الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 67
- بتاريخ: 15 - 10 - 1934
شوقي. . .! بمناسبة ذكراه الثانية
للأستاذ عبد العزيز البشرى
لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحداً منهم كان يستطيع إلا يكون شاعراً لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلّة. وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه. ولست أجد مثلاً اضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نؤاس في الغابرين واحمد شوقي في المحدثين واغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر عليه على صرفه عنه أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به إلا برياضة ومطاولة وجهد.
هؤلاء يطلبهم الشعر اكثر مما يرتصدون له، ويتجردون في إصابته.
وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم انه لو كان رزق اعظم حظ من العزم والقوة والجبروت ما كان ليقوي على كتم شاعريته الفائضة الجياشة وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!. تقرا شعر شوقي فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان. أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش!. . .
والواقع الذي لا يتداخله الشك إن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفاً مختل الأعصاب من أول نشأته. فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر لأنه لا يكلفه ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه ولا يرهف في ذاك حساً ولا يحد عصباً، إنما هو الينبوع ينبثق فيجرى الماء دفقاً ما يحتاج إلى متح ماتح.
نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في مديح، أو رثاء تهنئه، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى بداً من القول فيها. على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما طلبه، حتى تتحرك شاعريته، فتجرّه عما هو بسبيله جراً، وتملى عليه هي ما تشاء اكثر مما يملى عليها هو ما يريد ولست اطلب في هذا دليلا ابلغ من أن شوقي لم يمدح أحداً قدر ما مدح سمو الخديوي السابق. على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت سوية
قوية رائعة بما فيها من رقيق غزل، أو من بارع وصف، ومن بالغ حكمة وجليل مثل، كأن لم تفقد شيئا، ولم يعوزها شيء!. .
إذن كان شوقي شاعراً مطبوعاً أتم طبع، سرياً أجزل السراء، موفقاً إلى أبعد غايات التوفيق. تصرف في فنون الشعر كلها فما ضعف قط في واحد منها، بل قل أن يتعلق بغباره في أي باب من أبواب القصيدة شاعر، اللهم خلا الهجاء، فلم يؤثر عنه فيه بيت واحد. ولعل ذلك يعود، كما قلت في (مرآته)، إلى لطف نفسه، وأنفته من أن يشهر الناس ويطلب معايبهم، أو لعله يعود إلى الخوف والورع من أن يزيد في ثورة خصومه به، لعله فطن إلى أن الزمان سيعفى على هذا الضرب الحقير من الشعر. وأما احسبه لو عالجه إلا موفياً فيه على الغاية والإحسان على أن الله تعالى كان الطف به من أن يدليه في هذا الهوان.
وإذا كان عجباً من كثير من الشعراء أن يكون حظهم من البراعة في فنون الشعر بدرجة سواء - فإن هذا من شوقي وأمثال شوقي غير عجيب. فالرجل، كما زعمت لك، لا يملك من شاعريته. اكثر مما تملكه شاعريته وما أن اجتمع لقول الشعر، ومضى يجيل الفكر ويطير الخيال، إلا ملكته تلك الشاعرية عن نفسه، وراحت تجوده بالهاتن الحنان من وحي القريض. فإن أصابت ما احتفل له، وإلا ففي فنون المعاني الآفاق العرائض. أرجوك أن تراجع شعر شوقي في كل ما يتورط فيه الشاعر، ولا ينبعث له من نفسه لو كان أمره كله إليه، لتزداد إيماناً بما أقول.
وأرجوك إلا تحسبي غالياً ولا متزايداً إذا زعمت لك إن شعر شوقي كان في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، يتخطى إدراكه العادي. أعني إنه لقد كان يصيب ألواناً من المعاني لو انك راجعته فيها غداة نظمها لاحتاج في فهمها إلى فكر وتدبير!.
ولقد وقع لي اكثر من مرة إن راجعته في بعض شعره أرى أنه قد مس فيه معنى رفيعاً جداً، ولكن اللفظ اقصر من أن يطوله بواضح البيان، وإني لأضمر ما المح، وأحياناً ما كان يلمح غيري، فإذا هو بادئ الرأي كقارئة متحير متردد، وإذا هو في فهم مرامي الكلام في حاجة إلى حبس والى استخبار! وأريد أقول لك أن هذا الرجل لقد كان يفاض عليه ساعة وحي الشعر ما لم يكن لفكره في الحساب. ولقد ذكرت هذا من بضعة أيام لنفر من الأدباء
ممن كانت لهم صلة بشوقي، فأكد لي بعضهم أنه وقع له مثله هذا أمير الشعراء.
صنعة شوقي
وإذا كان هذا الشاعر صنعة، أو كان له في شعره ما بعد من عمله، فهو للمعنى أولاً، فإن واتى اللفظ ولأن ونصع واشرق، وإلا فلأم هذا اللفظ الهبل!.
لم يكن شوقي إذن يكلف بالديباجة، ولا يجهد في تسوية اللفظ وصقله، ولكنه مع هذا لقد يجيء بالعجب العاجب! بل لقد استحدث شوقي في العربية صيغاً أوفت على الغاية من حلاوة اللفظ، ومتانة النسج، وقوة الإشراق. وأحسب إن قوة المعاني هي التي أرادته على هذا ودفعته إليه دفعاً.
ولقد مما يعدّ على شوقي أنه يكثر من الغريب قي شعره، حتى لقد كان يُضطر هو إلى تذييل ما يفشى من قصائده في الصحف بالشرح والتفسير. ولا أحسب هذا سائغاً في العصر الذي نعيش فيه، بل أني لأزعم أن محصول شوقي من متن اللغة لم يكن يواتي هذا القدر الذي يشعره استكثاره من الغريب في قصيدة، فلقد كنت تسأله معنى الكلمة المفردة تكون قد خلت في بعض شعره، فإذا هو لا يدريه في بعض الأحايين. وإنني لأرجح أن الرجل يكن يعمد بهذا للتكثير بسعة العلم، ووفرة المحصول من اللغة، ولكن لأنه كان يصيب من دقائق المعاني ما لا يتيسر له أداؤه باللفظ الشائع، كما كان يطيل أحياناً كثيرة في القصائد إطالة يحتاج معها إلى الكد في التماس القوافي، فكان يضطر في هذا وفي هذا إلى التماس الألفاظ من القواميس ينزعها انتزاعاً.
التجديد والمجددون
وهنا احب أن أقول شيئاً يسيراً في التجديد والمجددين، وإنني اوجه هذا الكلام، بنوع خاص، إلى الناشئين من المتأدبين.
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها، ونموها، وتجددها. فالأدب، ولاشك، من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتاً أو أشل على ايسر الحالين.
ولكنني احب أن الفت في هذا المقام، إلى مسالة قد تدق أفهام الكثير أو القليل. وتلك إن
هناك فرقا بين التربية والتحديد، وبين المسخ والتغير. ولست أجد مثلاً أسوقه في هذا الباب خيراً من حياة الطفل وحياة النبات. كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله؛ وقد تتغير بعض معارفه، وقد تخول بعض أعراضه، ولكنه، في الغاية، هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، هو حسن الفتى، وهو حسن الشاب، هو الكهل، وهو حسن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة هي هذه النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منهما ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه. ثم أساغ ما أمسك وهظمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في خلقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجدوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديداً - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا تنسوا إن من أهم هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة العربية وتحري فصحها. فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من الأدب في شيء أبداً. ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطي إذا دعوته تقاليد العربية، فالعربية كسائر اللغات القوية تقاليد المأثورة على الزمان.
وهنالك مقومات آخران لهما خطرهما العظيم، إلا وهما التخييل والذوق العام. ولا أحسبك تنكر أن للامة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديداً أو يسيراً.
أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن إن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق المحسة الواقعة. وأنت بعد خبير بأن اصدق خيال وأروعه، وإن أحكم تشبيه واطبعه هو اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقائه، ويقع لأسماعها ولأبصارهما جميعاً. وألا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغاً غاية الغاية في بيئة أخرى.
نعم، لقد يشهد الشاعر من مجال الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه ولقد يظهر على كثير مما اتضحت به بلاغات آثمة البيان في الأمم الأخرى ولقد يتذوق هذا في لُغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعّمهم ويلذذّهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يجب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.
شوقي أمام المجددين:
ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيراً، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير. وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء. ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقاً، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربياً خالصاً لا شك فيه. وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخراً.
فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا فشوقي أمام المجددين في هذا العصر غير مدافع. أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صور شائهة، وستكراه ألوان من المعاني لا تمت ألينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجدداً بل ليس شاعراً أبداً.
ولقد جال شوقي في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في اكثر قصيدة إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخليته، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.
وليس شوقي يستدل على مكانة بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلاً فهذه دواوينه، شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا ارفع الشعر وافخر الكلام.
وبعد، فلقد مات شوقي وإنحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من مودَّات الناس ومن
عداواتهم، واصبح شعره حبساً على التاريخ، فمن كان يرى حقاً أن شوقي لم يبلغ هذه المنزلة، أو أنه لم يبلغ بعضها، أو أنه لم يكن شاعراً البتة، فهذا له رأيه، وعليه تبعته. ولا حيلة لنا ولا لغيرنا فيه. وأما من يقدر شوقي حق قدره، فينزله هذه المنزلة أو ما هو اقرب إليها، فمن واجب الذمة أن يشيد بقدره، ويدل على جلالة محله، لا قضاء لحق الأنصاف وحده، ولا أداء لشكر النعمة فحسب، فلقد كان شوقي نعمة عظمى اسبغها الله على أبناء العربية جميعاً، بل لاستدراج نشئ المتأدبين إلى استظهار شعره، وإنها لهم من أدبه، واتخاذه النموذج المحتذى إذا اجتمع أحدهم للبيان.
هذا واجب الذمة للحق وللبيان جميعاً، وخاصة بعد هذا التبلبل الذي لا احسب أن البيان العربي شهد مثله في أي عصر من عصور التاريخ. وحسبي هذا، فما احب أن اقذف بنفسي في هذه الحرب الناشبة من أنصار قديم وأصحاب جديد.
عبد العزيز البشري
من قول شوقي يصف تمثال نهضة مصر ويشير إلى المرحوم
المثال مختار:
تعالوا تروا كيف سوى الصفاة
…
فتاة تلملم سربالها
دنت من أبي الهول مشى الرؤوم
…
إلى مقعد هاج بلبالها
وقد جاب في سكرات الكرى
…
عروض الليالي وأطوالها
وألقى على الرمل أرواقه
…
وأرسى على الأرض أثقالها
يخال لأطراقه في الرمال
…
سطيح العصور ورمالها
فقالت: تحرك فهم الجماد
…
كأن الجماد وعى قالها
وما الفن إلا الضريح الجميل
…
إذا خالط النفس أوحى لها
وما هي إلا جمال العقول
…
إذا هي أولته اجمالها
قصة زواج وفلسفة المهر
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
قال رسول عبد الملك: ويحك (يا أبا محمد) لكأن دمك والله من عدوك فهو يفور بك لتلج في العناد فتقتل، وكأني بك والله بين سبعين قد فغرا عليك؛ هذا عن يمينك وهذا عن يسارك، ما تفر من حتف إلا إلى حتف، ولا ترحمك الأنياب إلا بمخالبها.
ههنا هشام بن اسماعيل عامل أمير المؤمنين، أن دخلته الرحمة لك استوثق منك في الحديد، ورمى بك إلى دمشق؛ وهناك أمير المؤمنين، وما هو والله إلا أن يطعم لحمك السيف يعض بك عض الحية في أنيابها السم؛ وكأني بهذا الجنب مصروعاً لمضجعه، وبهذا الوجه مضرجاً بدمائه، وبهذه اللحية معفرة بترابها، وبهذا الرأس محتزاً في يد (أبي الزعيزعة) جلاد أمير المؤمنين، يلقيه من سيفه رمى الغض بالثمرة قد ثقلت عليه.
وأنت (يا سعيد) فقيه أهل المدينة وعالمها وزاهدها، وقد علم أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر قال فيك لأصحابه:(لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره) فإن لم تكرم عليك نفسك فليكرم على نفسك المسلمون؛ أنك ن هلكت رجع الفقه في جميع الأمصار إلى الموالي؛ فقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة إبراهيم النخمي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. وإنما يتحدث الناس إن المدينة من دون الأمصار قد حرسها الله بفقيهما القرشي العربي (أبي محمد سعيد ابن المسيب) كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد علم أهل الأرض إنك حججت نيفاً وثلاثين حجة، وما فاتتك التكبيرة الأولى في المسجد منذ أربعين سنة، وما قمت إلا في موضعك من الصف الأول، فلم تنظر قط إلى قفا رجل في الصلاة؛ ولا وجد الشيطان ما يعرض لك من قبله في صلاتك ولا قفار رجل؛ فالله الله يا أبا محمد، إني والله ما أغشك في النصيحة؛ ولا أخدعك عن الرأي، ولا انظر لك الأخير لنفسي؛ وإن عبد الملك ابن مروان من علمت؛ رجل قد عم الناس ترغيبه وترهيبه، فهو آخذك على ما تكره إن لم تخته أنت على ما يحب؛ وأنه والله يا أبا محمد، ما طلب إليك أمير المؤمنين الو أنت عنده الاعلى، ولا بعثني إليك إلا وكأنه يسعى بين يديك، رعاية لمنزلتك عنده وإكباراً لحقك عليه؛ وما أرسلني اخطب إليك ابنتك لولي عهده إلا وهو يبتذل
نفسه إليك ابتذالا ليصل بك رحمة، ويوثق آصرته؛ وإن يكن الله قد أغناك ان تنتفع به وبملكه ورعا وزهادة فما احوج أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتفعوا بك عنده، وان يكونوا أصهار (الوليد) فيستدفعوا شراً ما به عنهم غنى ويجتلبوا خيرا ما بهم غنى عنه؛ ولست تدري ما يكون من مصادر الأمور ومواردها. وإنك والله إن لججت في عنادك أصرت إن تردني إليه خائبا، لتهيجن قرم سيوف الشام إلى هذه اللحوم ولحمك يومئذ من أطيبها ولأمير المؤمنين تارتان: لين وشدة وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية. . .
وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأنة لا يخلص إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط معانيه في الأرض، هيبة منه وفرقاً من أقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظن عند نفسه أنه ساغ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامئ، واشتد في وعيه حتى ما يشك أنه قد سقاه ماء حميماً فقطع أمعاءه والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو تحول الناس جميعا كناسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ.
وقلب الرسول نظره في وجه الشيخ، فإذا هو هو ليس فه معنى رغبة ولا رهبة، كأن لم يجعل له الأرض ذهباً تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجو سيوفاً على رأسه في الحالة الأخرى؛ وأيقن أنه من الشيخ كالصبي الغر قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمع فيه فجاء من تحتها يناديه: أن انزل إلى حتى آخذك والعب بك. . .
وعد قليل تكلم أبو محمد فقال:
(يا هذا، أما سمعت، وأما أنت فقد رأيت، وقد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقسه إلى هذه الدنيا كلها، فكم - رحمك الله - تكون قد قسمت لي من جناح البعوضة. . .؟ ولقد دعيت من قبل لي نيف وثلاثين ألفاً لأخذها فقلت: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم. وهأنذا اليوم أدعى إلى أضعافها وإلى المزيد معها؛ أفأقبض يدي عن جمرة، ثم أمدها لأملأها جمراً؟ لا والله ما رغب عبد الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجل من سياسته إلصاق الحاجة بالناس ليجعلها مقادة لهم فيصرفهم بها؛ وقد أعجزه أن أبايعه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيعتين، وما عبد الملك عندنا إلا باطل كابن الزبير، ولا ابن الزبير إلا باطل كعبد الملك، فانظر فإنك ما جئت لابنتي وابنه، ولكن جئت تخطبني أنا لبيعته. . .
قال الرسول: أيها الشيخ، دع عنك البيعة وحديثها، ولكن من عسى أن تجد لكريمتك خيراً من هذا الذي ساقه الله إليك؟ انك لراع وإنها لرعية وستسأل عنها، وما كان الظن بك أن تسئ رعيتها وتبخس حقها، وأن تعضلها وقد خطبها فارس بني مروان، ولن لم يكن فارسهم فهو ولي عهد المسلمين، وان لم يكن هذا ولا ذاك فهو الوليد بن أمير المؤمنين؛ وأدنى الثلاث أرفع الشرف فكيف بهن جميعاً، وهن جميعاً في الوليد.؟
قال الشيخ: أما إني مسؤول عن ابنتي، فما رغبت عن صاحبك إلا لأني مسؤول عن ابنتي. وقد علمت أنت إن الله يسألني عنها في يوم لعل أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين وألفافهما إلا يكونون فيه إلا وراء عبيدها وأوباشها دعها وفجارها. يخرجون من حساب هؤلاء إلى الحساب على السرقة والغضب، إلى حساب هؤلاء إلى حساب التفريط في حقوق المسلمين. ويخف يومئذ عبيدها وأوباشها ودعارها وفجارها في زحام الحشر، ويمشي أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومن اتصل بهما، وعليهم أمثال الجبال من أثقال الذنوب وحقوق العباد.
فهذا ما نظرت في حسن الرعاية لابنتي، لو لم أضن بها على أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين لأوبقت نفسي. لا والله ما بيني وبينكم عمل، وقد فرغت مما على الأرض فلا يمر السيف مني في لحم حي.
ولما كان غداة غد جلس الشيخ في حلقته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديث والتأويل، فسأل رجل من عرض المجلس، فقل يا أبا محمد أن رجلا يلاحيني في صداق ابنته ويكلفني مالا أطيق. فما اكثر ما بلغ إليه صداق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصداق بناته؟
قال الشيخ: روينا أن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن المغالاة في الصداق ويقول: (ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم) ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: (خير النساء أحسنهن وجوها وأرخصهن مهورا.)
فصاح السائل: يرحمك الله يا أبا محمد، كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر، وحسنها هو يغليها على الناس؛ تكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟
قال الشيخ: انظر كيف قلت. أهم يسامون في بهيمة لا تعقل، وليس لها من أمرها شيء إلا أنها بضاعة من مطامع صاحبها يغليها على مطامع الناس؟ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خير النساء من كانت على جمال وجهها، في أخلاق كجمال وجهها؛ وكان عقلها جمالاً ثالثاً؛ فهذا إن أصابت الرجل الكفء، يسرت عليه ثم يسرت؛ إذ تعتبر نفسها إنساناً يريد إنساناً لا متاعاً شارياً، فهذه لا يكون رخص القيمة في مهرها، إلا دليلاً على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها؛ أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها، أي لحمقها؛ وهي بهذا المعنى من شرار النساء، وليست من خيارهن ولقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث البيت، وكان الأثاث: رحى يد، وجرة الماء ووسادة من أدم حشوها ليف. وأولم على بعض نسائه من شعير، وعلى أخرى بمدين من تمر ومدين سويق وما كان به صلى الله عليه وسلم الفقر ولكنه يشرع بسنته ليعلم الناس من عمله أن المرأة للرجل نفي لنفس لا متاع لشاربه والمتاع يقوم عند المرأة بما يكون منه؛ فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه قبل ان تحمل إلى داره ولكنه الذي تجده منه بعد أن تحمل إلى داره؛ مهرها معاملتها، تأخذ منه يوماً فيوماً، فلا تزال بذلك عروساً على نفس رجلها ما دامت في معاشرته أما ذلك الصداق من الذهب والفضة فهو صداق العروس الداخلة على الجسم لا على النفس؛ أفلا تراه كالجسم يهلك ويبلى أفلا ترى هذه الغالية - إن لم تجد النفس - قد تكون عروس اليوم ومطلقة الغد؟!
وما الصداق في قليلة وكثيرة إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها، فهو إيماء ولكن الرجل قبل، ولكن الرجل قبل. إن كل امرئ يستطيع أن يحمل سيفاً والسيف إيماء إلى القوة غير انه ليس كل ذووي السيوف سواء وقد يحمل الجبان في كل يد سيفاً ويملك في داره مائة سيف؛ فهو إيماء ولكن البطل قبل، ولكن البطل قبل.
مائة سيف يمهر الجبان بها قوته الخائبة لا تغني قوته شيئاً ولكنها كالتدليس على من كان جباناً مثله ويوشك إن يكون المهر الغالي كالتدليس على الناس وعلى المرأة كي لا تعلم ولا يعلم الناس انه ثمن خيبتها؛ فلو عقلت المرأة لباهت النساء بيسر مهرها فإنها بذلك تكون قد
تركت عقلها يعمل عمله، وكفت حماقتها أن تفسد عليه فصاح رجل في المجلس: أيها الشيخ، أفي هذا من دليل أو أثر؟
قال الشيخ: نعم؛ أما من كتاب الله فقد قال الله تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) فهي زوجة حين تجده هو لا حين تجد ماله وهي زوجه حين تتممه لا حين تنقصه؛ وحين تلائمه لا حين تختلف عليه: فمصلحة المرأة زوجة ما يجعلها من زوجها، فيكونان معاً كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه، يريد من جسمه الحياة لا غيرها.
وأما من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روينا (إذا أتاكم مَنْ تَرضَوْن دِينَهُ وأمانته فزوجوه. إلاَّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير).
