمال الدخان خير من التلظي بنار الجو المحترق الذي قد يلفحنا بشواظه من وراء النوافذ والأبواب، لو فتحت النوافذ والأبواب.

واختنقنا ضيقاً ونحن على هذا الاعتقاد، وتفصّدنا عرقاً ونحن على هذا الاعتقاد، ومضى

ص: 3

نصف النهار ونحن على هذا الاعتقاد.

ثم قدم إلينا قادم من أصدقائنا ففتحنا له الباب اضطراراً؛ فأوشك أن يرجع أدراجه لحبسة الهواء في داخل الدار.

قال متعجبا: ما بالكم تسجنون أنفسكم هذا السجن الثقيل في هذا اليوم البديع؟

قلنا: قدر أهون من قدر أليست حبست الهواء هنا أهون من نار الفضاء خارج الدار؟

فضحك وهو يقول: أي نار فضاء؟ إن الفضاء ليخفق بالنسيم الجميل، وإنه كما يقولون ليشفي العليل.

وتقدم إلى النافذة ففتحها، وتقدم غيره إلى نافذة غيرها ففتحها، فإذا بالنسيم كما وصفه جميل يشفي العليل!

ونظر بعضنا إلى بعض متضاحكين، وفاتنا ونحن خلاصة ذوي الرأي أن نجازف بالتجربة، فنغنم نصف النهار ونستريح من كل ذلك العذاب.

وطرافة القصة كلها فيما ساقه فيها الزعيم الكبير من العبرة وأحاطه بها من التهكم والفكاهة، ولكنه قد جار على نفسه هنا وجار على أصحابه بعض الجور لأخذهم بجانب الخطأ وحرمانهم جانب الانتفاع بحق (الرأفة) في الحكم أو بحق الصواب.

فلو اتفق أن الهواء كان على عادته من الحرارة والغبار في تلك الآونة لما كان بقاؤهم وراء النوافذ المغلقة خلواً من الرأي السديد أو بعيداً كل البعد عن وجه الصواب.

ونحسب بعد هذا أن الخروج من شم النسيم بأضحوكة واحدة أو بمفارقة واحدة فريضة لا فكاك منها لتحية العيد الذي يسمى بعيد الربيع وعيد الشباب والحب والجمال. وهل يستحق الربيع اسمه إذا تنزهت فيه الدنيا عن الأضاحيك والمفارقات؟

ربما كان من مفارقاته الخالدة أننا نحن المصريين احتفلنا به زمناً إذ كان الاحتفال به - بين ظهرانينا - احتفالا بالنجاة منا والخروج من بلادنا. وأننا قد وصلنا به ما تقدم من تأريخنا العريق كأنما كانت فترة بني إسرائيل عارضاً بين فصول الرواية الأبدية لا يدخل في حساب المؤلف الخالد مؤلف التواريخ والأحقاب، وقد كانت لتلك الفترة العارضة صفحة متجاوبة الأصداء، لا يخفت دويها المتتابع مع الزمن في مسامع بني آدم وحواء.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌أيام العروبة تبدأ في سورية!

للدكتور عبد الوهاب بك عزام

سورية الكريمة العزيزة، سورية الجميلة الجليلة، سورية العربية الأبية، سورية الشجاعة الجريئة المجاهدة الصابرة تغسل اليوم عنها العار، وتستقبل الكرامة، وتبسم للحرية بعد أن طال عبوسها للعبودية، وتطوي صحيفة لعدوها سوداء لتنشر صحيفة لنفسها بيضاء، وتختم جهاد المعتدين لتبدأ جهاداً في الحياة السعيدة المجيدة، وتستأنف سيرتها العظيمة لتصل حاضرها الكريم، وماضيها الخالد بمستقبلها الو ضاء.

دمشق العتيقة الحديثة، دمشق الماضية الحاضرة التي ثبتت للخطوب ثبات قاسيون، وابتسمت للمحن ابتسام مروجها وجنانها

دمشق مجتمع الأحداث قد زخرت

فيها كما اندفقت في البحر أنهار

دمشق قد استدار لها الزمان، ورد عليها الدهر مجدها المنشود، فهي اليوم ظافرة فرحة تأسو جراحها، وتعد للمستقبل عدتها. قد انجلت عنها الغمرات كما ينجلي النقع عن البطل المرزأ يعصب جراحه ولواء النصر في يده.

مرزأ بتلقي الخطب منصلت

تنشق عنه من الأهوال أجفان

ليت شعري كيف الغوطة والربوة ودمّر والهامة اليوم؟

أترى أشجارها تتمايل طرباً، وأوراقها تصفق فرحاً! وكيف قاسيون ذو القمة الجرداء والسفح الأخضر.

نسر يرى اللّوح منه هامةّ عطّلاً

لكنه ذنب الطاووس جرار

كيف قاسيون اليوم؟ أتراه شمخ برأسه عزة، بعد أن رمى عنه آثار المذلة. وحلق على الرياض فرحاً في هذا النهار، بعد أن وقع كئيباً في ذلك الليل؟

وكيف بردى ذو الفروع السبعة؟ أهو اليوم جذلان مطرد يصفق مائه بنسيم الحرية، وتمحو جريته الظلال البغيضة التي تراءت على صفحته سني الاستعباد؟

وليتني أرى الآن جامع بني أمية هل نطقت جوانبه تسبيحاً وتهليلا، وهل تهم قبة النسر بالتحليق كما يحلق الطائر الوحشي قطع الشرك أو أنفتح عنه المحبس!؟

وكيف أبطال تاريخنا في المدينة وحولها! كيف معاوية والوليد؟ وكيف نور الدين وصلاح

ص: 6

الدين؟ وكيف الظاهر والعادل؟ وكيف أبطال الجلاد في عصرنا الذين نازلوا الباطل المدجج عزلا فزلزلوه حتى هدموه؟

وليت شعري هل انبعث الأذان من قبر بلال في مقبرة الباب الصغير أذانا بالفجر من هذا العهد المبارك؟

وحلب الشهباء، مدينة سيف الدولة والمتنبي، حلب التي أمدت الثغور بأبنائها قروناً، ودفعت الروم عن الشام عصوراً، كيف جذلها اليوم، وأين متنبيها ينشد قصائد المجد ليرويها الدهر؟

وكيف قلعة حلب اليوم وقد لفظت المذلة، واعتزت بما فيها من آثار المجاهدين الأولين. لقد دخلتها أول مرة قبل خمسة عشر عاماً ورأيت جنود السنغال فيها يخطرون، وينهون ويأمرون فأنشدت وفي النفس ما فيها من حسرات:

سادت كل أناس من نفوسهمّ

وسادت المسلمين الأعبد القزّم

فقد رفع اليوم عليها لواء الحرية، ورحض عنها عار العبودية، فحالت بناء جديداً، ومرأى حميداً، وكأن كل شيء فيها قد استحال! ليت شعري هل نطقت فيها الآثار الصامتة، وضحك على بابها الأسد الباكي.

وليتني اليوم في حمص أقف في روضتها كما وقفت من قبل، أستمد من ضريح خالد بن الوليد كل معنى جليل! ليتني اليوم على قبر خالد أبشره أن الزمان قد استدار، واستقلت الشام بأبنائها الأحرار، فليصفق نهر العاصي طرباً، وليزهر الديماس فرحاً فقد أقبل الربيع بربيع الحرية الناظر، وعهدها الزاهر.

يا دار هذا أوان السعد فاغتبطي

لا عادك النحس بعد السعد يا دار

وحماة المجاهدة، هل تبدّل أنين نعيرها غناء، واستحالت دموعها في البساتين ماء؟ ما أجمل غناء النواعير في حماة اليوم! قد مضى عهد البكاء، فليدم اللهم هذا الغناء.

وكيف أبو الفداء في قبره اليوم؟ يا أبى الفداء لقد طال الهجود، فقم وأضف إلى تاريخك هذا الفصل الجديد.

يا سوريتنا الجميلة الحبيبة! حيا الله فيك كل مدينة وقرية، ونظر كل دارة وبقعة، وحباك السعد مطّرداً مع الزمان، دائراً مع السنين.

ورحم الله كل مجاهد أمدك بحياته، وسقى ترابك بدمه، وثوى في الأرض كلمة باقية في

ص: 7

سطور تاريخك الخالد.

ونظر الله وجوه المجاهدين الأحياء، الذين صبروا وصابروا، وبسموا للخطوب السود في الظلام المكفهر حتى تبلج الصباح.

(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا)

وحيا الله هذا الرئيس الأمين، الطاهر القلب، المبارك الناصية (شكري) شكر الله مساعيه، وحيّا أصحابه الكرام، وحيّا كل من شارك في تحرير سورية بيده أو لسانه.

وبعد فيا سوريتنا العزيزة، قد رفع الزمان الأعباء عن كواهل الأعداء فوضعها على كواهل الأبناء، فليحملوا أعباء الواجب وليؤدوا تكاليف المجد، وليبنوا مستقبلهم بأيديهم لأبنائهم، وليعلموا أن حاضر العرب يؤمّل فيهم، وماضي العرب ينظر إليهم، ومستقبل العرب ينتظرهم، فليجمعوا القلوب والأيدي، وليحسنوا البناء.

إلا أنه قد فتحت لهم صحائف في التاريخ جديدة، فليجيدوا الكتابة في هذه الصحائف التي تخلّد كل شيْ.

إنهم يبنون أجيالا، ويكتبون تاريخاً، فلينظروا كيف بناء الأجيال وكتابة التاريخ.

يا سورية الجميلة! إن أبنائك اليوم قد رجعوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.

عبد الوهاب عزام

ص: 8

‌الأزهر في مفترق الطرق

منذ أعوام. . .

للأستاذ محمد محمد المدني

حيّاك الله - يا صاحب الرسالة - وبياك، ولا زلت موفقاً راشداً تنافح عن الحق، وتدعو إلى الخير، وتهدي إلى الصواب.

وجزاك الله خيراً عن (الأزهر) أنت وصاحب (العبقريات) عباس، فلقد نوهتما به في الناس، وما كان خاملا، ولكن بعض الذكر أنبه من بعض، وأقررتما حقه في حياة عزيزة كريمة، يرفع بها لواء الإسلام، ويذود عن حمى الدين، وينشر ثقافة العرب، ويحفظ التراث الغالي الذي لم يبق على ظهر الأرض من يستطيع أن يحفظه سواه!

ولا زالت (الرسالة) الغراء مشرق نور، ومصدر علم وأدب ومنتدى رأي وحكمة، ومحجة صلاح وسداد. . .

أما بعد فإن الأزهر من حيث نظامة، وأقسامة، وخططه، ومناهجه، وقوانينه، ولوائحه؛ لا يكاد ينقصه شيء: جمع بين الحديث والقديم في نظام رتيب رزين لا إفراط فيه ولا تفريط، وقرر من الكتب والدراسات والأساليب ما هو أدنى إلى تحقيق غايته، وتقريب رسالته مع احتفاظه بشخصيته التاريخية، وطابعه القومي الإسلامي، وقسمّ مراحل التعليم فيه أقساماً لا يستغني لاحقها عن سابقها، وأعد للدراسات العلى وللاخصاء كليات ثلاثاً، له أن يزيد عليها كلما قضت لذلك حاجة العلم توسعاً وإخصاء، وفيه إلى ذلك (جماعة) ذات شأن وخطر، كفل لها القانون حصانه، وجعل لها مقاماً محموداً، ومنحها سلطاناً أي سلطان في شئون العلم والدين، وله مع هذا مجلة تحمل اسمه الرنان وذهبه الرنان أيضاً!، وللمجلة (مدير) عظيم!. . . و (مدد) من الكتاب كذلك عظيم. . .

هكذا الأزهر في نظامه وأقسامه، وخططه ومناهجه، وقوانينه ولوائحه، وهو من هذه الناحية بخير والحمد لله، وإن كان في بعض التفصيل محتاجاً إلى تهذيب أو تقويم.

وكان فضيلة الأستاذ الأكبر المغفور له فضيلة الشيخ المراغي يعتقد - ويعتقد معه رجال دعوة الإصلاح - أن هذا النظام في جملته هو خير النظم، وإن الأزهر لا يحتاج إلى تعديله، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه)، وليس الغرض تنفيذه شكلا ومظهراً، ولكن جوهراً

ص: 9

وروحاً، وبأيد قويه حازمه، وأعين بصيره، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة، فإن المظهر الذي لا روح له، ولا حقيقة تؤيده، يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدم، وإن التطبيق الصالح لنظام فيه بعض المزايا خير من التطبيق السيئ لنظام من أرقى النظم.

كانت المعركة بين رجال الإصلاح وبين فضيلة الأستاذ الأكبر المراغي رحمه الله لا تعدو هذه الدائرة، وكان لفضيلته ناحيتان: ناحية يرى بها رأى المصلحين، ولا يجادلهم عليه، ولا ينازعهم فيه، بل كان يقرر في عبارات صريحة جريئة أن نظام الأزهر لم ينفذ، وأنه هو منذ تولي أمره لم يخط خطوة جادة في سبيل تنفيذه على النحو الذي يطمئن إليه قلبه ويستريح إليه ضميره؛ وناحية كأنها تحول بينه وبين مايريد، وتغلبه على أمره، ذلك بأنه كان رجلا خطيراً، نزّاعاً إلى غايات، نظّاراً إلى جوانب، يغار على نفسه، ويعتز بشخصه، ويحسب للسياسة حسابها، فيلمحها ويتطلع إليها، ويراقب تياراتها، ويفيد منها، ويحارب بها، ويجري في كثير من أعماله وأحواله على أساليبها، فلم يكن من السهل عليه مع هذا أن ينفذ ما شرع، وأن يحقق ما رأى، فكان قصاراه أن يصابر الداعين، ويلاين المهاجمين، وينتحل المعاذير في لباقة وحسن تخريج، ويحيل على الزمن، ويرى أنه يتربص للظروف والمناسبات، ولكن رجال الدعوة أعيوا به وأعيابهم، فانقلبوا عليه وانقلب عليهم. . . فكانت ثورة الأزهر!

ولعل الأستاذ الزيات وقراءه الكرام لم ينسوا أن الرسالة الغراء كانت حاملة لواء تلك الدعوة. ولست أنسى أنها نشرت في بعض أعدادها المذكرة المراغية المشهورة في إصلاح الأزهر، ثم علقت عليها بهذه الكلمة الجامعة اللاذعة التي ضمنها الأستاذ الزيات خلاصة الدعوة وغايتها حيث يقول:(هذه المذكرة هي مقطع الصواب في هذا الباب، وما نظن أحداً ممن تحري وجوه الصلاح لهذه الجامعة الإسلامية العظمى قد بلغ من ذلك بعض ما بلغ الإمام (المراغي) في هذه الكلمة. . . فلم يبقى عليه إلا أن ينفذ ما وضع، ويطبق ما شرع.

(إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا)

وقد توالت النذر، وتتابعت الصيحات، على صفحات الرسالة، وفي التقريرات المرفوعة، وفي المحاضرات العلنية الجامعة، وكان منها تلك المحاضرة التاريخية التي ألقاها رجل

ص: 10

كبير مسئول، لرأيه وزن وتقدير في الأزهر وفي غير الأزهر، هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت عضو جماعة العلماء ووكيل كلية الشريعة (يومئذ)، وقد عرض فيها لحالة الأزهر قديماً وحديثاً، وبين مدى انتفاعه بقانون الإصلاح المبنى على المذكرة المراغية ثم قال موجها كلامه إلى إخوانه وأبنائه من الأزهريين:

(أيها الإخوان. أيها الأبناء. لا أحب أن أبرح مكاني هذا حتى أصارحكم بما يجب أن نحسب حسابه، وأن نجعله نصب أعيننا من التفكير والعناية: إن الأزهر حقيقة كان مقصراً فيما مضى، ولكن الأمة لم تكن قد نهضت هذه النهضة، ولم تكن قد مارست من الشئون ما تمارس اليوم، فلم يكن الفرق بينها وبين الأزهر يومئذ ملحوظاً، أما اليوم فإن الأمة قد تنبهت وأصبحت تكلف أبنائها نشاطاً في خدمتها، ودأباً على ترقية شؤونها، وإخلاصاً وتفانياً في أداء واجباتها، وهي ترقب عن كثب ما تعمله كل طائفة لتحل هذه الطائفة محلها من الاعتبار أو الإهمال.

