الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 670
- بتاريخ: 06 - 05 - 1946
إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته
تقرأ بعد هذه الكلمة مقالا للأستاذ محمود الغمراوي صور فيه المخاوف التي تساور بعض علماء الأزهر من عواقب الاقتراح الذي اقترحته الرسالة في عدد مضى على مشيخة الأزهر ووزارة المعارف لحل مشكلة الأزهر. صور الأستاذ الفاضل ما توهم من تلك المخاوف تصويراً يروعك منه حفاظ المؤمن وإشفاق الناصح؛ ولكن الألوان والضلال التي اختارها صورته جعلتها ادخل في باب الخطابة منها في باب المنطق! من تلك الظلال (هذه السهام التي تسدد إلى الأزهر، وهذه الأسنة التي تشرع على القرآن). ومن تلك الألوان هذا (الفرض الذي يقتل الأزهريون بأيديهم لغتهم ودينهم) وهذا التهويل عليهم (بالبلاء الوافد والخطب الراصد والموت الحاصد). والأستاذ اعلم الناس بأن المستعمرين أنفسهم لم يبلغوا من الجحود بآيات الله أن سول الشيطان لهم بعض ذلك، بله الذين يؤمنون بأن العالم لا يسعد إلا بالدين، وأن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وأن الأزهر متى أستكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.
على أن الأستاذ الغمراوي قصر جهده في مقاله على عرض اقتراح الرسالة في صورة الهولة ليفزع بها المخلصين لدينهم ولغتهم فلم يشر بتعديل فيه ولا ببديل منه، كأنه يرضى للأزهر أن يظل كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!
ولكن الأستاذ من صدور العلماء المعروفين بطول الباع في علوم الدين، وسعة الاطلاع على فنون اللغة؛ فلا بد أن يعلم أن ميزة الإسلام التي تفرد بها مسايرته للتطور ومطاولته للزمن؛ فإذا حصرناه في زمان محدود، أو قصرناه على نظام معين، سلبناه هذه الميزة، وفصلناه عن دنيا الناس؛ فهو إذن من المصلحين المحافظين الذين يجددون بقدر، ولا يتقدمون إلا في أناة وحذر، لأنه يرى الحال داعية إلى الإصلاح، ولكنه يطلب من الأستاذ العقاد ومني أن نراجع الرأي فيما كتبناه لعلنا نجد (لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية).
ذلك هم المجددون المحافظون، وأما غيرهم ممن يعارضون الاقتراح فطائفتان: طائفة السلفيين المتزمتين، وهؤلاء قد وقفوا عند حدود النقل، فلا يرون لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا لمصلح أن يجدد، لان التجديد بدعة، وكل بدعة على إطلاقها ظلاله. وطائفة الأحرار المستقلين، وهؤلاء يعارضون الاقتراح لا لأنهم يناهضون الإصلاح، وإنما يخشون أن يفلت زمام الأزهر من أيديهم فتصبح قيادته لوزارة المعارف. ويخيل إلى أن المعارضين الأفاضل على اختلافهم في أسباب المعارضة ولو قرءوا الاقتراح على عادة الأزهريين من التفلية والتحليل لما وجدوا فيه مبعثاً للخوف ولا مثاراً للشك. وبحسبنا أن نوضح ما أشكل من جوانب الرأي لنصبح جميعاً متفقين على الأسس التي يجب أن يقوم عليها بناء الأزهر القديم والجديد.
يرى الأستاذ الغمراوي والذين يذهبون مذهبه أن الاقتراح (يجب نصف الأزهر ويدق رأسه):
1 -
لأن إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية يستتبع إلغاء حفظ القرآن، إذ كان حفظه كله أو نصفه شرطاً في قبول الطالب، وإلغاء هذا الشرط ينقص الإعداد الديني تلك السنوات الست التي كان يقضيها الصبي في حفظ القرآن.
2 -
ولأن تحويل المعاهد الدينية إلى مدارس ثانوية تساير منهاج وزارة المعارف في الثقافة العامة، وتنفرد في سني التوجيه بعلومها الخاصة، يحرم الأزهر ست سنوات أخرى كان يقضيها الطالب في دراسة اللغة والدين بأقسامه الابتدائية والثانوية.
3 -
ولأن المواد المدنية على نهجها المعروف في برامج الوزارة ستطغي على المواد الدينية، فيقل المحصول الديني واللغوي لدى الطلاب، وتضعف الملكة الأزهرية الخاصة لفهم الدرس والكتاب.
4 -
ولأن الاعتماد على حملة الشهادة الابتدائية العامة في تغذية أقسام الأزهر الثانوية يعرضها للهزال بانصراف التلاميذ عنها إلى المدارس الثانوية الأخرى اتباعاً لأهواء العصر المادية.
وسترى بعد إيضاح ما أنبهم من استراب إلا إجمال فكرته وإيجاز شكله
1 -
لا يستتبع إلغاء التعليم الابتدائي من المعاهد الدينية إلغاء حفظ القرآن واستقطاع ست
سنوات من زمن الإعداد الديني واللغوي، لأن المعاهد الدينية الابتدائية إنما تستقبل داخليها وهم في سن الثانية عشر، وهي السن التي ينتهي فيها الصبي من الدراسة الابتدائية العامة دون أن يأخذ من زمن الدراسة الأزهرية وقتاً كثر أو قل، وإنما تكون مداركه وملكاته قد تهيأت لحفظ القران في مدى السنوات الثانوية الخمس أو الست عن رغبة وفهم. ومن الذي يمنع مشيخة الأزهر أن تجعل حفظ القرآن فرضاً على كل طالب في كل سنة من سني الدراسة في المدرس الثانوية الأزهرية وأمرها في يديها، وإعدادها منها واليها؟
2 -
إن المعاهد الدينية التي نقترح جعلها مدارس ثانوية بالمعنى الرسمي المعروف ستظل بالطبع تابعة للأزهر خاضعة لإدارته، فله إذا شاء أن يزيدها سنة أو أكثر، وأن يبدأ الدراسة الدينية واللغوية من سنتها الأولى، على شرط أن يحافظ على مواد الثقافة العامة المقررة في برنامج الوزارة من لغات وآداب وعلوم ورياضة، وأن يتقدم طلابها المنتهون إلى امتحان التوجيهية العام، ليكون لهم ما لسائر إخوانهم من ميزة الشهادة الرسمية، ولتفتح لهم أبواب الوظائف التي أجملناها في الاقتراح لحاملي الشهادة الثانوية. وإذن تكون مدة الدراسة الدينية واللغوية اثنتي عشرة سنة لا ستاً كما ظن الأستاذ.
3 -
لا خوف من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعاً، والأستاذ كفؤاً، والكتاب مهذباً، والمنهاج مستقيما، وتوزيع المواد دقيقاً، والإدارة حازمة، والمراقبة يقظى؛ فإن الوقت إذا أحسن استخدامه اتسع ضيقه، والكتاب إذا حذف فضوله قصر طوله.
4 -
من المحال أن ينصرف التلاميذ عن المدارس الثانوية الأزهرية؛ لأن الاقتراح يقصر وظائف تدريس الدين واللغة والأدب في جميع مدارس الدولة والأمة على الأزهر، فإذا أضيف إلى ذلك وظائف التحرير والترجمة ومهنتا الصحافة والتمثيل، كان الراغب في ممارسة أمر من هذه الأمور محتوماً عليه أن يدخل الأزهر لأنه لا يستطيع بلوغه إلا عن طريقه.
وجملة الأمر أن الاقتراح يرمي إلى تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها. فإذا تجاذب الباحثون أطراف الرأي في حدود هاذين الغرضين، استبان الطريق، واتحدت الوجهة، وتلاقوا جميعاً عند الغاية المقصودة لا محالة!
أحمد حسن الزيات
في مقالين:
حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً
. . . أما بعد، فقد قرأت ما كتبتم في العدد رقم 666 من مجلة (الرسالة) إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف من حل حاسم لمشكلة الأزهر، وما كتبه حضرة الأستاذ عباس محمود العقاد في العدد رقم667 عن مستقبل الجامعة الأزهرية، فوجدتكما ترميان إلى غرض واحد يستوقف النظر ويدعوا إلى التأمل.
وقبل التحدث أقدم بين يدي الحديث إلى حضرتي الأستاذين شكراً خالصاً لعنايتهما بأمر الأزهر وبحث أدوائه ودوائه في وقت شغل فيه المنسوبون إلى الأزهر بالتافه من شؤمهم، غير مكترثين لما يكتنف الأزهر من خطر، ولا ناظرين إلى ما يهدد وجودهم ووجوده من بلاء وافد، وخطب راصد، وموت حاصد.
وإن في عناية الأستاذين الكبيرين بالبحث في ستقبل الأزهر وحل مشكلته، قياما بحق تتقاضاه من كل ذي شعور كريم مكانة الأزهر التاريخية، وقيامه بحفظ الشريعة واللغة العربية زهاء ألف عام، فاستحقت مصر بذلك تقدير الأمم الإسلامية وأن تكون زعيمة الأمة العربية. وفي هذه العناية من جانب الأستاذ الزيات خاصة وفاء واعتراف بما للأزهر من صلة وثيقة بفنه البارع وأدبه الرفيع، وبما يدين به قلمه العربي الفصيح من بلاغة وحسن الهام امتاز بهما على الأقلام؛ ففي قنة الأزهر نبتت شجرته، ومن ماء مزنه ارتوت نبعته، ومن عودها كانت قصبته. وإذا كان رجل الفن من أغير الناس على فنه، وأحرصهم على خلود مدرسته، فأكبر ظني أن الأستاذ الزيات حين تقدم إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بما تقدم به من علاج رأى أن فيه حلاً حاسماً لمشكلة الأزهر، كان ثائراً من أجل الأزهر لا عليه، وغاضباً مما يجري فيه من الأحداث وحواليه، وإلا فما أظن طبيباً يتقدم لطب مريضه بدواء قاتل يرديه، ولا أحسب ابنا بارا يريش سهمه لمثقفه ويرميه فيصميه. ومن أجل ذلك يطمع الأزهر أن يراجع الأستاذان الرأي فيما كتباه عن مستقبله وحل
مشكله، فقد يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر الشفاء والعافية فيوافيان به القراء إن شاء الله.
اتفقت كلمة الأستاذين على أن غاية الأزهر أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم؛ وأن سبيله إلي هذه الغاية أن يعلم اللغة وما اتصل بآدابها من مختلف الفنون. فالدين واللغة هما علة وجوده، وجوهر علمه، وثمرة عمله؛ وأنه لهذا ولكونه أقدم جامعة في العالم بأسره تكون الأمة ذات الشأن الأول فيه حقيقة بأن تحافظ عليه وتستديم بقاءه وازدهاره.
واستشرف القاري، وأذن لما يرد بعد هذا القول لعله يسمع رأياً نافعاً، أو يرى علاجاً ناجعاً، يطب الأزهر فيشفى داءه، ويرجع إليه العافية ويكفل بقاءه، حتى يرى الأزهر قد تشامخ بناؤه، وعمر فناؤه، وصفت سماؤه، وطاب ورده وماؤه، وحي أمله وقوى رجاؤه، وازدحمت بالوافدين عليه لطلب العلم أرجاؤه، وتجاوبت بالعلم في جوانبه أصداؤه.
ولكننا لم نجد بعد البيان الذي مهداه، والقول الذي قدماه، سوى سهام تصوب، وسنان تحرَّب، وقد شمر الراميان عن ساعديهما، وكشفا عن ساقيهما ينتضلان، والأزهر بينهما كدريئة تتنائل إليها السهام، تارة من عن اليمين ومرة من الأمام، مسددين إليه الرماية، يرميان جاهدين إلى غاية!
أما الغاية فهي:
1 -
أن يلغى التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية ليلقى بمقاليده إلى وزارة المعارف تلزمه وتقسمه وتعممه على الوجه الذي تراه، وذلك تراه، وذلك بدء الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة.
2 -
أن تجعل المعاهد الدينية في القاهرة وفي الأقاليم مدارس ثانوية يدخلها حاملو الشهادة الابتدائية العامة وتعلم فيها اللغات والرياضيات والآداب والعلوم على منهج وزارة المعارف. وفي أول السنة الثالثة منها يتجه طلابها اتجاهين على حسب مرادهم واستعدادهم: إما اتجاهاً إلى الدين وعلومه، وإما اتجاهاً إلى اللغة وفنونها. . .
3 -
أن يقتصر في التعليم الجامعي في الأزهر على كليتين اثنتين: كلية أصول الدين وتندمج فيها كلية الشريعة، وكلية اللغة وتندمج فيها كلية اللغة العربية ودار العلوم وقسم
اللغة العربية من كلية الآداب بجامعتي فؤاد وفاروق، ويشترك الكليتان في الدراسة العميقة للغتين العربية والإفرنجية، كما تنفرد كلية الدين بتاريخ الأديان السماوية والأرضية. . .
ويقول الأستاذ العقاد: إنه لا يرى من جانبه ما يخالف فيه الأستاذ الزيات قبل الدخول في التفصيلات التي تعرض عند البحث في تقسيم الكليات، وفي مدة التعليم التي يحتاج إليها الطالب الجامعي في كل منها.
والمهم عنده أن ينتهي التقسيم إلى نظام واحد في التعليم فلا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات، ولا يحسب الفرق بينها جميعاً إلا كما يحسب الفرق الآن بين كلية الطب وكلية الزراعة أو كلية الآداب. .؟
فالهدف الذي يرميان نحوه، وبيت القصيد عندهما هو تحقيق الوحدة الثقافية بين أبناء الأمة، أو كما يقول الأستاذ العقاد: ألا يبقى للثنائية أثر بين كليات الجامعة الأزهرية وغيرها من الجامعات؛ وتوحيد الثقافة أو إبطال الثنائية في التعليم لا يتم في رأيهما إلا إذا ألغي نظام التعليم في المعاهد الابتدائية التابعة للأزهر وحولت المعاهد الثانوية إلى مدارس ثانوية كنظام وزارة المعارف على النحو الذي رسمه قلم الأستاذ. فإذا رضى الأزهر أن يترك ست سنوات وهي نصف المدة المقررة لتأهيل الطالب لنيل الشهادة العالية (إذا ساعده الحظ ولم يرسب في أثناء الطلب مرتين أو ثلاثاً) وإذا تجاوز أيضا عن ست سنوات أخرى يقضيها الراغب في دخول المعاهد الدينية في حفظ القرآن الكريم وتبع ذلك أن يتجاوز عن اشتراط حفظ القرآن في قبول الطالب بالمعاهد الأزهرية، لأن القرآن لم تبق له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية؛ إذا تجاوز الأزهر عن هذا طوعاً أو كرهاً، ورضى أن يجب تصفه وتدق رأسه، كان الأزهر جديراً بالحياة حرياً بالبقاء: فيحتفظ بقديمه؟! ويشارك في جديد الناس، ويساهم في شركة المدنية. وحينئذ يصير الطالب الأزهري جديراً بأن يكون عالماً حقاً، وأن تفتح له أبواب السماء فيجد مكانه من وظائف الحكومة كما يجد الطبيب والمهندس والضابط أمكنتهم في كل ديوان يحتاج إليهم!