فقد اشترط الدين، على أن يكون مرضياً لا أي ذلك كان ثم اشترط الأمانة وهي مظهر الدين كله بجمع حسناته؛ وأيسرها أن يكون الرجل للمرأة أميناً وعلى حقوقها أميناً، وفي معاملتها أميناً، فلا يبخسها، ولا يعنتها، ولا يسيء إليها لأن كل ذلك ثلم في أمانته. فإن ردت المرأة من هذه حاله وصفته من اجل المهر - تقدم إليها بالمهر من ليست هذه حاله وصفته، فوقعت لفتنة، وفسدت المرأة بالرجل، وفسد هو بها، وفسد النسل بهما جميع، وأهمل من لا يملك وتعنست من لا تجد ويرجع المهر الذي هو سبب الزواج سبباً في منعه، ويتقارب النساء والرجال على رغم المهر والدين والأمانة؛ فيقع معنى الزواج ويبقى المعطل منه هو اللفظ والشرع.
هل علمت المرأة إنها لا تدخل بيت رجلها إلا لتجاهد فيه جهادها، وتبلو فيه بلاءها، وهل يقوم مال الدنيا بحقها فيما تعمل وما تجاهد؛ وهي أم الحياة ومنشئتها وحافظتها. فأين يكون موضع المال ومكان التفرقة في كثيره وقليله، والمال كله دون حقها؟.
ولن يتفاوت الناس بالمال تختلف درجاتهم به وتكون مراتبهم على مقداره، تكثر به مرة وتقل مرة - إلا إذا فسد الزمان، وبطلت قضية العقل، وتعطل موجب الشرع، وأصبحت السجايا تتحول، يملكها من يملك المال، ويخسرها من يخسره؛ فيكون الدين على النفوس كالدخيل المزاحم لموضعه، والمتدلى في غير حقه؛ وبهذا يرجع باطل الغي ديناً يتعامل الناس عليه، ودينُ الفقير بَهَرجْاً لا يروج عند أحد. وليس هذا من ديننا دينِ النفس والخلُق، وإن ألف بعير يٍقنوها الرجل خالصة عليه ثابتةً له لا تزيد في منزلة دينه قدر نملةٍ ولا ما
دونها. والحجران: الذهب والفضة - قد يكون في هذه الدنيا أضوآ من شمسها وقمرها، ولكنها في نور النفس المؤمنة كحصاتين يأخُذها الرجل من تحت قدميه، ويذهب يزعم لك انهما في قدر الشمس والقمر.
وهلاك الناس إنما يُقضي بمحاولتهم أن يكونوا أناسًا بعيونهم وذنوبهم؛ فهذا هو الإنسان المدبرُ عن الله وعن نفسه وعن جنسه؛ لا يكون أبوه أباً في عطفه، ولا أمه أما في محبتها ولا ابنه ابنا في بره ولا زوجته زوجة في وفائها؛ وإنما يكونون له مهالك كما روينا عن رسول الله عليه وسلم (يأتي على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر وبالفقر، ويكلف مالا يطيق؛ فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك).
وصاح المؤذن، فقطع الشيخ مجلسه وقام إلى الصلاة، ثم خرج إلى داره فتلقته ابنته وعلى وجهها مثل نوره، قالت يا أبت، كنت اتلو الساعة قوله تعالى:(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه). فما حسنة الدنيا؟ قال: يا بنية هي التي تصلح أن تذكر مع حسنة الآخرة، وما أراها للرجل إلا الزوجة الصالحة، ولا للمرأة. . .
وطرق الباب فذهب الشيخ يفتح، فإذا الطارق (أبو وداعة) وكان يجالسه ويأخذ عنه ويلزم حلقته، ولكنه فقده أياماً. فدخل فجلس. فقال الشيخ:(أين كنت؟)
قال: (توفيت أهلي فاشتغلت بها)
قال الشيخ: (هلا أخبرتنا فشهدناها؟) ثم أخذ يفيض في الكلام عن الدنيا والآخرة. وشعر أبو وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم؛ فقال (سعيد):
(هل استحدثت امرأة غيرها؟)
قال: (يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوجني وما املك إلا درهمين أو ثلاثة؟)
قال الشيخ: (أنا. . . . . . . . . . . . . .)
أنا، أنا، أنا. . دوي الجو بهذه الكلمة في إذن طالب العلم الفقير، فحسب كأن الملائكة تنشد نشيداً في تسبيح الله يطن لحنه:(أنا، أنا، أنا. . .)
وخرجت الكلمة من فم الشيخ، ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمة زوجته إحدى الحور العين.
فلما أفاق من غشية إذنه. . . قال: (وتفعل؟)
قال (سعيد): (نعم) وفسر (نعم) بأحسن تفسيرها وابلغه، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجه على ثلاثة دراهم (خمسة عشر قرشاً). ثلاثة دراهم مهر الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهباً لو شاءت.
وغشي الفرح هذه المرة عيني الرجل وإذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطن لحنه:
(أنا، أنا، أنا. . .)
ولم يشعر انه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليه بهذا الصوت الذي لا يزال يطن في إذنيه:(أنا، أنا، أنا)
وصار إلى منزله وجعل يفكر ممن يأخذ، ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في إذنيه:(أنا، أنا، أنا. .)
وصلى المغرب وكان صائماً، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأن في نوره وجه عروس تقول له:(أنا، أنا، أنا. . .)
وقدم عشاءه ليفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا الباب يقرع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد!. .
سعيد؟ سعيد؟ من سعيد؟ أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن. فكر الرجل في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيَّب؛ إلا الذي قال له: (أنا. . .)
لم يخالجه إن يكون هو الطارق، فان هذا الأمام لم يطرق باب أحد قط، ولم ير منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.
ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبر فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين وظن أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة! فقال:(يا أبا محمد، لو. . لو. . لو - لو أرسلت إليَّ لأتيتك!)
قال الشيخ: (لأنت أحق أن تؤتى)
فما صكت الكلمة سمع المسكين حتى أبلس الوجود في نظره، وغشى الدنيا صمت كصمت الموت، وأحس كأن القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه ونقدر أن ليس
محل شيخه إلا أن يأمر، وليس محله هو إلا أن يطيع، وإن من الرجولة إلا يكون معرة على الرجولة، ثم نكس وتنكس، وقال بذلة ومسكنة:(ما تأمرني؟)
تفتحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ:(انك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت فكرهت إنً تبيت الليلة وحدك؛ وهذه امرأتك!)
وانحرف شيئاً، فإذا العروس قائمة خلفه مستترة به، ودفعها إلى الباب وسلم وانصرف.
وانبعث الوجود فجأة، وطن لحن الملائكة في إذن أبي وداعة:(أنا، أنا، أنا. . .)
دخلت العروس الباب وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه، ثم خطا إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ واغمض السراج عينه ونشر الظل. .
ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحصيات؛ ليعلموا إنً له شأناً اعتراه، وإنً قد وجب حق الجار على الجار (وكانت هذه الحصيات يومئذ كأجراس التليفون اليوم) فجاءوه على سطوحهم وقلوا: ما شأنك؟.
قال: (ويحكمّ! زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاء بها الليلة على غفلة.)
قالوا: وسعيد زوَّجك! أهو سعيد الذي زوَّجك! أزوَّجك سعيد؟.)
قال: (نعم)
قالوا: (وهي في الدار! أتقول إنها في الدار؟.)
قال: (نعم)
فانثال النساء عليه من هنا وههنا حتى امتلأت بهن الدار.
وغشيت الرجل غشية أخرى فحسب داره تتيه على قصر عبد الملك ابن مروان، وكأنما يسمعها تقول:(أنا، أنا، أنا. . . .)
قال أبو وداعة: (ثم دخلت بها، فإذا هي من اجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج.)
قال: (ومكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت، فرد عليّ السلام، ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس وخلا وجهه، فنظر إليّ وقال:
(ما حال ذلك الإنسان. . . . . . . . . . . .؟)
أما ذلك (الإنسان) فلم يعرف من الفرق بين قصر ولي العهد ابن أمير المؤمنين وبين حجرة أبي وداعة التي تسمى داراً. . .! إلا إن هناك مضاعفة الهم، وهنا مضاعفة الحب.
وما بين (هناك) إلى القبر مدة الحياة ستخفت الروح من نورٍ نورٍ، إلى إن تنطفئ في السماء من فضائلها.
وما بين (هنا) إلى القبر مدة الحياة - تسطع الروح بنور على نور، إلى أن تشتعل في السماء بفضائلها.
وما عند أمير المؤمنين لا يبقى، وما عند الله خير وابقى.
ولم يزل عبد الملك يحتال (لسعيد) ويرصد غوائله حتى وقعت به المحنة، فضربه عامله على المدينة خمسين سوطاً في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وعرضه على السيف، وطاف به الأسواق عارياً في تبانٍ من الشعر، ومنع الناس أن يجالسوه أو يخاطبوه. وبهذه الوقاحة، وبهذه الرذيلة، وبهذه المخزاة قال عبد الملك بن مروان:(أنا. . . . . . . . . . . .؟)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
الترجمة في الأدب العربي وتراجم عظمائنا المحدثين
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في العام الماضي فكر جماعة من الأساتذة والكتاب في إصدار مجموعة من التراجم القوية المحققة لعظماء مصر في العصر الحديث. وكانت الغاية من إصدار مثل هذه المجموعة علمية قومية قبل كل شئ؛ فليس في تراثنا التاريخي المعاصر مثل هذه السلسلة؛ وما زالت سير الكثيرين من عظمائنا مجهولة مغمورة، وما زال شبابنا المتعلم يتوق إلى استعراض هذه السير في بحوث محققة ممتعة تغري بالقراءة والدرس فلا يجدها. وسير العظماء زينة التاريخ القومي، والتاريخ القومي غذاء للشعور الوطني.
ولكن هذا المشروع العلمي الجليل لم يجز مع الأسف طور التفكير، وطوي كما طويت مشاريع مثله من قبل.
إن تراجم العظماء تشغل في آداب الأمم العظيمة وفي تاريخها أسمى مكانة، فأقطاب الأمراء والساسة والقادة والعلماء والشعراء والأدباء والفنانين، هؤلاء جميعاً يأخذون مكانهم في التاريخ القومي العام، ثم يأخذون مكانهم في تراجم خاصة، تذهب أحياناً إلى البحوث النقدية المستفيضة التي تشغل مجلدات بأسرها وتخصص للمراجعة العلمية والدراسة العليا؛ وتقتصر أحياناً على صور موجزة، ولكن قوية ممتعة تخصص لدرس الشباب وللقراءة العامة. ويخص هؤلاء العظماء بالدرس في كل عصر ووقت، ويحظون بمختلف البحوث والدراسات، وقد تصدر عن أحدهم عشرات التراجم والسير، ولكل مقامها العلمي والأدبي. أما نحن فكما أن النقص يعتور تاريخنا القومي، وكما أن هذا التاريخ لم يكتب بعد بما يجب من تحقيق وإفاضة، فكذلك يعتور النقص لدينا هذه الناحية الخاصة، أعنى ناحية التراجم والسير المفردة؛ وقلما حظيت آدابنا التاريخية بترجمة محققة وافية لعظيم من عظمائنا المحدثين.
على أن هذه الناحية الخاصة من الباحث التاريخية تشغل في الأدب العربي القديم مكانة هامة. وقد بدأت العناية بها في عصر مبكر جداً. فمنذ القرن الثاني للهجرة يعني الرواة والمؤرخون المسلمون بالسير والتراجم المفردة.
وقد لبثت تراجم العظماء الخاصة حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري تملأ فراغاً كبيراً
في الآداب التاريخية العربية؛ ولم تقف الترجمة الخاصة عند نوع معين أو طائفة معينة من العظماء، بل تناولت رجال السيف والقلم، والملوك والوزراء، القادة والمفكرين، الكتاب والشعراء من كل ضرب؛ ومنها الموسوعات العامة، ومنها المجموعات الخاصة لطوائف معينة، ومنها التراجم والسير الفياضة، ومنها الموجزة. وفي الآداب العربية، ونهضت فيه الآداب الأخرى. غير أن هذا التراث الحافل يقف مع الأسف عند بدء تاريخنا الحديث، وينقطع سيره انقطاعاً تامًا، فلا نكاد نظفر في ذلك العصر بآثار قيمة في التراجم العامة أو الخاصة؛ وهذه ثغرة في آدابنا التاريخية لم نوفق إلى تداركها حتى اليوم.
ويجدر بنا أن نستعرض بهذه المناسبة طرفاً من تراث التراجم والسير الخاصة في الأدب العربي، لنذكر شبابنا المتعلم بما خص به هذا الفن في أدبنا من العناية والاهتمام، وما انتهى إليه من النضج والتقدم. وما نذكره هنا هو على سبيل التمثيل فقط، إذ يقتضي الإلمام بجميع آثار هذا الفن فصولا بأسرها. وفي مقدمة هذه الآثار السيرة النبوية الكريمة، وأشهرها وأنفسها سيرة أبن إسحاق التي دونت في منتصف القرن الثاني من الهجرة. وكتب ابن النديم كتاب الفهرست الشهير في أواخر القرن الرابع، وألم فيه بطائفة كبيرة من تراجم الفلاسفة والمفكرين والكتاب وآثارهم حتى عصره؛ ومنذ القرن الخامس يعظم ميدان هذا الفن ويتسع، وتوضع فيه الموسوعات الكبيرة؛ فنجد الخطيب البغدادي المتوفى في أواخر هذا القرن يستعرض في كتابه الضخم (تاريخ بغداد) مئات من تراجم العظماء والخاصة في جميع الدول الاسلامية؛ وفي القرن السابع وضع القاضي الأجل شمس الدين بن خلكان موسوعته العامة (وفيات الأعيان) في تراجم العظماء من كل ضرب. ولا ريب أن معجم ابن خلكان من أنفس آثار الترجمة العربية إن لم يكن أنفسها جميعاً. فهو موسوعة شاسعة تحتوي على أكثر من ثمانمائة ترجمة لأعلام الأمم الاسلامية، ومنها تراجم ضافية تملأ جميعاً بالتحقيق ودقة التصوير؛ وقد عني ابن خلكان عناية خاصة بتحقيق الأسماء والتواريخ، ونستطيع أن نقول إنه أول مؤرخ عربي جعل من الترجمة فناً حقيقياً، وما زال معجمه إلى عصرنا من أهم المراجع التاريخية وأنفسها. وبلغ فن الترجمة ذروة ازدهاره في القرنين الثامن والتاسع؛ وظهرت فيه الموسوعات الغنية الشاسعة، وخص كل عصر وكل قرن بأعيانه وأعلامه، ونستطيع أن نذكر من آثار هذا العصر، كتاب (أعيان العصر
وأعوان النصر) لصلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ، وهو موسوعة كبيرة في تراجم الأعلام المعاصرين لم يصلنا منها سوى بضع مجلدات. وللصفدي أيضاً كتاب (الوافي بالوفيات)، وهو موسوعة عامة في تراجم أعلام الأمم الإسلامية من سائر الطبقات والطوائف منذ الصحابة إلى عصره، ولم يصلنا منها أيضاً سوى بضعة مجلدات؛ وقد ذيل عليها مؤرخ مصر أبو المحاسن بن تغري بردي بكتاب الأعلام منذ منتصف القرن السابع إلى عصره أي إلى منتصف القرن التاسع. ولدينا منذ القرن الثامن سلسلة متصلة من معاجم الترجمة، يختص كل معجم منها بقرنه، وأولها كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) للحافظ بن حجر العسقلاني؛ ثم كتاب (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) لشمس الدين السخاوي، وهو من أنفس معاجم الترجمة وأقواها من الوجهة النقدية؛ ثم كتاب (الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة) لنجم الدين الغزي العامري، ثم (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) للمحبي الحموي؛ ثم (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) لأبي الفضل المرادي. وقد ترجم لنا عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ مصر في عهد الفتح الفرنسي طائفة كبيرة من أعيان مصر في القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وهو يصل بذلك سلسلة التراجم. وترجم لنا المغفور له العلامة علي باشا كثيراً من أعيان مصر في العصر الأخير في كتابه (الخطط التوفيقية)؛ ووضع المغفور له العلامة أحمد تيمور باشا عدة تراجم لبعض أعيان مصر في القرن الرابع عشر، وهي التي نشرتها (الرسالة) تباعاً في أعدادها الأخيرة.
هذا عن التراجم العامة. وأما عن الترجمة المفردة التي تقتصر على سيرة شخص معين، والترجمة الخاصة التي تعالج طائفة خاصة من الأعلام، فلدينا منها الكثير أيضاً، ونستطيع أن نمثل للترجمة المفردة بسيرة عمر بن عبد العزيز لمحمد بن عبد الحكم المتوفى في أوائل القرن الثالث؛ وسيرة المعز لدين الله لابن زولاق المصري المتوفى في أواخر القرن الرابع، وقد ضاعت ولم يصلنا منها سوى شذور قليلة؛ وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي من علماء القرن السادس، وتاريخ تيمورلنك المسمى (بعجائب المقدور) لابن عربشاه الدمشقي من علماء القرن الثامن؛ وترجمة المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون بقلمه؛ وترجمة الحافظ ابن حجر بقلم تلميذه السخاوي، وترجمة ابن الخطيب للمقرى، وغيرها.
ولدينا الكثير أيضاً من تراجم الطوائف الخاصة كالفلاسفة والأدباء والقضاء والنحاة وغيرهم، مثل أخبار الحكماء للقفطي، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ويتيمة الدهر للثعالبي، ومعجم الأدباء لياقوت، وقضاة مصر لابن حجر، وكثير غيرها؛ هذا عدا كتب الطبقات الخاصة بتراجم فقهاء المذاهب المختلفة وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
والخلاصة أن الأدب العربي غني بتراثه في فن الترجمة، وقلما تنافسه في ذلك آداب أخرى، إذا استثنينا العصر الحديث. ولكن هذا التراث الحافل يقف مع السف عند بدء تاريخنا الحديث؛ ولو لم يوهب لمصر مؤرخها البارع عبد الرحمن الجبرتي في القرن الثاني عشر (القرن الثامن عشر الميلادي) ويتحفنا بموسوعته النفيسة (عجائب التراجم والآثار) لضاعت إلى الأبد حقائق ومعالم كثيرة عن تاريخ مصر في هذا العصر؛ ولطمست سير الكثيرين من أعلامه. نعم إن الترجمة العربية لم تعرف الأسلوب النقدي، ومنهج التحقيق العلمي، لأنها ازدهرت في عصر كان التاريخ فيه أقرب إلى الرواية؛ ولكنها مع ذلك تتمتع فضلاً عن غزير مادتها بكثير من التحقيق التاريخي، وفي وسع المؤرخ الحديث أن يستخرج منها نفائس مادته؛ وقد كان الجبرتي خاتمة هذا الثبت الحافل من مؤرخين عنوا بتدوين الحوادث والتراجم المعاصرة، ولم يقع لتراثنا مثل هذا الأثر النفيس منذ الجبرتي أي منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد تقدمت المباحث لتاريخية في العصر الأخير تقدماً واضحاً، وبدئ بكتابة تاريخ مصر الحديث؛ ولكنا حتى في هذه الناحية العامة ما زلنا في مستهل جهودنا؛ ومما يبعث على أشد الأسف واللم أن نجد عناية الكتاب الغربيين بكتابة تاريخنا الحديث سواءً من الوجهة العامة أو من بعض الوجوه الخاصة أوفر من عنايتنا، وان نجد في مختلف اللغات الأوربية من الآثار المتعلقة بتاريخنا أكثر مما نجده في لغتنا العربية.
أما النواحي الخاصة في تاريخنا القومي، وأما سير عظمائنا، وهي التي أوحت إلينا بكتابة هذا الفصل. فما زالت مغمورة منسية. وأي نسيان، بل وأي نكران أشد من أن يبقى ذلك الثبت الحافل من عظمائنا ومفكرينا في لعصر الحديث دون ذكر محقق منظم؟ أليس مما يشين نهضتنا العلمية والأدبية أن يحرم رجال مثل عرابي والبارودي وعلي مبارك ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم من أبطال نهضتنا القومية من تراجم ضافية،
نقدية محققة يقرأها الشباب والخلف؟ إن العظماء في الأمم المتمدينة يذكرون دائماً أثناء حياتهم بما يخلد ذكرهم بين مواطنيهم، فإذا توفي أحدهم صدرت غداة وفاته الفصول والكتب المحققة، هذا عدا ما يكون قد صدر منها أثناء حياته. أما نحن فننظر إلى التاريخ المعاصر نظرة الجمود والاستخفاف، ونكتفي يوم يذهب أحد عظمائنا بأن نشيعه إلى قبره ببعض المقالات والمراثي، ثم لا يلبث أن يغمره النسيان إلى جانب أسلافه! وهكذا يتكدس أمامنا ثبت عظمائنا فلا نتلقى من سيرهم وأعمالهم إلا صوراً مشوهة، بينما نعرف الكثير عن عظماء الأمم الأخرى، لأننا نجد في سيرهم كتباً محققة ممتعة تشوق قراءتها.