(ولست أشك في أن أبناء الأزهر اليوم قد وسعت الحياة مداركهم، وملأت بالآمال نفوسهم، وخلقت فيهم استعداداً حسناً للاضطلاع بأكبر المهام، ومنافسة أعظم الجامعات، وإنه لا ينقصهم سوى شيْ من العناية الجادة الحازمة يتصل بهم، فيربط بين قلوبهم، ويكشف لهم عن وجهتهم، وينظم جهودهم ويبرز أعمالهم؛ وليس من الرأي أن نترك هذه النفوس المستعدة المتطلعة إلي المجد حائرة دون أن نهديها السبيل)

تلك صفحة من تاريخ الجهاد في سبيل الأزهر، وفي الرسالة صفحات وصفحات!

و. . . أما بعد - مرة أخرى - فأن الأزهر كما تقول يا صاحب الرسالة في مفترق الطرق، وهو في مفترق الطرق منذ ذلك العهد، حين وضع نظامه الجديد ثم اكتفى في تنفيذه بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللباب، وسيظل في مفترق الطرق حتى يأذن الله له بنفحة من نفحات الجد والعزم والإقدام يقصد بها وجه الله فحسب، ولا تلويها السياسة ولا الأغراض ولا المناصب ولا الدسائس عن غايتها. يومئذ يندفع الأزهر من مفترق الطرق سيراً إلى الأمام، يسابق فيسبق وإنه لسباق!

أما إذا طالت وقفته، فأن ركب الحياة لا يستأني له، ولا يصبر عليه، ويومئذ تكون التي نسأل الله ألا تكون!

ص: 11

وأحب أن أقول: أن عهد المغفور له الأستاذ الأكبر المراغي قد مضى بماله وما عليه، واستأنف الأزهر عهداً جديداً وشيخاً جديداً، فمن الخير أن نعتبر بما كان حتى لا نقع في مثل أخطاء الماضي. من الخير أن نقدم مصلحة الأزهر جامعتنا المحبوبة على كل مصلحة، وأن نسوسه بسياسة غايتها نجاحه هو لا النجاح على حسابه؛ غايتها توجيهه توجيهاً علمياً إسلامياً نافعاً مثمراً صادقاً لا توجيهاً سياسياً ولا حزبياً ولا طائفياً ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب!

لقد انقضى هذا العام الدراسي في الأزهر كما انقضت أعوام من قبله، ولم نر إلا وجوهاً جديدة، ومناصب جديدة، وعلاوات ودرجات وترقيات، أما ما وراء ذلك فإني أكون مقتصداً جداً إذا قلت أن الحال هي الحال!

وقد يقال: إن الإدارة الجديدة لم يمض عليها بعد زمن تحاسب معه على ما قدمت أو أخرت، ولكن هبوا الصبح لم يشرق فأين تباشيره؟ أين ما يدل على نوايا الخير والإصلاح والنهوض؟

كنت أتوقع أن يكون أول ما يهتم به فضيلة الأستاذ الأكبر الجديد، أن يجمع كل ما كتب في الصحف أو التقارير على عهد فضيلة الشيخ السابق، وأن يضم ذلك إلى محاضر اللجان المتعددة التي ألفت لبحث أسباب الركود وعوامل الضعف، وأن يراجع جميع المشروعات التي وضعت ثم طويت، وأن يدرس جميع المشاكل التي تسبب القلق للدراسة في كل عام من مطالب للطلاب أو الأساتذة، وأن يتصل بالمختصين في كل وزارة ليصون حقوق الأزهر التي في يديه، ويسترجع حقوق الأزهر التي انتزعت منه.

كنت أتوقع أن يسأل عن البرنامج العملي الذي وضعته لنفسها (جماعة كبار العلماء) باقتراح من بعض أعضائها، لوضع تفسير للقراَن الكريم خال من الحشو والروايات الموضوعة والإسرائيليات، ولبحث ما جد ويجد من المعاملات، ولتنظيم الوعظ والإرشاد على طريقة مجدية، ولكذا وكذا. . . مما جاء في هذا البرنامج الذي وضع ثم أقر ثم أميت. فبأي ذنب قتل؟

كنت أتوقع أن يسأل عن قسم تخصص المادة في الأزهر وما سبب توقفه؟ وهل كانت ريحه تجري رخاء كما أراد القانون؟

ص: 12

كنت أتوقع أن يسأل عن اللجان التي ألفت لترجمة المفيد من كتب الغرب العلمية تمهيدا لإخراجها والانتفاع بها.

كنت أتوقع أن يسأل عن حالة البعوث العلمية التي تفد إلى الأزهر من سائر البلاد الإسلامية شرقيها وغربيها ليعلم: أيقوم الأزهر بأداء أمانته في هذه الناحية؟ وما مدى قيامه بها؟

كنت أتوقع أن يقرأ مجلة الأزهر، ثم يسأل عن مشروع إصلاحها وماذا فيه؟ وفي أي درج من الأدراج هو الآن؟ لينفض عن الغبار، وينفي عنه القتار!

كنت أتوقع أن يسأل عن (مشروع بناء الجامعة الأزهرية) وبعض المعاهد الدينية تمهيداً لاستئناف العمل فيه، وقد شرف فضيلته بعد انتهاء الحرب، وفي ظلال الأمن والسلام.

كنت أتوقع ذلك كله، وكنت أتوقع أكثر منه، لأني أعرف أن الأستاذ الأكبر الجديد رجل أزهري من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، يغار على الأزهر، ويسره صلاحه ونجاحه، وأنه قد ضم إلى ثقافته الأزهرية ثقافة أوروبية، وتقلب في مناصب عدة، وكنا نسمع عنه من أصدقائه المتصلين به أنه غير راض عما كان قبله من المطاولات والمراوغات.

كنت أتوقع ذلك كله ليسير الأزهر في عهده الجديد سيراً حثيثاً إلى الإمام، فيتدارك ما فاته، ويحقق ما أخذ على عاتقه تحقيقه ويثبت للناس بالأعمال لا بالأقوال أنهم في حاجه إليه، وأن غيره لا يغني عنه.

ولكن شيئاً مما توقعته لم يكن، أو أنا على الأقل لم أره ولم أعلم به، وما أحسب الآمر من السر والكتمان، بحيث يكون ولا أعلم أنه كان!

ومهما يكن من شيء فلا أحب أن نيأس، وقد كنا سمعنا أن فضيلة الأستاذ الأكبر قال في أول خطبة له بعد أن تولى منصبه مخاطباً أبناء الأزهر:(أما والله لأدفعنكم بكلتا يديّ إلى الطريق!) فإن كان موعد هذا الدفع لم يحن بعد فنرجو ألا يطول بنا الانتظار!

وأما بعد مرة ثالثة، فإن لي في شأن اقتراح الأستاذ الكبير الزيات، وما أتبعه به الأستاذ الكبير العقاد، رأياً، وليس المجال اليوم بذي سعة فأدلي به، فإلى اللقاء - إن شاء الله - في حديث بعد هذا الحديث.

ص: 13

محمد محمد المدني

المدرس في كلية اللغة العربية

ص: 14

‌لمحاربة المرض والفقر والجهل:

إلى القرية. . . يا شباب

للأستاذ علي الطنطاوي

لما كنت موظفاً (في بغداد) كنت أجلس كل عشية على سطح منزلنا في (الأعظمية) أشرف على الحقول التي تمتد إلى ما حدّ، أرقب الشمس وهي ترجع إلى خدرها، والفلاحين وهم يؤوبون إلى منازلهم في خط طويل متسلسل كأنه نهر جار، نهر يجري منذ عصور مديدة لا يقف ولا ينقطع ولا يبلغ مصبه، يسوقون دوابهم التي أنهكها العمل، وأضناها الكد، كما أضنى أصحابها الشغل المتواصل في الحقول، الشغل السرمديّ الذي يبدأ مع الفلاح حين تبدأ حياته، ولا ينتهي حتى تنتهي، يشتغلون وهم أطفال، ويشتغلون وهم شباب، ويشتغلون وهم شيوخ، لا يستريحون ولا ينالون على تعبهم إلا لقمة من خبز الشعير. . .

فيا لروعة الواقع!

هؤلاء الذين يشتغلون هم ونسائهم وأطفالهم ودوابهم ليقدموا للناس القمح لا يأكلون خبز القمح! هؤلاء الذين يرفعون عماد الدولة لا تدري بهم الدولة، ولا تهتم بهم! هؤلاء الذين يملئون بالذهب صناديق السادة الكسالى يحتقرهم السادة، ولا يدعون في جيوبهم قرشاً يشترون به ثوباً نظيفاً لطفلهم الذي يتبع طفل السيد، كأنه الكلب الجائع يسأله قطعة من (العيش) الأبيض الذي يزرعه أبوه هو، فلا يعطيه إلا الحجر الذي يرجمه به، أنه يستنكف عن أن يمسه بيده الناعمة الرخصة البنان. . .

كنت أرى ذلك فيذهب بي الفكر إلى عشرات من المشاهد رأيتها في قرى الشام وفيما زرت من قرى مصر. . .

يذهب بي الفكر إلى حوران يوم زرت رفيقاً لي كان معلماً في إحدى قراها، فرأيته يسكن عند الفلاح في داره المبنية من الأحجار السود المكدسات، بعضها فوق بعض، لا يمسكها أسمنت ولا طين، ولا يدري الساكن تحتها متى تهبط عليه فترديه قتيلاً. وفي هذه الدار غرف متعددات، في الأولى البقر، وفي الثانية الحمير، وفي الثالثة الخرفان، وفي الرابعة الفلاح وأسرته، يعيشون كما تعيش تلك البهائم. . . ولقد أمسكت بأنفي لما دخلت الغرفة. . . لأن الرائحة كادت تقتلني: رائحة الدواب التي تأتي من هناك، ورائحة (الجلّة. . .) التي

ص: 15

يوقدونها في وسط الغرفة، في حفرة حفروها فيها، لأنهم لا يملكون ثمن الحطب ولا الموقد، ولكني صبرت وولجت متوكلا على الله. ولما صافحني الفلاح بيده المتشققة الخشنة شعرت كأني ألمس مبرداً، ولكني صبرت (أيضاً) لعلمي بأن هذه اليد الخشنة هي التي تقدم إلى الخبز الذي أعيش به، والمال الذي اَخذ منه راتبي، وأشتري منه هذه الثياب التي أفتخر بها على الفلاح، وأخشى أن يدنسها بيته. ثم رأيت أطفاله وأردت نفسي على مداعبتهم، فإذا هم يحملون الأقذار على ثيابهم، والذباب على أفواههم، والقذى في عيونهم، والمرض في أجسامهم، وليس في القرية طبيب، وليس فيها دائرة صحة، وليس عند الفلاح مال، وليس عنده علم. أن السادة الذين أخذوا ماله وثمرة كدّه لم يعلموه، ولم يعطوه أجرة الطبيب. . . ثم جاء الفلاح بالأكل وأعقبه بالشاي، وإني اعفي القاريْ من وصف هذا الأكل وهذا الشاي. . . أخشى أن يصيبه الغثيان!

ويعود بي الفكر إلى حوران، وقد زرت تلك القرية مرة ثانية، وكان ذلك في وقت الحصاد، يوم حق للفلاح أن يتمتع بتعبه بعد سعي موسم كامل، يوم نال مكافأته على هذا التعب الطويل، والشغل المضني، فإذا الدائنون المرابون والجابي، ينتظرون على باب المنزل. فلما رجع الفلاح إلى منزله هاشاً باشاً مبتسماً، يحمل المال الذي حصل عليه بجد يمينه وعرق جبينه، اعترضوا طريقه قبل أن يصل إلى أولاده، فأخذوا المال كله فلم يف بالذي يطلبونه وبقى عليه للحكومة أربع وثلاثون ليرة. . .

يا للقانون! يا لحق الخزينة. . .

يا أيها الجابي شد ركابك! يا أيها الجندي أعدّ سوطك وسلاحك! يا أيها الناس أقيموا القيامة على هذا اللص الذي أكل أموال الدولة. . .

حل البلاء بساحة الفلاح المسكين، ونزل عليه جنود الدرك يقيمون حتى يؤدى المال، يتشهون عليه المآكل، ولا يرضون بغير الدجاج والخرفان، وهم في بيوتهم لا يأكلون إلا الزيتون والجبن، ويأخذون شعيره ليطعموه دوابهم ويضربون وجهه وظهره. . . أنهم يطلبون بقية الضريبة. . .

ولكن لم يبقى عنده شيء.

إذن فلتبع أمتعته.

ص: 16

ولم يجدوا عنده إلا الفراش القذر، واللحاف الخلق، والبساط المخرق، والقدر الأسود، فباعوها بالمزاد العلني وتركوه على الأرض.

ولما رجع الجباة كلهم إلى العاصمة. . . وجمعوا ما ملأ الخزانة تبسم ولي الأمر، وقال لأعوانه:

- لقد اجتمع مال يكفي السنة كلها، وإننا لا نستطيع أن نرد هاتيك الوسائط كلها والشفاعات، فأعدوا مرسوماً بإعفاء فلان بك من الضرائب المتراكمة عليه من سبع سنين، وهي تسعة وعشرون ألف ليرة وسبعة وخمسون قرشاً. . .

أعفوه، ولكن تسعة عشر ألف فلاح صاروا ينامون على الأرض، لم يبق لهم فراش!

كنت أذكر ذلك وأنا أنظر إلى خط الفلاحين الذين يعودون إلى دورهم، وقد غاب أوله خلال الظلام، فأفكر في هؤلاء الفلاحين إلى متى يمشون؟ أما لممشاهم نهاية؟ أما لطريقهم أخر؟ أكتب عليهم أن يشاركوا البقر والحمير في عملهم وطعامهم وسكناهم؟ أكان لزاما عليهم أن يعملوا أبداً ليستريح ال (بك) أو (الباشا)؟ ويجوعوا ليأكل؟ ويفنوا جسومهم ونفوسهم ليأخذ هو الذهب فينفقه على موائد الخمور ومجالس الفجور؟

أيبق هؤلاء الناس جاهلين، يعيشون بمعزل عن الحياة، يترفع الشاب المتعلم عن الجلوس إليهم ومصافحتهم والسلام عليهم، وإذا بعثوه ليكون معلماً لهم، أو موظفاً فيهم، أقام الأرض وأقعدها ولم يدع وسيلة للتخلص من هذا (النفي) إلا توسل بها؟

إن الفلاحين في بلاد العرب، هم جمهرة السكان، هم حياة البلاد، هم الشعب، فإلى متى يبقون محرومين من العلم والصحة والنظافة والإنصاف والمدنية؟

فكروا في هذا أيها الشباب. . .

يا أيها الشباب الذين يعرفون القرية ومعيشتها وحالة أهلها. . .

يا أيها الشباب الذين يحبون بلادهم، ويريدون صلاحها. . .

