الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 672
- بتاريخ: 20 - 05 - 1946
آفة الشرق هذا الغرب!
يخيل إلي من هول ما أسمع وأرى أن هذا الغرب قد مسخ حوتاً من حيتان الأساطير له رؤوس أربعة قد فغر أفواهها جميعاً على الساحلين الأفريقي والأسيوي، يريد أن يطبق فكوكها على العالم العربي بأسره، وإنما عوق هذه الحلاقيم عن الازدراد هذا الخلاف الصاخب بين تلك الرؤوس على الاقتسام كيف يكون، وعلى الالتقام متى يبدأ! وإذا تصورت أفواج السمك حين يسوقها التيار إلى شبكة الحوت فتجزع وتضطرب؛ تصورت أمم الشرق الصغيرة وقد روعها هذا الوحش الهائل وهي وادعة في ظلال دينها، قانعة بحلال الرزق من أرضها، فتنظر إليه نظر المقضي عليه، تستنجد بالعهود فلا تنجد، وتستغيث بالمواثيق فلا تغاث، وترى بين منخري الحوت تشرشل جالساً وقد انقلب سيجاره الفخم بين شفتيه مدفعاً ضخما يقذف بالحمم السود على أرض (العلمين) وعلى ظهرها وبفضلها كتب الله له المجد ولشبعه السلامة!
تشرشل هذا الذي وقف ذات يوم على الساحل البريطاني يستقبل الهزيمة الساحقة الماحقة من دنكرك وقلبه واجف ودمعه واكف، يضرع إلى الله أن يثبت قدميه العجوزين المتخاذلتين أمام الإعصار النازي الجارف ليعيد نعمة الحرية إلى الناس، ويقيم ميزان العدالة في الأرض؛ فلما تمت له المعجزة، وقتل هتلر كما قتلت البعوضة النمرود، قام اليوم يدعو أمريكا إلى شركة أخوية بين الناطقين باللغة الإنجليزية تصوب أسهمها المراشة إلى كل دولة تطلب المساواة، وإلى كل أمة تريد التحرر، لأن الذي ورث ملكوت هتلر وسلطانه، يجب أن يرث كذلك عنصريته وطغيانه!
تشرشل هذا الذي كان كلما لكمه هتلر بجمع يده الحديدية لكمة الموت، خر فاقد القوة والوعي كالثور المنزوف، فيدركه المرحوم روزفلت، فيجلسه ويسنده، ويمسح الدم عن وجهه، وينفض التراب عن جسمه، ثم ينضحه بالماء حتى يفيق. فإذا أفاق قام مترنحاً إلى الكنيسة يصلي، أو إلى المذياع يستغيث، أو إلى مجلس العموم يبكي، أو إلى البيت الأبيض يستجدي، أو إلى المحيط الأطلسي يستوحي السماء رسالة العدالة الاجتماعية فتنزل عليه ألواحها المزيفة من سجيل؛ هذا الرجل الذي نجا لأن عمره طويل، وانتصر لأن جهده قليل، يتبجح اليوم بالعصبية والإمبراطورية والدومنيون، ويألم أشد الألم لأن وزارة العمال قررت إجلاء الجنود الإنجليزية عن مصر بعد أربع وستين عاماً جثمت فيها على صدرها
المكروب، فلا تنسم إلا كما ينسم المحتضر، ولا تتحرك إلا كما يتحرك المبهوظ؛ والمستر تشرشل يعلم كما يعلم كل الناس لماذا دخلوها، وكيف احتلوها، وكم سجلت مضابط برلمانهم العتيق وعود أسلافه بالجلاء عن بلد لم يملكوه بالفتح ولا بالإرث ولا بالهبة، وإنما فرضوا لأنفسهم عليه (حق ارتفاق) بالمرور، ثم جعلوا احتلاله واجباً لحماية هذا (الحق)! ثم اختلفت الأسماء على هذا الاحتلال، من الاستعمار المقنع، إلى الحماية السافرة، إلى الاستقلال الصوري، إلى الصداقة الجبرية؛ ولكن المسمى ظل في جميع هذه الحالات واحدا، وهو الوزير الذي يأمر في (دوننج ستريت)، والسفير الذي ينفذ في (قصر الدبارة)، والأسطول الذي يهدد في (مالطة)!!
حتى غيرت هذه الحرب الدنيا، فتغيرت عقول الناس، وتبدلت وسائل النقل، واختلفت أسلحة القتال، وتغلبت مبادئ الاشتراكية، وتأصلت فكرة الحرية، واستحيا بنو آدم أن يظلوا على شريعة الوحوش يحكمون الأظفار والأنياب فيما يشجر بينهم من خلاف؛ فاتخذوا (ميثاقا) للأمم، وألفوا مجلساً للأمن، وأقاموا محكمة للعدل، وطمعوا أن يقيموا العالم الجديد على هذه القواعد؛ ولكن تشرشل وسائر المحافظين لم يكونوا جادين يوم نادوا مع ترومان وستالين بهذه المبادئ، لأنهم مطمئنون إلى براعتهم في مماطلة الموت كلما طلع عليهم بمنجله الرهيب! ومن يدري! لعل الموت الذري في زيارته القادمة لا يقبل من المخادعين بعد ذلك مطلا ولا ختلا ولا فدية!
لقد كان الشعب الإنجليزي بعيد النظر سديد الرأي حين دهور تشرشل وإيدن وأعوانهما عن كراسي الحكم في صبيحة يوم النصر؛ فإن من انتصر بالسيف لا يصالح إلا بالسيف، ومن عشش الاستعمار في رأسه وفرخ في نفسه لا يستطيع أن يؤمن بالديمقراطية والحرية إيماناً يحمله على أن يحبهما في نفسه وفي غيره، ويرجوهما لصديقه ولعدوه!
على أن عذر تشرشل في موقفه من مصر ومن غيرها ناهض؛ فإن الرجل ربيب العسكرية والاستعمار منذ درج؛ ولكنك تكلف العقل شططا إذا حاولت أن تجد بعض العذر لموقف ترومان الرجل الشعبي من فلسطين!! لقد دس أنفه في هذه القضية دساً، لأن المقادير شاءت أن يكون له في قضايا العالم رأي! فهل فغمت أنفه رائحة العدل فيها، أم سطع في خيشومه عبير الذهب الصهيوني وهو يفيد في الانتخابات والدعايات، وينفع في الحروب والملمات؟
وماذا يضر إذا نافس الأمريكان الإنجليز في إرضاء اليهود على حساب العرب ما دام الأمر لا يكلفهم إلا إيفاد (لجنة) تبحث وتحقق، ثم إرسال (حملة) تنفذ وتطبق؟ أما فلسطين فحسبها من العيوب والذنوب أنها شرقية، وأنها عربية، وأنها مسلمة، فلم لا تكون مشاعاً بين أهل الديانات الثلاث، ثم تقطع إقطاعاً ليهود القارات الخمس؟ ولا تسل بعد ذلك عن حرية الشعوب وحرمة الأوطان وقدسية الحقوق، فإن ذلك كلام كان يقرر ويكرر وسيف هتلر مصلت على الأعناق، وكابوس النازية جاثم على الصدور!
واستالين، ما شأنه والوصاية على طرابلس؟ هل كان يظن أن إنجلترا تترك مفتاح (كرارها) في يد القط؟ إنها ترضى إذا حيل بينها وبينها أن تعود إلى إيطاليا، لأن إيطاليا ريح لا تثير الغبار، وحصى لا يعوق السائر! فإذا سألت هؤلاء الذين يحكمون ويقسمون: لماذا تردون المسلوب إلى سالبه، ولا تردونه إلى صاحبه؟ أجابوك جواب المستعمر الخبير: إنا إذا أعدنا طرابلس إلى أهلها خرجت برقة من قبضة بريطانيا، وأفلتت تونس والجزائر ومراكش من ربقة فرنسا. وجعلها في وصاية الجامعة العربية لا يختلف عن استقلالها في الخطر الذي يهدد الجامعة الغربية؛ لأن الشرق ما دام سوقاً للاستعمار ظلت سلعه المباركة موضع المقايضة والمعاوضة! فإذا حررت رقاب العبيد، وأغلقت سوق الرق، انقلب المستعمرون إلى ديارهم خاسرين يقتل بعضهم بعضاً من الخوف، ويأكل بعضهم بعضاً من الجوع! والرد الذي تقتنع به عقلية الغرب، إنما هو مجابهة العدوان بالعدوان، ومواجهة القوة بالقوة. وليست الإشارة هنا إلى العدوان والقوة من القول الجزاف؛ فإن قوتنا الفكرية متى ذهب عنها مركب النقص الذي اعتراها من طول ما ضامها المستبد وسامها الدخيل، استطعنا أن نقول صادقين لأي أمة من أمم الأرض: لقد اجتمع رجالنا برجالكم في مؤتمر الميثاق وفي مجلس الأمن، فهل وجدتم في عباقرة أوربا وجهابذة أمريكا من يفوق عبد الحميد بدوي، أو محمود حسن، أو حافظ عفيفي مثلا، في رسوخ القدم في القانون، وأصالة الرأي في المشورة، ومتانة الحجة في الجدل، ومقطع الصواب في الحكم؟ وأما القوة المادية، فالعدد وفر، والإيمان صدق، والرأي جميع، والعروة وثيقة. فإذا أعوزتنا الوسائل تبرع بها من يترقب هذه الفرصة ليكيد، ويستعجل هذا اليوم ليستفيد!
أحمد حسن الزيات
2 - في مقالين:
حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا
بينت في كلمتي السابقة في العدد 670 من مجلة الرسالة ما ينجم من اقتراح حضرة الأستاذ مدير المجلة الذي تقدم فيه إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف بإلغاء التعليم الابتدائي من جميع المعاهد الدينية، وإلغاء سنتين من مدة التعليم بالمعاهد الثانوية لأزهرية، وإحلال اللغات الأجنبية وعلوم الرياضة والكيمياء والطبيعة محل علوم اللغة العربية، ومحل علوم التفسير والحديث والفقه والتوحيد التي يدرسها الطالب الأزهري في مدة التعليم بالقسم الابتدائي، وفي السنتين المطلوب إلغاؤهما من القسم الثانوي.
وقلت إن هذه السنوات الست المطلوب إسقاطها من زمن تعليم العلوم الدينية والعربية في المعاهد الدينية تعدل نصف المدة التي كانت - إلى زمن بعيد - تؤهل الطالب لنيل شهادة العالمية وألمحت إلى ما يكون لهذا الحل المقترح من أثر سيئ في حياة اللغة العربية: إذ تهن قواها، ويقف نموها، ويضعف نتاجها، ويضؤل محصولها، وتفسد حاسة الذوق اللغوي في أهلها. ذلك إلى ما يستتبعه الاقتراح من تضييع حصص الدين المقررة في ست سنين وإلغاء حفظ القرآن، وفقد حفاظه، فتغلق أبوابه في وجوه المسلمين، ويحجب نوره عن قلوب المؤمنين وتنطمس معالم هدايته فلا ترى للمستهدين، وتستخفي عن الناس حجة الله على العالمين.
ولقد طلبت من الأستاذين الفاضلين أن يعيدا النظر فيما ارتأياه ويراجعا الرأي فيما اقترحاه، لعلهما يجدان لوناً آخر من العلاج يكون فيه للأزهر صلاح ورشد، ونجاة وقصد، فيوافيا القراء به. بيد أن ما طلعت به الرسالة علينا العدد 670 تحت عنوان (إصلاح الأزهر بين دعاته وأباته) جاء ترجيعا لما ارتآه الأستاذ أولا، محاولاً فيه أن يوضح ما ظن أنه أشكل من جوانب رأيه على من سماهم معارضين للاقتراح؛ وأباة للإصلاح، مستعيناً بسحر فنه، يبغي منه أن يرسم له تلك الحقائق الملموسة، والآثار الثابتة المحسوسة، والنتائج البينة
اللازمة للاقتراح، والتي لا يخطئ في إدراكها حدس، ولا ترتاب في وجودها نفس، إلا من يرتاب في وجود الظلام بعد مغيب الشمس - فيصور لك هذه الحقائق ظلا حائلا، وخيالا ماثلا، ووهما باطلا!
فهذه السنوات الست التي يراد اقتطاعها من المدة المقدرة للتعليم في المعاهد الدينية ليست نصف اثنتي عشرة سنة كانت قبل كافية لنيل الطالب المجد شهادة العالمية! وليس لها أثر يذكر في إعداد الطالب وتزويده بزاد نافع من الشريعة ومن علوم اللغة العربية؟ ومن ذا يقول إن الستة نصف الإثني عشر؟!
وكيف يزعم زاعم أن هذا الحل الحاسم الذي ارتضاه الأستاذ العقاد يستلزم إلغاء حفظ القرآن، أو يسلب الطالب الذي يريد أن يلحق بالمعاهد ست سنوات أخرى كان يقضيها في حفظ القرآن استعداداً لقبوله بالمعاهد - كيف؟ وهذا الحل الحاسم يعطي الطالب فرصة واسعة يستطيع أن يحفظ فيها القرآن، وأن يحفظ غير القرآن من المتون التي لا بد من حفظها لتحصيل ما لابد منه من المسائل الدينية واللغوية؟
ألم يأذن له هذا الحل بثلاث سنين كاملة من خمس السنين التي للقسم الذي كان يدعي أمس (القسم الثانوي)؟
أو ليس في هذه السنوات الثلاث وفاء بما يلزم له من الوقت لدراسة مواد الثقافة المقررة على أمثاله في الشعب التوجيهية بمدارس وزارة المعارف حتى يتم للأمة بهذه الدراسة الحصول على حجر الفلاسفة، فتقبض بكلتا يديها على حقيقة الحقائق، ووحدة الوحدات؛ وحدة الثقافة!
أو ليس في هذه السنوات الثلاث بعد متسع لتحصيل الطالب ما تشتد حاجته إليه من علوم اللغة، وقواعد الدين وفروع الشريعة ليصير أهلا للدراسة العالمية في كليات الأزهر، وسيكون أهلا للاجتهاد (حتى لا يظل الأزهر كما هو يملك الكلام، ويجتر الماضي، ويقتات الفتات، ويبطل الاجتهاد، ويعطل العقل، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك!)
ثم إن لم يكن في هذه الثلاث السنين بلاغ إلى الزاد، الذي يوصله إلى مرتبة الاجتهاد! ولم يجد الطالب فيها بديلا من الست السنوات التي سلبها، وكان يحفظ فيها القرآن قبل التحاقه بالأزهر ومعاهده - فهل تظن أن النظام المقترح يكلفه طائلا أو يجشمه أمراً هائلا؛ أو أنه
يعدل به عن قصد السبيل ويسلك به طريقا جائرا، يظل فيه عمره حائرا، يهيم في أودية الظلال، ويخبط بين شعب الخيال، لا يجد دليلا، ولا يهتدي سبيلا؟. . . كلا!
أليس للأزهر الحق في أن يزيد في زمن الدراسة بالقسم الثانوية منه سنة أو سنتين أو ما شاء أن يزيد من سنين يرى في زيادتها فائدة الطالب، ونجاح التعليم، وتقدم العلم طبقا لمقتضيات التطور العلمي والاجتماعي في هذا العصر الجديد.
ثم هو بعد أن بلغ الحلم، وحصف عقله، مستطيع في يسر أن يحفظ القرآن وهو بحال: يحفظ ما يفهم، ويفهم ما يحفظ.
وهل على الأزهر من بأس في أن يقبل هذا الوضع الجديد الذي يمليه منطق الحوادث، وتقتضيه طبيعة الزمن فيضاف إلى رجليه القديمتين اللتين كان يمشي بهما رجلان أخريان من أرجل الثقافة الموجودة بمصانع وزارة المعارف ليساعد التطور، ويجاري الزمن. وبذلك تتحقق للأمة وحدتها المفقودة، وتنتفع بميزة الإسلام: مرونته، ومسايرته للتطور، ومطاولته للزمان، وذلك من مزاياه المعدودة. ثم لماذا يخاف الأزهر من طغيان المواد المدنية على المواد الدينية في الدرس والتحصيل ما دام الوقت متسعا؛ والأستاذ كفئاً؛ والكتاب مهذباً؛ والمنهاج مستقيماً؛ وتوزيع المواد دقيقاً؛ والإدارة حازمة؛ والمراقبة يقظى.