ولا ريب أن معظم التبعة في ذلك الإهمال المشين ترجع إلى نوع الثقافة التاريخية الذي نتلقاه في مدارسنا؛ فهذه الثقافة ما تزال قاصرة، بعيدة عن أن تذكى الشعور الوطني في نفوس النشء. والشعور بالكرامة القوية هو أول دافع للشباب والباحثين على استقصاء سير عظماء الوطن ثم على تحقيقها وتدوينها.
هذه كلمة أخرى نرسلها على صفحات (الرسالة) لننبه على إحدى مواطن الضعف في ثقافتنا وآدابنا التاريخية؛ ولنذكر بها إخواننا الذين فكروا منذ عام في وضع تراجم وافية محققة لعظماء مصر في العصر الحديث أن يعاودوا البحث في هذا المشروع العلمي الوطني الجليل، ولعلهم موفقون هذه المرة إلى تحقيقه وإخراجه؛ فيسدون بذلك ثغرة مشينة في تاريخنا القومي ويضعون سنة حسنة في آدابنا التاريخية، ويستحقون بذلك عرفان الجيل الحاضر والأجيال القادمة.
محمد عبد الله عنان المحامي
بين فن التاريخ وفن الحرب
3 -
خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي
رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
5 -
أسلوب القتال:
من الخطأ القول بأن ليس للعرب أسلوب في القتال قبل الإسلام. فان من تتبع أخبارهم في الجاهلية اتضح له أن للقوم مبادئ يسيرون عليها في قتالهم، وكانت هذه المبادئ ملائمة لاستعمال سلاحهم ومنطبقة على البيئة التي يقاتلون فيها.
أجل، إن العرب لم تقاتل بالجموع التي يقاتل بها الفرس أو الروم الذين كانت جيوشهم كبيرة قد تربو على المائة ألف في بعض المعارك. وجيش بهذه القوة يحتاج إلى تنظيم لسوقه قبل المعركة وتعبئته فيها. فجيش بهذه القوة يحتاج إلى تنظيم لسوقه قبل المعركة وتعبئته فيها. فجيش أولئك الأعاجم كان ينقسم إلى راجلين وفرسان والى طاعنين وضاربين ورماة. وكانت الفيلة عند الفرس والعجلات الحربية عند الروم، تقوم مقام الأسلحة الثقيلة كالدبابات والمدافع الضخمة في يومنا هذا.
فنظام القتال عند اليونان كان مستنداً إلى (الفيلق)(الفلانكس) وهو وحدة تعبوية يبلغ متوسط قوتها (4000) مقاتل، يصطف الجنود فيها على ستة عشر صفاً طول كل صف (256) مقاتلاً. والجنود في (الفيلق)(الفلانكس) من المشاة مسلحون بالرمح والسيف والحربة والمغفر والدرع والترس. ويتكون من (الفيلق) القلب ويقف في الخط الثاني الذي يسبقه الخط الأول المؤلف من الرماة ويليه الخط الثالث. وتقف الخيالة في الميمة والميسرة لحماية الجانب.
ويتألف الجيش عادة من أربعة فيالق (فلانكسات) متى تيسرت القوة فيه. فتقف الفيالق
(فلانكسات) متى تيسرت القوة فيه. فتقف (الفيالق) جنباً إلى جنب وبينها فاصلات صغيرة تتراوح بين عشرين وأربعين خطوة.
وكان هذا النظام لا يصلح للقتال إلا في الأرض السهلة المنبسطة، والمقدرة على الحركة فيه قليلة، ولا يستطيع تغيير الجبهة متى اقتضى الموقف ذلك، فضلاً عن أنه معرض للخسارة إذا أصيب برمي السهام.
أما نظام القتال عند الرومان فكان مستنداً إلى (اللجيون)، وهذا ينقسم إلى الكراديس ومجموعها عادة عشرة. وكانت الكراديس سابقاً تُعبأ على خطين كل خمسة منها في نسق وبينها فاصلة جهة كردوس، على أن تقف كراديس الخط الثاني وراء فاصلات الخط الأول.
ثم تطور هذا النظام في عهد يوليوس قيصر، فكان اللجيون يقف على ثلاثة خطوط: في الخط الأول أربعة كراديس، وفي كل من الخطين الباقين ثلاثة، وتبلغ قوة كل كردوس ألف مقاتل وتؤلف الكراديس القلب، ويقف أمامه الرماة الذين يرمون العدو بسهامهم أو بحرابهم قبل الاصطدام ثم ينسجون إلى المجنبات أما الخيانة فتحمى المجنبتين.
وكان نظام الكراديس يفوق نظام (الفيلق)(الفلانكس) في المقدرة على القتال والحركة والسير بسهولة، وكان في استطاعة الكراديس أن ينجد بعضها بعضاً.
والجانب في اللجيون قوى بخلاف جانب (الفيلق)(الفلانكس)، لأن كراديس الجانب متى غيرت ناصيتها استطاعت آن تقابل العدو الملتف حولها.
وسار الروم أو البيزنطيون في قتالهم على نظام الكراديس فأخبار الفتوح الأولى تدل على انهم كانوا يبعثون قواتهم كراديس ويحمون مجنبتهم باليمنة والميسرة. وكانت قوة الجيش تختلف باختلاف عدد اللجيونات وتقف على خط واحد، فأما آن تؤلف القلب تؤلف الخيالة وحدها الميمنة، وأما آن تؤلف القلب والميسرة والميمنة وتكون الخيالة على الجانبين.
وإذا كان عدد اللجيونات كثيرا يحتوي القلب عادة على أكثرها. وقد زادت قوة الخيالة على ما كانت عليه في زمن الرومان، لان الأقوام المتوحشة التي هاجرت من أسيا ودخلت أوربا باغتت رومية بجيوشها الخيالة الكبيرة، وجهزت الجنود لجيوش رومية زادت عدد الخيالة فيها واصبح للفارس شان خطير في القتال.
ولا يختلف نظام القتال عند الفرس عن نظام القتال عند الروم إلا اختلافا يسيراً والجيش الفارسي ما يظهر كان منقسما إلى كتائب - والكتيبة تقتل الكردوس وتبلغ قوتها ألف مقاتل - وكان خط القتال فيه ينقسم إلى القلب والميمنة والميسرة، وكانت كتائب الخيالة تحمى الجانبين على ما هو شائع. وكانت الفيلة تتقدم في جبهة القتال وعلى ظهورها الجنود المسلحون بالحراب والقسى. والذي يلفت النظر انه كان للرماة شان خطير في الجيش الفارسي. ولعل المشاة كانوا جميعا مجهزين بالقسى وجد ماهرين في الرماية. ومن الأساليب التي كان الجيش الفارسي. يلجا إليها في حرج الموقف ربط الرجال بعضهم ببعض بالسلاسل لكي يثبتوا في محلهم مهما كلفهم الآمر.
فإزاء هذه الأنظمة الشائعة بين الدول الكبرى المجاورة لبلاد العرب، كان طبيعيا ان يسير الحرب على أسلوب معين في قتالهم ولم ينزو العرب في عقر دارهم في السنوات التي سبقت الفتوح فالرواة يروون هجوم الحبشة على بلاد اليمن، وتوغلهم فيها بعد انتصارهم على الجيش اليماني، ويشيرون إلى التجاء تابعة اليمن إلى أكاسرة فارس وطلب النجدة منهم. فخاض الجيش الفارسي عباب البحر على أسطوله، وأرست سفنه على شواطئ اليمن، وحارب الأحباش وانتصر عليهم وطرهم من اليمن.
والقصاصون ينقلون أخبار المناذرة والغساسنة في حروبهم ومساعدتهم لكسرى أو لقيصر في الحرب الطاحنة التي دارت رحاها بين الفرس والروم. وقد ورد في القرآن الكريم نتف من أخبارها أما مؤرخو الرومان فيد كرون انتصارا ملك تدمر إذنيه على الرومان واعتزاز زوجه
الزباء (زنوبيا) بالعاصمة تدمر.
فهذا الاحتكاك المستمر بين العرب والأمم المجاورة لهم والاشتراك في القتال مع الجيوش الأجنبية منجدين أو مستنجدين، والغارات المتوالية على أرض السواد في العراق أو ارض الشام كل أولئك حمل العرب على اقتباس بعض الأساليب الحربية الشائعة عند
الفرس والروم، لذلك لا يأخذنا العجب إذا سمعنا ان للمناذرة كتيبتين، أي كردوسين: الدوسر والشهباء، وان بكر بن وائل قاتلت الفرس في يوم ذي قار على تعبئه
ومن المبادئ الحربية التي كان العرب يتمسكون بها في قتالهم مبدأ المباغتة، والمقدرة على
الحركة، والأمنية فالمباغتة من أخطر المبادئ التي كانوا يتوخون منها الفوز في جميع خططهم لذلك تدل أخبار أيامهم ووقائعهم في الردة على عنايتهم الزائدة بالاستطلاع فكانت العيون تسبق حركاتهم، فأما أن يباغتوا عدوهم بأخذه على غرة، أو أن يكمنوا له فيفاجئوه.
أما مبدأ المقدرة على الحركة فظاهر من سيرهم على ظهور خيلهم أو جمالهم خفقاً مسافات بعيدة بسرعة فائقة وأما عنايتهم بمبدأ الأمنية فمعلوم من إيفادهم الأرصاد والعيون، ووضع الخيالة في المجنبة في القتال، ومراقبة جاني العدو مراقبة مستمرة للهجوم عليه عند سنوح الفرصة.
ومن المحتمل إننا لا نرى في كتب التاريخ مثالا للحركة السريعة التي قام بها خالد بن الوليد حين أمره عمر بنجدة جيش سورية وهو يحارب في العراق فقطع ابن الوليد البادية بجيش يبلغ عدده آلاف مقاتل على ظهر الخيل والجمال، وابتدع وسيلة لضمان الماء اللازم لخيله، وذلك عمل يدل على نبوغ نادرة، وسنشير إلى ذلك عند البحث في فتح العراق.
وفي غزوة أحد كانت قوة المسلمين ألف رجل، تختلف منها ثلاثمائة رجل. وكانت قوة قريش ثلاثة آلاف رجل، فنظر الرسول في كثرة قوة العدو، فأخلى المدينة وأنسحب إلى شمالها جاعلاً جبل أحد خلفه، للاستفادة من مناعة ومن وضعه المشرف على ما حوله ولما لم يكن الجانب الأيسر مسنوداً بقوة، وضع فيه مفرزة رماة بقوة خمسين رجلا لحمايته. أما جيش قريش فرتب صفوفه للهجوم بعد ان وضع قوة الخيالة على مجنبته، وكانت تبلغ مائتي رجل، وقدم الرماة في الخط الأول.
وكان خالد على رأس خيالة قريش في الجانب الأول يراقب رماة المسلمين ويشاغلهم ويتحين الفرص للهجوم عليهم، لكي يقطع خط الرجعة على المسلمين. وفعلا استطاع ذلك لما سنحت الفرصة، فقلب فوز المسلمين إلى انكسار مروع. فهذا كله يثبت لنا إن للعرب أسلوبا في القتال، وان مبدأ الأمنية كنا من اخطر المبادئ التي ساروا عليها. وفي يوم ذي قار نرى بوضوح النظام الذي سار عليه العرب في قتالهم الفرس، وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولا يخفى ان معركة ذي قار وقعت بين غزوة بدر وغزوة أحد، فانتقم فيها العرب من الفرس، ونالوا ظفراً حاسما شجعهم على الاستهانة بقوة فارس، وساعدهم على غزو بلاد السواد غزواً متواصلاً، حتى آل الأمر إلى فتحهم تخوم العراق.
ويروى لنا صاحب الأغاني أخبار ذلك اليوم بالتفصيل والواضح من ذلك ان العرب عبأوا صفوفاً وقسموها إلى كتائب، وجعلوا الطعن في الوراء ليحموه بقلبهم، وكان بمنزلة القاعدة التي يتمنون منها الجيوش في يومنا هذا وتوضع الخطط الحربية لحمايتها.
وأقاموا قوة في الميمنة من بني عجل، وقوة في الميسرة من بني شيبان. أما القلي فالفته قبائل بني بكر بن وائل. ومن الأساليب لبتي ساروا عليها انهم لم يقدموا الصفوف للقتال دفعة واحدة لكي لا تصيبها سهام الفرس فتفتك بها وكان الفرس على ما نعلم ماهرين في الرماية والحقيقة إن تقديم الصفوف بأجمعها في وقت واحد يجعلها عرضة للسهام دفعة واحدة بينما البدء بالحركة بكتيبة واحدة يجعل الصفوف الأخرى في مأمن من ضررها. وهذا من الأساليب التي كانت تراعى في هجوم الخيالة على المشاة، إذ تبدأ الحملة بخط منتشر ضعيف من الخيالة وتليها الخطوط المنظمة.
فالعرب على ما يظهر جلياً دخلت ميدان القتال بنظام لم يكن اقل شأنا من نظام الفرس. وكان منأمره أن هزومهم شر هزيمة، وطاردوهم إلى أرض السواد بعد أن غنموا أحمالهم وأثقالهم.
ولعل الطريقة التي سار عليها الرسول (ص) في غزوة بدر تدل على فكرة التعبئة عند العرب. كانت قوة المسلمين تبلغ ثلاثمائة مقاتل. بينهم خيال أو خيالان فقط، بينما كانت قوة قريش تربو على الألف وفيها مائة خيال.
وكان القصد من هذه الغزوة مباغتة قافلة قريش عند عودتها من الشام إلى مكة. ولما وصلت قوة المسلمين إلى مياه بدر علمت من الأسرى إن قريشاً أنجدت القافلة بقوة كبيرة كانت ثلاثة أضعاف قوة المسلمين. وكان لابد من الاصطدام، لأن انسحاب المسلمين دون القيام بعمل مما يؤثر في سطوة الإسلام ويشجع المنافقين على الشغب.
لذلك قرر الرسول إن يقاتل قريشاً بقوته الضعيفة على ان يزيد مناعتها بالتدابير التعبوية الموافقة. فاختار موضعاً يهيمن على معسكر قريش وقسم قوته إلى ثلاثة اقسام، وجعل لكل قسم قائداً، ورتب الأقسام بعضها بجانب بعض، وعبأها صفوفا كالبنيان المرصوص، وعرض الصفوف بنفسه فقدم المتأخر من الجنود وأخر المتقدم فأصبحت الصفوف متراصة. ومنع المسلمين من رمى السهام ومن التفاخر، وطلب منهم أن لا يتقدموا من
ملهم، ولا يرموا إلا بعد أن تدنوا قريش منهم على مسافة قريبة. وكان يقصد بذلك أن تصيب السهام قوة قريش الفائقة فلا تتبعثر. وبفضل هذه الترتيبات انتصر المسلمون على قريش مع قلة عددهم وضآلة سلاحهم ولاشك في أن القتال بالكر والفر كان شائعا عند العرب ولعلهم كانوا يستعملونه كثيراً في غزواتهم لأخذ الثأر أو لجر مغنم. وكان يقع بين متقاتلين يبلغ عددهم العشرات ولا يجاوز المئات ولما كانوا يقاتلون بالجوع في أيامهم الشهيرة أو في مقاتلتهم الفرس أو الروم كانوا بلا ريب يعبئون قواتهم صفوفاً.
(يتبع)
طه الهاشمي
لبيك! لبيك!.
. .
للأستاذ كرم ملحم كرم
رأى أديب دمشقي فاضل أن يسألني ماذا اعني بقولي: (إن للتوراة والإنجيل والقرآن من الرواية اكبر نصيب)، وعلى أن أوضح للأديب الكريم ماذا أعني وإن يكن فيما أوردت في مقال (ما هو أدب اليوم؟. . .) بيان مسهب جليّ.
فقد تحدثت في أدب اليوم عن الرواية، وقلت أنها ركن الأدب في كل عصر وكل آن القصد منها فلا يعدو تغذية النفس بالمواعظ، والحث على الفضيلة، ومحاربة الفساد، وقد تخرج روايات كثيرة عن هذا الهدف، فينصرف قائلها أو واضعها إلى امتلاك سامعيه أو قرائه بحوادث رائعة مدهشة ترمى إلى التفكهة وقضاء الوقت،
والوقوف على غرائب لا وجود لها في أحيان كثيرة في غير مخيلات ناسجيها.
والرواية نوعان: منها التاريخية ومنها الخيالية. بل هي محبط واسع تشمل الحقائق والأكاذيب، تشمل الملموس المحسوس والخيالي المجهول. فمن حق الراوي أن يتفنن في سرد حكايته على ما شاء. له أن يستعين بالتاريخ وأن يسخر بالتاريخ. له أن يقدس الحقيقة وأن يعرض عنها.
فهو حرّ مطلق في أن يقول ما شاء. وما يقول رواية تختلف قيمتها باختلاف قدر قائلها وقوة تركيبها ومن تتناول من الأفراد. والكتب المقدسة تحمل روايات عديدة. ففي كل فصل من فصولها رواية، ولنبدأ بالتوراة. ففي سفر التكوين رواية، وفي تمرد الملائكة وسقوطهم إلى الجحيم رواية، وفي عصيان آدم وحواء مشيئة الله وأكلهما الثمرة المحرمة رواية، وفي حكاية إبراهيم وهاجر رواية، وفي موقف عيسو من أبيه اسحق رواية، وفي حب يعقوب لابنة خله رواية، وفي حكاية يوسف وأخوته رواية، وكم من حكاية وحكاية في التوراة. فالكتاب يجمع بين دفتيه حكايات العهد القديم في معظمها.
ولننتقل إلى الإنجيل. فالمسيح نفسه صارح سامعيه بأنه يخاطبهم بالأمثال لكي يفهموا. فحدثهم عن الابن الشاطر، وعن تجار الوزانات الخمس، وعن العاملين في الَكرْم الذين أقبلوا في أوقات متعددة ونقدم رب الكرم أجراً واحداً، وعن العذارى اللواتي يحملن زيتاً في مصابيحهن.
وهناك حكايات لا نحصى ضربها المسيح مثلاً لتلاميذه وسامعيه.
والقرآن ما خلا من هذه الحكايات. خصوصاً الحكايات الواردة في التوراة.
من حكاية سفر التكوين، إلى حكاية سقوط الملائكة، إلى حكاية زكريا، إلى حكاية مريم بنت عمران وربك نفسه قال في سورة يوسف:(آنا أَنزَلناه قراناً عربياً لعلكم تَعقلُون. نَحْنُ نقص َعليكَ أَحسْن الَقصَص ِبما أَوحْينا ِإليْكَ هذا القُرآنَ وإن كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلينْ إذ قال يُوسُف لأبيهِ يا أَبت إني رأيتُ أَحدَ عَشَر كوْكباً والشَّمسَ والقمرَ رأيتهُم لي ساجدينْ) فان قول ربك: (نحن نقص عليك أحسن القصص) دليل ناطق على أن القرآن لا يخلو من الرواية.
ولماذا يخلو من الرواية؟. أتكون الرواية نقيصة؟. أليس من شانها تهذيب النفس ورد الخاطئين إلى الله اتعاظا بما سبق ونال الضالين من عقاب وقصاص كما أتفق لعاد وثمود؟. .
فلا غضاضة إذا على الكتب المقدسة، والقرآن منها، إذا حوت الروايات؛ وفي الروايات عظات بليغة. ولا حاجة لقول الأديب الدمشقي عن التوراة والإنجيل:(صاحب البيت أدرى بما فيه!. . .)، فلا مجال في بحثنا للطوائف والنيل من الأديان.
فالحديث حديث أدب، والطائفية في واد ونحن في واد، وكل قصدنا مما قلنا أن الرواية تتغلغل في أي مكان، في الكتب المقدسة وفي سواها. كل قصدنا أن نقول إن الرواية انبثقت بانبثاق الكون، وأنها أدب كل يوم. كل قصدنا أن نحث أدباء العرب على الاشتغال بالفن الروائي، فان آثار هذا الفن تكاد تمحى في الأدب العربي.
أما أن نكون رمينا إلى الحط من منزلة الكتب المقدسة، فذلك مما لا نفكر فيه ولا يحق لنا أن نفكر فيه، فنحن نحترم هذه الكتب، وكيف لا نحترمها والملاين من البشر تدين بتعاليمها، وتؤمن كل الأيمان بآياتها؟. .
والكتب المقدسة تطبع العقول على الخير، وتثقف النفوس وتقودها في الطريق السوي، وإذا
كان بعضنا يرتاب في أصلها وطريقة وضعها ورموزها فليس له أن يعلن هذا الارتياب لئلا.
يؤثر في عقول العامة ويخرج بها عن إيمانها وتقواها، ويثير في قلوبها الشكوك. فلولا
الدين لعم الإنسانية البلاء، وتفاقمت الشرور، وتعاظمت الويلات، وأنغمس الناس في الرذيلة، وعاشوا لأهوائهم، وباتوا كالأنعام!.
فليطمئن الأديب الدمشقي إذا بالاً، نحترمه ونرغب في أن نصونه ممن يتاجرون به لو استطعنا إلى صونه منهم سبيلاً وما حديثنا عن الرواية في كتب الدين غير حديث اقتضاء
الأدب لا الطعن على الدين. والأديب الفاضل رأى بعينه، مما أوضحنا له، أن للرواية من أي كتاب ديني أكبر نصيب. فليهدأ روعة القلق، ولتسكن حدته، ولينظر مرة أخرى في مقالنا.