أن الشاب النافع هو الذي يخدم ويعمل ويدع أثراً صالحاً، أما صاحب الجعجعة والكلام الفارغ فلا ينفع أحداً، إن ميدان القرية أحوج الميادين إلى همم الشباب، وذكائهم، ومعرفتهم ونشاطهم، لا أريد أن يترك الطلاب مدارسهم ليزرعوا الأرض، ويعيشوا في الحقل، ولكن أريد أن يفكروا بمثل (مشروع إنعاش القرى) الذي قام به في صيف سنة 1933 نفر من

ص: 17

طلاب الكلية الأمريكية في بيروت، فانتخبوا من المتطوعين للعمل في القرية فريقاً بحثوا أسبوعاً في (مؤتمر) عقدوه، ودرسوا أحوال القرية اللبنانية، وعرفوا داءها، وفتشوا عن دوائها، وكان يعاونهم بعض الأساتذة والخبراء الفنيين، ثم ألفوا أربع بعثات وأرسلوها إلى القرى، فدرست الحال عن كثب، ورأت أن العمل في قرية واحدة يقيمون فيها الصيف كله اسهل وأنفع، وأنه يجب على أعضاء البعثة أن يحملوا خياماً يبيتون فيها، وطعاماً لهم وشراباً، ليخففوا عن الفلاح ولا يرزؤوه شيئاً، وليروه لوناً من الحياة جديداً ويحببوه إليه، وكان من أهم أغراض أصحاب ذلك المشروع:

1 -

الصحة، فيكون في البعثة الصحية قسم للدرس والإحصاء والتعليم، وقسم للتطبيب.

2 -

النظافة، بتعليم الناس ومحاضرتهم، وبالعمل على إصلاح مجاري الماء الطيب والخبيث، وتنظيف الطرق وتجفيف البرك.

3 -

الزراعة، بإرشاد الفلاح إلى طرقها الجديدة، وآلاتها الحديثة، وأصول مكافحة الحشرات والأمراض.

4 -

تعليم الأميين من الفلاحين، والعمل على إنشاء المدارس لأولادهم.

إننا اليوم على أبواب العطلة الصيفية، وسيبقى أكثر الطلاب في المدن، يرتادون القهوات، ويؤمون السينمات، ولا ينفعون خلالها ولا ينتفعون. فهل يعمل فريق من الطلاب في كل بلد على (إنعاش القرى) على نحو ما ذكرنا، فيكون لهم من ذلك صحة في أجسامهم، وقوة في نفوسهم، وخبرة ببلادهم، وخدمة لإخوانهم، ومأثرة باقية عند الناس وعند الله، ونجاة من ملل الصيف وحره، وبكون لهم من هذه الإقامة في القرية تحت الخيام، وهذا التعاون مع إخوانهم على هذا العمل الصالح سعادة تمر الأيام ويذهب الشباب، ولا تمحي من النفس ذكراها، ويكون ذلك هو الدواء الشافي لهذا الداء المثلث الذي استعصى على الأساة، داء الفقر والجهل والضعف. . . هل يقبل على ذلك شباب (الإخوان المسلمين) السباقين إلى كل خير؟

وهل يعمل هؤلاء الشباب على إنشاء (أدب القرية)؟ ذلك بأن يدعوا الكتاب والشعراء إلى وصف حياة القرية، وأن يكتبوا فيها القصص، والمباحث، ويختلطوا بالفلاحين، ويترجموا لنا آمالهم وآلامهم. وهذا اللون من ألوان الأدب موجود في كل الألسنة واللغات إلا لسان

ص: 18

العربي، فإنه قليل فيه أو هو نادر، وعلة ذلك احتقارنا الفلاح، وإهمالنا شأنه، ونسياننا أن الفلاحين ناس مثلنا، يبذلون في سبيلنا كل شيء دون أن تصل إليهم مكافأة، أو ينالوا ربحاً، أو يسمعوا شكراً؛ بل إنهم ليتمنون أن ينظر إليهم الـ (بك) كما ينظر إلى كلبه العزيز عليه، الأثير لديه. . .

فيا لهؤلاء المساكين!

إن المروءة والشرف والواجب الوطني، والدين والإنسانية، وكل مبدأ مقدس يدعوكم إلى مساعدة الفلاح، يا أيها الشباب. . .

فيا أيها الشباب: إلى القرية. . . إلى القرية!

لا. لست اشتراكياً، ولا شيوعياً، ولكني إنسان، وإني مسلم!

علي الطنطاوي

ص: 19

‌نظرية الأجناس البشرية

والكونت دي غوبينو

للأستاذ ماجد بهجت

جدير في هذا الظرف الذي يمثل فيه زعماء النازية أمام محكمة نورمبرج الدولية ومن بينهم روزنبرج حامل لواء العقيدة الجنسية وزعيم حركتها، أن نقدم إلى قراء العربية خلاصة عن نظرية الأجناس البشرية التي بشر بها الكونت دي غوبينو الفرنسي، ولا سيما وأن هذه النظرية شغلت الرأي العام طول الحرب وهي ما تزال موضع تفكير الناس واهتماهم. على أنا حاولنا جهدنا الاختصار تاركين لأهل العلم والاختصاص الإفاضة والتطويل. وقد اقتصرنا على ما جاء في أصل النظرية لدى الكونت دي غوبينو وتأثيرها في حينه. هذا ولعلنا نعود إليها ثانية لنستكمل بحثها والتطور الذي طرأ عليها في العهد النازي.

الكونت دي غوبينو:

في يوم من أيام 14 يولية الذي دك فيه الباستيل وخرج الأحرار منه يعلنون حقوق الإنسان ومبادئْ الحرية والمساواة تمخضت امرأة حامل من الأسر الفرنسية النبيلة عن غلام هو الكونت (جوزيف ارتوردي غوبينو)، وقد اشتهرت هذه الأسرة بعدائها للثورة الفرنسية ومبادئها فشب الطفل يوسف على المنوال نفسه، شريفاً فيه نزعة الأرستقراطيين وعلى شفتيه نبرات الأمر، محباً للمطالعة مشغوفاً بالسياحات، أراد أبوه الضابط في حرس شارل العاشر ملك فرنسا أن يجعل منه ضابطاً مثله في السلك العسكري فأدخله بعد إعداده الإعداد الدراسي اللازم مدرسة سان سير الشهيرة، لكنه لم يحظ برؤية ابنه متوشحاً الأوسمة يختال ببزته العسكرية إذ أنتقل إلى دار الفناء، فانتقل ابنه إلى عهدة عمه الكونت تيبو يوسف دي غوينو الذي اشتهر في يوم 9 بترميدور بإطلاقه رصاص مسدسه مع بعض المتهوسين على يعاقبة المؤتمر الوطني. أراد الكونت العم أن يستعمل سلطته فلا يدع ابن أخيه يتصرف في الأموال التي خلفها له أبوه على هواه فكان نزاع بينهما انتهى بأن استقل الكونت الشاب بثروته فسكن باريس وانكب انكباباً منقطع النظير على الدرس والقراءة،

ص: 20

فأنه ليستمر عليها أياماً طوالاً حتى إذا شعر بحاجته إلى اللهو والراحة عمد إلى قطعة من الحجر ينحت فيها على شكل أقنوم أو تمثال جميل أو إلى يراعة يحبر على القرطاس ما تجيش به نفسه من المشاعر والأهواء، وكأن كتاب مدام دي ستال عن سياحتها في ألمانيا قد أثر فيه فيؤثر تلك البلاد برحلاته وتجوله ثم يتحول إليها ويلتحق بجامعة مدينة ينا، وهناك يبدأ حبه للعنصر الجرماني الأشقر حتى إذا عاد إلى بلاده أنكب كعادته على مطالعة كتب المشرقيات محاولاً استخراج برهان لشيْ يجول في خاطره، أو غاص في كتب علمية مختلفة بيولوجية وفيزيولوجية أو فلسفية وتاريخية يستنتج منها مادة لنظرية جديدة.

العوامل النفسية لدى الكونت دي غوبينو:

هي نظرية جديدة تتجاوب مع نفس هذا الشاب الأرستقراطي الذي أتت الثورة على امتيازاته فزحزحتها، وتتفق مع هذه النزعة الاستعمارية في الفتح والتوسع التي بلغت أشدها في القرن التاسع عشر أوحت إليه بها كل هذه العوامل المحيطة به، فهو لا يرتضي أن يتساوى مع غيره لأنه أرفع منهم شأنا، ولا يريد أن يكون وإياهم على صعيد واحد من حيث سلالة العرق وجريان الدم، لكن مثل هذه الأوهام لا يمكن أن تنطلي على طبقات الشعوب الأوروبية، لاسيما وأن مبادئ الثورة أعطتهم الدليل تلو الدليل على أن مسألة تأخر أناس وتقدم آخرين هو محض تهذيب وتثقيف أصاب منه واحد بسهم وحرم منه الآخر.

من هم إذاً؟ هم هؤلاء الشرقيون الذين انحطت مدنيتهم في هذه العصور الحديثة وقلت وسائل دفاعهم، مما جعلهم عرضة لأطماع سكان أوروبا الغربيين. وجد الكونت دي غوبينو ضالته فلم يبقى عليه إلا أن يدعم رأيه بالبرهان ويؤيده بالمنطق العلمي.

يدخل الكونت السلك السياسي الخارجي وتظهر له كتابات أدبية عديدة، منها مأساة في خمسة فصول وقصص فروسية مختلفة، وإنها لتمضي خمس عشرة سنة يقيم في أثنائها تارة في برن عاصمة السويسريين، وتارة في فرانكفورت من أعمال ألمانية حيث تجري له مقابلة مع الوزير الألماني الشهير بسمرك، ولكنه يظل في كل هذه المدة دائب العمل على البحث والتنقيب، وفي حوالي سنة 1853 يدفع بنظريته إلى النشر.

النظرية:

ص: 21

إن المخلوقات من حيوان ونبات وجماد تخضع لقانون طبيعي أزلي يتميز بعضها من بعض. فهناك فصيلة خير من فصيلة، وعنصر خير من عنصر، وبطون خير من بطون.

ففي الحيوان ترى الخيول العربية مثلاً أفضل من غيرها.

وفي النبات ترى الورد الجوري له رائحة زكية هي أعبق وأشهى على الشم من غيرها.

وفي الجماد تجد للفولاذ متانة تفل الحديد. كذلك الإنسان - وهو عنصر من الحيوان - فإن لبعضهم تفوقاً على آخرين، وهذا الإنسان المتفوق (إنسان أعلى) وإنه ليكثر عدد المتفوقين في شعوب دون شعوب، فبطبيعة الحال تكون هذه الشعوب التي كثر أفرادها المتفوقون، شعوباً متفوقة (شعوباً عليا) وما دام قانون الطبيعة يعطي الغلبة للسامي المتفوق فإن من الحق الطبيعي لهذه الشعوب المتميزة أن تكون لها السيطرة، وأن تقبض بيدها على مقدرات العالم.

هذا وإن تطور تاريخ تطور الشعوب - كما تقول النظرية - هو تطور العرق ذاته، ولقد كانت الأمم ذات البشرة البيضاء سباقة إلى المدنية والرقي؛ بل إنه كتب لها دائماً الظفر في جميع الميادين فدلت على علو كعبها وسمو محتدها. وهناك فوارق ذات بال في الجنس الأبيض نفسه؛ فإنها ليست كلها سواسية، فالرفعة والسمو منحصران في العناصر المنحدرة من أصل آري فقط، لاسيما ما كان منها من هذه الكتلة المختارة أحفاد الجرمان والفرنك القدماء، وأن زعم الساميين القديم بأرجحيتهم وحصر مظاهر القوة والجمال والذكاء فيهم، والعوامل التي تؤهلهم لان يتحكموا بالعالم على هواهم، هو مجرد بطلان وأوهام، فأن العنصر السامي أحط من أن يبلغ المستوى الذي فيه العنصر الآري فلا عبرة هنا لبياض بشرته.

تعتمد النظرية في إثبات دعواها على أربعة عوامل: روحية، وعلمية، وتاريخية، وواقعية.

1: إن القدرة العلوية شاءت أن تختار عنصراً متفوقاً من بني الإنسان، لتعهد إليه بالإدارة، ولتكل إليه أمر القيادة في العالم.

2: إن العلم في ذاته فيه دافع إلى السيطرة والغلبة، فإنه يسلم صاحبه وسائل ارتقائه وسموه.

3: إن التاريخ يحدثنا عن الأبطال وحدهم، فهم السادة المطاعون القابضون على زمام

ص: 22

الأمور.

4: إن الواقع يصف لنا حاجة الأمم الماسة إلى التوسع، وبسط النفوذ نتيجة لزيادة الإنتاج وكثافة النسل.

وتنتهي النظرية بالدعوة إلى وجوب إنشاء إمبراطورية واحدة تضم جميع هذه الشعوب التي كتب لها ابيضاض الجلدة وصفاء الدم فتهيمن على العالم وتسيره بإرادتها الجبارة.

وقع النظرية في فرنسا:

لم يؤبه للنظرية عندما نشرت في فرنسا، ولم تلق شيئاً قليلاً أو كثيراً من الاهتمام، الأمر الذي أسقط في يد صاحبها ووقع في خيبة شديدة على عكس ما كان يؤمله ويرتجيه، بل كانت مثار للهزء والضحك الشديدين، فكل ما قيل فيها أن الكونت دي غوبينو وهو من الأشراف أراد أن يثأر لأهل طبقته التي تدهورت عزتها هي والجاه الذي حملته دهراً طويلاً؛ بل إن الكتاب الذي أصدره الكونت نفسه فيما بعد عن قراءة الخطوط على أشكالها المختلفة أي قراءة ما يكتب بالعكس، وبشكل عمودي أو مائل وغير ذلك كان له وقع أكبر من النظرية للبراعة التي أظهرها الكاتب في هذا المضمار لدى غواة هذا الفن.

وإذا أردنا أن ننصف النظرية لا نجد أنها أتت بشيْ جديد فلم ينتظر الأنبياء وكبار المتشرعين أو القواد الفاتحون من الاسكندر المقدوني إلى يوليوس قيصر إلى شارلمان إلى نابليون أن يطمعوا في جمع العالم في إمبراطورية تحت إمرة واحدة. ويظهر بطلان النظرية وفساد دعواها من تجريد الشعوب السامية عن كل سؤدد ومجد، وقد دلت هذه الشعوب في مختلف أدوار التاريخ على تقدمها ونجاحها. وليس أدل على ذلك من هذه المدنيات الباهرات التي سطع نورها من شواطئْ النيل وما بين دجلة والفرات وفي رياض الشام وأنحاء العربية السعيدة في اليمن يوم كانت تلك النخبة المختارة من الجرمان والفرنك قبائل بربرية تعيش عيشة ابتدائية. ولقد كان يهون الأمر لو أن النظرية قدرت أن تبرهن على صفاء الدم وطهارة أي جنس من الأجناس البشرية عن الاختلاط بغيرها.

وقع النظرية في ألمانيا:

ظل الكونت دي غوبينو حياته مسافراً متنقلاً من بلد إلى بلد ومن عاصمة إلى عاصمة،

ص: 23

يمثل بلاده كمعتمد أو سفير فلم يعتب عليه بلد أوربي، ناهيك عن أنه مكث حقبة من الزمن في طهران وعاش مدة في الريو دي جانيرو، ولقد كانت آخر هذه العواصم مدينة استوكهلم، قام على أثرها بجولة في روسيا وأنحاء بلاد اليونان، ثم عاد إلى فرنسا وأحيل على المعاش. ولا يخطر على بالنا أنه أنقطع في كل هذه الحقبة عن الحياة الأدبية فهو ما فتئ مؤمناً بنظريته إيماناً أعمى يجد فيها فتحاً جديداً، يتحدث عنها في كل مجلس يضمه، الأمر الذي حدا بالأميرة غون تجشتيان أن تقول فيه:(هذا دون كيشوت حقيقي في قالب علماء الاجتماع ولباس رجال السياسة).