وأقول إن هذا الذي يذكره الأستاذ حق ولكن:
كيف السبيل إلى سعاد ودونها
…
قلل الجبال ودونهن حتوف
والرجل حافية ومالي مركب
…
والكف صفر والطريق مخوف؟
وهل توافرت هذه الشروط السبعة في مدارس وزارة المعارف وهي أقوى في النظام وحسن الإدارة ويقظة المراقبة؟
لا ريب في أن الأستاذ الزيات يرمي بما كتب إلى غرض جليل، يحمله على الدعوة إليه قصد شريف، ووجدان نبيل. فأما الغرض الذي يرمي إليه فهو إصلاح الأزهر ليتحقق بهذا الإصلاح أمران عظيمان: وحدة الأمة بتوحيد الثقافة، وإنشاء جيل من العلماء القادرين على الاجتهاد، لتجد الأمة في علمهم المثقف ما يحمل مشكلاتها الاجتماعية والعائلية، بما في الشريعة من سماح وما في الدين من يسر. فإصلاح الأزهر هو الوسيلة إلى تحقيق هذين الغرضين الجليلين؛ وما اقترحه مدير الرسالة، وآزره عليه الأستاذ العقاد، هو سبيل
الإصلاح المنشود.
1 -
وحدة الثقافة:
يرى الأستاذان الجليلان أن وحدة الثقافة؛ أو وحدة الأمة بتوحيد التعليم - كما جاء في تعبيرهم تتم وتتحقق إذا درست العلوم والآداب في الأزهر على النحو الذي تدرس عليه وبالمقدار الذي تدرس به في المدارس الابتدائية والثانوية التابعة لوزارة المعارف.
فأما وحدة الثقافة فإن الأزهر منذ خمسين سنة - على عهد المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده - قد أفسح صدره لما يسمونه اليوم علوم الثقافة: فأدخل فيه علم الحساب والجبر ومبادئ الهندسة وعلم الجغرافيا، والتاريخ، والميقات، والهيئة؛ وعلى الرغم من أن تعلمها كان على سبيل الاختيار فإن الطلاب قد أقبلوا عليها راغبين حتى كادت تعم جميع الطلبة، ولعل الأستاذ الزيات كان ممن استوفوا حظهم منها، ثم أنشأ المغفور له الخديو عباس الثاني معهد الإسكندرية، واختار شيخا له القاضي العادل والمربي الكبير المغفور له الشيخ محمد شاكر فنهض بالمعهد نهوضا فائقا، وجعل تعلم هذه العلوم إجباريا؛ فازدهر معهد الإسكندرية بهذه العلوم إلى جانب علوم الدين واللغة أيما ازدهار. وتطور نظام التعليم في الأزهر: فمنذ سنة 1911 صار تعلم هذه العلوم واجباً على جميع الطلاب. ثم توجهت عناية الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد طيب الله ثراه، حيث وجه عنايته - أغدق الله عليه سحائب رحمته - إلى تنظيم الأزهر وإصلاحه إصلاحا شاملاً يعم ناحيتيه العلمية والمادية: فبسط يده بالعطاء الجزل، وزيد في ميزانية الأزهر زيادة عظيمة، وأنشأ نظام الكليات وأقسام التخصص، وعدلت مناهج التعليم تعديلا يلائم الوضع الجديد، وزيد فيها دراسة علوم الطبيعة والكيمياء وعلم الحياة وتوسع في مقرر الهندسة، وزيد في مناهج الكليات وأقسام التخصص ما يناسب كلا منها من علوم التربية والفلسفة والتاريخ والاجتماع وأصول القوانين حتى اللغات الأجنبية. وقد كان هذا النظام كفيلا بأن يرقى بالأزهر ويوجد منه علماء أخصائيين لو أنه وجد من يرعاه وينفذه.
ولقد اضطر الأزهر أن يقبل طائعا أو كارها أن يعدل النظام الأساسي للتعليم فيه تعديلا هد من قوته وأوهن من علمه وأضعف من قوة الطالب الأزهري في العلوم الدينية ونقص في حظه منها. فقد كان الطالب الأزهري لا يستحق أن يمنح شهادة العالمية حتى يؤدي امتحانا
في علوم الأصول والفقه والبلاغة والتفسير والحديث والتوحيد والمنطق. . .؛ وحتى يجوز هذا الامتحان مجليا! واليوم تدرس هذه العلوم موزعة مجاميع في شعب ثلاث! قبل الأزهر أن تشعب رأسه إلى ثلاث شعب حرصا على تثقيف طلابه ليظل باب الأمل في الحياة العملية مفتوحا أمامهم - ثم يدهشك أن تسمع ذلك الصوت البغيض ينبعث من أبواق السوء في وزارة المعارف يصك سمع الزمان بكلمة (توحيد تخريج المعلم)(وحدة الثقافة)(الطالب الأزهري تنقصه الثقافة)(الأزهر في حاجة إلى الإصلاح) فماذا يبغون من تلك الصيحة؟ وماذا يخفون في هذا النعير؟
إن كانوا يزعمون أن الغرض هو توحيد الثقافة وصولا إلى وحدة الأمة، فالأمر مشكل. فإنا نجد الوزارة ترعى عدة مدارس في ظلال نظم متعددة، وتدير عدة مجاميع من المدارس مختلفة الغاية منوعة الأساليب، متفاوتة الرتب والإعداد؛ فهناك التعليم الأولي، والألزامي، والتعليم الابتدائي والثانوي والعالي؛ والتعليم الصناعي، والتعليم الزراعي، ومنه التعليم المتوسط والتعليم العالي، والتعليم العالي أنواع كثيرة في كليات الآداب، والحقوق، والطب والهندسة، والزراعة، ومعهد التربية وكلية العلوم.
وإعداد الطالب لنوع من هذه غير إعداده لغيره من سائر الأنواع: فإعداد الطالب في التعليم الأولي والإلزامي غير إعداده في التعليم الابتدائي والثانوي. وثقافة هذا غير ثقافة ذاك؛ وثقافة طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ليست كثقافة طلاب المدارس العالية ولا هي كثقافة طلاب المدارس الثانوية، ومناهج التعليم في كل من هذه الأصناف والأنواع غير مناهج الصنف الآخر منها ضرورة السير بالطالب منذ الخطوة الأولى من عمره التعليمي في الطريق الذي هو مستعد لسلوكه في الحياة وإعداده لما هو مستعد له. وهؤلاء الجماهير من الطلاب الذين هم عناصر الحياة في جسم الأمة هم جمهرة الأمة وأعضاؤها العاملون.
فإذا كانت وحدة الأمة متوقفة على وحدة الثقافة؛ وكانت وحدة الثقافة مستحيلة الوجود مع تعدد هذه النظم وتنوع طريقة الإعداد وتفاوت مراتب الثقافة في هذه المدارس التي تعلم أبناء الأمة وتعدهم للحياة - فمتى وكيف تتحقق وحدة الأمة؟ ولماذا لا يكون اختلاف هذه الجماهير في التنشئة والتثقيف، والتكوين الصناعي، والإعداد للحياة الاجتماعية - مؤثراً
في وحدة الأمة؛ ثم يكون تعليم اللغة والدين في الأزهر (ولو أخذ الطالب حظه من الثقافة) خطراً على حياة الأمة؛ هادماً لوحدتها.
لقد كان معروفا - وأظن أن الناس ما برحوا يعرفون - أن وحدة الأمة تتحقق بثلاثة أشياء: وحدة الجنس، ووحدة اللغة ووحدة الدين، وأظن أن الأزهر قام بحراسة هذه الوحدات الثلاث أو باثنين منها على الأقل مدة ألف سنة، وبذلك تكون الأمة مدينة له بحفظ وحدتها على الرغم مما تداولها من تسلط الأجانب عليها وعملهم على تفكيك عراها بما كان جديراً أن يمزق وحدتها، ويبدد شملها، فاليوم ينعق الدخلاء بأن الأزهر خطر على الأمة مفرق لوحدتها!؟
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
…
وحسن فعل كما يجزي سمار
محمود أحمد الغمراوي
شيخ معهد دسوق والزقازيق سابقا
(الرسالة): يمنعنا من العودة إلى مناقشة الأستاذ الفاضل هذا الأسلوب التهكمي الذي يتراءى التعريض من خلاله وهذا الإلحاح في مسائل تتصل بالزمن والمنهاج بعد أن تركنا ذلك للتطبيق هو من إختصاص الأزهر وحده ثم هذه المقدمات التي سيكرهها الأستاذ على أن تقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان! فإن تفيدها يدعو إلى الكلام في أشياء ليس من البر أن نهتك عنها ستار الماضي لنعرضها إلى سخرية الحاضر. على إن ذلك لن يمنعنا من نشر ما بقي من كلام الأستاذ.
بمناسبة (يوم الجلاء)
إبراهيم بك هنانو قال لي. . . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
هذا إنذار أستحلف كل قارئ من قراء الرسالة في الشام أن يحدث به وينشره ثم يحفظه. . . فانه سيجيء يوم تضطره أحداثه أن يعود إليه فيقول: (يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليتنا. . . ويومئذ لا تنفع شيئا (ليت). . . إنها لا ترد ما ذهب، ولا ترجع ما فات!
وهذا أعذار إلى الله، ثم إلى كتاب التاريخ، لئلا يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحة إنكار لهذا المنكر، ولم يعل فيها صوت ناطق بحق. . . وإن كتابها وأدباؤها حضروا مولد سنة من (ألعن) سنن إبليس، فلم يقتلوها وليدة ضعيفة، وتركوها تكبر وتنمو حتى صارت طاعوناً جارفاً، حتى غدت ناراً آكلة، حتى استحالت داهية دهياء أيسر ما فيها الخسف والمسخ والهلاك. . . ونعوذ بالله من تذكير لا ينفع وإنذار لا يفيد!
وبعد فقد حدثني صديق لي فقال:
كنت أمس في مجلس، وكنا نتحدث فيما كان (يوم العرض) من (مناظر الكشافات. . . ومنظر الأسيرة. . . والعروس) حديث إنكار وأسف لما كان، ونعجب كيف جاز على رجال هذا العهد الوطني، وهم فيما نرى أهل الشهامة والمروءة والغيرة على الأعراض، وكان في المجلس الزعيم الجليل عضو مجلس النواب: إبراهيم بك هنانو، فرأيته يعرض عن هذا الحديث ويصرف عنه، وانقاد له الحاضرون فضربوا في أحاديث أخرى. . . فلما انفض المجلس خرجت معه، فعاد إلى يوم العرض وخبره، واختصني بهذا الحديث وأذن لي أن أنشره. . . .
قال رعاه الله: إنك لتعجب كيف تم هذا الخزي، وكيف مر على رجال هذا العهد الوطني فلم ينتبهوا له، وأنا أخبرك بسر ما تعجب منه وقعت عليه مصادفة. . . وذلك أني ذهبت قبل العرض بأيام في حاجة لي إلى منزل (فلان) الفرنسي، ومنزله في الميدان الذي يتقاطع فيه الشارعان الكبيران: شارع يوسف العظمة، وشارع كلية الهندسة، فوجدت المنزل كأنه خال، والمتاع مرصوص مربوط، فعل المتهيئ للسفر، وكان النور يسطع من شق باب غرفته، فهممت أن أدخل عليه، فسمعت كلاماً وحديثاً، فانتحيت ناحية أنتظر تمام الحديث،
إذ ليس من الأدب أن أدخل على متحدثين، فسقط إلى كلام لا يستطيع المرء أن يغلق أذنيه عن مثله، ولم يكن استراق السمع من عادتي، غير أني وقفت، وقد أدركت أن (فلاناً) هذا، يتحدث مع (رجل. . .) أعرفه من أذناب القوم ومن أعوانهم، وممن رفعوا إلى المناصب العالية، وكانا يتشاكيان الفراق، ويتحدثان وكأنما يتباكيان. ورب كلمات يقطر منها الدمع! ورب حروف هي قلوب تتفطر! ويتذكران الأيام الماضية، وكيف دارت الأيام، وكان من حديث صاحبنا الشامي الذي سمعته مترجماً إلى لغة القلم ولسان الأدب، قوله:
- لئن كتب عليكم أن تذهبوا، فإنكم ستعودون عاجلاً، ثم لا تذهبون أبداً. على أني سأنتقم لكم، وسأعد وحدي العدة لعودتكم. سأصنع في ليالٍ ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. . . سأريكم قوتي. وليست القوة أن تسوق على عدوك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده، فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدس لهم دسيسة في عيد الجلاء. لا أصبر والله حتى ينتهي العيد. إنها فرصة إن لم أغتنمها لم أكد أجد مثلها وأنا أعرف بأهل بلدي، وإن لم يكن دينهم من ديني: إنهم لا يؤتون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جربتم ورأيتم، فما قتلتم منهم مبغضاً لكم إلا ولد عشرة هم أبغض منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلا هدمتم معها ركناً من (انتدابكم) عليهم، ولا أشعلتم النار في حي لهم إلا كانت هذه النار حماسة في قلوبهم عليكم ونار ثورة تتبعكم. ولا يؤخذون بالشبه تلقى عليهم في دينهم، ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفن، وما جئتموهم بكتاب هو في زعمكم هدم لدينهم إلا أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم، فهبوا يدافعون، فإذا أنتم قد قويتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما ينالون بالقوانين التي تبطل قرآنهم، وقد علمتم حينما جربتم أن تأتوهم بالظهير البربري مهذبا ملطفاً لابساً ثوب (قانون الطوائف) ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم، ولا بالأموال التي تشرون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم: لأن من هذه الضمائر ما هو كالموقف (عندهم) لا يباع ولا يشرى ولا يوهب، ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة 1936 رجالكم بعصيهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها. . .
فقال له (فلان) الفرنسي:
- ومن أين تأتيهم أنت؟ وهل تقدر على ما عجزت عنه فرنسا؟
- قال: نعم. ولو كنتم قد سمعتممني ما عجزتم. إني آتيهم من الباب الذي لا يستطيع أن يراه أحد مفتوحاً إلا ولجه. إني أحاربهم بغرائزهم فأجعلهم يهدمون بيوتهم بأيديهم، وأثير عليهم نساءهم وأثيرهم على نسائهم، وألقى الضعف والخلف فيهم، فأفسد عليهم رجولتهم، وأخرب أسرهم، وأجعل جيشهم أخشابا قد شغلت كل خشبة بهواها ولذتها. إني آتيهم من باب (الغريزة الجنسية) الذي لم تدخل منه أمة إلا دخلت جهنم التي تحرقها ولا تخرج منها من بعد أبداً. . .
- قال الفرنسي: أما أدخلناهم نحن من هذا الباب؟ أما قلنا لهم، إن تعريض أجسام الشباب والشابات صحة لهم وقوة، فأبوا وقالوا، كلا، إنه تعريض (بالصاد)؟ أما قلنا لهم، إن هذا الحجاب همجية ووحشية، وإن التقدم والمدنية بالسفور؟ أما أنشأنا لذلك جمعيات من النساء؟ أما فتحت هذه الجمعيات مدارس؟ أما صنعت هذه المدارس أكثر مما صنعت الفرنسيسكان؟ إننا لم نصل بعد كله إلى شيء!
- قال الآخر: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فإذا استطعت أن أضرب ضربة واحدة ضمنت النجاح، وإني سآتيهم من طريق الوطنية، سأقول: إنه يوم عيد الوطن، عيد الجلاء، عيد الرجال والنساء. . .
قال إبراهيم بك:
ثم دخل داخل فتنحيت عن مكاني، فلم أسمع شيئاً بعد ذلك. فلما حضرت العرض، ورأيت الذي كان، عرفت من أين جاء البلاء. على أن هذا الرجل وأشباهه لم يصنعوا ما صنعوا حباً بفرنسا ولا إخلاصاً لها. إن قلوبهم أضيق من أن تتسع لإخلاص حتى ولو لفرنسا. . . ولكن حباً بأنفسهم، وحرصاً على لذتهم، إنهم يكادون يجنون، إذ يجدون دمشق لا تزال نساؤها مستترات متحجبات، ولا يفتئون يسائلون أن كيف السبيل إلى هتك هذا الحجاب؟ لماذا لا نكون كفرنسا حيث لا تستر عورة، ولا يحجب جمال، ولا يمنع من لذة طالبها؟ لقد احتجوا بالصحة وأن الحجاب ضعف ومرض، فكذبهم كون المتحجبات أصح أجساماً وأقوى وأبعد عن المرض، وأن من السافرات مصابات بالزهري والسيلان وبالتمدن، وأن الحجاب رجعية وتوحش، فلم يصدقهم أحد، فجاءوا هذه المرة فأخذونا على حين غرة وغفلة،
وأفادهم أن كان الناس في الفرحة الكبرى، في عيد الجلاء، فقالوا للناس: إنه يوم الفرح، فلتشارك المدارس فيه الأمة، ليظهر الطلاب والطالبات سرورهم، ويعلنوا عاطفتهم ثم ذهبوا فأعدوا هذه (المناظر) التي كانت يوم العرض، كبقعة النجس في ثوب العروس الأبيض. . .