يقولون لا تبعد وهم يدفنونه
…
ولا بعد إلا ما توارى الصفائح
أما إذا ظل الأزهر على تعصبه كما هي عادته، وأبى له جموده أن يتنازل عن وجوده، فإنه يكون غير صالح للبقاء وليس أهلاً للحياة؛ لأنه غير قادر على مسايرة الزمن فيجب أن
يسلب اختصاصه ويعطى تراثه لمن هو أقدر منه على مسايرة الزمن والمشي مع القافلة، فيكون تراث الأزهر نهباً مقسماً بين كلية الحقوق ودار العلوم وكلية الآداب: تستقل الحقوق بالشريعة، وتحمل دار العلوم لواء اللغة، وتضطلع كلية الآداب بدراسة أصول الدين: تدرسها على المنهج الجامعي في التقصي والاستيعاب والموازنة.
وإذا حرك أزهري ساكناً أو نبس ببنت شفة قيل له: صه! لست هناك: لست في العير ولا في النفير، إنما أنت شخص متبطل، تنتمي إلى طائفة معاشيه، يربط بعضها ببعض تحصيل المعاش؛ أو حاجتها هي إلى المعاش؛ فلا هي لنفسها ولا لله ولا للوطن.
لقد جربناك وجربنا أزهرك فلم نجد عندكم غناء، ودعونا الأزهري للسير في ركب الحياة فلم يستجب للداعين نداء، وقال بهير قطع. وسألته الأمة أن يمدها بشيوخ الدين والعربية فعجز ولم يستطع، حتى اضطر أولوا الأمر بسبب عجزه، إلى طرحه ونبذه؛ وأنشئوا دار العلوم لتخرج لهم أئمة في علم اللغات، وابتنوا مدرسة القضاء لتصنع لهم أئمة قادرين على تشريع ما يوافق الهوى والرغبات. فها نحن أولاء ندعوكم أيها الحمقى الجامدون والغلاة المتمردون لتختاروا إحدى خصلتين لكم في كلتيهما هدى وقصد وفلاح ورشد. وليستا كخصلتي الضبع إذ خيرت الثعلب بين أن تقتله أو تمزقه؛ ولكنها خيرة فيها صلة للرحم ورعاية لذمامه وهي أقرب للعدل والتقوى؟ أعرض عليكم لآخر مرة أن تختاروا واحدة من اثنتين: إما أن تقتلوا أنفسكم وتقبروا لغتكم وتتخلوا عن دينكم وتتركوا من زمن دراستكم للغة وللدين ست سنوات تقضونها في دراسة اللغة والدين بالأقسام الابتدائية والثانوية بالمعاهد الدينية وذلك شي يسير لا يتجاوز نصف الزمن المقدر للدراسة في الأزهر وفي المعاهد لنيل شهادة العالمية.
ثم لا تتشبثوا باشتراط حفظ القرآن فيمن تحدثه نفسه بالدراسة فيما يسمى كليات الأزهر فقد علمتم مما قدمناه لكم أن حفظ القرآن لم تبقى له أهمية، ولم يعد ذا صلة بالعقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية، فسوف نكتفي ونستغني عن كل ذلك بما دون في الكتب الأخلاقية والقوانين المدنية.
فإن لم تختاروا هذه ولم تطب نفوسكم بأن تتركوا جمودكم وتقبروا بأيديكم لغتكم ودينكم، فإنكم تكونون قد اخترتم الخصلة الثانية: وهي أن نقتلكم بأيدينا، فنقطع الصلة بينكم وبين
الأمة، ونعلن البراءة منكم في العالمين، كما تبرأ الهنود من المنبوذين، وحينئذ ترون العذاب، وتنقطع بكم الأسباب، وتغلق في وجوهكم السبل والأبواب.
هذه هي النذر التي يراها الأستاذ الزيات ظاهرة في الأفق، رآها بما جعل الله له من نور يمشي به، ويسعى بين يديه وبيمينه، فأنذر الأزهريين (وهم قومه وعشيرته) أنذرهم ما يرصدهم في الأفق من المصائب، وحذرهم ما يرتقبهم وينتظرهم من وخيم العواقب؛ ونصح فأبلغ وأخلص في النصح، فجزاه الله من أخ وفي، ومؤمن صادق أبي. ولقد أعذر إذ أنذر، فعسى ألا نتمارى نحن الأزهريين بالنذر.
أما الخطتان اللتان عرضهما للاختيار، فانهما كما بينت ليس فيهما حظ لمختار. وعسى أن يكون الله مدخراً خيراً منهما للأزهر عنده.
يحيي رفات العظام بالية
…
والحق يا مال غير ما تصف
ولعله يرى بما أوتي من نور سبيلاً لا حباً يصل منه الأزهر إلى النجاة والحياة.
وقد وددت لو أن في الوقت سعة لأبين أن الأزهر قد أدى للأمة ما طلبته منه: فهو الذي أعطى الأمة دار العلوم في خير عهودها إثماراً وإنتاجاً حيث كانت تخرج أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش. وهو الذي قامت على كواهل رجاله وعقول علمائه وعلومهم مدرسة القضاء. وهو الذي خرج للأمة بل العالم الإسلامي عظماء العلماء والمفكرين أمثال المرحومين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وأبي خطوة والطويل والبحيري والشربيني وغيرهم ممن لا يتسع الوقت الضيق لذكر أسمائهم. وإنه لم يضق ذرعاً بما أدخل فيه من علوم نافعة فقد أوسع لها صدره حتى صار لا يستطيع أن يتنفس بالمقدار الذي يحفظ كيانه وحياته التي تمكنه من أداء مهمته التي بينتموها في صدر مقالكم. ولعل الأزهر قد قصر في حق نفسه من هذه الناحية.
وددت لو أن في الوقت متسعاً للإفاضة في هذا؛ غير أن حرصي على أن تدرك هذه الكلمة في عدد الرسالة القادم هو الذي يحملني على أن أختم الحديث بإهدائك أكرم التحيات والسلام عليك ورحمة الله.
محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً
يوم الجلاء.
. .!
للأستاذ علي الطنطاوي
(. . ما ظننتم أن يخرجوا، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار)
- 1 -
ماذا في دمشق؟ ففي كل ميدان فيها عرس، وفي كل حي فرح، وفي كل شارع مهرجان! ما هذه الزحمة؟ ما هذه الوفود؟ الطرقات كلها مترعات بالناس ما فيها موطئ قدم، وحيثما سرت تر قباباً من الزهر وستائر من الحرير، وعلى دمشق سماء من صغار الأعلام ومصابيح الكهرباء، قد أنتظمتها حبال فدارت بها، ثم انعقدت على أشكال العقود والتيجان، فكانت منظراً عجباً، إذا رأيتها في الليل حسبت السماء قد ركبت فيها، فسطعت كواكبها ولألأت نجومها، وإذا أبصرتها في النهار ظننت الربيع قد عاد مرة ثانية، فكان كل شارع روضة فتانة، ضرب فيها موعد حب، وكل بناء عريشة ورد وفل وياسمين. . . وأغلى الطنافس مبسوطات على الجدران، وأحلى الصور معلقات على الطنافس، والسيوف المذهبة والتحف الغالية. . . ما يضن الناس بقيم ولا يبخلون بثمين.
والرايات: السورية والمصرية والعربية السعودية والعراقية واليمانية والأردنية. . . أستغفر الله العظيم، بل هي راية واحدة اتحدت حقيقتها وتعددت ألوانها، لأمة واحدة اختلفت أزياؤها وتناءت أوطانها، فألفت بينها قبلتها وأدناها قرآنها. أمة آخى الله بين أفرادها من فوق سبع سماوات، فأراد الظالمون تفريقها بخشبات ينصبونها على الطرقات، يسمونها حدوداً خسأ الظالمون. . . وخابوا. . . إن بناء تقيمه الله لا تهدمه خشبة نخرة ولا خرقة مرقعة!
لقد أوقد الليلة في دمشق خمسمائة ألف مصباح، ونشر فيها ألف ألف علم، عدت عداً، ورفع فيها مائة قبة من النور يعدو تحت إحداها الفارس من سعتها، ووضع في أرجائها مائة مذيع مصوت، يخرج منه النداء والهتاف والخطاب فيسمع في أقصى الغوطة ويردد صداه الجلمود من قاسيون، ومشت فيها خمسة آلاف (عراضة) وموكب، وأقيمت ألف (دبكة)، ففي كل مكان ازدحام، وعلى كل ثغر ابتسام، وفي كل قلب فرحة، وكل الناس مبتهج
مسرور، الرجال والنساء والشيخ والأطفال، والهتاف متصل ما ينقطع، والنشيد دائب ما يسكت، والخطب والمحاضرات والزغاريد والأغاني، من المصوتات والرداد والحاكيات والأفواه، والطبول تقرع، والمدافع ترعد، والطيارات تركض في السماء، والسيارات تزحف على الأرض، والصواريخ تنفجر في الجو فتساقط منها الأنوار أمطاراً، والجيش يحمل مشاعله ينشد ويزمر، يشارك الأمة في أفراحها، وما عهدنا (هذا) الجيش يشاركنا في فرح ولا ترح! ما عهدناه إلا عوناً للغاصب علينا، ضاحكاً في مآتمنا عابساً في أفراحنا. . . يدور بالمشاعل في شوارع دمشق، يذكر بالجيش الإسلامي لما حمل القرآن مشعل النور الهادي فأضاء به الأرض وهدى أهلها. وعلى كل جبل من جبال دمشق نيران ضخمة أضرموها، كما أضرمت من قبل نيران (الفتح) على جبال مكة، إيذاناً بتطهير الكعبة وتهديم الأصنام، و (إجلاء) الشرك عن البيت الحرام.
وفي كل دقيقة يفد على دمشق وفد جديد: مواكب وعراضات من كل بلد وقرية وناحية، قد لبسوا أحسن ثيابهم وجاءوا يعرضون أمتع فنونهم، وأعجب ألعابهم، ويهتفون أجمل هتافاتهم، فكأنه عيد الأولمب عند اليونان: فمن صراع إلى دبكة إلى قفز إلى لعب بالسيف والترس، إلى عدو بالخيل، إلى تمثيل وغناء. . .
وهياكل ضخمة، أعدها الشباب، فوضعت على ظهور السيارات، على أشكال القلاع والمدافع والمدرعات، وشيء يمثل أيام العذاب، ومراحل الجهاد من ميسلون إلى الجلاء - فالعين رائية كل لون وشكل، والأذن سامعة كل نغمة ولحن، وفي كل فؤاد هزة طرب، وعلى كل لسان صيغة حمد وكلمة ابتهاج، والليل يتصرم وما تخلو الساحات، ولا يفتر النشاط، ولا يسكت الضجيج، وما يفكر أحد بمنام، فكأنما قد جن البلد.
فماذا في دمشق؟ أي يوم هذا من أيامها، عظمت أيام دمشق وكرمت وجلت؟
ألا إنه يوم الفرحة الكبرى، إنه اليوم الذي كان يتمنى كل شامي أن يراه، ولا يبالي إذا رآه أن يموت من بعده. إنها الغاية التي سرنا إليها خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، نطأ الحراب، ونخوض اللهب، ونسبح في الدم، ونتخطى الجثث، وننشق البارود.
إنها الأمنية الكبرى التي كان يتمناها كل سوري، وكل عربي وكل مسلم.
إنه يوم الجلاء.
لقد جنت دمشق وحق لها أن تجن، فقد عاد الحبيب بعد طول الفراق، وآب المسافر بعد ما امتد الغياب، وعانقت الأم وحيدها بعد ما ظنت أن لا لقاء، وخرج الفرنسيون وزال الانتداب!
إنه يوم الجلاء. . .
فيا أيها الذين عادوا ميسلون بقلوب كسيرة، ونظروا إلى موكب الغاصب بعيون دامعة، وحملوا الظلم بأعصاب صابرة، وشاهدوا جبروت المحتل وطغيانه ووحشيته، والعرش الذي أقاموه على دماء قلوبهم وعزائم سواعدهم هوى، والبلاد التي برأها الله واحدة قسمت فجعلت دولاً. . . والوطني المخلص نفي أو سجن، أو حكم عليه بالموت شنقاً، والخائن المعلون قد أعطي الرتب والذهب. . .
ويا أيها الذين خرجوا على الظلم، وعرضوا أروحهم للموت، على شعفات الصخر، من جبال اللاذقية إلى جبل الدروز، وعلى السهول الفيح، من أعالي حلب إلى أدنى حمص، وعلى ثرى الجنات من أرض الغوطة، لم يخشوا فرنسا إذ كانت تخشاها الدول، ويرهب بأسها الأقوياء. . .
ويا أيها الذين نشأوا في عهد الانتداب، فرأوا في كل مدرسة مستشاراً فرنسياً هو الآمر الناهي والمدير تمثال، وفي كل وزارة مستشاراً هو الفاعل التارك. . . والوزير صنم، وفي كل قضاء مستشاراً هو الحاكم المنفذ وهو الأمير، وفي وسط المدن مراكز للعدو، وعلى الجبال قلاعاً له قد وجهت مدافعها إلى البلد لتضرب أبناءه إذا طالبوا بحق أو أبوا ظلماً، لا إلى الفضاء لترد عنه الأعداء، وفي كل طريق جنداً من الفرنسيين والمغاربة المسلمين. . . والسنغاليين والشركس والأرمن و. . . الدمشقيين الخائنين، يلوحون بأسلحتهم في وجوه أهل البلد، ويرمونهم بالشرر (في السلم) من نظراتهم، وبالنار (في الثورات) من بنادقهم. . .
ويا أيها الشهداء الذين بنيران العدو الباغي، في سبيل الله في سبيل الحرية، وهل تسمع أرواحكم دعائي يا أيها الشهداء؟
ويا معشر العرب في قاص من الأرض ودان.
إنا نحمد الله إليكم، تبارك اسمه، وجل جلاله، فقد أكمل نعمته، وأتم منته، وأخرج الفرنسيين
من الشام كله، فلم يبق منهم أحداً.
اذهبوا الآن إلى (المزّة) وادخلوا القلعة، وأموا الثكنة الحميدية، فإنه لا يمنعكم حارس سنغالي وجهه يقطع الرزق، ولا يردكم ضابط فرنسي، ولا تحجزكم سلك ذات أشواك. . . وسيروا في طريق الصالحية فادخلوا قصر (المفوض السامي) الذي كان يتنزل منه وحي الضلال على قلوب الخونة المارقين من طلاب الحكم وعشاق الكراسي، فيكونون لربه عبيداً أذلة، وعلى أبناء بلدهم فراعنة مستكبرين، ولجوا قصر (المندوب) الذي كان ينصب منه (أمس) الموت الزؤام على من يدنو من حماه، واسرحوا وامرحوا حيث شئتم، فالبلاد بلادكم، لا فرنسي، ولا إنكليزي، ولا طلياني ولا روسي، ولا أشقر ولا أسود. . .
ألا لا مفوض (سامي. . .) اليوم، ولا مندوب!
لقد ذهبوا جميعاً، وما تركوا من جنات زرعوها ولا عيون، ما تركوا إلا بيوتاً كانت عامرة فجعلها حكمهم خرائب، وجناناً صيروها مقابر، وضمائر نفر منا كانت نقية فدنسوها. . . ذهبوا وما أورثونا خيراً قط.