لم يشأ القدر أن يترك الخيبة التي لحقت بالكونت تقتله من جراء الفشل الذي أصيبت به نظرية الأجناس البشرية؛ فقد قدر له أن يجتمع في روما بالموسيقار الألماني الشهير ريشار فجنر، فأغرم هذا بالنظرية وبصاحبها ووعده إذا قدم وإياه ألمانيا أن يعمل على جهده نشرها. وهكذا كان فاجتمع الصديقان في مدينة بايرون حيث احتفل أدباؤها بصاحب النظرية احتفالاً باهراً وأظهروا استعدادهم لنشر آرائه، وكان أول عمل قاموا به. أن أسسوا من بينهم رابطة سموها باسمه ونشروا كتبه بالألمانية، ومنذ ذلك الوقت اشتهر دي غوبينو في الأوساط العلمية والسياسية، إذ أن النظرية جاءتهم في وقت كانوا فيه على وشك انتهائهم من تحقيق الوحدة الجرمانية يفكرون بتأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف، فأتخذها رجال غليوم الثاني وسيلة لدفع الشعب على غزو المستعمرات ونشر العلم الألماني في الآفاق البعيدة حيث تقول النظرية بأن السيادة للغالب المتفوق، وليس جديراً بالغلبة والتفوق غير الآريين، والعنصر الجرماني أسمى عنصر آري.

ولقد لعبت النظرية دوراً مهما في عالم الأدب والسياسة، فتغنى بها الكاتب الألماني الشهير فريدريك نيتشة وأوحت إليه بعض آرائه عن السبرمان، ومنها انبعثت فكرة المدى الجرماني قبل حرب سنة 1914، وكانت للوطنية الاشتراكية بمثابة الحجر الأساسي، ولها التأثير الأول في تجريد الأقلية اليهودية عن الجنسية الألمانية واعتبارهم عرقاً رديئاً منبوذاً لا يجوز الاتصال به ولا ندري ما ستخلقه في المستقبل.

عامل انتشار النظرية في ألمانيا:

لاشك في أن الشعوب الشمالية هي أرقى الشعوب المتمدنة على الإطلاق. ولقد ولد فيهم هذا

ص: 24

التفوق كثيراً من العنجهية والعزة بأنفسهم، بل ويخامرهم في بعض الأحايين احتقار لغيرهم من الشعوب التي لم تبلغ شأوهم في العصر الحديث. وما من أحد زار لندن عاصمة الإنكليز المعروفين بأنفتهم إلا قرأ على بعض الأندية ومحلات اللهو العامة هذه العبارة (الشعوب الملونة غير مرغوب فيها) وقد شاهدت بنفسي في برلين شريطاً سينمائياً تظهر فيه فتاة أوربية شقراء تنشأ وتترعرع عند جماعة من أهل سيبيريا النائية فتحب فتى جميلاً من بينهم وتتأهب وإياه للاحتفال بالعرس، ولكن المصادفة تجعلها تلتقي بفتى أوروبي أقل جمالاً من عريسها المنتظر الذي أحبته من كل جوارحها، وبالرغم من ذلك كله تشعر بإحساس يدفع بها إلى الأوروبي عندما يفضي إليها بإعجابه بها، وإيثاره إياها فتلحق به غير لاوية على شيْ تحت تأثير هذه القوة الكامنة فيها التي جذبتها نحو جنسها طائعة أو كارهة. فإذا كان بعض هؤلاء الشماليين كأهل سكنديناوة مثلاً لم تظهر غطرستهم، فلأنهم مكتفون بأرضهم لا يطمعون في سواها. كذلك الشعب الألماني فإنه شعب راق شمالي أولع بنظرية الأجناس البشرية لأنه كما ذكرنا يطمح إلى إنشاء إمبراطورية واسعة تليق به كأكبر أمة في أوروبا، فوجد فيها باعثاً يدفعه إلى تحقيق مآربه وصدى لما يصبو إليه في الفتح والتوسع. أما الإنكليز والفرنسيس فانهم ليسوا بحاجة إليها فقد أسسوا إمبراطوريتهم منذ عهد بعيد، واستولوا على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وخلاصة القول أن هذا الشعور بالتكبر والخيلاء أحس به كل غالب مسيطر إلا أنه لم يأخذ شكلاً علمياً في قالب نظرية إلا على يد الكونت دي غوبينو.

الوطنية ونظرية الأجناس البشرية:

يخيل إلى البعض لأول وهلة أنه ضرب من الخرق أن يقال إنه كان وما زال لنظرية الأجناس البشرية تأثير فعال في إيقاظ الروح القومي وتأجيج الشعلة الوطنية في العالم، لعلمهم أن الوطنية هي الشعور بواجب كل شعب من الشعوب نحو أرضه ولغته وتاريخه. ونحن لا نذهب غير هذا المذهب في تعريف الوطنية؛ إنما نريد أن نقول إن ظهور نظرية الجنس جعل كل شعب يفكر في أمره، وينعم النظر في مصيره لعاملين اثنين: الأول دعوة النظرية إلى ضم الأمم الجرمانية في إمبراطورية واحدة. والثاني زعم النظرية بوجوب وضع العالم أجمع في قبضة هذه الكتلة الجرمانية المختارة، فلا يخفى أن العامل الأول يفقد

ص: 25

الشعوب التي من أصل جرماني استقلالها، والعامل الثاني يضع الشعوب الأخرى تحت نبر الاستعمار يضاف إلى ذلك أن كل شعب غره الشنآن القومي الذي تطنب به النظرية، وإذا كان الكونت دي غوبينو يحصره في الجرمان وحدهم فإن الأقوام الأخرى فسرته على هواها، وفيما ورثته من تقاليدها وأيامها ترى الرفعة فيها والتفوق في قومها.

كل هذه الأمور أيقظت الروح القومي، فأخذت الشعوب تقوي في أفرادها فكرة الوطن والتعلق به، ولم تفت الإشارة إلى ذلك العالم الفرنسي هنري ديسون فأتى في كتابه عن الإسلام بما ملخصه (رأينا في العالم إثر نشر الكونت دى غوبينو نظريته عن الأجناس البشرية تحولا غريباً، فقد تمسكت أكثر الأمم بأهداب القومية تمسكاً شديداً، وادعت باتصالها الوثيق بعرقها الأصلي في حين أن الحقيقة تكذب ذلك، فلم تسلم أمة من الامتزاج والاختلاط حتى لنتمكن من القول إنه ليس في هذا العالم من جنس صاف سليم. وقد شملت هذه الموجة القومية إبان الحرب العالمية المنصرمة أمم الشرق المسلمة؛ فبينما كانت تدعو إلى الجامعة الإسلامية تحولت إلى السعي وراء جامعة عربية. وهكذا الأمر في تركيا وفارس؛ فقد تركت زعامتها الإسلامية في سبيل المثل الأعلى التركي، واهتمت الثانية بشؤونها الخاصة. وهكذا الحال في وادي النيل، فقد رأى سكانه أنفسهم مصريين قبل أن يكونوا مسلمين. ولعل أقوى ما بقى عليه الشعور الإسلامي في أقصى الشرق المسلم في وزير ستان والهند وفي أقصى المغرب المسلم في طرابلس الغرب وتونس وما وراءهما).

يغلب على ظن الناس أن النظام القومي خير نظام يعيشون فيه، ولكن الواقع وبخاصة في هذه الأيام الأخيرة يرينا العداوات تجرهم إلى التقتيل والتفظيع كأن مدنيتهم لم تفدهم في غير التفنن في شحذ الشحناء واختراع المهلكات. ماذا كان يضير هذه الشعوب أن تعيش متآخية مجتمعة لا غالب ولا مغلوب، ولا آكل ولا مأكول؟. . . غير أن العلماء يجدون بأن النظام القومي هو مرحلة لا بد منها يمر فيها الناس قبل أن يجمعوا شملهم في إنسانية واحدة. وإنا نتمنى من صميم الفؤاد أن يمر العالم بهذه المرحلة فلا يقضي عليه الجشع والأثرة وحب الاستيلاء، ولنا في التاريخ أكبر العبر، وقد جاء في القران الكريم (ولا تنازعوا فتفشلوا).

ماجد بهجت

ص: 26

‌الأدب في سير أعلامه:

ملتن. . .

للأستاذ محمود الخفيف

- 10 -

تابع لمسرحية كومس الغنائية:

وما إن تتم العذراء أغنيتها حتى يبدو كومس، وقد طرب لهذه الأغنية وعجب كيف ينبعث مثل هذا اللحن من صدر أحد بني الفناء، وما يذكر أنه سمع لحنا مثله حتى ولا ذلك الذي كانت تغنيه أمه مع عذارى البحر فتسحر الملاحين به عن أنفسهم، وتغرق سفنهم؛ ويتقدم الساحر من الفتاة فيسألها من تكون فما يمكن أن يكون مثلها ممن ينتمون إلى هذه الغابة إلا أن تكون هي إلهتها، فهي تقيم فيها مع بان إله الرعاة أو سلفان إله الغاب، وترد الفتاة عليه وقد تمثل لها راعياً عليه سيماء الورع والهدوء قائلة إنها ما غنت فخورة بلحنها، إنما تستميل (إكو) علها ترد عليها من مخبئها. ويسألها الراعي ماذا أضلها، فتجيب بأنه الظلام وهذه المتاهات الملتفة الأوراق؛ فيستنبئها أكان تركها بسبب عدم الوفاء أم بسبب الجفاء؟ فتقول إنما كان ذلك ليبحثا في الوادي عن نبع سائغ برود. ويعجب الراعي كيف يتركانها على ضعفها؛ وليس معها من يحميها، فتجيب أنهما أزمعا أن يعودا على عجل؛ ويقول ربما كان العائق الظلام، فتجيب بقولها ما أسهل الحدس عليها وهي فيما هي فيه من تعس؛ ويسألها الراعي أيكون فقدهما أهم عندها مما هي فيه من حاجة إلى معين، فتنبئه أنهما أخواها، ويستفهمها أوصافهما، فما تجيبه حتى يقول إنه رأى اثنين كما وصفت عند تل قريب، وأنه أكبرهما أن يكونا من بني الإنسان وحسبهما من تلك الخلائق السماوية التي تعيش في ألوان قوس الغمام وتلعب فوق السحب المشتبك بعضها ببعض، وقد أخذه خوف منهما فصلى إذ مر بهما، فأن كان هذان من تبحث عنهما فأن رحلة أشبه بالارتحال إلى السموات تصل بها إليهما.

وتسأله الفتاة عن أقرب السبل إلى ذلك فيقول إنه يقع صوب الغرب من أجمة أشار إليها؛ وتبدي الفتاة خوفها وقلة حيلتها، فأن التنقل في الغابة فيما يرسله النجم من ضوء قليل أمر

ص: 28

يشق على أمهر هداة السبيل. ويعرض الراعي عليها أن يهديها أو أن يسير بها إلى كوخ متواضع ولكنه أمين؛ وتقبل الفتاة ما يعرض قائلة إن الرفق الذي يبديه إنما يوجد في الأكواخ المسقوفة بتلك الأخشاب المسودة بالدخان أكثر مما يوجد في الأبهاء المزدانة من قصور الأمراء؛ ثم تتجه إلى السماء مستعيذة، وتسترد بصرها ملتفتة إلى الراعي قائلة: دونك أيها الراعي فاهدني السبيل. . .

ويظهر على المسرح بعد ذلك الأخوان فيناجي أكبرهما القمر والنجوم مستعيذاً بنورها، أو متلهفاً إن لم تجبه الكواكب إلى بصيص من الضوء ينبعث من كوخ. ويقول الآخر إنه يرهف سمعه عله يصيب صوت قطيع ينبعث من حظيرة أو زمارة راع أو صياح ديك بعد ساعات الليل؛ ثم يعلن أسفه على أخته العذراء الضعيفة ويتساءل ترى أين أنت يا أختاه! ربما كنت مستلقية على ضفة باردة رطبة أو مسندة جسمك الواهن من الحزن والخوف إلى جذع خشن، وقد نال منك الجوع والحر. ويعود أكبر الأخوين فيدعو أخاه إلى الهدوء والصبر، ويقول له إنه لا يخلق بالمرء أن يقدر السوء وأن يستعجل بالشر، وأنه لا يظن أن الخطر أحدق بأخته فمثلها من لا يزلزل هدوءها الظلام والسكون لأنها معتصمة بالفضيلة. ويسترسل الأخ الأكبر في امتداح العزلة، ويذكر كيف تريش الحكمة فيها جناحيها بالتأمل، ويقول إن من يحمل بين جنبيه نفساً مضيئة يستمتع بالنور وإن كان في قاع الظلمة، وإن من ينطوي على نفس مظلمة وأفكار سوء فإنه يكون في مثل حلكة الليل، وإن مشى في شمس الظهيرة فهو من نفسه في جب. ويلوح أن ملتن يشير هنا على لسان المتكلم إلى عزلته هو في هورتون وطلبه الحكمة والمعرفة لتستضيء بهما نفسه.

ويرد أصغر الأخوين بقوله إن الزاهد لا يمسه في عزلته أحد ولا يطمع في توافهه أحد، ولا يريد رأسه الأشيب أحد بسوء، ولكن أحرى بالجمال وهو أشبه بشجرة التفاح الذهبي أن يقوم على حراسته تنين. وكيف يطمئن قلبك على عذراء لا حول لها تخبط في ظلام الغابة؟ إنك إذن كمن يلقي بكنز بخيل لدى باب أحد اللصوص ثم يطمئن على سلامته. وما أخشى على أختنا من الظلام والوحشة وإنما أخشى مما يجرانه عليها من اعتداء وقاح تطمعه وحدتها.

ويعود أكبرهما فيذكر لأخيه أنه لا يتكلم عن سلامة أختهما كلام الواثق، ولكنه إن وجد نفسه

ص: 29

بين الخوف والأمل فإنه يفضل أن يميل إلى الأمل. ثم يقول أن أخته ليست كما يتصور أخوه لا حول لها قط، فإن لديها قوة خفية لا يتذكرها أخوه، ويسأله أخوه متعجباً ما تلك القوة إلا إذا كان يقصد قوة الله، فيجيب إنه يقصد قوة الله إلى جانب قوة أخرى وهبها الله إياها فصارت قوتها هي، ويعني بها العفة. ثم يستطرد قائلاً العفة يا أخي العفة، ويقرر أن من تتدرع بها لا تخاف شيئاً ولن يستطيع أن يلطخ طهرها أحد. ويسأل أخاه أيؤمن بهذا الذي يقول؟ فإن كان لا يؤمن به فإنه يعيد على سمعه ما ذكره الأقدمون من الإغريق عن قوة العفة، وذكره بقصة ديانا آلهة القمر والصيد وقوسها وسهامها وعفتها التي هابها الآلهة والملوك.

ثم يذكر مينرفا آلهة الحكمة، وما كانت منيرفا تحول إلى مثل الحجارة الباردة إلا بنظراتها الناطقة بقوة العفة، ويسترسل في قوله فيذكر أن النفس إذا اعتنقت العفة في إخلاص، أحيطت بألف من الملائكة يدرؤون عنها كل ما هو بسبب من الذنب والخطيئة، ويصلونها بالسماء فتسمع ما لا تسمع غيرها من الآذان. وفي هذا الموضع من الغنائية يطنب (ملتن) على لسان أحد الأخوين في بيان فضل العفة كما امتدح من قبل العزلة وطلب الحكمة.

