المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 671 - بتاريخ: 13 - 05 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٧١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 671

- بتاريخ: 13 - 05 - 1946

ص: -1

‌من الدعوة الهندية

للأستاذ عباس محمود العقاد

أتلقى منذ كتبت بالرسالة مقالي عن الإسلام والنظام العالمي الجديد كتبا ورسائل مطبوعة وغير مطبوعة، يتكلم المطبوع منها عن القادياني والجماعات التي تناصره أو تنفصل عنه، وتفسر الرسائل الأخرى بعض ما يؤخذ على الدعوة القاديانية أو تنحى على هذه الدعوة باللائمة وتحاسبها على التفرقة بين المسلمين وإحداث البدع في عقائد الإسلام.

ومن أعجب هذه الرسائل رسالة مؤيدة للقادياني من زاوية الحصني بدمشق طبعت في أعلاها الشهادتان والبسملة، وأن الدين عند الله الإسلام، ثم هذه العبارة:(نحمده ونصلي على رسوله الكريم وعلى عبده المسيح الموعود، وقال كاتبها: (إن أحمد عليه السلام ادعى النبوة حقا، وليس في ادعاء النبوة مخالفة للإسلام أو لدين من الأديان كما تقولون، وإن المسيحية تنكر مجيء أحد بعد المسيح عليه السلام سوى رجوعه إليها بالرغم من وجود ذكر النبي بعد المسيح في أول إصحاح من إنجيل يوحنا. وأما القرآن المجيد فآياته بينات واضحات في بقاء الوحي وبقاء النبوة غير التشريعية، ولا يوجد غير آية واحدة تخالف حسب تفسير الشيوخ الآيات الكثيرة المفسرة بعضها لبعض وهي قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ولم يتفق المفسرون على معنى لفظ خاتم النبيين بمعنى أخرهم زمانا، وهم لو اتفقوا لنجم عن اتفاقهم تكذيب للقول بمجيء المسيح عليه السلام. فإن لفظ خاتم النبيين لا يفيد انقطاع النبوة بل على العكس يفيد ضرورة عرض كل دعوى من دعاوى النبوة على خاتم النبيين أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم ليختم ويصدق على صحتها سواء أكانت تلك الدعوى قبله أم بعده. . .) إلى آخر ما قال في هذا المعنى.

على أن البريد قد حمل إلينا رسائل أخرى تنفي عن القادياني أنه ادعى النبوة بمعنى من معانيها المعروفة في الأديان الكتابية، ومن تلك الرسائل رسالة مطبوعة في لاهور أذاعتها (الجماعة الأحمدية لإشاعة الإسلام) وذكرت في صدر البيان عن هذه الجماعة أن مقاصدها هي خدمة الإسلام وتوحيد المسلمين والدفاع عن الدين ونشر الدعوة إليه، وأن أعمالها لخدمة هذه المقاصد هي تأليف بعوث للتبشير في أنحاء العالم وتدريب المبشرين على هذا

ص: 1

العمل، وترجمة القرآن الكريم إلى لغات مختلفة، واستخدام الإذاعة في تعميم الآداب الإسلامية. ثم شفعت ذلك بتلخيص عقائدها وهي:

1 -

إننا نعتقد باختتام النبوءات بمحمد، كما قال مؤسس الجماعة: إنه لا نبي من الأولين أو الآخرين يعقب نبينا المعظم، وإن الذي ينكر ختام النبوءات يعتبر خارجا عن حظيرة الإسلام وليست له عقيدة فيه.

2 -

وإننا نؤمن بأن القرآن الكريم كتاب الله الكامل والآخر، وإنه باق لم ينسخ منه جزء إلى آخر الزمان.

3 -

إننا نحسب من المسلمين كل من يشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله كائنا ما كان المذهب الإسلامي الذي ينتمي إليه.

4 -

وإننا نعد حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الحركة الأحمدية مجدد القرن الرابع عشر، ونثبت أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه: إنني لا أدعي النبوة. . . وكل ما أدعيه أنني محدِّث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. . . كلا. ما أنا مدع للنبوة وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب عليّ الذين يحسبونني من أولئك المدعين).

وأيا كان الصدق فيما يقال عن دعوى النبوة هذه من إثباتها أو إنكارها ومن قبولها أو رفضها فإن الصدق الذي لا نشك فيه هو أن أتباع القادياني يخسرون بادعاء النبوة له ولايكسبون، وأن حركة التجديد في الإسلام يقوم بها الداعون إليها دون حاجة منهم إلى أمثال هذه الدعاوى التي تفض الأنصار وتفرق المتفقين، ولا تستميل إليها أحداً من المؤمنين بالأديان في المشرق أو المغرب، إن لم تجمعهم كلهم على محاربتها وتكفير المبشرين بعقائدها.

ونعود فنقول إننا قرأنا شيئاً من الكتب التي ألفها المجددون المسلمون في الهند ممن لا يقولون بنبوة القادياني ولا يقولون بأنه هو المسيح الموعود أو مهدي آخر الزمان، فلم نر في أقوالهم ما يمس عقائد الإسلام وإن كانت لهم تفسيرات وتخريجات لا يقرها جميع الفقهاء، وشأنهم في التفسير والتخريج شأن الفرق الإسلامية التي تجتهد في الدين ولا تنقض أصلاً من أصوله، فهي في حظيرة الإسلام لا تضيق بها حرية البحث التي كفلتها

ص: 2

للباحثين هذه الديانة السمحة في مختلف العصور والأقطار.

ومما تتميز به هذه الجماعات المجددة أمران:

(أحدهما) فرط النشاط في التبشير بالدعوة المحمدية وترجمة الكتب النافعة في هذا المسعى إلى اللغة الإنجليزية على الخصوص مع المثابرة على نشرها وترويجها في أمريكا وأوربة والجزر البريطانية، وإسناد هذا العمل إلى فئة من الشبان المثقفين المستعدين لدفع الاعتراض العقلي أو النقلي بالمعقولات التي يفهمها الغربيون، أو بالنصوص التي يتوسع أولئك الشبان في تفسيرها على نحو كفيل بالإصغاء والإقناع. وقد يتصرفون في تفسيراتهم كما قدمنا ولكنهم يقتربون بها من عقول المتعلمين والمتعلمات هناك فلا يعرضون عنهم كما يعرضون عن الجامدين المتحجرين في فهم الكلمات والحروف.

والأمر الآخر طرائفهم العجيبة في تطبيق النصوص القرآنية على الأحوال الزمانية، لأنهم يعلمون أن أحوال الزمان لا تخرج على مدلول تلك النصوص إذا اهتدى ذو البصيرة إلى فهمها وحسن تطبيقها، ومادام القرآن كتابا باقيا لا يختص به عصر دون عصر ولا قبيل دون قبيل، فهو يحتوي في مضامينه كل ما يشغل المؤمنين به في العصور الحديثة كما احتوى في مضامينه كل ما شغل المؤمنين به منذ نزوله في عصر النبي عليه السلام.

وهذا مثل من أمثلة كثيرة من طرائف هذه الطبيقات العصرية التي ينشرونها باللغة الإنجليزية، وهو رسالة عنوانها:(تسليم أوربا وأمريكا) أي تحويلهم إلى عقيدة الإسلام لمؤلفها السيد محمد علي مترجم القرآن إلى الإنجليزية ومؤلف الرسالة التي لخصناها عن نظام العالم الجديد.

فالسيد محمد يستشهد في صدر هذه الرسالة بكلمة للكاتب المشهور برنارد شوفي (الزواج) يتنبأ فيها بأن الإمبراطورية البريطانية كلها ستدين بديانة إسلامية منقحة قبل نهاية القرن العشرين).

ويقول السيد محمد علي إن هذه النبوة قديمة في القرآن والتوراة، ولكن الذين يقرأون الكتب السماوية لا يفطنون لمعانيها ولا يفسرونها على وفاق مدلولها. فإن ظهور المهدي أو المسيح بين المسلمين مقرون بظهور المسيح الدجال، وسيادة بعض الأمم التي سميت يأجوج ومأجوج!

ص: 3

والقرآن الكريم يقول عن يأجوج ومأجوج إنهم سينطلقون في اليوم الموعود (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا) وأنهم كانوا محبوسين محجوزين (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).

قال السيد محمد علي: وقد ذكرتهم التوراة في سفر حزقيال حيث جاء فيه: (يا ابن آدم اجعل وجهك على جوج أرض مأجوج رئيس روش ما شك وتنبأ عليه وقل: هكذا قال السيد الرب. ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك وتوبال، وأرجعك وأضع شكائم في فيك وأخرجك أنت وكل جيشك خيلاً وفرساناً كلهم لابسين أفخر لباس، جماعة عظيمة مع أتراس ومجانّ كلهم ممسكين السيوف: فارس وكوش وفوط معهم كلهم بمجن وخوذة، وجومز وكل جيوشه وبيت توجرمه من أقاصي الشمال مع كل جيشه شعوبا كثيرين معك).

أو حيث جاء فيه: (ها أنذا عليك يأجوج رئيس روش ماشك، وتوبال، وأدرك وأقودك وأصعدك من أقاصي الشمال.

فهل يدري القارئ من هم يأجوج ومأجوج هؤلاء في رأي السيد محمد علي ورأي القادياني من قبله؟

إنهم الروس والإنجليز، أو السلاف والتيوتون في الشمال؛ ومصداق ذلك أن الماشك قريبة من الموسكو، وأن الروش قريبة من الروس، وأن ميشك وتوبال نهران في روسيا تنسب إليهما موسكو وتوبلسك العاصمتان المعروفتان الآن، وأن الروس والإنجليز معاً قد جمعوا شعوب الأرض للتغلب على ملك الدنيا، وسينقلب بعضهم على بعض ويموج بعضهم في بعض، قبل أن يجمعهم داعي السماء إلى كلمة الحق والسلام.

وهذا مثل من أمثلة التفسيرات والتطبيقات التي قلنا إنهم يترخصون فيها ويمتدون بها إلى حوادث الزمان الحاضر وما يليه، ويعتقدون أنها وما سيعقبها من الحوادث العالمية مكنونة في آيات الكتب السماوية تنتظر من يفتح الله عليه بفهمها وإدراك مغازيها فيتولى تبصير الأمم ما أنذرتهم به السماء وما ساقته إليهم من البشائر، وهم لا يفقهون.

أما الفتح أو الإلهام فقد جاء في كتاب من تأليف ميرزا أحمد القادياني نفسه عنوانه (تعاليم الإسلام) وموضوعه حل المشكلات الدينية من وجهة النظر الإسلامية. وفيه أن العقل والتعليم مصدران من مصدر المعرفة الإلهية ولكنهما في مرتبة دون مرتبة الإلهام، وأن

ص: 4

الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي (بعين اليقين) وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير. وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة لتيسير السرقة، ثم تيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه.

وبعد فإن الأمر الجدير بالعناية من حركة هؤلاء الدعاة أنهم يذيعون محاسن الإسلام ويجتهدون في نشره وتفسير الاعتراضات الغربية التي تتجه إليه، وفي هذه الحركة نفع مشكور، وإن لم تبلغ مرماها المقصود من (تسليم الأوربيين والأمريكيين) لأنها تزيل الشبهات، وتدحض الأكاذيب، وتقرب بين الشعوب، وترفع المسلمين في أنظار الأمم التي كانت تظن بهم الظنون.

أما التفسيرات التي ذكرنا آنفا مثلاً من أمثلتها فلا ضير فيها مادامت تصون الإيمان ولا تفسد العقل بما يناقض التفكير المستقيم. ونعود فنقول إن الغيورين على الدعوات المجددة على اختلافها يخسرون بالغلو في تعظيم أئمتهم، ويكسبون لعقائدهم ولأولئك كلما وقفوا على حد الاعتدال.

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌غرضان أساسيان

للأستاذ محمد محمد المدني

غرضان أساسيان يجب أن يرمي إليهما كل من تهمه حالة الأمة الثقافية، ويغار على مستقبل الدين والشريعة واللغة العربية؛ ولا أعتقد - مهما تعددت الآراء، وتقارعت الحجج أن أحداً ينازع فيهما على الحقيقة، أو يغض النظر عما تجنيه الأمة من إصابتهما.

هذان الغرضان هما:

1 -

توحيد الثقافة العامة بين أبناء البلاد.

2 -

الاحتفاظ بما تفردت به مصر - بفضل الأزهر - من تخريج طائفة من العلماء بعضها يبرز في الدين، وبعضها يبرز في الشريعة، وبعضها يبرز في اللغة العربية.

والأول من هذين الغرضين أمر طبيعي بالنسبة للأمم، ذلك بأن الأمة السعيدة الهانئة المثمرة القديرة على أن تؤدي رسالتها في الحياة، هي الأمة المتقاربة ثقافة، المنسجمة عقولاً، المتفاهمة أفراداً، المتوحدة النظرة إلى نواحي الحياة. ولا تجد أمة تفرقت بها الأسباب في الدين أو اللغة أو الأفكار أو الآمال أو الآلام أو الغايات إلا كانت أمة مقضياً عليها بالقصور والضعف والخمول والتقطع والانحطاط والذل.

والثاني من هذين الغرضين أمر عظيم قد ندبت له العناية الإلهية مصر من بين سائر الأمم، وجعلته من أسباب زعامتها على العالم العربي، وكان لها ذكرا في الأولين، وسيبقى لها - إن شاء الله - لسان صدقاً في الآخرين.

على هذا الأساس يجب أن يدور الكلام، وبهذا الميزان يجب أن توزن الآراء، فالنظام الذي يستطيع معه الأزهر أن يحقق هذين الغرضين، هو النظام الحسن المقبول، وأي نظام يظلم أحدهما أوكليهما يجدر بنا أن ننظر إليه في احتياط وحذر.

والأستاذان الكبيران: الزيات والعقاد، يقرران هذا، فهما حين يدعوان إلى توحيد الثقافة العامة لا يغضان النظر عن رسالة الأزهر، ولا عن حاجة الأمة الإسلامية لهذه الرسالة.

فالأستاذ الزيات يقول: (إن العالم لا يسعد إلا بالدين، وإن الدين لا يجدد إلا بالأزهر، وإن الأزهر متى استكمل أداة التعليم، وساير حاجة العصر، نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر

ص: 6

الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو، فيكون من هذا التفاعل ما يريد الله به تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره).

والأستاذ العقاد يقول: (الجامعة الأزهرية معهد يراد به البقاء، ما في ذلك ريب عند أحد من المصريين، لأنها مرجع العلوم الدينية والثقافة العربية، وهي عدا هذا أقدم جامعة في العالم بسره، فالأمة التي تملكها قمينة أن تحافظ عليها، وتستديم بقاءها وازدهارها).

ويقول حين يعرض للمدارس الفكرية الإسلامية ومحصولها العظيم: (إن هذا المحصول لا يعقل أن يستوفيه طلاب جامعة من جامعات الدنيا غير الجامعة الأزهرية. . . وإنه أمانة لابد لها من حفيظ بين أمم الحضارة الإنسانية؛ فمن عساه أن يكون أولى بحفظ هذه الأمانة من معاهد الأزهر وعلمائه؟ ومن أين لهذه المذاهب وهذه الدراسات من يفهمها ويصبر على تمحيصها واستخلاص زبدتها في غير مصر والبلاد العربية. . . وليس في غير المعاهد الأزهرية مكان لاستيفاء هذه الواجبات والأعمال).

ففيم إذن الخلاف، وقد اتفقنا على القاعدة والأساس؟

1 -

لقد أظهرت التجارب أن الدين والشريعة الإسلامية واللغة العربية لا يمكن دراستها دراسة عالية لها حظ من التبريز والتفوق، ما لم يسبق ذلك إعداد خاص وتكوين معين يستطيع معهما الطالب أن يخوض هذا المجال. ومن تلك التجارب التي أصبحت معروفة مشهورة مسلماً بها أن طلاب دار العلوم وطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب إنما يفلح منهم ويتقدم في طريقه بخطى ثابتة، أولئك الذين درسوا دراسة أزهرية حتى نالوا الشهادة الثانوية، أما الذين درسوا على نظام التجهيزية أو الذين حصلوا على الشهادة الثانوية الحكومية فانهم يلاقون الأمرين في دراستهم للغة العربية، ويحملون منها وتحمل منهم عبأ ثقيلاً يود كلاهما لو استطاع أن يتخفف منه. وقل مثل ذلك في طلاب كلية الحقوق فإنهم لا يزالون يعتبرون دروس الشريعة الإسلامية أشق الدروس لا فرق في ذلك بين من لم يحصلوا على الليسانس ومن حصلوا عليها والتحقوا بقسم الدكتوراه، وما ذلك إلا لأنهم لم يتمرسوا بما يتمرس به الطلاب الأزهريون في دراستهم الابتدائية والثانوية ولم يعودوا البحث والفهم الاستقلالي وتلقي كتب الشريعة كما عود الأزهريون.