(ما هو أدب اليوم؟. .) فيثبت له أننا وضعنا الكتب الدينية على مسافة بعيدة جداً من روايات (فولتير) واعترافات (جان جاك روسو) وغراميات (لأمارتين). . .
وعهدنا بالأديب الدمشقي تكفيه الإشارة!
بيروت
كرم ملحم كرم
صاحب مجلة (العاصفة)
-
من ذكريات الصبى
الذهاب إلى المدرسة
للأديب حسين شوقي
حينما أعيد على نفسي الآن بعض ذكريات صباي، أدهش من الشخصية المؤلمة التي كانت لي في ذلك العهد.
كنت مضرباً أولاً عن الذهاب إلى المدرسة، برغم تقدمي في السن، وقد بلغت الثامنة. . وكان والدي يحبني كثيراً، فلا يعارضني في رغبتي، برغم إلحاح أفراد أسرتي جميعاً، وبخاصة مريبتي العجوز، وكانت امرأة شركسية شديدة المراس، تفشل معها حيلي وتوسلاتي. . كانت هذه المربية مغرمة بالمشاكسة، فإذا لم تجد من تشاكسه، عمدت إلى ضرب القطط والكلاب وكنا جميعاً نتحمل هذه المربية المتعبة، لأنها قديمة العهد عندتا إذ كانت مربية لوالدتي قبل أن تكون مربية لنا.
وكان لا يروق هذه المربية أن تثير موضوع إرسالي إلى المدرسة إلا أثناء الطعام، فتنغص علي فكان والدي رحمه الله يثور عليها، وينحى عليها باللوم القارس فتسكت، ولكن تعود فتتمتم شتائم - بالتركية - تتناول الجميع. . فكنت من جانبي أنتهز هذه الفرصة للثأر منها، إذ أعيد بالعربية في صوت عال هذه الشتائم. . فيهيج عليها الجمع ويضطرونها إلى مغادرة الحجرة مغضبة ثائرة. .
ولكن لما تكررت منى هذه (الدسائس الشرقية) أفتضحأمري، وأخذت مريبتي تقابل دسائس بالدس لي، فألحت إلحاحاً شديداً في إرسالي إلى المدرسة حتى تمكنت من ذلك، للتخلص مني غالباً، لا حباً في العلم.
أدخلت مدرسة الأباء اليسوعيين (بالظاهر) بالقسم التحضيري الذي تديره الراهبات. . وكان بين مريبتي وبيني نضال كل يوم في الصباح، إذ كنت أحاول إلا أذهب إلى المدرسة، متعللاً بالمرض. ز ولكن مريبتي الخبيثة كانت تفهم حيلتي، فتقول: حسين. . إذا كنت مريضاً فابق بالمنزل، ولكن عليك أن تأخذ مسهلاً، فكانت بقولها هذا تضعني بين أمرين أحلاهما مرّ. . وكنت في النهاية أفضل المسهل لأن المدرسة كانت سجناً؛ إذ أغادر المنزل الساعة السابعة صباحاً (وكنا وقتئذ نقيم في المطرية)، ولا أعود إلا في الساعة
السابعة مساءً، أي أن النهار كان يولد ويموت وأنا بعيد عنه وعن ضوء شعاعه البهيج. .
حقاً، ما أتعس حياة التلميذ.
كان الخادم المكلف بمرافقتي من المدرسة إلى المنزل يتأخر أحياناً لدى الخروج، فكنت أجهش بالبكاء مخافة أن أقضي ليلى أيضاً بالمدرسة. .
وكان لى رفيق بالمدرسة، مصري كذلك، يبكى مثلي إذا تأخر عنه خادمه، فيا لنا وقتئذ من جوقة ندابة
أما داخل المدرسة فكان الراهبات الطيبات لا يألون جهداً في تحبيب الحياة المدرسية ألينا، فكن يغمروننا بالهدايا، من ورق ملون وحاوى وغيرهما. . ولكن برغم هذا كله كنت أطمح إلى استرداد حريتي المفقودة، فما أبعد الفرق بين حياة تقضى بين جدران أربعة في وسط الغرباء وبين حياتي الأولى التي كنت أقضيها في رياض المطرية الغناء، متنقلا بين الخضرة والزهور.
إن الحرية لا تقدر في كل وقت وفي كل زمن؟
كم كان يرهقني في ذلك الوقت حفظ أشعار لافوتين؟
فكنت أبغض ذلك الشاعر المسكين، كما كنت اسخر منه، لأنه يجعل الحيوانات تتكلم شعراً. . من رأيي إلا يدرس لافوتين وأمثاله في مثل هذه السن التي لا يمكن فيها تقدير هذه النفائس الأدبية. .
ولكن ذهابي إلى تلك المدرسة لم يدم طويلاً، فقد فصلت منها لكثرة انقطاعي عنها، فجيء لي حينئذ - بفضل تعضيد والدي - بمدرسين في المنزل فكان هذا بداية عهد سعيد، لم يطل مع الأسف، إذا نفينا بعده بأشهر قليلة إلى أسبانيا
وأذكر من ذلك العهد أيضاً حادثاً يدل على مقدار حقد الطفل وعلى روح الانتقام الكامنة فيه، وذلك خلاف ما ينسب إليه من طهر وبراءة.
اشترى والدي وقتئذ سيارة (توربيدو) ذات أربعة مقاعد، وكنت أطمح إلى أن أقودها مثل أخي وهو يكبرني بسنوات قليلة؛ ولكن السائق رفض لصغر سني، فرفعت الآمر كعادتي إلى والدي فلم ينصفني على خلاف عادته، بل أعطى الحق للسائق إشفاقاً منه على حياتي. . فأقسمت أن أثار من السائق، وإليك كيف أتيحت لي الفرصة أن أحقق هذه الأمنية:
كانت هناك في المطرية في ذلك الوقت حانة تديرها أجنبية فاسدة، يحذروننا منها. فاتفق ذات يوم أنني كنت عائداً في المساء من المحطة المطرية إلى المنزل - مشياً على الأقدام - فاعترض في الطريق جنديان بريطانيان يستفهمان عن عنوان تلك الحانة، فأعطيتهما من فوري عنوان منزل السائق! فكان ما قدرته، إذ عندما جاء السائق - إلى منزلنا - في صباح اليوم التالي، كعادته، كانت عينه اليمنى زرقاء اللون، فقد تشاجر مع الجنديين البريطانيين ذيادًا عن عرضه!.
حسين شوقي
من ذكريات لبنان
النفوس المغلقة
للأستاذ أديب عباسي
نهضت في الصباح الباكر ودعوت حمالاً يحمل الحقائب إلى المحطة. وكنت قبلها قد هممت مرتين في صباحين متوالين أن أسافر، ولكنني كنت كل مرة أصل المحطة متأخراً عشر دقائق أو نحوها. وكنت بالطبع ألقى اللوم على أصحاب الفندق الذين يتعمدون التلكوء عن تنبيهي صباحاً حتى يستنزفوا البقية من دراهمي! والحقيقة التي لا مراء فيها أن أصحاب الفندق لم يهملوا تنبيهي في الوقت الذي سألتهم أن يفهموني فيه، ولكنها الرغبة الكامنة في هذا البلد الجميل - لبنان - كانت كل مرة تتغلب على الإرادة الشاغرة فتغمض العينين بعد انفتاح، وتضرب على الإذنين بعد انتباه، وتهوم للشعور فيغفو بعد صحو وبقيت بعد حضور.
وكنت بعد أن ابلغ المحطة وأحملق في القطار الذاهب في حنق مكذوب أعود أرضى نفساً وأوفر بشراً مما لو كنت لحقت بهذا القطار - قطار لبنان العجيب - ليحملني بين أنفاسه الفاسدة في أنفاقه المتعددة، وسيره المتخلع البطيء ويلفظني بعد مسيرة سبع ساعات على حال شر من الحال الذي خرج عليه يونان بعد ضيافة ثلاثة أيام قضاها في بطن الحوت في غير رحب ولا سعة.
وسمعت، وآنا لا أزال في الطريق، مناديا ينادي؛ يا أفندي، تفضل! وأدركت إنني آنا المقصود بهذا النداء. فاستدرت ونظرت وإذا شاب حسن البزة واقف بجانب سيارته البديعة وعينه إلي ويديه تشير إلى السيارة. ودنوت أساله في تلكوء متكلف ماذا يريد أجابني متلطفا: أوتوموبيل جميل. وخير لك أن تسير فيه من أن تيسر في القطار.
وبعد أن أستنزف بلاغته في صرفي عن السفر في القطار الجميل قال أنني لا آخذ إلا مثل ما آخذه من كل راكب. وذكر مبلغاً هو ضعف ما يؤخذ عادة أجراً على مثل هذه المسافة. وعندها أدركت أني البس سدارة، ومن هنا سيأتيني الخطر في هذه الصفقة، وبادرت أصلح الموقف على قدر ما يمكنني الإصلاح وقلت: لتعلم أن من غير العراقيين من يحب أن يلبس السدارة (وإخواننا العراقيين - سامحهم الله - يبعثون، حيثما حلوا، موجة من الطمع
في نفوس الساقة والباعة. على أن السدارة من ناحية أخرى (حماية) وصاحبها لا يزرأ إلا في نقوده. وفيما عدا ذلك فهو من نفوس القوم حيث تشاء الكرامة ويسموا الأباء والعزة). وبعد مساومة قصيرة رضى صاحبنا بنصف القيمة التي ذكرها.
ووقف السيرة أمام فندق جميل من فنادق (عاليه). وبعد نفخة أو نفختين من بوق السيارة أقبل راكبان: رجل وامرأة يجري أمامها طفلان صغيران.
والرجل ربعة القامة، تخطى العقد الرابع من عمره، جامد الملامح، محني الظهر كأنه يحمل عبئاً ثقيلا. أما الفتاة ففي ربيع الحياة، في قامة هيفاء يخيل إليك أنها نحيلة وما هي بنحيلة؛ ضحوك المبسم في وجه صبوح، ونظرات تشع ذكاء، يكسر منها قليلاً خفر طبيعي ووداعة ملازمة.
وانطلقت بنا السيارة في بطء ملحوظ. فكأن سائقها الذكي فهم من تلفتنا ونظراتنا الشائعة أننا نودع عزيزاً ونشيع غالياً، فلا تحمد السرعة في هذه الحال.
وأطلت زوجة المزامل من نافذة السيارة، وأخذت تجيل الطرف في كل ما يمكنها من اتجاه. والتفت إليها زوجها ونصحها متراضياً بأن تكف عن النظر والالتفات، وإلا أصابها الدوار، ثم إذا كان لابد من النظر إلى الأمام فقط.
والتفتت إليه الفتاة وقالت في وداعة ظاهرة: لست أرى أمامي إلا الزفت؛ فهل تريد لي أن أغادر لبنان وليس ما بقع عليه ناظري إلا الزفت؟ إنني أحب أن أشبع النظر من لبنان، وأشبع الخاطر من فتنته قبل آن أغادر. فبادرها بقوله: ماذا في لبنان مما يفتنك ويتصباك، ويجعلك تعرضين نفسك لخطر الدوار المؤكد؟
عندما خاطبته في شيء من التبرم وكثير من الأغراء في استثارته إلى مشاركتها في متعتها وقالت:
الله! إلا ترى هذه الجبال كيف تهاوت صخورها عند الحضيض، وكيف شخصت برؤوسها الممدة كأنها أعسال رصت صفاً وراء صف؟ ثم إلا ترى إلى هذه الأخاديد، والوهاد كيف تقطعها تقطيعاً بديعاً فتجعل منها مثل ما تجعل الشوارع من المدينة؟ وإليك هذه الأشجار، منها الجبار يقف ثابتاً لا تلويه ريح ولا يثنيه إعصار تستكين إلى ظلها هذه الشجيرات الصغيرات كإنها الحجلان تفيء إلى جنح الأم وتلوذ بحنوها وتدنو قدر ما تدنو من قلبها
الخفاق. إلا ترى في ذلك جمال أولاً جلالاً؟؟ وأي جمال وأية فتنة في هذه الجبال الجرداء الشامخة تقوم إلى جانبها هذه التلال الوطيئة في هذا الحقل من شجر الأرز، والسنديان يكلل رؤوسها، وكأن كل ربوة من رباها دوحة جبارة واحدة أغصانها جذوع هذه الأشجار وأوراقها أغصانها!! ثم هذه الغيوم ومنها الذي أسف إلى قعر الوادي وأختلط بأهله اختلاط الألفة، وجاورهم جواراً زالت معه الكلفة؛ ومنها الذي أبى إلا تصعيداً ومنافسة لأعلى هذه الجبال فيختم على رأسه إكليلاً من ذهب صباح مساء، ومن فضة فيما بين ذلك؛ ومنها الذي أبى إمعاناً في التحليق والتصعيد فوق ذلك، فجعلت من التيارات القوية ما يجعله النسر من ريش الطائر، وقد شد النسر عليه مخالبه وألهبه سعار الجوع؟ ثم هذا البحر المسجى من ورائنا، جاث عند ركبتي لبنان يبللها بزبده ويغسلها بموجه، ويهمس في إذنه أن خل مكانك، وتعال أبوئك الصدر بدل أن تكتفي مني بالزبد، والزبد دائماً يذهب جفاء. وقديمًا أغراء همس البحر السحري فتحرك وتناول خير ما أنبت، وبعث به جواري من الارزملء ضلوعها رجولة وقلوب كبيرة. . . أو نسيت الباروك وماءه القر النمير؟ أنسيت ينأبيع لبنان المثلجة وكيف كنا نتجرع ماءها قطرة قطرة لما كانت تفعل الجرع الكبيرة المتوالية في الأسنان؟ ثم هل نسيت البارحة وكيف أمطرتنا السماء وابلاً أتضطرنا أن نتعطف المعاطف كأننا من العام في شهر آذار؟ أمثل هذا يجتمع ويتيسر لغير لبنان من بقاع الدنيا؟ أوه! وماذا أقول في هذه المدن المنثورة المنورة، وقد ألهبتها في الليل مشاعل الكهرباء، فغدت نجوماً تومض على الأرض، وتتحدى السماء فتحار أيهما أجمل وأروع: تلك التي تحتك، أم هذه التي فوقك؟ وهذه البيوت المبثوثة هنا وهناك، لا هي بالقرى المتراصة ولا هي بالصوامع، المنعزلة، ترف عليها وحولها أغصان السنديان والصنوبر رفيفاً كأن يداً سحرية ترّوح عليها؛ وأخيراً هذه الحمائم البيضاء في عرض البحر تمد أجنحتها للريح تتلقى منه المدد، فتسير باسم الله مجراها ومرساها؟ أنسيت كل هذا لتسألني ماذا في لبنان من جمال وماذا أرى من فتنة؟ إلا يفتنك بالله هذا التعانق الشديد بين السماء والماء والغبراء، وهذه الألفة الفاتنة بين هذه العناصر حتى لكان هذا ما خلق إلا ليكمل ذاك، ولا ذاك إلا ليكمل هذا؟؟!
وبعد أن غمرت فتاتنا فتاها بهذا السيل الجارف من الأسئلة صمتت ترقب وتتأمل. وفتح
صاحبنا فاه. . أو تدري بماذا أجاب عن كل ذلك؟ قد تحسبه أضاف لوناً آخر إلى هذه اللوحة التي رسمها خيال فتاتنا بهذه السرعة الطائرة؟ لا! إن شيئاً من لم يحدث، إذ لم يزد صاحبنا أن قال:
هذه الجبال قد رأيت مثلها وأعلى منها في البرازيل. والأشجار - كذلك - في البرازيل لفةّ منداحة تكاد لا تدع لأحد منفذاً. والبحر رأيت أضعافاً سعته في طريق إلى أمريكا. والمطر كثيراً أيضاً في تلك البلاد. والباروك يعد (حنفية) ماء بالنسبة إلى الأمزون.
عندما كدت أنشق غيظاً، وهممت والله أن أتناول شيئاً واطرحه في وجه هذا الجلف الغليظ القلب، الذي لا يرى إلا أن يقيس الجمال بالأميال، ويكيله بالمكيال. وحاولت الفتاة محاولات يائسة أن تنبه من هذا الصخر مكامن الإحساس بالجمال، فكانت - كما يقولون - كالصاروخ في واد، وكالنافخ في رماد.
وأدركت أخيراً من الفتاة ومن فتاها: هي شعلة من الذكاء والثقافة العالية، والإحساس العميق بالحياة، والتفطن إلى همس الجمال بله صوته. أما هذا الذي يجالسها فهو من هؤلاء الذين ذهبوا إلى أمريكا ورجعوا خلواً من كل شيء، إلا المال، فتقدموا بهذا الطعم المغري، فاصطادوا خير الفتيات جمالا ًوعلماً وذكاءً.
وصاحبنا هذا - مع الأسف الشديد - ليس بالمثال النادر في الشرق ولا الشاذ، وإلا ما كنا نعني به ونغثى على القارئ الكريم بعرض صورته البغيضة، إنما هو يمثل لنا طغمة من الناس في شرقنا كثيرة كثرة مفزعة حقا، لا تتفتح نفوسهم على جمال ولا تنبسط لفتنة ولا تنشط لمتعة من متع الفن. يعيش الواحد من هؤلاء في بقعة ركم الجمال فيها ركماً، ولكنه يحيا - آن صح انه يحيا - ويموت، وكان هذا الجمال لا يعنيه بحال من الأحوال، وكأن هذه المفاتن لأناس من غير طينته، وفي عالم غير عالمه، وقد يصيب بعضهم من ينبه فيهم مراكز الجمال، والتفطن إلى مواطن الملاحة فتتبدل النفوس غير النفوس وتنقلب حياتهم انقلاباً شديداً، وتتفسح أمامهم متع الحياة إنفساحاً يمتد مداه على قدر ما تكشف لهم من مفاتن الطبيعة ومجالي الجمال، إلا أن السواد الأعظم منهم يظلون على جهودهم ونضوب أنفسهم مهما حاولت أن تثير فيهم مكامن الإحساس بالجمال، وتذوق الفن. وإذا رايتهم يستملحون أو يستظرفون فإنما يفعلونها من طرف لسان ومجاراة، خشية أن يرموا بتبلد الإحساس وعقم
العاطفة، ولسنا نعزو هذا إلى نقص طبيعي في الإحساس، ونضوب معين العاطفة في الشرقيين؛ إنما نعزوه متأكدين إلى نقص في التربية وتقصير في التوجيه. فمدارسنا قلما تعنى بتنبيه مواطن الإحساس بالجمال الصغار، وإذا فعلت ففي صورة سطحية ميكانيكية، وهو تقصير يدفع الشرقيون؛ اليوم ثمنه غالياً - يدفعون ثمنه ضعفاً في الوطنية، وجموداً عن التضحية. وهل ترجو خيراً ممن لا يرى في جبال بلاده ولا في سهولها، ولا في حزونها ولا في أنهارها، ولا في ينأ بيعها ولا في أشجارها، ولا في أطيارها، ولا في سمائها، ولا في مائها سحراً ولا فتنة يربطانه بها بعرى من الشوق والهيام لا تنفصم ولا نهى؟؟ هذا الأوربي إجمالاً، والإنكليزى على التخصيص، أنظر كيف ينقل ذكرى جباله وأنهاره، وقراه ودساكره، ووديانه وينأ بيعه ومدنه إلى أمريكا وأفريقيا وأستراليا وغيرها من قارات العالم؛ لم يستطيعوا أن ينقلوا هذه الأشياء العزيزة عليهم بالذات فتقلوا ذكراها المحبة، فظلت تربطهم بها رابطة من الشوق والهيام يؤكدها التذكير ويديمها النوى.
ولنعد إلى فتاتنا. فقد شاقني حقاً أن أتابع هذه الدراما الصغيرة إلى النهاية، أبت الفتاة إلا تطلعاً وإسرافاً في التطلع، برغم نصائح زوجها الغالية، فكأن حديثها السابق قد أذكى شعورها وفتح لها أفقاً أوسع للتفطن والاستشراف، وقد آلمني حقا ًأمر هذه الفتاة. فهي تشعر شعوراً عميقاً بهذا الجمال الغزير وتأبى إلا أن تشرك غيرها معها في هذا الشعور، وهي نزعة طبيعية ملحوظة في جميع الناس. فليس أحد يشعر بجمال الفن سواء أكان طبيعياً أم صناعياً. إلا يرغب أن يرى من يساهمه فيه الإحساس ويشاطره المتعة، ولعل المتع الفن هي المتع الوحيدة التي لا يحس بها ارهف الإحساس واحده، إلا إذا كان من يشاركه. فكان كثرة النازرين أو السامعين لآيات الفن، المرايا تتقابل خجول الصورة الأشباح وتزيد الصور.