ويطرق سمع الأخوين صوت فينصتان ويقدران أنه إما أن يكون صوت ضال مثلهما أو صوت لص يدعو منسره؛ ويسأل الله أصغرهما لأختهما السلامة والنجاة، ويتأهب أكبرهما للدفاع، ويستنجد السماء له ولأخيه. . .

ويظهر عقب ذلك الروح الحارس في زي أحد الرعاة فيظنه الأخوان راعياً يعرفانه من رعاة أبيهما، ويسألانه ما خطبه، وهل فقد من غنمه شيئاً، فهو يبحث عنه، ويجيبهما أن الأمر أخطر مما يظنان، ثم يسأل عن أختهما فينبآنه أنهما تركاها قليلاً وعادا فلم يجداها، فيطلعهما على مخاوفه وهواجسه، فيسألانه أن يفصح فيقص عليهما ما علمه عن كومس وقبيله وما برع فيه من السحر، ويصف ما يبعثون في الغابة من جلبة وضوضاء، ثم يقول: قد سمعت أغنيه حلوة يرتفع بها صوت رقيق ملؤه الخشوع يسري فوق متن الهواء كما تسري نفحات العطر المقطر صوت بات الصمت ذاته حياله كالمأخوذ عن نفسه حتى لقد ودّ لو أنكر ذاتيته ذهب إلى غير عودة إذا كان صوت كهذا يحل محله. . . وأرهفت أذني أستمع فتبينت أنه صوت سيدتي أختكما الحبيبة، فمضيت لتوي صوب الصوت ولكني

ص: 30

ألفيت ذلك الساحر اللعين قد أدركها قبل أن أصل وظهر لها في لباس قروي وهي تسأله عن اثنين تاها في ظلمات الغابة فاستخلصت أنها تسأل عنكما فخففت أبحث في الغابة حتى لقيتكما هنا، ولست أعلم ماذا كان من أمر الفتاة بعد ذلك.

ويجزع أصغر الأخوين مشفقاً على أخته؛ أما أكبرهما فيظل على يقينه وثقته في الفضيلة والاعتصام بها، فقد تهاجم الفضيلة ولكنها لا تغلب، وتباغتها القوة الظالمة ولكنها لا تزعزعها؛ وأن ما يريده السوء من خطر جسيم يصبح إذاً امتحنت به الفضيلة أعظم دواعي الفخر. ولا بد من أن يرتد الشر فينطوي على نفسه فهو من نفسه ينبت ثم إنه يأكل نفسه. ويعلن الفتى عزمه على مقاتلة ذلك الساحر حتى يرد ما اقتنص وهو صاغر أو يجره من ذوائبه إلى ميتة كريهة فيذهب لعيناً كما لعنت حياته؛ ولكن الروح الحارس أو الراعي يرد عليه بأن شجاعته هذه وإن كان يكبرها لن تجدي عنه شيئاً فذلك الساحر قادر على أن يشل بسحره مفاصله ويتلف كل عضلة في جسمه؛ ويتعجب الفتى ويسأله كيف تجرؤ إذن على أن يدنو من الساحر كما فعل؟ فيظهره الراعي على سر، وذلك أن صبياً من الرعاة دله على نبات يكشف السحر ويأمن به من غوائل السحرة ويفرح بذلك الإخوان، ويعتزمان لقاء الساحر وكسر زجاجته وقهره.

ويتغير المنظر على المسرح، فإذا جانب من قصر عظيم يتبدى للأعين وقد صفت فيه الموائد المغطاة بالأقمشة الموشاة، وزخر بأنماط الزينة وترقرق فيه لحن موسيقى هادئ. وتجلس العذراء على كرسي مسحور، ويظهر كومس وقبيله فيمد إليها يده بكأس، فتأخذها ولكنها تضعها جانبا وتهم بالوقوف، فيأمرها الساحر أن تجلس، فإنه إن هز عصاه أحالها إلى تمثال من المرمر أو صنع بها كما صنع أبولو بدافني؛ وترد العذراء عليه مغضبة بقولها لا تفخر أيها الأحمق، إنك إن استطعت أن تسيطر بسحرك على جسمي فلن تنال من حرية عقلي بكل ما أوتيت من السحر.

ويترفق الساحر في قوله، ويحاول إغراءها بأن تشرب من كأسه وألا تغضب، وأن تنفي عن نفسها الهم، ففي ذلك القصر لا يعرف الحزن؛ وهذا الشراب الذي تحتويه الكأس يملأ النفس حبوراً وقوة وشباباً. ولن يبلغ مبلغه في هذا السبيل ذلك الشراب الذي أعطته في مصر زوجة ثون لهيلينا ابنة جوف؛ وما أحوج العذراء إليه كما يحتاج كل امرئ إلى ما

ص: 31

ينعشه بعد النصب ويريحه بعد العناء، وقد مسها التعب والجوع، وهذا الشراب يدرأ عنها ذلك جميعاً، وتصيح به الفتاة: إنه لن يفعل أيها الكذوب الخائن، وإنه لن يرد إلى لسانك ما نفيته عنه بكذبك من الصدق والأمانة. أهذا هو الكوخ الأمين الذي حدثتني عنه؟ وما هذه الأشباح المنكرة التي أرى؟ هذه الشياطين القبيحة الرؤوس! يا رحمة الله احرسيني. . . اذهب عني بسحرك أيها الساحر البغيض، لو كان ما تقدمه لي كأساً من شراب جونو الذي تشربه إذ تطعم على مائدتها ما تناولته من يدك الخائنة؛ إنه لن يعطي الطيبات من الأشياء إلا الطيبون، ولن تسيغ الخبيث نفس عاقلة تضبطها الحكمة.

ويعلن كومس عجبه من حماقة بني الإنسان وتصديقهم كلام الفلاسفة في القناعة والزهد؛ ولم تخرج الطبيعة إذاً كنوزها وثمارها وزينتها إن لم يك ذلك لتدخل بها السرور على الأنفس المتطلعة إلى كل معجب جميل، وما غناء الحرير والذهب الذي يعبده الناس جميعا وغيرهما من الجواهر؟ إن الإنسان إذا قنع بالتافه من الطعام والشراب والخشن من الثياب لم يعرف أنعم الله ولم يشكره؛ وأين تذهب تلك الأنعم إذا تراكمت بعضها فوق بعض لزهد الناس فيها؟ ويهيب الساحر بالعذراء ألا تخدع نفسها بتلك الكلمة الجوفاء ألا وهي العفاف؛ فإن الجمال لا يكنز وإنما يجب أن تتناوله الأيدي؛ وإذا تصرمت الأيام ذوى كما تذوي الورد في عودها. والجمال فخار الطبيعة، ولذلك يجب أن يعلن في القصور والولائم وعظيم الحفلات حيث يتدبر الناس في عجيب صنعه؛ ويختم الساحر كلامه بأن يدعو الفتاة إلى التفكر فيما يقول فهي في زمن الشباب. . .

وترد عليه العذراء قائلة: ما تصورت من قبل أن تنفرج شفتاي بالكلام في جو كريه كهذا الجو، ولكن ما الحيلة وهذا الساحر يدلس على الرأي ويظن أنه قادر على أن يسحر فكري كما سحر عيني فيأتي بكلام زائف يلبسه لباس العقل؛ وإني لأكره أن تتمكن الرذيلة من أن تدلي بحججها ولا يكون للفضيلة لسان يصد تبجحها. أيها المخادع لا تتهم الطبيعة البريئة كما لو كانت تريد أن تبث في قلوب بنيها الزهو والخيلاء بما تفيض عليهم من كنوزها. إنها ما تخرج خيراتها إلا للطيبين الذين يعيشون وفق قوانينها الحكيمة، ويسيرون حسب ما يقتضيه الاعتدال. ولئن أتيح لكل رجل ممن أضنتهم الفاقة قدر بسيط لائق به مما جعلته الأبهة والترف ركاماً بعضها فوق بعض في أيد قليلة، فإن أنعم الطبيعة بذلك توزع في

ص: 32

عدالة، وعندئذ فلا تتلف في خزائنها، وعلى ذلك يكون شكر المتفضل المنعم قد أدته كل نفس. ألا أن النهم لا يتجه إلى السماء ومن حوله ما تمتلئ به مائدته الفخمة، ولكنه يضيف إلى تهمه كفرانه بالنعمة، ذلك الكفران الدنيء الغبي فيمتلئ ويخوض في حق طاعمه. أأزيدك من قولي أم كفاك ما قلت؟ إنه لا يسعني إلا أن أقول شيئاً أرد به على ذلك الذي يجرؤ أن يسلح لسانه البذيء بكلمات حقيرة يوجهها ضد تلك القوة المتشحة بأشعة الشمس، قوة العفة ولكن ما غناء ذلك؟ إنك لا أذن لك ولا قلب حتى تفهم ذلك الرأي السامي وذلك السر العلوي اللذين ينبغي النطق بهما ليتكشف لك الخطير العاقل ألا وهو مبدأ العفاف، ومثلك من لا يستحق أن يعرف من السعادة أكثر مما هو فيه فأهنأ بلباقتك الحبيبة إليك وفصاحتك المرحة التي مرنت على لجاجها الخادع. وإنك لأصغر عندي من أن ترى نفسك وقد لزمتك الحجة. ولئن تكلمت فإن ما لهذه القضية الطاهرة من أحقية في الكلام لا تقاوم جدير أن يشعل جوانب نفسي حماسة بحيث يتحرك بالعطف على كل أصم من الجماد وتهتز الأرض الجافية فإذا بصرح سحرك الذي امتد عالياً صوب السماء ينقض كومات فوق رأسك الزائف.

ويحدث كومس نفسه قائلاً: إن لكلامها لوقعاً، وإني لأحس أن كلماتها إنما تمليها عليها قوة عليا ومع أنني لست من بني الفناء، فإن رعشة باردة تهز كياني كله كما بعث جوف الرعد إذ غضب فألقى بأبيه ساتورن في العالم السفلي، وكما تثير السلاسل المهتزة من رعد في آذان ملاحي ساتورن، ومع ذلك فيجب على أن أتغافل عما أجس وأعود إلى محاولتي معها وأنا أكثر مما كنت قوة، ثم يتجه إلى العذراء قائلاً حسبك هذا فإنه مما تلغون به في الحديث عن الخلق، وإنه ليخالف قوانيننا وقواعدنا، ولست أطيق منه أكثر مما فعلت، وما هو إلا مظهر نفس غاضبة، ولكن هذه الكأس تشفي ذلك كله سريعاً. إن رشفة واحدة منها تغرق النفس المكتئبة في فيض من السرور تقصر دونه مباهج الأحلام فارجعي إلى صوابك واشربي. . .

ويندفع أخواها وقد شهر كل منهما سيفه، ويضرب أحدهما زجاجة فيلقيها من يده فتتحطم فوق الأرض، ويهم أتباعه بالمقاومة ولكن الأخوين يدفعانهم بسيفيهما، وعندئذ يدخل الروح الحارس. . .

ص: 33

(يتبع)

الحقيف

ص: 34

‌عن الفرنسية:

يوسف الثاني والضابط

للأستاذ عبد العزيز الكرداني

خرج الإمبراطور يوسف الثاني - عصر يوم - يرتاض بالقرب من مدينة فيينا - قصبة النمسا - في عربة مقفلة ذات مقعدين كان يقودها بنفسه.

وكان الإمبراطور يرتدي لباساً عادياً بسيطاً، وفي صحبته رجل من حاشيته متجرد من زيه الرسمي.

فلما استهل الإمبراطور الإدلاج في طريق المدينة بغتة وابل من هطل غزير. . . ورأى - على مسافة قريبة منه - رجلاً يصطنع الزي العسكري من رتبة الملازم الثاني يشير إليه علامة الاستيقاف. وكان بينا من اتجاه الرجل أنه يتخذ الطريق إلى المدينة. . . كالإمبراطور تماماً؛ فجذب الإمبراطور مقود الخيل وتريث ينتظر مقدم الضابط!

قال الضابط:

- هل يتفضل سيدي بمنحي المقعد الخالي إلى جواره. أظن سيدي لن يضيق بهذا الطلب كثيراً! وأكون شاكراً لسيدي تجنيبه الثوب الذي أرتديه اليوم - لأول مره - معابثة ماء المطر!

فقال الإمبراطور في بشاشة:

- لا عليك! ق ثوبك وهيا معي! من أين أنت قافل؟

فأجاب الضابط:

- آه! لقد كنت في زيارة واحد من أصدقائي. . . يشتغل حارس صيد وقد بالغ في إكرامي. . . وقدم إلي وجبة مختارة!

- وما هذا الذي قدم إليك؟

- خمن.!

- حسن. . . أيكون قدم إليك الثريد الفاخر مع نبيذ الشعير؟!

- آه! حسن! لقد قدم خيراً من هذا!

-. . . طبقاً من الكوكروت

ص: 35

- أفضل من هذا!

- ماذا؟! لسان العجل!

-. . . أطيب من هذا أيضاً!

- أوه. . . صدقني. . . لقد أفرغت كل جعبتي، ولا إخالني مستطيعاً - بعد - أن أذهب في التخمين إلى أبعد من هذا!

-. . . لقد قدم إليّ أيها السيد ديكا برياً. . . ديكاً قنص في حقول صيد جلالة الملك!

- أولاً توجد أراض أكثر جودة من أراضي جلالته؟

- هذا أمر مفروغ منه يا سيدي!

وخيم الصمت برهة؛ وكانا قد قاربا المدينة وقطعا الطريق إلى نهايته. ولكن المطر ظل على تدفقه وانهماره؛ فاستوضح الإمبراطور رفيقه أي حي يقطن؟ ولكن الضابط أبدى رغبته في النزول متأدباً.

- سيدي. . . هذا إفراط منك في الأريحية، أخشى أن أكون قد. . .

فقطع عليه الإمبراطور:

- لا. . . لا تقل هذا، دلني على متجهك؟

فلم يسع الضابط إلا أن يعين مسكنه، ثم بدا له أن يتم تعرفه بالرجل الذي أفاض عليه من كرمه وظرفه. فتوجه إلى الإمبراطور مستفسراً أي مهنة يشغل؟ ولكن يوسف قال متخابثاً:

- حسن. . . أظن أنها الآن نوبتك في الحدس والتخمين!

- ربما كان سيدي من رجال الجيش؟

- تماماً. . .

- سيدي من رتبة (الملازم الأول).

- آه! تقول: ملازم أول؟! أوه. . . لا! أرفع من هذا.

- أيكون سيدي من رتبة (اليوزباشي)؟!

- أعلى من هذا أيضاً!

- أيكون سيدي من رتبة (الأميرالي)؟!

- يمكن تخطئة هذا الحدس أيضاً.

ص: 36

- كيف؟! ماذا يكون سيدي إذن! أيكون (مارشالا)

- لا. . . ما زلت بعد مجانباً التوفيق!

- آه! يا إلهي!! إنه الإمبراطور!!

فقال الإمبراطور وهو يفك عرى معطفه ليظهر أوسمة الشرف التي تزين صدره:

- هو كذلك.!

وفقد الضابط إتزانه، وأرتج عليه حين أراد أن يلتمس المعاذير؛ ولكنه استطاع - بعد لآي - أن يفصح للإمبراطور ضارعاً عن رغبته في الإذن له بالنزول من العربة؛ فأجاب يوسف الثاني متلطفاً:

- ليس الآن! إنني لن أفارقك إلا عندما تقف العربة ببابك!. . .

وهنالك أذن له في النزول.

عبد العزيز الكرداني

ص: 37

‌في كتاب البخلاء

طبعة وزارة المعارف

لأستاذ عظيم

- 3 -

الجزء الثاني

جاء في صفحة 7: (قال: فهو ذا المجوس يرتعون البصرة وبغداد وفارس والأهواز والدنيا كلها بنعال سندية). وقال الشارحان (يرتعون البصرة) أي يجوبون هذه البلاد ويطفون بها. . . ولكن رتع لازم فضمنه هنا معنى جاب أو قطع فعداه. وأقول: إنها يرقعون أو يترقعون؛ يقال: رقع الأرض برجليه، ضربها. ويقال: ترقع البلاد، تكسب فيها في الخصب.