هذا قصر المفوض السامي الذي كان بالأمس يزعم أنه إله الأرض، تعالى الله ما من اله غيره، وكان كلما نزت برأسه نزوة من حماقة جعلها قانوناً، وحمل الناس عليها بسنان البندقية وفم المدفع، قوانين ينقض بعضها بعضاً، ويلغي أواخرها الأوالي، ولا يحصيها عالم ولا جاهل:(إن المفوض، بناء، وبناء يقرر تعديل الجملة الثانية من الفقرة الأخيرة من المادة 18 من القرار 1105 ل. ر) فلا يعرف جني ولا إنسي، ما هذه الفقرة، ولا ما هذه المادة، ولا ما هذا القرار. . . لقد ذهب وأورثنا عشر آلاف قرار مثل هذا! ذلك هو التشريع الفرنسي الذي يحسبه القردة المقلدون، أفضل من شرع ربنا، لأن عليه (الطابع الأوربي)!
هذا هو قصر المفوض الذي سرقه من فيصل، فيا فيصل، يا أيها الملك! ارفع رأسك مرة واحدة وانظر. . . إنها لم تطل المدة. . إن اللص قد طرد، وان الباغي قد دارت عليه الدوائر، فما دافعت عنه جنوده، ولا حمته حصونه، ولا أغنت عنه مدافعه وطياراته. لقد جرب فينا أسباب الموت كلها فما صنعت شيئاً. لم تحرقنا ناره، ولم يقتلنا حديده، لأننا أمة لا (يمكن أن) تموت! وأحرقته هو نار حماستنا، وقتله حديد عزائمنا، فولى عنا باللعنة، كما
دخل علينا باللعنة!
اليوم يوم الجلاء.
اليوم يبكي رجال (منا) كانوا يأكلون الطيبات، وينامون على ريش النعام، من بيع ضمائرهم للأجنبي، على حين كان الناس ينامون على التراب، ويأكلون الخبز اليابس.
اليوم يبكي رجال حملتهم الخيانة فوضعتهم على مقاعد العز في أبهاء الحكومة فصاروا من كبار الموظفين.
اليوم يبكي رجال كانت لهم في سجلات (الاستخبارات) أسماء فصاروا اليوم أيتاماً كالأجراء في المزبلة بعدما مات الكلب.
ولكن الشعب كله يضحك اليوم، وتضحك معه الدنيا.
اليوم يضحك البلد بالزينات والأعلام، ويضحك الليل بالأضواء والمشاعل، وتضحك المنائر بالتكبير، وتضحك النواقيس بالرنين، وتضحك الأرض والسماء!
اليوم يرى الشاميون الفرحة الكبرى التي تنقش ذكراها على قلوب الأطفال والشباب فلا تمحى أبداً، وتكون لقلوب الكهول والشيوخ شباباً جديداً، كما كانت الفجيعة في ميسلون شيخوخة مبكرة لهذه القلوب التي شابت من الهول قبل الأوان!
لقد نامت دمشق البارحة ملء جفونها من بعد ما صرمت تسعة آلاف وثلاثمائة وسبعاً وتسعين ليلة وهي تنام مفزعة الفؤاد، مقسمة اللب، تخشى أن تصيبها من الفرنسيين بادرة طيش، أو نوبة لؤم، تذهب بدار عامرة: أو تضيع حقاً ظاهراً، أو تريق دماً بريئاً؛ وأغفت تحلم بالمجد والحرية، وقد مرت عليها تلك الآلاف من الليالي، لا تحلم فيها إلا بتهاويل الظلم والموت والخراب، وتأنس بطيوف الأحبة من جند العرب في مصر والعراق والحجاز ونجد، وقد زهت بهم دمشق أن قدموها ضيوفاً كراماً بل إخواناً وأصحاب البلد، وقد كانت تروعها كلما نامت أشباح الأبالسة تتراءى في صور جند من الشقر أو السمر أو السود الفرنسيين والمغاربة والسنغاليين، وأمنت الأم على ولدها أن تتخطفه الشراكسة زبانية (كوله) فتلقيه في سجن عميق، أو منفى سحيق، أو تذيقه النكال والتعذيب، لوشاية كاذبة، أو تهمة باطلة، أو طمعاً بفدية أو مال، واطمأن السكان على منازلهم أن تدمرها في هدأة الليل قنابل الطغاة أو تحرقها نارهم أو تسرقها أيديهم! لقد نامت دمشق البارحة وهي
تودع عهد الانتداب، عهد الجهاد والعذاب، لتستقبل عهد الحرية، عهد البناء. ونهضت دمشق تسبق الفجر الطالع تؤم الشوارع التي يعرض فيها جيش العروبة، فما طلعت الشمس وفي النوافذ والشرفات وعلى ظهور البنى والعمارات، في شارع فاروق وفؤاد والجامعة السورية والسنجقدار، وميدان المرجة وضفاف النهر، وفوق قباب التكية السليمانية، وعلى أشجار المسالك، وفي كل مكان يشرف عل الطريق، ما طلعت الشمس وفي ذلك كله شبر واحد خال من رجل إنسان قد قام لينظر ويتطلع، وأجر المقعد الواحد بعشر ليرات، ومكان الوقوف بليرتين. فكان هذا المنظر أحد الأعاجيب.
ونصب الفسطاط، واجتمعت تحته الأقطار العربية كلها، جاءت وفود ملوكها وأمرائها من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت وعمان، وصنعاء والقدس، يهنئونها في عيدها ويشاركونها في أفراحها، ويقبسون أول شعاعة من شمس الحرية التي أشرقت على العرب بعد ليل طويل، وكان مشرقها دمشق.
قفوا لحظة على هذا الفسطاط فإنها ستقف عليه الأجيال، إنه سيقدسه التاريخ، إنه سيكون لنا كما كانت حطين للجدود.
إنها ساعة حاسمة في تاريخ العالم، فقد تحرك فيها الفلك، وانقلبت فيها تقويم البشر ورقة جديدة. إن الأيام ما زالت سجالاً بين الشرق والغرب، والدنيا بينهما نوباً: قام الشرق يحمل منار الحضارة وسيف الظفر بأيدي المصريين والبابليين والحيثيين والفينيقيين، ثم انتقلا إلى الغربيين إلى اليونان والرومانيين، ثم عادا إلى الشرق الذي أيقظه محمد، إلى المسلمين، ثم آبا إلى الغرب لما ترك الشرقيون هدى محمد، وهاهما يتحركان الآن، ليعودا إلى الشرق. . .
وعز الشرق أوله دمشق. . .
لقد ضاع حلمك ياغورو، وتبدد، وخابت أمانيك يا دي غول، وحقق الله الأمنية التي كان يجيش بها صدر يوسف العظمة، شهيد ميسلون، وسيحقق أماني سعد ورشيد وعبد الكريم وعمر المختار وعبد القادر وجناج في الهند، ولم لا؟ وأهل سورية التي نعمت بالجلاء لا يزيدون إلا قليلاً عن سكان القاهرة اليوم، والعرب كلهم بدولهم وحكوماتهم. . . أقل من مسلمي الهند!
فتيهي يا دمشق واعتزي، فقد كنت عاصمة العرب في أول الدهر، حين أنشئ فيك الملك الضخم، وأقيمت الدولة العظمى ورسا عرش عبد شمس على ثراك، فطالت فروعه النجم، وأظلت المشرق والمغرب، وطلع على الدنيا مجداً ورخاء وأمنا. وعدت اليوم عاصمة العرب حين كنت أول بلد عربي خلص لأهله بعد الاحتلال، فلا يشاركهم فيه جيش حليف ولا منتدب ولا وصي ولا محتل. . .
يا دمشق لقد عادت أيام معاوية وعبد الملك والوليد، لقد اتصل التاريخ الذي كان انقطع منذ قرون!
(لها بقية)
علي الطنطاوي
بعد الجلاء عن سورية:
سحر الجلاء!
للأستاذ سيد قطب
(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)
في العدد الماضي من جريدة (أخبار اليوم) وصف صحفي بعنوان (رأيت يوم الجلاء في سوريا) بقلم الأستاذ توفيق الحكيم صدرته الجريدة بهذه المقدمة:
(رأت أخبار اليوم بمناسبة الجلاء عن سوريا أن توفد الأستاذ توفيق الحكيم لشهود عيد الجلاء، وكذلك أوفدت مصورها الخاص ليسجل حفلات الجلاء. . وفيما يلي ننشر أولى رسائل الأستاذ توفيق الحكيم)
وقد بدأ الأستاذ توفيق. وصفه الصحفي يقول:
(أولئك الذين عرفوا أو سمعوا بذلك الكسلان الجالس طول يومه على إفريز مقهى لا يصنع شيئاً ولا يعنى بأحد ولا يهتم لأمر، قد دهشوا ولم يصدقوا أعينهم عند ما أبصروه ينزل من طائرة حربية محلقة في جو دمشق، وخلفها سرب من طائرات القتال المصرية.
(ما هذا الشعور الذي حرك الساكن، ونشط الهامد وأحيا الجماد؟ إنه الفرح بالجلاء الأجنبي عن أرض شقيقة لنا عربية، والجلاء عن سوريا ليس إلا مطلع ذلك الفجر الجميل في ليل الشرق الطويل. . . الخ الخ)
قرأت هذا فلم أدهش ولم أكذب عيني لأن توفيق الحكيم قد طار مندوباً لأخبار اليوم مع مصورها الخاص ليسجلا حفلات الجلاء عن سورية!
فما في هذا شيء يدعو إلى الدهش أو العجب، فهي (واحدة) من (وحايد) الأستاذ توفيق (كصينية البطاطس) و (عدو المرأة). و (البيريه) على الرأس و (حمار الحكيم). . . وأخيراً (قطط الحكيم) التي ظهر في مجلة الاثنين يحملها بين يديه، كآخر رفيق بعد الحمار الذي أوفده في مهمة خاصة!!
لم يدهشني إذن أن يطير الأستاذ توفيق ليسجل حفلات الجلاء في سورية مع مصور أخبار اليوم. . إنما الذي أدهشني حقاً هو ذلك الانقلاب في رأي الأستاذ توفيق وشعوره إزاء
قضايا الشرق العربي والاستعمار الفرنسي. وهو انقلاب يجب تسجيله، لأن تسجيله مفيد.
حينما كانت الأزمات على أشدها بين أمم الشرق العربي وفرنسا. . . حينما كان بعض الكتاب يحملون على فرنسا حملات نارية لأنها تستخدم الوسائل البربرية في قمع الشعور الوطني في نفوس العرب. . . حينما كانت دماء بعضهم تغلي لأنه لا يطيق أن تتحكم هذه البربرية في مصير العرب في سورية ولبنان وفي الشمال الإفريقي. . .
في هذه الأوقات كان للأستاذ توفيق الحكيم رأي آخر، أشار إليه الأستاذ (عبد المنعم خلاف) إشارة صريحة على صفحات الرسالة بعد مشادة عنيفة بينه وبين الأستاذ توفيق في جلسة من جلسات لجنة التأليف والترجمة والنشر وأشرات إليه من بعيد في مقالة لي بالرسالة بعنوان:(هذه هي فرنسا)!
ولقد كان الأستاذ توفيق يثور وينفعل، لأن فرنسا في خطر، ولأن فرنسا ذخيرة إنسانية فداؤها كل شيء. ومن كل شيء هذا الشرق العربي الجاهل المجنون!
لقد أدهشني ولا شك ذلك الانقلاب. ولكنه أفرحني أيضاً، فهذا (سحر الجلاء) وسره العميق! هذا هو النور الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحجب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم!
(وهبطنا مطار المزة، فوجدنا في الانتظار دولة سعد الله الجابري رئيس الوزراء. فما كاد يراني حتى ابتدرني قائلاً:
- وأين حمارك؟
فقلت على الفور:
- أوفدته ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وكدت أتابع الحوار فأنوب عن دولة سعد الله الجابري لأقول:
- ولكن المحتل الراحل هو (فرنسا) يا أستاذ توفيق!
إلا أنني ذكرت (سحر الجلاء) سحلا الاستقلال ذلك الذي يكشف الغشاوات الوقتية التي تحب النور حتى عن العيون الفطنة اللماحة مثل عيني الأستاذ توفيق الحكيم.
كم في مصر من المخدوعين بفرنسا! وكم فيها من المخدوعين ببريطانيا! وكم فيها من المخدوعين بأمريكا! وكم فيها من المخدوعين بالعالم الغربي على وجه العموم!
هؤلاء جميعاً أدعوهم لمراجعة الوصف الطلي الذي قدمه الأستاذ توفيق الحكيم عن يوم الجلاء في سورية، بعد الانقلاب العظيم
كم هم كثيرون. . . أولئك الذين حجب الاحتلال الطويل لبلادهم ذلك النور عن عيونهم، فتركهم لا يتطلعون إلا إلى وهج الغرب المستعمر الذي يعشي الأعصاب والعيون.
وكم نحن في حاجة إلى (سحر الجلاء) ليجلو الغشاوة عن هذه العيون، فتبصر النور القريب. النور الذي يشع من داخل نفوسهم هم، وهم به لا يشعرون!
إنني فرح بهذا الانقلاب في شعور الأستاذ توفيق الحكيم، فليعذرني إذا أنا تجاوزت معه أسلوبي المعهود!
وبعد فما أحرى هذا الانقلاب أن يزيد كلمة (الجلاء) في أنفسنا إعزازاً، وأن يزيدنا عليها إصراراً. فهذا الجلاء في سورية هو الذي سحر أحد عشاق فرنسا المعجبين المتحمسين، فجعله يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام!
وليس هو بالمكسب اليسير أن يسترد الشرق رجلاً فناناً من طراز الأستاذ توفيق الحكيم، يطير ليحضر حفلات الجلاء في سورية، فهذا وحده كسب يغرينا بطلب الجلاء العاجل عن الشرق كله. ولعل الأستاذ توفيق الحكيم وإخوانه من عشاق فرنسا، لا ينسون سحر الجلاء إذا نحن طلبناه للشمال الإفريقي أيضاً. ولعله يومئذ يرسل حماره ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام.
سيد قطب
أوراق مبعثرة
من ظلال الهوى
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ماذا تريدين مني، في هذه العشية الصافية؟
لِمَ تنظرين إلى بعينيك المجرمتين، هذه النظرات الفاتنة؟
لم ترسلين من شفتيك، الرفافتين بالخطايا، بسمات آسرة؟
أتحاولين إغرائي مرة أخرى؟
لقد أوى قلبي، كعصفور جريح، إلى عشه وأغمض عينيه. فدعيه ينعم بالهدوء. . .
وابتعدي عني. . . أنت يا خائنة.
نشواي، يا أفعى من أفاعي الجحيم.
اسمعي. . لن آسف على ما مضى.
لقد ذبت في هواك الخادع،
وقدمت إليك روحي صافية كالدرة، نقية كالندى.
فلما آنست مني الحب والعطف،
وشع في عيني الوله واللطف،
تلونت تلون الحرباء، يا نشوى، وأعرضت عني لاهية جذلى. فانثنيت على قلبي، أبكي هواي، وأذيب في دمعي أساي. فلم عدت هذه العشية يا نشوى تؤرثين أشجاني، وتهيجين أحزاني؟
لقد مللتك فدعيني.
دعيني، ويلك، يا خائنة!
نشواي يا نشوى.