ألا من كان يظن أن مثل هذا يكون في دمشق ولا تزلزل الأرض زلزالها؟ من كان يظن أن الآباء ينسون نخوتهم؟ وهؤلاء النفر من رجال المعارف، وهم الأمناء على الطالبات يضيعون أمانتهم، ويحولون العرض عن وجهته؟ فبعد أن كان للعزة الوطنية وللمجد والنبل، صار للشهوة واللذة والغريزة والجنسية! لقد جعلته هذه المشاهد (مرقصاً)!. . . كل ذلك تقليداً للأجنبي الذي نحتفل اليوم بجلائه عنا، الأجنبي الذي هزم في الحرب ووطئته نعال أعدائه، وقد كان له جيش لجب يزيد ألف ضعف عن هذا الجيش الذي نعرضه، وقد كان له خط ماجينو، وأمة تعد أربعين مليوناً، ومستعمرات. . . فلم يغن عنه جيشه ولا حصونه ولا عدده لما أضاع الأخلاق وفرط بالعفاف.
لا، لا تقولوا:(إنه يوم العيد يجوز فيه ما لا يجوز في غيره) فإن المرأة التي تسقط يوم العيد، كالتي تزل يوم المأتم، والناس يزدرون المرأة (الساقطة) من غير أن يسألوا متى كان سقوطها!
ألا من كان له قلب فليتفطر اليوم أسفاً على الحياء.
من كان له عين فلتبك اليوم دماً على الأخلاق.
من كان له عقل فليفكر بعقله، فما بالفجور يكون عز الوطن، وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق تحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان.
فإذا كنت تحسبون أن إطلاق الغرائز من قيد الدين والخلق، والعورات من أسر الحجاب والستر، من ضرورات التقدم ولوازم الحضارة، وتركتم كل إنسان وشهوته وهواه، فإنكم لا تحمدون مغبة ما تفعلون، وأنكم ستندمون (ولات ساعة مندم) إذا ادلهمت المصائب غدا، وتتالت الأحداث، وتلفتم تفتشون عن حماة الوطن، وذادة الحمى، فلم تجدوا إلا شباباً رخواً ضعيفاً، لا يصلح إلا للرقص والغناء والحب. .
فالله الله، والأمة والمستقبل. . . إننا خرجنا من هذا الجهاد بعزائم تزيح الراسيات، وهمم
تحمل الجبال، فلا تضيعوا هذه العزائم، لا تذهبوا هذه الهمم، ولا تناموا عن حماية استقلالكم فمن نام عن غنمه أكلتها الذئاب.
إن هذا الجلاء نعمة من نعم الله، فتلقوها بالشكر والطاعة، واحفظوها بالجد والأخلاق، فبالشكر تدوم النعم، وبالإخلاص تبقى الأمم، وبالمعاصي تبيد وتهلك، إن أجدادنا كانوا يحتفلون بالنصر بحمد الله وطاعته فيقودهم الاحتفال إلى نصر جديد، وكذلك تفعل الأمم الحية اليوم. أما سمعتم بحفلات تتويج ملك الإنكليز، لقد كان نصفها في الكنيسة، فلماذا لا يكون احتفالنا بالجلاء إلا اختلاطا وتكشفا وغناء ورقصاً واستهتاراً، كأننا لم ينزل علينا كتاب، ولم يبعث فينا نبي، ولم يكمل لنا دين؟
إني أخاف والله أن يكون الأجنبي قد أجلى جيوشه عنا، وترك فينا قنابل تنفجر كل يوم، فتدمر علينا أخلاقنا، وأوطاننا، واستقلالنا. إن كل عورة مكشوفة، وفسوق ظاهر، قنبلة أشد فتكاً من قنابل البارود، ولا يخفي ضررها إلا على أحمق!
يا أيها الناس!
لقد جلت جيوش العدو عن أرضكم، فأجلوا عن بيوتكم عاداتهم، وعن رؤوسكم شبهاتهم، وعن مدارسكم مناهجهم، وعن شوارعكم حاناتهم ومراقصهم، وعن محاكمكم قوانينهم، وعن أجسام بناتكم وأولادكم ثيابهم الكاشفة الفاضحة وأزياءهم.
وذلك هو الجلاء الحق، وذلك هو العيد الأكبر.
هذا ما قاله لصديقي، الزعيم إبراهيم بك هنانو عضو مجلس النواب السوري، أنقله بنصه، والعهدة على هذا الصديق.
علي الطنطاوي
حول قضية فلسطين:
الكلمة اليوم للعرب فماذا همن صانعون؟
للأستاذ سيد قطب
نحن - الأمم العربية - نستأهل كل ما يجري علينا، ما دمنا نختار لأنفسنا دائما موقف الانتظار، ولا نخطو خطوة إيجابية واحدة؛ بل ندع ذلك لخصومنا وننتظر دائما ماذا يصنعون!
ومصيبتنا الكبرى أن فينا من (العقلاء) أكثر مما ينبغي، وهؤلاء (العقلاء) هم الذين يشيرون علينا دائما أن نتريث و (نتعقل) ونسلك الطرق (السلمية) حتى لا نخسر عطف العالم المتمدين، أي العالم الأوربي والغربي على العموم!
فماذا جنينا اليوم من الانتظار بعد الانتظار؟
جنينا أن ظلت قضية العرب في فلسطين تتأخر ولا تتقدم يوما بعد يوم، حتى انكفأت أخيرا في هوة (لجنة التحقيق)! ومع ذلك فالعقلاء لا يزالون إلى اليوم ينصحون لنا بالهدوء والتريث حتى نعرف ماذا سيصنع خصومنا. وخصومنا في هذه المرة هم الإنجليز والأمريكيون! ونحن الذين تطوعنا بأن نضمهم إلى صفوف أعدائنا اليهود، بعد تقرير لجنة التحقيق!
ولنرجع بذاكرتنا قليلا إلى الوراء.
في وقت من الأوقات كانت فلسطين العربية ثائرة فائرة. فأسرع الإنجليز يدعون الأمم العربية - ولم تكن الجامعة العربية قد أنشئت بعد - إلى مؤتمر في لندن وهم يحاولون ترضية العرب الثائرين. وفي هذا الوقت أو بعده بقليل، صدر الكتاب الأبيض الذي يضع حدا لهجرة اليهود، ويحظر بيع الأراضي، وبعد باستقلال فلسطين. . .
ولم يرض للعرب عن هذا الكتاب الأبيض. ولكن (العقلاء) أشاروا عليهم بالتزام الهدوء، حتى لا يفقدوا (عطف العالم المتمدن)! وانخدع العرب بكلام (العقلاء) فأخلدوا إلى الهدوء!
ثم جاء دور اليهود الإرهابيين، فجعلوا يخاطبون الإنجليز باللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز. ولحسن حظهم لم يكن فيهم (عقلاء)، فراحوا ينفذون خطتهم في دأب وإصرار.
ووقف عقلاؤنا يبسمون في دهاء ويقولون: (دعوهم في حماقتهم فإنهم يفقدون عطف العالم
المتمدن. وسينقلب الشعور الإنجليزي ضدهم بسبب أعمالهم الإرهابية وجرائمهم المنكرة)!
وكانت هذه سذاجة هي والغفلة سواء!
وفهم الإنجليز اللغة الوحيدة التي يفهمونها. وانتهزوا فرصة ضغط الولايات المتحدة في مصلحة اليهود، وأعلنوا إلغاء الكتاب الأبيض وتأليف لجنة للتحقيق، والسماح بالهجرة بعد انتهاء أجلها المحدود!
وتحرك العرب. ولكن (العقلاء) قالوا لهم: (كونوا عقلاء أيها العرب، وانتظروا قرار لجنة التحقيق، ولا تقوموا بأية حركة الآن لئلا تفقدوا عطف العالم المتمدين، ودعوا اليهود الحمقى يرتكبون حماقاتهم ليفقدوا هذا العطف دونكم بما يرتكبون كل يوم من الإرهاب في فلسطين وغير فلسطين)!
وسكت العرب، وصدر قرار لجنة التحقيق!
فيا أيها العرب ماذا أنتم اليوم صانعون؟
يقول لكم (العقلاء): انتظروا حتى تروا ماذا يصنع الإنجليز. فرئيس وزرائهم يقول: إنه لا ينفذ التقرير إلا إذا ضمن مساعدة الولايات المتحدة العسكرية والمالية. وما دام الاتفاق لم يتم بين إنجلترا والولايات المتحدة على هذه المساعدة فنحن منتظرون!
أيها العقلاء. . . . . .:
إنكم مغفلون. . . .!
إن موقف الانتظار البليد في كل مرة هو الذي جعل قضية فلسطين تتقهقر دائما ولا تتقدم، منذ أن سمع العرب نصائحكم الغالية، وحرصوا على عطف العالم المتمدين، ووثقوا معكم بالضمير الأوربي، أو الضمير الغربي على العموم.
أيها العقلاء!
إن الضمير الغربي كله ضمير متعفن. فالمغفلون وحدهم هم الذين يثقون بهذا الضمير، ويعلقون على يقظته حقوقهم القومية!
واللغة الوحيدة التي يفهمها هذا العالم المتمدن، هي اللغة التي يخاطبهم بها اليهود: القوة والمال، والإقلاق المستمر الذي لا يدع أعصابهم مستريحة، ولا يدع تدجيلهم الدولي مستورا، وكلما هاجت أعصابهم وانكشف موقفهم زاد ضميرهم يقظة وتحركت في نفوسهم
عواطف الرحمة والإشفاق على هؤلاء المقلقين الثائرين!
أيها العقلاء!
ليس أمامنا تجربة واحدة تثبت أن الضمير الغربي قد تحرك مرة واحدة لقضية إنسانية بريئة يتبع أصحابها نصائح (العقلاء) فيدعون الضمير الغربي هادئا يغط في نومه العميق.
لا بد من ضجة وجلبة لإيقاظ هذا الضمير النائم، واليهود اليوم يدركون هذه الحقيقة؛ ولذلك هم ناجحون!
أيها العقلاء!
مجرم في حق أمته، وفي حق العرب أجمعين، كل من يدعو أمته أو يدعو العرب إلى الثقة بهذا الضمير المزعوم.
وبعد، فالكلمة الآن لعرب، لا لمستر أتلي، ولا للرئيس ترومان، ولا للجنة التحقيق!
فإما أن يخاطبوا الضمير الغربي باللغة الوحيدة التي يفهمها، والتي يحذقها اليهود، فيلبيهم الضمير الغربي في كل مكان.
وإما أن يخاطبوا هذا الضمير بلغة (العقلاء) وينتظروا حتى تنطبق الحلقة، ويتم الاتفاق بين أتلى وترومان. . .
وحينئذ لا يلومن إلا أنفسهم، وإنهم لملومون.
سيد قطب
السيد جحا الحالم اليقظان
للأستاذ كامل كيلاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
10 -
في عيادة الطبيب
ومن بدائع ما يروى عنه في هذا الباب، أعني باب الغفلة والنسيان ما حدث الرواة عنه حين رأى المرض يبرح بزوجته فتسأله في إلحاح أن يستدعي لها الطبيب. فلا يكاد يخرج من البيت حتى تسرع زوجته إلى منافذه فتطل عليه، مبشرة بشفائها مما ألم بها من ألم.
ويستولي على صاحبنا الذهول بعد قليل فينسى أن زوجته لم تعد بحاجة إلى استدعاء الطبيب، وتسوقه قدماه - وهو هائم في سيره - على عادة الكثيرين من المفكرين ذوي اليقظة الحالمة فإذا به في عيادة الطبيب:
(ماذا جاء بك؟)
فلا يكاد يهم باستدعائه حتى يذكر ما نسى. فيتباله - على عادته - ولا يجد في غير التغابي مخرجا له من مأزقه، فيقول:
(لقد مرضت زوجتي، واشتد بها الألم فأمرتني باستدعائك، وما كدت أخرج من البيت حتى أطلت زوجتي من النافذة وبشرتني بشفائها، ثم ختمت حديثها طالبة ألا أستدعيك. وقد جئت إليك لأخبرك بذلك حتى لا تكبد نفسك عناء الحضور.
11 -
غفلة أديب
وقريب من هذا ما حدث لأديب يعرفه القارئ. فقد استأذنه كاتبه ذات مساء في إجازة، ليستدعي الطبيب لأمه المريضة.
وعرف الأديب أن الكاتب الخبيث يخلق سبباً موهوماً ليمكنه من الذهاب إلى دار السيمي في تلكم الليلة، وأنه ينتحل مرض أمه جاريا في ذلك على مألوف عادته في انتحال الأعذار.
وشاءت المصادفة أن يلمح الأديب - بعد قليل من الزمن - وهو في طريقه لإنجاز بعض عمله، جماعة من الشبان يتوسطهم كاتبه أمام دار السيمي. فأسرع الأديب إلى كاتبه، ليؤنبه
على كذبته، ويقول له:
(أين السيمي أيها الغبي من الطبيب الذي ذهبت تستدعيه لأمك؟)
وما كاد يتم قوله: أين السيمي أيها الغبي؟) حتى تبين تسرعه وخطأه، فقد أدرك أنه يحدث شخصاً قريبا الشبه بكاتبه.
ودهش الجميع لهذه المفاجأة، فلم ير الأديب له مخرجا من هذا المأزق في غير الأسلوب الجحوي، فقال للفتى متبالها:
(أما السيمي، فهي أمامك! وأما أنت فلست بغبي).
قلت: لكم إن صاحب هذه القصة هو أديب يعرفه الكثيرون منكم لا لشيء إلا لأنه ماثل أمامكم الآن يحاضركم في غفلة جحا الذكي الحالم اليقظان.
12 -
سرعة الخاطر
وهذه الغفلة كثيراً ما تعرض للإنسان إذا استغرق في التفكير، فتذهله عما حوله، فيأتي بأعجب المتناقضات. وثمة يتبين بحرج الموقف فإذا لم تسعفه إجابة حاضرة، أو لفتة ساخرة، تنقذه من الحرج وتخلصه من المأزق الذي انزلق فيه، أصبح سخرية الساخرين وهدف الهازئين، وضحكة العابثين.
وعلى ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم حقيقة أمره، وبعده عما يرمي من غفلة وتناقض واضطراب، ورحم الله المعريّ القائل:
فيا لك من يقظة
…
كأني بها حالم
13 -
ريشة المصور
وكما أن المصور لا يستطيع أن تظهر لك ريشته ما ينفرد به العملاق من ضخامة إلا إذا وضع إلى جانبه رجلا آخر أو نخلة أو شجرة أو شيئاً تقيس إليه طول العملاق، لا يستطيع الكاتب أن تظهر لك براعته مدى التناقض والشذوذ مثلا إلا إذا وضع بجوارها شيئاً آخر، يوضح لك مقدارهما، ويجلو لك مسافتهما.
ومن هنا غلبت البرودة والغثاثة على جمهرة النكت التي تروي عن أفذاذ المتهكمين متى انقطعت عن ملابساتها ودواعيها.
ومن هنا نعرف لماذا استهجن الناس كثيراً مما نشر من دعابات جحا وإجاباته بعد أن رويت منفصلة عن بواعثها ودواعيها.
ولا عجب في ذلكم فإن المصور - كما أسلفت القول - إذا حاول أن يرسم عملاقا ضخما لم يرسم رجلا يملأ فراغ الصفحة كلها. لأنه لن يشعرك بهذا أنه يصور عملاقا. على حين يستطيع في نصف الصفحة أو ربعها - كما تعلمون - أن يدخل في روعك هذا الشعور إذا رسم بالقياس إليه شيئاً آخر تعرفه ليتبين لك نسبة ضخامته.