ويئس صاحبنا من صرف الفتاة عما تريد من النظر التلفت، فراح يتلهى بالصغيرين ويناغيهما، وانتهى به الحديث معهما والمناغاة إلى صيغته بعينها جعلها لازمة حيثه وهي: يا بابا صباح الخير يا بابا وراح يرددها ويدهورها في حنجرته طوال الطريق. وخيل إلى أن الرجل لن يكف عن ترديدها ولو أمسى المساء، وضاقت به الزوجة الوديعة ذرعاً (وللصبر حد) وطلبت إليه متوسلة ان يكف عن الحديث، أو يغير هذه العبارة التي يوشك
أن يتبرم بها الصغيرين! وصمت قليلاً. فحيل إلينا إننا قد ارتحنا بهذا القليل من الجرأة من هذه القدر المقرقرة. غير انه ما عتم حتى عاد وكان عشرين ضفدعاً تنق في حلقه! ولعله خشى إذ صمت أن نحسبه ذل وخنس. فضاعف الصخب وزاد الجلب. وقلت: ليتك يا فتاتي لم تحاولي إسكاته، فقد زدته ضرامًا على ضرماً. على انه لم يمض حتى فاجأه أحد الصغيرين بقي شديد ملا صدره واحد يسيل إلى اسفل، وهنا عبس الأب وانقطع عن المناغاة، واضطر أن يشتغل بإماطة ما علق بصدره من هذا السائل المبارك، وقلت في نفسي: عوفيت معدة يا صغيري؛ فقد أبرأت سقمنا، وجازيته جزاء وفاقا، وليت معدتك أوسع قليلاً فقد نحتاج إليها مرة أخرى.
وبلغت السيارة دمشق. وغادرتها وفي القلب ما فيه من غصة وألم بهذا الدهر الأهوج الذي يجمع بين الإنسان وشبه الإنسان.
أديب عباسي
في الأدب الدرامي
10 -
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
الملهاة في خلال القرون
أول ما نال الملهاة الإغريقية من العناية كان في صقلية. وكانت يومئذ مقصورة على تصوير العادات العامة دون تلميح إلى السياسة. وكان عميدها في هذا القطر أبيكارم (450ق م) فأما انتقلت إلى أثينا تقلب بها الزمن. فمر بها على أدوار ثلاثة: دور الملهاة القديمة، دور الملهاة الوسطى، ودور الملهاة الحديثة. فالقديمة تمتاز بكثرة النقد الشخصي الصريح، فتسمى الأشخاص وتعين الحوادث. وكانت تسمد موضوعاتها من الواقع اليومية. وتتمتع بالحرية المطلقة في مهاجمة العظماء. والوسطى ظلت كتلك تهاجم أشخاصاً معينين، ولكنها عفت عن ذكر أسمائهم، وأخذت تمثل أنماطاً من الناس وصوراً من الأخلاق، وأما الحديثة فلم تطلب الجاذبية والتشويق في الحوادث اليومية والأهاجي الشخصية، وإنما طلبتهما في تعقيد العمل الروائي، وتصوير الأخلاق العامة. واشهر من عالج الملهاة القديمة أرسطفان (450 - 387 ق. م) وقد كان معروفاً بصفاء الأسلوب، ومرارة الهزل، وشدة الوطنية. غير ان مناظره كانت خليعة فاحشة. أما الملهاة الوسطى والحديثة فلم يؤثر منهما غير قطع منثورة مشتتة، حتى سنة 1907م، فعثروا على ملهاة تكاد تكون كاملة، وهي ملهاة التحكيم لميناندر.
وكان للملهاة عند الرومان من العناية والحظ ما لم يكن للمأساة، فقد نبغ فيها كثير منهم أشهرهم (بلوت 227 - 183ق. م) وقد سار على نهج أبيكارم، إلا أنه عرف بسرعة العمل الروائي، ونشاط الحوار، دون تصوير للمادة، ولا تحقيق للخلق. ثم (تيرانس)(192 - 159ق. م)، وقد قلد منيناندر، في هزله بالحرارة والأناقة والأدب وتنويع الأخلاق والصدق في وصفها.
ثم هجرت الملهاة في القرون الوسطى، وخلفتها في الشهرة والذيوع الرواية الرمزية الخلقية والملهاة العامية والأحموقة فلم يدب فيها دبيب الحياة إلا في القرن السادس عشر. فعادت
إلى الظهور في ثوب الملاهي الإغريقية والرومانية، غير أنها كانت مصبوغة باللون الحديث، مطبوعة بالطابع الفرنسي. ومازالت الملهاة تتردد بين الكساد والنفوق، وتترجح بين الهبوط والصعود، حتى جاءها موليير (1622 - 1673) فأقرها في نصابها، وشرع السبيل إلى كتابتها، وطبعها بطابع الملاحظة القومية والحرارة القلبية والذوق السليم. وقد عالج موليير أنواع الملهاة المختلفة بالنظم والنثر: فلهو غير الملاهي المجونية والاشكالية، ملاهي اجتماعية: كالمتحذلقات السخيفات، والنساء العوالم، والحضري الشريف؛ وملاه خلقية: كترتوف، دون جوان، والمتوحش، والبخيل.
كان موليير يتناول العيب أو الحمق وهو في عنفوانه، فيصور منه مناظر طبيعية صادقة، ثم ينتهي من هذا التصوير ببيان عواقبه الوبيلة على صاحبه وعلى المتصلين به فتصوير العيوب هو أكثر ما في ملاهي موليير. أما التعقيد الروائي فهو ضعيف، والحل في جملته يعوزه الإمكان والمنطق، إذ ليس نتيجة طبيعية لحوادث العمل. ثم ذهب موليير وأعقبه رنيار (1655 - 1709) فكتب طائفة من الملاهي الإشكالية كالمقامر والذاهل، ولكن أخلاق أشخاصه ليست محددة الرسوم، وإنما ملئها بالنكات المضحكة، حتى قال فيه (جوبير)(رنيار يهزل هزل الخدم، وموليير يمزح مزاح السادة) ومر القرن السابع عشر، ولم يشتهر في الملهاة غير هذين الكاتبين. ولما جاء القرن الثامن عشر ظهرت فيه طائفة من الملاهي الجيدة. كملهاة تركاريه أو المالي، الكاتب لساج (1698 - 1747) فضح بها حديثي النعمة من المثرين، وحلاق اشبيلية، وزواج الفيجارو لبومارئيه (1732 - 1799) وهما ملهاتان قويتان إلا أنهما لم تراعيا حقوق الأسرة. ثم المسارات الباطلة، والوصية، والتجربة، لمارسيفو (1688 - 1763) وهي ملاهي عني فيها كاتبها بتفصيل الدلال، وتحليل الحب، دون العناية بتصوير الأخلاق ووصف العادات. ثم أشتهرالقرن التاسع عشر بنخبه من الملاهي القيمة لطائفة من نوابغ الكتاب. كبيار (1769 - 1828)، وسكريب (1791 - 1861)، ولأبيش (1815 - 1888)، واوجيه (1820 - 1889)، وأسكندر دوماس الصغير (1824 - 1896)، وفيكتوريان ساردو (1831 - 1908). وقد كان النوع الغالب على هؤلاء الكتاب هو الملهاة الاجتماعية مشوبة بالمذهب الطبيعي، فقد أخذ أوجييه ودوماس يقللان فيها من تعقيد أسكريب وجاء هنري بيك (1837 - 1899)
مؤلف (الغربان) فمحا التعقيد وتوخى بساطة العمل وسذاجة الأسلوب. ثم أنقلب المذهب الطبيعي من هؤلاء إلى مذهب المسرح الحر، وهو مذهب سطحي الفكرة خامد الحركة، يهزأ بالقواعد المسرحية، ولا بتقيد بالعمل الروائي، وغنما يكتفي بتكثير المناظر المضحكة، وتصريف الحوار في مختلف النكات المستطرفة الحديثة. ولم يدم هذا المذهب الخليع إلا قليلاً، ثم أودى به إسرافه وتهوره. وظلت الملهاة الاجتماعية أو الجدية أو المبكية تسير مع الزمن، وتتطور مع أهله ونظمه، حتى حلت محل الدراسة الابتداعية وأصبحت اليوم موضوع المسرح الحديث كما سنبينه عند الكلام في الدراسة.
تلك حال الملهاة في فرنسا. أما حالها في إيطاليا فقد ظلت خافتة الصوت ضعيفة الأثر قليلة النجاح حتى القرن الثامن عشر. فما كان يظهر منها قبل ذلك العهد إلا نوع غير مسطور، يرتجله الممثلون تبعاً لخطة مرسومة من قبل. فلما نبغ الكاتب (جولوديني)(1707 - 1793) وهو عند الإيطاليين كموليير عند الفرنسيين، أسس قواعد الملهاة ونهج سبيلها لبنى قومه: وأما في أسبانيا فملهاتها الوطنية كانت ملهاة المعطف والسيف وهي نوع من الرواية المنزلية، بطلها دعي من أدعياء الشجاعة الذين يسمونهم ماتامور (أي قاتل العرب) لأن الرجل من هؤلاء كان يملأ ماضغيه فخراً بكثرة ما قتل من العرب كذباً وادعاء وكانت عنايتهم في هذا النوع لتعقيد الحوادث أشد من عنايتهم بتصوير الأخلاق. وأشهر تلك الملاهي: الطاحون، وكلب البستاني، للوبي دي فيجا (1562 - 1635)؛ وساخراً أشبيلة، ونديم بطرس، لجبريل تلز؛ والحقيقة المريبة لرويز دالر كون (1639) وهي التي أستمد منها موليير أخلاق ملهاة (الكذب).
وأما في إنجلترا فلم بنبغ في الملهاة غير شكسبير (1564 - 1616) فقد كتب: (ثرثارات وندسون الفرحات)، وجعجعة ولا طحن وتيمون الخ، وهذا كل ما تجده من الملهاة الأصيلة في الأدب الإنجليزي.
أما غيره فقدا أكتفى باقتباس الملاهي الفرنسية أو تقليدها. وأما في ألمانيا فلم ينفق فيها غير الملهاة العامية في العاب (المرفع)، وهو نوع من التمثيل المضحك البذيء. أما الملهاة الأدبية فلم يؤثر عن الألمان منها إلا شيء قليل القيمة عديم الأثر، على رغم كوتزبيو وأمرمان، وبلوم، وبينديكس، وهكلندر من الفوز.
تحليل موجز لأشهر ملاهي موليير
كانت الملهاة قبل موليير تعتمد على قوة المواقف بدلاً من تصوير العواطف، وعلى المضحكات الخيالية بدلاً من المضحكات الطبيعية، وعلى أسماء الأشخاص، وعلى العمل الخارق المستحيل بدلاً من العمل الواقعي الممكن. فكانت خليطاً مهما من الأسماء، ومكارم ساقطة من السماء، عفواً في موضع الانتقام، ومزيجاً غريباُ من التقاليد الإغريقية والرومانية والأسبانية والإيطالية. فجاء الملهاة الفنية الحقيقة لجميع العالم، ولذلك نكتفي بان نحلل بعض ملاهيه نموذجاً لبناء الملهاة، وتقسيم فصولها، وتدبير عملها، وتدريج جاذبيتها.
صورة لرجل طريم غالي في الصراحة والتشدد حتى كان موضع الهزء والسخرية، وهي من الملاهي الخلقية التي لا وجود للعمل الروائي فيها. أهم أشخاصها: ألست المتوحش، وهو خطيب سليمين، وفيلنت صديق ألست، وهو رجل لطيف المعاشر، إلا انه مفرط المزاح، وسليمين فتاة أرملة تسعى إلى الإعجاب من طريق الزهو والصلف، وأورنت حبيب آخر لسليمين، وليانت بنت عم سيليمن، وآكاست وكلتياندر مركيزان، وارسيونية صديقة سليمين. وقد وقعت حوادثها في باريس في قصر سليمين.
الفصل الأول:
السست وصديقه فيلنت في قصر سيلمين ينتظران خروجهما عليهما، وفي أثناء، ذلك يؤنب ألست صديقة فيلنت على أنه لقي رجلاً في عرض الشارع لا يكاد يعرفه، فبالغ تحيته وإكرامه. فهو يقول له: إن مثل هذا العمل لا يزكو بالحر ولا يتسع له العذر. فيلنت يجيبه في مداعبة ورفق: إن المرء مادام في الناس مقضى عليه أن يسايرهم بالمصانعة، وبعاشرهم بالموادعة، والحياة تحب التظرف، والعقل يكره التطرف. ولكن الست مسرف في بغض الناس فلا يستمع له، حتى أن له قضية منظورة في المحكمة لا يفكر فيها ولا يشغل باله بها إعتماداً على ظهور حقه، بل يتمنى أن يخسرها لتهيئ له أسباب السخط والحفيظة على ظلم الإنسان. على انه بالغرم من انقباضه واستحياشه يحب الفتاة أرملة تدعى سليمين، ولكنه يعترف بدلالها وخلاعتها، وبأسف لأنها تستقبل في بيتها كثيراُ من الخطاب والأحباب، وهو لذلك يريد أن يستطلع رأيها في الموضوع. ويدخل على الصديقين
في الساعة أورنت - وهو خطيب آخر لسليمين مولع بقرض الشعر - فينتظر معهما. وهو أثناء ذلك يرجو منهما أن ينشدهما قصيدة من نظمه، فيستحسنهما فيلنت ويستهجنها ألست، ولكنه يمسك على ما في نفسه منها، ثم يلمح بما فيها من المآخذ، وينتهي به الأمر إلى التصريح بأنها سخيفة ركيكة، فيخرج الشاعر غضبان بتوعد. ويقول فيلنت لصديقه وهو يحاوره: هاك خصومة جديدة جلبتها على نفسك بإفراطك في الصدق وغلوك في الصراحة.
الفصل الثاني:
(بهو سليمين والغيبة). يلقى الست سليمين فيلومها على خلاعتها، ويريدها ان تصرح له بحقيقة حبها ورغبته قلبها، فينقطع عليها الحديث قدوم (آكاست) و (كليتاندر)، ثم (اليانت) و (فلينت) فيأخذون مجالسهم، ويخوضون في أعراض الناس، وتجيد سليمين وصف النفوس اللئيمة، فيعجبون بها ويصفقون لها ولكن الست ينكر ذلك منها، ولا يجرؤ على مجابهتها بالإنكار، فتنفجر مراجل غضبه على المراكيز لتصويبهم رأيها. فإذا ما تساير الغضب عن وجهه عاد إلى سليمين يسألها ان تعلن من اختارته من الخطاب، ولكن شرطياً يقتحم الباب فجأة ويدعوه إلى المحكمة للفصل في الخصومة التي بينه وبين أورنت.
الفصل الثالث:
(خبث الرياء وعبث الدلال) كذلك المركيزان آكاست وكليتاندر يريدام سليمين على أن تعلن من اختارته منهما، وتقبل (ارسيونيه) صديقة سليمين فيخرج المركيزان وتختلى الصديقتان فتتبادلان السباب في أسلوب المناصحة: تحكى أرسيونيه لسليمين في لهجة مرة ما يرميان به الناس في الأندية والمجامع من الخلاعة والتهتك؛ وتحكى سليمين لأرسيونية ما بتقوله الناس عليها من المراءاة بالحشمة وهي داعرة. ويدخل عليهما ألست فتخرج سليمين لتكتب رسالة وتتركه مع أرسيونيه فتنتهز هذه الفرصة لإيعاز صدر ألست على سليمين فتريه أنه مخدوع وأنها خادعة، وتعده أن تقيم له على خيانتها إياه الدليل.
الفصل الرابع:
(رسالة سليمين) يأتى فيلنت فيعلن أن الخصومة بين ألست وأورنت قد انتهت بالصلح، ويدخل من بعده ألست وهو ينتفض من الغضب، وفي يده كتاب غرام من سليمين إلى
أورنت جاءته به أرسيونيه دليلاً على خيانة خطيبته فيقول: آه! لقد خاب الرجاء، وضاع الأمل، وظهرت الخديعة، وبان الغدر؟ فتترضاه سليمين بالدهاء، وتفثأ غضبه بالملاطفة، ويجري بينهما الحديث، ولكن خادمه يأتي مسرعاً إليه ينبهه إلى أن شرطياً جاء يقبض عليه في خصومة.
الفصل الخامس:
(المقاطعة) يخسر ألسست قضيته التي أهملها فينحى باللوم والسخط على فساد الحياة ولؤم الناس، ويعثر أكاست وكليتاندا على رسائل لسليمين فيقرآنها على ألسست ويستيقنون جميعاً بأنها تخونهم وتخدعهم وينصرف عنها المركيزان ويبقى ألسست مقيداً بسلاسل هواهها، فيعدها بالعفو عن ما سلف إذا رضيته زوجاً وعاشت معه في خلوة الريف، فترفض طلبه. فييأس المستوحش ويعتزل الناس وهو يقول:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القلى متعزل
ملحوظات عن الرواية:
الفصل الأول أية من آيات الفن، فقد عرض فيه المؤلف في حوار قوي على لسان فيلنت وألسست أسماء الأشخاص الأصليين وأخلاقهم وذكر غضب ألسست وغرامه، وبرودة قلب فيلنت، وخلاعة سليمين، واخلاص اليانت، ورياء أرسيونيه الخ.
أما التعقيد فيؤخذ عليه ضعفه وبطؤه، إلا أن العمل كاف وبسط الأخلاق متدرج. والحل يعيبه بعض النقاد بالنقص من غير حق. فإن سيليمين جوزيت على خلاعتها وخبها بأن هجرها خطابها جميعاً. والسست أعتزل العالم، والمركيزان ذهبا يعرضان زهوهما الأجوف في مكان آخر، وفيلنت واليانت يستعدان لحفلة الزفاف.
يتبع
(الزيات)
في المعلقات أيضا
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
. . . . . ولابد من المضي في تكميل رأينا في المعلقات أن نعود إلى الكلام على مذاهب علماء الأدب، قدمائهم ومحدثهم في تسميتهم، فان الذي يراه أبو جعفر النحاس ليس كما ذكرناه في (الرسالة) وذكره غيرنا قبلنا فتأثرنا به، إن هذه القصائد سميت باسم المعلقات من قول الملك (علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي) فيكون أبو جعفر على هذا مشاركا لغيره من القدماء في قدم هذه التسمية، ولا يخالفهم إلا في توجيههم لها بأنها مأخوذة من تعليقها على الكعبة. ويذهب علماء العربية الأوربيون بفضل الرأي الراجح ألان في هذه التسمية، أنها حديثة مصنوعة في عصر التدوين أو قبله بقليل، وأنا ننقل هنا كلام أبي جعفر في ذلك لنرى مذهبه حقيقة فيه.
قال في افتتاح شرحه للقصائد السبع: (الذي جرى عليه أمر أكثر أهل اللغة في تفسير غريب الشعر، إغفال لطيف ما فيه من النحو، فاختصرت غريب القصائد السبع المشهورة، وأتبعت ذلك ما فيها من النحو، ولم اكثر الشواهد ولا انساب، ليخف حفظ ذلك ان شاء الله تعالى).
وقال في آخر شرحه لها: (فهذه القصيدة آخر السبع المشهورات، واختلفوا في جمع القصائد السبع، فقيل العرب كان أكثرهم يجتمع بعكاظ ويتناشدون، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها وأثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال إنها علقت في الكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة، وأصح ما قيل إن حمادا الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضهم عليها، وقال لهم هذه المشهورات، فسميت القصائد المشهورة لهذا).
فهذا صريح في أن أبا جعفر لا يرى في المعلقات أيضا رأي من يذهب إلى تسميتها بذلك مأخوذة من قول الملك (علقوا لنا هذه) وإن كان يراه ارجح من رأى من يرى ان تسميتها بذلك مأخوذة من تعليقهم لها بالكعبة، فكلا الرأيين عنده مبني على ان هذه القصائد كانت مجموعة قبل جمع حماد لها، فكانت معروفة عندهم بهذا الاسم (المعلقات) أو غيره إن كان لها اسم غيره، لأن جمعها هو الذي يجعل لها وجوداً خاصاً تحتاج أن تتميز فيه إلى اسم من الأسماء.
وأبو جعفر ينكر جمع هذه القصائد قبل جمع حماد لها، فهو عنده هو الذي جمعها، لما رأى زهد الناس في الشعر، فجمعها لهم من الشعر القديم، وحضهم عليها، وهذا الرأي آخر عند أبي جعفر غير ذينك الرأيين، وقد رآه أصح ما قيل في هذه القصائد فهناك لقدمائنا إذن في هذه القصائد ثلاثة آراء لا رأيان، وأصح هذه الآراء الثلاثة عند أبى جعفر أن هذه القصائد لم يكن بعضها يمت إلى بعض قبل جمع حماد لها، بل كانت مغمورة في الشعر العربي الجاهلي مثل غيرها من القصائد الجأهلية، ولم تكن تمتاز عليها باسم يجمعها من اسم المعلقات أو غيره، فلما جمعها حماد للناس قال لهم هذه المشهورات، فسميت القصائد المشهورة لهذا، وهو الاسم الذي ذكرها به أبو جعفر في افتتاح شرحه لها وفي آخره أيضاً. ولا شك أن تحاشيه ذكرها باسم المعلقات كما يسميها غيره ويوجهه بأحد ذنيك التوجيهيين دليل على انه لا يرى صحة تلك التسمية مستحدثة مصنوعة بعد الإسلام، وبعد جمع حماد لها، وهذا هو الذي ننسبه ألان ألي علمائنا الأوربيين ليذهبوا بفضله، وينسى فيه فضل أبي جعفر رحمه الله.