أيامك المواضي، حلم شهي، رف وامَّحى.
وهمسك الحلو في أذني، في عشيات الربيع، ضاع ونأى.
وزهرك المنضور، المخضل بالعطور، جف وذوى.
لا تقربي شفتيك اللاهبتين من فمي.
ابتعدي، فأنفاسك تهيجني. . .
حولي نظراتك عني، فالشهوة فيها تفور، والنار في جسمك تثور.
أتبكين. . .؟
عودي، ودعيني، أنت يا خائنة.
كانت بسماتك زهرات فردوس موهوم، في رحيقها سم مختوم؛
وغمزات عينيك، كن شظايا من جحيم ملعون.
وكانت شفتاك ترعشان بين شفتي، كورق الورد الندي، في نسمات الربيع.
وكنت أرويك الهوى حلواً.
فاصفرت البسمات يا نشوى، وضاعت غمزات.
وتلوت الأفعى وقالت لا أريد، لا أريد.
فلم عدت تهيجين أشجاني يا نشوى، وتثرين أحزاني.
فجراحي ندية وقلبي متعب، ودمي يسيل.
فابتعدي عني، ابتعدي، أنت يا خائنة.
لكن تعالي يا نشوى تعالي. . .
لا تخفك نظراتي وزفراتي.
لم تدبرين وكنت مقبلة، وترعشين وكنت هادئة؟
أأدعك قبل أن أنتقم. . .
أين دمائي التي أهرقتها، وقلبي الذي ضل؟
سأمتص دماءك، فهي دمائي.
وسأمزقك ألف قطعة وقطعة.
شد ما أبغضك. . .
اقتربي، ولا تعودي، أنت يا خائنة. . .
آه ما أضعفني. . .
لا تخافي، فأنا كاذب فيما أقول. . .
اقتربي، فأنت قرة العين، وهواي المرتجي.
اقتربي، ولا تعودي، أنت يا فاتنة. . .
(القاهرة)
صلاح الدين المنجد
الأدب في سير أعلامه
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 11 -
تتمة الكلام عن مسرحية كومس
ويهرب كومس وقبيله، ويحسب الأخوان أنهما غلباه على أمره، ولكن الروح الحارس يلقي إليهما أن أختهما لا تزال مقيدة بسحر كومس لا تستطيع حراكاً كأنها التمثال الحجري، فكان عليهما أن يختطفا عصاه، فإنه لا يبطل سحره إلا إذا قرأ ما على العصا قراءة عكسية تبتدئ من النهاية. على أن الروح يخبرهما بأن لديه حيلة فليس لهما أن يبتئسا، أما حيلته فهي أنه سيستنجد بسابرينيا عذراء نهر السفرن، ويصف لهما سابرينيا ومستقرها بين عذارى الماء، وكيف أتيح لها أن تكون من نبات الخلود، ويذكر ما في طاقتها من عون لطالبي العون حتى أن الرعاة لينشدون لها الأغاني ويلقون في النهر زهرات من كل لون تحية لها، وهي تحب أن تنجد العذارى مثلها إذا كن في مثل ما كانت فيه من ضيق وشدة، وأعظم ما ينهض بها إلى النجدة الغناء، ولذلك فإنه يستحثها بأغنية، ثم يهتف منشداً متوسلاً إلى سابرينيا بكل عزيز عندها من الآلهة والإلهات فلا يكاد يخلوا سطر من نشيده من اسم من أسماء هؤلاء.
وتظهر سابرينيا وحولها بعض عذارى الماء، فتغني أغنية قصيرة تصف فيها من أين أتت وكيف أقبلت سريعة خفيفة حتى إنها لتطأ الزهر فلا تنحني سوقه، وتعلن إلى الراعي أنها رهن طلبه، ويشير الراعي إلى الفتاة المسحورة ويؤكد عذرتها ويذكر ما عانت من السحر، وتجيب سابرينيا أنه ليس أحب إليها من أن تأخذ بيد العفة المضطهدة، وتتجه إلى الفتاة وتلقي على صدرها نقطاً من سائل معها وعلى شفتيها وطرف إصبعها فتبطل سحر كومس.
وما تكاد تنطلق حتى تنهض الفتاة كأن لم يكن بها شيء. ويبتهج الروح الحارس أو الراعي فيثني على سابرينيا ويدعو لها من قلبه بكل جميل، وينبئ الفتاة أنه سيصحبها إلى قصر أبيها حيث يلتقي المهنئون من الأصدقاء، ويطرب الرعاة والقرويون، وسيضاعف حضورها طربهم، ويزيد الحاضرين جميعاً فرحاً على فرح.
ويتغير المنظر على المسرح، فتمثل مدينة لادلو وقلعة الرئيس اللورد، ويتقدم على المسرح رهط من الراقصات القرويات وفي إثرهن الراعي ومعه الأخوان وأختهما، ويخاطب الراعي القرويات ويسألهن في أغنية قصيرة أن يذهبن، ويتمنى لهن عودة إلى سرور كهذا السرور، ثم يقدم الأخت وأخويها إلى أبيها في أغنية أخرى مثنياً على شباب الفتيين، وعلى عفة الفتاة، وانتصار الجميع على الحماقة والنزق.
ويختم الراعي المسرحية بأغنية طويلة، فيذكر إلى أين يذهب بعد أن أتم عمله، ويصف مواطن الحبور والجمال التي ينطلق إليها وصفاً يعيد إلى الذهن قصيدة الأليجرو، وما تفيض به من صور المرح وتلميحات الميثولوجيا.
ويعلن الراعي أن من يريد أن يلحق به من بني الفناء فسبيله الفضيلة، فالفضيلة وحدها هي التي تعلم النفس كيف تسمو وكيف تنطلق، ولئن مس الفضيلة الضعف فلها من السماء عون.
تلك هي خلاصة الغنائية المسرحية، وهي تتضمن كثيراً من آراء ملتن وفلسفته، فكل شخصية في الغنائية تعبر عما يريد ملتن من معان، وتصف في الواقع ناحية أو موقفاً من مواقف حياته، فالعذراء تستمسك بالعفة كما استمسك هو بها، وتواجه الإغراء الشديد وتقاومه كما واجه وقاوم، وأكبر الأخوين يمتدح الفضيلة ويدافع عنها ويؤمن بها كما يفعل ملتن وكما يحس، وكومس نفسه نراه في وصف الطبيعة وصلتها بالنفس عن طريق ما تحدثه مشاهدها ومسراتها من أثر في الحواس يعبر عن جانب من إحساس الشاعر الشاب، وأصغر الأخوين يفصح بكلامه عن وساوس الشك التي تطوف أحياناً بنفس ملتن على الرغم من استعفافه وزهده وعزلته والتي يتغلب عليها بالصبر وقوة العزيمة فيحس لذة النصر.
أما عن فلسفته في الغنائية، فأساسها الصراع بين العفة تمثلها العذراء، والشهوة يمثلها
كومس، ومهما يكن من إغراء الشهوات وتحايلها فإن الغلبة للفضيلة؛ ولن تعدم الفضيلة عوناً من الله، ويتجلى هذا العون في الروح الحارس الذي دل الأخوين على طريق الخلاص.
ولملتن نظرة في الطبيعة وصلة النفس بها، فهو لا يحرم طيباتها وزينتها، ولكنه كذلك لا يذهب في الاستمتاع بها مذهب كومس، فيجعل الأمر فيها أمر لذة وفجور واغتنام ونهب في غير مبالاة كما تفعل البهيمة. وعنده أن تأخذ النفس من طيبات الحياة كما تقضي الحكمة، ومقومات الحكمة عنده الاعتدال والقناعة والعفة، وعلاقة المرء بالحياة والطبيعة على هذه الصورة طريق من طرق السمو الروحي بالنفس الإنسانية إلى معارج الكمال ومسالك الهداية
وينم كلام كومس في امتداح الطبيعة عن نزوع نفس ملتن إلى الطبيعة وجمالها وقوة إحساسه بمباهجها وزينتها؛ ويتضح هذا الميل القوي في ذلك المعنى البديع الذي نطق به كومس، ألا وهو قوله: إن الإنسان بزهده في جمال الحياة ومتعها لا يؤدي حق الشكر للمنعم ولا حق الثناء عليه. وما يخاف ملتن إلا شيئاً واحداً هو الفتنة، ولكن إذا اعتصمت النفس بالفضيلة تمتعت بأنعم الله ونجت من الزلل، فالطبيعة مما أنعم الله به علينا، وأنعم الله خير كلها، والغرائز والميول الطبيعة كذلك خير واتباعها تنفيذ لمشيئة الخالق، وهو لذلك يحب الطبيعة من ناحيتين: أولاهما: ما تظهره من جمالها الذي يبهج النفوس؛ وثانيهما: ما تخرجه من كنوز خيراتها وما تبثه في الكون من نماء وتجديد واتساع وكل أولئك من مقومات الحياة
وكذلك ينم كلام أكبر الأخوين عن الفضيلة كما ينم كلام العذراء عن العفة والعذرية، عن ميل كان في نفس ملتن أثناء مقامة في هورتن، فقد كان يميل إلى البقاء عزباً حتى يتفرغ لرسالته، وأراد أن يستعفف حتى لا يزل، فتولدت في نفسه فكرة، وهي أن الشهوة أصل الفسوق كله والفجور والرجس؛ وعلى ذلك فلا بد من تغليب العقل على العاطفة، أو الروح على الجسد، وهذا الصراع بين العفة أو الطهر وبين الشهوة يتضمن بالضرورة قيام وساوس الشهوة في نفسه، شأنه في ذلك شأن كل فتى مثله، ومرد الشهوة إلى العاطفة، ومرد الرغبة في قهرها إلى الحكمة، وما دام أنه يحس العاطفة في نفسه إحساساً قوياً، وأنها
أمر طبيعي، فهي إذا لم تخرج في مظاهرها أو نتائجها عما تقضي به الحكمة كانت أمراً مشروعاً لا نكران له، ومن ذلك نشأت في رأسه فكرة سوف تظهر في كثير من آثاره، وهي العمل على وجود التوافق والانسجام بين القلب والعقل
وثمة شيء آخر نستخلصه من الغنائية، وهو صفة شائعة في بقية شعرة في هورتون، ونعنى بها روحه الإنسانية وتتضح في شدة إحساسه وصدق استجابته لمعاني الحياة، وشعوره بكل ما يشعر به القلب الإنساني من دواعي الفرح أو الحزن أو الراحة أو الألم، وكل ما يهجس في النفوس من رغبات وينهض بها من مطامح؛ وفي هذا كله أبلغ دليل على أن ملتن لم يكن الشاعر المتزمت كما عسى أن يفهم من تمسكه بالفضيلة، كما فيه خير مصداق لقول القائل:(إن ملتن كان خاتمة الأليزابيثيين)
ليسيداس:
كانت ليسيداس آخر قصيدة نظمها الشاعر في هورتون، وكانت في رثاء صديق له هو إدوارد كنج أحد زملائه في كمبردج وكان شاعراً له قدره، وقد غرق هذا الصديق سنه 1637 أثناء رحلته من شستر إلى أيرلندة، وأعد أصحابه في كمبردج عدداً من المراثي انتظمها كتاب صغير، وكان من بينها مرثية ملتن!
بدأ ملتن مرثيته بإشارة إلى بعض الأزهار التي يوحي ذكرها الشعر قائلاً إنه يعود ليقتطفها مبتسرة لم تتفتح، وهو يرمي بذلك إلى أنه يعود مرة ثانية إلى الشعر قبل أن يتم استعداده كما يجب، فإن حادثاً جللاً يعز عليه معه أن يظل صامتاً، وذلك هو موت ليسيداس، وكان ليسيداس اسماً اصطلاحياً على أي راع من الرعاة، وقد شبه ملتن صديقه بالراعي تلميحاً إلى الشعر الغنائي ونشأته على ألسنة الرعاة. . .
ويتساءل الشاعر: منذا الذي لا يغني لليسيداس وهو الذي عرف كيف يغني وكيف يطرب؟ فلا أقل إذ من أغنية دامعة على هذا الراحل العزيز!
ثم يستحث ملتن ربات الشعر اللائي يقمن في سفح الأولمب عند البئر المقدسة، حيث موطن (جوف) وسألهن العون، فقد كان ليسيداس قرينه، كانا راعيين معاً على تل واحد يطعمان غنماتهما ويسقيانها من نبع واحد ويأويان بها إلى ذل واحد ويغينان لها بزمارة واحدة. . . ويستطرد في وصف حياتهما معاً وما يحيط بهما من مظاهر الجمال والاستمتاع
على صورة أشبه بما جاء في قصيدته الإليجرو، وهو إنما يقصد حياة الشعر وجمال دنياه!
وينتقل بعد ذلك انتقاله حزينة بذكر ما حدث من موت ليسيداس فيذكرنا بقصيدته البنسروزو؛ فسوف يقع نبأ فقده في أنفس الرعاة أو الشعراء كما تقع الحشرات والصقيع على الزهر والحشائش النضرة.
ثم يسأل الشاعر عذارى الماء أين كنا حينا أطبقت اللجة على ليسيداس الذي أحببن؟ ولكن ماذا يجدي هذا الحلم وما عسى أن يصنعن لو أنهن كنا حاضرات. . .
ويتساءل الشاعر بعد ذلك في فقرة حزينة تعد من أبلغ ما كتب عن جدوى الشعر ومعاناة قرضه إذا كان مصير الشاعر إلى مثل هذا الفناء المباغت؛ أليس أجدى على المرء أن يرتع ويلعب؟ إن الصيت والرغبة في المجد هما اللذان يحفزان الأنفس النبيلة فتحتقر اللعب وتقبل على المتاعب، ولكن القدر المباغت يذهب بهذا كله. وإنما يشير ملتن في هذه الفقرة إلى ما يخشى على نفسه كما يشير إلى ما حدث لصاحبه، ثم يستدرك قائلاً إن أبولو يرد عليه مذكراً إياه ان المرء يفنى ولكن المجد والصيت لا يلحق بهما الفناء، وكأنه بذلك يعزي نفسه. . .
ويعتذر الشاعر عن نبتيون إله البحر بفقرة جميلة رائعة الخيال ويبرئه من إغراق ليسيداس ويعود باللائمة على الحظ العاثر، ثم يلمح إلى جامعة كمبردج ويذكر مبلغ حزنها على ابنها الذي فقدته.
ويبتعد الشاعر عن جو المرثية الذي جعله كله ريفياً فيحشر في آله الإغريق التي يلمح إليه (لود) كبير الأساقفة يومئذ ويشتد في الحملة عليه وعلى شيعته ويرميهم بالجهل، ويأتي في حملته عليهم بجمله قوية فيصفهم بأنهم (تلك الأفواه العمياء) ويقصد بالأفواه الهم والجشع والإقبال على الدنيا، والابتعاد عن الحياة الروحية. وأمل العمى فهو عمى بصائرهم وموت أرواحهم. وتفسر هذه الحملة على لود في هذا المقام بأن صاحبه إدوارد كنج كان يكره كبير الأساقفة وشيعته كما كان يكرهه ملتن لجمودهم واستبدادهم، وطالما قرأ ملتن وصديقه كنج الفلسفة معاً وعلوم الدين فكأنما يكره الشاعر إذ يرثي صديقه أن يموت ذلك الصديق ويعيش لود وأتباعه.