وجاء في صفحه 13: (بقيت مخفقاً معدماً، وفقيراً مبلطاً)(بفتح اللام). وأرى أن الأرجح أن تكون مبلطاً بكسر الللام لتزاوج مخفقاً ومعدماً. وأبلط الرجل بالبناء للفاعل أو المفعول من معانيها أفتقر وصار لاصقاً بالأرض أو بالبلاط.

وجاء في صفحة 27: (وكان على ثقة أنه سيأتي عليه في الشتاء، مع صحته وبدنه، وفي شك من استبقائه في الصيف). وفسر الشارحان: (استبقائه) بالاستبقاء منه. وأرى الأولى أن تكون الكلمة محرفة عن (استيفائه)؛ لأن الشك إنما يكون في قدرته على استيفاء أكل الرأس لا على استبقاء بعضه. وهذا يتلاءم مع اللفظ بدون تقدير كلمة (منه).

وجاء في صفحة 30: (وكيف صنع فيلويه فيما بينك وبينه؟ قالت: كان يجرى على في كل أضحى درهماً! فقالت: وقد قطعه أيضاً)؛ والصواب: وقالت أو ثم قالت.

وجاء في صفحة 31: (وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن، جلاد الدم). وقال الشارحان: (جلاد الدم) قاتل كما يفهم من المقال وإن كان المعنى اللفظي لا يؤدي ذلك إلا بشي من التجوز. وأرى أنها (حلال الدم) وهي عبارة مفهومة لا تدعو للتجوز.

وجاء في صفحة 34: (وبعد، وكيف تشتهي الطعام اليوم) وأظن الواو زائدة أو هي فاء.

وجاء في صفحة 52: (وإذا مد أحدكم يده إلى الماء فاستسقى). والواو قبل إذا زائدة قطعاً

ص: 38

كما في عيون الأخبار لأنها مبدأ كلام صاحب البيت الذي يطلب إلى الضيوف سماعه.

وجاء في صفحة 54: (قلت له فلم لا يتخذ موضع (مذار) من بعض (دقاق) أرضه فيذري لكم الأرز؟ ثم يكون الخيار في يده، إن أراد أن يعجل عليكم الطعام أطعمكم الفرد، أو إن أحب أن يتأنى ليطعمكم الجوهري). وقال الشارحان: إن العبارة غير مستقيمة في جميع النسخ، ثم تكلفاً في تفسير الفرد والجوهري تكلفاً ظاهراً. وأرى أن عبارة الجاحظ محرفة، ولعل أصلها:(فلم لا يتخذ موضع مذر في بعض رقاق أرضه فيذري الخ وكلمة (الفرد) أصلها العرض، والجوهري أصلها الجوهر. ويكون المراد: فقلت له: لماذا لا يعمد إلى بعض عماله فيكون هو المذري لأرزه، وتكون التذرية على أرض رقاق أي لينة متربة. وما نتج من التذرية سيكون بالطبع أرزاً، ثم عصفاً، فعبر عن الأرز بالجوهر، وعن العصف والكسارة بالعرض. فإن كان الضيوف مستعجلين صنع لهم العرض خبزاً، وإن انتظروا صنعه لهم الجوهر. وهذه الفكرة الخبيثة قد استعاذ الخاطب بالله منها أن يحاذيها ذلك الضيف البخيل.

وجاء في صفحة 80: (فتذاكروا الزيت وفضل ما بينه وبين السمن، وفضل ما بين الأنفاق وزيت الماء) ولعل (الأنفاق) محرفة عن (الأنفاط) وهي الأنواع المختلفة من النفط وهو الزيت الحجري. ولعل مراده بزيت الماء زيوت الأزهار التي تستقر بالأنبيق، فكأنهم فاضلوا بين السمن وزيت الطعام، وجرهم هذا إلى الكلام في أنواع الزيوت الأخرى، من معدنية ومائية.

وجاء في صفحة 95: (ولقد وهب لرجل ألف بعير، فلما رآها تزدحم في الهوادي قال: أشهد أنك نبي) وقد فسر الشارحان الهوادي تفسيراً غير مفهوم، والأقرب أن تكون (المرادي) جمع مرداء، وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها، والازدحام فيها مفهوم بلا عناء.

وجاء في صفحة 172: (ولأن الحوائج تنقضّ) والصواب تقتضي. وجاء في الصفحة نفسها قوله: (قلت له فإذا أتيت رجلاً في أمر لم تتقدم بمسألة، كيف يكون جوابه لك؟) وصواب (أتيت) أنبت؛ لأن هذا البخيل قال لسائله إنه مستعد لا للإعطاء بل لتأنيب من يشاء أن يؤنبه هذا البخيل لمصلحته، سواء أكان من يقع عليه التأنيب هو من يسأل هذا البخيل غداً رد جميلة بإعطائه الغير مقابل هذا الجميل، أم كان من يقع عليه التأنيب

ص: 39

شخصاً آخر. فلما سمع السائل من البخيل هذا القول دهش ولم يفهم كيف يستطيع هذا البخيل أو غيره أن يؤنب إنساناً على أمر لم يسبق أن كلمه فيه ذلك الإنسان. وقد دفعه هذا الدهش إلى الاستفهام من البخيل عن هذا التأنيب الغير المسبوق بما يقتضيه وعما يكون جواب المؤنب. واستفهامه عن جواب المؤنب ليس استفهاماً حقيقياً بل لفت نظر إلى ما يكون حتماً وعادة من دفع هذا المؤنب إلى مقابلته بكل شر.

وجاء في صفحة 195: (وقال الأفوه الأودى:

تهنا لثعلبة ابن قيس جنفةُ

يأوي إليها في الشتاء الجوع

ومذانب لا تستعار وخيمة

سوداء عيب نسيجها لا يّرقع

وكأنما فيها المذانب حَلْقَةّ

ودم الدلاء على دلوج يّنزع

وقال الشارحان في تفسير البيت الأخير: (يقول كأن المغارف (المذانب) وقد أحاطت بحافة هذه الجنفة حلقة لاستدارتها حولها، وكأن ما يغرفه منها الآكلون لعظمه وثقله ماء دلاء يرفعه النازعون بمشقة. وأقول: إن هذا التفسير متكلف ملتبس، وأظهر مبهماته عبارة (ماء دلاء) فإن المذكور في البيت دم دلاء، ولا ندرى كيف يجعل الدم ماء. والأصح أن كلمة (حلقة) في البيت محرفة عن (خفة)، وكلمتي (ودم) مصحفتان عن كل كلمة واحدة هي (وذم) والوذم جمع وذمة وهي الرباط من جلد أوليف مثلاً يشد بها طرفاً خشبة الدلو إلى عروتيه. وإذن يكون معنى البيت بعد التصحيح: كأن تلك المذانب (المغارف) إذ تراها متعاقبة يخلف بعضها بعضاً على النشل من القدر تحسبها أخشاب الدلاء انفصلت وانتزعت على أربطتها من عروتي تلك الدلاء أثناء الدلوج من البئر إلى الحوض. هذا ما يخيل إلى أنه الأصل وأنه المراد. ويؤكده عندي أن المغرفة هي ساق متصلة بكتلة مقورة من الخشب وهيئتها كهيئة الدلو إذا انفصلت، وفي أحد طرفيها الوذمة التي هي أوسع قطراً منها. والتصحيح والتفسير على هذا الوجه يقتضيان جعل (ينزع) بالتاء بدل الياء. وبعد أن كتبت هذه الملاحظة اتفق أن زارني الأستاذ الشيخ علام نصار وكيل محكمة مصر الشرعية فلما قرأها قال: إنه لا يتصور كيف تكون المغارف كخشب الدلاء المنزوعة من عرواتها عند الدلوج من البئر إلى الحوض. وفي ذات مساء قال لي في التليفون: إنه راجع هذه الأبيات في ديوان الأفوه الأودى فوجدها كما صححتها.

ص: 40

ولكن هناك تحريفاً آخر في كلمة (دلوج) فإنها بالديوان (قليب) وأن (تهنأ) في البيت الأول أصلها (فينا) وأن (خيمة) و (نسيجها) و (ترقع) في البيت الثاني أصلها (جفنة) و (نشيجها) و (ترفع). وقد أرسل إلى كتاب الطرائف الأدبية وفيه هذه التصحيحات بصفحة 19 فشكرته على فضله، وطلبت إلى حضرة مراقب المجمع إعادة الكتاب إليه. ومن رأيي أن (فينا) لا بد أن تكون هي الصحيحة دون (تهنأ)، وأما (جفنة) بدل (خيمة) في البيت الثاني فمحل نظر؛ وأن (نشيجها) لا بد أن يكون أصلها (نشيشها). وهذا التصحيح قد يجعلني أعدل عن تصوير حالة المذانب عند الدلوج وأن أقول أنه يستعمل (الوذم) في معنى رشاء البئر. أي أن استخراج ما في القدر بواسطة هذه المذانب يصور دلاء تنزع من القليب برشائها وهي صورة جيدة لا بأس بها.

وجاء في صفحة 207: (وقال الأعشى:

المشرف العَود فأكنافه

ما بين حمران فينصوب

ومن رأيي أنها العود بالضم لا بالفتح، وهو كناية عن ارتفاع قامته مادياً أو ارتفاع هامته معنوياً، والثاني هو المقصود طبعاً.

وجاء في صفحة 220:

ونار كسحر العّود يرفع ضوءها

مع الليل هبات الرياح الصوارد

والصحيح أنها كسحر العود، أي حمراء كرئة البعير. ولو جاز أن يكون الأصل كما هنا لكان الكلام تافهاً؛ لأن النار دائماً هي سجر العيدان ضؤل خشبها أو جزل.

ص: 41

‌حنين.

. .

للشاعر مصطفى علي عبد الرحمن

أنيري لي الدنيا وهاتي الذي ينسى

فيا طالما لجَ اشتياقي إلى أمسي

أنا التائه العاني أنا المدلج الذي

يسيرّ على شك ويخبط في يأس

أريد من الدنيا رضاءك لحظة

أّعيد بها أنسي وأحي مدى حسي

وأخشى على نفسي من الموت قبلما

تقيمين أعلام البشائر في نفسي

ذكرت ليالينا الحبيبات مّبعداً

عن الدار لا صفو لدي ولا كأسي

أبيتّ على هم وأصحّو على أسى

الأشدَ ما أصحو عليه وما أّمسي

وأمشي وراء الوهم والوهمّ قاتلّ

فلا شاطئّ يدنو ولا زورق يرسي

فياضلة الفكر المعذب ما ونتْ

تكيلّ له الأيام تعساً على تعسِ

هنا ملعب فيه انتشينا مع الصبا

وكأن لنا منه مراح وسامرّ

هنا في ضياء العمر كان لقاؤنا

بعيدين عما تتقيه النواظر

هنا كانت الدنيا ونشوة سحرها

وطوفان نور من سنا الحب غامر

به سبحت أحلامنا كل مسبح

وغنت لنا آمالنا والبشائر

بكيت على يومي يمرّ ولا أرى

له في شعاب النفس رجعاً لأنغام

بكيت على أحباب قلبي تفرقوا

وخلفت وحدي في مجاهل إظلامي

بكيت على الآمال تذوي على المنى

على بسمة كانت على ثغري الدامي

أما عودة للأمس في ظل نشوة

أحطمّ في أنوارها كيد آلامي

أيا شاطئ الإلهام كيف تمزقت

أمانيَ في تلك الرحاب النواضر

وأصباحنا ما بال أصباحنا مضت

وخلَفن لي ظلم العشايا البواسر

فؤادي ألا تحنو على قلبيَ الذي

أتاك لهيفاً مستثار الخواطر

أرى بسمة تعلو محياك نورها

كأنك من أحلامنا جد ساخر

ويا أيها الحلم البهيج الذي انطوى

أتلقاك منى النفسّ والعين ثانيا

فأسبح في أنوارك البيض لحظة

وأمرح في أجوائك الزهر هانيا

وتنسى بك الهمَ الدفين حشاشة

على الألم اللذاع تقضي اللياليا

ص: 42

حشاشة قلب بات لهفان صاديا

ينادى فلا يلقى المجيب المواسيا

يحن إليك القلب لهفان مثلما

يحن جديب القفر للسلسل العذب

أهيم بدنيا الناس وهى جديبة

وإن حاط بي أهلي ورافقني صحبي

ذنوبي هوى في ثورة الجن صاخب

يناديك قلبي لا رأيت جوى قلبي

فهل آن إسعادي وهل آن أن أرى

من العطف ما يحي البشائر في جدبي

ص: 43

‌إلى سعادة الأمين العام لجامعة الدول العربية:

كن حامل النار

للأستاذ حسن أحمد باكثير

(جاء في تصريح رسمي لعبد الرحمن عزام باشا أن جامعة

الدول العربية تطالب بجلاء الجيوش الأجنبية عن شمال أفريقيا

كما تطالب بجلائها عن سوريا ولبنان ومصر، فقابلت صحف

فرنسا هذا التصريح بعاصفة من الاحتجاجات وكتبت ترد عليه

بعناوين ضخمة قائلة: لا يا باشا!! وفي اعتقادي أن الجامعة

ينبغي أن تعجل بإنشاء جيش عربي ضخم يتولى عنها الرد

على أمثال هذا التحدي الفرنسي الوقح).

يا حامل النور في يمناه مؤتلقاً!

ما نفع نورك إن لمّ يمْس نيرانا؟

ما نفع نورك في دنيا تسود بها

شرائع كفرت بالنور كفرانا؟

النور ينفع في دنيا مطهرة

وليس ينفع في دنيا كدنيانا

دنيا يسود بها من حاز في يده

ناراً ولو كان رب النار شيطانا

أما رأيت فرنسا غير عابئة

بحق قومك طغيانا وعدوانا؟

أما سمعت نواياها يردّدها

في مجلس الأمنِ بيدو نحو لبنانا؟

أما شهدت صنوفا من جرائمها

في المغرب المتلظي روحا وجثمانا؟

ماذا أجابت فرنسا حين قلت لها:

(العالم العربي استيقظ الآنا

وأمة الضاد تأبى أن يظل به

جيش غريب يريها الذل ألوانا)

ماذا أجابت؟ لقد قالت مزمجرة

صخابة: (لا) بصوت ظل رنانا

صوت تؤيده نار ولو تركت

تأييده لانقضى وأرتد دخانا

يا حامل النور! خل النور ناحية

إن لم تحِلْه لظى توري حنايانا

ص: 44

كن حامل النار وارفعها مؤججة

ألهب بها كل قلب ذل أو هانا

وأسحق بها كل ضعف في عزائمنا

وامحق بها كل وهن في سجايانا

وأبعث سخائمنا وانشر حفائظنا

واملأ جوانحنا حقدا وأضغانا

أحرق بها كل جبار يهددنا

والذع بها كل طاغ قال بهتانا

وابلغ بها كل ناء من مقاصدنا

واحلل بها كل صعب من قضايانا

يا صاحب الحق ليس حق منتصراً

إن لم يجد من جيوش الحق أعوانا

كوَن لحقك جيشا غير مدخور

إن كنت تبغي له عزاً وسلطانا

الحق شرعتنا والحق عبئنا

والضعف علتنا والضعف بلوانا

والجيش عدتنا والجيش عزتنا

والجيش سطوتنا والجيش منجانا

ص: 45

‌رسالة الفن

معرض القاهرة السادس والعشرون التصوير والنحت

للأستاذ نصري عطا الله سوس

نحب أن نمهد الحديث عن هذا المعرض بذكر بعض الأصول والبديهيات التي اهتدينا بهديها حين كتبنا هذا المقال، والتي كثيراً ما يؤدي الجهل بها أو التشكك فيها إلى الخطأ في الحكم والتقدير، ومن ثم فوات المقصود من إنتاج الفن أو مشاهدته:

البديهية الأولى - والأخيرة! - هي أن الفن هو التعبير الموفق عن العاطفة الصادقة، فالمصور يلجأ إلى التصوير للتعبير عن عاطفة جاشت بها نفسه وامتلأ بها قلبه، وهذه العاطفة تختلف عن عواطفنا اليومية العادية بقوتها، ووضوحها وكمالها، وفي الفن لا ترى الأشياء بعين الحاجة أو المنفعة؛ بل نراها لمجرد رؤيتها ونتأملها لغاية التأمل، وهذه النظرة للأشياء تتسم بدقة الإدراك ونقاء الأثر الذي تحدثه في نفس الفنان، وبالتالي في نفس المشاهد.