على أن الطالب الأزهري نفسه إذا لم يكن قد أتقن دراسته الابتدائية والثانوية، وكون بها

ص: 7

عقله تكوين فهم واستقلال، فإنه يعاني في الكليات ويعني، وقد لا يتمكن من الاستمرار في هذه الدراسات العلى.

2 -

والمدارس الثانوية التابعة لوزارة المعارف مكتظة بالبرامج في كل ناحية إلا في النواحي التي تعد للدراسة الأزهرية العليا. والتعليم الثانوي مع ذلك موضع شكوى عامة لضعفه، فإن جميع كليات الجامعة تشكو من هذا الضعف (الذي تبدو آثاره في المعلومات العامة واللغات العربية والأجنبية) وتشكو من (أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العالية من حيث روح التعقل وقوة الملاحظة والاعتماد على النفس وحب البحث، حتى إنهم يضطرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء مما يعوق سير الدراسة العالية في صورتها الكاملة)

بذلك تشهد تقارير وزارة المعارف نفسها، ومنها نقلت ما نقلت من النصوص؛ فإذا أردنا أن نقوي هذا الطالب في دراسته الثانوية ليكون قادراً على الدراسة في الكليات الأزهرية فماذا نصنع معه؟ والمفروض أن هذا الطالب لم يدرس على الطريقة الأزهرية فيما تلقى من التعليم الابتدائي، وأنه لم ير بعد علوم الأزهر ولم يألف أساليبه في البحث والدرس؛ أنضيف إليه أعباء أخرى فوق أعبائه التي ينوء بها كاهله؟ أنكلفه بدراسة النحو والصرف والبلاغة والفقه والتوحيد والمنطق والعروض وما إليها من العلوم التي لابد من حصول الطالب الأزهري على قسط وافر منها يحيط به إحاطة فهم وتدبر، ويهضمه عن تعقل وتصرف؟ وهل يؤدي ذلك إلا إلى ضياعه من الناحيتين، واشتداد ضعفه؟

وهبنا ألزمناه درس هذه العلوم الأزهرية إلى جانب منهاجه الحكومي، أفندرسها له بمقدار ما كان في التعليم الابتدائي الأزهري فننزل بالمستوى الثانوي إلى المستوى الابتدائي؟ أم بمقدار المنهاج الثانوي فكيف يطيقه؟

3 -

ومن حق القراء علينا أن نذكر لهم منهاج المعاهد الأزهرية الابتدائية ليعلموا: أتغنى عنها المدارس الابتدائية الحكومية فنلغيها من الأزهر؟ أم هي معاهد واجبة البقاء لأنها تحقق الغرضين: توحيد الثقافة العامة، والتمهيد للدراسة الأزهرية الثانوية والعالية.

قد يظن بعض الناس أن الطالب الأزهري الابتدائي إنما يدرس بعض الأحكام الفقهية، وبعض العقائد الدينية، وبعض كتب اللغة العربية، وأنه إنما يتلقى إلى جانب ذلك تجويد

ص: 8

القرآن وطرفا من سيرة الرسول والصحابة، أما ما وراء ذلك من مواد الثقافة العامة فهو منها محروم، ولذلك نسمع النداء بوجوب توحيد الثقافة العامة كأن الأزهر يعيش في صومعة، ولا يشارك في دنيا الناس! كلا أيها القراء: إن الأزهر في معاهده الابتدائية يدرس على منهاج جامع شامل لا يذكر بجانبه منهاج المدارس الابتدائية؛ وبين يدي الآن هذا المنهاج الأزهري، ولو استطعت لنقلت لكم صورة منه، ولكني أقربه إليكم تقريبا:

مواد الدراسة بالقسم الابتدائي على وجه الإجمال هي: الفقه بمذاهبه الأربعة. التوحيد، السيرة النبوية وسيرة كبار الصحابة، تجويد القرآن الكريم، الإنشاء، النحو. الصرف. الإملاء. المطالعة والمحفوظات. التاريخ. الجغرافيا. الحساب. الهندسة. الجبر. تدبير الصحة. الرسم. الخط.

ففي الفقه يقرأ كتابان أحدهما صغير في السنة الأولى، والآخر أكبر منه في السنوات التي تليها، وفي النحو تقرأ كتب أربعة: الأجرومية وشرحها، والأزهرية، وشرح القطر، وشذور الذهب؛ وفي الصرف يقرأ كتاب متوسط في سنتين، والتوحيد يقرأ في ثلاث سنوات، وفي التاريخ تدرس كل الموضوعات التي يدرسها تلاميذ المدارس الابتدائية من تاريخ مصر القديم والحديث بتوسع؛ وتزيد المعاهد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، والحساب في المعاهد أوسع جداً من الحساب في المدارس، وقل ذلك عن الهندسة والجغرافية وتدبير الصحة. . . الخ.

فماذا بقي على الطالب الأزهري في المعاهد الابتدائية من مواد الثقافة العامة حتى ينادي المنادون بضرورة استكماله؟ لم يبق إلا اللغة الأجنبية، ولسنا نجد مانعا من إدخالها في المعاهد الدينية، بل نحن نرى ذلك واجباً فليخفف عن الطالب الأزهري كتابان من كتب النحو الأربعة مثلاً، ليعطى بدلهما لغة أجنبية في سنتيه الثالثة والرابعة كما يعطى تلاميذ المدارس، وحينئذ تكون معاهد الأزهر الابتدائية قد أعطت الأمة طلاباً يشاركون في ثقافتها العامة ويمتازون بعلوم الشريعة والدين واللغة على طريقتهم الخاصة التي لا غنى لهم في أقسامهم الثانوية ولا في دراستهم العالية عنها.

فإذا قيل: إن هذا المنهاج المزدوج ثقيل على الطالب فإننا نقول: إن طالب الأزهر ليس كتلميذ المدرسة الابتدائية؛ فالأول يلتحق بمعهده بين الثانية عشرة والسادسة عشرة بينما

ص: 9

يلتحق الثاني بين الثامنة والعاشرة، فهذا الفرق في السن يجعل الطالب ناضجا قادراً على تحصيل ما يكلف تحصيله من هذه العلوم في سهولة ويسر، ولذلك مزية أخرى هي أن طالب الأزهر يستطيع في الفترة الأولى من حياته وقبل انتسابه إلى معهده أن يتفرغ لحفظ القرآن الكريم الذي هو شرط أساسي لقبوله، والذي هو أمر ضروري لطالب الدين والشريعة واللغة: يقوم لسانه، ويصحح لهجته؛ ويضبط لغته، ويكون مرجعه الملازم له في العقائد والآداب والأحكام، بل يكون له طول حياته كنزاً ل ايفنى، ومعيناً لا ينضب.

وقد دلت التجارب على أن من لم يحفظ القرآن الكريم في أول حياته وعهد صباه المبكر، فلن يستطيع حفظه بعد ذلك. وليس من الممكن أن يستكمل التلميذ في المدرسة الابتدائية علومه ولغته الأجنبية ثم يكلف في أثناء دراسته الثانوية أن يحفظ القرآن.

هذا، وفي المعاهد الدينية بعد ذلك معنى لا ينبغي أن ننساه: ذلك هو تربية الطالب تربية دينية يستمدها من هذه المصادر التي يعتمد عليها في دراسته من كتاب وسنة وعقائد وأخلاق وأحكام تشريعية وكتب تغلب عليها الروح الإسلامية، وتغرس في نفسه حب الدين واحترام الشريعة وتقديسها، فيشب على ذلك ويشيب عليه، وبذلك نكون قد أوجدنا طائفة من مثقفينا تتحمس للدين والخلق الإسلامي الكريم، وتغار على علومنا وآدابنا القومية في وسط هذه التيارات المضطربة الجامحة التي تهدد كياننا، وتكاد تقطع الصلة بيننا وبين ماضينا المجيد. وقد أدرك هذا المعنى غيرنا من رجال الأديان الأخرى، فهم يبكرون بإعداد رجل الدين منذ نعومة أظفاره ليضمنوا له التحمس الديني والانفعال الروحي على صورة تصاحبه طول حياته، لأنها تكون قد ارتسمت في نفسه، وصادفت منه قلبا خاليا فتمكنت كما يقولون. فأين لنا مثل ذلك إذا اعتمدنا على تلميذ المدرسة الابتدائية، وهو لا يعرف من دينه إلا معارف سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع؟

4 -

أما الدراسة الثانوية في الأزهر، فقد كانت عدلت مناهجها يوماً ما لتكون مشابهة تمام المشابهة لمناهج المدارس الثانوية بزيادة العلوم الدينية واللغوية والعقلية؛ فلما طبق هذا النظام بدأ وجه الخطأ فيه سافراً، فقد طغت علوم المدارس على العلوم الأزهرية، وعلى روح التفكير والاستقلال في البحث المقصود بثها في نفوس الطلاب، وحينئذ لم يجد الأزهر بداً من إلغاء ذلك النظام وإحلال النظام الحالي مكانه، وهو نظام لم يقطع الصلة

ص: 10

بين الطالب الأزهر وبين مواد الدراسة الثانوية المدرسية قطعاً، ولكنه زحزح هذه المواد عن مركز الصدارة ليفسح لعلوم الدين والشريعة واللغة والعلوم العقلية مجالا لا تجده في غير هذه المعاهد، وهذا من غير شك تصرف حكيم، على أن يضاف إلى برامجه أيضا دراسة اللغة الأجنبية كما في المدارس الثانوية.

هذا هو رأيي الذي وعدت به في مقالي السابق، وأعتقد أني قربت به من شقة الخلاف، بل لعلي أزلت أسباب الخلاف، وما كان الأستاذ الزيات، وهو الذي يعيب على الأزهر الضعف، وتعطيل العقل، وإبطال الاجتهاد، ويرجو بالأزهر تجديد الدين، ونهضة الشرق عن طريق ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة؛ ما كان ليرضى أَن يُبتر الأزهر هذه البترة النكراء، أو أن يجادل في الحق بعد ما تبين؛ وذلك أيضا ما أعتقده في الأستاذ الكبير العقاد الذي يتحدث عن العقلية الأزهرية حديث الاعتراف والإعجاب، وما كانت العقلية الأزهرية لتفوز بهذا الاعتراف وهذا الإعجاب لو نشئت في المدارس الابتدائية.

أما بعد، فإن الأزهر - كما قلت في مقالي السابق - لا يحتاج إلى تعديل جوهري في نظامه الحاضر، وإنما يحتاج إلى (تنفيذه) معنى وروحا بأيد قوية حازمة، وأعين بصيرة، وقلوب مؤمنة، وعقول على التدبير له والتفكير في شأنه مقصورة. . . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. . .

محمد محمد المدني

(الرسالة): يوفقنا صديقنا الأستاذ المدني على الغرضين المفهومين من اقتراح الرسالة وهما: (تجديد الأزهر وتوحيد التعليم على الوجه الذي يحفظ للأزهر طابعه وللأمة وحدتها، ولكنه يخالفنا في التطبيق. وأرى أن المناقشة في تطبيق المبدأ قبل إقراره عناء لا يجدي، وبناء لا يقوم.

ص: 11

‌يوم الجلاء.

. .!

للأستاذ علي الطنطاوي

- 2 -

في عمر الإنسان ساعات هي العمر، تفنى الليالي وتنقضي الأعمار وتخلد هذه الساعات في قلوب البنين. وفي تاريخ الأمم أيام هي التاريخ، تمرّ السنون مُتَحدِّرَة في دَرَك الماضي، مسرعة إلى هوة النسيان، وتبقى هذه الأيام جديدة لا تبلى، دانية لا تنأى مشرقة لا تغيب. . . وللإنسانية أيام هي ركن الإنسانية، لولاها لما قام لها بنيان، ولا ثبت لها وجود. . . أيام قد عمت بركاتها، وشملت خيراتها البشر جميعاً. . . أيام هي ينابيع الخير والحق والعدل في بيداء الزمان، وهي المفخرة لأمة أرادت الفخار، وما أكثر هذه الأيام الغرّ في تاريخنا! تلك الأيام التي أفضلنا فيها على العالم كله، وسمونا به إلى ذرى الحضارة: يوم الهجرة، وبَدْر، والقادسية، واليرموك، ونهاوند، وأيام قتيبة وابن قاسم في المشرق، وعقبة وطارق في المغرب، ومحمد الفاتح في الشمال، ويوم عين جالوت، وحطين، واليوم الأغرّ الذي أعاد لنا يوم حطين، وكان فجر اليوم الجديد للعرب بل للمسلمين أجمعين:(يوم الجلاء)!

إنه يوم مُعْلَم في موكب الزمان، إنه شَعَارَةٌ من شعائر المجد يقف عليها الفلك كلما دار دورته وقفة فيها خشوع وفيها فرح وفيها إجلال. إننا قد ابتهجنا بالجلاء وهتفنا له ورقصنا وصفقنا، وملأنا منازل العربية أنساً به وفرحاً، ولكنا لم نعرف قدر يوم الجلاء، إنما يعرفه من سيأتي بعدنا، يعرفه غداً من ينعم بظلّ هذه الشجرة التي نبتت اليوم. هنالك وقد امتدت فروعها ونمت حتى ظللَّت بلاد العربية والإسلام، يقول أبناؤنا: يا ما أكرم ذلك القضيب الطريّ الذي صار الجذع الضخم لهذه الدوحة الباسقة! وهنالك يبلغ من خطر هذا اليوم أنه سيمجد الجيل الجديد شيوخاً قد لا تكون لهم مرية إلا أنهم رأوا هذا اليوم بعيونهم، وعاشوا فيه حقيقة لا بالخيال. وسيجلس هؤلاء الشيوخ في صدور المحافل يحدثون الناس عن الذي رأوه، ويصفون كيف بدت تباشير الفجر المبارك، ليوم العروبة الجديد، وسيكون لكل حركة تحركناها اليوم وكل كلمة قلناها، معنى كبير لا نتصوره نحن الآن! سيصير هذا اليوم بتفصيلات وقائعه ودقائق أحداثه ملكاً للتاريخ الذي يقدس كل ما يدخل حماه، ويومئذ يعرف (يوم الجلاء)!

ص: 12

وقد زعم العداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين إذ يطلب فلساً فيمنح ديناراً، كلا! إننا لم نأخذ إلا الأقل من حقنا. إن الجلاء ليس عجباً، وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال. العجب أن لا نحكم نحن الأرض ونحن خلقنا من أصلاب من حكموها، وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الأرض!

ولكنا فرحنا لأن الله جعلنا نقرأ هذا التاريخ الماجد العظيم قبل أن يكتب، وأن ندرك أول الإقبال كما شهدنا آخر الأدبار، فنحن المخضرمون. . . وإذا كان نور التوحيد قد سطع من الحجاز فكانت المدينة عاصمة الراشدين، ثم مشى إلى دمشق فصارت عاصمة الأمويين، فكذلك كان مطلع شمس الحرية، بدت من الحجاز والجزيرة فكانت أول قطر لنا خلا من أجنبي، ثم امتدت أنوارها إلى دمشق. . . وهي تمشي الآن إلى القاهرة وإلى بغداد، ثم تسلك طريق الأندلس، الفردوس الإسلامي المفقود الذي سيعود، والطريق الآخر الذي يصل إلى الـ (باكستان) ديار الأطهار، فلا يبقى في ظلال المآذن كافر يحكم بغير ما أنزل الله!

وزعموا أن هذا الجلاء أتى عفوا بلاتعب، وأننا لم نرجف عليه بخيل ولا ركاب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنجليز ما جاء! وكذب هؤلاء الزاعمون ولؤموا. . .