ويعود ملتن إلى جوه القروي، جو الرعاة والشعر، فينادي الوديان والشطآن أن ترسل
زهرها من كل لون وفي مآقيه دموع الندى ليوضع هذا الزهر حيث يوسد ليسيداس.
ويدعو الشاعر الرعاة أن يمسكوا عن البكاء فما مات ليسيداس وإن طواه اليم، فهو كالشمس كوكب النهار، تغرق في ماء المحيط، ثم ما هي إلا ساعات وترفع جبهتها الوضاءة من اليم فيكون ألا صباح، وسيرفع ليسيداس جبهته في عالم النعيم الدائم؛ حيث يتلقه القديسون والصالحون، وهو منذ اليوم جني الماء يتلمس الخير عنده كل من يرد الشط.
وتعد هذه المرثية من أجمل المراثي في اللغة الإنجليزية إن لم تكن أجملها وأعظمها جميعاً. وهي في غير تحفظ أجمل مرثية في صديق في تاريخ تلك اللغة. أما من حيث قوة الشعر فيها فقد بلغ ملتن هنا ما لم يبلغه في غيرها من السمو والقوة، حتى لتعد نموذجاً لشعره إذ يكتمل، وللشعر الإنجليزي في أرفع درجاته، ولروح الشعر على الإطلاق في أي لغة وفي أي مناسبة، إذ يكون له من السحر والروعة ما يكون للأثر الفني الخالد المعجز.
هذه القصائد الخمس هي كل ما نظم ملتن أثناء مقامه في هورتون، وهي كما أسلفنا القول كفيلة أن تحل ملتن بين الصفوة من شعراء الغناء، كما أنها كيله وحدها لو لم يكن له غيرها أن تجعل منه شاعراً فذاً مرموق المكانة، بيد أنها على الرغم من ذلك لم تخل كما قلنا من هفوات.
تزدحم قصيدتاه الأليجر والبنسروزو بتلميحاته الميثولوجية ازدحاماً يكاد يحس معه المرء أن شعر ملتن هنا غلبت فيه الصنعة على الفن، وأنه يميل إلى إظهار معرفته بالإغريقية واللاتينية أكثر مما يعنى بفنه. وكذلك تعد عليه في هاتين القصيدتين هفوات عند وصفه الطبيعة تدل على أنه أحياناً ينقل عما يقرأ أكثر مما ينقل عما يرى، فهو يشير مثلاً إلى زهرات في زمان غير زمانها يجعل لها لوناً غير لونها، كما أنه يصف أوراق شجرة من الأشجار بما هو بعيد عن طبيعتها. ويؤخذ عليه في قصيدة الأليجرو وأنه أغفل أمر الحب كصورة من صور المرح، وإغفال صورة كهذه تعد من أقوى صوره أمر معيب وبخاصة إذا كان مرده إلى مبالغة ملتن في الحرص على العفة، فلا يصح أن يتعمد شاعر إهمال هذه الناحية الإنسانية القوية تشيعاً منه لنزعة من نزعات الفكر، فإن ذلك لا يتفق مع صدق الفن وصراحته.
أما مسرحيته الغنائية كومس فإننا وإن صرفنا النظر عن ضعف بنائها كمسرحية غنائية
نجدها لا تخلو من مآخذ، وأهمها هذه الطريقة الوعظية التي لجأ إليها ملتن، أو هذه النزعة التعليمية التي جعلته يطنب في إرسال آرائه على ألسنة المتحدثين في المسرحية بصورة كادت تبعث على الملل في كثير من المواقف. وحسبك أن يتناقش الإخوان في مائة وستين سطراً فيما إذا كانت الفضيلة تعصم أختهما من الخطر، وأن يطيل الروح الحارس حبل الكلام فيستنفد وحده مائة وسبعين سطراً قبل أن تتخذ أية خطوة لإنقاذها، مما يبعد المسرحة عن روح المسرح وما تتطلبه من حركة وفعل، ومما يجعل المرء يحس أن مواقفها متكلفة لمجرد التعبير عن أفكار الشاعر. ويأتي بعد ذلك عيب آخر وهو مبالغة أكبر الأخوين في ثقته بالفضيلة، الأمر الذي يضعف في النفس اللهفة على الفتاة وقد تاهت في ظلمات الغابة. ومثل ذلك العيب إغراء كومس الفتاة، فإن إغراءه لم يزد على كونه بعض الآراء الفلسفية الجامدة مع إشارة إلى سحر ذلك الشراب، ولو أنه كان حواراً قصيراً تعرض فيه جوانب الرأي لكان أوقع في النفس وأدنى إلى روح الدراما، وأبلغ في الإغراء وفي امتحان عفتها من ذلك الكلام الشبيه بلغة المدارس أو أسلوب المقالات. والحق أن الغنائية كلها مواقف وأشخاصاً إن هي إلا وسيلة أراد بها ملتن أن يعبر عن أفكاره، فلو أننا قارنا بينها وبين الدراما المسرحية لرأينا كأنما ظهر الملقن على المسرح في هذه الغنائية، وأخذ يلقن كل شخصية ما تقول. . .
أما من حيث فلسفته الغنائية، فقد خلط ملتن بين العفة وبين العذرة، والعفة إذا انتهت إلى الزواج أمكن الجمع بين مباهج الحياة وجمال الطبيعة والحكمة المطلوبة، ولكن أن تظل الفتاة عذراء أبداً أو يظل الفتى عزباً أبداً دون أن يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ثم يحاول مع هذا الزهد الصارم أو هذا الحرمان أن يأخذ بقسط من جمال الحياة وثمرات الطبيعة فهذا ما يصعب تصوره. ومرد هذا الاضطراب إلى تذبذب الشاعر بين الطبيعة وفرط حبه إياها حباً تجلى فيما قاله على لسان كومس وبين حرصه على قواعد الخلق التي ألتزمها منذ صغره، والتي هي أقرب الأشياء إلى طبيعة البيوريتانية التي كان يميل إليها. ولعل تمسكه يومئذ بأن يظل عزباً ليتفرغ لرسالته مع شغف نفسه بالجمال وإحساسه بالحياة كان له أثره في هذا التناقض الذي أضعف فلسفته.
وكذلك يؤخذ على ملتن أنه لم يرنا كيف تكون العفة سبيلاً إلى قوة خفية سماوية، فهذه
مسألة ظلت مبهمة، ولهذا ضعف وقعها في النفس.
ومما يلفت النظر في الغنائية أن كومس في محاولته إغراء الفتاة قد سخر من العفة في ذاتها وعدها كلمة جوفاء، كما أنه أغراها بالطبيعة ومفاتنها وطيباتها، فلما أرادت أن ترد كان ردها موجهاً إلى محاجته في الطبيعة، أما سخر به فلم ترد عليه إلا بامتداح العفة فحسب، كقولها إنها القوة المتشحة بأشعة الشمس، وكان أولى أن تبين أثر العفة في تطهير النفوس لتستبين قوتها، ولقد بدا ملتن هنا في أضعف مواقفه في الغنائي، حتى لكأنه لا يدري ماذا يقول.
هذه هي المآخذ التي توجه إلى شعر ملتن في هورتون، ومهما يُقل فيها، فهي أقل من أن تذهب بشيء من قيمة هذا الشعر الذي بلغ الذروة الفنية، والذي قل أن يقع المرء على نظيره في اللغة الإنجليزية كلها روعة أداء، وعذوبة موسيقى، وإشراق لفظ، وسمو معنى، مما يجعله مزيجاً فذاً من جمال العصر الأليزابيثي ومن ثقافة ملتن، مزيجاً طبعه بطابع الفحولة، حتى بات بين ما أنتجت الدنيا من شعر في قديمها وحديثها وله مقام معلوم.
(يتبع)
الخفيف
القضايا الكبرى في الإسلام
قضية زيد وزينب
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
قضية زيد بن حارثة وزينب بنت جحش من أكبر القضايا الإسلامية، وتمتاز بما كان فيها من تنحي القاضي الذي رفعت إليه أولاً عن الحكم فيها، لأنه رأى أن له فيها شأناً، فلا يصح أن يحكم فيها وله شأن بها، وذلك أصل معروف من أصول القضاء وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية وإن لم يكن محل ريبة، ليضع ذلك التشريع في القضاء الإسلامي، ويأخذ به القضاة في التنحي عن نظر القضايا التي يكون لهم فيها شأن.
ويرى الذين كتبوا في هذه القضية أنها تبتدئ من النزاع الذي حدث بين زيد وزينب بعد زواجهما، وإني أرى أنها تبتدئ من ذلك الزواج نفسه، وأن ذلك الزواج لم يكن إلا تمهيداً لهذه القضية التي لم يكن أمرها مقتصراً على زيد وزينب، وإنما كانت وسيلة لإبطال عادة ظالمة من أكبر عادات العرب في جاهليتهم، بل من أكبر عادات الأمم القديمة من عرب وغيرهم. وقد اختيرت هذه القضية لإبطال هذه العادة، واختير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو البادئ بإبطالها في أمر نفسه، لأن ذلك هو شأن كل مشرع، ولأنه كان لتلك العادة سلطان على النفوس، فلا يهون من أمرها إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وهو البادئ بإبطالها.
كان العرب في الجاهلية يلحقون بعض الأجانب بأولادهم، ويعطون الدعي جميع حقوق الولد في الإرث وحرمة النسب وغيرهما، كما كانوا يخلعون أبناءهم من نسبهم لسبب من الأسباب فيأتي الرجل منهم بابنه إلى الموسم ويقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلب، فلا يؤخذ بجرائره.
وكان زيد بن حارثة من بني كلب، وأمه سعدى بنت ثعلبة من بني بن طي، فزارت قومها ومعها زيد ابنها، فأغارت خيل من بني القين على قومها، فاحتملوا زيداً وهو غلام يفقه، فأتوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وقد مكث عنده حتى حج ناس من كلب فرأوه فعرفهم وعرفوه، ولما رجعوا إلى قومهن أعلموا أباه حارثة بموضعه، فخرج هو وأخوه
كعب بفدائه فقدما مكة، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبعث بعد، فقالا له: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال: أو غير ذلك؟ ادعوه فخيروه، فإن أختاركم فهو لكم بغير فداء، وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. ثم دعاه فقال له: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي. فقال له: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا له: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك. فقال لهما: قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، ثم انصرفا إلى قومهما.
فصار زيد يدعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فكان من أسبق الناس إسلاماً، ثم هاجر إلى المدينة، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له ابنه أسامة. فلما كانت السنة الخامسة من الهجرة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل عادة التبني، لأنه لا يصح أن يكون الولد ولداً بقول تنطق به أفواهنا، وإنما الولد قطعة من أبيه، فهو أبوه بذلك أراد أو لم يرد، وهذه هي الحقيقة والفطرة وما عداها كذب وغش، وليس للرجل أن يكون له حق إرث أقربائه، ثم يأتي بأجنبي عنهم فيجعله ولداً له، ويؤثره بإرثه دونهم، فذلك ظلم من أكبر الظلم، وقطيعة لا ترضاها شريعة من الشرائع العادلة.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار له زوجاً ليعقبه عليها ويبطل بالفعل قبل القول تلك العادة الظالمة، ولهذا خالف ما فعله معه في الزواج الأول حين اختار له مولاته أم أيمن، فكان نسبها قريباً من نسبه، لأن قرب منزلة الزوجين في النسب له أثر في الألفة بينهما، وفي عدم تعالي أحدهما على الآخر، فتطيب بذلك عشرتهما، وتستقر به رابطة الزوجية.
ولكنه في الزواج الثاني كان يعلم أن مآله إليه، فلم يختر فيه لزيد بل اختار لنفسه، ليقضي الله ما أراده من إبطال عادة التبني ولا يكون عليه حرج في زواج من لا يريدها إذا أرادها
لنفسه أولاً، ولهذا اختار لزيد هذه المرة زوجاً من أعلى قريش نسباً، وهي زينب بنت جحش الأسدية، وأمها أميمة بنت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت بيضاء جميلة ذات خلق، ومن أتم نساء قريش، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه، فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت ذلك وقالت: أنا ابنة عمتك يا رسول الله، فلا أرضاه لنفسي. وكذلك أبى أخوها عبد الله بن جحش، فأنزل الله في شأنهما الآية من سورة الأحزاب (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) فلما سمعت ذلك زينب وأخوها رضيا وسلما. وجعلت زينب أمرها بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكحها زيداً ليقضي الله ما أراده من زواجه بها.
وما كان الله ليزوج زينب زيداً على غير رغبتها لتكون زوجاً دائمة له، وهو قد شرع فيما شرع استئمار النساء في النكاح، حتى يكون النكاح عن رغبتهن، ويكون عشرة طيبة راضية لا نزاع فيها ولا خلاف، بل محبة وإخلاص وتعاون على المعيشة، وذرية صالحة متألقة بتآلف الأب والأم.
فلما دخل زيد على زينب لم يمكنها أن تتغلب على ما تشعر به من رفعة نسبها على نسبه، ولم يمكنها أن تحبه كما تحب الزوج بعلها، لأن الحب ميل فطري من صنع الله تعالى، وليس من صنع الإنسان ولا غيره من الخلق، فلم تحسن عشرتهما، ولم يهنأ بذلك الزواج كما يهنأ غيرهما، فكانت تتعالى على زيد بنسبها، وكان زيد لا يطيق ذلك ولا يحتمله، لأنه لم يكن أرادها لنفسه عن حب لها حتى يحتمل ذلك منها، وإنما كان شأنهما واحداً في ذلك الزواج. أريد لها أن تتزوج به فرضيت تنفيذاً لأمر الله، وأريد له أن يتزوج بها فرضى تنفيذاً لأمره أيضاً.
فكان زيد يشتكيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، فيأمره باحتمالها والصبر عليها، فيصبر زيد ويحتمل تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ضاق بها ونفذ صبره، ولم ير بداً من طلاقها، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوها إليه وأخبره هذه المرة بأنه يريد طلاقها، فأمره أيضا باحتمالها والصبر عليها، وقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
كل هذا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي له بفراقها. ولو كانت القضية غير هذه القضية لقضى فيها بالفراق، وأراح الزوجين من هذا الشقاء الذي ينافي شريعة الزواج، ويخالف حكمته المذكورة في قوله تعالى في الآية (189) من سورة الأعراف:(هو الذي خلقكم من نفس واحدة منها زوجها ليسكن إليها).
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن له صلة قوية بقضية زينب، وأن الله لم يرد أن يزوج زيداً زينب على غير رغبتها إلا ليطلقها فيتزوجها بعده، ويبطل بذلك بنوته له بالفعل قبل أن يبطلها بالقول، فأمسك عن الحكم فيها بما كان يجب أن يحكم به في نظيرها، ليضرب بذلك مثلاً للقضاة بعده، فيمسكوا عن الحكم في كل قضية يكون لهم صلة بها. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أعداء من اليهود والمنافقين، فخشي أن يطعنوا عليه بالباطل، وأن يقولوا انه تزوج امرأة ابنه، وأخشى على زيد أن يقوم بنفسه شيء إذا تزوجها بعده.