وخاصية فن التصوير هي التعبير عن عاطفة أو إحساس تلقيناه عن طريق العين، أثارته فينا الخصائص الشكلية للأشياء والمعاني، ولذا لا يمكن التعبير عنه إلا بالأشكال والألوان. ولو أمكن التعبير عنه بوسيلة أخرى، كاللغة مثلاً، لبطلت الحاجة إلى فن التصوير وانتفى وجوده.

وليست الغاية من الفن محاكاة الطبيعة أو النقل الأمين عنها كما يظن الكثيرون، فالفن لا يعطينا صورة من الأشياء بل من جوهر الأشياء، وحقيقتها الكاملة بما فيها من إمكانيات مستسرة وقيم عليا. ويختلف نصيب الأعمال الفنية من العظمة والجودة باختلاف نصيبها من القوة التعبيرية التي تقوم على قوة الحافز العاطفي ومتانة وصدق الأداء، وقوة الأثر وخلود الذكر من نصيب الأعمال الفنية التي تعالج العواطف الإنسانية العنصرية والأصيلة، والتي تطرد في الناس على اختلاف البيئات والزمان، والتي تعالج الحقائق الباقية والقوانين الكونية والمثل الإنسانية العليا، على أن يتسم الأداء بالقوة والكمال والبساطة، ويعبر عن دقة الفهم ولطف الإحساس.

المستوى العام للمعرض أعلى منه في السنوات القليلة الماضية، وهناك عدد لا بأس به من

ص: 46

المصورين ينفرد كل منهم بطابع مستقل، وشخصية متميزة وعالم خاص وأعمالهم الفنية مرآة صافية لعواطف واحساسات، كثيراً ما تحول مشاغل حياتنا اليومية دون تعهدها والتمتع بها. ورسالة الفن أولاً وأخيراً هي أن يتم نواحي النقص في حياتنا النفسية والروحية، وأن يمهد لنا سبيل استنهاض هذه العواطف والاحساسات، وأن يعاونها على ارتياد آفاق جديدة، حتى يعاودها شبابها وعمقها وحيويتها، كما أن عددا كبيراً من الصور التي ينقصها النضوج والإتقان. وقديماً قيل أن الذوق لا يعلل، وكثيراً ما اتخذ هذا القول ذريعة للتسامح والتهاون والاستهتار، وحسبنا هذه الإشارة، وفيما يلي عرض سريع لمآثر المعرض:

عرض محمود سعيد بك لوحتين لا تمثلان خير إنتاجه. ومكانة سعيد بك معروفة، ولكنه لا يحاول أن ينوع أو يرتاد آفاقاً جديدة. وصورة هذا العام ليست إلا نسخاً أخرى من موضوعاته التي ألفناها.

وقدم الأستاذ مصطفى دربالة دراسة رائعة (للبوظة) في عدة لوحات وفق في معظمها توفيقاً نادراً إلى التعبير الصادق المتقن عن روح (البوظة) وطابع شخصيات روادها ونفسياتهم.

وفي صور الأستاذ زوريان أشود طلاقة وحرية في التعبير الجيد عن الخصائص الكلية للأشياء. وله صورة وجهيه (صورة نورا) نعتبرها أنموذجاً كاملاً لما يجب أن يكون عليه هذا الفن، ففيها يمتزج المعنى والمبنى وتأتلف كل عناصر الفن، وفضلاً عن أنه وفق إلى التعبير عن روح صاحبة هذه الصورة، منعكسة على سماتها وملامحها، فالصورة ذات مميزات بارزة إذا نظرت كشيْ قائم بذاته.

وعرض الأستاذ نعيم جاب الله ثلاث لوحات قيمة تدل على حيوية كبيرة: فالطبيعة التي تبدو للعيون هامدة خامدة تتجلى في صورة نشطة نشاطاً عارماً مليئة بالقوة والحياة. ونحن نشهد لهذا المصور الشاب بعمق الشعور ودقة الذوق الممثلين في حسن اختياره للألوان، ونشهد له بإحساسه القوي بالنور المصري الصافي، وهو إحساس نفسي لا بصري فقط - ورسالة الفن تتلقاها العين ولكن تؤديها النفس - وصورة تذكرني بقول الشاعر كيتس:(الألحان المسموعة حلوة، ولكن غير المسموعة أحلى) لأن فيها ألحاناً غير مسموعة، وهي بذلك تؤدي رسالة الفن التي تقصر عن أدائها الألفاظ.

ص: 47

وقد قلت عن (الآنسة إحسان خليل) لعامين خليا في مجلة الرسالة: (إن هذه الفتاة فنانة حتى أطراف أناملها. والذي يتأمل المناظر الطبيعية التي رسمتها يحس أنها تتناول الفرشة بقلبها الرقيق لا بأصابع يديها). وصورها هذا العام تعبر بجلاء عن شاعريتها وروحها الصوفية الرقيقة، ففيها صلاة وعبادة للطبيعة، وفيها نفاذ إلى روح المنظر، وفيها موسيقى تراها العين ويحسها القلب، كما أنها توحي بالسلام والاطمئنان اللذين نحسهما عندما نخرج من أسر النفس، ونرتفع عن مستواها لنندمج في الكون الكبير.

والأستاذ عز الدين حمودة رسام أنيق ودقيق في اختيار موضوعاته: (مدام سول، في أحلام الترف، شرقية) وهو موفق في الأداء، وصورة جياشة بالمعاني النفسية. ولعل حسن اختياره لموضوعات صورة، وكلها صور سيدات، هو سر توفيقه. غير أني أحس أنه غير موفق كثيراً في (في أحلام الترف) ويبدو هذا بجلاء عندما نقارن هذه الصورة بصورة سعيد بك:(زبيدة) ففي الأخيرة تكاد كل ذرة تعبر عن (أحلام اللحم) كما أن المشاهد يحس على الأثر أن للصورة روحا، وهذا لا يتوفر في صورة حموده.

والأستاذ منير شريف موفق جداً في التعبير عن إحساسه بمناظر البحر، وهو يؤدي إحساسه هذا ببساطة وخلو من التعقيد ودون لجوء إلى التزويق والمحسنات. وسر نجاحه أن الأداء عنده طريق ممهد سهل للوصول إلى عاطفته ومشاركته فيها.

وتطغى الروح الأكاديمية على معروضات جماعة الدعاية الفنية (وقوامها الأساتذة حبيب جورجي، شفيق رزق، نجيب أسعد، الآنسة صوفي جرجس) ولكنهم ينسجون على منوال واحد في التعبير. ومن الصعب جداً تمييز أعمال أي منهم من أعمال بقية الجماعة، وجانب الصنعة عندهم يطغى على جانب الإحساس وإن كانت الصنعة نفسها لا تمتاز بالقوة أو المهارة. وتنطبق هذه الأقوال على مدرسي الفن في المدارس والمعاهد ومنهم الأساتذة عبد العزيز درويش، وسند بسطاً، وكامل مصطفى محمد (ونشهد له بالنجاح في صوره الوجهية: الآنسة كوليت، جارتي) وصدقي الجباخنجي ورمزي السيد مصطفى إلى حد ما. فهل نستنتج من هذا أن ممارسة الفن كمهنة يقتل الموهبة ويذهب بحيويتها؟؟

وللأستاذ يوسف كامل صور وجهية لا بأس بها (نصري. عبد القدوس). والأستاذ طويل ريمي يقتصد جداً في الأداء فينجح إذا كان الاقتصاد اقتصاراً على التعبير على الخصائص

ص: 48

الجوهرية مثل (شيخ يقرأ) ولا ينجح إذا انقلب الاقتصاد إلى قصور في التعبير مثل (فناء العزبة).

وقد خطا الأستاذ أحمد شاكر خطوة موفقة في صوره الوجهية (المصور: مدام نجاتي بك) وبقى أن يعمل للوصول إلى المستوى نفسه في المناظر الطبيعية. وينطبق القول نفسه على الأستاذ عزت إبراهيم.

وفي المعرض أكثر من صورة تمثل الأمومة، وأحسنها وأقواها صورة الأستاذ إدوار رزق الله، وما من ناقد يستطيع أن ينكر على الآنسة مرجريت نخلة قدرتها التعبيرية، ولكن النهج الذي تؤثره في الأداء يغلب عليه طابع (الكاريكاتور). وأعتقد أن الأستاذ جمال الدين سجيني رساماً أكثر منه مثالاً.

وتمتاز صور الآنسة جينان جاكلين، بشيء من الشاعرية، والعاطفة الشابة، وإحساس بالنور يبدو على أتمه وأقواه في (في الجزيرة)؛ ولكن الأداء يخونها أحياناً. وتدل معروضات الآنستين بثينة أحمد وعائشة عبد العال على روح فنية لم يكتمل نضجها بعد، ولكنها سليمة، كما أن الآنسة تحية وهبة لم تبذل كل ما كان يمكنها أن تبذله من مجهود.

ومما يلفت النظر أن خصائص الروح المصرية ممثلة تمثيلاً ملحوظاً في التماثيل المعروضة هذا العام. ويكفي أن نذكر تمثال (العمدة) للأستاذ عبد الحميد حمدي وهو يمثل الطيبة والسذاجة التي تكاد تصل إلى حد البلاهة، و (رأس شيخ) له أيضاً، و (عامل) للأستاذ ميشيل جرجس، وهو يمثل الطيبة والخشونة وقوة الاحتمال. ومن أبرز المثالين هذا العام الأستاذ ناتان أبسخيرون، وحسبه تمثاله الرائع (أحلام). وللأستاذ حلمي يوسف تمثال جيد للمرحوم أحمد ماهر باشا.

وقد عرضت الآنسة عايدة عبد الكريم - وهي ما تزال طالبة - عدة تماثيل تمتاز بالحيوية والنضوج. وما من شك في أن هذه الفتاة ينتظرها مستقبل باهر في النحت؛ فهي واسعة الأفق، قديرة على التنويع، خبيرة بالعواطف النفسية وتجيد التعبير عنها.

والمعرض في مجموعه جدير بالدراسة والتأمل، وفيه فرصة متاحة للجميع للمتعة الذوقية الرفيعة.

نصري عطا الله سوس

ص: 49

‌البريد الأدبي

في مقالين:

أرسل ألينا الأستاذ الشيخ محمود أحمد الغمراوي شيخ معهدي دسوق والزقازيق سابقاً مقالاً بهذا العنوان يناقش فيه ما كتبناه وكتبه الأستاذ العقاد في موضوع الأزهر. وقد جاءنا المقال بعد طبع الملازم الأولى من (الرسالة) فاضطررنا أن نرجئه إلى العدد المقبل.

. . . . ولا تقولن ذاك هناك:

في الرسالة الغراء (666) في المقالة البليغة ذات العنوان (أين الأقلام) لصاحب الفضيلة العالم الأديب الأستاذ (الشيخ علي الطنطاوي) الدمشقي - هذا القول:

(أين تلك الأقلام تفضح أكبر خدعة سربت إلينا، وترد أفظع كذبة جازت علينا، وهي دعواهم أن من الخير أن نأخذ المدنية الغربية بكل ما فيها، وأن كل ما جاء من أوربة فهو خير ورشاد، وكل ما بقى لنا من الشرق فهو شر وفساد.

وهذا من أقبح ما خلفه فينا الاستعمار.

فأين تلك الأقلام تدل الناس على مزايانا لنحتفظ بها، وشرور الغرب لنتجنبها، ونقيم لهم الميزان العادل، ونحكم فيهم الحكم السديد، فنرتفع عن أن نكون قردة مقلدين، ونرجع عقلاء مميزين، يعرفون ما يأخذون وما يدعون).

وقد ذكرني كلام القاضي الفاضل بشيء سمعته في خطبة خطيب في بيروت سنة (1343 هـ) فرأيت روايته في الرسالة الكريمة، وهو يظاهر مذهب الشيخ.

سمعت ذلك الخطيب منذ ثلاث وعشرين سنة يقول:

(. . . فقد اعتقدت العربية العقد لبنيها وكنزت، واحتشدت لهم في تأثير خير المال وورثت. فما أجن من ضيع هذا الميراث وما الأمة. وإذا استجديت (يا هذا) غيرك بعد فقدان ثروتك لا يجديك، وإذا انتميت إلى غير جدك وأبيك لا يعليك ذلك لكن يعطيك. وهل يسوغ لعاقل أن ينسى نفسه (ونفسه كريمة لديه يوم الذكر) ويجحد صنيعه أهله وقد أحسنوا إليه فيغدو مثلاً مضروباً في السفه واللؤم والكفر؟ ومن يجنح إلى الخسران وفي يده الريح، ومن يقبل الخذلان وقد ماشاه النجح؟ ومن يستحب على العدم، وأن تضمحل أمته في الأمم؟

فيا أيها العربي، إنك عربي ولا يراك سواك إلا عربياً، وإن شئت أن تأبق إباق من بيت

ص: 51

عربيتك وتسل ثيابها، وتصرم أسبابها، فلن يعطيك الغرب ذلك ولن يضعك وأن أبيت إلا هنالك، وهو إما يلقاك حياً قمياً، وإما يلقاك عربياً قوياً، فيحتقرك ضعيفاً صغيراً، ويوقرك عظيماً كبيراً، ويتعبدك ذليلاً، ويؤاخيك جليلاً، فالبس البس جلد القوة، وجد كما جد الغربي، واستعد بما استعد، واعلم علمه واخبر فنه، وابل نظامه، وحقق (يا هذا) تحقيقه، وأسلك في الكون طريقه - وقبيح الشرق قبيح الغرب. فلا تجهل ولا تقبح ولا تقولن ذاك هناك، فثمة داء، وهناك دواء. فيا عليل أطلب هذا ودع السم - وجود عيشك تجويدة، وأتقن صنعك إتقانه؛ فلن يفلح بعد اليوم إلا التقن واقتصد في دنياك اقتصاده، وجد إما وفر مالك جودة، وأخلص أخلص في كل عمل إخلاصه.

وذر السخفاء من العظاميين وانبذ عبيد الجهل، والزم العصاميين وخالص أهل الفضل، فليس من يهدم دعائم عربيتك كمن يشيد، ولا الأفين كالرجل الحازم الرشيد، وما جاهل أمر مثل عالمه. . .)

السهمي

إنها مشكلة التعليم كله لا الأزهر وحده!

نحن في حاجة إلى المصلح المثقف الذي يتفرغ إلى دراسة المشاكل الاجتماعية دراسة فهم وخبرة ورغبة، قبل أن يخرج إلينا وفي يده مشروعات مرتجلة. ونحن في حاجة إلى الكاتب الذي يحسن التوجيه ويجيد الكشف عن خفايا الأدواء ويصدق في وصف الدواء.