كذبوا والله. . . أَوْ فليخبروني: أجاهدت أمة على ضعفها وقلة عددها، وعلى كثرة عدوّها وقوته مثلما جاهدنا؟ إن في مصر العزيزة سبعة عشر مليوناً، وفي إندونيسية سبعين، وفي الهند مائة، ونحن لا نعدّ كلنا بدونا وحضرنا، رجالنا ونساؤنا، أكثر من ثلاثة ملايين، وقد ابتلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين المائة والعُدَدَ والآفات. . فسلوا الفرنسيين: هل أرَحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارن: أما أباد حملته مجاهدون منا، لم يتعلموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كله فلم يعد من الحملة بعد معركة المزرعة إلا مائتان وخمسون جندياً فقط! سلوا الغوطة عن معارك الزور وعما صنع حسن الخراط؟ سلوا النَبْك وجبالها، وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قوادنا الأبطال، فوزي القاوقجي، وسعيد العاص، والبطل المفرد سلطان الأطرش، وعشرات وعشرات إن لم أعدهم اليوم، فما يجهلهم أحد!

أما ضرب الفرنسيون دمشق أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين، في عشرين سنة؟

ص: 13

أما أحرقوا حي الميدان وهو ثلث دمشق ودّمروه فلم ينهض من كبوته إلى اليوم؟ أما أضرموا النار في جرمانا والمليحة وزبدين وداريا ودير بحدل والهيجانية والغزلانية وتلّ مسكن ودير سلمان وقرى أخرى لا يحصيها من كثرتها العدّ؟

بل سلوا شوارع دمشق ودروبها وساحاتها، عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها؟ أما لبثت في مطلع سنة 1936 خمسين يوماً مضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطلت تجارة التاجر، وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، وطوى ليله من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر، بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل، ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة، وجباههم عالية، ولم نسمع أن (دكاناً) من هذه الدكاكين قد مس أو تعدى عليه أحد، ولم يسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير، فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوربة أو أمريكة أو المريخ يسير في اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد (الأموي) أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه. . . ففتح (حلواني) مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور (البقلاوة والنمورة والكنافة) إلى المسجد، وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له!: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع!!

فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريز ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟

وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدعونها مفتوحة ولا يقتربون منها، وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم.

و (التبرعات)؟ ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الناس أخذ (الإعانات) ويقولوا: أعطوها غيرنا ممن هم أحوج إليها منا، نحن نجد طعاماً هذا النهار!

لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً، فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية؟ وأيّ اتحاد أوثق من

ص: 14

هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟

والبطولة والجهاد؟ ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد، ويقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العزل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمونه صدمة الند للند، ثم لا ينجلي الغبار إلا عن حق يظفر أو شهيد يقتل، أو جريح يؤسر؟ ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب ساحتها شوارعها وميادينها، لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى، ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر، ودمشق ثابتة على جهادها؟

ألم يشيّع الأمهات أبناءهن إلى المقبرة ضاحكات هاتفات؟ ألم يجاهد الطفل الصغير، والمرأة العجوز، والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون بالأبرياء، ألم تضق المقابر بالشهداء؟

فهل تكلم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آدانهم؟ هل عوفوا لهذا الشعب حقاً، هل قدروا له تضحيته، هل رفعوا قبعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم حينما رأوا مسيل دمائه؟ لا. إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعواهم أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان، وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو، وما قاله ميرابو وسيّيس ولافايّت، وما كان يكذب به الفرنسيون (أيام ثورتهم تلك) على الشعوب، إذ يعلنون أنهم نصراء المظلومين!

إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرخ فيها جهاد الشام، فأنها تؤلف فيه الأسفار الضخام، ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين، لأتقصى أخباره، وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة مازلنا نسمعها حتى من الأصدقاء. . .

وما عظمة جهادنا في هذا الإضراب الشامل وحده؛ ولا في المظاهرات الدامية، ولا في القتال والنضال، بل العظمة في هذه التربية الوطنية العجيبة التي أثبتت الشعب العربي في الشام أنه بلغ فيها غاية الغايات، فكان في اتحاده واجتماعه على الفكرة الواحدة وتحمله الجوع والألم في سبيلها، وإقدامه على الموت من أجلها، مثلا للشعوب القوية الحرّة. وما ظنك بشعب فقير يدع في التاجر مخزنه، والعامل مصنعه، والطالب مدرسته، ثم يؤلفون

ص: 15

جميعاً صفاً واحداً، فينتزع حقه من أفواه البنادق، ومنافذ الدبابات ويسجل جهاده على ثرى وطنه بمداد دمه؟ وما ظنك بشعب تودع فيه المرأة ولدها، ثم تدفعه إلى الشوارع ليجاهد ويناضل، ثم ينعى إليها، ثم يحمل إلى دارها ميتاً، فتغسله بيدها، وتخرج في جنازته تهتف وتزغرد، ودموعها تسيل على خدّيها، وتدع المرأة أولادها بلا عشاء لتدفع المال للفقراء من أبناء الوطن. . .

أيقال لهذا الشعب إن استرد حريته، وجلا عن أرضه عدوّه: لقد جاءك الجلاء عفواً وبلا تعب؟

كلا. إنها ما جاهدت أمة مثل جهادنا، ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت، وألفنا الفقر، واعتدنا الجوع، وأصبحت مدينتنا بلاقع، وأهلها مفجوعين، ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ وهل أخذناه بعد ذلك منحة من الإنكليز؟

كلا ثم كلا، إنا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد فأستلبه منا أهل الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم حتى نستعيده كاملاً أو نموت دونه. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته!

أستغفر الله! اللهم إنا نبرأ إليك من أن نعتمد على أنفسنا، فانه لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لك الحمد وبك التوفيق، ولا اعتماد إلا عليك.

اللهم لك الحمد على أن أحييتنا حتى رأينا هذا اليوم العظيم، وشهدنا جيشنا يعرضه زعيمنا تحت علمنا. . . فإن هذه الفرحة تغطي على تلك الآلام. . .

على أننا لم نعرض هذا الجيش الصغير الذي ربّاه الفرنسيون، وأعانهم على حرب هذا الوطن، ثم جاءنا تائباً فقبلنا من كرمنا توبته، واستغفَرَنا فغفرنا له حوبته، بل عرضنا الفصيلة الأولى من جيش العروبة، فرفرفت أعلامها فوق الصفوف، واجتمع فيها جنودها من أقطارها كلها. . . هذه بقية جيش الماضي الذي خففت له تحت كل نجم راية، وسما له في كل رَبْع علم، وكتب له في كل معركة ظفر، وهذه نواة جيش المستقبل الذي سيعيد بعون الله تلك الأمجاد.

لقد طالما رأيناه يعرض علينا هذا الجيش، يعرضه سادة الأمس كما يعرض المعلم الظالم عصاه على التلاميذ، والطاغية الجبار سيفه. يقولون لنا: انظروا إلى قوة فرنسا. . .

ص: 16

واحذروا أن تفتحوا باسم الحرية أفواهكم. . . وإلا نزلت هذه السيوف على أعناقكم، وضربت هذه المدافع دوركم، وكان هؤلاء الجند الذين هم أبناؤكم عونا عليكم. . . فجاء رئيسنا يعرضه اليوم، ليقول: انظروا إلى جيشكم الذي يذبّ عنكم، ويحمي حريتكم، إنه لكم!

فلا تلوموا دمشق إن مشت كلها من قبل مطلع شمس يوم الجلاء لتشهد هذا العرض. إنه عرض مبارك، التقى فيه أول مرة الأخوان الذين كانوا يتعارفون على السماع لا عرف الأخ منهم أخاه، فمشى فيه الجندي المصري إلى جانب العراقي، والنجدي إلى جنب اللبناني، والأردني مع اليماني، مشوا جميعا في طريق واحدة على قدم واحدة إلى غاية واحدة.

اسمعوا، فهذه هي المدافع ترعد وتدويّ وتزلزل الجوّ رجّة واهتزازاً انظروا فهذه هي الطائرات تحوّم وتحمحم، وتعلو وتنحط، وتجيء وتذهب، ولكن لا تفزعوا، فإنها لن تؤذيكم، إنها ليست مدافع الفرنسيين التي تدمر، ولا هي طائراتهم التي تصبّ الحمم! لقد ذهب الفرنسيون ولن يعودوا. إنها مدافعنا نحن، لقد صارت لنا يا قوم مدافع. . . إنها طياراتنا، لقد صار للعرب طيارات، إنها أول مرة نسمع فيها المدافع تنطق بإرادتنا وأيدينا، ونرى الطيارات تعلونا فلا ترمينا بالقنابل التي فيها الموت بل بالقراطيس التي فيها السكر، تسقط في مظلات صغيرة هدية من مصر ومن العراق، وبشرى بأن أيامنا الآتية ستكون حلوة كالسكر.

فيا أيها الأخوان المصريون والعراقيون: شكراً شكراً. ويا إخواننا جميعاً لكم الشكر.

أنتم أفضتم على هذا العيد بهاءه. أنتم ألبستموه رونقه. أنتم جعلتموه أعظم وأجلّ، حين جعلتموه (يوم العروبة) كلها، لا يوم سورية وحدها، وبكم بعد الله قوينا على حمل أثقال الجهاد، وأعباء الظلم، حتى منّ الله علينا فظفرنا، وعليكم أنتم ستقف عزائمنا وأموالنا وسواعدنا، وفيكم سنبذل مهجنا وأرواحنا، حتى يمنّ الله على أقطار العربية كلها بالحرية كما منّ بها علينا، بالحرية النقية التي لا تعكرها حماية ولا وصاية ولا انتداب، إننا لن نلقي السلاح وفي الدنيا بلد إسلامي يحتله أجنبي!

وأنت يا علمنا. . . اخفق مطمئناً، فقد عدت إلى مكانك، ولن تنزل منه أبداً. لن يغلبك عليه

ص: 17

علم غاصب آخر ولو ظاهرته عفاريت الجن ومَرَدَة الشياطين وجاء معه بعشرة قنابل ذريَّة، لن يأخذه منك أبداً ونحن أحياء، إلا علم (الوحدة العربية) أولاً ثم علم (الخلافة الإسلامية) ثانياً إذ يبقى فيه عالياً خفاقاً إلى يوم القيامة.

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 18

‌بين الشرق والغرب

قمر مصر. . .

في سماء باريس

للأستاذ راشد رستم

صديقي. . .

لقد عدتَ يا صديقي إلى مصر بعد أن أكملت في الغرب دراستك، وها أنت ذا اليوم من آحاد الوطن الذين بهم يستبشر، ومنهم الخير ينتظر.

ولقد أديت لك ما طلبت مني - فتزودت لك بما شئت من النظرات، ومررت على ما سألتني أن أمر عليه من المشاهد، وجست خلال ديار أردت مني أن أذكرك فيها، كما أني وصلت لك ما أنقطع برحيلك مع من كان بينك وبينهم مودة. . .

ولعل فيما قمت لك به من الرغبات ما يخفف عني ما أنت فيه الآن، كما تقول، من (وحشة المكان وغرابة السكان). . .

أليس غريباً حقاً أن يعود الوطن مكاناً للوحشة وأن يصير أهله موضعاً للغرابة!.

لا تحزن يا صديقي على عودتك من هنا (هكذا سريعاً) كما تقول، مع أنك مكثت فينا خمس سنوات كاملات! وأنك خلفتنا هنا بعدك (نستمتع بحياة الغرب الهنية طويلاً، ونرشف من بحرها الطامي كثيراً وكثيراً). . .

تأكد يقيناً أنك السابق في رحلتك، وأنك الفائز في عودتك، أما نحن فسنتحمل الغربة زماناً آخر، إلى أن نلحق بك لنجتمع كما كنا نجتمع، ونلتقي مثلما تلاقينا، ونلهو ونعمل كما كنا نلهو ونعمل، ولا تحسبن للفوارق التي بيننا وبينك الآن حساباً، فقد يستمتع المرء بالقليل كثيراص، ويلهو بالكثير قليلاً. . .

أتظن يا صديقي أنه في الإمكان أن يبقى هنا كل من يجيء إلى هنا؟ أم أن له أن يبقى ليكون عليه أن يعود!. . .

إن الأوطان تنتظر أبناءها. . .

(وهذه مصر أم الدنيا، ولعل الذين يقولون عنها ذلك هم الذين لم يروا غيرها. أو لعلهم هم

ص: 19

الذين جاءوها من بلاد أقل منها) على رسلك يا أخي. . . ما هكذا يقال عن الأوطان. . .

ومالنا وهذا التحليل بل هذا التعلل!. لماذا فكرت فيه؟ ولماذا يخطر على بالك وقد عشت في بلاد كلها وطنية وحماسة للوطن! أليس بلاد كل إنسان هي (أم الدنيا) عنده؟

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام

إن مصر هي مصر، وهي أم الدنيا، وهي مما ليس منه بد، رضيت بذلك يا صديقي أم حملت به تحميلا. . .

وها أنا ذا أترك هذا الأمر القليل. . . فقد سرح مني الفكر أمام هذه الخاطرات الخطرات. . وما جئتنا به من النزعات الغريبات، بل النزوات الغربيات. . .

وقد لاحت مني نظرة إلى النافذة نحو العلاء في السماء. وقد سكن الليل إلا من دوىّ المدينة العظيمة الساهرة، فإذا بقمر باريس يطل خلال الستائر الشفافة، ساخراً من ضوء مصباحي الصغير، ضاحكاً مما أنا فيه من تفكير، وما جئت به أنت يا صديقي من تعيير. . .

إن هذا القمر يذكرني بأصفى سماء يسبح فيها قمر. . يذكرني (بأقمار) في مصر كثيرة. في شمالها وصعيدها، في غيطانها وعند غدرانها، في الريف والحضر، عند السوق وتحت الشجر، على رمال الصحراء، عند سفح الهرم. بين المعمور وبين المهجور، في البحر وفي النهر، في الليل وبعض النهار، وحيداً وغير وحيد، ثم قمراً في آخر الليل عالقاً بذيل الظلام، محتفياً بموكب الفجر، مختفياً أمام ذات الخدر وقد أزاحت عن وجهها الحجاب. . .

هذا القمر المصري لا أنساه وصوت المزمار البلدي الشجي آخر الليل عند سفح الهرم، والأربعون قرناً تشاطرنا الحظ والإيناس. . .

هذا القمر لا أنساه مع نغمات الغاب، في جلسة الحصير بالريف، وقد نام أهل القرى في غسق الليل من قسوة النهار، إلا قليلاً منهم الساهر السامع، يستمتع وينتعش بنغمات الصبا والبياتي على صوت هذا الغاب، والهمّ به قد غاب، وتلك المواويل الحمر وفيها أجناس الناس أجناس، وفيها غرام أهل الغرام موكول إلى من هو رابض بين الضلوع، وإلى ما هو صاعد مع الأنفاس. . .

هذا القمر الساخر لا أنساه وهو ينظر إلينا صامتاً ونحن في البيداء. . فيزيد التيه تيهاً، ويجعل من الحقيقة خيالاً ومن العقل خبالاً، ومن الرمال حبالاً. . . ومن النفس حالاً وحالاً

ص: 20

- هنالك في العراء، وسط رهبة السكون المخيف يزداد المجهول في علمنا مجهولاً. . .

هذا القمر الباسم لا أنساه في بيتنا الكبير العتيق ذي الحركة المدوية نهاراً، والسكوت المهيب ظلاماً، وقد أطل القمر عليَّ صغيراً كما يطل الليلة علي كبيراً. وكانت مربيتي العجوز، وقد احتوتنا رهبة الجدران العالية والغرف الواسعة، تقول لي: أطفئ المصباح يا ولدي. فهذا القمر ما أحلاه، وهذا السناء ماأبهاه، ثم تتولانا وحشة الليل فتأخذنا سنة من النوم، ثم نصحوا فإذا القمر قد تحرك في بروج السماء قليلاً. . . فتقول العجوز: سبحان الخلاق!. . .

وها أنا ذا اليوم هنا في باريس أطفئ الليلة هذا المصباح كما أطفأت أخا له من قبل، في تلك الليالي الخوالي، وهذا هو القمر لا يزال ما أحلاه، وهذا هو الضياء لا يزال ما أبهاه. . .