ولم يكن بعد ذلك إلا أن يتولى الله الحكم فيها، حتى لا يكون لأحد كلام في حكمه، فأنزل في الحكم بطلاقها وزواجها من النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الآية (37) من سورة الأحزاب:(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه: أمسك عليك زوجك واتق الله، وتخفى في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وكان أمر الله مفعولا) وكانت زينب تفتخر بذلك علة أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
عبد المتعال الصعيدي
الجذام
للدكتور أصلي محمد باهي
لمحة تاريخية
إن من أخبث الأمراض التي مني بها الإنسان في هذه الدنيا هو (الجذام) أو (الأسد)؛ ويرجع تاريخ نشأته إلى العصور الخالية. وقد حاول بعض علماء أوربا أن يثبتوا أن مصر من عهد الفراعنة كانت مهد هذا الداء الوبيل مستشهدين على ذلك بما وجد من نقوش في هياكل لأناس لا بد أن يكونوا قد أصيبوا بهذا المرض وهم على قيد الحياة، وخلدوا إما لسمو مكانتهم أو لأغراض أخرى وخلدت معهم أمراضهم لا عن تعمد بل عن براعة في فن النحت في ذلك العصر الغابر. إلا إن هناك فريقاً آخر يقيم الحجة، ويؤكد أن الصين والهند وبطاح آسيا هي منبته الأصلي، وهو إنما جاء إلى مصر عن طريق العدوى بالتنقل والاختلاط. وأخيراً جمع الفريقان رأيهما في صعيد واحد وقالوا سواء أكانت مصر منبعه أم آسيا منبته، فمما لا مراء فيه إنه انتقل إلى أوربا من مصر في القرون الأخيرة قبل الميلاد، وقد ذكره الشاعر الفيلسوف:(تيتوس لو كيتيوس كاروس). (عاش من سنة 99 إلى سنة 55 ق. م) في شعره. ووصفه الطبيب الروماني (سلزوس)(عاش من سنة 53 ق. م إلى سنة 7 ق. م) وصفاً دقيقاً بيناً مما لا يدع شكاً في أنه مرض الجذام بعينه. وقد نعت في ذاك الوقت بداء (التفيل الإغريقي) وأثبت العالم الألماني (فون برجمان) أن هذا المرض انتشر في إسبانيا وسهول لومبارديا بشمالي إيطاليا وألمانيا وفرنسا في القرن الثاني بعد الميلاد. وجاء بعده زميله العالم الباتولوجي (فرشو) وذكر في مصنفاته أن أوربا أنشأت مئات الملاجئ للمجذومين في مختلف أنحائها وذلك في القرن السابع بعد الميلاد. وذلك يدحض الرأي الذي كان شائعاً قبلاً، وهو أن الجذام لم يغز أوربا إلا عقب الحروب الصليبية أي حوالي القرن العاشر للميلاد، ويقول الداحضون لهذا الرأي إن هذا المرض جاء إلى أوربا قبل فجر المسيحية، إلا أنه ازداد انتشاراً عقب الحروب الصليبية.
وما جاء القرن الثاني عشر حتى شمل الجذام إنجلترا والدانمارك والبلاد الاسكندنافية وسائر أرجاء أوربا، ثم استمر في الانتشار والازدياد حتى القرن الرابع عشر إذ بلغ إذ ذاك أوج ازدهاره، فلما أفاقت أوربا من غفوتها وأدركت خطره، ومن ثم أخذت في مكافحته، ابتدأ في
الهبوط والزوال إلى أن جاء القرن السابع عشر فاختفى من بعض الأقطار تماماً، وهي تلك التي ضربت بسهم وافر في المدنية، وبقي منه النزر اليسير في تلك التي لم ترتق بها سبل الكفاح بعد إلى القدر المطلوب.
جوهره:
الجذام مرض مكروبي، أي أنه لا ينشأ إلا بالعدوى بجرثومته. وقد تكون العدوى عن طريق الاختلاط أو بالوراثة، أي أن يولد الطفل من أبوين مجذومين. ومكروب الجذام يشبه كثيراً مكروب السل، وهو صغير جداً ولا نقصد أنه صغير لعيننا المجردة؛ بل نقصد أنه صغير جداً بالنسبة لأنواع أخرى من المكروبات. ولأجل أن نعطي القارئ فكرة تقريبية عن حجم هذا المكروب نقول إنه إذا وضع من المكروب ألف واحد وضعاً طولياً بحيث يكون رأس الواحد بعد نهاية الآخر، وفي خط مستقيم على نمط عربات قطار السكة الحديد كان طول هذا الخط أربعة ملليمترات فقط. أما إذا وضعت الألف منه عرضياً أي كصف من الجند كان سمكه 3 ،. من الملليمتر، ومن ذلك يمكن للقارئ أن يصور لنفسه طول المكروب الواحد وعرضه.
ويعزى اكتشاف مكروب الجذام، إلى العالم النرويجي (أرماور هانزن) في عام 1873، وأما الذي درس حياته بالتفصيل، ووضع الأسس الحديثة لدراسته البكتريولوجية، فهو العالم الألماني (نايسر) وذلك سنة 1879، ومدة تفريخ المرض، أي الوقت الذي ينقضي من وقت دخول جرثومته في الجسم حتى تظهر أعراضه عليه، هي من 3 إلى 5 سنوات وقد تصل في بعض الحالات إلى 10 سنوات.
أعراضه:
هناك نوعان يتميز بهما المرض في نشأته ونموه ونهايته، وهذا يتوقف على الطريق الذي يسلكه المكروب بعد دخوله في الجسم، فمنه ما يلازم أعصاب الجسم ويسير معها أينما سارت ومنه ما يحاول النفاذ إلى الجسم عن طريق الأقنية اللمفاوية. وأهم أعراضه أورام تظهر على جسم المريض في مواضع مختلفة على شكل عقد متفاوتة في الحجم تثبت في مكانها؛ وتتجمد وتنمو بمرور الوقت، وقد تتقيح وتخرج منها إفرازات صديدية. وأكثر ما
تظهر هذه الأورام في الأطارف والوجه، وقد تنتشر على طول الحاجبين والأنف والشفتين والخدين بحيث يتشوه الوجه، ويكتسب طابع وجه الأسد، ولذا سمي الجذام أيضا بمرض (الأسد) أو (التأسد).
وكثيراً ما تنتشر العقد الجذامية على طول أصابع اليدين والقدمين، فإذا ما أصابها التقيح أعقب ذلك عادة تنخر في عظام الأصابع فتسقط من نهايتها، وقد تكرر هذه العملية إذا سار المرض من تلقاء نفسه في هذا الاتجاه، فلا يلبث المريض أن يفقد أصابع يديه أو قدميه. وقد يجيء الوقت الذي لا ترى من يديه إلا الكفين بعد أن فقدتا أصابعهما العشر كذلك يكون الحال بالقدمين.
وبعد أن ينال المرض غايته من أجزاء الجسم الخارجية يحول طريقه إلى الأعضاء الداخلية فيصيب الكبد والطحال والكليتين والأعضاء التناسلية وهلم جرا كلا بدوره، ويحدث فيها من التشويهات ما شاء له، ويأكل خلاياها الحية ويترك مكانها أوراماً خبيثة ملآى بملايين الملايين من مكروبه تزحف بمرور الوقت إلى ما يجاورها من أجزاء الجسم السليمة أو تبعث برهط منها عن طريق الدورة الليمفاوية إلى أجزاء أخرى من الجسم بعيدة عنها، وتلك تنشئ مستعمرة لها في هذا الجزء الذي حلت به، وهكذا دواليك إلى أن يقضي المريض نحبه. وعلى ذلك فمريض الجذام شخص حكم عليه بالموت البطيء، لا بل هو شخص تعس حكم القدر عليه أن يرى جسمه يتساقط أجزاء ويأكله المكروب حياً كما تأكل الديدان رمة بالية. هذه صورة مصغرة لأعراض هذا المرض الوبيل، في بدئه ونهايته.
ولدراسة هذا المرض ومكافحته أجرى العلماء تجارب عدة على أنواع مختلفة من الحيوان، فحقنوا الفيران والماعز والقرود بمكروب الجذام، وفي كثير من الحالات ظهرت أعراض المرض عليها بعد ردح من الزمن. وقد وفق (آرننج) للحصول على إجازة من السلطات المختصة بجزيرة (هاواي) لعمل تجارب على قاتل يدعى (كينو) حكم عليه بالإعدام، وقد خفف هذا الحكم إلى السجن المؤبد لكي يحقنه (آرننج) بمكروب المرض، وبعد حقنه بعامين تقريباً ظهرت عليه أعراض الجذام المعروفة، وابتدأ جسم هذا الرجل الذي كان يتدفق قوة وبطشاً يتهدم شيئاً فشيئاً. وبعد سنتين أخريين كان (كينو) في أثنائهما يكافح المرض بقوة جسمه، قرر طبيب السجن إحالته إلى مستعمرة المجذومين (بمولكاي) بجزيرة
(هاواي) حيث قضى المريض نحبه متأثراً من وطأة المرض.
مدى انتشاره في الأمم المختلفة:
سبق أن ذكرنا أن الجذام بعد أن كافحته أوربا تضائل وقل عدده حتى يمكن أن يقال إنه قارب الزوال من تلك القارة، وإذا تبسطنا في القول قلنا إنه تركز الآن في النرويج وروسيا وإسبانيا والبرتغال والبلقان وجزيرة ايسلنده. وهما يكن مجموع ما هو موجود منه اليوم في أوربا بالنسبة لعدد سكانها فإنه لا يعد شيئاً مذكوراً في عالم الوبائيات، ولا سيما بعد أن تتاح لنا فيما بعد فرصة للمقارنة بينه وبين ما هو موجود في بقاع أخرى من الكرة الأرضية. ويقدر الأخصائيون ما هو موجود الآن منه في أوربا بنحو 5000 حالة، وإذا علمنا أن عدد سكان الصين يعادل تقريباً عدد سكان القارة الأوربية اعترانا الدهش أو بالأحرى الذهول حينما يقال لنا إن بالصين ما يزيد عن مليون مجذوم، وهذا يوضح لنا مرة أخرى مبلغ تأثير المدينة في مكافحة المرض والقضاء عليه وكذلك استتبابه وتغلغله في تلك الأقطار التي لا تزال تغط في سبات عميق من التواكل والخمول. أليس من المزعج لا بل من المؤلم أيضا أن يكون المرض منتشراً في الصين بنسبة تعادل 200 ضعف قوة انتشاره في أوربا. . .!!؟
ويوجد في الهند نحو300. 000 مجذوم وفي مصر نحو10. 000 مصاب بهذا المرض، وأكثر بقاع الأرض إصابة به هي (كولومبيا) في أمريكا الوسطى وجزيرة (مدغشقر) بالمحيط الهندي، وهذه الجزيرة هي التي تحمل الرقم القياسي لهذا المرض. وليس أدل على ذلك من أن بتلك الجزيرة التي يزيد سكانها عن المليون نحو 8000 مريض بالجذام أو ما يعادل أضعاف قوة انتشاره في الصين وعشرة أضعاف قوة انتشاره بمصر. ولا داعي لأن نقارنه بقلة انتشاره في أوربا إذ ربما نصاب بدوار بالرأس أو ذهول.
كيف كافحته أوربا حتى قضت عليه:
لا مشاحة في أن الحضارة في العصور المختلفة هي التي تكيف حياة الفرد؛ بل حياة الأمة، والأمم التي تأخذ بأسبابها تطبعها بطابعها الخاص فتهديها إلى ما يجب عليها عمله في أمر من الأمور أو في مشكلة اجتماعية خاصة، وتنهاها عما لا يتفق وروح تلك الحضارة. وقوة
تفكير الفرد مستمدة من ينبوع حضارته. وهذا مرض الجذام خير دليل على ما للمدنية من قوة فعالة للقضاء على الخبيث من الأمراض، وإسعاد الشعوب بإرشادها إلى ما يحميها مما يهدد كيانها أو ينغص عليها حياتها.
إن أول ما فعله الأوربيون في القرون الوسطى حينما انتشر المرض بين ظهرانيهم، ورأوا من ضحاياه الكثيرين في الشوارع والطرقات يسيرون هنا وهناك، أن اشمأزوا من رؤيتهم، وتأففوا من لمسهم وتجنبوا الاختلاط بهم أو التعامل معهم، وهذا هو العزل الفطري، عزل السليقة والإيحاء، وهو في تاريخ الطب الحجر الأول في نظام العزل الذي نعرفه اليوم (بالعزل أو الحجر الصحي). أزعجتهم في بادئ الأمر تلك التشويهات الخطيرة التي أحدثها المرض بأجسام ضحاياه، وبالرغم من أن جوهره وأسبابه كانت مجهولة لهم تماماً إذ لم يكونوا يعلمون من علم المكروبات شيئاً، إلا أنهم رأوا بالرغم من ذلك كله ضرورة إسكانهم في بيوت خاصة بهم ومنعزلة عن الأصحاء من أبناء جلدتهم، وقد اختيرت لهم في أغلب الأحيان بيوت واقعة خارج المدن لضمان عدم اختلاطهم بباقي السكان.
ولما كان عدد المجذومين في ذاك العهد كبيراً، وإيواؤهم ثم إطعامهم لا تقوى الحكومات إلى القيام به منفردة، انبرى أغنياؤهم إلى مد حكوماتهم بالإعانة والتبرع والإحسان، صرح للمجذومين فوق ذلك أن يجوبوا الطرقات للاستجداء ليساهموا هم أيضا إلى حد ما في سد نفقاتهم، إلا أنه فرض عليهم في نفس الوقت أن يرتدوا لباساً خاصاً، ويضعوا فوق رءوسهم غطاء معيناً ليراهم الجمهور من بعيد ويتميزهم. وإذا غفل عابر سبيل عن أن يرى مجذوماً مقبلاً عليه كان محتماً على المجذوم أن يرفع رداء نصفياً يغطيه حتى الذراعين بضع مرات متوالية في الهواء مؤدياً حركة تشبه طائراً يرفرف بجناحيه حتى يسترعي نظر من هو مقبل عليه ليحذره، ولا يصطدم به، والويل ثم الويل للمجذوم إذا هو غفل عن ذلك فإنه كان يعاقب إذا ذاك عقاباً صارماً.
أصلى محمد باهي
في كتاب:
(معالم تاريخ العصور الوسطى)
للسنة الثانية الثانوية طبعة سنة 1945
للأستاذ محمد الطنطاوي
كتاب قيم طوى شتيت المعاني في وجيز العبارات، تلبية لداعي الوقت الدراسي الذي تتناهبه مختلفات العلوم. وجمل هذا الاختصار الأنيق الرعاية الدقيقة في رواية المعاني من حوادث وغيرها، وكذلك ينبغي أن توضع كتب الوزارة، فإنها المصادر الفريدة لمعلومات النشء العالقة بعقولهم، الخالدة في صحائف أذهانهم يئلون إليها عندما يتسع أفق تفكيرهم كأساس يعتمدون عليه في تنمية معارفهم.
طالعت قرابة نصف كتاب (المعالم) الأول، فعنت لي ملاحظات فيما قرأت أبتغي بعرضها تلافيها في الطبعة المقبلة خدمة للعلم والتاريخ.
جاء في ص13: (ولم يكن لبني هاشم منافسون سوى بني أمية وهم أحفاد عبد الدار أحد اخوة قصي)
والجملة الثانية تفيد أمرين: الأول أن بني أمية أحفاد عبد الدار، والثاني أن عبد الدار أحد اخوة قصي.