هذا وقد رأيت فيما رجعت إليه قبل كتابة هذا المقال من شروح المعلقات، وقد تعلقت نفسي باستقصائها حتى يجئ بحثي وافياً فيها من تلك الناحية، رأيت ما يتفق مع رأيي في المعلقات في مقدمة الطبعة المنيرية لشرح الخطيب التبريزي على المعلقات العشر، إذ جاء فيها:(وذهب فريق إلى ان وجه تسميتها بالمعلقات علقوها بأذهان صغارهم وكبارهم ومرءوسيهم ورؤسائهم، وذلك لشدة اعتنائهم بها) وهذا قريب من رأيي في المعلقات، وهو من عجائب توارد الخواطر، ولكنه في تلك المقدمة هل يذهب من يرى هذا في المعلقات إلى أن تلك التسمية على توجيهه قديمة أو مصنوعة، والظاهر انه يراها قديمة، وهو خلاف ما نراه فيها على توجيهنا لها.
وقد جمعت هذه القصائد السبع بعد جمع حماد لها جمعاً آخر مع قصائد أخرى يبلغ جميعها تسعاً وأربعين قصيدة، قال عنها المفضل الضبي إنها عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وانفس شعر كل رجل منهم، وهي التي جمعها أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي في كتابه جمهرة أشعار العرب.
ويخالف المفضل حماداً في أصحاب هذه القصائد السبع، فهم عند حماد: أمرؤ القيس،
وطرفة، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة. وهم عند المفضل: أمرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. وقد تبع المفضل في هذا أبا عبيدة، وقال عن الشعراء السبعة:(هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط، فمن قال أن السبع لغيرهم فقد خالف ما اجمع عليه أهل العلم والمعرفة). ثم ذكر بعد هذا السبع المجمهرات، والسبع المنتقيات، والسبع المذهبات. والسبع المرائي، والسبع المشوبات، والسبع الملحمات.
وإذا كان المفضل يخالف حماداً في هذا فهو يوافقه في انه لم يرد فيما رواه أبو زيد القشرشي عنه تسمية هذه القصائد السبع بالمعلقات، ولم يذكر إلا أن العرب تسميها السموط، فإذا كان يعني الأقدمين فهي تسمية جاهلية، وإذا كان يعني العرب في عصره فهي تسميه إسلامية. وقد كانت العرب قبل الإسلام تطلق هذا اللفظ على غير هذه القصائد السبع، ومن ذلك ما رووا إن علقمة الفحل كان يأتي مكة فيعرض شعره على قريش، وكانت العرب تعرض شعره على قريش، وكانت العرب تعرض أشعارها عليهم، فما قبلوا منها كان مقبولا، وما ردوا كان مردودا، فاتاهم مرة فعرض عليهم قصيدته:
هل ما علمتَ وما استُودعت مكتومُ
…
أم حبلُها إذ نأتْك اليومَ مصرومُ.
فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم قصيدته في مدح الحارث الغساني، وكان اسر أخاه شاساً فرحل إليه يطلبه:
طَحا بك قلب في الحسان طَروب
…
بُعيْد الشباب عصر حان مشيبُ
فقالوا هاتان سمطا الدهر
ويمكننا بعد هذا أن نجزم بأن اسم السموط كان يطلق عند العرب على قصائد غير هذه القصائد السبع، ولا يدل ما ذكره المفضل على حصر هذه التسمية (السموط) في هذه القصائد السبع، وإنما معناه أنها كانت تسميتها السموط فيما كانت تسميه بذلك من قصائدها، فلا يدل ذلك على إنها كانت مجموعة متميزة عند العرب بهذا الاسم قبل جمع حماد لها، بل يتفق هذا أيضاً مع ما رجحه أبو جعفر النحاس من أن حماداً هو الذي جمعها، ولا يخالفه في شئ من المخالفة.
هذا وقد كانت وفاة حماد الراوية سنة 155 هـ، ووفاة المفضل الضبي سنة 168 هـ،
ووفاة أبي زيد القرشي صاحب الجمهرة سنة 170هـ، فنستطيع مع هذا أن نحكم بان هذه القصائد السبع ما كانت تعرف باسم المعلقات إلى سنة 170هـ، وإنما كانت تسمى القصائد المشهورة آخذاً من قول حماد فيها بعد جمعها هذه القصائد المشهورة، وكان يقال السموط كما كان يقال لبعض قصائد أخرى، فلم يكن اسماً خاصاً بها، وقد سماها المفضل السبع الطوال فيما نقله أبو زيد في الجمهرة عنه.
وقد نقبنا في المقدمة التي ذكرها أبو زيد في جمهرته قبل القصائد السابقة التي أوردها فيها، فلم نجد فيها ما يمكن أن يؤخذ منه أن السبع الأولى كانت تسمى في عصره باسم المعلقات. وكان الواجب على طابعي الجمهرة أن يلاحظوا ذلك فلا يضعوها تحت اسم المعلقات، ولا يذكر قصيدة امرئ القيس (قفيناك) تحت اسم معلقة امرئ القيس، ولا قصيدة زهير (أمن أم أوفى دمنة لم تكلم) تحت اسم معلقة زهير، وهكذا في باقي السبع، وهو خطأ ضاهر، وتسمية لهذه القصائد بما لم يسمها به صاحبه الجمهرة، فان كان هذا في الأصل الذي طبعوا منه فهو خطأ من ناسخه قطعاً. ولعلنا نظفر بعد هذا بأول من سماها باسم المعلقات في الزمن الذي بين زيد القرشي وأبي جعفر النحاس وهو الذي أورد فيها ما نقلناه عنه من ذلك الخلاف.
عبد المتعال الصعيدي
من طرائف الشعر
شوقيتان لم تنشرا
1 -
قصيدة لم تتم للمرحوم شوقي بك في (سعد) والثورة
يا شبابُ اقتدوا بشيخ المعالي
…
فالمعالي تَشَبُّهٌٌ وتحدي
هو لو لم يكن له من الفضل إلا
…
هذه كان غايةَ الفضل عندي
قد تصدّى لنائبات حقوق
…
غيرُ سهلٍ لمثلهن التصدّي
حزَنَتْه بلادُه وهي صَيْدٌ
…
بين نابَيْ مُظّفَّر الناب وَرْد
أمَّةٌ من غرائب النصر نَشْوَى
…
تَسلُبُ المُلْكَ مَنْ تشاء وتُسدى
أخْرَستْ أفصحَ القياصر سيفاً
…
بأساطيلَ في الخصومة لُدِّ
جاءها سعد شاهرَ الحق يدعو
…
سيفها المنتضَى لُخِطَّة رُشد
أعْزَلَ المنكبْين إلا من الحق
…
ومن حجة كنَصْل الفِرِنْدِ
خاطبَ النارَ وهي في شَفَة المِدْ
…
فع والسيفَ وهو في غير غمد
غَمْرةٌ يُشفق الضياغِمُ منها
…
خاضها لم يَهَبْ عواقب وِرْد
فنَفوْا فانتفى فصادف حظاً
…
حبذا الجِدُّ ان أعينَ بِجَدّ
وإذا مصرُ كاللبوءِةِ غَضْبى
…
لابنِها تبذُل الدماء وتفدى
2 -
قصيدة أخرى للمرحوم لم تتم في (موليير) الشاعر
الفرنسي
. . وأن (مُولْيير) نجمٌ لا أُفولَ له
…
وان تغيِّب في الأحقاب واحتجبا
شريعة من بيان الغرب صافية
…
وان يك الشرق أحياناً بها شربا
وآيةُ الأدب الروميّ في لغة
…
لم تخل من سرها عجماً ولا عرباً
لو استطاع ذووها من عنايتهم
…
بنشرها علّموها الجنَّ والشهبا
فاحفظ لسانك وأجهدْ في صيانته
…
كما يصون الكريمُ العرضَ والحسبا
كأنما كانت الدنيا على يده
…
يصورّ الناس عنها كلما كتبا
إذا مضى يعرض الأخلاق عارية
…
أراك من كل نفس صورةُ عَجَبا
يأتي النفوس فينضو عن طبائعها
…
ستراً ويهتك عن أهوائها الحجبا
فربما ازددتَ علماً بالبخيل وإن
…
نشأت تلقاه جَدَّاً أو تراه أبا
وقد يزيدك بالكذاب معرفةً
…
وأنت تُضحى وتُمْسِى تسمع الكَذِبا
وقد يريك أخا الوجهْين منكشفاً
…
وأنت تلقاه في الإخوان منتقبا
ومن جيد ما نشره المرحوم من الشوقيات قوله يعتب على بني وطنه اختلافهم وتنازعهم:
وأين الفوز لا مصر استقرت
…
على حال ولا السودان داما
وأين ذهبتمو بالحق لما
…
ركبتم في قضيته الظلاما
لقد صارت لكم حكماً وغماً
…
وكان شعارها الموت الزؤاما
شببتم بينكم في القطر ناراً
…
على محتله كانت سلاما
إذا ما راضها بالعقل قوم
…
أجد لها هوى قوم ضراما
تراميتم فقال الناس قوم
…
إلى الخذلان أمرهمو ترامى
وكانت مصر أول من أصبتم
…
فلم تحص الجراح ولا الكلاما
إذا كان الرماة رماة سوء
…
احلوا غير مرماها السهاما
وقال يوجه الخطاب إلى توت عنخ آمون عقب كشف قبره:
قل لي: أحين بدى الشرى
…
لك هل جزعت على العرين؟
آنست ملكاً ليس بالشا
…
كي السلاح ولا الحصين
البر مغلوب القنا
…
والبحر مسلوب السفين
لما نظرت إلى الديا
…
ر صدفت بالقلب الحزين
لم تلق حولك غير (كر
…
تر) والنطاسيَّ المعين
أقبلت من حجب الجلا
…
ل على قبيل معرضين
تاج الحضارة حين أشر
…
ق لم يجدهم حافلين
والله يعلم لم يرو
…
هـ من قرون أربعين
حصن طارق
للأستاذ فخري أبو السعود
أقام على شط الجزيرة مفرداً
…
ورانت عليه وحشة وسكون
على الصخرة الصماء يصخب دونه
…
من اليم لج زاخرٌ ومُتُون
مُضِبٌّ، يجيش الشرق والغرب حوله
…
صَمُوتٌ على كرِّ العصور مبين
به صَدْفَةٌ عَمَّا يَرَى في زمانه
…
وفيه إلى ماضي الزمان حنين
تغيرتِ الدنيا، وبادَ قَبِيلُهُ
…
وغيَّرَهُ دَهرٌ مضى وقُرُون
وقَطَّبَ لَمَّا أَنْكَرَ العَصْرَ حوله
…
وسارت بما لا يشتهيه شؤون
وأَنْكَرَ خيلاً حوله وأعاجماً
…
تقرُّ لهم تلك الرُّبى وتَدينُ
تَدِين لرئبالٍ بكل مفازةٍ
…
له في أقاصي العالمين عَرين
تَعَطَّلَ مِن بَعد اعتصامٍ ومَنعة
…
أسيرٌ بأيدي الغالِبين رَهين
وكان يصون القومَ فارتَدَّ أعزلاً
…
وأصبحَ حتى النَّفْسَ ليس يَصون
إذا لم تكنِ همَّاتُ قومٍ حصونَهم
…
تداعتْ وراسٍ دونهم وحصون
حَوَتْ منِ تلاد المجد صخرةُ طارقٍ
…
على الدَّهر مالا يحتويه رَقينُ
تعالتْ بها، الله أكْبَرُ، مَرَّةً
…
فمادتْ سهولٌ دونَها وحُزُون
وسالتْ شعابٌ بالصوارم والقنا
…
وأُحرق خلف الفاتحين سفين
وقامتْ بأطرف الجزيرة دولةٌ
…
وأزهَرَ عِرفانٌ وأشرق دين
جَلا أمسِ عنها آلهاً، وبَنُوهُمُ
…
عَلَى الضَّفَّةِ الأخرى الغَدَاة قَطِين
فَمنْ لي بمن يُنبي الجدودَ بأَنَّنا
…
وقد عزَّ عُبدانُ الجُدود نهون؟
وأَنَّا إذا اعْتَمْنَا رُسُوم عَلائهم
…
تناهبتِ القلبَ الحسيرَ شجون
خشعتُ وعادتْني لدى حصن طارق
…
همومي وابْتَلَّتْ لديه جفونُ
لشعبٍ يُسيغ الذلّ مٍن بَعد ماسَمَا
…
له في الورى مُلك أشَمُّ مكِين
القاهرة
فخري أبو السعود
الوحيد المريض
محمد خورشيد
سالَ ذَوْبُ الفؤاد في أَنَّاتِهْ
…
وتَلاشى بُكاهُ في آهَاتِهْ
ساكِنُ الطّرفِ لا يرفُّ لهُ جَفنٌ
…
ولا يعزفُ الضَّنَى عن أَذَاتِهُ
واجفُ الصدرِ، شاحب الوجه خُطَّت
…
نفثاتُ الأسى على قسماتِه
كادت الروح تستحيل أريجاً
…
تتملّى الجِنانُ من نَفَخاتِه
وظلامُ المنون مَدَّ رواقَيْهِ
…
ليطوِى في الليلِ فجرَ حياتِه
وأبُوهُ المرور ضَمَّ إلى الصد
…
ر فتاهُ ليفتديهِ بذاتِه
حابساً ما استطاع أنفاسَ صدرٍ
…
شَبَّ جمرُ اللأواءِ في جَنَباته
ولو استطاعَ اسكت القلبَ حتى
…
لا يَضِجَّ الصغيرُ من خفقاتِه
كلما أرسل ابنه زفراتٍ
…
كاللظى خالَها صدى زفراته
كلما أسبل الدموعَ فتاهُ
…
كالآلى تَشِفُّ عن حسراته
ظنَ وجهَ الفطيمِ أصبحَ مرآ
…
ةً أرتهُ المدرارَ من عَبَرَاته
باتَ قلبي طيَّ الضلوعِ سجلاً
…
لجَنَانِ الوحيدِ في نبضاته
أن هفا مسرعاً حكاه ابنُ جَنْبِي
…
أو تأنَّي شاكلتُهُ في أنَاتِه
وضميري ناجَي الحبيبَ فأصغَى
…
وهو رهنُ الضَّنَى إلى همساته
قد حُرمتُ السُّباتَ والدَّاء يقظ
…
انُ يُوالي مُسَدِّداً رَمَياته
حارَ إذا عادنا الطبيبُ ولمَّا
…
يدرِ أيَّا يَطبُّه بأدائه
أ (نزاراً) وقد ذَوتْ مُقلتاهُ
…
أم أباهُ والرُّوح قُربَ لَهاتِه
أن سُقمَ الأبناءِ أقسَمَ إلا
…
أَن يكونَ الآباء مرمى تِراتِه
يا رسولَ الردى أماناً فهذا
…
قد عقدنا المُنى على بسماتِه
أن أردتَ الفداَء دونك روحي
…
تلكَ عند الشبابِ أغلى هِباتَه
يَرِثُ التاجَ أولياء العُهودِ الصِّيدُ
…
والمجدُ مُوقِعٌ نغماتِه
فاعفُ عنّي، وليَّ عهدي، لأني
…
خِفتُ دهري فكنتُ من أقواتِه
لم أُورِّثكَ غيرَ شعرٍ شجىٍ
…
سال ماءُ الفؤاد من أبياتِه
أصبحَ البؤسُ تَوْأَمَ الشعرِ عندي
…
يزدهيني بندبهِ وشَكاتهِ
إنّ وحيَ الأسى المروِّعِ يحبو الشاعِرَ
…
الفذَّ مُجتَبى خَطَرَاتِه
القدس
محمد خورشيد
توماس كارليل 1795 - 1881م
بقلم عبد الكريم الناصري
- 1 -
(العبقرية الحق، هي التي تعمل ولا تشبع، وتجد في الألم لذة، وفي الموت من أجل العمل حياة، ولا تحسب يوماً أنها وجدت ما تنشده وتصبو إليه!. .)
(العبقرية الحق، هي التي تخلق وتنشئ، وتنظر دائماً إلى الممكن والى المستقبل؛ هي باذرة بذور الخير والحب والطيبة والجمال في الوجود، والطامحة دائماً إلى ألحسن، والآخذة بالناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية إلى الحرية. ويخلد العبقري بقدر ما تترك رسالته من أثر على وجه البسيطة؛ فكلما كانت رسالة العبقري إنسانية، كالإعجاب بها شديداً والثناء عليها قوياً.)
ولد توماس كارليل في قرية (اكلفكان) - بأقليم أناندال - بجنوبي اسكوتلندة، في تشرين سنة 1795. وكان أبوه بنّاء، وهو الذي بنى البيت الذي ولد فيه ابنه؛ وكان صلب الرأي، ميَّالاً إلى الجد والعمل. أما أمُّه فكانت امرأة صالحة حنوناً طيبة القلب. أدخله والده - أول الأمر - في مدرسة القرية، فتلقى فيها مبادئ العلوم، ثم في مدرسة قرية (نان). ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره دخل جامعة ادنبرج. وفي سنة 1814 عينّ مدرساً للرياضة بمدرسة أمان. وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره. ولم تمض عليه ثلاث سنواتٍ حتى صار رئيس مدرسةٍ ببلدة (كركالدي).
وفي سنة 1818 ترك حرفة التعليم متبرماً بها، ساخطاً على المنتسبين إليها؛ وذهب إلى ادنبرج باحثاً عن عمل يعيش منه؛ ودرس هناك علم المعادن الذي أفاده فائدة كبيرة إذا اضطره إلى تعلم الألمانية (التي كانت من أسباب ظهوره ورفعته.) مع أنه كان يمقته مقتاً شديداً. وكان يتقن الفرنسية أيضاً ويترجم عنها مقالات علمية فيتكسب من ذلك. . .
- 2 -
. . . اجتمعت في كارليل صفات أبيه وأمه ورث عن أبيه صلابة الرأي، ومضاء العزم، وخصب الخيال، وقوة التصور؛ وورث عن أمه دماثة الخلق، وسلامة النية، وطيبة القلب،
وكثرة الحنان، وخفة الظل.
وفيه أيضاً اجتمع فيه هدوء الإنكليزى ووطنيته الصادقة، واعتزاز الألمانى بقوميته، واعتداده بنفسه واستبداده برأيه، وفكاهة الفرنسي ومزاحه.
كان فيلسوفاً نابغة، ومؤرخاً مدققاً، وناقداً صائب الرأي قوي الحجة ساطع البرهان، وكاتباً بليغاً ساحر البيان، عجيب التصور للحقائق، مدهشاً في عرضها على قارئيه أو سامعيه واضحة جلية، وكان خياله يشبه النافورة التي يتدفق ماؤها فيسقي هياكل الأبطال القدامى العظيمة، ويحيلها إلى أناسي مثلنا يتحركون ويضطربونِ!. . .
كان في كتاباته جاداً وهازلاً، مكتئباً وضاحكاً، تلمح من خلال سطور كتاباته نفساً هادئةً، مؤمنةً، قنوعاً ولكن تجده أحياناً ليثاً كاسراً، غضوباً متمرداً. . . وكان متبرماً بالوظائف والحرف المقيدة لحريته، ولما ترك مهنة التعليم صاح محتداً ساخطاً:(لا طاقة لي بعد بهذه الحرفة الممقوتة!. . .).
وأرى أنه كان في آرائه وأقواله قومياً ومتعصباً أحياناً، ، إنسانياً أحياناً أخرى. يتعصب حين يحدثك عن (كرومويل) أو عن فريديريك الكبير ملك بروسيا، فيغرق في مدحهما والإشادة بذكرهما، ويحملك على تصديق أقواله بسحر بيانه وقوة برهانه، لأن الأول إنكليزى، والثاني بروسي، وكان كارليل حريصاً على إرضاء البروسيين. ويقول الكاتب الناقد الإنكليزى ج. ك. تشسترتون:(لقد سلط كارليل تيار خياله القوي المتدفق على شخصية هي كالجمجمة جفافاً ويبوسة وصلابة (أي فرديريك)، وسكب عبقريته الخلاقة المبدعة ليخلق من أسفل وادنى وأوحش شخصية عرفها التاريخ إنساناً شهماً، كريماً عظيماً!.).
فهو إنساني حين يحدثك عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مثلاً، فيقول:(لقد أصبح من اكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب وان محمداً خداع مزور؛ وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً بنحو مليون من الناس.) أو حين يقول: (ما محمد بالكاذب ولا الملفق، وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع). . .
وقد قال (ريتشارد جازييت): (فلما كتب كارليل مقالته عن الإسلام ينافح فيها عن محمد ويناضل عن دينه، لم يبق هجاء أطلق يده في عرض محمد (ص) إلا قبضها مجذومة شلاء ولا فجاش ذلك الأديم الأملس، وتلك الصحيفة البيضاء بسهام السباب إلا وردت سهامه في نحره حتى راح شرف النبي في تلك الديار بفضل الفيلسوف الأكبر صحيح الأديم موفور الجانب. . .).
ومن هنا ترى أن الرجل كان يعتمد على ذكاءه وصفاء ذهنه، واستقامة منطقه القوي، وبلاغته وخياله أيضاً، في حمل الناس على اعتناق مذاهبه، والأخذ بآرائه، والإيمان بمعتقداته، وقد نجح في ذلك نجاحاً عظيماً وفاز فوزاً جباراً!. .
- 3 -
وقد أحب ذلك الفيلسوف فتاة جميلة تدعى (مرغريت جوردون)، وقد ابتدأ ذلك الحب حين صار رئيس المدرسة التي ذكرناها ببلدة كركالدي. ووصفها في كتابه (فلسفة الملابس). وكان كارليل (يعبد الجمال ويكبر ملكات العالم (أي نساء) ويقدسهن، ويرى لهن جلالاً إلهياُ!) ولكن حظه منهن (لم يكن إلا حظ اللمس من الخيال، والغليل من الآل!)