وأنت يا قمر باريس! هل أنت قمر ذاك الزمان، وقمر ذلك البيت الكبير العتيق، وقمر مربيتي العجوز! أم زادتك هذه السنون الثلاثون تحويلاً وتحويراً، كما زودتني الليالي والأيام تحميلاً وتعذيراً. . .

هنالك كنت تسمع أيها القمر حديثاً ساذجاً، بين صغير وعجوز، كلاهما مغرم بالقمر المنير وبما يغرى الوجه المنير في خيال هادئ ولطف جميل.

هنالك كان يسمع الصغير أحاديث العجوز، وهي تناجي القمر تسأله عن كل شيء وتطلب منه كل شيء، تدعوه أن يحمل لها في رهبة الليل وجلال الصمت سؤالها عند ربها (فالق الحب والنوى، وفاطر السماوات العلا) تسأله أن يحمل سلامها إلى أهلها فرداً فرداً، وأن يعود إليها في غدها لتراه في غدها. . .

ثم تقول وكأنها قد أدت صلاتها - نم يا ولدي. نم وادع ربك يستجيب لك، وأنت يا قمر مُسّيت خيراً وفي حفظ الله. . .)

ثم تقرأ الفاتحة وتنام إلى الصباح. . .

نعم إن وجه هذا القمر يذكرني الليلة تلك الأحاديث وذاك النغم وذلك الجو السحري البريء، فيثير مني في هذا الغروب وفي هذا السن تفكيراً. . قد يكون عن تلك السذاجة تكفيراً. . .

وإن المرء لينعم بالخيال كما يشقى بالذكرى، على أنه لا يدري أكان خيراً له أن تقف به

ص: 21

الليالي أم أنها به تجري. . .

وهاهو ذا القمر يختفي وراء السحب وإلا فستخفيه منازل باريس. . فأين سهلك الفسيح يا مصر. . حيث يمتد البصر فيذهب فيه مع النهاية إلى اللانهاية. . .

أين النخيل يا مصر لكي يختفي هذا القمر خلالها كما يختفي وجه الحسناء خلال أصابع الحسناء. . .

يا صديقي. . .

هذا القمر أول ما عرفناه كنا في مصر، وحقاً إن لمصر قمرها كما أن لها غير القمر.

أما أن يكون لمصر كل ما لغيرها، فتلك أمنية يرجوها الجميع لها، ولكن أين الشرق من الغرب، وأين ما بينهما من خيالات الحقيقة، وحقائق الخيال. . .

فاجعل الأمر سهلاً، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، ولا تجعل مصراً من الغرب وهي في الشرق، بل اجعل لمصر في الشرق ما لمثلها في الغرب.

اجعل من مصر أعظم ما يمكن أن يكون من مصر، وستجدن منها إذن كل ما تطمع من حياة ذقتها غرباً وتريدها شرقاً. . .

راشد رستم

ص: 22

‌السيد جحا الحالم اليقظان

للأستاذ كامل كيلاني

1 -

ترجح الأضداد

يقول ابن زيدون:

(يا هل أتى من ظن بي، فظنونه

شتى ترجح بينها الأضداد)

وما أكثر ما تترجح الأضداد في الحياة، فيصعب تمييزها وتشتبه على الألمعي البارع، حتى ليصرخ شاعرنا (أبو العلاء) متبرماً بعجز الإنسان عن تعرف الصادق من الكاذب، والجاد من الهازل والغافل من المتغافل، والهادي من الهاذي فيقول:

(يكفي عناء من الدنيا ومنقصة

ألا يبين الهادي من الهاذي)

وقلما رأينا خلة محمودة، أو ميزة فريدة مشهودة، إلا رأينا ضدها من الخلال، شديد القرب والشبه بها، وثيق الاتصال.

وكثيراً ما تشتبه على أذكى الباحثين سمات العبقرية بالجنون، والشجاعة بالتهور، والاقتصاد بالبخل، والإبداع بالسخف، والتسامح بالعجز، والتغابي بالغباء، والتباله بالبله.

وقديماً قال ابن المقفع:

(وما من خلة هي في الغنى مدح إلا وهي في الفقر ذم)

وقال الشاعر:

(وسورة علم لم تسدد فأصبحت

وما يتمارى أنها سورة الجهل)

2 -

قصة الحكم الثاني

وما أكثر ما تجلو لنا ملابسات القول وبواعثه ما يقلب المعنى الذي يتبادر إلينا رأساً على عقب.

وكيف تحكم على إنسان يسمع بهزيمة جيشه فلا يتحرك، وينادي خادمه ليأتيه بالعطر يتطيب به قبل أن يقتحم عليه الثوار قصره ويقتلوه.

لا شك في أنها غفلة بلغت المدى.

أو شجاعة لا تعبأ بالردى.

ص: 23

فإذا تجلت لنا ظروف القصة، وعلمنا أن صاحب القصة هو الحكم الثاني الذي وهب حياته لتشجيع العلم والعلماء. وعلمنا كيف تألب عليه الحساد وحرضوا عليه سواد العامة، بعد أن اتهموه بالمروق من الدين، فاقتحموا عليه قصره بعد أن هزموا حرسه، وكادوا يفتكون به فلم يجد وسيلة يعبر بها عن احتقاره لخصومه وتساميه إلا أن ينادي خادمه قائلا:

(عليّ بالغالية يا غلام)

وهنا تشتد دهشة الخادم فيقول:

(عجباً أهذا وقت الغالية يا أمير المؤمنين؟)

فيجيبه الحكم الثاني ساخراً:

(ويلك بما يُعرف رأسي من رؤوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضخماً بالغالية؟)

رأينا حينئذ في هذا الرد الساخر، أبلغ تحقير لخصومه، وأفتك إزراء بأعدئه الثائرين المتوثبين للإيقاع به.

3 -

بين الأمين وكوثر

ولعل قريباً من هذا الباب قول الأمين لمن بلغه نبأ اندحار جيشه: (ويلك، لقد اصطاد كوثر سمكتين وأنا لم أصطد إلا سمكة واحدة) وقريب من هذا قول الساخر الذي سئل عما يطلب قبل أن يصلب بلحظات يسيرة:

(لا أطلب غير الماء)

فلما سئل: (ألا تفضل الجعة؟)

أجاب: (كلا فقد أخبرني الطبيب أنها تسبب لشاربها مرض الزلال).

4 -

كيسان النحوي

من بدائع الجاحظ وطريف دعاباته، ذلكم التندر الكاريكاتوري البارع الذي رسّم به أعجب نموذج للذاهل الحالم وألصقه بكيسان النحوي فنعته:(بأنه يسمع غير ما يقال له، ويكتب غير ما سمع، ويقرأ غير ماكتب، ويفهم غير ما قرأ).

وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:

(تقول له: زيد، فيكتب خالداً

ويقرؤه عمراً، ويفهمه بكراً)

ص: 24

وهي غفلة يكاد يتسم بها كل مفكر عميق، إذا حصر ذهنه في فكرة بعينها.

5 -

غفلة نيوتن

ولعل أكثركم يعرف قصة نيوتن الذي هدته دقة الملاحظة إلى تعرف الجاذبية، وكيف أراد أن يلقي بيضة في الماء الغالي ويمسك بساعته عشر دقائق حتى تنضج وكيف نظر - بعد قليل - فرأى أنه يمسك البيضة في يده، أما الساعة فقد ألقى بها في الماء مترقباً نضجها وشيهاً.

6 -

بين وزيرين

ولعل بعضكم يذكر قصة الوزيرين العباسيين حين التقى مركباهما في نهر دجلة، فأراد أحدهما أن يلقي إلى صاحبه بتفاحة، وما كاد يهم بذلك حتى شعر بحاجة مفاجئة إلى البصق في النهر.

فماذا صنع؟

ألقى بالتفاحة في النهر، وبصق في وجه صاحبه.

وحاول أن يعتذر عن سوء فعله فقال: (غلطنا) فأجابه الآخر: (ثُلطنا)(أي: لحقنا العار ولطخنا).

7 -

ضلال المتسرعين

وإنما لجئنا إلى هذه المقدمات لننبه إلى أن كثيراً من الطرائف والدعابات الجحوية قد حملت على غير محملها وفهمت على غير وجهها فتوهم بعض المتسرعين من سامعيها أو قارئيها أن صاحبها أبله أو مخبول.

وما هو - على الحقيقة - بأبله ولا مخبول، ولكنه ساحر يتلعب بالعقول.

ومن هنا وجب على الباحث أن يجلو الظروف والبيئة، ويوضح الملابسات، حتى يأمن الناقد من الحيف والجور، وينجو من التسرع والخطأ فيما يرتجله من أحكام بعيدة في الغالب عن الصواب.

8 -

سفينة السلام

وكيف نحكم إذا سمعنا أن رجلاً رأى مركبه تعنف به العواصف، وتشتد فتتقاذفه الأمواج

ص: 25

الثائرة، ولا يلبث أن تتمزق أشرعته، فينهمك ملاحوه في إصلاحها. فيصيح بهم هذا الرجل:

علام تتكبدون عناء الصعود إلى أعلى السفينة؟ إنها لا تهتز من أعلى بل من أسفل. فما بالكم لا تربطون أسفلها بقاع البحر حتى تأمنوا اهتزازها؟

لاشك في أننا نحسبه معتوها إذا لم ننظر إليه على ضوء ما أسلفناه. ومن يدري؟ فلعلنا إذا رأينا ما يصنعه قادة العالم لإنقاذ سفينة السلام التي تتقاذفها الأنواء وتمزق العواصف أشرعتها، ورأينا كيف تشغلهم أسافل الأمور عن أعاليها، فيقترحون ربط السفينة من أسفل، بدلا من العناية بإصلاح أشرعتها العليا. عذرنا جحا فيما رآه.

9 -

جواب الحانق

ونحن إذا سمعنا أن رجلاً كان يملأ جرته من النهر، فأفلتت الجرة من يده، فجلس يترقب خروجها من الماء، حكمنا عليه بالبله، كما حكم بعض الناس على صاحبنا جحا.

ولكننا حين نتمثله وهو محنق مغتاظ لسقوط الجرة وضياعها وإنه لفي دهشته وحيرته وهو مسترسل في غيظه وغظبته، وإذا بثقيل يقطع عليه تفكيره ويزعجه بسؤاله:

(عم تبحث يا أستاذ؟)

فلا يرى متنفساً لغيظه في غير التهكم والسخرية بذلكم الفضولي فيقول:

(لقد أفلتت الجرة من يدي إلى قاع النهر فجلست أترقب عودتها إلي، ومتى عادت أمسكت بها من أذنها وفمها حتى لا تعاود السقوط مرة أخرى.

(البقية في العدد القادم)

كامل الكيلاني

ص: 26

‌التاريخ في سير أعلامه:

مِلْتُن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 12 -

رحلة إلى إيطاليا:

قضى ملتن نحو ستة أعوام في هورتون بين كتبه وأوراقه، وهي في الحق عزلة طويلة ما كان ليطيقها لولا عزم مصمم ورغبة قوية في الاستزادة من المعرفة والتأهب لعظيمة في دنيا الشعر.

بيد أن القلق أخذ يساوره والسأم يهجس على قلبه في نهاية العام الخامس من مقامه في القرية أي سنة 1637 قبيل نظمه مرثيته الرائعة ليسيداس، نتبين ذلك مما كتبه إلى صاحبه ديوداتي في سبتمبر من تلك السنة، وكان ديوداتي قد صار يومئذ طبيباً تشغله مهنته فعتب عليه ملتن عتباً عنيفاً أن لم يف بوعده في زيارته وكانت لهجة الكتاب غاضبة شاكية تنم عن حال من الضجر والسأم من طول مصاحبة الكتب والابتعاد عن الدنيا إلى هذا المضطرب الضيق المحدود في القرية.

والحق إن هذه العزلة وإن أجدت على الشاعر كثيراً من الثقافة والاطلاع لم تخل من بعض الآثار السيئة، فقد زادت من ذهابه بنفسه واعتداده برأيه ووثوقه من ارتفاع مستواه من غيره، وإلى ذلك يعزى إلى حد ما صرامته في الجدل فيما كتب بعد وتعاليه على مخالفيه في الرأي وعنفه في الخصومة، وغياب ما عرفه خلانه في مجالسته من عذوبة روحه ورقة حاشيته وطلاوة حديثه.

وكانت قد ماتت أمه في أبريل من هذه السنة، وبموتها ازداد قلقه وازداد ميله إلى الرحيل عن هورتون، وأصبح يحس أن مقامه فيها قد أشرف على النهاية، فقد كان يجد في ابتسامة أمه له وحدبها عليه وثقتها في مستقبله وفرحها بطموحه عزاء له وبهجة لروحه في هذه

ص: 27

العزلة القاسية، أما أبوه فقد جاوز السبعين وهجر ألحانه وقراءاته، ورغبت نفسه عن الحديث في الأدب والفن إلا قليلاً، ولهذا لم يعد ابنه يجد عنده ما كان يجده من قبل من بشاشة وإقبال إذا كان يفضي أليه بآماله ويحدثه عما يقع عليه من مطالعاته من رأي سديد أو تعبير بليغ أو نادرة حلوة.

ورد عليه ديوداتي يتمنى له راحة البال وهدوء الحال، وسأله عما هو فيه. وكتب إليه ملتن كتاباً لم يك فيه ما كان في سابقه من الضجر، ما ذلك إلا لأنه قد عقد العزم على أن يرحل. وكان يفكر أول الأمر في الإقامة في أحد فنادق لندن، وفي هذا الكتاب أجاب ملتن إذ يرد على تساؤل صديقه بتلك العبارة التي أسلفنا الإشارة إليها ألا وهي تهيؤه لعمل يسلكه في الخالدين.

وصح عزمه في ربيع سنة 1638 على الرحيل إلى إيطاليا لتكون رحلته فيها متعة لنفسه وثقافة لعقله، فما إن تزال الثقافة هي حافزاً إلى كل ما يعمل من عمل، كأنما يضن بوقته أن يكون فيه قسط للراحة أو للمتعة الخالصة.

ولم يبخل الموثق الشيخ على ابنه بالمال اللازم له ولخادم يتبعه فأمده بثلاثمائة وخمسين من الجنيهات وكانت تساوي يومئذ نحو ألف مما نتداوله اليوم، وحمد ملتن لأبيه سخاءه، وكان يتوجس خيفة منه حين هم بطلب ذلك المال، وكان حرياً أن يخاف، فهو قد بلغ الثلاثين من عمره ولما يزل في رأي أبيه عاطلاً لم ينهض بعمل مما كان يحبه له، وكأنما لم يكفه ذلك فجاء يطلب من أبيه مالاً ليستمتع بالرحيل إلى إيطاليا!

والحق إنها يد للموثق الشيخ تضاف إلى سالف أياديه على ابنه، ولم ينس الابن أنه تركه لما كان فيه من الشعر، إذ آنس منه وهو بعد غلام أنه يحب أن يجعل من نفسه هوميروس آخر وكان أبوه يحب أن يكون منه كلفن ثان، ولم ينس أنه قبل ولو على كره انصرافه عن الوظيفة مدنية كانت أو دينية، وأنه وافق على مقامه في هورتون ليتفرغ للدرس والاطلاع وهو خريج الجامعة؛ لم ينس الشاعر الشاب شيئاً من هذا ولذلك فهو مغتبط بسماحة أبيه ونور بصيرته، ومرد ذلك فيما يرى الشاعر إلى ما تذوقه أبوه من نعمة الثقافة، وما فتح عليه عينيه من نور المعرفة.

وكانت إيطاليا يومئذ منتجع خواطر الرجال والشباب من كل أمة على اختلاف ثقافاتهم

ص: 28

وميولهم، فكانت تجتذبهم إليها اجتذاباً، وكان لا يحس المرء بكامل ثقافته إلا إذا زار معالمها أو معالم النهضة في أنحائها، وكان بها لكل عقل متعة، يجد فيها ضالته رجل الفن ومحب البحث في الآثار القديمة والعاكف على دراسة التاريخ والمولع بالمعمار، والمفتتن بمشاهد الطبيعة والمشتغل بالفلسفة والعلم، ولا عجب ففي إيطاليا ازدهرت الحضارة الرومانية، وفيها أشرقت شمس النهضة الأوربية منها انبعثت أشعتها، وهي مهد أوفيد وفرجيل، وموطن دانتي وبتراك وتاسو ورفائيل وميكائيل أنجلو وجاليليو، وكانت في النصف الأول من القرن السابع عشر حين رحل إليها ملتن كسوق انقضت إلا قليلاً، فلا يزال بها من سحر النهضة وجمال مواكبها بقية.