وأقول إن كلا الأمرين لا ينطبق على الواقع. فإن كتب الأنساب تروي أن قصياً نسل عبد الدار وعبد مناف وغيرهما، وأن عبد مناف نجل عبد شمس وهاشماً وغيرهما، وأن عبد شمس أعقب أمية واخوته.
ومن ذا يتضح أن بني أمية حفدة عبد مناف كبني هاشم، وأن عبد الدار أحد أبناء قصي. فصحة الجملة (وهم أحفاد عبد مناف بن قصي) والجملة حينئذ يستبين منها أن بينهما رحماً ماسة وذلك هو الهدف الذي ترمي إليه.
وجاء في ص18 في الغزوات: (وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم في تسع منها)
والظاهر من هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم لم يشترك في باقي الغزوات.
وأقول إن المعروف أن الغزوة ما خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سواء أوقع فيها
قتال أم لا، وأن القتال كان في تسعه منها فقط. فالنبي صلى الله عليه وسلم اشترك في الغزوات كلها، وبتالي قاتل مع المسلمين في التسع. فالصواب في الجملة (وقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في تسع منها) كما في سيرة ابن هشام وغيرها
وجاء في ص18 أيضاً: (ونالوا أول انتصار لهم في السنة الأولى بعد الهجرة في غزوة بدر. . . وقد أحسن المسلمون معاملة الأسرى). . .
تقتضي الجملة الأولى أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى بعد الهجرة.
وأقول إن كتب المغازي والسير اتفقت على أن تلك الغزاة وقعت في السنة الثانية. وبها اعتز المسلمون وأوهن كيد الكافرين.
وجاء في ص18 و 19: (ولما نكث بنو قريظة عهدهم. . . فقاتلوهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً. . . فأخذ النبي بعد هذا يقلب وجهة في السماء. . . فأمر أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام)
يفيد القارئ لهذا الكلام من الجملتين الأخيرتين أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بعد غزوة بني قريظة التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة.
وأقول إن كتب المغازي والسير وأسباب النزول مطبقة على أن تحويل القبلة لم يتأخر حتى هذا الحين بل كان قبيل غزوة بدر الكبرى التي كانت في السنة الثانية بعد الهجرة.
وجاء في ص49 لمناسبة قتل الحسين رضى الله عنه: (ومن علي زين العابدين بن الحسين تناسلت ذرية النبي صلى الله عليه وسلم
إن هذه الجملة بوساطة تقديم المعمول تشعر بقصر التناسل من الذرية الشريفة على سيدنا علي زين العابدين.
وأقول إن التناسل قد استمر في ذريتي السبطين (الحسن والحسين) معاً إلى عهدنا والأعلام منهما مشهورة فالصواب حذف الجملة أو تقديم الفعل.
وجاء في ص66: (منافسة العلويين لخلفاء بني العباس. . . ومن ذلك دولة الأدارسة بالمغرب والدولة الفاطمية. . . ودولة بني بويه وهي من غلاة الشيعة).
أقول يحسن حذف ، وهي) بعد بني بويه لتكون جملة مستقلة ليس فيها عطف دولة بني بويه على ما قبلها لئلا يوهم العطف أنها علوية نسباً كالأدارسة والفاطمية.
وجاء في ص82 عن والي مصر عبد العزيز بن مروان (ويظن أن أول الدنانير العربية ضربت في عهده)
أقول هذا الظن غير منسجم مع ما سلف في الكتاب نفسه من اليقين عن الخليفة عبد الملك بن مروان، ففيه ص51 (وضرب نقوداً خاصة للعرب بعد أن كانوا يتعاملون بنقود الرومان والفرس فضرب في عهده الدينار وهو نصف جنيه بالتقريب) - وهذا ما ينبغي التعويل عليه من أقوال مذكورة في النقود الإسلامية للمقريزي و (الكامل) لابن الأثير، ليس منها من أضاف الضرب إلى عبد العزيز. نعم ورد في النجوم الزاهرة أنه أشار على الخليفة بذلك لكن لا تصل الإشارة إلى حد النسبة إليه.
محمد الطنطاوي
المدرس في كلية اللغة العربية
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
725 -
فلما وردا علي لم أعقل ما عملت
في (الأغاني): اصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات، ومعهم مغنية، فلما صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ معنا جارية لبعضنا وهي مغنية فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت لنا فعلنا، قال: أنا أصعد إلى ظلال السفينة فاصنعوا أنتم ما شئتم، فصعد، وأخذت الجارية عودها فغنت:
حتى إذا الصبح بدا ضوءه
…
وغابت الجوزاء والمرزم '
أقبلت - والوطء خفي - كما
…
ينساب من مكمنه الأرقم
فطرب الشيخ وصاح، ثم رمى بنفسه بثيابه في الفرات وجعل يغوص ويطفو ويقول:(أنا الأرقم، أنا الأرقم) فألقوا أنفسهم خلفه، فبعد لأي ما استخرجوه، فقالوا له: ما أصابك؟ فقال: دب شيء من قدمي إلى رأسي كدبيب النمل، ونزل في رأسي مثله فلما وردا على قلبي لم أعقل ما عملت.
726 -
وفي بيته مثل الغزال المربب
قال المبرد: اتهم سعد بن مصعب بن الزبير بامرأة في ليلة مناحة أو عرس، وكانت تحته ابنة حمزة بن عبد الله بن الزبير، فقال الأحوص (وكان بالمدينة رجل يقال له سعد النار):
ليس بسعد النار من تذكرونه
…
ولكن سعد النار سعد بن مصعب
ألم تر أن القوم ليلة جمعهم
…
بغوه فألفوه لدى شر مركب
فما يبتغي بالشر لا در دره
…
وفي بيته مثل الغزال المريب
727 -
ثم لم يرجع إليكم
قال الجاحظ: قال رجل من فقهاء المدينة: من عندنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة: نعم ثم لم رجع إليكم.
728 -
أصبت
في كتاب الأم للشافعي: أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء. قال سمعت
عبيد الله بن عمير يقول: اجتمعت جماعة فيما حول مكة، فحانت الصلاة، فتقدم رجل من آل أبي السائب أعجمي اللسان، فأخره المسور بن مخرمة وقدم غيره. فبلغ عمر بن الخطاب، فلم يعرفه بشيء حتى جاء المدينة، فلما جاء المدينة عرفه بذلك، فقال المسور: أنظرني يا أمير المؤمنين، إن الرجل كان أعجمي اللسان، وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحجاج قراءته فيأخذ بعجمته. فقال: هنالك ذهبت بها؟ فقلت: نعم. فقال: أصبت
729 -
وتأخذ الواحد من أمه
يا موت، ما أجفاك من نازل!
…
تنزل بالمرء على رغمه
نستلب العذراء من خدرها
…
وتأخذ الواحد من أمه
730 -
فاقرأ عليهم سورة المائدة
دعي ابن حجاج إلى دعوة مع جماعة فتأخر عنهم الطعام، فقال لصاحب الدعوة:
يا ذاهباً في داره آيبا
…
من غير ما معنى ولا فائدة
قد جن أضيافك من جوعهم
…
فاقرأ عليهم سورة المائدة!
731 -
لا كان دهر يولى على بني الناس مثلك
قال أبو الفداء: غضب أرغون شاه على فرس له قيمة فضربه حتى سقط، ثم قام فضربه حتى سقط، وهكذا مرات حتى عجز عن القيام، فبكى الحاضرون على هذا الفرس فقيل فيه:
عقرت طرفك حتى
…
أظهرت للناس عقلك
لا كان دهر يولى
…
على بني الناس مثلك
732 -
كلام بكلام
مر رجل بآخر فسلم عليه فقال: هلم، فهم الرجل أن يقعد معه، فقال الآكل: رفقاً، أما عرفت هذا ما هو؟
فقال: ما هو؟
قال: علي أن أقول هلم، وعليك أن تقول هنيئاً حتى يكون كلاماً بكلام. فقام الرجل.
فقال: قد أعفيتك من التسليم ومن تكليف الرد
فقال: قد أعفيت نفسي إذا من هلم
732 -
وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر
نظر شيخ من الأعراب إلى امرأته تتصنع وهي عجوز فقال:
عجوز ترجى أن تكون فتية
…
وهل لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعة بيتها
…
وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
وما غرني إلا خضاب بكفها
…
وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وجاءوا بها قبل المحاق بليلة
…
فكان محاقاً كله ذلك الشهر
733 -
ونطقهم عندها بهمس
قال أبو مروان عامر بن غصن:
يا فتية خيرة فدتهم
…
من حادثات الزمان نفسي
شربهم الخمر في بكور
…
ونطقهم عندها بهمس
أما ترون الشتاء يلقي
…
في الأرض بسطا من الدمقس
مقطب عابس ينادي:
…
يوم سرور ويوم أنس
الرباط الأسود
للأستاذ عبد الرحمن صدقي
قد غبرَ العامُ وما يحمدُ
…
وحلّ عامٌ مُثله أربدُ
دنيايَ مِن بَعدك يا زوجتي
…
آنسُ منها قبرُك الموصَد
وكلُّ أيامَي مسئومةٌ
…
ولو طغى اللهوُ بها والدَّد
نِضْوُ أسىً، في عُنُقي ربْطةٌ
…
سوداءُ كابٍ لونُها أكمد
يرنو إليها صاحبي مُنْكِراً
…
وقد تولَّى العامُ أو أزْيد
يسألني من رحمةٍ لحظُهُ
…
أما أَنَي لَخلْعها الموعد
يا لَوْعَتَا من خاطرٍ مزعجٍ
…
يهتاُج أشجاني ويسْتَوْقد
يرُوع نفسي، وكأني به
…
يروع مَن تحت الثرى ترقد
كأنني أجحد عهدَ الهوى
…
وعهدُنا الموثوقُ لا يُجْحَد
يا مهجتي قَرِّي، ويا روحَها
…
قَرِّي، فما انحلّ لنا مَعْقَد
لمَّا نَزَلْ عِرْسَيْن نمشي معاً
…
تشابكتْ مِنّي ومنك اليد
أسْرِي وتَسْرِين على بَرْزَخٍ
…
يتّصل اليومُ به والغدُ
يربط روحَيْنا برغم الردى
…
هذا الرباطُ الثَّاكلُ الأسود
أمل الفلاح
(القصيدة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر البريطاني
هذا العام)
للأديب حسن جاد حسن
الله للفلاح في بؤسه
…
وصرخة الآمال في نفسه
يبخسه الدهر، وأوطانُه
…
عون مع الدهر على بخسه
وما سرى في أفقه كوكبٌ
…
إلا وغض الطرف من نحسه
مضنى يقصّ الدهر عن كدحه
…
وتسمر الأيام في بأسه
على محيّاه سطور الضنى
…
قد خطَّها المقدور في طرسه
مغصّن الصفحة يطوي بها
…
دفائنَ الأسرار عن تعسه
تحسّ ذل البؤس في صوته
…
وتدرك التبريح في جرسه
الفقر والجهل وأسقامه
…
معاولٌ تهدم في أُسِّه
يبيتُ صفر اليد من عُدمه
…
والذهب الأبريز من غرسه
وقوتُه ما خلّفت أرضه
…
من حنظل الزرع ومن يبسه
يعيش بين البهم في كونه
…
كأنه لم يك من إنسه
من أسكن المترفَ فردوسه
…
يسكن في المعتم من رمسه
ومن كسا الوادي حرير المنى
…
مرقع الأطمار من لبسه
فكم شواه القيظ في جمره
…
وكم طواه البرد في قرسه
جندّيه المجهول في كدحه
…
ورمزه الصادق في قُدسه
مَن كلما مسَّ الثرى كفُّه
…
أحاله تبراً ندى مَسِّه
عَيٌّ فصيح الشكو في عِيّه
…
يبثه لله في همسه
قد خطَّها شكوى على أرضه
…
ذاك اليراع الحرُّ من فأسه
هل للمني الجرحى بأحشائه
…
هزة عطفٍ من بني جنسه؟
فكفكفوا المسفوح من غربه
…
وبدّدوا المربدَّ من يأسه
طِبُّوا لعاصي الداء في جسمه
…
واشفوا عضال الجهل في نفسه
واسقوه عذب الماء، لا آسناً
…
يرنق (المكروب) من كأسه
وكافحوها فيه أميَّةً
…
تنفث روح الشر من رجسه
تضاعفِ الصحة من عزمه
…
ويرهف التعليم من حسّه
لا تحرموه من جنى غرسه
…
واحموا الجنى الغاليَ من وكسه
واستبدلوا من كوخه جنةً
…
مِن رافة العيش وفردوسه
هذى أمانيه، نواعيرُه
…
أشجتْ بها الشادوف في مَيْسه
يلهو الحمى في خيرها
…
عن مأتم الفلاح في عُرسه
خلُّوه والسلم رفيف المنى
…
يستقبل الآمال من شمسه
إن تُسعدوه اليوم في ظله
…
ينس مرير العيش من أمسه
أو تُنهضوه تنهضوا بالحمى
…
وترفعوا المخفوض من رأسه
حسن جاد حسن
بقلم الأستاذية بكلية اللغة العربية
-
البريد الأدبي
رأي معالي العشماوي باشا في رواية تاج المرأة:
نشرنا في العدد 666 من (الرسالة) رأينا ورأي الأستاذ الزحلاوي في رواية (تاج المرأة) التي نقلها إلى العربية الأستاذ كامل بك البهنساوي، ويسرنا أن ننشر اليوم رأي صاحب المعالي وزير المعارف في كتاب أرسله إلى المترجم الفاضل هذا نصه:
عزيزي الأستاذ كامل البهنساوي بك
تلقيت كتابك، وإني ليسرني أن أعبر عن إعجابي براوية (تاج المرأة) التي ترجمها للمسرح المصري ومثلتها على مسرح الأوبرا (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى). ويعنيني بصفة خاصة أن أعبر لك - فوق إعجابي بالموضوع والتمثيل - عن إعحابي بلغة الترجمة التي أعدها لوناً من الأدب الرفيع يهنأ عليه من استطاع أن يقدمه للمسرح المصري العربي وأن يلفته إلى هذا الفن الرفيع.
ولقد كان قيام (الفرقة القومية) أول قيامها في العهد الذي كانت تتبع فيه وزارة المعارف وكنت وكيلاً لها - لكي تحقق هذه الناحية وتعني بها دون نظر إلى الربح أو الخسارة أو توازن الميزانية. فالأمر أمر نشر ثقافة فنية عالية لا ينبغي النظر فيه إلى مقدار ما يكلف الدولة من نفقات. وقد قدمت الفرقة طائفة مختارة من هذا الأدب الراقي متأثرة بالفكرة التي أوحت بإنشائها. ولعل من الخير أن تبقى هذه الخطة تترسمها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى).
وإني أوافقك على ضرورة التقدم إلى زميلي وزير الشؤون الاجتماعية بالسعي لتحتفظ الفرقة برسالتها الأولى في خدمة المسرح المصري العربي خدمة تقوم على أساس من الفن الرفيع والأدب العالي. وتفضل بقبول تحيات المخلص
محمد العشماوي
نوادر المخطوطات العربية في المكتبة التيمورية:
في المكتبة التيمورية التي ضمت إلى دار الكتب المصرية من عشر سنوات حوالي عشرين ألف مجلد من أقيم المؤلفات بينها بضع مئات من الكتب المخطوطة النادرة في مختلف
علوم اللغة والدين والفقه والأدب وسواها، ولمناسبة ظروف الحرب نقلت هذه الكتب كلها من المكتبة العامة إلى المغارات في المعادي لحفظها فيها، وقد بدئ أخيراً بإعادتها جميعاً إلى موضعها في دار الكتب.