حياتنا. . . كلها ارتجال. . . وما ينفع الارتجال في إصلاح حياتنا الاجتماعية وملاك الأمر فيها - كما يقول الأستاذ الكبير الزيات - (الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. . .)

أجل لقد صدق الأستاذ في وصفه أسباب فشل وسائل الإصلاح في مصر. . . ولقد صدق أيضاً وبلغ الغاية في مقاله عن مشكلة الأزهر. . .

فقد كان في مقاله ذاك باحثاً يسير في هدى عقيدة، ويمضي في ظل معرفة، ويقرر في ثقة الدارس الواعي المتبصر. . .

قرأت المقال فأثار في نفسي خواطر شتى كلها تدور حول أصول التعليم ووسائل التربية

ص: 52

في مصر. . . أحببت أن أسارع فأعرض بعضها عرضاً سريعاً.

رأيت أن اتجاهات التعليم في مصر اتجاهات تنكبت سبيل الصواب وبعدت عن مقتضيات الأحوال فلم تساير طبيعة الواقع، ولم تتساوق مع واقع الظروف. . . كلها ارتجال في ارتجال. . أو لنكن أكثر صراحة فنقول إنها برامج فرضتها ظروف أطل من بين ثناياها شبح المستعمر يملي رغبته تارة من بعيد تلميحاً، وتارة أخرى من قريب تصريحاً. . .

وما ظنك ببرامج جاءت أصولها على هذه الحال وفي هذه الظروف. . . ولغرض معروف؟ إنها تهدف أول ما تهدف إلى تقييد العقلية الفتية المصرية بقيود الاستعمار. . . ولقد أثرت حقاً وكان تأثيرها الإيجابي مركزاً في قهر روح الابتكار في الشبيبة المصرية، وقتل روح الاختراع والتجديد. . . بفرض نظام مدرسي عقيم لا يعمل على اكتشاف مواهب الطفل صغيراً، ولا يهدف إلى توجيه رغبة الشاب يافعاً.

نظام مقسم تقسيماً عقيماً. . . خدعنا بما فيه مقاييس للسن فليست المسألة مسألة تقسيم مراحل تعليمية أولية وابتدائه. . . وثانوية وعالية.

المشكلة مشكلة تقسيم الوسائل التربوية. . .

والمشكلة مشكلة مسايرة هذه الوسائل التربوية للظروف الاجتماعية والمادية والثقافية والنفسية.

والمشكلة مشكلة التطبيق السليم لهذه الوسائل السليمة.

فهل أدرك رجالنا هذه الحقائق؟ هل عملوا على تلافي الأخطاء؟

الواقع أنهم تركوا الأمور تسير سيراً مرتجلاً كما ارتجلت من قبل البرامج؛ ففي كل عام نظام جديد يهدم نظاماً قديماً. . . وحتى هذا الجديد لا يلبث طويلاً، وقبل أن ينتج أثراً يمكن الحكم به على صلاحيته يقذف به في أغوار النسيان ليحتل مكانه غيره. . .

قد يقال إننا أخذنا عن الغرب طرائق التربية. . . نعم أخذنا ولكن كان تقليدنا في الشكل لا في الجوهر. . . غيرنا البرامج بيد أننا لم نحسن التطبيق. . . ولم نستطع أن نفهم أن المدرسة توجيه وإرشاد وخلق وإصلاح. . .

فالإعداد فاسد، لأنه يمهد السبيل لنيل شهادة النجاح في المدرسة فحسب، ولكنه لا يسلح الطالب بما يظمن له أسباب النجاح في خضم الحياة. . . فالمدرسة المصرية تعني كل

ص: 53

العناية بالامتحان وتغفل عن خلق روح الاجتماع والكفاح في الحياة.

والمدرس المصري يأمر ويبطش ليطاع، على حين أن المدرس الأوربي يوجه ويشجع ويعطف ليطاع عن حب متبادل. . . وشتان بين طاعة أنت مجبر عليها ومحبة أنت راغب فيها. . .

إن إعداد المدرس في مصر إعداد مرتجل. والأمل لم يزل معقوداً على معهد التربية ودار العلوم والآداب والأزهر. . . ولكن على شريطة أن تأخذ وزارة المعارف بما اقترحه الأستاذ الكبير صاحب الرسالة.

إسكندرية

آنسة عواطف بيومي

الفيلسوف جحا:

على أثر المحاضرة التي ألقاها الأستاذ كامل كيلاني عن جحا وتاريخه وفلسفته ارتجل الأستاذ محمود غنيم هذه الأبيات:

أني حسبتّ (جحا) مجانة ماجن

فإذا به رجل جليلّ الشأنِ

هو فيلسوف قام ينشر ذكره

بين البريَةِ فيلسوف ثان

ما زال يطريه ويعلي شأنهّ

متحدثاً عنه بكل لسان

حتى حسبتّ (جحا) رشيداً ثانياً

أو من أقارب (كامل كيلاني)

وارتجل كذلك الأستاذ حليم دموس هذه الأبيات:

يا حارس الفصحى وناشرَ من طوى

من تالدٍ منها ومن مستطرفِ

ألفتَ بين فكاهة ونباهة

وكشفت عن ذهن نقي مرهفي

وجعلت هزل (جحا) دروساً للحجى

فإذا الحقائق تنجلي في أحرفِ

وعصرت منها للعصور وأهلها

كأساً من الأدب الرفيع الألطف

فوقفت في الوادي أمامك خاشعاً

وعرفتّ أنيَ جاهل لم أعرفِ

فأهنأ بحكمتك التي دونتها

لتنير من سبل الهداية ما خِفي

والبيت الأخير لسعادة أحمد حلمي باشا مدير بنك الأمة العربية

ص: 54

‌القصص

الغلاف ذو الأختام الحمر

للكاتب الفرنسي موريس ليبلاق

بقلم الدكتور محمد غلاب

في مساء اليوم الخامس والعشرين بعد وفاة (جاكيلين) أنس زوجها (جيوم) من نفسه الشجاعة على دخول غرفة تلك التي أحبها حبا شديد العمق خصب السعادة.

وكان يريد أن يتنسم على الأخص عطر الماضي بقراءة تلك الرسائل التي كتبها هو إليها في الأوقات التي كانت الحياة فيها ترغمهما على مفارقات قاسية. وكانت (جاكيلين) تحفظ كل رسائلها في علبة من الأبنوس المطعم بالصدف لا يفارقها مفتاحها أبدا. فلما فتح هذه العلبة ألفى بها عدة حزم من الرسائل مربوطة بأشرطة مختلفة الألوان، ووجد على كل جزمه علامة تميزها من غيرها وتعين عصرها، فعلى إحداها مثلا كتبت (جيوم في الجزائر) وعلى الثانية (جيوم في الجيش) وهكذا، وكانت تحت هذه الحزم كراسة معروفة تماما لجيوم، وهي نوع من اليوميات التي كانت (جاكيلين) تقيد فيها إحساسهما المشترك، ومسراتهما وأحزانهما.

غير أن جيوم حين أخرج هذه الكراسة زحزح قطعة من القطيفة كانت تغطي قاع العلبة، فلما رفع هذه القطعة دهش كل الدهش إذ ألفى تحتها غلافا أصفر مختوما بخمسة أختام حمر وكأنه يحتوي على كمية من الأوراق.

فلما نظر إلى هذا الغلاف عرف خط زوجته وقرأ عليه هذه الجملة: (يسلم بعد موتي إلى صديقتي هانرييت ديسيز).

لم يتردد جيوم ثانية في فتحه، فمع أنه حميد الأخلاق إلى حد بعيد، وبرغم أنه طول حياة جاكيلين لم يفتح قط رسالة موجهة إليها فإنه بحركة فجائية وبدون تردد، وبدافع غريزة تغلبت فيه على كل شي قد فض الأختام ومزق الغلاف.

إنها رسائل، ورسائل رجل.

تناول إحداها بيد مرتعشة.

ص: 56

إنها تبتدئ بهذه الكلمة: (عزيزتي المعبودة. . .).

أدار الصفحة ونظر إلى الإمضاء فألفاه (رفائيل).

وفي الحال فهم كل شيء فقد كان (رفائيل دور ميفال) أثناء الشهور الأخيرة التي سبقت مرض (جاكيلين) يتردد على منزلهم، بل طالما دخل جيوم فألفى هذا الرجل جالسا بالقرب من زوجته، فالآن قد أدرك معنا صمتهما الذي كان يسببه لهما حضوره المضايق.

وفي هذه اللحظة كانت الساعة تدق الحادية عشر مساء، فنهض وغادر الحجرة وتناول قبعته ومعطفه وخرج إلى الطريق، فاستقل سيارة أجرة إلى نادي شارع كابوسين فصعد إليه فألفى هناك عدة مناضد مشغولة بلاعبي الورق، وفي نهاية إحدى القاعات الكبيرة كان عدد من الأشخاص يلعبون (البوكر) فوقع نظره بينهم على رفائيل دور ميفال، فاقترب جيوم من المنضدة ألقى عليها بضع قطع من الذهب ليشترك في اللعب. وبعد دقائق رأى الحاضرون بدهشة فائقة أنه بدون مبرر، أو بمبرر تافه قد أخذ يسب دور ميفال بأفضع الأساليب وفي النهاية تبادلا البطاقات واتفقا على تعيين شهود المبارزة.

وبعد ذلك عاد جيوم إلى منزله فتناول صورتي جاكيلين الفوتوغرافيتين التين كانتا تزينان موقد غرفته وألقى بهما في النار. ثم دخل حجرة الاستقبال فخلع صورتها الزيتية ومزقها وألقى بها في النار وكذلك قطعة إثر قطعة، وعلى أثر هذا نام نوما هادئا بعض الشيْ وحينما استيقظ في اليوم التالي ألفى نفسه ساكنا لأنه يخيل إليه أنه قتل تلك الميتة مرة ثانية مادام قد قتلها في نفسه نهائيا وإلى الأبد، وأن ذكريات الخيانة المرعبة لن تتسلط عليه أبدا، وأن كائنا واحدا يمكن أن يذكره بهذه الخيانة وهو رفائيل دور ميفال، وهذا الكائن سيموت ولن يبقى بعد ذلك شيْ من الماضي.

وفي الساعة العاشرة اجتمع الشهود، وفي الرابعة حدثت المبارزة، وعندما ألفى جيوم نفسه تجاه خصمه أحس كأن الغيظ منه والحقد عليه يقفزان به، وإذ ذاك فقط تألم وعرف بحق وبهيئة عميقة أن الحياة لن تكون ممكنة بالنسبة إليه مادام هذا الرجل يحيا.

هاجمه مرتين بعنف بالغ أشده حتى اضطر الشهود إلى التفريق بينهما، وفي المهاجمة الثالثة ألقى بنفسه عليه واخترق جسمه بضربة من سيفه فهوى وأسلم الروح لساعته.

وبعد أن فارق جيوم شاهديه أخذ يتنزه في الغابة ساعة، ولم تكن أية فكرة تهيجه إذ ذاك،

ص: 57

غاية ما في الأمر أنه كان يحس بأن عقله كثيف مظلم مختلط لا تستطيع الفكرة أن تصدر عنه، بل لم يعد يعرف هل لا يزال يتألم؟ وهل شفى غليل حقده من خصمه؟ وفي ساعة العشاء ألفى نفسه من جديد في منزله، وعلى أثر ذلك أنبأه خادمه بأن سيدة تنتظره في حجرة الاستقبال منذ ساعة على الأقل، فاتجه إليها فألفاها (هانرييت ديسيز) تلك الصديقة المخلصة وكاتمة السر التي أوصت (جاكيلين) بتسليم رسائلها الغرامية إليها والتي لم يكن جيوم قد رآها منذ وفاة زوجته لأنها كانت قد سافرت في اليوم التالي، فتبادلا معاً بضع كلمات أعلنت إليه هانرييت فيها أنها تصل الساعة مباشرة من الجنوب، وأنها نالت الحكم بالطلاق ضد زوجها، وأنها معتزمة الزواج على أثر مضي العدة. فقال بغير اكتراث: - آه.

وفي الحال سألته في نبرة مرتبكة قائلة:

ألم تجد بين أوراق جاكيلين حزمة لي. . . غلافا مختوما؟

فنظر جيوم إلى تلك الشابة نظرة شزراء وكاد يوبخها على تآمرها مع زوجته الراحلة، ولكن ما الفائدة في ذلك؟

أجابها على سؤالها بقوله:

- نعم وجدت غلافاً باسمك

- وإذاً، فأين هو؟

- قد أحرقته.

فظهرت الكاَبة على وجهها وقالت:

- كيف! أحرقته! كيف! لكن لم يكن ذلك من حقك

- لم يكن ذلك من حقي!

- لا، فهذه الرسائل كانت ملكي، وجاكيلين كانت تحفظها، لتؤدي لي بذلك خدمة، ولكن كان من المفهوم أن أستعيدها في يوم أو في آخر. . . ولما رأت أن جيوم لا يظهر عليه أنه فاهم استمرت تقول في دهشة:

- آه! ألم تقل لك جاكيلين؟ مسكينة جاكيلين! أنا لم أطلب منها كتمان السر إلى هذا الحد ولا سيما ما يتعلق بك

فقال في رعدة وفزع: - ماذا؟ ماذا؟

ص: 58

نعم لما كنت منتظرة الطلاق فقد كنت أخشى أن تكتشف هذه الرسائل عندي، وكنت أحتفظ بها إلى حد يمنعني من إبادتها! وقد كانت جاكيلين وحدها هي التي تستطيع أن تحفظها لي ما دامت تعرف سر حياتي.

- أي سر؟. تمتم جيوم بهذا السؤال فأجابته قائلة:

- آه! أنت لا تعرف، فأنا أحب أحد الناس. . . هو أحد أصدقاؤك، وكان يتردد كثيرا على منزلك. . .

فتمالك جيوم قواه وسألها قائلا:

- أهو رفائيل دور ميفال؟.

فأجابته الشابة وفي قلبها ذلك الاسترواح الذي يشعر به المحب حينما يذكر اسم محبوبه قائلة:

- نعم، نعم هو رفائيل. يجب أن نتزوج، وسأراه بعد قليل.

نطقت بهذه الكلمات وهي واقفة تستعد للخروج، وكان وجهها جميلا سعيدا يتلألأ بكل ما لديها من سرور وكانت عيناها تبتسمان، وكانتا مبللتين قليلاً كأن الهناء قد ألانهما.

- ففأفأ وتمتم قائلا: - أنت ذاهبة. . . أنت ذاهبة. . .

- نعم أنا ذاهبة إلى منزله. . . إنه لا يتوقع مجيئي إلا غدا.

- أية مفاجأة! لهذا كنت أسر لو حصلت على رسائله لأننا كنا نعتزم أن نقرأها معاً على أثر نيلنا حريتنا.

- اسمعي. . . اسمعي. . .

كان جيوم إذ ذاك يشعر أنه صار مجنونا، إذ فهم أن شيئا هائلاً وفظيعا قد وقع، شيئا سيترك له ذكرى أكثر إرعابا وتعذيبا من موت زوجته نفسها، وكان يود أن يهيْ هذه السيدة لوقع ذلك النبأ المؤلم، ولكنه لم يكن يعرف ماذا يقول فقد رفضت شفتاه النطق بتلك الكلمات المروعة، وجعل ينظر إليها مضطربا كما ينظر الإنسان إلى أولئك الذين أصيبوا بكوارث تتجاوز القوى البشرية. وبدون أن ينبس بكلمة، وبدون أية إشارة، وفي رعشة الخوف والغم والقلق تركها تخرج.

محمد غلاب

ص: 59