وكان أمر طبيعياً أن ينجذب ملتن إلى إيطاليا وهو ابن النهضة بدراسته وروحه وفنه، وما يزال يتجه بخياله وعقله إلى الربيع الأليزابيثي الراحل وكان موكباً من مواكب النهضة وإن له في مشاهد إيطاليا وفي لقاء شعرائها ورجال الفن والذوق فيها وإن كانوا ظلالاً لمن مضى من الأفذاذ، لمتعة يطرب لها قلبه، وتأنس بها روحه.

وكان لملتن أكثر من عدة إلى إيطاليا، فإلى جانب ما أمده به أبوه من مال، كان له باللغة الإيطالية علم كاف، وبتاريخ إيطاليا معرفة وثيقة، كما أنه حصل على كتاب توصية به من بعض ذوي الحيثية، وكان من بين تلك الكتب كتاب من سير هنري وتون وقد قضى سير هنري سنين من عمره في إيطاليا، وله فيها أصدقاء من ذوي المكانة

ونصح سير هنري لملتن فيما نصح له به أن يتجنب المناقشات الدينية، وأن يكون حريصاً في هذا ما وسعه الحرص؛ وكان سير هنري خبيراً بما عسى أن يجلب على المرء المتاعب في إيطاليا، كما أنه كان يلمس من تحمس ملتن لرأيه ومن شدة كراهته لبابوية روما وقساوستها ما جعله يكرر النصح في إلحاح وشدة

وصل ملتن إلى باريس في أبريل أو مايو سنة 1638، وهناك لقيه السفير الإنجليزي بالترحاب والحفاوة وقدمه إلى جروشْيَسْ وكان جروشيس يعيش منذ بضع سنين في كنف ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وكان رجلاً مشهور المقام في الأدب والفلسفة والسياسة والبحث الديني، وكان قد حكم عليه في بلاده بالسجن مدى الحياة بسبب آرائه الدينية التي خالف بها مذهب كلفن في القضاء المحتوم، وفر بمساعي زوجته إلى فرنسا، حيث طاب له

ص: 29

المقام، وأظهر جروشيس الحفاوة بملتن وأبدله المودة وأثنى عليه، وذكر له ما سمعه عن نباهة شأنه في الشعر

وفي يوليو بلغ ملتن فلورنسه عن طريق نيس وجنوة، وأقام الشاعر في فلورنسة شهرين، وقد أحب ملتن فلورنسة وأهلها حباً قوياً، وكانت تمتاز يومئذ بجماعاتها الأدبية، وكان بها من تلك الجماعات ست شهيرة، وكانوا يسمونها الأكاديميات، وشتان بينها وبين الأكاديميات الحديثة ذات القوانين المحددة والأصول المرعية في البحث والدرس، وإنما كانت هي منتديات يلتقي فيها ذوو الثقافة فيتناقشون فيما يعرض لهم من المسائل في جلسات ترفع فيها من بينهم الكلفة وتزداد الألفة؛ وقد تنقل ملتن بين هذه الجماعات وكان يقابل فيها جميعاً الحفاوة والمردة، وأصغى ملتن وتكلم في تلك المنتديات، وكان هو ومضيفوه ينتقلون من حديث إلى حديث حيثما تتشعب طرق الكلام، فتناولوا الأدب والعلم والفلسفة والرقابة على المطبوعات والسياسة والدين؛ وتكلم ملتن عن عقيدته الدينية كما تعرض لعقيدتهم، وأصغوا إليه في دماثة وهدوء، ووافقوه على كثير مما يقول، بل إنهم ذهبوا إلى أكثر من ذلك فشكوا إليه وقد وثقوا منه ما يعانون من استبداد الكنيسة وطغيانها، الأمر الذي يمقتونه أشد المقت؛ وقد جاء فيما كتبه ملتن عن تلك الزيارة 1644 قوله:(جلست بين المثقفين من رجالهم، وقد عدوني سعيداً أن ولدت في إنجلترا بلد الحرية الفلسفية كما تصورها يومئذ، في حين أنهم لم يترك لهم شيء إلا أن يئن المثقفون منهم مما يلاقونه من عنت وشدة، وإلى ذلك يعزى ما أحاط بأولى الألمعية من الإيطاليين من ظلمة، وإليه يعزى أنه لم يكتب طوال هذه السنين الكثيرة في إيطاليا إلا الملق والادعاء!)

وكان مما اعتاده أعضاء هذه الأندية أن يلقى كل واحد منهم ما يبرهن به على ذكائه وسعة اطلاعه، واستمع ملتن إلى كثير مما ألقي أمامه بالإيطالية، وجاء دوره فتلا في إحدى هذه الجماعات عن ظهر الغيب بعض قصائده اللاتينية التي نظمها في أول شبابه، وبعض قصائد أخرى نادرة وقع عليها أثناء مطالعاته، كما أنه ألقى عليهم بعض ما نظم بالإيطالية، وقد طربوا كثيراً لهذه القصائد الأخيرة وبالغوا في امتداحها، وعبورا عن شعورهم نحو صاحبها بمدائح لاتينية ذكر ملتن أنها (مما يضن به الإيطاليون على من يقطنون في هذا الجانب من الألب).

ص: 30

وبلغ من فرط سروره بهذه المدائح أنه اعتزم أن تكون معظم أشعاره في المستقبل باللاتينية ليذيع صيته في القارة، ولكنه ما لبث أن ترك هذه الفكرة بعد أن عاد إلى وطنه؛ على أنه لم ينس تلك المدائح التي اختصه بها أهل فلورنسة فنشرها في مقدمة ما نشر من أشعاره اللاتينية سنة 1645، ولعله أراد بنشرها أن يطلع الحاقدين عليها من بني وطنه على ما لقيه من ثناء وحفاوة بين الإيطاليين، فقد أثنى الإيطاليون فيها على ذكائه وعلمه وحذقه اللغات، وجماله وفصاحته وما يتصف به من فضائل، وطول باعه في الفلك والفلسفة والتاريخ وبالغ أحدهم وهو السنيور فرانسيني فراح يؤكد لملتن في قصيدته أنه ما من سر مهما بلغ من عمقه تخبئه الطبيعة في السماء أو في الأرض إلا وهو على علم وثيق به، وأنه قد بلغ حد اكتمال الفضيلة وأن ألحانه الحلوة ترفعه إلى السماء.

واتخذ ملتن طريقه إلى روما فقضى فيها شهرين؛ وهناك طاف بأبنيتها وآثارها القديمة وتعرف إلى كثير من ذوي النباهة والمكانة، وقوبل بالحفاوة فيها كما قوبل في فلورنسة، وإن كانت حماسة أهل روما لم تصل إلى حماسة أهل فلورنسة، ولم يتبع ملتن في روما ما نصح له به سير هنري، فأخذ يتكلم في حماسة وصراحة عن مذهبه البروتستنتي ورأيه في الإصلاح الديني، ولعل ذلك هو السبب في فتور حماسة أهل روما نحوه، بل إن بعضهم انصرف عن الحفاوة به حينما نما إليهم ما يقول في الدين، وما كان ملتن بالرجل الذي يستطيع أن يخفي في نفسه رأيا يؤمن بصوابه، وما كان ليخاف عنتاً أو أذى في سبيل عقيدته، ومن أبرز خلاله منذ صغره الجهر بما يعتقد لأنه يرى أن الكتمان نوع من المذلة إذا كان الباعث عليه الخوف. وهكذا أخذ في المدينة البابا نفسه يتكلم في طلاقة وجرأة لا يهمه كيف يقع كلامه في نفوس سامعيه، ولا يخيفه أقل خوف ما عسى أن يكون من موقف السلطات حياله؛ أشار إلى ذلك فيما كتب فقال (لم يكن من دأبي أن أثير المناقشات الدينية فيما أغشاه من الجماعات، ولكني كنت إذا سئلت عن عقيدتي لا أخفي شيئاً مهما يكن ما أتعرض له من ألم. . . لم أخف عن أي سائل يسألني أي مذهب أعتنق مهما كان هذا السائل؛ وكنت إذا هاجم أي شخص في المدينة البابا العقيدة الأصلية لا أتردد في الدفاع عنها بكل طلاقة)

وتعرف ملتن إلى رجل ألماني الجنس هو لشتنيس، وكان يقوم على شؤون مكتبة الفاتيكان،

ص: 31

وكانت له مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من عظماء القساوسة، وقد أراد أن يظهر للشاعر الإنجليزي عرفانه لجميل أهل إنجلترا معه حين كان يطلب العلم في اكسفورد وقد قدمه هذا الألماني إلى الكاردينال العظيم فرنسسكو باربريني، وكان الكاردينال يومئذ هو كل شيء في روما، وأقيم للشاعر حفل موسيقي في قصر باربريني وهناك استمع ملتن إلى المغنية الشهيرة ليونارة باروني فأعجب بها إعجاباً شديداً عبر عنه في قصائد ثلاثة لاتينية قصيرة أهداها إلى المغنية العظيمة.

ولو كان رجل آخر مكان ملتن لأثرت فيه أمثال هذه الحفاوات وبخاصة ما جاء منها من قبل رجال الدين، ولتخفف من صراحته وحدته في الكلام عن عقيدته الدينية وركن إليهم شيئا قليلاً، ولكنه لم يدع لمثل هذه الأمور سبيلا إلى التأثير في رأيه فلم يتحول عنه قيد شعرة الأمر الذي جعل البعض يصدون عنه بعد إقبال، وجعل الجزويت ينكرون أقواله ومسلكه إنكاراً شديداً.

ولم تك تلك القصائد الثلاث كل ما أوحته إيطاليا إلى ملتن، فبين قصائده اللاتينية خمس غيرها وجهها الشاعر إلى سيدة إيطالية لم يذكر اسمها سحرته (بسمو حركتها وبحاجبها الأسود الذي يلقي في النفوس الحب).

وتوجه ملتن بعد ذلك إلى نابلي، وهناك زار رجلا كان لزيارته إياه أجمل وقع في نفسه وذلك هو مانسو العظيم ماركيز فيلا، وكان مانسو في الثامنة والسبعين من عمره، ومرد عظمته إلى أنه كان راعي الأدب والفن مدة جيلين، آوى في أولهما الشاعر تاسو وفي ثانيهما ماريني؟ وهاهو ذا يلقى شاعراً ثالثاً سوف يكون أعظم خطراً في تاريخ الأدب العالمي من ذينك الشاعرين، وقد رحب به مانسو واستطاع على الرغم من شيخوخته أن يطوف به على الأماكن التي وصفها حين كتب حياة تاسو، وأحب ملتن هذا الشيخ فامتدحه بقصيدة جميلة ذكر فيها أنه يود لو كان له راع مثل مانسو راعي الشعراء؟ ليعنى بدفنه إذ يموت، ويقيم له تمثالا من المرمر يتوج الغر هامته، وقد أشار ملتن في هذه القصيدة إلى ما يعتزم في دنيا الشعر كما أثنى على موطنه إنجلترا وعلى مكانتها في الشعر والأدب؛ وأهدى إليه مانسو كأسين منقوشين وعبارة جاء فيها (لو أن دينك كان مثل عقلك وهيكلك ورشاقتك ووجهك ومزاجك ما كنت بريتانيا فقط بل كان مقامك بين الملائكة).

ص: 32

واعتذر إليه مانسو لأنه لا يستطيع بسبب عقيدته الدينية أن يظهر له من الحفاوة به ما يستحق مخافة الرقباء في المدينة، وعاد ملتن إلى روما فلبث فيها شهرين آخرين ثم ذهب مرة ثانية إلى فلورنسة، وفي هذه المرة استطاع أن يزور العالم العظيم جاليليو وكان نزيل السجن في المرة الأولى؛ بسبب آرائه في الفلك وخالفته بها رأي الكنيسة، وزاره ملتن في بيته على مقربة فلورنسه بعد أن حصل على إذن من السلطات، وكم تأثر الشاعر لمرأى هذا العالم الشيخ فقد كف بصره وأحيط بالرقابة الشديدة وبدا محطم الهيكل شديد الضعف، على أنه كان لا يزال محتفظا بقواه العقلية، ولو اطلع ملتن على الغيب ساعتئذ لرأى نفسه صورة شبيهة بصورة جاليليو في ضعفه وفقد بصره ومعاناته الآلام من أجل عقيدته. . .

وسافر ملتن بعد ذلك إلى البندقية ومنها أرسل إلى وطنه ما اشترى من كتب ومخطوطات وكان بينها صندوقان لكتب الموسيقى، ومن البندقية اتجه إلى جنيف ليعود منها إلى موطنه، وكان يجب أن تطول رحلته أكثر من هذا، ولكن ما ترامى إليه من أنباء وطنه جعله يؤثر العودة، عبر عن ذلك في قوله (رأيت أن ما يلحق بي الشين أن أرتحل طلباً للمتعة في الخارج بينما يعاني بنو وطني الآلام من أجل الحرية في بلادي).

هذه هي رحلة ملتن إلى إيطاليا ولسنا نجد لما شهده من المدن والآثار صوراً في شعره اللهم إلا ما وصف به روما في الفردوس المستعاد، وهي صورة ليست بذات أهمية كان يستطيع مثلها لو لم يسافر؛ كذلك لم يظهر ملتن أثر لاستمتاع بلهو الحياة، بل إنه أشهد الله وهو في جنيف في طريقه إلى موطنه أنه لم يأت شيئا في رحلته تخجل منه الفضيلة.

(يتبع)

الخفيف

ص: 33

‌نظرات في أدب المتأخرين

للأستاذ عباس حسن خضر

الأدب والحرفة:

منذ احتاج الأديب إلى استكمال عدته من الدراسة والثقافة اضطر إلى استدبار وجوه المكاسب، ونحي عنه الصوارف، وراح يمتص رحيق الآداب ليخرجه للناس أدباً مصفى. واتخذ كثير من الأدباء بعض آدابهم بضاعة نافقة في سوق المدائح، فطافوا بها على القصور، وانتجعوا الغنى؛ وقد جعل ابن الرومي مكافأة الأديب حقا لازماً إذ قال:

إن امرأ رفض المكاسب واغتدى

يتعلم الآداب حتى أحكما

فكسا وحلى كل أروع ماجد

من حر ما حاك القريض ونظمَّا

ثقةً برعى الأكرمين حقوقه

لأحقُّ ملتمس بألا يحرما

فاجتمع لأولئك المال وإحكام الآداب، على أننا لم نعد من عزف عن ذلك المورد، وعكف على منهل الأدب، ينهل منه ويعل، ويفيض على خاطره، فيرسله غزلاً وتشبيباً أو حكمة وفلسفة.