والشيء لا يعرف مقداره
…
إلا إذا قيس إلى ضده
14 -
تاجر الأيام
ونحن إذا سمعنا أن جحا يسأله سائل:
(في أي يوم نحن من أيام الشهور؟).
فيجيبه: (لست أتجر في الأيام والشهور). خيل إلينا أنها نكتة بائخة. ولكننا متى عرفنا أن السائل ثقيل الظل، وأن جحا لا يريد أن يجيبه بل يتوخى تصغيره، ويتعمد تحقيره، أدركنا أنه إنما يقصد إلى هذا الجواب قصداً، ليشعره بثقله وسماجته، ويتخلص في الوقت نفسه من إجابته.
وليس أفتك بالثقلاء من أمثال هذا الرد.
15 -
القمر والنجوم
وقريب منه قوله لثقيل آخر، حين سأله:
(أين يذهب القمر القديم، بعد أن يحل مكانه القمر الجديد؟).
فقد أجابه على هذا السؤال البائخ مستهزئاً:
(ألا تعرف ما يصنع به؟ إنه يقطع - بعد ذلك - نجوما تنثر في السماء).
16 -
الأقمار والبروق
ويعترضه في طريقه مخبول أحمق بادي الغفلة وهو يسير على هضبة مشرفة على بعض الوديان فيقول له المخبول:
(أنظر أمامك في هذا الوادي، وخبرني ماذا ترى؟).
فيقول له جحا واجماً:
(أرى جثثا ملقاة على أرض الوادي!).
فيسأله المخبول:
(أتعرف قاتلهم؟ إنه الماثل أمامك)
فيشتد ارتباك صاحبنا جحا فيعاجله قائلا:
(أتعرف لماذا فتكت بهم؟ لقد عجزوا عن إجابتي عن سؤال واحد حيرني. فإذا أجبتني عنه كتبت لك السلامة).
فيسأله جحا عن ذلك السؤال العويص. فيقول:
(لقد حيرني أن أعرف لماذا يبدو القمر أول الشهر هلالا صغيراً ثم لا يزال يكبر حتى يستدير ويتم نوره، ثم يعود فيصغر شيئاً فشيئاً حتى يختفي ويطلع غيره. فماذا يصنع بالقمر القديم؟).
فيبتسم له جحا متلطفا ويهون عليه الأمر قائلا:
(تباً لأولئك الأغبياء. أما كان فيهم من يفضي إليك بالنبأ اليقين؟ ألم يعرفوا أن الأقمار بعد أن تغيب عنا تظل مختبئة، حتى إذا جاء فصل الشتاء، تألفت منها البروق التي تلمع في السحب والغيوم).
وهنا يثلج صدر المخبول فيقبل يدي الفيلسوف العظيم قائلا:
شكراً لك أيها السيد الجليل فما خطر لي - والله - ذلك الرأي على بال!).
17 -
تغابي الأكياس
وكم نرى - أيها السادة - في كل عصر ومصر، حمقى يسألون أمثال هذا السؤال، وأكياساً من قادة الفكر يتغابون فلا يجدون مندوحة عن الإجابة بأمثال هذا الجواب ليتخلصوا من أذية المجانين وينجو بأنفسهم من كيدهم سالمين.
ثم يأتي بعض الباحثين فيحملون أجابتهم الساخرة محمل الجد. ويتهمونهم بالغفلة والجنون، ناسين أن لكل مقام مقالا.
18 -
فضل التغابي
ولقد أجمع الناس - أو كادوا - على فضل التغابي في كل عصر كما تعلمون، وأفاض المبدعون وافتنوا في تصويره ما شاء لهم خيالهم وافتنانهم.
فقال (زهير بن أبي سلمى) في معلقته الرائعة:
(ومن لم يصانع في أمور كثيرة
…
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم)
ثم تلاه معاوية فقال: (السرو التغافل).
ثم جاء عمر بن أبي ربيعة. فقال:
(تبا لهن بالعرفان لما رأينني
…
وقلن: امرؤ باغ أضل وأوضعا)
ثم تلاه المتنبي فقال:
(ليس الغبي بسيد في قومه
…
لكن سيد قومه المتغابي)
وأعقبه شيخ المعرة فقال:
(. . . . . . .
…
وتبا له، فإن دهرك أبله)
(قوم سوء، فالشبل منهم يغول
…
الليث فرسا والليث يأكل شبله)
بعد أن قال:
(ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى
…
عن الرشد في إنحائه ومقاصده)
تعاميت حتى قيل: إني أخو عمي
…
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده)
ومن أبرع ما عرفته في هذا الباب الذي استفاض فيه فحول الشعراء والكتاب ذلكم المثل التركي الذي يقول:
(عظموا أقداركم بالتغافل).
ويقابله قول ابن زيدون:
(إن السيادة - بالإغضاء - لا بسة
…
بهاءها، وجمال الحسن في الخفر)
وقريب منه قول بعض الأفذاذ من القدامى المبدعين:
(أقبل معاذير من يأتيك معتذراً
…
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أجلك من أرضاك ظاهره
…
وقد أطاعك من يعصيك مستترا)
كامل كيلاني
إبليس والفن
للأستاذ صلاح الدين المنجد
لا تظهر صورة الشيطان في العصور الأولى من تاريخ الكنيسة، وينبغي أن نبدأ من القرن السادس، لنرى التخيلات الأولى، للشيطان.
وأقدم هذه التمثيلات توجد الآن في مخطوط قديم عن أعمال القديس غريغوار. في المكتبة الوطنية بباريس.
فهذا المخطوط الذي يرجع عهده إلى القرن التاسع، يتضمن صوراً أقدم من هذا التاريخ بثلاثة قرون. فإحدى الصور، تمثل محاولة الشيطان فتنة أيوب، وفيها يظهر أيوب في قصره يفكر والشيطان بالقرب منه، حاملا في يده حقة طيب، تتأرج منها الروائح العطرة المسكرة، وكأنه يسخر من الحكيم ويهزأ به.
ولا يظهر الشيطان في هذه الصورة مخيفاً، بل ما يزال الملك المطرود، المتكبر، وهو هنا ذو جناحين طويلين منتشرين، وله وراء رأسه إكليل من النور، تذكر بأصله. ثم هو عاري الجسم حول خصره زنار من السيور، وليس في مخايله ما هو بعيد عن خلقة الإنسان، ولكن يديه ورجليه المعقوفة الأظافر، تميزه ميزة خاصة.
وفي هذه المخطوطة، صور أخرى للشيطان وكلها متماثلة. والظاهر أن الفن الإغريقي، والفن البيزنطي، لم يشاءا أن يشوها شكل الشيطان. والفنانون الشرقيون في بيزنطية كانوا ذوي شغف بالجمال، فلم يهتموا بتصوير هذا الشيطان، قرينا بالشر، المخيف المنظر والمخبر.
ولم يقل رجال الدين في الكنيسة قط، إنهم رأوا مثلا الشيطان يوما، بشكل شاب غرانق جميل، أو بشكل فتاة حسناء كاعب، ذات وجه ناضر. ولذلك كانوا يصورون الشيطان بالقبح، ويلونونه باللون المظلم القاتم، كالأسود أو لون البنفسج، فهذا ملك الليل الشرير.
وانتقلت هذه الصورة من بيزنطية إلى الغرب، فاتخذ الشيطان صورة البطل المغلوب المنهزم، أو صورة الملك المطرود، الذي ما زال يحفظ سمات الملائكة وصفاتهم.
ولم يلبث أن تبدلت هذه الصورة، فعندما أراد نحاتو الكنائس الرومانية أن يصوروا الشيطان، ملاك الشر تمثلوه بصورة أخرى.
وهناك أسباب عدة بعثت على هذا التبديل، الأول هو رغبة الكنيسة نفسها، إذ لا ينبغي أن ننسى أن الشيطان شيء خطر، فهو الخبيث، الذي لا هم له غير الإغواء والفتنة، ولا بد إذن من منحه صفات مخيفة راعبة، كي تنقش هذه الصورة الرهيبة في قلوب المؤمنين، فتحفظهم من إغوائه، وتبعدهم من فتنته.
ولا يجهل من جهة ثانية، أن أكثر المشاهد المنحوتة في الكنائس قد استوحيت من الصور أو من القصص الدينية الممثلة في أفنية الكنائس. ففي هذه الأقاصيص يظهر الشيطان محاطا بقناع منحط مزر. فمن هذا الإزراء والانحطاط، استوحى الفنانون تصورهم للشيطان.
وسبب آخر، هو أن الكنيسة كانت تتعمد أن يستخلص الرائي من صورة الشيطان عبرة وعظة؛ فكانت تجبر النحاتين أن يجعلوا الفرق شاسعاً بين الملك والشيطان، مع المحافظة على روح التصاوير البيزنطية.
وفي القرن الثاني عشر، كان الشيطان يصور في أغلب الأحايين كما يلي: شكل إنساني، ذو جسم وفخذين وذراعين. ولكنه تارة ضئيل الجسم كأنه القزم، وتارة بالعكس، عبل القد مستطيل القامة كأنه العملاق. وسواء أكان قزما أم عملاقا، فقد كانوا يجعلونه ذا هامة ضخمة، وعينين جاحظتين واسعتين، وأنف أفطس، وفم غريب الخلقة لا يشبه فم الآدميين، قريب إلى فم الكلب، وأسنان ضخام مخيفات، وشعور منفوشة، قائمة كأنها ألسنة اللهب. وقد اصطلح الفنانون على إلصاق هذه الشعور في رسومهم لكل من له صلة بالشيطان، وخاصة بالنساء.
أما هامة الشيطان فتستدعي الرنو والعجب لضخامتها. وأما جسمه فهو نحيف، والبشرة ذابلة جف ماؤها، ورجلاه وذراعاه عظام لا تكسوها لحم، وتنتهي بأظافر معقوفة جارحة. وعلى هذا الشكل صور الشيطان، في مواساك أوتين فزبلاي.
ويذهب نقتبس منه هذه المعلومات إلى أن الرهبان هم الذين كانوا يختلقون هذه الصورة.
وقد ساعدت القصص الدينية، وما في الإنجيل خاصة، على تمثيل الشيطان، فصوروه تصاوير مختلفات، تمثله مطرودا من الجنة كاسفا حزيناً، أو جالساً في الجحيم على عرش في وسط النار رجلاه على منصة، تدور حدقتا عينيه المخيفتين، أو ساعيا في إغواء
المؤمنين المخلصين.
وفي القرن الثالث عشر، تظهر أكثر الصور التي كانت في القرن الذي قبله. على أن شكل الشيطان نفسه قد اختلف اختلافا محسوسا؛ لأن تخيلات الرهبان وأوهامهم صورته على شكل قزم قبيح في منتهى القبح، ولكنه أقل إرهابا. أما ملامحه فعادت كملامح الإنسان، هي قبيحة بلا شك؛ ولكنها أقل تشويها من الماضي. وتبدل مفهوم الشيطان، فهو لا يخيف كما كان يخيف من قبل؛ ولا شك أنه أضخم من الماضي أيضا؛ فلا ترى - إذا رأيت صورته - عظاما تخيف؛ فوقها جلد نحيف؛ ولكنه كان أملأ جسما. وقد يلاحظ أن بعض الصور، كانت تلصق به بعض الملامح الحيوانية، كأن يجعل له رأس قط كبير، أو كأنه القطة الكبيرة، كما في نوتردام دباري.
على أنه يلاحظ أمر، هو أنه كلما كان الفن يبتعد عن الدين كانت أشكال الشيطان تجنح عن إثارة الرعب. ففي القرن الخامس عشر كان يخيل للرائي أن الشيطان مخلوق مضحك. وكان يحافظ، في أكثر المشاهد التي يصور بها، على الملامح الإنسانية؛ أعني أنه كان له دائماً رأس وجسم وذراعان وفخذان.
وبالعكس عصر النهضة في فقد الشيطان هذه الصفة الآدمية. فنحن نلاحظ أنه بعد منتصف القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر، قد طرأ تبديل كبير على ملك الشر.
فلقد فهم رجال النهضة خطأ ما يرمز إليه الشيطان. ولا بد من التنويه بأن فكرة الشيطان لم تعرف في الديانات اليونانية والرومانية. ففي الديانة اليونانية كان للشياطين شأن أقل. فهي أرواح لا أثر لها، تذهب وتجيء أحايين بين الآلهة والأبطال. ووجودها في الديانة الرومانية أكثر غموضا أيضا. ولا بد من أن نذكر أن الآلهة في أثينا وروما كانت في آن معا، أرواح خير وشر، تضر من تشاء، وتنفع من تشاء على هواها. أما فكرة وجود ملك للشر يقابل ملك الخير التي كانت توجد لدى الفينيقيين والفرس والهند فلم تعرفها اليونان والرومان.
فليس من الغريب إذن إذا كان فن عصر النهضة تحت التأثير اليوناني الروماني قد أهمل بعض الإهمال تصاوير الشيطان التقليدية الموروثة، واستعيض عنها بتصوير آخر. فقد أصبح الشيطان يرمز رمزاً كبيراً إلى القبح الشديد، وهذا سر انقلابه حيوانا، له ملامح
الحيوانات كلها؛ كالثور الوحشي، والخنزير والدب وغيرها. وتعددت الشياطين، فكثرت صورها أيضا. ولم يبق كم كان من قبل، صورة واحدة لشيطان واحد.
وفي عصر النهضة، من جهة أخرى، ظهرت موضوعات أخرى طريفة تمثل الشيطان، مثال ذلك أن صوروا الموت يخاطب الشيطان، لأن الموت كان قد بدئ بتصويره منذ القرن الخامس عشر بإيحاء من الكنيسة أيضا كي تخيف المؤمنين مما يعقبه من جحيم ونعيم وعذاب. وفي كتاب ، لفيرارد، وهو مزوق مصور، تظهر صور كثيرة للشياطين، كلها ذات ملامح في أغلب الأحايين حيوانية؛ فقد جعل لها أذناب وقرون وحوافر وغير ذلك.
ويلاحظ أن الشيطان قد أصبح حيوانا عند فناني وادي أشباه ستيفان ومارتان وبعدهم عند البير دورر ومن جاراهم. ثم يلاحظ كلما تقدمنا في القرن السادس عشر، قلة تصوير الشيطان لأن (مجمع ترانت) عندما منع تصوير الشخوص المخيفة ونحتها ضرب الأقاصيص الدينية وشخوصها ضربة قاضية، فقل تصويره.
حتى إذا أقبل القرن التاسع عشر، ظهرت صورة جديدة للشيطان، فقد أثر ظهور فوست لغوته، وانتشارها الواسع في ذلك، ودفع الفنانين إلى تصوير هذا الشيطان الرجيم؛ فصوروه كما يلي:
ملك مطرود من رحمة الله، ترافقه فترة شقاء من قبح، والجناحان طويلان ينتشران حول الجسم المشوه. وجهه يمثل صورة جانبية مسنونة مضطربة، وقد تدثر بدثار. وهكذا صوره دلا كروا في فوست سنة 1828. وبقيت هذه الصورة شائعة بين الناس؛ وهي التي يلجأ إليها اليوم في تمثيل الشيطان.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
التاريخ في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 13 -
بين الطغيان والحرية:
لم يقف ملتن بمعزل عن حوادث العصر الذي عاش فيه، السياسية ومنها الدينية، فدخل في غمارها ورمى بنفسه في بركانها وأصابه ما أصابه من نارها، وكاد يحيط بعنقه حبل المشنقة. وما كان لنفس مثل نفسه تعشق الحرية وقد فطرت عليها أن تهاب الضرر أو الموت فتنكل عن الوقوف في وجه الطغيان، وهذا ركن من أهم أركان شخصيته كرجل وكشاعر. لهذا كان لا بد من فصل يجلو حوادث ذلك العصر لننظر بعده على أي صورة كانت صلته بتلك الحوادث وإلى أي مدى أثرت فيه وأثر فيها.