وقد تقرر تكليف القسم الأدبي بالدار بمراجعة المخطوطات النادرة في المكتبة التيمورية لاختيار ما ينبغي نشره وطبعه منها، وبيم المؤلفات الخطية 500 بأيدي بعض جلة العلماء لتكون خاصة بمكتباتهم، و 300 بأيدي المؤلفين أنفسهم، و400 ليست مؤرخة، و 300 بها تواريخ كتابتها وهي منذ القرن الهجري السادس وما بعده.
وقد ندب للقيام بهذا العمل الأستاذ أحمد لطفي السيد، والأستاذ محمد عبد الجواد الأصمعي من محرري القسم الأدبي.
1 -
نص ثالث
كنت قد أشرت في جوابي للأديب الذي عقب على مقالتي (من غزل الفقهاء) بشأن بيتي عروة بن أذينة، إلى نصين معتبرين: نص الأغاني للأصبهاني (الجزء 21) ونص البكري في شرح الأمالي لأبي علي القالي (1: 137)، على أن البيتين لعروة لا لعمر بن أبي ربيعة وإن ذكرا في ديوانه الذي جمع في عصر متأخر، وأخذهما من هناك (فيما يظهر) الأستاذ العقاد. وقد أراني اليوم الطالب النابغة السيد عصام العطار من طلاب المعهد العربي في دمشق نصاً ثالثاً أورده شاكراً له مثنياً عليه.
جاء في الجزء الأول من زهر الآداب للحصري (ص151):
(وكان عروة بن أذينة على زهده وورعه، وكثرة علمه وفهمه، رقيق الغزل كثيره (إلى أن قال) ومرت به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهم فقالت له: أنت الذي تزعم أنك غير عاشق، وأنت تقول:
قالت وأبثثتها سرى (الخ) البيتين.
والله ما خرج هذا من قلب سليم قط.
ولو تتبعت المصادر لوجدت نصوصاً أخرى كثيرة، ولكن المسألة أهون من أن يبذل فيها هذا الجهد.
2 -
جواب
على ما نشر في بريد (الرسالة)(666):
جوز أبو حنيفة وحده ولاية المرأة القضاء في المدنيات دون الجنائيات ومنعها سائر الفقهاء، ولم يعرف التاريخ امرأة واحدة وليت القضاء.
أو ما كفى المرأة أن تكون (نائبة) الرجل ووكيلته في الدار، حتى تكون (نائبة) الأمة في البرلمان و (نائبة) العدل في المحكمة؟
إنه ما بعد هذه (النائبات) إلا أن تكون هي (القاضية)!
علي الطنطاوي
القاضي
جامعة أدباء العروبة:
اجتمع مجلس إدارة جامعة أدباء العروبة في دار الدكتور محمد وصفي نائب رئيس الجامعة طائفة من رجال البيان والأدب وتدارسوا فيما بينهم وسائل النهوض بالأدب ليؤدي رسالته كاملة في تحقيق الوحدة العربية والحرية والكرامة لشعوبها. وتكلم حضرات الأساتذة صاحب المعالي دسوقي أباظة باشا، والدكتور وصفي، والدكتور إسماعيل حسين، وطه عبد الباقي سرور، وعبد العزيز الإسلامبولي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم المحامي، ومحمد عبد الوارث الصوفي، وعبد الله شمس الدين، وخالد الجرنوسي، وعبد الحميد الإسلامبولي، ومحمد مصطفى حمام. ثم قرر الحاضرون إقامة مهرجان لأدب الربيع في النصف الأول من شهر مايو المقبل، وترجو الجامعة من حضرات الشعراء والأدباء الذين يريدون المساهمة في هذا المهرجان الاتصال بالسكرتارية 196 شارع محمد علي تليفون 47350
إلي قراء الرسالة في سوريا ولبنان:
نرجو أن تطلبوا من شركة فرج الله ما ينقصكم من أعداد الرسالة ولا سيما الأعداد التي تأخرت عنكم أثناء الإضراب في فلسطين.
الكتب
طفل من القرية
تأليف الأستاذ سيد قطب
للأستاذ وديع فلسطين
وهذا صوت آخر من القرية يردده الأستاذ القدير سيد قطب فيدعو في أسلوبه التهكمي الخاص إلى تدارك الريف المصري بعناية أولي الأمر، لأن الجهالة لا تزال تختم على عقول قطانه، والفقر ما فتى يحرمهم قوتهم، والداء ما برح ينهش أبدانهم في غير رحمة ولا إشفاق، والخرافات تتناقلها الألسن والأجيال فتصير لها صفة الحقيقة الماثلة الثابتة.
هي ذكريات وعاها الأستاذ سيد مذ كان صبياً يعيش في القرية ويتعلم فيها ويخضع لقوانين الفطرة التي لم تكن المدنية قد تغلغلت إليها بعد. ذكريات شاء أن يدونها في كتابه الجديد (طفل من القرية) يبسط فيه أحوال طلاب الكتاتيب والمدارس الأولية ومدرسيهم وأهليهم وبيوتهم وعاداتهم ووسائل تربيتهم وتطبيبهم.
فهو يحدثك عن الأولياء والمشايخ الذين يقدسهم الريفيون وينسبون إليهم أداء أعمال يعجز عنها الطب ويحار فيها نطس المطببين. فإذا مرض طفل أمكن شفاؤه بحمله على الرقاد ليلة إلى جانب رجل مجذوب مخلول العقل! وإذا عالج (تمورجي) عليلاً وشفاه، جعلوا منه طبيباً نابه الذكر ويؤخذ برأيه وإن كان خطلاً، وتنفذ مشورته وإن كان فيها القضاء العاجل على السقيم! وإذا باع رجلاً جانباً من أرض ليوسع على نفسه قليلاً في معيشته ويرد عنه الضائقات، حزنت زوجه وانتحبت وبكت بئس المصير! وإذا هجر ابن القرية إلى المدينة طلباً في المزيد من العلم، وما يستتبع ذلك من جاه مؤات ومستقبل مضمون، ودعته عائلته بالزفرات الحارة، وسكبت على فراقه العبرات مدرارة! وإذا أمت القرية بعثة طبية تتقضى حالات البلهارسيا والانكلستوما وديدان الاسكارس ومدى تفشيها في القرية، كان الإهمال ديدنها وأداء المهمة بغيتها، ولا جرم إذا كانت جميع المعلومات التي حصلتها في بحوثها غير دقيقة! وإذا لعبت الجرذان ليلا في كومة تبن على جانب طريق، شاع أن الجن والعفاريت يقطنون هذا المنعرج، وأن السير فيه خطر لا تؤمن مغبته! وإذا اقتنى رجل
كتاباً في السحر وفك العقد، سعت إليه النسوة متخفيات، واستعرنه ليقرأنه في خلوة بمنأى عن الأنظار!
هذا بعض ما عكف الأستاذ قطب الإسهاب في وصفه وتصويره في كتاب (طفل من القرية) في سلاسة وبساطة مصحوبتين بتهكم وازدراء. وهو لا يكتم ألماً ممضاً دفيناً بين جوانحه على تلك الحالة الفاشية في القرى المصرية، ولا يخفى رغبة مشبعة بالأمل في إصلاح تلك الأحوال المؤسية المؤسفة.
ولئن كانت بعض المدارس الأدبية الحديثة تبشر بدعوة جديدة قوامها أن يسخر الأدباء أقلامهم - ولو قليلاً - في خدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه، فإن كتاب الأستاذ سيد قطب يعد مساهمة طيبة منه في هذه الحركة المباركة وتأييداً لهذا الاتجاه المحمود.
الزواج والمرأة
للأستاذ أحمد حسين
لفضيلة الأستاذ محمود أبو العيون
أهدي إلى الكاتب الألمعي الأستاذ أحمد حسين كتابه (الزواج والمرأة) ولقد قرأته بإمعان وتأمل فرأيته قد عرض لمسألة المرأة من نواح كثيرة موضع جدل ونقاش عنيف بين كتاب الاجتماع في العصر الحديث - عرض لنظرية الداعين إلى محاربة الغريزة الجنسية وتعطيل عملها في الحياة ولنظرية الدعوة إلى الإباحة الجنسية إطلاقاً وخطرها على الأمن والسلام. . . وعرض بإسهاب للدولة والأسرة، وأن الأسرة أوفق للمجتمع الصحيح ولنظرية التسوية بين الرجل والمرأة في الوظيفة، ولمسألة الزواج والأمومة، هل فيهما غض من شأن المرأة، ثم عرض للمرأة وحقوقها في الإسلام، وللبحث في السفور والحجاب وللشروط اللازمة لنجاح الحياة الزوجية
وفي الحق إن عرض الأستاذ لتلك النظريات والبحوث كان عرضاً شيقاً بديعاً وفي أسلوب رائع حكيم وأدب رفيع ومنطق سليم؛ ومما بهرني وأخذ في نفسي ما أثبته بالأدلة من الكتاب والسنة من حقوق المرأة في الإسلام مما لم يتوفر مثله للمرأة الغربية التي تحررت من القيود والأوضاع.
بقى أنه عرض في ختام كتابه لمسألة تعدد الزوجات والطلاق في الإسلام، ووددت لو كان قلم الأستاذ قد بلغ نهاية الشوط مجلياً، ولكنه للأسف حاول ربط آيتي العدل في النكاح:(وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)، ليصل من ذلك إلى ما قصد إليه، وهو وجوب الاكتفاء بزوجة واحدة، وأن القرآن ذهب في رأيه إلى حد كاد يلغي معه هذا الحق (تعدد الزوجات) أصلاً، ولكن الربط الذي فهمه وقرره غير صحيح، فإن معنى العدل في الآية الأولى كما فسره فقهاء المذاهب جميعاً العدل في النفقة وفي المبيت، والعدل في الآية الثانية قصد به العدل المطلق، وهو يشمل المحبة والميل، وهذا ليس في استطاعة الإنسان مما لا يصح التكليف به، ولهذا أتبع الله ذلك بقوله:(فلا تميلوا كل الميل)، فقال صلى الله عليه وسلم ما معناه:(اللهم إني قد عدلت فيما أملك فاغفر لي فيما تملك وما لا أملك)، أي العدل في المحبة، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان
يحب بعض نسائه أكثر من البعض الآخر، وقد مرض مرة فكان يحمل من بيت إلى بيت استيفاء للعدل في المبيت بين أزواجه، فأستأذن نساءه في أن يتمرض في بيت عائشة فأذن له.
فالعدل في الآيتين ليس واحداً، والتوفيق بينهما ما قلناه، كما هو ظاهر واضح، وللأستاذ العظيم رأي في تعدد الزوجات غلا فيه عن أكثر القائلين بتقييده فهو يرى منع التعدد إطلاقاً ولأي سبب من الأسباب، وغيره يرى منع التعدد لعاجز عن الإنفاق على أكثر من واحدة فحسب.
ورأينا في تعدد الزوجات معروف وهو الإباحة المطلقة وفي تقييده شر مستطير. . . بعض هذا الشر يمس الأخلاق والآداب وبعضه يمس ناحية الاجتماع، والكلام في ذلك كثير لا تحتمله هذه العجالة العابرة.
أما الطلاق فله فيه رأي، وهو اشتراطه أن يقع في ساحة القضاء. . . فهو بهذا الشرط قيد حقاً ثابتاً منحه الشارع الحكيم للإنسان وأعطاه الحرية الكاملة أن يطلق حينما يشاء - واستحب أن يتقدم ذلك بعث حكم من أهل الزوج وحكم من أهل الزوجة (إن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما) ولكن الأستاذ على أي حال كان أيسر من غيره ممن رأى تقييد الطلاق بقيود لم تكن مشروعة في كتاب الله ولا سنة رسوله فهم يدينون من طلق بغير إذن القاضي ويرون تغريمه وحبسه بل الحكم عليه بالتعويض لمطلقته.
ولقد كتبنا في هذا الموضع ووفيناه حقه وأدرك جمهور المسلمين ما ينجم عن تعدد الزوجات وعن تقييد الطلاق من الشرور مما يهدد نظام المجتمع ويفسد قدسية الأخلاق.
وبعد فأننا نثني الثناء الجم على الأستاذ الجليل أحمد حسين لجهوده المشكورة التي بذلها في هذه البحوث القيمة ونظرياته السليمة، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يكثر من أمثاله العاملين المجاهدين.
محمد عبده
لفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق
للأستاذ محمد عبد الحليم أبو زيد
شيخ الأزهر الحالي شخصية لها جهادها الحافل في خدمة الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والدين. ولها تأثيرها القوي في هذا الازدهار العلمي المتوثب، وفي تقديمه اليوم لشخصية - محمد عبده - من معاني الوفاء، والتقدير ما يعد مأثرة من مآثره العديدة في ميدان الوفاء، ومن أولى بالاحتفاء بأنجب أبناء الأزهر من الأزهر، وشيخ الأزهر، وهو المكان الذي غذاه - الإمام - بعلمه، وتعهده بجهاده؛ حتى صار متجه فكره، وهدف إصلاحه ومسرح نشاطه. . .
لقد أقدم شيخ الأزهر على دراسة شخصية الإمام دراسة علمية ترتكز على إبراز تلك العوامل المختلفة التي لها أثرها الفعال القوي في تكوين شخصيته، وصقل رأيه وقوة منطقه، وتزويده بتلك الخصائص التي كان لها في مجرى سياسة أمته، وعقليتها، ودينها أقوى المؤثرات، وشخصية الإمام لها أكثر من جانب، فعلى من يأخذ في تصويرها أن يسرح طرفه في كل تلك النواحي ويعمل عقله حتى يتهدى له الإلمام بها؛ فكان لها مجالها في الثورة العرابية، ولها رأيها في المبادئ الوطنية، ومذاهب الإصلاح، وفي ميدان التدريس والصحافة. وهذا النضج العلمي الذي يطالعك في كل ما يتناوله، وصلته بالأفغاني، وكفاحه في الأزهر ونشأته، كل هذا يتطلب من يجلوه، ويكشف عنه بدراسة الأسباب التي انتهت إلى المسببات، أو المقدمات التي أنتجت هذه النتائج، وليس هذا بالمركب الذلول؛ بل هو مزلة الأقدام ومضلة الإفهام، فتحليل الظواهر الفكرية والخلقية، والرجوع بها إلى مصادرها الأولى؛ دونه كل مشقة وعسر. ولقد وفق الأستاذ الأكبر في إعطائنا تلك الصورة على تعدد جوانبها، واختلاف نواحيها، على أتم ما تكون جلاء، وأوفى ما تكون دقة ودراسة وتمحيصاً، فعرفنا الإمام في نشأته ودراسته، وفي الأزهر، ومع الأفغاني، ودعوته إلى الإصلاح، والتقينا به في ميدان التدريس والصحافة، وتبينا مبادئه الوطنية، ومنهجه في الإصلاح، وموقفه من الثورة العرابية.