وكثيرا ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت (حرفة الأدب) مجلبة للبؤسى وشؤماً على من أدركته، قال يعقوب الخزيمي:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به

إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

وقرنها شاعر آخر بإجادة الخط، فشكا من اصطلاحهما عليه:

لما أجدت حروف الخط حرفني

عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب

أقوت منازل مالي حينُ وطِّنها

مخيِّما سفطٌ الأقلام والكتب

ولقد وصل ما جرته حرفة الأدب إلى قصر الخليفة الشاعر ابن المعتز حين قتله المقتدر، وزعم أنه مات حتف أنفه، فقال علي بن محمد ابن بسام:

لله درك من ميْت بمضيعة

ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فينقصه

وإنما أدركته حرفة الأدب

قال مؤرخو الأدب: ولما ولي الأمور أولياء من الأعاجم لا يقيمون للشعر وزناً أهملوا الشعراء، فنصرف هؤلاء إلى الحرف والصناعات، فكان منهم الجزار والحمامي والقصار،

ص: 34

وكثر قولهم في الأشياء التافهة كالسبحة والمخدة والمروحة؛ وعدوا ذلك نزولاً بالأدب عن درجاته وحطاً له في دركاته، وقد رأيت أن هذا ليس صحيحا كله، ولئن صح أن الشعر فقد شيئاً ببعده عن ظل الممدوحين الوارف - لقد كسب به أشياء، أولها أن هؤلاء الشعراء - وقد عدموا الممدوحين المغدقين من الملوك والأمراء - وجدوا بديلاً أجل منهم وأعود عليهم باللذة الروحية، وهو سيد الخلق، فهشت له نفوسهم، وجعلوا ينشدون المدائح النبوية، وازدهر هذا الفن في قصائد لا تتأخر قيد أنملة عن قصائد الفحول من المتقدمين، وحسبك بردة البوصيري التي أولها:

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم

وقد كان من الشعراء ذوي الصناعات المعيشية من أجاد وأفتن في القول كأبي الحسين الجزار؛ وإلى جانب إجادتهم في أغراض الشعر المختلفة برزت صناعاتهم في أشعارهم، واستخدموا مصطلحاتها في معانيهم، فأحسنوا وظرفوا، قال الجزار:

لا تلمني مولاي في سوء فعلي

عندما قد رأيتني قصابا

كيف لا أرتضي الجزارة ما عش

ت قديماً وأترك الآدابا؟

وبها صارت الكلاب تُرِّجي

ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكتب إليه النصير الحمامي:

ومذ لزمت الحمام صرت به

خلا يداري من لا يداريه

أعرف حر الأسى وبارده

وآخذ الماء من مجاريه

فكتب إليه الجزار:

حسن التأني مما يعين على

رزق الفتى والعقول تختلف

والعبد قد صار في جزارته

يعرف من أين تؤكل الكتف

على أنه لا يقدم الأدب ولا يؤخره - من حيث القيمة الذاتية - أن يكون الأدباء من ذوي الحرف أو من أهل الرياسات

وصف الأشياء التافهة:

رأيت مما عابه مؤرخو الأدب على الشعراء المتأخرين وصفهم للأشياء التافهة. ولست أدري كيف يعد هذا تخلفاً في مضمار الشعر؟! كأن مقياس الإجادة في الوصف عندهم أن

ص: 35

يكون الموصوف جليلاً، فمن يصف الفيل مثلا أشعر ممن يصف العصفور، لمجرد أن العصفور صغير والفيل كبير؛ وواصف جبال (الهملايا) - على هذا القياس - أشعر شعراء العالم ولا جدال. . .!

والهبل لأم عنترة القائل:

وخلا الذباب بها فليس ببارح

غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراعه

قدح المكب على الزناد الأجذم

لأنه يصف الذباب فيشبهه في مرحه بالشارب المترنم، ويمثله وهو يحك ذراعه بذراعه بمقطوع اليد مكباً على الزناد ليقدحه، وما الذباب؟ وما الأجذم المكب؟ أوَ ليسا تافهين حقيرين؟! وما إعجاب النقاد ومنهم الجاحظ بهذا التصوير؟!

ويا ويح امرئ القيس! ألم يجد غير قلوب الطير المتناثرة، والحشف البالي، فيبني لها بيتاً فخماً كهذا:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً

لدي وكره العناب والحشف البالي

والعجب العجاب أن يكون العائبون مؤرخي الأدب المحدثين وهم يعلمون أن كل شيء يصلح موضوعا للأدب ما دام موضع حس الأديب وانفعال نفسه، ولا يهم بعد ذلك أن يكون هذا الشيء جبلا أو نملة. ثم لننظر ما قال شعراؤنا المتأخرون في أشيائهم التافهة، قال شهاب الدين الحلبي في سبحة:

وسبحة مسودة لونها

يحكي سواد القلب والناظر

كأنني عند اشتغالي بها

أعد أيامك يا هاجري

وقال محمد بن سور بن إسرائيل في مروحة:

ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد

وفي القر تجفوها أكف الحبائب

إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا

أتت بالهوا الممدود من كل جانب

وقال ابن نباتة في دواة فولاذ:

دواة لها جنس الحديد وبأسه

وزادت عليه في الندى فهي أبهر

وكمل معناها يراعك منشئاً

ففولاذها في الحالتين مجوهر

على أنك ترى هؤلاء الشعراء لم يتصدوا لوصف هذه الأشياء باستقصاء أجزائها وصفاً

ص: 36

مقصوداً لذاته، وإنما استثاروا بها خواطرهم فأتت بهذه المعاني الشعرية الجميلة، فجاء قولهم متحركا نابضا بالحياة، لا عيب فيه إلا أنه ليس مقولا في رضوى وثهلان!

البديع:

يكاد ينعقد الإجماع على استهجان ما امتلأ به أدب المتأخرين من ألوان البديع، فهم يأخذونه جملة واحدة بأن العناية مبذولة فيه إلى الزخارف البديعة والتحسينات اللفظية، مرتبين على ذلك انتقاصه وتهجينه وتنفير المتعلمين منه، ولعلهم يبتغون من وراء ذلك صرف الناشئين عن التكلف إلى الاسترسال. ولكني أقرر أولاً أن ثمة فرقاً بين الصنعة والتكلف، فالصنعة لابد منها في كل عمل فني يقترب من الكمال، يزاولها الفنان فتكون من تمام جمال الفن. ولقد كان زهير يأخذ شعره بالصنعة إذا كان يعاود حولياته بالتنقيح والتثقيف، وتعاقب بعده شعراء تناولوا أشعارهم بالتصنيع والتحسين كالحيطئة وبشار، حتى كان مسلم ابن الوليد وأبو تمام وابن المعتز فالتفتوا إلى المحسنات اللفظية والمعنوية وحسن موقعها في الكلام، فاتخذوها في صناعتهم الشعرية قصداً، وكثيراً ما كانت تواتي أسلافهم عفواً ومن فيض الخاطر، وازدانت بها آيات الكتاب وأحاديث الرسول. أما شعراؤنا المتأخرون فقد زادوا فيها وأكثروا منها حتى صارت ركناً من أركان الأدب، وأصبحت غرض كل أديب، وقد ترامى بها الحال حتى جاوزت الألفاظ إلى الأشخاص في البيتين الظريفين الآتيين:

وقالوا يا قبيح الوجه تهوى

مليحاً دونه السمر الرشاق

فقلت: وهل أنا إلا أديب

فكيف يفوتني هذا الطباق!

ولا ينبغي أن يغض المتكلف المرذول من قدر البديع المحكم الصنع، وما البديع إلا مادة زينة كالذهب والأزهار، يختلف المزيَّن بها باختلاف الصياغة والتنسيق، وهنا الحد بين الصنعة والتكلف.

وكيف تحمل على التخلي عن الصنعة في الآثار الأدبية؟ أليس اختيار الألفاظ وإحكام النسج وترتيب الأفكار والمعاني صناعة؟ ولو تخلينا عنها لما استقام للشعر وزن ولا اطردت له قافية.

ويقولون: إن المتأخرين كانوا يصنِّعون في أدبهم ليعوضوا فقره في المعاني. ولو أنهم حقاً شعروا بشيء من ذلك لعملوا على تلافيه، والشعور بالنقص مبدأ الكمال، كما يقال. ولا

ص: 37

يصح الخلط بين أدب عصر المماليك وبين أدب العصور السابقة، فإن الأول كان حقاً فقيراً في المعاني والأفكار، بل كان فقيراً في الصنعة نفسها، وكان متكلفاً غير مقبول، وما عنه نتحدث.

وبعد فقد قصدت إلى نفض الغبار عن محاسن في أدب المتأخرين عدت عليه مساوئ، ولعلي بهذا قضيت بعض حق الزمني من التمتع بقراءة بعض هذا الأدب زمناً لقيت فيه العنت من نبش قبور المخطوطات بدار الكتب المصرية، وإلى القائمين على إحياء الآثار الأدبية يساق الحديث.

عباس حسان خضر

ص: 38

‌كتب قرأتها:

في غربال ميخائيل نعيمة

للأستاذ حبيب الزحلاوي

كتاب يساير الجيل بعد الجيل، يمضي قدماً مع الفكر في تطوره، والعقل في تدبره، والقلب في يقظته. تقرأ فيه صور التوثب في شبابك، وسورة الترصّن في كهولتك، وآية التوطد والاستقرار في شيخوختك. تلمح فيه الدقيق من رسوم الحياة مجسمة في سطور تعبر كل كلمة وجملة وعبارة فيها عن معنى جديد من معاني الحياة دائمة التجدد. إنما هو كتاب خالد، قد يصلح على كر السنين، لزمنك، ولمن يأتي بعد زمنك

هذا الكتاب هو (الغربال) ومؤلفه هو الأستاذ ميخائيل نعيمة. . .

من خلائق مؤلف كتاب (الغربال) صفاء في الذهن، كما يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، واستقامة في النقد، وغيرة على الإصلاح، وفهم لوظيفة الأدب، وقبس من فلسفة، ولذعة من التهكم).

لم يغال الأستاذ العقاد في وصف مزايا المؤلف الأدبية، ولم يفتعل له من الخلائق ما ليس فيه.

إن نظرة فاحصة تلقى على فصول الكتاب تكفي لإقامة البرهان وإنهاض الدليل، على أن الأستاذ العقاد لم يداهن مؤلف (الغربال) ولم يرائه كما يرائي ويمالق أكثر أدباء هذا العصر خصوصاً من يدعون أنهم من النقاد المتجردين عن الأهواء والأغراض. كما أنها تشير بوضوح إلى اتجاهات المؤلف وإلى الهدف الذي صوب إليه سهمه والغاية التي رمى إليها وأنه كان لا محيص البتة لصاحب نفس كبيرة مثله، يعرف الحب والتمرد، والحرية، عن صرخة مدوية يصرخها في وقت كثر فيه لغط الرجعيين المتحجرين من الكتّاب المحافظين في مستهل هذا القرن واشتد نقيق الضفادع، أعني الكتاب الذين أخذوا يهرفون بالتجديد العصري، والحديث المبتكر.

صدر كتاب (الغربال) إثر صدور (الديوان) لمؤلفيه الأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، وانفجرت فوهة بركان (الديوان) تقذف الحمم عقب صدور (منهل الوارد في علم الانتقاد) لمؤلفه المرحوم قسطاكي بك الحمص، لذلك رأيت أن أقول كلمة

ص: 39

عابرة في الكتابين الأخيرين توصلا إلى تعريف الكتاب الأول، ولأقرر أيضا أن فن النقد الأدبي سلك إلينا المسلك الطبيعي في تدرجه وتطوره.

لم يكن الأدب العربي يعرف أن للنقد قواعد بأصول تعرف به مزايا هذا الفن ومدارسه وأساليبه وتقسيماته. وقد عرفنا نحن أبناء هذا الجيل أن المرحوم قسطاكي الحمصي نقل لنا ما كتبه جهابذة فن النقد عند الفرنسيين أمثال سنت بوف، ورينان، وتين، وفرديناند برونتير، وأميل فاجيه، وأدلف بريسون، وجول لوميتر. فكان رحمه الله مشعل المصباح الأول في جادّة هذا الفن في مستهل القرن العشرين أي في عام 1907.

أما كتاب الديوان فقد كان معولاً في قبضة رجلين قويين اهويا به على ثلاثة من (أصنام الأدب) كنا نحسبهم آلهة في ثياب شعراء وقد حدث ذلك في عام 1921.

أما كتاب (الغربال) فقد صدر في عام 1923 يحمل في طياته جواهر القواعد التي نقلها قسطاكي الحمصي عن الفرنسيين، ولباب فنون النقد التي أخذها هو عن كبار النقاد من الروس والأمريكان والإنجليز، ولم يتحرج من انتزاع المعول من قبضتي العقاد والمازني وهزّه في وجوه شعراء وكتاب، فأرعبتهم هزة المعول تلك أكثر مما أوجعتهم ضربات العقاد والمازني، ثم أخذ يعرفنا بالكاتب والشاعر والناقد، يوضح لنا معالمهم، ويعدد خصائصهم، ويشرح مزاياهم، فقال في الكاتب:

(. . . إنما الكاتب قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، فحيث لا شعور فلا فكر، وحيث لا فكر فلا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب.

(الشعر والفكر والبيان، ثلاثة لا يكون رجل كاتباً إلا إذا توفرت له أكثر من توفرها لسواد إخوانه في البشرية، ولولا تفاوت الناس بعمق الشعور واتساعه، وحدّة الفكر واندفاعه، وجمال البيان وجلائه، لكان من عرف القراءة والكتابة كاتبا. . .

(على سطح هذه الأرض قلوب عديدة، غير أن أكثرها تتدفق الحياة من حوله ومن فوقه، فتنحدر عنه انحدار الموجة عن الصخرة. إن أمثال هذه القلوب لا تخبر، وإن خبرت، فعن تخمة في البطن، أو تكمش، أو عن وجع في الرأس.

(وعلى الأرض عقول كثيرة، وأكثرها تتناوله الأشياء ولا يتناولها، وتغربله ولايغربلها، فأمثال هذه العقول لا تفكر بل تدور مع الليل والنهار، بقوة العادة والاستمرار.

ص: 40

(وعلى الأرض قناطير من الأقلام، ولكن منها ما يقول له العقل والقلب اكتب (نعم) فيكتب (لا) إن مثل هذا القلم لا يسطر، وإن سطر فحروفاً سوداء على أوراق بيضاء لا علاقة لها بين عقل الكاتب وقلبه.

(ومن نكد البشرية - وقد يكون من حسن حظها - أن أمثال ما ذكرت من العقول والقلوب والأقلام، هي القاعدة السائدة فيها، وما أختلف عنها فشذوذ، وكل شاذ نادر، لذلك ندر وجود الكتاب والشعراء وأبناء الفن.

(للناقدين ولع بتحديد مراتب الكتاب والشعراء، والمقابلة بين الواحد والآخر، وتفضيل هذا على ذاك، أو ذاك على ذلك، وقد يكون في مقابلتهم وتفاضيلهم نفع لهم ولقارئيهم، أما أنا فإن عثرت على كاتب له قلب يخبر، وعقل يفكر، وقلم يسطر، شكرت ربي ألف مرة ومرة، وتركت للقارئ المقارنة بينه وبين سواه، ومحاسبته الخطأ والصواب، والحلال والحرام، والنفع والضرر، فتقديرك الكاتب منوط بما تقرأ من نفسك وعنها، في سطوره وبين سطوره، لا بما يقرؤه سواك، فرب كتاب أطالعه فألفيه ترديد أصداء بعيدة، هي أصداء أفكار وعواطف خبرتها ونبذتها من زمان، ويطالعه سواي فيرى في كل سطر من سطوره فكراً جديداً وعاطفة جميلة والعكس بالعكس.

(لذلك لست أرى جزيل نفع في المقارنة بين الكتاب والشعراء، ومتى أنست من كاتب قلباً يحس، وفكراً يقابل ويستنتج، وقلماً يصور بإخلاص، قست إذ ذاك مقدرته الكتابية، لا بعدد ما ضمن سطوره من (الحقائق الراهنات) و (المعجزات البينات) وغريب المفردات، بل ما يثيره فيّ من العواطف والأفكار، وبما يوجه إليه بصري من ظواهر الأمور وبواطنها حتى إني لأوثر كاتباً يخالفني في كل رأي أراه، على كاتب ينطق بأفكاري وعواطفي، فقد يروقني من الثاني جلاء في الإفصاح ليس لي، وتلك منّة صغيرة، ولكن منة الأول عليّ أكبر وأوفر، لأنه يكشف لعيني عوالم كانت خفية عنها، ويفسح لفكري وعاطفتي مجالاً ما كان لهما، فيدفعني بذلك إلى تصفية حسابي مع نفسي، وإلى تقويم بضاعتي الروحية، ولولا ذاك لما عرفت أني من أبناء هذه الحياة. . .)

في الناس من يعتقد أن لا فائدة ألبته للنقد الأدبي مادامت أقيسته قائمة على الذوق الذاتي، وفيهم من يقول إن في مكنة كل كاتب التصدي للنقد، فيتجنى إذا طاب له التجني، ويتعسف

ص: 41

إذا حفزته نزوة إلى العسف، وإنه في الواقع لا يجني من النقد سوى عداوة الناس، وخصومة الأصدقاء. فإلى هؤلاء وأضاربهم أقول: ما أكثر ما يقال في الناقد من حق ومن باطل، وما أحوج الناقد إلى الجرأة والصبر على مخالفة الناس، لا لأنه أعرف ببواعث نفسه على النقد من سواه، وأبصر من تسديد سهامه إلى أهدافها، وأكثر نخوة على الحياة الأدبية من كل الناس، بل لأنه غيور على الأدب مخلص للحياة الأدبية، بيد أن مؤلف (الغربال) يقول. . .:

(. . . إن مهنة الناقد الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. . . وظيفة الناقد حك فكره بفكر المؤلف، واستجهار عاطفته، وتنقية قمحه عن زوانه واحساكه.