إنتهى بموت إليزابيث عام 1603 حكم أسرة تيودور، وبدأ حكم أسرة سيتوارت في شخص جيمس الأول، وقد ولد ملتن بعد خمس سنوات من اعتلاء هذا الملك عرش انجلترة، وظل جيمس يحكم حتى وفاته سنة 1935 وهي السنة التي التحق فيها ملتن بالجامعة، وخلف جيمس على العرش ابنه شارل الأول، وظل شارل يقود سفينة الملك وسط الأنواء الشديد التي انتهت بريح عاتية هي الثورة أو الحرب الأهلية، واختتمت هذه الثورة بإعدام شارل بتهمة الخيانة سنة 1649، أي بعد عشر سنوات من عودة ملتن من إيطاليا. وحكم البلاد بعد شارل القائد الحربي للثورة أوليفر كرمويل أحد كبراء البيوريتانز وسمى حامي الجمهورية، وظل يحكمها حتى وفاته سنة 1658. وخلفه ابنه فحكم البلاد سنة واحدة، ثم عزل لضعفه وأعيدت الملكية في شخص شارل الثاني سنة 1660.
وكانت تلك السنوات السبع والخمسون مليئة بالأحداث، وهي من أهم السنوات لا في تاريخ
إنجلترة فحسب؛ بل في تاريخ الحكم النيابي والحرية في العالم كله، إذ كانت صراعا متصلا بين الطغيان تمثله الملكية وبين الحرية يمثلها البرلمان؛ وكان هذا الصراع حول مسألتين: المسألة السياسية والمسألة الدينية.
ظهرت المسألة السياسية في صورة نظرية أول الأمر، وذلك حينما أعلن جيمس الأول تمسكه بالحق الإلهي للملوك، أو نظرية التفويض من قبل الله. وقد أنكر البرلمان عليه هذا الزعم كما أنكره طالبو الحرية من غير رجل البرلمان. ثم اتخذت المسألة وضعا عمليا حين وقع الخلاف بين الملك والبرلمان على أمور معينة، إذ حاول كل أن يبرر مسلكه حسبما يذهب إليه من رأي في التمسك بنظرية التفويض الإلهي أو في إنكارها والتمسك بالحقوق التي اكتسبها الشعب منذ منتصف القرن الثالث عشر.
كان يقصد بالحق الإلهي للملوك في القرن السادس عشر معنى خاصا، وذلك أن الدولة سواء أكان يرأسها ملك أم أمير لها حق البقاء، وافقت الكنيسة على ذلك أو لم توافق، وكان ذلك المعنى مما قصدت به البروتستنتية إلى الفصل بين سلطان الكنيسة وسلطان الدولة رغبة في إضعاف الكنيسة.
ولكن الملوك فسروا هذه العبارة تفسيرا جديدا في القرن السابع عشر، فقالوا إن هناك حقا خاصا بأشخاص الملوك، فهم خلفاء آدم في الأرض، وقد أعلن الله في كتابه إقراره سلطة الملوك المطلقة فلا يجوز أن تلاقى تلك السلطة أية مقاومة أو تدخل في شؤونها.
وكان جيمس الأول يحكم اسكتلندة باسم جيمس السادس وآل إليه عرش إنجلترة بالوراثة فاتحد في شخصه حكم المملكتين، وقد قتل الملك لصا وهو في طريقه إلى إنجلترة بغير أن يحاكمه فخرج بفعلته هذه على حق أكتسبه الفرد في إنجلترة منذ لائحة العهد الأعظم التي ظفر بها الإنجليز سنة 1215، والتي جاء فيها صراحة أنه لا يجوز حبس أي إنسان أو نفيه أو مصادرة أملاكه أو إعدامه إلا بعد محاكمة تكفل له فيها وسائل الدفاع عن نفسه.
وتمسك جيمس منذ هبط إنجلترة بالحق الإلهي للملوك، وتحدى البرلمان هذا الحق، وكان من محاسن الأقدار أن لم يقف النزاع عند وضعه النظري بل تعدى ذلك إلى مواقف راح البرلمان فيها يبرر مسلكه أو يؤيد حقه على ضوء السوابق والحقوق المكتسبة، وملابسات الحال، ومقتضيات الظروف من النصفة والعدالة.
وكان البرلمان في عهد أسرة تيودور قد خضع للحكم المطلق فعلا، ومرد ذلك إلى أن ملوك تلك الأسرة لم يتمسكوا في حكمهم بالنظريات؛ بل كانوا يعملون على كسب مودة أعضاء البرلمان وضمان تأييدهم إياهم ليكون الأمر في ظاهره للبرلمان وفي حقيقته لهم. هذا إلى أنهم كانوا أحيانا يتزحزحون عن مواقفهم خطوات إذا لاحت نذر الشر، أو يحاولون بالكلمة الطيبة أن يكسبوا قلوب النواب، نجد خير مثال لذلك في موقف نبيل وقفته إليزابث في أواخر حكمها سنة 1601 حين لمحت اتجاه الرأي العام في معارضة البرلمان لقانون من القوانين، فقالت للنواب:(ولو أن الله رفعني مكانا عليا فإن ما أعده في الواقع مجد تاجي هو أني أحكمكم مستندة إلى محبتكم، وهذا ما يجعلني أشعر بالسعادة لأني ملكة شعب شكور، أكثر مما أشعر بها لأن الله جعلني ملكة فحسب).
وكانت البلاد في عهد تلك الأسرة تخشى الحرب الأهلية بين فرعي بيت الملك كما كانت تخشى الغزو من الخارج، وعلى الأخص من جانب أسبانيا الكاثوليكية. هذا إلى أنه كان للناس منصرف عن السياسة وأمورها إلى النهضة العلمية الأدبية وحركة الكشف الجغرافي والاستعمار وراء البحار، فخمدت جذوة السياسة حتى كادت تتحول إلى رماد.
وكانت تقتضي المحكمة وبعد النظر مسالمة رجال البرلمان بعد زوال الخطر الداخلي وابتعاد شبح الغزو الخارجي إثر تحطيم الأرمادا أسطول أسبانيا العظيم، ولكن جيمس الأول أخذ في ظروف كهذه يعلن تمسكه بنظريته، فنفخ بذلك في الرماد حتى توهج، ثم إذا به يشتعل في عهد خلفه اشتعالا
وكان جيمس غداة ولايته عرش انجلترة في السابعة والثلاثين من عمره، وكان ملكا مثقفاً على شيء غير قليل من اللباقة، وفي نفسه قدر من روح الفكاهة، ولكن لم يكن يحسن وزن الأمور لتمسكه بالجانب النظري منها، كما أنه لم يحسن كيف يحيط شخصه بما يجب للملوك من وقار وهيبة، بل لقد اجتمعت فيه كل الصفات التي يجب ألا تنسب واحدة منها إلى ملك، وقد قال عنه هنري الرابع ملك فرنسا:(إنه أعلم مغفل في العالم المسيحي!)
اجتمع أول برلمان في عهد جيمس سنة 1604، فكان أول خلاف بينه وبين الملك أن تدخل الملك في الانتخاب، فقد حذر الناخبين أن ينتخبوا المتطرفين في الآراء الدينية والمحرومين من حماية القانون، ولكن إحدى الجهات انتخبت واحداً من هؤلاء فأبطل انتخابه بأمر الملك
توطئة لانتخاب غيره. وثار البرلمان وتمسك بأنه صاحب الحق في النظر في هذا الأمر، وأذعن الملك مكرهاً وتأكد بهذا الإذعان حق البرلمان في القيام على أمر الانتخاب!
وأعقب ذلك حادثة أخرى، وتلك هي حبس أحد أعضاء البرلمان لعدم دفعه ما عليه من دين، وإذ ذاك أعلن النواب أنه لا يجوز القبض على عضو من الأعضاء إلا بتهمة الخيانة أو تعريض السلم العام للخطر. ولكن الملك أصر على موقفه ولم يعبأ برأي النواب!
وفي نفس السنة أظهر جيمس عطفه على الكاثوليك وأراد أن يغير بعض القوانين الضارة بهم، فعارض البرلمان، وكانت ميول أعضائه بيرويتانية، ولعله إنما أراد بالمعارضة أن يقف في وجه الملك أكثر مما أراد أن يكيد للكاثوليك. . وأسرها الملك في نفسه. . .
على أن أكبر خلاف وقع بين الملك والبرلمان كان على مسألة الضرائب، وذلك سنة 1608 حين أراد الملك أن يفرض من تلقاء نفسه ضريبة إضافية على التجارة، فعارض البرلمان معارضة شديدة، لأن هذا العمل يقوض حقاً هو أهم حقوقه من أساسه، ولكن الملك تمادى في عناده، وامتنع أحد التجار عن الدفع وقدم إلى المحاكمة، وكان الملك يومئذ يخيف القضاة بعزلهم من مناصبهم على الرغم مما نص عليه العهد الأعظم من منع تدخل الملك في سير العدالة، وحكم القضاة على التاجر؛ ولكن صوت البرلمان في الاحتجاج لم يخفت بهذا الحكم وأن لم يجده ذلك شيئاً، وما لبث أن تخلص منه الملك في غير عناء!
وفي سنة 1614 اشتدت بالملك الحاجة إلى المال بسبب إسرافه وإسراف حاشيته ومن اصطفاهم، فجعلهم من المقربين إليه أولى الخطوة عنده، فدعا الملك برلماناً جديداً ليعينه على الخروج من الأزمة، وحرص أتباعه على أن يأتي موالياً للملك، ولذلك أطلق الناس عليهم أسم المتعهدين استهزاء بهم؛ ولكن البرلمان ما كاد يجتمع حتى أظهر المعارضة للملك وللمقربين إليه، وأنكر سياسة الملك الخارجية، فقد كان يريد جيمس مسالمة أسبانيا ومصالحتها، وكانت انجلترة تكره ذلك أشد الكره!
وغاظ الملك أن يكون هذا البرلمان أشد من سالفه عناداً، فأسرع إلى حلة بعد شهرين من اجتماعه، ولما يتخذ قراراً واحداً، ولذلك أطلق عليه أسم (البرلمان العقيم)!
وحكم الملك ست سنوات من غير برلمان، يعمل بمشورة خلصائه حيناً، ويتبع هواه حيناً، يعزل من يشاء ويذل من يشاء، لا يسأل عما يفعل ولا يفكر في عاقبه أمره.
وفي سنة 1621 دعا جيمس برلماناً جديداً، وكانت الحاجة إلى المال هي التي تجعله يدعو البرلمانات ليعتمد على معونة النواب في فرض ما يطلب من الضرائب، وقد تذرع في هذه السنة برغبته في نصرة البروتستنتية وذلك بمساعدة صهره البروتستنتي فردريك حاكم البلاتينات في ألمانيا ضد النمسا وأسبانيا؛ وتحمس البروتستنت في انجلترة لمعاونة زملائهم في القارة، ولكن ما كان أشد غضبهم أن رأوا الملك يجحم بعد تحمس، دون أن يستخذى لما حل بصهره أو يأبه بتألم الشعب لما نال البروتستنت من هزيمة في القارة، وإذ ذاك عاد البرلمان إلى مناوأة الملك في المسائل الداخلية، فطالب بمحاكمة بعض وزرائه وأصفيائه على ما نسب إليهم من تهم أهمها الإثراء بغير حق عن طريق الاحتكار، وكان ثمة عرف قديم أهمل منذ سنة 1450 يتيح للنواب حق الاتهام على أن تكون المحاكمة أمام اللوردات، وأحيا النواب هذا العرف فغضب الملك غضباً شديداً ليحمى وزراءه وأصفياءه، وأعلن كلمة جريئة اهتزت لها البلاد هزة الغضب والألم وهي قوله (إن امتيازات النواب واللوردات ليست حقاً لهم كما يظنون وإنما هي منحة من الملك، وإن عمل النواب ينبغي ألا يتعدى الأمور المحلية كالمناقشة فيما يطلب من المال والإعراب عن آراء ناخبيهم، أما أمور الدولة العليا في السياسة والدين فمن اختصاص الملك وحده. . .) ورد البرلمان بصيحة بالغة الجرأة فقال (إن كافة ما لدى البرلمان من الحريات والامتيازات والأمور المتصلة بالانتخاب وبسير العدالة، إنما هي حقوق قديمة مؤكدة تثبت بمجرد الميلاد لكل فرد في انجلترة ويتوارثها الأجيال، وكل ما هنالك من مسائل خطيرة لمحة تتصل بالملك والدولة والدفاع عن المملكة وعن كنيسة انجلترة ووضع القوانين والمحافظة عليها والعمل على إزالة أسباب الشكوى في الداخل، إنما هي من صميم ما يختص به البرلمان ويدير فيه المناقشات ويتبادل أعضاؤه فيه المشورة.)
وساء وقع هذا بالضرورة في نفس الملك المتجبر فأخذته العزة بالإثم وحل البرلمان ولم يجتمع إلا سنة ومزق بيديه هذا القرار من مضبطة المجلس وألقى ببعض أعضائه في غيابه السجن، وظل يحكم مستبداً بالأمر حتى سنة 1624 حين جمع عزمه وأراد أن يعلن الحرب على أسبانيا، وشعر بحاجته إلى المال، وإذ ذاك دعا برلماناً جديداً لم يكن أقل من سابقيه معارضة للملك المستبد وظل قائماً حتى مات الملك سنة 1625.
ومن عجيب أمر جيمس أنه كان أقل الطغاة خطراً لضعف شخصيته، ولكنه كان مع ذلك أكثرهم استفزازاً للنفوس بتهوره وبكلامه. والحق أنه أساء إلى الإنجليز بما قال أكثر مما أساء إليهم بما فعل؛ كأنما كان مولعاً بأن يستعجل الثورة في البلاد، وكأنما كانت رسالته إشعال نار هذه الثورة؛ فما كان بمستطيع أن يحمل الناس على احترامه بناحية من نواحي القوة والعظمة كما عسى أن يفعل إذا أرادوا أن يغطوا طغيانهم لأنه لم يكن على شيء من هذا؛ ولا كان بقادر على أن يقف في طريق الحرية الثائرة معترضاً لها ليصدها عن وجهتها. ورأى الإنجليز أنفسهم لأول مرة في تاريخهم تلقاء ملك يشعرون باحتقاره، ويسخرون من ضعفه وإن تظاهر بالقوة فما كان ما يزعمه لنفسه من قوة إلا الحماقة في أسخف صورها. . .
أما عن المسألة الدينية في عهده فلم يك جيمس فيها أقل حمقاً ولا أخف طغياناً إن لم يكن أقبح عتاداً وأبغض استبداداً.
(يتبع)
الخفيف
كتب قرأتها:
في غربال ميخائيل نعيمة
للأستاذ حبيب الزحلاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ويقول: (لكل ناقد موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا على الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيّمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي فيما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية، والمحبة للمهنة، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقة الشعور، وتيقظ الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان لتنفيذ ما يقوله لعقل القارئ وقلبه. . .
(لا يكون الناقد ناقداً إذا تجرد من خلة (قوة التمييز الفطرية) تلك القوة التي تبتدع لنفسها مقاييس وأوزاناً ولا تبتدعها المقاييس والأوزان، فالناقد الذي ينقد (حسب القواعد) التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء.
(. . . نحن في حاجة إلى الناقدين لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا، فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا وترهات يومنا، والذي يضع لنا اليوم محجة لندركها في الغد، هو الرائد الذي سنتبعه والحادي الذي سنسير على حدوه.
ويقول: (إذا لم يكن للناقد من فضل سوى رد الأمور إلى مصادرها، وتسميتها بأسمائها لكفاه ذلك ثواباً. إلا أن فضل الناقد لا ينحصر في التمحيص والتثمين والترتيب، فهو مبدع ومولد ومرشد، مثلما هو ممحص ومثمن ومرتب.
(هو مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد، حتى صاحب الأثر نفسه.
هو مولد، لأنه فيما ينقد ليس في الواقع إلا كاشفاً نفسه.
وهو مرشد، لأنه كثيراً ما يرد مغروراً إلى صوابه؛ أو يهدي شاعراً ضالا إلى سبيله.
(رب ناقد لم ينظم في حياته بيتاً، ولا عرف ما في النظم من مشقة الأوزان والقوافي؛ ولا
في لذة الفوز بها؛ غير أن ذلك لا يعوقه عن إدراك ما في الإفصاح عن عوامل النفس من لذة روحانية، ولا يعميه عن تموجات الألوان في الرسوم الكلامية، ولا يصمه عن رنة الألحان في مقاطع الألفاظ والعبارات.