لقد كان حبه عنيفاً جداً لمارغريت، ولا تكاد تقرأ بضع صفحات - بل بضعة أسطر - من كتابه فلسفة الملابس حين يصفها، إلا وتؤمن انه لم يكن هوى أو حباً، بل لاعجاً محرقاً، بل هياماً جنونياً، ولكن العبقري المسكين أخفق في ذلك الحب ولم يتزوج من بلومين (كما يسميها في ذلك الكتاب) لتعرض أصدقائها. . .
أسمعه يقول باكياً. . . (فكن للفتى (أي كارليل) كأنهن من الهواء مخلوقات، ومن الضياء مصوغات، أرواح في أشباح، وأذهان في ألوان. . .
وكأنهن ملائكة تحمل كل منهن معراجاً يرتقي فيه العاشق إلى مقامات الأبرار في الجنان، فليت شعري هل قضى الله للفتى المنفرد (يعني نفسه) أن يظفر يوماً ما بإحدى هذه الملكات؟ بل أين منه ذلك، هيهات هيهات!!).
(أما والذي خلق الهوى وجعله جنة المحب وجحيمه، لئن قضى الله للفتى أن تهبط عليه واحدة من تلك الخيالات المليحة، فتتحول له جسماً حياً ملموساً، وحقيقة محسة، ثم تلحظه بنظرة انعطاف وتودد، وتقول له بعينيها: (لك الآن أن تحب وتحب!) إذن فأي بركان هائج
يثور، وأي جحيم كان يجيش ويفور!!).
(وقد اشتعل مثل هذا الحريق يوماً ما في فؤاد الفتى المنفرد اشتعالاً بركانياً؛ وكيف يكون الأمر غير ذلك والفتى مزاج رقيق، وطبع سريع الهياج - فيه (كاربون) الحدة، و (فسفور) الشهوة، و (كبريت) الانفعال - تنتظر أدنى شرارة من لحاظ دعجاء المحاجر، قتالة الألحاظ، فتتأجج وتشتعل؛ وما شرار اللحظ في هذا العالم بالشيء المفقود؛ فليت شعري إذا هبطت عليه من آفاق العزة مليحة حسناء، فرمت (كبريته) بشرارة من لحظها ماذا يكون المآل؟!. . . . . .)
وأسمعه يخاطب فتاته المحبوبة: (وما هي إلا هنيهة حتى قرب إلى الغادة وقدم لها! يا رعاك الله أيتها الآنسة! أنك لتشرقين بين أترابك من الفتيات، وتبهرين صواحبك من الغانيات؛ كأنك الكوكب الدري هبط من السماء فتوسط طائفة من المصابيح والشموع! يا أشرف الفتيات! وسيدة النساء! يا سبيت الخامل المسكين فتهافت عليك بدناً وروحاً؛ وهو مع ذلك منكس الجيد في حضرتك، من فرط هيبتك خاشع الطرف، تعروه لذة أليمة وتعلوه حيرة لذيذة، أحقاً أصبح الفتى المسكين يشهد مجلسك ويجتلي نور طلعتك، وبهاء غرتك، وحقاً تشرق عليه أشعة لحاظك!؟ وحقاً يتكلم فتنصتين، ويقول فتسمعين، ويمزح فتضحكين، ويعظ فترقين، ويشكو فتتوجعين؟ وحقاً كان الحب متبادلاً، والغرام متداولاً، والعطف متقارضاً، والود متقايضاً، والقطبان يخفقان للالتصاق، ويرجفان للاعتناق،؟!! وقلب العاشق المسكين يجيش ويثور كالبحر يزخر ويعب في حضرة القمر!؟ حقاً كان كل ذلك).
البصرة
عبد الكريم الناصري
العلوم
4 -
بحث في أصل الإنسان
بقلم نعيم علي راغب دبلوم عال في الجغرافية
بدراسة الجمجمة التي وجدت في جزيرة جاوة، إحدى جزائر الهند الشرقية، وجد أنها تشبه جمجمة نوع من القردة، وهو المسمى جيبون وهذا القرد معروف أن نسبة مقاس جمجمته تتناسب تناسبا إطرادياً مع ارتفاعه وحجم جسمه. بمعنى أن مقاس كذا هو لقرد ارتفاعه كذا. . الخ.
فإذا نحن طبقنا هذه القاعدة على تلك الجمجمة التي وجدت خرجنا منها بنتيجة، هي إن ذلك المخلوق الذي تخلفت عنه هذه الجمجمة لابد وأن يكون في ارتفاع قامة الإنسان، على عكس قردة ذلك النوع المشار إليه فإنها لا تتعدى في القامة قامة ابن خمس سنوات من الأطفال.
وإذا لاحظنا أن سطح الجمجمة وعظام محاجر العين وشكلها تعين عدم وجدود جبهة لصاحب تلك الجمجمة، نجد لزاما علينا من ذلك ومن نتائج أبحاث العلماء أن نقول إن هذا الذي يمثل إنسان البليوسين كان عبارة عن قرد كبير، وتبين لنا بعد ذلك من قياس تلك الجمجمة أننا لم نكشف عن الإنسان القرد فحسب، بل كشفنا عن أحط درجة من درجات التطور الإنساني، وإذا كان للإنسان صفات تميزه ويختص بها عن سائر أنواع الحيوان، فإنما هي ذكاؤه وقابليته للتعلم، ثم حدة الشعور، وهذه كلها تأتي من المخ مصدر الشعور والوجدان.
وإن قصة تدرج الإنسان ما هي إلا تاريخ لتطور قواه العقلية. فعند ما كشف الأمر عن جمجمة إنسان النياندرتال عام 1875، قال بعض من العلماء إنها بجمجمة أشبه منها بجمجمة الإنسان. لماذا؟. لأنه لوحظ بها البروز الكبير الظاهر في محاجر العين، وهو ما تمتاز به أنواع الغوريلا، كذلك لاحظ أن غطاء الجمجمة الأعلى واطئ منخفض ومفرطح. لكن الكشف الذي تلا ذلك دلنا على المقدرة والقوة الفكرية عند هذا النوع من الإنسان، وهو إنسان النياتدرتال. وأنها قد تفوق كثيرا من الأجناس البشرية في القدرة والمهارة والدقة والجمال في صناعة الأدوات الصخرية النارية.
ولم يجد الدكتور أي أثر في طبقة الأرض التي وجد بين ثناياها الإنسان القرد، وليس هناك ما قد يلقي لنا ضوءا على مقدار ذكاء هذا النوع وقدرته، إلا أنه يمكننا أن نتكهن بشيء من ذلك من حجم فراغ جمجمته التي استطاع الدكتور دبوا أن يصورها لنا.
فأما من جهة حجم المخ فإن الإنسان القرد أو إنسان جاوة (كما سنسميه) يقع تحت أسفل درجة من درجات المخ الإنساني. فالابورجونيز سكان استراليا يتراوح حجم مخ القرد فيهم من 1300 إلى 1400 سم مكعب، ولو أن هذه النسبة تقل في نسائهم فتصل إلى 1000 سم مكعب أو إلى 930 سم (كما يبالغ السير وليام تيرنر) ولكي نقول إن الرجل أو المرأة يفكر أو يستطيع التفكير يلزمه مخ لا يقل عن 950 سم مكعبا، ولكن أبحاث الدكتور ديبوا دلت على أن حجم مخ إنسان جاوة لم يتجاوز مقدار 900 سم مكعب. برغم أن الأستاذ ج. هـ. ماك جريجوري يرتفع به إلى 940 سم مكعبا. وهكذا نرى أن الإنسان المذكور لم يكن ليستطيع التفكير الصحيح كما نراه أو كما نعقله، إلا أنه قد اقترب وسار على عتبة باب الإنسان الحق بتفكيره وقوته العقلية.
وإذا قارنا إنسان جاوة بالغوريلا وجدنا أن حجم مخ الذكر من هذه القردة يبلغ في المتوسط 520 سم مكعبا، ولو أنه قد يرتفع إلى 650 سم مكعبا أو ينخفض إلى 470 سم مكعبا بينما نجده يرتفع إلى ستة أمثاله عن حجم مخ هذه القردة برغم التشابه العظيم بين شكل سقف جمجمة إنسان جاوة وقرد الجيبون.
إلا أن هذا النوع الإنساني وهو إنسان جاوة إذا قورن بالإنسان الأوروبي الحديث وجد بينهما فرق كبير جدا. إذ أن الأخير يزيد في حجم المخ على الأول بما لا يقل عن 560 سم مكعبا إذا ما قدرنا للأخير متوسطا قدره 1500 سم مكعب.
أما عن حجم مخ إنسان البليوسين فإنه يرتفع كثيرا عن مستوى أكبر أنواع القردة المعروفة، ويصل إلى أسفل درجات الإنسانية، ونصل إلى نفس النتيجة إذا ما قارنا ببين مخ إنسان جاوة والغوريلا، أو مخ امرأة الأبوجيز الأسترالية. وبفحص مخ قرد من القردة لوحظ أن الطبقة الظاهرية منه وهي التي تتصل بالقدرة على السمع والإبصار والحس كاملة التكوين، وأن الطبقة الظاهرية التي تليها وهي التي تتصل بالقدرة على الفهم والتذكر تكاد تكون معدومة التكوين، بينما نجد أنها في إنسان جاوة برغم تناسب أجزائها وأتساعها
لا تصل إلى تلك التي تعيش على سطح الأرض في عصرنا هذا. ولذلك أمكننا بفضل اكتشاف الدكتور العلامة ديبوا أن نعرف الماهية التفكيرية والمقدرة العقلية التي كان يتمتع بها الجنس الذي عاش في عصر البليوسين.
ونحن لا يمكننا مع ذلك كله أن نقرر ما إذا كانت عندهم القدرة على التخاطب والكلام. إلا أنه قد أمكننا أن نعرف من تلافيف المخ عند الإنسان المعروف بإنسان جاوة مقدار ما كان له من استعداد لذلك، وما قد وجد عنده من عوامل تساعده عليه، ومن المحتمل أنه قد تكلم وتفاهم، ثم عبر عما يجول بخاطره بعبارات صوتية غير منتظمة تعبر عن رغبة أو شعور، ولكنها لم تكن لتعبر عن فهم. ويمكننا أن نقارن بين قدرتهم على الكلام وقدرتهم على صناعة الأدوات والمرافق بما نسمعه من لغات اليوم وما نراه بين أيدينا من مرافق وأدوات كادت أن تبلغ حد الكمال.
ونحن إذا اعتبرنا أن إنسان جاوة بالقوى العقلية التي سبق الكلام عنها وشرحناها في الفقرات السابقة، هو الحد الذي وصل إليه الإنسان في أواخر عصر البليوسين، وأن إنسان البلتدون هو مثل لما قد وصل إليه الإنسان في أوائل عصر البلستوسيين، لوجب علينا أن نعترف أن هناك فترة تقع بين العهدين يمكن أن نطلق عليها فترة التطور العقلي للإنسان القديم. لأننا نعرف أن حجم مخ إنسان البلتدون الذي وصل إلى 1400 سم مكعب يتناسب مع حجم مخ الإنسان الحديث، ويقترب به إلى الإنسانية الحق. بينما نجد أن إنسان جاوة بمخه الذي يمكننا أن نقدر حجمه بمقدار 940 سم مكعبا ينزل إلى أسفل الدرجات، ولا يصل إلى أحط نوع من الأنواع البشرية المعروفة، وأن تلافيف المخ في إنسان البلتدون، ولو أنها لا تصل إلى ما نراه من تلافيف مخ الأنواع المنحطة من الأنواع الحديثة، إلا أنها تفوق وترتفع كثيرا عن مستواها عند إنسان جاوة.
وإذا كنا قد أوضحنا في مقالاتنا السابقة مدى أهمية فحص العلماء لمخ الإنسان وما كشفه لهم حجمه من حيث تاريخ تطوره، فيجب إلا ننسى أهمية فحصهم لأسنانه وما كشفت عنه الحفريات. فإنه قد لوحظ أن أسنان القرد كانت أسنانا إنسانية لا تختلف في شيء عن أسنان الإنسان الحاضر إلا من حيث كبر الحجم. ولا بد لنا أن نذكر مما قد سبق ذكره، أن إنسان البلتدون قد تمتاز بأنياب حادة مدببة، لا تختلف في شيء عن أنياب القردة، بينما نجد
أنها تصغر عند إنسان جاوة، وتتناسب مع باقي أسنان الفم كما هو الحال في إنسان هيدلبرج وجميع الأنواع الإنسانية الأخرى. فهل يمكننا القول أن أسنان الإنسان بعد أن تعدل شكلها في عصر البليوسين قد رجعت فزادت حجما في عصر البلستوسين، كي ننكمش بعد ذلك وتناسب باقي نظام أسنان الفم في النهاية؟. . وهذا ستجد له شرحا وافيا في مقال قادم. وفي الوقت نفسه لا يمكننا شرح كل هذه الغرائب إلا إذا اعتبرنا أن الإنسان القرد وإنسان الهوموهيدلبورجينز يمثل كل منها فرعا من أصل الشجرة التي نشأ وتطور منها الإنسان، والتي لم تكتشف من فروعها إلا أغصان قليلة محطمة. . .
يتبع
نعيم علي راغب
دبلوم المعلمين العليا قسم الجغرافيا
البريد الأدبي
القصة في الأدب الصيني
تناولت مجلة الأخبار الأدبية (نوفيل لترير) في عددها الأخير ذكر كتاب صدر أخيراً في باريس بالفرنسية عن (القصة الصينية) بقلم كاتب صيني هو مسيو (أواتاي). والقصة الصينية حديثة النشأة؛ وكانت القصة حتى عصرنا تعتبر في الأوساط الأدبية الصينية ضربا من العبث؛ وكان التاريخ والشعر والفلسفة وحدها تعتبر خليقة بجهود العلماء وذوي الذوق الحسن. أما كتابة الحوادث والمغامرات الخيالية، فقد كانت تعتبر خفة لا تليق برزانة العلم والأدب، وكانت تترك لصغار الكتاب والمتأدبين. أما اليوم فان الأدب الصيني يقتفي أثر الآداب الغربية في تقدير القصة ويتجه إليها، ويخرج في ميدانها أثاراً شائقة جديرة بالاهتمام.
على أن ما أخرج الأدب الصيني في ميدان القصة في القرن الماضي ليس مما يخلق إغفاله والحط من شأنه. صحيح انه لم يصل في السعة والتنوع إلى ما وصل إليه القصص الغربي، ولكنا نستطيع أن نحصى منه مع ذلك كثيراً من الآثار الشائقة الجميلة. وقد ظهرت بعض هذه الآثار في أوربا مترجمة إلى الألمانية والفرنسية والإنكليزية، فاستطاع العالم الغربي أن يقف على صفوة الأدب القصصي الصيني. . .
ويقول مسيو (أواتاي) في مقدمته إن القصة الصينية ترجع في أصلها إلى الحكايات والأساطير الدينية. ففي العصور الغابرة كان الشعب يشهد ظواهر الطبيعة الخارقة فلا يستطيع أن يدرك كنها ويعتقد أنها فوق مقدرة البشر، ثم يحاول أن يفسرها ويفهمها في شروح وأقوال غدت أصل الأساطير الصينية، ومن ثم تجيء أهمية عنصر السحر في القصة الصينية. وقصص السحر هي اقدم واغرب ما في الأدب الصيني من عنصر القصص، ثم تجيء بعد ذلك القصة التاريخية أو التي تقوم على بعض حوادث التاريخ، ثم القصة العاطفية، ثم القصص الإباحى؛ وقد كان هذا النوع مما يطارد ويحرق، ولكن نجا منه الكثير.
ومن أحب القصص إلى الذوق الصيني، ذلك الذي يعالج (المعرفة) وتعرض فيه المعلومات والمعارف الغربية، في صور قوية واضحة من البيان والعبارات الرشيقة. وللقصص
الساخرة مكانة أيضاً، ولكن معظمها سياسي، ويرمي إلى بث دعوة معينة. أما قصص المغامرات الشائقة والحب والبطولة فقد ظهرت حديثاً ولم تتقدم إلا في القرن التاسع عشر؛ ومنها آثار خطيرة فياضة بالمخاطرات والعجائب.
وقد كان هذا التراث كله مغموراً حتى هذا العصر، ولكن الجيل الفتى يقبل عليه اليوم ويستكشفه، ويتذوق ما فيه من كنوز الطرافة والخيال والجمال. بل لقد أنشئت في الجامعات الصينية دراسات للقصص القديم، وهو ما لم يكن يتصور منذ خمسين عاماً.
أزمة الأدب
يظهر أن أزمة القراءة والكتب أخذت تشغل الأذهان في جميع الأمم المتمدنة؛ فقد ضعفت حركة القراءة وركدت ريح الأدب والكتب في الأعوام الأخيرة بدرجة محسوسة. وكان للراديو والسينما أثر كبير في ذلك التطور. وقد رأت الحكومة الإيطالية أن تعالج هذه الأزمة بالدعوى إلى القراءة عن طريق الراديو وإثارة الاهتمام بالآداب الإيطالية القديمة. ونشرت إحدى الصحف الأدبية الفرنسية فصلاً في ذلك الموضوع نوهت فيه بانحلال الذوق الأدبي، وانشغال الهيئات العلمية والأدبية بتنظيم الحفلات وتوزيع الجوائز، وإغفال الحكومة لكل ما يذكى شغف القراءة ويصقل الذوق الأدبي، حتى إنها لم تفكر يوماً في أن تنشى (وزارة للآداب) تقوم بالإشراف على الحركة العقلية، مع أنها تقوم بالإشراف على إدارة الشرطة وإدارة الجمارك. وتخلى الحكومة عن هذه المهمة يحول دون القيام بأي حركة منظمة لتوجيه الحركة الأدبية، وإحياء الذوق الأدبي بعد أن تولاه الذبول والضعف. ويرى الكاتب أن تنظيم المكتبة من أنجع الوسائل لمعالجة هذا المشكل، ويقترح ان تعنى إدارة معرض باريس الكبير الذي سيقام في سنة 1937، بإنشاء مكتبة نموذجية يكون فيها من الطرافة وحسن الابتكار والتنسيق ما يذكى شغف القراءة ويبعث إلى الذوق الأدبي حياة جديدة.
حرارة الأزهار
نذكر أن العلامة الهندي جاجاديس بوز صاحب نظرية (حس النبات) زار القاهرة منذ بضعة أعوام، وعرض تجاربه العلمية النباتية على جمهرة العلماء والمثقفين؛ ورأى النظارة
الذين شهدوا تجاربه كيف يرتجف النبات ويتأثر بمختلف العوامل، والآن يتقدم العلامة الفرنسي، بلار نجم، الذي قضى حياته في دراسة خواص النبات إلى أكاديمية العلوم الفرنسية بنتيجة مباحثه عن (حرارة الأزهار).
ويرى العلامة بلارنجم ان الأزهار كالإنسان والحيوان، يمكن ان تصاب بالحمى، وان حرارتها تختلف باختلاف درجة نموها وباختلاف الوقت. فمثلا يبدي معظم الأزهار حرارة اعلى من حرارة محيطها ببضع درجات، وتبلغ بعض الأزهار أقصى درجة حرارتها بين الساعة العاشرة والظهر. ولبعض الأزهار مثل النرجس واليقطين والهندباء أوقات تصاب فيها بالحمى، ويلاحظ مسيو بلارنجم أيضاً، أن الأزهار المذكورة في النباتات المزدوجة، أي التي تحمل أزهارها المذكرة وأزهارها المؤنثة كل على أعواد مختلفة، وفي النباتات الفردة، أي التي تحمل أزهارها مختلطة على نفس العود اكثر حرارة من الأزهار المؤنثة في نفس الشجرة. وهنالك أيضاً تختلف درجة الحرارة فيها باختلاف مواضعها؛ وغير ذلك من المشاهدات والحقائق المدهشة.
فلوبير والمسرح
لما وضع القصصي الفرنسي الكبير فلوبير قصته الشهيرة (مدام بوفاري) فكر أحد كتاب المسرح في اقتباسها وتقديمها للتمثيل، ونفذ فكرته بالفعل، وقدم الرواية إلى المسرح، وأرسل إلى فلوبير يستأذنه، فأبى بشدة أن يأذن له، وكان فلوبير قد عاف المسرح وحقد عليه، مذ فشلت قصته (الطالب) حين مثلت لأول مرة. واستمر فلوبير يعارض كل اقتراح بتمثيل (مدام بوفاري) حتى وفاته.
ولكن حدث بعد وفاته، أن ابنة أخيه ووارثته مدام جرول صرحت لأحد كتاب المسرح باقتباس بعض المناظر من مدام بوفاري لكي تمثل على المسرح، وكان ذلك سنة 1906. ولكن القطعة لم تشتهر يومئذ، ولم تلق نجاحا يلفت الأنظار.
ومنذ أشهر قلائل عادت (مدام بوفاري) تلفت أقطاب السينما، وانتهى الأمر باقتباسها للشاشة البيضاء، وتلحينها للسينما الناطقة. ولن تمضي اشهر أخرى حتى يستطيع المعجبون بأدب فلوبير يشهدوا اعظم قصصه، وقد أخرجت في ثوب مسرحي بعد كتابتها نحو تسعين عاماً.