(البقية في العدد القادم)

حبيب الزحلاوي

ص: 42

‌بناة العلم في الحجاز الحديث:

السيد أحمد الفيض آبادي

للأستاذ عبد القدوس الأنصاري

(فصل مستل من الجزء الأول من سلسلة (بناة العلم في الحجاز الحديث). وهو الكتاب الذي يمثل مبادئ اليقظة العلمية الحديثة لمهد العروبة والإسلام، في العصر الحديث، بأسلوب يجمع بين متعة الفن القصصي وعمق البحث العلمي، لمؤلفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب مجلة (المنهل) بمكة ورئيس تحريرها. والكتاب تحت الطبع.

عهد جديد:

كان الفتى قد بلغ الخامسة عشرة من عمره. وكانت الأحلام المعسولة تتراقص أمامه كما تتراقص مياه الغدير الصافي للظمآن في الفيافي الجرداء. وكانت الحياة في نظره رؤى وأحلاماً فيها الكثير من الغموض والإظلام. وقد كسبته الحوادث والأحداث الجسام التي مرت عليه قطعانها وهو ناعم الأظفار، مرونة محدودة ودقة نظر غير بعيدة الأهداف في الحياة والأحياء. . . وكان الفتى خجولا منطويا على نفسه محباً للعزلة أنى وجد إليها سبيلاً.

وكان لا يبتسم لشيء بقدر ما يبتسم للدرس والكتاب، وما يستتبعانه من حفظ ومطالعة وتكرار.

وكأن انطوائيته فتحت له آفاق الدأب على تحصيل ما يرسم له من علوم. فكانت متعته وهجيراه أن يتخيل نفسه وقد بز الأقران، وصار علماً في العلم والأدب العربي يشار إليه بالبنان.

وكانت لديه مع ذلك نفس مكبوتة نزاعة إلى الإلمام بهذه الفنون العصرية التي بدأت تستهويه نغماتها القادمة من آفاق مصر والشام؛ كما استهوت نغمات (سلامة) ابن أبي عمار المشهور بالقس لعبادته وتقواه. ولكنه في حالته الراهنة، وهو الطالب بالمسجد النبوي، لا يكاد يشعر بوجود أية فجوة ينسل من خلالها إلى ذلك الروض الذي يتخيله أنيقاً كل الأناقة، والذي يحن إلى الاستظلال بافيائه كل الحنين.

ص: 43

وفيما هو كذلك وإذا به في أمسية من أماسي الربيع الساجية أمام شخصية بعيدة الصيت هي شخصية السيد أحمد الفيض آبادي التي اشتهرت بالنبل وسمو الأخلاق، وقد تسربت إلى الفتى إشاعات بأن هذه الشخصية مزمعة أن تفتتح معهداً لتعليم الناشئة ما يصلح مستقبلهم في معاشهم وفي معادهم. فيتقدم بالفتى أستاذه ومربيه إلى هذه الشخصية، ويجري بينهما حوار لا يتذكر الفتى الآن أكان قصيراً أم طويلاً، ولكنه يتذكر على كل حال أنه كان حواراً ممتعاً رصعت حواشيه بالبسمات وحسن التفاهم، وتبودلت خلاله عبارات المجاملة والتقدير. وكان الفتى طيلة جلوسه بين يدي الشيخين المتحاورين يحدق النظر ملء عينيه وبقلبه أيضا إلى هذا الرجل الذي بدأ يستشعر له الحب والتقدير برغم بساطة مظهره وتواضعه. وسرعان ما علم الفتى من أستاذه عقب افتراق الرجلين أنهما - في تلك الجلسة الرزينة الهادئة - قد وضعا تصميم الاتفاق على دخول أستاذ الفتى في المدرسة الجديدة الناشئة رئيساً للمدرسين بها، كما علم أنه قد فتح له باب عهد جديد بما تقرر من أن سيكون ضمن طلاب هذا المعهد في عهده الأول.

ومن الحق أن نقول: إن قلب الفتى قد امتلأ غبطة بهذا النبأ السار الذي يحمل في طياته تحولاً جديداً في مجرى حياته بما سيفتح له من أجواء معرفة أوسع مدى من المعرفة التي هو بسبيلها.

وبقدر اغتباط الفتى بهذه الناحية كان اغتباطه أيضا لما أدركه - عقب دخوله المدرسة - من أن المدير قد قرر صرف مكافآت شهرية للطالبين بقدر جدهم وتفوقهم. . . ولم لا يغتبط الفتى بهذه الإعانة التي ستمهد له قسطاً وافراً من حياة الاستقلال الذاتي، وتساعده على التفرغ لتحصيل العلم؟. . . فهو وإن يك مكفي الشؤون لدى مربيه الذي هو خاله وابن عمه وأستاذه، إلا أنه مع ذلك كان يشعر من زمن الطفولة الغضة أنه يتيم، ومن دأب اليتيم أن يشعر بأنه في حاجة رتيبة إلى المعونة المادية الوافرة ضماناً لتحسين حاله في المستقبل الغامض المجهول.

وقد ازداد جهد الفتى وتضاعف إقباله على التحصيل، وواصل ليله بنهاره، ولم يرض مطلقاً إبان دراسته إلا أن يكون الأول في كل الاختبارات، وآثر النصب على الراحة، وأعرض بالكلية - وما كان من قبل مقبلاً - عن ألوان اللهو والمتع التي كانت تستهوي

ص: 44

أقرانه الآخرين.

وكان الفتى مغتبطاً بهذا العهد الجديد أيما اغتباط، وقد شعر المدير بما يحمله قلبه من حرص واجتهاد، فما قصر في إغداق المساعدات عليه، وحباه بمختلف الرفد والمعونة، وصار يعهد إليه، فوق ذلك، ببعض المهام زيادة في تنشيطه ورفعاً لمستواه الفكري في ميدان الأعمال الإدارية والاجتماعية.

وقد ظل على ذلك المنوال حتى إذا أكمل مقررات الدراسة العالية دخل فحصاً طويلاً مرهقاً، ويخرج منه وقد نال أرقام الدرجة الأولى في أغلب العلوم والفنون، وبذلك أخذ الشهادة العالية في طليعة من أخذها.

وكم كان اغتباط المدير بنجاح الفتى ونجاح زميله معه، هذا النجاح الباهر المرموق، وكان الفتيان الزميلان يمثلان وحدهما (الفوج الأول) من متخرجي هذا المعهد. . . وفي أيام الاختبار الذي تخرج منه الفتى لوّح المدير له بأنه سيعينه عقب نجاحه مدرساً معيداً بالمدرسة غير أن ضرورات اجتماعية دعت الفتى إلى أن يقبل وظيفة كتابية بديوان إمارة المدينة المنورة، وقد أحس يومئذ بشيء من وخز الضمير تجاه مديره الذي طالما عطف عليه فذهب إلى داره مبكراً ليقدم إليه جميل العذر، فالعذر مقبول عند كرام الناس، وانه ليصافحه إذ يسأله في تأثر:

- أحق أنك وظفت في الديوان؟!. . .

- أجل يا مولاي، ولقد قضت بذلك ضرورات اجتماعية، وسأخدم المعهد الذي له عليّ فضل وافر، وأنا خارج عنه، أكثر مما أخدمه وأنا فيه.

وكانت هذه الجمل التي خرجت من قلب الفتى يتهدج بها صوته في نبرات الصدق والإخلاص والوفاء بلسماً لتأثر المدير الوقور، فهتف قائلا:

- سنرى ما يكون من البر بوعدك الذي اقتطعته على نفسك.

وتلا ذلك صمت أدرك الفتى منه أن المياه قد عادت إلى مجاريها أو كادت، فيستأذن منصرفاً إلى تأملاته في الحياة والأحياء، ماذا كان أمره من قبل وإلى ماذا صار؟ وإلى ماذا سيؤول هذا الأمر؟ ولكنه لم ينس قط لا في تلك اللحظة الدقيقة العابر، ولا فيما تلاها من لحظات وساعات وشهور وسنين، واجب البر بوعده الذي اقتطعه على نفسه يومئذ لتلك

ص: 45

الشخصية النبيلة الممتازة.

عبد القدوس الأنصاري

ص: 46

‌الكتب

ثورة سنة 1919

(للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)

منذ سبع وعشرين سنة زلزلت أرض مصر بثورة انفجر فيها غضبها مما نزل بها، وجاش فيها تيار وطنيتها بعد أن عب عبابه ثم اندفع ذياداً عن كرمتها؛ وقد كان هذا الحادث العظيم من مفاخر مصر التي تبقى على وجه الدهر صفحة مجيدة يزدهي بها كتاب جهادها.

وقد كان كل مصري يود لو ينهض لتأريخ هذه الثورة عالم ثبت يحصي كل ما ذهب فيها من ضحايا وخسائر، ويسجل ما عانته البلاد في سبيلها من مشقات وشدائد، عادل نزيه يتولى درسها وتحليل أحداثها بروح الحق والإنصاف، فلا يستمليه هوى، ولا يلوي به أرب.

وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدور أبناء مصر هذا الزمن الطويل، حتى ظهر في هذه الأيام كتاب قيم في جزأين كبيرين يؤرخ هذه الثورة الشاملة من قلم رجل أجمعت الأمة على صدق وطنيته وسعة إدراكه وعظيم جهده، ذلك هو الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك الذي توفر منذ عشرين سنة على دراسة الحركة القومية من فجر انبعاثها في العصر الحديث، وأخرج في تأريخها تسعة مجلدات غير هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، جعلها سلسلة متصلة الحلقات تؤرخ كل حلقة منها فترة من هذه الحركة أصدق تأريخ وأوفاه، حتى لقد أصبحت هذه المجلدات النفيسة أوثق الأسانيد وأصحها لتاريخ مصر الحديث

قال مؤرخنا الجليل في كتابه الحديث: (إنه عرض وتأريخ لثورة سنة 1919 أعرضها وأؤرخها كما أرخت الثورة العرابية من قبل، فهما ثورتان متعاقبتان في تاريخ مصر الحديث تتشابهان في الأغراض والمقاصد، وإن كانت الثانية تفضل الأولى في النتائج)

ولما كانت هذه الثورة قد شبت عقب الحرب العالمية الأولى، فقد مهد المؤلف بصدر صالح من القول فيما كانت عليه مصر أثناء هذه الحرب من سنة (1914 - 1919) وما أصابها في هذه الفترة من فرض الحماية البريطانية، وإعلان الأحكام العرفية، والرقابة الصحفية، ووقف الجمعية التشريعية، واضطهاد الحركة الوطنية، وتشتيت شمل رجال الحزب الوطني الذين كانوا يقومون وحدهم حينئذ بهذه الحركة، وذلك بالاعتقال والنفي، وعدَّد ما استولت

ص: 47

عليه السلطات الإنجليزية من مؤن ورجال ودواب وما إلى ذلك مما يطول القول فيه. وفي الفصل الثاني استقصى كل الأسباب التي بعثت على الثورة من سياسية واقتصادية واجتماعية، ورجع بها إلى سنين خلت. وبعد أن فصل القول في ذلك تفصيلاً قال: إن تأليف الوفد المصري قد جاء معجلاً لظهور هذه الثورة، ذلك بأن أعضاءه لما لم يذعنوا للإنذار البريطاني الذي يقضي بالا يجعلوا الحماية موضع مفاوضة، وألا يعرقلوا تأليف وزارة تخلف وزارة رشدي باشا ألقي القبض عليهم واعتقلوا (فكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت نار الثورة).

ثم مضى بعد ذلك يتحدث عن هذه الثورة التي شملت البلاد جميعاً مدنها وقراها، وعمت أهلها أفرادها وجماعاتها، وأسند حديثه بإحصاء دقيق لكل ما حاق بالبلاد من الفظائع التي اتخذها الإنجليز لقمعها، وشرح المحاكمات التي قضت بالقتل على المئين ممن اشتركوا فيها. ثم أنشأ يتكلم عن لجنة ملنر وما قوبلت به من إعراض الأمة ومقاطعتها إياها، ثم اضطرارها إلى مفاوضة الوفد المصري الذي كانت تتجاهله ولا تعترف به، وأفاض في القول عن مراحل هذه المفاوضة واستشارة الأمة في المشروع الذي انتهت إليه، ثم ما جرى بعد ذلك فيها إلى أن انتهى أمرها.

وعقد الفصل الأخير للكلام عما أدت إليه هذه الثورة وهل نجحت؟ وفيم كان نجاحها؟ وهو فصل ممتع يمتد بنا نفس القول لو عرضنا لتلخيص ما اشتمل عليه من تحليل عميق واستنباط سديد. ثم ختم الكتاب بوثائق قيمة منها عهود الإنجليز باحترام استقلال مصر ووعودها بالجلاء، وقد بلغت ستين عهداً ووعداً، ومنها معاهدة الآستانة المؤرخة 29 أكتوبر سنة 1888.

هذا عرض موجز ألممنا فيه بأطراف مما جاء في كتاب (ثورة سنة 1919). ولو كان الأمر لنا لأشبعنا القول في كل فصوله القيمة، ولكن صفحات الرسالة الغراء تحول الآن بيننا وبين ما نريد. ولعلنا - بهذه الكلمة الصغيرة - نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا من تنويه وتقدير لمؤرخ العصر الحديث الذي قضى من عمره المبارك ما قضى في خدمة بلاده عملاً وتأليفاً، وكان من أقطاب هذه الثورة، وممن وقع عليهم من المحتلين من قبل شبوبها عنت الجور والإرهاق وظلم السجن والاعتقال. سدد الله خطاه، ووفقه في كل ما يتولاه.

ص: 48

محمود أبو رية

ص: 49

‌القصص

يوميات جينيفييف

للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو

بقلم الدكتور محمد غلاب

1 -

الاسوداد:

20 مايو

لماذا أنا مهتاجة ومحزونة؟ لماذا قلبي مفعم باسوداد بشع كما كانت تقول الأم (ملكة الملائكة) في ذلك الوقت السعيد الذي لم أكن مشغولة فيه إلا بشواغل فتيات الدير، والذي لم أكن فيه متزوجة، ولا. . . ماذا كنت سأكتب؟ إن كل سروري اليوم ينحصر في أني أم. كل سروري اليوم هو عزيزي الذي يبلغ من العمر تسعة عشر شهراً، إنه هو (رينيهي) الصغير.

إن الأم (ملكة الملائكة) كانت قد وضعت هذا الاسم أي (الاسوداد) لتنعت به الأشياء المتوجة الثقيلة المظلمة التي تضغط على القلب دون أن يعرف أحد مم جاءت، ولاماهي، ولكنها كانت أيضا قد ابتدعت برنامجاً لمحاربة هذا الاسوداد وهو أن يعتزل الإنسان الناس ويأوي منفرداً إلى غرفته، وفي يده قلم وورقة بيضاء، وأن ينظر بعناية إلى أعماق نفسه، فبفضل إدمان هذا الامتحان يصل الإنسان دائماً إلى اكتشاف ذلك الاسوداد مختبئاً في زاوية من زوايا قلبه. ومعنى أن جميع الأسباب الغامضة التي عنها ينشأ الحزن ستنتهي بأن تتكشف يوما ما، إذ كلما يلمح الإنسان سببا من هذه الأسباب يقيده في تلك الورقة بقدر ما يتيسر له من إيضاح ونظام، فإذا ما تمت كتابة هذه النقط وجب على ذلك المخزون أن يتأمل فيه جميعها في شيء من التفصيل. ولقد كنا نفعل ذلك كلما ألم بنا الحزن، وكنا نجتهد دائماً في أن نجد الدواء لكل اسوداد، وإلا فقد كنا نوطن النفس على الاحتمال، وكانت هذه العملية دائماً تنجح في إعادة الهدوء والتفاؤل إلى النفوس.