والناقد في إمكانه الدخول إلى مستودع روح الشاعر، وتفقد مخبئاته إلى أن تتولد فيه حالة نفسية كالتي تمخضت في الشاعر بتلك القصيدة؛ فيصبح الناقد كأنه الشاعر وكأن القصيدة من وضعه.
(إن حظ الناقدين من دهرهم قليل، فهم لا يرضون فريقاً من الناس إلا بإغضاب فريق آخر، غير أن القوي بينهم - والقوي من أخلص النية - لا يحفل بمن يرضى وبمن يغضب، لأنه يخدم غاية أكبر من رضاء الناس وسخطهم، ويتمم وظيفة هي من أهم وظائف الحياة. .) ويضيف الأستاذ العقاد على هذا التعريف الشامل للناقد فيقول: (عمل الناقد تصحيح كثير من مقاييس الأدب، وإن من يصحح مقياساً للأدب فقد يصحح مقياساً للحياة).
(. . . كلنا يتكلم عن الشعر؛ بعضنا يؤلهه، والآخر يعشقه والثالث يقرضه، والرابع يقتات ويتنفس به، هذا يشحذ ذاكرته بالمعلقات والموشحات والخاليات واللاميات، يرددها في وحدته ويتلوها على مسمع أصحابه، وذاك يكتب القصيدة بعد القصيدة يستعد لأن ينشر درر أفكاره في (ديوان). . . فلا بدع فنحن من سلالة قوم هم، إذا مات منهم شاعر قام شاعر. . . نحفل بالشعر لأنه لغة النفس وترجمان عواطفنا وأفكارنا. . .) والشاعر هو نبي وفيلسوف وموسيقي وكاهن.
نبي: لأنه يرى بعينه الروحية ما لا يراه كل البشر.
ومصور: لأنه يقدر أن يكسب ما يراه وما يسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام.
وموسيقي: لأنه يسمع أصواتا متوازنة حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة.
وكاهن: لأنه يخدم إلهاً هو الحقيقة والجمال.
. . . إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة، وقلبه يردد صداها، ولسانه يتكلم (بفضلة قلبه).
(ليس الشاعر من يخلق عواطف ويولد أفكاراً، إنما الشاعر من يمد أصابع وحيه إلى أغشية
قلوبكم وأفكاركم، فيرفع جانباً منها، ويحول كل أبصاركم إلى ما انطوى تحتها فتبصرون هناك عواطف وتعثرون على أفكار. . . هي أفكاركم. . ثم يترككم وإياها تستجلون ألوانها، وتتفحصون معانيها. . . عندها تستفيق أنفسنا إذا شعرت برعشة الحياة في داخلها، لأن الحياة فينا لا خارجا عنا، وما التأثيرات التي تحدثها فينا الطبيعة أو الحياة الخارجية إلا منبه لما كمن في داخلنا من العواطف والأفكار)
(الشاعر ترجمان النفس والشعر لغتها. . . خيال الشاعر حقيقته. . . الشاعر الذي يستحق أن يكون شاعرا لا يكتب ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية، ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته ولو كانت عينه المادية قاصرة عن رؤيته.
. . . بين شعرائنا المعاصرين الذين في شعرهم مدى، أي قوى التفكير والعاطفة والبيان، شاعر أقل ما يقال فيه إن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. وبعبارة أخرى، إن في شعره شخصية لا تندغم في شخصية أحد من الشعراء. . .
ما هو الشعر؟ هو نسمة الحياة. والذي أعنيه بنسمة الحياة، ليس إلا انعكاس بعض ما في داخلي من عوامل الوجود في الكلام المنظوم. والشعر الذي ينزل بفكري إلى أغوار تحتها أغوار، ويعلو به إلى سماوات تلوح من ورائها سماوات، ويفتتح لخيالي آفاقا خلفها آفاق، ويفسح لعاطفتي مدى يجرها إلى أمداء، هو الشعر الذي تستأنس به روحي، وتتفتح له براعيم الحياة في داخلي. ولا بد للشعر من عاطفة وخيال يجعل من الشعر والموسيقى توأمين
ما هي الغاية من الشعر؟ قوم يقولون إن غاية الشعر محصورة فيه ولا يجب أن تتعداه (الفن لأجل الفن) وآخرون يقولون إن الشعر يجب أن يكون خادما لحاجات الإنسانية، وإنه زخرفة لا ثمن لها إذا قصر عن هذه المهمة. ولهذين المذهبين تاريخ طويل. . . إنما نكتفي أن نقول إن الشاعر لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه. ولكننا نعتقد أن الشاعر لا يجب أن يطبق عينيه ويصم أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحيه إليه نفسه فقط، سواء كان لخير العالم أو لويله، وما دام الشاعر يستمد غذاء لقريحته من الحياة، فهو لا يقدر إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره. . . لذاك يقال إن الشاعر ابن زمانه.
يطول بي القول إذا أشرت إشارات عابرة، أو وقفت هنيهة عند كل ما يستوجب الوقوف حياله من مواضيع هذا الكتاب الذي لا تبلى جدته، ولا تنصل ألوانه. ويكفي أن أشير إلى موضوعات لا مناص للأديب من قراءتها وإملاء الذهن منها، كموضوع (محور الأدب) و (الرواية التمثيلية العربية) و (المقاييس الأدبية) و (الحباحب) و (نقيق الضفادع) و (الزحافات والعلل) فكلها موضوعات تشخص الأدواء، وتداوي العلل، وتهول بالمبضع والمشرط على الضعفاء من الشعراء والكتاب.
من أوجه خصائص الأستاذ الكبير ميخائيل نعيمة أنه لم يكن في (غرباله) الخالد موضوعياً بحتاً ولا ذاتياً بحتاً، ولا متشرعا يسن السنن ويقنن القوانين، بل كان (معلما) وقف فوق المنبر وقد أخذته الغيرة على الأدب، وثارت نخوته، نخوة الخائف على نهضة العصر أن تلوث في باكورة انبعاثها، فراح يصرخ صرخات الصدق والإخلاص، ويشرح مؤلفات الأدباء والشعراء المعاصرين، على طريقة المثال لا الحصر، ولم يكن (مقلدا قط) بل كان (نعيميا) أي نسيج وحده في القوة والتمييز والابتداع والخلق والرفق والشفقة، وما كان قط مموهاً أو ممالقا، لأن المموه الممالق ليس بأديب ولا بمخلص للأدب، ولو كان من كبار الكتاب والشعراء والمؤلفين.
حبيب الزحلاوي
هذا العالم المتغير:
الصم يسمعون بعيونهم
للأستاذ فوزي الشتوي
قد لا تمر فترة قصيرة حتى يسمع الصم بعيونهم، أو بطريق آخر سيقرءونبعيونهم ما تنطقه شفتاك، وليس من الضروري أن يروك، بل تستطيع أن تحدثهم بالتليفون فيقرءوا صوتك بذات الطريقة التي تقرأ بها هذه الكلمات
وقد يبدو لك هذا الحديث غريباً، فتعال معي إلى أحد المعاهد الأمريكية لنرى رجلا ولد أصم، ومع ذلك يتحدث بالتليفون إلى أحد معارفه عن طريق جهاز حديث يحول الحديث إلى مركبات. وكان الأصم يرقب لوحة صغيرة تترجم عليها الأصوات إلى صور أمواج ظاهرة تتباين باختلاف مقاطع الحروف والألفاظ فيعرف هو معناها ويجيب عنها بصوته كأي إنسان عادي
فالصوت - كما تعرف - يبدو في لغة الطبيعة أمواجاً، وهي نفس النظرية التي تنقل إليك الأصوات في المذياع وفي آلة التليفون، ولكنه بدل أن ينعكس ويرد إلى أصوات تسمع يسجل في الموجات المرئية كما هي في الطبيعة بالاستعانة بصمام يشابه الصمامات المستخدمة في المذياع المصور (التليفزيون)
وهذا الجهاز الجديد في حجم الآلة الكاتبة الجديدة، وعلى لوحته يرى الأصم أمواج صوت محدثه كما يرى أمواج صوته هو، فيصحح أخطاءها إن حدثت، فإنك تعرف أن الأصم غالباً ما يكون أخرس أيضاً، ولا سيما إن كان الصمم قد أصابه وهو صغير فلم يتعلم مخارج الحروف ولا طرق النطق. فتعليم اللغة وإتقانها عادة نحصل عليها بالتقليد، كما أن القراءة والكتابة عادة أيضاً نحصل عليها بالمران، وما هو معروف بطريقة الخطأ والصواب
فالطفل في مهده يسمع أباه وأمه وجيرانه يتحدثون ويحاول تقليدهم، فمرة يصيب ومرات يخطئ، ويستفيد من خطئه كما يستفيد من صوابه، لأنه ينحو إلى تصحيح أخطائه في النطق كما يطمئن إلى نطقه المضبوط، وبالتكرار يتعوده ويصبح جزء منه ومن ثم تختلف اللهجات كما تختلف اللغات
فإن كان الطفل أصم فهو لا يسمع، ومن ثم لا يقلد، أو بطريق آخر يصعب عليه أن يتعلم الحديث فنطلق عليه لقب أخرس؛ ولكن البلاد التي تعنى بتوفير الرفاهية لأكبر عدد ممكن من شعبها تسعى لتذليل هذه العقبة، ومن ثم ظهرت في أمريكا مدارس لتعليم الأطفال قراءة الشفاه، فإذا لعبت شفتاك أمام عيونهم عرفوا ما تقول وأجابوك فلا تكاد تحس بأنهم صم.
ورسم الكلمات أيضاً شيء اصطلاحي تواضع عليه أبناء اللغة الواحدة، فالعربي يرسم الفتحة الطويلة شرطة عمودية نعبر عنها بالألف، ويختلف عنه الإنجليزي أو الصيني وإن كان الجميع يتفقون تقريباً في نطقها. والطبيعة لا تعرف ما تواضع عليه الناس ولها كتابتها الخاصة التي تصور بها مخارج الألفاظ ورسم الحروف.
وكانت كتابة الطبيعة للألفاظ معروفة. ولكنها كانت كثيرة التفاصيل يعز على الناس التفريق بينها وفهمها فهماً دقيقاً حتى تيسر أخيراً تبسيطها باستخدام مرشحات تبرز المقاطع الواضحة، فمن سياق المعنى تعرف ما أقصد بكلمة (كتب) إن كانت كتب أم كتب إلى غير ذلك من الألفاظ.
ولهذا التبسيط ميزته إذ هو يزيل اختلاف اللهجات، فأجريت تجربة على ستة أفراد - ثلاثة رجال وثلاث سيدات - ولكل منهم لهجة تخالف لهجة الآخرين ونطق كل منهم بكلمة واحدة فكان شكل الموجة الصوتية واحداً في الحالات الست برغم اختلافهم في نطقها وحدتها ووضوح النبرات أو اندماجها.
وتكتب الطبيعة المخارج الصوتية بطريقة تخالف الطرق الإنسانية وتبذها في التعقيد، فبعض الألفاظ تظهر كثلاثة خطوط أفقية في أعلى اللوحة وخط في أسفلها وبعضها يبدو كالقارب أو مثل الثعبان مما يتطلب مراناً لا يقل عن المران الذي يتطلبه تعليم وسائلنا في كتابة اللغات البشرية.
وقد قدر تعليم الصم قراءة الكتابة الصوتية بقدرتهم على تعليم لغة حركات الشفاه، فوجد أن الأولى أصعب ولكن مواصلة المران لبعض أفراد فريق التجارب الأول أن يتلقى الإشارات التليفونية كأي إنسان عادي.
ومنذ فترة قصيرة أجريت تجربة هذا الجهاز أمام فريق من رجال الصحافة وكان المتحدثان رجل اسمه بلوم وامرأة اسمها جرين ولدا اصمين، خاطبته السيدة بقولها: (أهلا وسهلا
يامستر بلوم. . . وكيف حالك). أجابها على الفور (إنني بخير يا آنسة جرين أشكرك) واستمر الحديث بينهما مدة تناولا فيها عدة موضوعات وهما متفاهمان كل التفاهم.
ولا تزال هذه الطريقة في تيسير الحياة للصم في مرحلة التجارب وإن كانت الخطوات التي خطتها واسعة يسرت كثيراً من العقبات؛ ولكن القائمين بأمرها يعتقدون أنها ستكون من خير الوسائل لتعليم الأطفال الصم وستخفف كثيراً من العناء الذي يلاقيه من يدربونهم على الحديث ويلقنونهم العلوم.
وهم يسجلون جميع المراحل التي تتناول صقل الجهاز وتبسيطه كما يسجلون مراحل تعليم الأفراد أيضاً ويقارنونه بشتى وسائل التعليم ليعرفوا أخطاءها فينقحوها، وبواسطة هذا الجهاز تيسر إصلاح النطق الفاسد في بعض الصم وإتقانه مما يبعث على الأمل في تعليم الصم في فترة أقصر.
ويتعلم الطفل الأصم في سنته الأولى نطق ستة ألفاظ فقط، فإذا بلغ سنته الثالثة في المدرسة تعلم نطق 50 كلمة، بينما الطفل العادي يتعلم في ذات الفترة 3000 كلمة وهو فرق كبير سيخفف منه ولا ريب رؤية الأطفال تصور موجات ألفاظهم الصوتية ومقارنها بصور الألفاظ الصحيحة.
وأهمية هذا الجهاز الكبرى في سهولة تعليم الأطفال أن ولدوا صما فنادراً ما يتاح للطفل الحصول على أي جانب من التعليم فيظل جاهلا طول حياته ويتعذر عليه أن يجيد صناعة يكتسب بها رزقه فضلا عن إحساسه بالنقص وتكوين مركبه في نفسه مما يقصيه عن المجتمع. وأعرف شابا بلغ العشرين من عمره ولكنه يهرب من أي إنسان يحاول الاتصال به فقد كون لنفسه بما رآه في صغره فكرة جعلته سيئ الظن بالمجتمع وأناسه.
ومن أكبر المشاكل التي يعانيها والده كيف يوفر له الحياة وسبل العيش في الحال وفي المستقبل؛ فالأب يعول همه وهو حي وبعد أن يموت، ولم يدرك وسيلة يمهد بها لمستقبل هذا الابن الذي لا يحسن عملا وليس في وسعه الانخراط في مهنة.
ومثل هذا الأشكال موجود في كثير من بيوتنا المصرية وغير المصرية ولا ندري كيف نحله ولكن تهذيب هذا الجهاز ووضعه في متناول الناس سيتيح فرصة تعليم الأبناء الصم؛ فهم حين يحسنون الكلام يحسنون القراءة أيضاً، وعندئذ تتفتح أمامهم أبواب الفنون والعمل
فيعرفون ما يقوله المدرس وأصحاب العمل
وقد تيسر بوسائل أخرى مكافحة الصمم فخرج من أبنائه المهندسون والأدباء وأصحاب حرف شتى وهم يمتازون دائما بدقتهم وحذرهم مما يعد نتيجة طبيعية لعلتهم.
ولم يزل هذا الجهاز في مرحلة التجارب. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها مائة ألف طفل مصابين بالصمم الكامل وعن طريقه يرجو الأخصائيون تخفيف متاعبهم وجعلهم أعضاء عاملين في مجتمعهم.
ومن البديهي أن الاستعانة بمثل هذا الجهاز ستوفر على كثير من الصم ونتيح لهم حياة أفضل حتى لا يكاد الإنسان يشعر بعلتهم، كما أنهم هم سيشعرون بأن العالم أقل غبنا لهم وأكثر ابتساما، ففي وسعهم بواسطته رؤية التمثيل والسينما وإدارة الأعمال بغير وسيط.
فوزي الشتوي
فكرة وصورة.
. .!