ويقال أيضاً إن قصة فلوبير التاريخية (سلامبو) ستظهر قريباً على المسرح السينمائي، وان
العمل يجري بالفعل لإخراجها في وقت قريب.
أمير شرقي شاعر
في البريد الإنجليزى الأخير إن صاحب السمو نظام حيدر آباد عميد الأمراء المستقلين في الهند، واعظم رجالات المسلمين فيها ينظم الشعر ويجيده. وعما قريب يصدر في الهند الجزء الأول من ديوان سموه، وفيه قصيدة مطولة في مولد المسيح.
المستشرق شخت
وصل إلى القاهرة الأستاذ شخت ليشغل كرسي أستاذ فقه اللغة واللغات السامية بكلية الآداب بالجامعة المصرية خلفا للأستاذ شادة الذي انتهى عقدة وعاد إلى جامعة همبرج.
والأستاذ شخت أحد تلاميذ المستشرق الكبير المرحوم برجستراسر وقد درس اللغة العربية بجامعة برسلاو وعين مدرساً في جامعة فريبرج فاستاذاً بجامعة كونسبرج، ثم وقع اختيار الجامعة المصرية عليه ليشغل كرسي اللغات السامية.
وقد طاف الأستاذ شخت بلاد الشرق في طلب المخطوطات المجهولة فتمكن من العثور على عشرات الكتب في تاريخ العلوم الإسلامية ونشرها بعد أن ترجم بعضها إلى اللغة الألمانية منها:
1 -
رسالته في كتاب الحيل والمخارج للخصاف وقد حصل بها على دكتوراه من جامعة برسلاو في عام 1925.
2 -
ترجمة وشرح كتاب الحيل في الفقه للقزويني والمقارنة بينه وبين الحيل الحنفية.
3 -
المخارج للأمام محمد بن الحسن الحنفي.
4 -
كتاب الشروط للطحاوي.
5 -
كتاب جالينوس في الأسماء الطبية وقد اشترك مع الدكتور ماكس مايرهوف في ترجمته وشرحه وتقديمه.
6 -
كتاب بالألمانية عنوانه: مجموعة متون إسلامية. وفي هذا الكتاب جمع كثيراً من تاريخ العلوم الإسلامية. مبتدئاً بالأحاديث النبوية ومنتهيا برسالة التوحيد للشيخ محمد عبدة.
7 -
كتاب ملتقى الأبحر للشيخ إبراهيم الحلبي، وقد كان أصل هذا الكتاب عند المستشرق
المرحوم برجستراسر ولم يتم شرحه وتقديمه.
8 -
أخبار القضاة لوقع.
جورج دوهامل مرشح الأكاديمية
منذ أشهر خلا بالأكاديمية الفرنسية كرسي بوفاة صاحبه المسيو كاميل جوليان المؤرخ الكبير. وقد تقدم للحلول في كرسيه عدة من مشاهير العلماء مثل الأستاذ شارليتي مدير جامعة باريس، ومسيو ركولي المؤرخ، ومسيو ليون بيرار الكاتب الشهير، ولكن أحداً منهم لم يظفر بالعدد اللازم من الاصوات. وسيعاد الانتخاب مرة أخرى. وفي هذه المرة يطرح مع المتنافسين اسم جورج دوهامل الكاتب والروائي الشهير، وقد رشح نفسه للكرسي الخالي بصفة رسمية. وجورج دوهامل طبيب سابق حمله تيار الأدب وصرفه عن المهنة؛ واشتهر برقة خياله وسحر أسلوبه وبراعة نقده. ويمتاز أسلوبه بالأخص بنزعة إنسانية مؤثرة، وعطف عميق على المنكوبين في الحياة. وتدور معظم نظرياته وفلسفته حول الدفاع عن الإنسان، ورفعة الفرد والأخلاق.
بنت مدام كوري تتابع أعمال أمها
- قالت (البتي جورنال) أن ابنة مدام كوري مكتشفة الراديوم وزوجها سيذيعان قريباً الطريقة المطلوبة منذ عهد طويل لإيجاد الراديوم الاصطناعي.
وسيعلنان هذه الطريقة لمؤتمر من العلماء في لندن وكمبريدج بين اليوم الأول واليوم السادس من شهر أكتوبر.
أسبانيا ترشح شاعرا لجائزة نوبل
اقترحت جامعة سلامنكا الأسبانية على الحكومة ترشيح العالم الشاعر ميجل دي أونا مونو لجائزة نوبل للآداب في العام الحاضر. فقبلت الحكومة اقتراحها.
النقد
أصدقائي الشعراء!
بقلم معاوية محمد نور
ظهرت في الشهور الأخيرة عدة دواوين شعرية، فأثارت كثيراً من اللغط في الصحف، وكثرت عنها الكتابة الرديئة والحسنة، وشاع الحديث بمناسبتها عن الشعر والأدب.
ولقد كان في نيتى إلا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها إلا تقول كلمة الإطراء عن بضاعته.
غير أن الحديث قد تشعب في الآونة الأخيرة في الصحف والمجلات الأدبية عن هذه الدواوين. ويسوء الناقد المخلص أن يرى أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يوجه القارئ الراغب في الفهم، ولا يصلح الأذواق الأدبية ويوجهها وجه الصدق وطريق الصلاح الأدبي.
وسبب آخر كان ينأى بها عن الكتابة في هذا الموضوع، وهو إن صاحب (وراء الغمام) صديق عزيز علينا، اهدى إلينا ديوانه ليلة ظهوره، وكذلك فعل صاحب (الملاح التائه). وهما ولا شك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس صحبتهما. غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأدبيين إلى ما هو اخطر وابعد شأناً؛ تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وان الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام نعد معظمه خطرا على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر.
ولهذا رغبها في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرؤه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه.
وأول ما يلاحظ على هاتين المجموعتين أن ديوان (وراء الغمام) يكاد ينحصر في الحب ومطالبه، وأن موضوعات (الملاح التائه) تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة الكبرى كالبحر والليل، وان أكثر أخيلته وألفاظه هي عن النسائم والأمواج والشواطئ
العامرة أو المهجورة، وما إليها من (الشعريات) التي تواضع العرف الدارج على أنها (الطبيعة). فأولهما إذن يمكن تسميته (بشاعر الحب) والثاني (بشاعر الطبيعة). فكيف يفهم صحابنا الأول الحب، وكيف يعي الثاني الطبيعة، والى أي شيء منها يلتفت ذهنه؟
والمفروض بالبداهة أن مثل هذا الشعر يكتب ليقرأه الرجل المصري أو العربي المثقف، الملم بشيء من حضارة هذا العصر وثقافته، الشاعر (بوعي) هذا الزمن الذي يعيش فيه، والذي تشغله مناظر وآراء ومسائل تثير شكوكه أو تبعثه على التفكير والتأمل والإنتاج الفني.
فلنتكلم عن الحب كموضوع شعري يتناوله أي شاعر عصري، يود أن يقرأه أي مخلوق حي شاعر في القرن العشرين، فليس ثمة شك في أن الحب كحاجة (فسيولوجية) هو كحاجة أي مخلوق حي إلى الأكل والنوم. وهو مظهر عادي تشترك جميع الإحياء فيه (ويمكن ان يقال ان النبات والجماد يعرفان الحب أيضاً والسلب والإيجاب من قوانين الكون بأجمعه) فلم يختص إذن بنظم الشعر والنشيد والأغاني؟
فإذا حدثني صديق أو عشير بأنه يحب امرأة بذاتها، وانه لا يطيق الابتعاد عنها، وأنها تثير لواعج أشجانه وأمراض نفسه، فقد يسمع مثل هذا الحديث ويحمل حينما أجلس إلى أي صديق هادئ فيحدثني عن متاعبه، وما يسمن من الآكال وما يستهجن، وعما يحب أو يكره من ألوان الثياب، ولكني لا أطيق كقارئ حي أن استمع إلى شعر لا يتعدى نفسه نغمة مثل ذكر هذه الأشياء الأولية، وإلا لكان كل فرد منا شاعراً، لان لكل فرد حاجاته وأذواقه وشؤونه التي تتعلق بالحب والآكل والنوم والمجيء والذهاب. فإنما هذه (أبجدية) كل إنسان.
أصدقائي!. . . إن هذا (الشيء) الذي نسميه شعرا والذي نود أن نقرأه نحن الأحياء العارفين لعالم الحبر والورق، هو خلاف (كلام الحسن) عن الأشياء العادية. إنه يتطلب وجود شاعر يأكل كبقية الناس ولا شك، ويحب مثلهم، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية (غير عادي)؛ وهو شيء آخر خلاف ما يحس عامة الناس ويقفون عنده. ومن هنا كانت قيمة الشاعر الحق. أي انه (ولو أنني لا أود استعمال الكلمة ولكنها كبيرة الدلالة) فيلسوف. فالحب يصبح موضوعاً جديراً بالشعر كما
تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية. وربما لا يقع من نفس القارئ هذا النغم وذلك المعنى، وقد يبدو سخيفا أو غير صادق، فالأمزجة تختلف، والثقافات تتباين وتفترق، ولكنه لا يخطئ في أن يبده أي قارئ محس بأن هنا شيئا جديراً بالالتفات والعناية.
أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعد ان يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي اكتشف لذة الخبر لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنىء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي اهتمام القارئ الصحيح، وربما يصلح مثل هذا الشعر ويجمل عند أناس هم دون طبقة هذا (الكوكب الجديد) الذي اكتشف (قارة الأكل) أو (قارة المرأة) وثم وقف يسبح بحمدها.
والدكتور ناجي بعد كل هذا قد قرأ بعض قصائد (لورنس)(وت. س. ايليوث) واضربهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهما (وحقيبة وعيه) ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملاى بالثعأبين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسموه إلى طبقات السماء، وبالسخر الذي (يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال)، ثم يذكر أن المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح، وبالاختصار (بمعنى) أو (لا معنى) عظيم أو (بتيار وعي) ربما يرى في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة ولو أنها بادية التناقض، أو بأحاسيس متناقضة بعيدة، حالكة الظلمة، أو شديدة الوهج.
ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي الشاعر والمفكر والقارئ المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي
الحياة من التفاهات اليومية، وفي اطراد هذه الحاجات التي نشعر بها في صباحنا ومسائنا ما يجعلها عسيرة الاحتمال، ويضاعف مشقة العيش، فليس بنا ثمة حاجة إلى أن نقرأها في عالم الحبر والورق.
والشاعر العصري - سواء في مصر أو في الصين - الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر، واكتشافاته ومتاعبه، والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب نظام حياتنا الحاضرة، أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر، أو ألوان تسترعي الاهتمام في نسيح الثوب الذي يلفنا، أو فراغ في إنسان بادي الامتلاء، أو أغنية في زاوية من زوايا بيتنا المعنوي، ليس له، بل لنا الحق في إلا نعده في عدد الشعراء المخلصين.
والظاهر أن شعراءنا يعيشون في أجسام محدودة الفكر والإحساس بحدود جسدها وغرفتها التي تسكن، وأن الأشياء منه أو هو لم يعرفها قط. إن نظرة واحدة حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلاً في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكاراً تصلح لأن تكون قصيدة جيدة إذا كان له من الشعر نصيب.
والذي يبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أيضاً ان ليس في حياتهم الفكرية والشعورية أي شيء يشبه الصحاري العارية الجرداء، أو الظلمات الحالكة، أو البريق الخاطف، أو الحيرة الشاعرة، أو أي اشتغال جدي بناحية من نواحي حياتنا الراهنة، وان الشكوك والمذاهب والقيم الفكرية التي تحرك الفنان العصري في أوروبا إلى الثورة حيناً، والى السام حيناً آخر. أو إلى أي فلسفة أو (عدم فلسفة) يكتشفها الفنان المرهف الإحساس، الواسع العطف، القدير الفهم، وراء مظاهر الحياة اليومية من عمل ونوم، وأكل وحب، ومال وجنس، ما يجعله يقف وقفة قصيرة أو طويلة يحاسب نفسه ويحاسب العالم باجمعه، أو يجرؤ على حوار مع الطبيعة أو الأحياء أو ما رواءها، لم تدن منه أو هو لم يعرفها أبداً.
ليس الشعر أيها الأصدقاء بالمادة الكاملة الصنع التي يمكن أن نشتريها جميعاً من الحانوت. أو يمكن صنعها كما تصنع الثياب على هذا الطراز أو ذاك. إنما الشعر هو (تجربة حية) يحسها شخص حي، ويبصرها وجدان نير، وهي تجربة فردة لم تحصل ولم تر إلا كما
حصلت وكما رآها ذلك الشخص الحي، ثم يحاول نقلها وإيصالها عن طريق الكلم والإيقاع - عل قدر مهارته - إلى أمثاله من الأحياء الشاعرين.
وشعر صديقنا ناجي ما زال نغماً واحداً بسيطاً لا يتعدى - بعد زخرفة النظم - إحساس رجل عادي حينما يرى وجهاً مشرقاً، أو جسماً جميلاً أو عملاً عظيماً. فيقف مشدوهاً ويقول:(ما احلى ذلك الوجه، وأي ألم أحس به لحرماني من ذلك الشكل البديع) إلى آخر الأحاسيس التي تحسها أي مادة تحس، وإنها لتبدو لي في بداءتها وطفولتها بما يسمى (رد الفعل) وليصدقني القارئ أن هذا هو كل ما يخرج به الإنسان من شعر ناجي بعد تجريده من صناعة (الكلم) ورنين القافية. أما الرنين (والكلام العالي) كما يسمونه، فقد افضل ان اسمع الأول من (الجازبند) والثاني من الخطابة، ولا اهرع للشعر لا سمع شيئاً من ذلك!
بقية المقال في العدد القادم
الكتب
ابن سعود سياسته. حروبه. مطامعه
بقلم مصطفى الحفناوي
كتاب كبير يقع في نحو مائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير، افتتحه مؤلفه بمقدمة بليغة عن بلاد العرب منذ عصورها القديمة حتى ظهور جلالة الملك عبد العزيز بن سعود، ثم تكلم عن والد الملك وعن البيئة التي نشأ فيها، واخذ يسرد بعد ذلك تاريخ ابن سعود، فشرح كيف استولى على الرياض، ثم كيف اصبح أمير نجد وأما الوهابيين، وتكلم عن حالة بلاد العرب، وظروفها قبيل الحرب العظمى، وموقف الإنكليز منها، وموقف الملك حسين من هذه الظروف وما لعبه من الأدوار، إلى أن أرانا ابن سعود مل الحجاز ونجد، ثم صوره لنا بطل بلاد العرب، وأخيراً اخذ يشرح لنا إصلاحاته ومقاصده إلى أن اختتم الكتاب بملحق عن الحرب الأخيرة بين الحجاز واليمن، وما آل إليها أمرها.
فأنت ترى أن الكتاب حافل بالمعلومات التي يتوق إليها من يميل إلى معرفة سيرة ابن سعود وبلاد العرب، والحقيقة أن حاجة مصر إلى هذه المعرفة حاجة شديدة، ولذلك كان اغتباطي بهذا الكتاب عظيما، ولقد وضع صاحب السعادة محمد علي علوية باشا مقدمة قيمة له، تحدث فيها عما شاهده في بلاد العرب أثناء سفره في مؤتمر الصلح، وإني أشاطر الباشا رأيه إذ يدعو مصر (أن يكون لها هناك صوت مسموع ومشورة نافذة، وان تتبوأ المركز الذي وضعتها فيه العناية الإلهية في الأقطار الشرقية، وفي مقدمتها مملكة العرب).
ولقد قرأت هذا الكتاب القيم النافع، فبرزت لي فيه بعض مظاهر، رأيت مع احترامي لآراء مؤلفه الفاضل، وتقديري لمجهوده أن أشير إليها أشارة وجيزة.
الكتاب شيق جذاب، لن تضعه حتى تتمه، ومن حسناته البارزة كثرة ما احتوى عليه من المعلومات، مضافا إلى ذلك حسن ترتيبها ومهارة سياقها، غير إنني آخذ على المؤلف موقفه في الغالب موقف من يكتفي بسرد الحوادث، ولعل هذا يفسر لي ما أشار إليه المؤلف في نزاهة وصراحة على غلاف الكتاب من أنه عن (وليمز وآرمستنج بتصرف) فان إعجابه بابن سعود أولاً، وبما كتبه هذان المؤلفان ثانياً، قد حفزه إلى وضع كتابه، فحماسته فيه ظاهرة، وتحيزه إلى الملك واضح، لذلك اكتفى كما ذكرت بسرد الحوادث، ولم أجده برغم
استعداده وما يتجلى في عباراته من آثار ذكائه، يعلق عليها معللاً استحسانه إذا استحسن، أو استنكاره إذا استنكر، وأظن ذلك أمراً جوهرياً في صدد الكتابة عن بطل من الأبطال، فالمؤرخ في مثل هذه الحالة مطالب بان يشرح الحوادث شرحا علمياً، مفنداً اوجه الصواب أو الخطأ مع ذكر الأدلة العلمية والأمثلة التاريخية كلما أمكن ذلك، وبهذا تظهر شخصيته، ويصبح لكتابه إلى جانب ما يحوي من معلومات قيمته العلمية. كذلك ليسمح لي الأستاذ أن أعيب عليه هذا التحيز لابن سعود، فهو لا يرى في إلا بطلاً، فان إعانته الظروف ارجع الفضل إليه، أو اكتفى بقوله انه نصر من عند الله، وان اخطأ استخدام الظروف، أشاد بعبقريته ونفوذه. ومما لاحظته بنوع خاص ان المؤلف يحمل على الإنجليز حملات مباشرة مشيراً إلى أطماعهم ومظالمهم في عبارات سطحية أشبه بمقالات الجرائد، وكان خيراً له فيما اعتقد واجدى عليه، ان يوضح أطماعهم، ويترك للقارئ التعليق عليها، فالأبحاث العلمية يجب ان تطبع بطابع الهدوء والرزانة، ولن يعدم المؤلف القدير أن ينال من أعدائه بهدوئه ومهارته أضعاف ما يناله بحدته وضجيج عبارته.
على إن هذه المآخذ لن تغير من جوهر الكتاب، ولن تقلل من نجاح المؤلف النابه فيما قصد إليه، ولئن قدرت كتابه بما ترك في نفسي من أثر، فضلا عما احتوى عليه من شتى المعلومات، فأني اشهد أني استمتعت بقراءته واستفدت منه كثيراً، وإنى أدعو كل أديب إلى قراءته موقناً أني ادله على اثر نافع طريف.
الخفيف
أصول التدريس الحديث
عن كتاب (التربية الممارسة) لشاريه
تعريف واقتباس سامي الدهان
يبحث هذا الكتاب في طريقة تدريس المواد المختلفة، وهو مطبوع طبعة جيدة في مطبعة الجدي بحلب، على ورق جيد، ويقع في نيف ومائتي صفحة من القطع المتوسط. تعرض مؤلفه لطرق تدريس الأخلاق، والقراءة، والخط، واللغة، والإملاء، والمحادثة، والإنشاء، والتاريخ، والجغرافيا، والتدبير المنزلي، وانك لا تكاد تقلب صفحاته حتى تشعر بمتانته ودقته، وتحس بما لمؤلفه من خبرة ومران وسعة اطلاع، ودقة بحث.
خذ لذلك مثلا: أصول تدريس الخط، فترى المؤلف قد ألم بجميع نواحي الموضوع، فهو يتكلم عن درس الخط وفائدته، ثم يتكلم عن الخط والصحة مشيراً إلى مساوئ الجلسة المعوجة، ومحاسن الجلسة المستقيمة، ثم يذكر كيفية تدريسه، والى فائدة النماذج الخطية. . . الخ.
من ذلك ترى مقدار اهتمامه بموضوعه. ولقد أعجبني بنوع خاص ما ذكره عن تدريس التاريخ فتساءل أولاً عن فائدة هذه المادة، ثم بين فوائدها الوطنية والاجتماعية والخلقية، وشرح أهمية التاريخ من وجهة الثقافة العقلية، وبين مقدار ما يجب أن يوزع منه في المناهج بحسب الفصول الدراسية، وأخيراً ذكر طريقتي تدرسيه. ولقد تبينت في بحثه الروح الفنية العلمية، التي تميز الراسخين في العلم من سواهم، لذلك اقرر أن الأديب الفاضل سامي الدهان قد احسن إلى اللغة العربية والناطقين بها بنقل هذا الكتاب إليها، واعتقد أن المدرسين سيجدون فيها فائدة عظيمة، فإنى وأن كنت اعتقد إن الطرق الخاصة بتدريس المواد تختلف في مملكة عنها في أخرى، بل وفي مدرسة عنها في مدرسة، فضلاً عما يطرأ من الظروف المحلية والمؤقتة، مما يجعل التمسك بطريقة خاصة أمراً مستحيلاً، أقول إني على الرغم من هذا اعتقد ان القواعد لابد منها، والمدرس الكفء جدير بان يستأنس بها وان يكيف ظروف على ضوئها، ولهذا احمد للمعرب مجهوده، واثنى على مقدرته في التعريب، ولا شك أنها نتيجة لصحة فهمه ما عرب وصدق ميله إليه.
الخفيف