واحر قلباه! إني بقدر ما أخطو في الحياة المستقلة التي يدعونها بالحياة الزوجية ألمح أن هذه الحياة عابثة ومليئة بالضعف والبؤس، وليس لهذا من سبب إلا أنني لم أعد أتمسك

ص: 50

بتلك الالتزامات الحكيمة التي تلقيتها في الدير، ولو أن مثيلاتي من السيدات (الأرستقراطيات) استطعن أن ينقلن تلك النصائح النفيسة إلى حياتهن الاجتماعية والزوجية لخلقن من أنفسهن نساء قويات.

ولكن الوقت لم يضع لم أراد أن يعمل خيراً كما يقول المثل. فلنحاول تجربة دواء الأم (ملكة الملائكة) ولأطبقه على حالتي الخاصة.

أنا (جينيفييف أوليفيه) تلميذة الدير سابقاً، و (الكونتيس دي بواستيل) اليوم والتي تبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً وقد مضى على زواجها ثلاثة أعوام، وهي متمتعة الآن بحب طفل تعبده، وبزوج خبيث وفاتن تعبده أيضا مع الأسف الشديد.

هاهي ذي الورقة البيضاء أمامي، وها أنذى امسك بقلمي وأجلس إلى مكتبي

إن الطفل الآن نائم، وإن مربيته الإنجليزية بجانبه، وإن (راءول) زوجي في النادي (في الساعة الثالثة بعد الظهر وفي يوم الأحد. . .! وعلى كل حال فلنصدق ذلك مؤقتاً) ولكن الذي لاشك فيه هو أنه لن يعكر علي صفوي أحد قبل مضي ساعتين، فلنبتدئ:

أنواع الاسوداد التي في نفسي الآن:

(أ) إن هذا اليوم هو يوم الأحد، وهو عندي يوم حزين ولاسيما في الساعات التي تفصل بين الغداء والعشاء، وفوق ذلك فإن الطقس حار جداً، وأنا حينما تشتد الحرارة أحس كأني لا أحيا في الوجود.

(ب) إن بشفة طفلي دملاً صغيراً؛ وعلى العموم إن هذا الطفل يقلقني منذ أسبوع لأنني ألاحظ أنه ممتقع قليلا، ودرجة الحرارة عنده تتخطى الحد الطبيعي، ومربيته تقول: إنه لا ينام نوماً هادئاً.

(جـ) إن (وايت فيرن) لم يفلح في صنع ملابس السفر التي كان يخيطها لي بالرغم من محاولاته المتكررة، وبعد عشر تجارب بعثها اليوم إلي قبل أن أستيقظ من نومي، ولاشك أنه فعل ذلك متعمداً لكي لا أجربها فألاحظ أخطاءها الجديدة وأعيدها مع العامل. وإنني في هذه الملابس مرعبة ومضحكة فعندما ألبسها أظهر كأنني أمثل دور سائق العربة في إحدى روايات (البولفار الهزلية). ولا ريب أن هذا الأمر سخيف لأن رحيلي إلى (تالوار) سيؤجل.

ص: 51

(د) وأخيراً؛ إن الاسوداد الحقيقي الذي يملأ نفسي، والذي هو جدير بأن يعد كنتيجة للتفكير الطويل هو أنني غيورة، وغيورة بصورة مزعجة. ولكنها ليست غيرة غبية حمقاء بلا مبرر إلا التلذذ بعذابي وعذاب زوجي. كلا بل إن لدي أسباباً قوية ومبررات قيمة لهذه الغيرة.

فقبل كل شيء لم يعد (راءول) يحبني، ومع ذلك فلو أني مت لسبَّب له موتي حزناً. غير أني أعتقد أن عاطفته نحوي تقف عند هذا الحد، إذ أن من الواضح أني أضايقه، وأنه يتمنى أن يكون حيث لا أكون (أنا أجرح قلبي بيدي عندما أكتب هذه الكلمات، ولكن الطريقة محددة، وهي أن من أراد أن يكتنه الاسوداد الذي في نفسه، فعليه أن يكون صريحاً ومخلصاً إلى حد القسوة). من فظائع الأمور ألا تروق المرأة زوجها، ولكن ليس هذا كل شيء، فراءول يروقه شيء آخر في الخارج

أوه! أنا لا أدري بالضبط من هي تلك التي سلبتنيه، ولا أدري كذلك إلى أي حد أنتزع مني. . . آه لو كنت أدري! غير أن الذي لاشك فيه هو أنه مستلب الآن مني! إن شكوكي تتردد بين آنسة وسيدة شابة! آنسة؟ هل يمكن أن تدعى واحدة من هذا النوع (بآنسة)؟ تلك الكلمة نفسها التي كانت تطلق علينا ونحن في الدير، تطلق علينا نحن الطاهرات البريئات الحبيبات المحفوظات من كل دنس! أما تلك الفتاة فهي الآنسة (لوس دي جيفيرني)، وهي واحدة من هاتيك الشابات الباريسيات اللواتي أفرطن في الحياة الاجتماعية إلى حد الابتذال، واللواتي نقلن إلينا العادات الأمريكية بعد أن جردنها من الكرامة واحترام الذات، لأن الأمريكيات - وإن بدا عليهن المجون والخلاعةـ يعرفن كيف يدافعن عن أنفسهن عند الإحساس بالخطر! إن الآنسة (لوس دي جيفيرني) تخرج للنزهة في المركبة وحدها، وأحياناً يصادفها بعض الناس في معرض رسام مع شاب يشرح لها اللوحات، ومادامت مركبة والدتها الفخمة تنتظرها على باب المعرض، فهذا يكفيها كشهادة حسن سلوكها. وفي المرقص تختار راقصاً على ذوقها، وبعد الرقص تختلي وإياه في زاوية بعيدة عن أعين النظارة ثم تحتفظ به طول السهرة. وفي حفلة أسرة (أفرزاك) أمس الأول كان زوجي هو الذي وقع عليه الاختيار. . . ومع ذلك فقد كان هذا الزوج دهشاً حينما اعترتني النوبة العصبية في المركبة ونحن عائدان إلى المنزل.

ص: 52

وكما أن الآنسة (دي جيفيرني) توجد كسحابة في أفق حياتي كذلك تلوح من خلال هذا الأفق سحابة أخرى، وهي (مدام ديلافو) زوجة الرسام، وهي سمانة صغيرة، شقراء بيضاء مشربة بحمرة كأنها وردة. إنها لجميلة، بل تخطت حد الجمال

لماذا نستقبل في طبقتنا أشخاصاً ليسوا منا في شيء كديلافو وزوجته وأمثالهما الذين كانوا قبل أن نرفعهم إلى صفنا يتناولون طعامهم في حوانيت الجبن والزبدة، ويرقصون في المراقص العامة، ويعملون كصناع في معارض الرسامين. من أين جاء هذا الرجل بزوجته هذه؟ يخيل إلي أنه طالما اتخذها نموذجاً لصوره زمناً طويلاً قبل أن يتزوج بها، وأن حياتهما معاً سبقت عهد زواجهما بوقت غير قصير. غير أنهما قد استُقبلا في عالمنا الأرستقراطي، لأن الزوج موهوب وحاضر النكتة، وقد أصبح ثريا، ولأن زوجته جميلة إلى حد أنها تستطيع - بلمسة أو بإيماءة - أن تسحر الرجال فتحولهم إلى حيوانات. إنها أغرت زوجي وليس هذا بغريب، فكل النساء يحاولن إغراءه. أيها الإله! لقد كنت أتمنى أن يكون زوجي أقل فتنة منه الآن، ولو كان كذلك لكان حبي إياه مساوياً لحبي الحاضر، ولكانت محاولة سلبه مني أقل مما أعانيه الآن.

ظلت إذاً مادام لافو نحو خمسة عشر يوما تحاول إغراء زوجي كما تفعل معه النساء الأخريات، وقد كان (راءول) أثناء هذه الأيام يظهر عليه الافتتان والسرور، ولكنهما لم يلبثا أن غيرا خطتهما فلم يعودا يتحدثان معاً كأن القطيعة قد تمت بينهما؛ أما أنا فحين رأيت هذه القطيعة الظاهرية كنت أشبه شيء بالحيوان غباوة وبلادة، وأخذت أحس بالسرور وأقول في نفسي: أية سعادة! إنهما لم يتحابا قط، وإنني كنت مخدوعة في هذه الريبة.

غير أن والدتي التي كانت دائماً بعيدة النظر وكانت هي التي تنبئني قبل كل إنسان بما يفعل راءول معي من شر، وتفهمني متى ينبغي أن أغضب، قالت لي: احترسي، إنهما لم يعودا يتضاحكان أمام الناس كما كانا يفعلان قبل الآن، ومعنى هذا أنهما يستعيضان عن ذلك في مكان آخر فراقبي زوجك.

وعلى أثر هذه النصيحة ألقيت على والدتي هذا السؤال:

- إذا فليس هذا الإغراء متجهاً إلى الآنسة جيفيرني. . .؟

- واحترسي أيضا من جيفيرني.

ص: 53

ونتيجة هذا كله أنني أتألم ألماً مزعجاً!

هذه هي مجموعة الاسوداد التي تحتل نفسي، وإنني لا ألمح غيرها، فلأمر يتعلق الآن بمناقشة هذه النقط وبمحوها إذا كان ذلك مستطاعاً. وسوف لا أقف طويلا عند النقطة الأولى، فيوم الأحد وحرارة الطقس، هاتان ظاهرتان يمكن إسنادهما إلى القدر، والتخلص منهما سهل، فأما الحرارة فإني أستطيع أن أتقيها بالأمر بإغلاق النوافذ المعرضة للشمس، وأما بقية نهار الأحد فإني أستطيع أن أقضيها في الكنيسة بالاستمتاع إلى الأناشيد الدينية، وفي هذا خير شاغل للوقت ومنسٍ للضجر.

أما النقطة الثانية أو الاسوداد الثاني وهو توعك الطفل فإن الدكتور (أرنو) أعلن أنه لا يوجد لديه ما يخيف، ومع ذلك فلما كان وباء الجدري منتشراً في المدينة فقد اعتزمت أن أكتب إلى الدكتور. . . (روبان) الذي لي فيه كبير الثقة لأرجوه أن يجيء غداً لفحصه.

أما الاسوداد الثالث - وهو الملابس التي فسدت - فسأتخلص منها بردها إلى (وايت فيرن) وسأنبئه بأنني لن أحتفظ بها، وإنني مستعدة لقبول الشروع في غيرها، وفي مدة خمسة أيام ستكون أخرى قد أعدت، وبناء على ذلك فلن يتأخر سفري إلى تالوار مطلقاً. وبعد هذا كله لم يبق إلا الاسوداد الأساسي، وهو زوجي أو (راءولي) الخبيث.

أيتها الأم الخيرة (ملكة الملائكة) ألهميني في هذا الموقف أن أكون زوجة متعقلة ومتدينة. أنت تفهمين تماما أنني لا أستطيع أن أقبل بسرور أن أكون مهجورة من أجل امرأة كمدام ديلافو أو فتاة كالآنسة (جيفيرني) ولاسيما أني لا أجد في نفسي ما أستحق عليه التأنيب، إذ أنني أحب (راءول) ولا أفكر إلا فيه، وفوق ذلك فأنا لست دميمة، بل إني أؤكد لك أيتها الأم أن كثيراً من الشبان قد حاولوا إغرائي منذ اندمجت في المجتمع فلم يفلح واحد منهم في ذلك مطلقاً، فهل من العدالة أنه بقدر ما يحس أنني ملكة يمعن في ألا يكترث بي؟. وهل ينبغي إذاً ألا أشعره بحناني نحوه، وأن ألهب غيرته على نحو ما هو مألوف في المهازل التمثيلية؟ كم هذا يقززني! كلا، كلا. أنا لن أقف نفسي - ولو في الظاهر - موقف المرأة الساقطة، لكي أجتذب حب زوجي. غاية ما في الأمر أنا أعتقد أن من الحكمة أن أراقب قلبي وأن أفهم (راءول) حزني، ولكن لا بواسطة الدموع، بل عن طريق السكوت وتجنب مظاهر المودة. ولا ريب أن هذا سيكلفني كثيراً، وسيكون شاقاً على نفسي، ومع ذلك فهو

ص: 54

الذي ينبغي عمله. سأعامل زوجي منذ اليوم بفتور وبخضوع فحسب. والآن، ماذا أستطيع أن أعمل ضد عدوتي اللدودتين: الآنسة (دي جيفيرني) و (مدام ديلافو)؟. أنا لا أريد أن أمثل معهما رواية عامة طبعاً، وفوق ذلك، فإن (راءول) - على الرغم من صلته الشائكة بهاتين المخلوقتين - لا يزال زوجاً مهذباً، لا يؤخذ عليه شيء في كل ما يتصل بي. ولو أنني أردت أن أمثل منظراً عاماً من هذه الرواية لما مكنني من فرصة تمثيله. وإذاً، فلم يبق لي إلا أن أحتمل؛ ولكن كلا، فأنا لا أستطيع ذلك الاحتمال لأني لست بطلة إلى الحد الذي أقبل معه أن يخدعني زوجي. ولست أحسب أن الإله يكلفني ذلك، فإن لي الحق في أمانة زوجي، فإذا لم تتحقق لي هذه الأمانة فإنني أفضل أن أحيا وحيدة مع طفلي العزيز الذي قد يعزيني عما أقاسيه.

ها أنذى قد صممت على أن أعرف الحقيقة، فإذا كانت شديدة القسوة فإنني سأرجو من والدتي أن تصحبني وطفلي إلى ممتلكاتنا في الريف لنعيش معاً هناك، ولكن كيف أعرف هذه الحقيقة؟

لقد تسلمت منذ أيام كتاباً وارداً باسمي ففضضته أمام زوجي ولم أكن أعرف ماذا يحتويه فإذا به آت من مكتب البوليس الخاص يعرض علي أن يراقب زوجي إذا أردت ذلك ليرى أله صلة خفية بإحدى السيدات أم لا؟ وبعد أن قرأت هذه الرسالة ناولت زوجي إياها فألقى عليها نظرة مقززة، ثم دعكها وقذف بها إلى الأرض؛ ولقد كان مخطئا في هذا الغضب، لأني لن الجأ أبداً إلى مثل هذه الطريقة؛ ولكني سأرقبه بنفسي كما يراقب القائد الجندي المتهم بأن نفسه تحدثه بالتفريط في واجبه العسكري. نعم إنه ليس لديه ما يخشاه مني من حيث فض رسائله أو تفتيش أدراج مكتبه، ولكن مادام للمرأة أن تتبع زوجها في أي مكان، ومادام ليس للرجل أن يذهب إلى أي موضع دون أن يصطحب زوجته فليحذر هذه النتيجة، إذ قد يذهب يوما من الأيام ملبياً أحد مواعيده، سعيداً بإحدى تلك المسرات الرديئة التي أقرئها في عينيه أوفي صوته، أو في حركاته، فإذا وصل إلى مكان هذا الموعد ألفاني هناك ووقف أمامي وجهاً لوجه.

هاهي ذي نهاية تفكيري، وهي لم تعزني، ولكنها هدأتني قليلاً، وسأغادر اللحظة مكتبي لأنظر هنيهة من نافذة غرفتي المطلة على الطنف، لأنني أريد أن أتنسم هواء المساء

ص: 55

الرطيب؛ فلقد فكرت طويلاً والآن قد احتجبت الشمس خلف أشجار الكافور التي تنتصب في حديقة المنزل كأنها سور عظيم. وعندما تختفي الشمس من الحديقة يسود جوها هواء فاتر لذيذ. إن الطقس الآن بديع، وإن هذه الحديقة وذلك المنزل من النوادر التي يحسد عليها في وسط باريس. كم لدي من الأسباب الظاهرية ما يجعلني أتذوق الحياة وأسعد بها: أسرة عطوفة، وزوج رشيق، وطفل محبوب، وفوق ذلك كليه فجميع رغباتي محققة. آه! لو أن العينين الزرقاوين والعينين السوداوين لم تكن موجودة لكنت أعبد الحياة!

أنا لست شريرة، ولكن لو أنني كنت أستطيع أن أطفئ نور هذه الأعين الأربع بهدوء دون أن أولم صاحبتيها، ودون أن أحزن الذين يحبونهما، وأقصد طبعاً الذين لهم الحق في حبهما لفعلت!

(يتبع)

محمد غلاب

ص: 56