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
هذا خيالك قد بَرَح
…
نسي المحبة وانتزح
وهجرت أحلامي فلا
…
طيف يزور ولا شبح
فكأن قلبي من كؤو
…
س هواك يوماً ما اصطبح
وكأن روحي في سما
…
ئك يا فتاتي ما سبح
وكأن روض غرامنا
…
بشذى الأزاهر ما نفح
وكأن بلبل حبنا
…
بين الجوانح ما صدح
لم يبق بعدك يا فتا
…
تي اليوم حزن أو ترح
ألفيت فيك مشاعري
…
ووجدت فيك مثالها
إذ كنت صورة فكرتي
…
فهويت فيك جمالها
فالصورة الحسناء من
…
ك أنا اكتشفت خلالها
والفكرة الحسناء مني
…
صرت أنت خيالها
لكن عبث بحسنها
…
فعزمت عنك زوالها
إذ خنت رونقها الجمي
…
ل وقدسها وكمالها
فسلبت حسنك فكرتي
…
وبهاءها وجلالها
فإذا أتاك حنين شع
…
ري في النسيم السائر
وذكرت ماضي بهجتي
…
أيام حبي الغابر
وذكرت عهدك في الدجى
…
ذكر الحزين الساهر
فأنا أناجي فكرة
…
لا صورة في خاطري
فالصورة الحسناء فاني
…
ة كأمس الدابر
والفكرة الغراء خا
…
لدة خلود الشاعر
كانت وسوف تظل مل
…
ء خواطري ومشاعري
عبد المجيد بن جلون
البريد الأدبي
حول كتاب (الزواج والمرأة):
إلى الأستاذ الكبير الشيخ محمود أبو العيون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد، فقد طالعت ملاحظاتكم القيمة على كتابي (الزواج والمرأة). وأبادر فأشكركم على كلماتكم الرقيقة التي تفضلتم فوجهتموها إليّ ثناء على مجهودي في الكتاب، ولقد تقبلت هذه العبارات على أنها وجهت إليّ على سبيل المجاملة والتشجيع.
بقي أنكم أشرتم في رسالتكم أنكم كنتم تودون أن أبلغ نهاية الشوط مجلياً، فلا أغلو في الدعوة إلى منع تعدد الزوجات منعاً باتاً لأي سبب من الأسباب، ولاحظتم عليّ أنني أخطأت في فهم آيات القرآن، فربطت بين آيتي العدل في النكاح (وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) لأصل من ذلك إلى حد كاد يلغي معه هذا الحق أصلا
وأبادر فأقول إنني ما نازعت أبداً في حق المسلم في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، ولقد قلت في بدء الفصل الخاص بتعدد الزوجات ما يأتي بالحرف الواحد:(لا جدال في أنه من حق المسلم بموجب نصوص القرآن وسنة الرسول والصحابة ما جرى عليه إجماع المسلمين في فترة من الزمان أن يتزوج أكثر من واحدة، وأن يتزوج اثنين وثلاثاً وأربعاً)
وهذه العبارة صريحة وقاطعة، فلا تحتمل شكا ولا تأويلا في أنني أعترف للمسلم في حقه في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الكتاب والسنة، ولكنني بعد ذلك رحت أبحث الكتاب من الناحية العلمية في وقتنا الحاضر، وأن التعدد في بلادنا قد أوجد مفاسد كثيرة وعمل على تفكيك روابط الأسرة إلى درجة أصبحت تهدد المجتمع المصري ما جعل الإمام المصلح الشيخ محمد عبده يدعو إلى منع تعدد الزوجات عملا بالقاعدة الشرعية (لا ضرر ولا ضرار). وإذن فقد ناقشت الموضوع، لا من حيث الشريعة، ولكن من حيث الضرورات الاجتماعية في وقتنا الحاضر، واستندت فيما دعوت إليه إلى روح التشريع الإسلامي التي تهدف في هذا الأمر إلى التضييق، وتعتبر كل تقليد فيه فضيلة بحيث يمكن
القول بأن تحديد الزواج بواحدة من أهم الأغراض التي تقرها الشريعة الإسلامية وتستحبها.
وقد سقت على ذلك الأدلة القاطعة التي تظهر روح الشريعة الإسلامية ورغبتها في الحد من هذا الحق واستعماله. وقد أشرت في آخر البحث إلى إمكان إعادة النظر في قانون تحديد الزواج والعودة إلى إباحة التعدد متى حتمت ذلك الضرورات الاجتماعية، فقلت بالحرف الواحد:(فإذا تخيلنا ما يشيرون إليه دائماً من حدوث نقص في عدد الرجال خطير، بحيث يصبح عددهم نصف عدد النساء، فإنه من الممكن في مثل هذه الحالة الشاذة أن يعاد النظر في قانون حظر الزواج بأكثر من واحدة. . . فليس هناك ما يمنع تطور القوانين الاجتماعية بحسب الظروف والأحوال، وهذه هي روح الشريعة الإسلامية)
وظاهر من ذلك أنني لست ممن ينكرون حق المسلم في الزواج بأكثر من واحدة بمقتضى الشريعة الإسلامية، وإنني لست ممن يغالون في منع التعدد لأي سبب من الأسباب، وكل ما هنالك أنني أرى في ظروف مصر الحاضرة ما يجعل حظر التزوج بأكثر من واحدة من الأمور المرغوب فيها لإصلاح المجتمع وتثبيت دعائم الأسرة المصرية.
أما في موضوع الطلاق، فإنني على رأيي من أنه يجب أن يتم في حضرة القاضي على أن يكون القاضي ملزماً بالحكم به بعد أن يعجز عن التوفيق بين الزوجين. لقد كان القدامى يعرفون قيمة الكلمة، أما اليوم وقد انحلت الأخلاق، فقد أصبح من الواجب ألا نجعل انحلال الأسرة وقفاً على كلمة يقولها شخص ما في حالة غضب أو نزق، وأحسب أن الشريعة الإسلامية التي تقرر أن أبغض الحلائل عند الله الطلاق، لا تأبى بحال من الأحوال أن يكون الطلاق على يد القاضي
وأنتهز هذه الفرصة لأقدم لفضيلتكم وافر شكري وتقديري، وتفضلوا بقبول عظيم احترامي.
أحمد حسين
أمل الفلاح:
نشرت مجلة (الرسالة) في عددها 670 هذه القصيدة التي نالت الجائزة الأولى في مسابقة الشعر البريطانية، وهي قصيدة جيدة ترفع من قدر ناظمها، وتشهد بعدالة المحكمين في
المسابقة وفهمهم للشعر، غير أنه عن لي فيها مأخذان جديران بالملاحظة: الأولى في قوله:
وما سرى في أفقه كوكب
…
إلا وغض الطرف من نحسه
فإن إقحام الواو بعد إلا لا تجيزه العربية، لأن جمهرة العلماء مجمعون على أنه إذا أتى بعد إلا فعل ماض امتنعت الواو من الدخول عليه، ويشهد لهم قول الله تعالى (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)، وقوله:(وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون)، وقد حكموا بالشذوذ على قول الشاعر:
نعم امرءاً هرم لم تعر نائبة
…
إلا وكان لمرتاع به وزرا
والأخرى في قوله:
واسقوه عذب الماء لا آسنا
…
يرنق (المكروب) من كأسه
فإنهم نصوا على أن (لا) إذا وقعت بين الصفة والموصوف وجب تكرارها قال ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب) ص 346 ج2 ما نصه: (وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفرد خبراً أو صفة أو حال لا نحو زيد لا شاعر ولا كاتب، ونحو جاء زيد لا ضاحكا ولا باكياً، ونحو أنها بقرة لا فارض ولا بكر. وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية).
ومهما يكن من شيء، فإن مثل هذا لا يغض من جمال هذه القصيدة وروعتها.
علي جلال الدين شاهين
الملك:
قال لي صديق أمريكي وفد على مصر في غضون هذه الحرب: (إن المُلك قد أصبح على يد ملككم الشاب فناً جميلا، فقد جمع بين القدوة والمثال)
ذكرت هذه العبارة يقولها رجل تذكى الغربة مع نفسه كوامن التطلع وأنا أكاد أفرغ من دراسة ديوان الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل (الملك)
وما نستطيع أن نضع هذا الديوان مع دواوين شعراء المديح، وهي في العربية أكثر من الكثير، فلم تتغن شاعرية محمود في جلالة الفاروق لأنه (ملك)، ولكنها تغنت بها لأنه (الملك) أي (القدوة والمثال)، وأغلب الظن أنه فطن إلى هذا ساعة هدته فطرته إلى عنوان
ديوانه. . .
وما نستطيع كذلك أن نسلك هذا الشاعر المصري وهو يسجل آيات المصري الأول مع شعراء المناسبات، وهو إنما كان المصري الشاعر الذي استطاع أن يقول ما يريد أن يقوله كل مصر فلا يستطيع!
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يصعد إلى أسوان ويجوس بين مصريين أضناهم المرض والإهمال فواساهم ونبه إلى العناية بهم وبأمثالهم؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك كالغيث في الصحراء على الأعراب البائسين في مضارب خيامهم يسعد فقيرهم ويبرئ سقيمهم ويحي فيهم كيان الأسرة، وهو يمنح الهبات للراغبين في الزواج؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يلتفت إلى هؤلاء الذين أدمى الحفاء أقدامهم، فكانت نداء بالعدالة الاجتماعية ويقظة الشعور الإنساني بهؤلاء المكدودين العاملين؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يمد جناحه على الناقهين لا تستطيع المصحات إيواءهم فيعدمون الغذاء والمأوى؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يكرم النوابغ من شباب المتعلمين، فيدعوهم إلى قصره ويحفزهم على إذكاء شعلة العلم النافع والعمل الصالح؟
ألم يخفق قلبك وقلبي لهذا الملك يوم تداعت الحدود القديمة وتهيأت الوطنية العربية للنهوض، فكان أول من حمل لواءها وجاهد في سبيل تحريرها، فرأينا أرزة لبنان تغرس على ضفة وادي النيل وتحت شرفة الفاروق؟
فإذا لم تتحرك شاعرية المصري العربي محمود حسن إسماعيل بآيات المصري العربي الأول، ففيم تتحرك إذن وبمن تشيد؟!
ويقول بعض الأدباء الذين يغلب النقد على فطرتهم: ما لهذا الشاعر يكثر من ذكر النبت من زهر وثمر، والأرض من نجاد ووديان، والماء من نبع وغدير؟
بل ماله يسرف في ذكر الخمر وكئوسها وأكوابها؟ وماله يسرف في ذكر النيل والهرم؟
حسب أولئك وهؤلاء أن يعلموا أن هذه الوحدات التعبيرية لم تقصد لذاتها، وإنما قصدت للدلالة على وطن أو حالة نفس، فهي رموز مشهورة ودلالات معروفة، وإليك مثالا واحداً:
القصيدة التي عنوانها (فاروق)، فقد أورد فيها كثيراً من هذه الرموز ووضعها في مواضعها الدالة عليها، ولا على الشاعر إذا وقع على الرمز المشهور، وقد تجلت عبقريته في تأليف الصور وجمع الأحاسيس وعرض المعاني، وفي ذلك تتفاوت عبقريات الشعراء، بل وفيه تتفاوت آثار الشاعر الواحد بتفاوت موضوعه وانفعاله.
ومن الإنصاف أن نقول: إن شاعرنا كان شاعر الأمة المصرية العربية بهذا الديوان، وإن هذا الديوان ليس من دواوين المديح، كما يظن الأغرار، وإنما هو من دواوين الوطنية الصادقة
عبد الحميد يونس
عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية
العرب في إندونيسيا وموقفهم من القضية الإندونيسية:
يقطن بلاد إندونيسيا عدد كبير من العرب نزحوا إليها منذ عهد بعيد من جنوبي جزيرة العرب، وقامت بينهم وبين أهل تلك البلاد علاقة وثيقة تقوم على أساس الأخوة الإسلامية الوطيدة، ووقفوا إلى جانب إخوانهم الإندونيسيين تجاه أحداث الزمن خيرها وشرها.
إن رسالة العروبة والإسلام رسالة واحدة هي رسالة المساواة والعدالة والحرية والمثل العليا للإنسانية، فلما قامت إندونيسيا تناضل عن سيادتها واستقلالها وقف العرب هناك إلى جانب إخوانهم الإندونيسيين في هذا النضال، وهم الآن في الجيش الإندونيسي يخوضون معهم غمار المعارك تحت علم واحد، وفي سبيل غاية واحدة، كما أكد لنا ذلك أعضاء الوفد الإندونيسي عند اجتماعنا بهم في القاهرة قبل سفرهم إلى هولندا. ولا غرو فإن الهدف الذي تجاهد إندونيسيا في سبيله هو هدف كل عربي وكل مسلم أينما كان على وجه الأرض، بل هو هدف كل إنسان يؤمن بالحرية الإنسانية الحقة.
وقد سبق للعرب في إندونيسيا في مؤتمرهم الذي عقد بمدينة (سولو) بجاوة في شهر مارس 1946 أن وجهوا إلى سعادة الأمين العام للجامعة العربية، وإلى الدول العربية نداء طلبوا فيه تأييد إندونيسيا والاعتراف بجمهوريتها.
ونحن نكرر هنا هذا النداء إلى جميع الدول العربية، فإنها أحرى من يبادر إلى تأييد
إندونيسيا والاعتراف بحكومتها الجمهورية
عرب إندونيسيا بمصر
القصص
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
عضو المجمع اللغوي الفرنسي
بقلم الدكتور محمد غلاب
2 -
المواسي:
26 مايو
ها أنذا منفردة هذا المساء أيضاً شأني في كثير من أمسية هذا العام، فأين راءول الآن يا ترى؟
لم أسأله هذا السؤال، لأني تعبت من كثرة الكذب المستمر السهل على لسانه، ومن تشابه الجواب دائما، وهو (إني ذاهب إلى النادي، بيد أنه ينبغي أن أكون مخلصة، ففي هذا اليوم وضع نفسه تحت تصرفي وعرض عليّ أن أصحبه إلى منزل أحد أصدقائنا حيث تمثل رواية (الضابط) الهزلية، ولكني علمت أن الآنسة (دي جيفيرني) ستمثل في هذه الرواية دور (الساذجة العصرية) وهذا النبأ سلبني كل رغبة في مشاهدتها. أما راءول، فهو لا ريب ذاهب إليها، وكذلك مدام ديلافو من غير شك. وفي هذه اللحظة هو بجانب إحداهما، وهو يلقي على صدريهما تلك النظرة التي هي مزيج من إعجاب وسخرية، والتي يلقيها دائما على النساء اللواتي يشتهين ولا يحترمهن، أما أنا ففي الوقت الذي كان يحبني فيه لم يكن يلقي عليّ مثل هذه النظرات الساخرة، ومع ذلك فلا ينبغي أن أفكر في شيء من هذا، إذ لديّ ما يعزيني وينسيني كل شيء، وهو طفلي العزيز، ولقد أذنت لمربيته الليلة في أن تتنزه، وإذاً، فأنا التي سألاحظه في سريره.
إن رينيه نائم الآن على ظهره، وهو يضغط شفتيه، ويزقزق من حين إلى آخر كالعصفور الصغير، فيجب ألا نوقظه، لأنه إذا استيقظ من نومه الأول لا يغفو إلا حين يجيء موعد نومه الثاني إذ أنه ينام بنظام وفي أوقات معينة.
إن مربيته تقول لي إن الناظرين إليه في الحديقة العامة يقدرون له أكثر من سنه، ولعلها
تقول ذلك لتسرني، لأنني أتمنى أن يكون أطول الأطفال وأقواهم وأجملهم وأذكاهم من غير استثناء، إذ هذه كبرياء الأم أنانيتها، وهي كبرياء مباحة وأنانية مشروعة فيما أعتقد.
ما ألذ لغة رينيه المكسرة على مسمعي! ولقد تقدمت صحته قليلا منذ بضعة أيام، ومع ذلك فالطبيب يجيء ليعوده في كل صباح. واليوم لم أستطع أن أحصل منه على جواب صريح يطمئنني على صحته كما كنت أرجو. وكلما أفكر في ضعف صحة هذا المخلوق المعبود وأتخيل أن حمى خبيثة تستطيع أن تخطفه مني في بضع ساعات، أصير على أتم استعداد للجنون، وعلى أثر هذا الخيال أنتصب واقفة وأجري إلى مهده دون أن أشعر، ولا أطمئن إلا حين أرى تنفساته تحرك الغطاء بنظام، أو أرى فمه الحالم يلوك في هدوء لغة النوم. وفي أثناء هذا كله، وحين أكون ساهرة بالقرب من سرير طفلي يكون راءول مشغولا بالحصول على وعد من مدام ديلافو، أو بمحاولة الاختلاء بالآنسة جيفيرني لأن الأمر انتهى بي إلى أن أومن بأن هذه المغازلات لم تعد بريئة طاهرة، فتجاربي الشخصية من ناحية، وآراء والدتي من ناحية أخرى قد أزالت من نفسي تلك السذاجة التي كانت تغشيها إلى عهد قريب. لقد كانت والدتي تقول لي دائما:(إذا لاطف زوجك سيدة، فكوني على يقين من أن الفرق بين المغازلة والخيانة منحصر في غيبة الإمكان المادي، فإذا تيسر هذا الإمكان زال ذلك الفرق). آه من المغازلة! تلك الكلمة المرعبة المنافقة التي تخفي تحتها كثيراً من المزعجات التي كلما أسمعها تنطق أمامي أرتاع كما لو أني أسمع إحدى الكلمات الوقحة الجارحة.
لكي أمضي الساعات التي سأقضيها ساهرة إلى جانب سرير الطفل، دخلت حجرة تدخين زوجي التي يستقبل فيها أصدقاءه الأخصاء، لأتصيد منها بعض صحف أو مجلات أتلهى بها، فوجدت (الفيجارو) و (جيل بلاس) و (الجولوا) و (الكلمة الحرة) فجمعتها، لأتصفحها. غير أن راءول - لتفريطه في النظام وإفراطه في حسن النية - كان قد ترك حلقة مفاتيحه معلقة في درج المكتب، ولكن هل فتنتني هذه الفرصة فخطر لي أن أتعقبه؟ حقا إني لا أعتقد ذلك، بل إن الذي استولى عليّ في هذه اللحظة هو حب الفرار من هذه الفتنة فنجوت بنفسي نقية اليدين وعدت إلى حجرتي. وفي الحال دعوت الخادم جوزيف وهو أخلص الخدم إلى زوجي، لأنه في خدمته منذ أن كان صبياً، وهو لهذا كان يعاديني، فلما جاء
أمرته أن يأتيني بالصحف فأتى بها ونزع المفاتيح، وهذا هو الذي كنت أقصده لأنجو من هذه الفتنة الأخلاقية.
فلنقرأ الصحف لنتسلى بها. إن بعض هذه الصحف تضايقني لأنها جدية جافة، أما البعض الآخر الذي يستعذبه شبابنا من الأخوة والأزواج فهو مالا أتذوقه ولا أفهمه. وهناك عدد من الصحف تؤلمني مطالعته لأنني أرى فيه تشويه الأخلاق أو جرح الفضيلة. ومن هذا النوع الأخير هذه الصحيفة التي يقول عنها راءول إنها تُعنَى بأخبار النوادي والحفلات، وأنباء النساء الماجنات. وفي الواقع أنها كذلك حيث أرى الآن فيها هذا العنوان (الرجل الذي قتل كلبه بعد موت زوجته). ولاشك أني لا أفهم هذا النوع الشائك من الأخبار ولا أستحسنه.
وهناك نبأ آخر في هذه الصحيفة يحدثنا أنه قد لُمحَت أمس في غابة بولونيا الآنسة (إيرماديكلوزبيه) و (مارجريت ديبورجوني) و (ميس شامباني). ولست أدري أي شخص يعنيه هذا النبأ الذي استنفذ أثني عشر سطراً؟ لا ريب أنه يعني عشاق هاتيك النساء ولابد أن يكونوا كثيرين حتى تكترث هذه الصحيفة بإرضائهم. فأما السياسة فسنتخطاها، ولننظر حالا في الحوادث المختلفة. هاهو ذا نبأ عنوانه (سيدة غيورة تطلق المسدس على زوجها). مسكينات تلك الزوجات! إنهن في جميع الطبقات من أعلاها إلى أدناها هن المهجورات، ولكن كيف يستطعن التصميم على قتل من أحببن؟!.
والآن لنلق نظرة على رسائل القراء التي يتخاطبون بها عن طريق الصحيفة ففيها شيء من التسلية، لأنها تحوي طائفة كبيرة من المآسي والمهازل.
وبينما أنا أقرأ في هذه الرسائل، إذ رأيت الدنيا تضطرب في عيني فجأة، وأحسست كأن قلبي يتشرب كل ما في جسمي من دم، وسقطت الصحيفة من يدي، ومال جسمي على المقعد بعد أن فقد توازنه الطبيعي. وظللت كذلك ساعة من الزمن، فلما عدت إلى نفسي تناولت الصحيفة من جديد وحدقت في نفس السطر الذي قلبت كياني مطالعته، وهو يشتمل على ما يلي:(ر. - سرور! غداً مساء (السبت). إني نجحت في أن أتخلص من هذا الريف المزعج، وسأكون في العش المختار في الساعة العاشرة مساء، ولكن لا تجيء إلا إذا كنت قد صممت على أن تكون عاقلا (الإمضاء) سوز).
لماذا اقتنعت في الحال ولأول وهلة أن حرف الراء رمز لراءول زوجي، وأن سوز هي
سوزان ديلافو؟ فأما التعقل المنطقي فليس ما يؤيدني في هذا اليقين، إذ لا أعرف أن مدام ديلافو غائبة عن باريس، بل إنني قلت لراؤول محاولة المزاح قليلا: إنك سترى في حفلة الليلة سوزان الجميلة، فبتسم ابتسامة لم تلبث أن اختفت خلف لحيته السوداء ولم يحاول الدفاع عن نفسه.
فهل كان يجهل غيابها أو كان يسخر مني؟ لا أدري، ولكن الذي أنا واثقة منه هو أن هذه الرسالة الصغيرة موجهة إلى راؤول من مدام ديلافو، وأني موقنة بهذا إيقانا لا يقبل الجدل وعن طريق خفي. إني أعيد قراءة تلك السطور المرعبة كلمة كلمة؛ وإن كل عبارة من عباراتها تبدو لي كأنها كائن حي. يا لله! إنها مبدوءة بهذه اللفظة الماجنة:(سرور) حقاً إنه لسرور حينما تنفلت من زوجها معتذرة إليه لا أدري بأي كذب، لتلقي بنفسها بين أحضان أدنأ الجرائم وأشنعها. . . سأكون في العش المختار. . .!. إنني محتفظة بعواطفي، ومع ذلك فلم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. (العش المختار!) إذاً، إن ما كنت أخشاه منذ زمن لحق، وإنه لحق أيضاً أن الرجل الذي منحته نفسي بواسطة الزواج يستمتع بحب في باريس، وفي منزل آخر غير الذي أعيش فيه أنا وطفلي. غير أن الجملة الأخيرة من هذه الرسالة وهي:(لا تجيء إلا إذا صممت على أن تكون عاقلا). هذه الجملة - على ما بها من رفع الكلفة المقززة - تركت في نفسي شيئا من الأمل، إذ لو أنها تحبه لما قالت له هذه الكلمة. هاهي ذي حاضنة الطفل قد عادت من دار التمثيل، فلنرسلها إلى غرفتها لتنام، أما أنا فسأقضي الليلة هنا إلى جانب مهد ابني، ولعل وجودي بجانبه يحول بيني وبين اليأس، وأما راؤول فلا أستطيع أن أراه اليوم مطلقاً. أوه يا عزيزي المواسي الصغير!.
3 -
القلق:
27 مايو
مبدأ حزين ليوم حزين، فالسماء تمطر، والمطر الحزين يتفق مع ما أنا فيه الآن من حزن وألم. وكل شيء يثقل كاهلي وجميع العوامل السيئة قد تكاتفت على إنهاكي، إذ ان الطفل قد أمضى ليلة سيئة وكان في نهايتها شديد الهياج، مرتفع الحرارة وإن كانت حالته قد تحسنت قليلا في هذا الصباح. وأنا أنتظر الدكتور (روبان) بفارغ الصبر. أليس ذلك كثيرا عليّ يا
إلهي؟ أو ليس فوق طاقتي أن ترسل إليّ هذه المحن الأخرى على أثر الأولى؟ لأني الآن لم أعد أشك في صحة ما ظننته، إذ قد سألت راؤول في هذا الصباح بعد أن حاولت أن أكون هادئة فقلت: هل مدام ديلافو كانت أمس في تلك الحفلة؟ فتردد لحظة قبل أن يجيبني ثم قال: (لا أظن ذلك، لا، إنها لم تكن هناك يقينا).
ولكني ألححت قائلة: (هل كانت غادرت باريس؟)
فلما سمع هذا سؤال ظهرت على وجهه حركة جزع ثم قال في غضب: - لا أدري يا صديقتي العزيزة! وهل أنا حارس مدام ديلافو؟ ومع هذا فإني أتوسل إليك أن لا تحدثيني عن هذه الإنسانة التي تبغضينها ولا أدري لماذا، لاسيما وأنها تحرص دائما على أن تكون في حضرتك غاية في الكمال.
في هذه اللحظة بألوان من الحقد تتجمع في نفسي حتى منعتني من أن أجيب على عبارته الأخيرة؛ بل أني لم أرد أن أنبئه بقلقي على الطفل، فليكن مايكون، وليعبث كما يشاء، ولينغمس في اللهو خارج المنزل، فأنا أريد أن أحمل مفردة عبئ قلقي، والطفل لم يعد ابنه فسأتولى وحدي شؤونه.
كانت الساعة العاشرة صباحا حينما دخلت الخادمة إلى غرفتي وأنا غارقة في هذه الهموم ومعها علبة مليئة ببعض المشتريات، ونبأتني أن عاملا من أحد المتاجر الكبيرة التي نعاملها قد حملها إلى المنزل وكلفها إيصالها إليّ، ثم قالت الخادمة: إن العامل منتظر خارج الباب، لأنه ليس متأكدا أن هذه العلبة مرسلة إلى سيدتي، فتناولتها فإذا عليها هذا العنوان:(مدام دي بواستيل) رقم 13 شارع فيزيليه.
هذا هو إسمي، ولكنني أنا أسكن (فوبورسان أو نوريه) لا شارع فيزيليه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اسمي في هذا المتجر (الكونتيس دي بواستيل) تبين أن في الأمر شيئا أو أن هناك خطأ، فدعوت العامل وقلت له:
- إنني لم أوصي بشيء من متجركم، فاحمل هذا وانصرف لأني لا أدري ما هو.
- يا سيدتي: - نحن شككنا ذلك، وظننا أن هنالك خطأ، لأن عنوان سيدتي عندنا، بيد أن سيدي الكونت جاء بنفسه فأوصى بهذا الطلب وأعطانا هذا العنوان؛ ولكن بما أني ذهبت إلى شارع فيزيليه فلم أجد أحدا في المنزل الذي الذي عينه لنا. . . وفي هذه اللحظة امتقع
لوني، فأدرك العامل أنه اقترف غلطة كبرى، فصمت فجأة، لأنه فهم كل شيء، فتحاملت على نفسي وقلت له: حسن ما تقول، ولكن احمل هذا فإنه ليس لي. قلت ذلك للعامل وانزويت في غرفتي واستسلمت إلى البكاء.
وهكذا بعثت المصادفة إلي بسر زوجي، فأنا كنت أعرف أن مدام ديلافو قد حددت هذا المساء لاجتماعها به.، والآن أعرف كذلك أين مكان هذا الاجتماع، إذ أن راؤول قد بلغ به الاستخفاف إلى حد أنه لم يحاول إخفاء اسمه في هذا المنزل الذي اختاره للخيانة الزوجية. ولا ريب أن شريكته في الجريمة تدعى في ذلك المنزل بالكونتيس دي بواستيل، فماذا يجب عليّ أن أعمل؟ أليس من واجبي أن أحول بين زوجي وبين الإجرام؟
نعم قد كنت فيما مضى أمتعض من أن أقوم بتحقيق هذه الخيانة وأن أتعقب الجناة، ولكن ما الذي يمنعني الآن من أن أنذره ومن أن أجاهد ضد هذه المرأة، لأصرفه عنها؟
إنني أستطيع حين يعود راؤول للغداء أن أقول له: إني عرفت كل شيء، وأن أشرح له المصادفة التي أنبأتني بالرغم مني. أجل سأشرح له ذلك، ولكنه سينكر، فقد تعلم الكذب بمعاشرته تلك المخلوقة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فأنا أصبحت لا أحسن المناقشة معه، ولهذا أخشى أن تنتهي المسألة بمشهد عام. وعلى أثر ذلك سيخرج من المنزل جاذبا الباب وراءه بقوة كما هي عادته، ثم يذهب ليتعشى في النادي ويتجه بعد ذلك إلى شارع فيزيليه، ليلتقي بعشيقته. فمن الخير إذاً، ألا أقول له شيئا وأن أسبقه إلى ذلك المنزل فأقف أمام الأمر الواقع بين زوجته وعشيقته، وإذ ذاك لا يستطيع أن ينكر، وله في تلك الساعة أن يختار بيني وبينها. ولكن ما أفظع الانتظار في الطريق وما أشنع تلك المقابلة وإن كانت هي الواجب!
الساعة الثانية بعد الظهر من اليوم نفسه:
- لقد جاء الطبيب ولم يطمئني عن صحة الطفل فحالته سيئة ودرجة حرارته مرتفعة وهو يبكي ويرتعد، وكلما ألمس أي عضو من أعضاءه الصغيرة أجده يتصبب عرقا. ولقد سألت الطبيب قائلة: هل هو في خطر؟ قل لي الحقيقة، إنني أريد أن أعرف.
فهز رأسه وظهرت عليه علائم الشك ثم قال:
- خطر. . . يا إلهي. . . أنا لا أدري. . . في هذه اللحظة هو محموم، وهذا كل شيء،
والحمى يمكن أن تذهب كما جاءت.
فسألته قائلة:
- وإذا لم تذهب؟
- أوه! إذا لم تذهب، فإنها ستتطور إلى مرض من أمراض الأطفال مثل الحصبة أو الحبوب القرمزية.
- إني آمل على الأقل أن لا يكون الجدري.
الجدري! هذا هو الذي يروعني، إذ قد قرأت في الصحف هذا الصباح أن ذلك الوباء قد بدأ يقل، ولكن لا يزال له ضحايا. فهل الإله الذي سلب من تلك الأمهات المسكينات نعمة سرورهن وهي أطفالهن، سيعافيني أنا من هذه الكارثة؟
إن الطبيب لا يعرف ماذا يقول، ولهذا ينطق بمثل الكلمات التي أنطق بها لأسلي بها نفسي، وهي: أن الطفل في صحة حسنة، وأن مرضه إلى الآن ليس خطرا، ولكن من المؤسف أن كل ما يقال لي لا يطمئنني.
اليوم لم نكد نتحادث على مائدة الغداء، ومع ذلك فقد لاحظت على راؤول اتجاها حسنا ينعطف به نحو الاستسماح وكأنه كان يقوم بمجهود، لأغفر له سوء المزاج الذي ظهر منه في هذا الصباح أو الخيانة التي ينتويها في هذا المساء، وقد سألني قائلا:
- هل الطفل أحسن حالا؟
فأجبت قائلة:
- لا، بل بالعكس، إن ليلته كانت سيئة، وإنني لقلقة. قلت هذا والدموع تطفر من عيني غضبا بقدر ما كانت تطفر حزنا. فلما رأى هذا نهض واقفاً وأراد أن يقبلني، وإذ ذاك تذكرت تلك المرأة التي يلمس خديها وشفتيها أيضا، فابتعدت سريعاً مدفوعة بغريزتي ولم يلمس مني إلا شعري، فعاد إلى مقعده ولاحظت عليه في هذه اللحظة أن لونه صار شديد الامتقاع، وتملكه الانفعال حتى كسر قاعدة كوبته، ثم ظللنا ساكتين إلى أن انتهى الغداء. وعلى أثر ذلك، وفي نفس اللحظة التي أخذ يشعل فيها لفافته صعدت إلى حجرة الطفل.
كن رؤوفا بي يا إلهي وساعدني وامنحني الثقة والشجاعة اللتين تمنح المرأة المتدينة إياهما في وسط ما تبتليها به من أحزان، فأنا أشعر في قرارة نفسي أن قوتي لا تكفي لمقاومة
هجوم كل هذه المقلقات، وأنا أعلن ضعفي وانهزامي أمام هاتين المحنتين! يا إلهي اعف عني، فأنا لا أعرف إلا شيئا واحدا وهو أني أسألك أن تنجيني منهما كلتيهما، فليس عندي من الشجاعة ما يجعلني أحتمل أن يسلب مني راؤول ورينيه، إنني أفضل أن تصعقني أنا، لأني عديمة النفع في هذه الدنيا، ولأن أقدم إليك حياتي عن طيب خاطر خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة طفلي.
(يتبع)
محمد غلاب