الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 673
- بتاريخ: 27 - 05 - 1946
الله وما بعد الحرب!
للأستاذ عباس محمود العقاد
سئلت في أواخر الحرب عن الموضوعات الأدبية التي ستكثر الكتابة فيها بعد عودة السلام، فقلت: أنها هي الموضوعات الروحية والموضوعات الجنسية.
وسبب الإكثار من الكتابة في كلا الموضوعين واحد وهو الحيرة وقلق النفوس والرغبة في السلوى والاستقرار.
فالذين فقدوا الأعزاء يحبون أن يشعروا بعالم الأرواح ليشعروا (بوجود) أولئك الأعزاء وأنهم غير مفقودين.
والذين يئسوا من حكمة البشر يحبون أن يركنوا إلى حكمة الله، لأنهم لا يستريحون إلى اليأس من الأرض واليأس من السماء.
والذين غلبتهم الأحزان والآلام يحبون أن يغلبوها بقوة الإيمان، وأن يقابلوا شيئاً من الخوف بشيء من الاطمئنان.
قلوب تشعر بالهم والقلق وتحب أن تشعر بالسلوى والاستقرار، لهذا يكثر البحث عن الأرواح والكتابة في مباحث الأرواح ولكن القلق الإنساني قد يلتمس السكينة من طريق غير هذه الطريق.
فالأجسام المستثارة تطلب الراحة فيما يلهيها وما يلذها، ويهيئ لها الأسباب في مجال اللهو واللذة أن الحرب تركت مئات الألوف من الفتيات بغير أزواج وبغير عائلين، وأنها تركت ألوف الألوف من الدنانير في أيدي العاطلين أو أشباه العاطلين، وأنها علمت الناس أن يحفلوا بساعتهم ولا يحفلوا بما بعدها، وأن يستمتعوا بالحياة لأنهم على نذير في كل لحظة بفقد الحياة.
لهذا يكثر الإقبال على موضوع الجسد كما يكثر الإقبال على موضوع الروح، ولهذا توقعنا أن تنجلي الحرب عن إقبال عظيم على متاع هذه الدنيا وإقبال مثله على متاع السماء.
وانتهت الحرب فرأينا أول الشواهد على شيوع الدعوة الدينية من قبل العالم الإسلامي في الهند خاصة، وسرنا أن يتيقظ المسلمون في هذا المجال مع الإيقاظ، فإن النوم في هذا العصر يضيع على صاحبه الحقيقة ويضيع عليه الأحلام.
وجعلنا كلما قلبنا مجلة من المجلات السيارة في الغرب رأينا فيها دليلاً على هذه اليقظة الروحية وهذا الشوق العريق في النفس البشرية إلى عالم غير عالم الحس والعيان.
ومن أمثلة هذه اليقظة تحفز العالم البروتستانتي في الولايات المتحدة لاستعادة سلطان الكنيسة على اتباعها وإدخال التعليم الديني في جميع المدارس العصرية. فإن رؤساء الكنيسة هناك يستعيرون عنوان ويلكى (للعالم الواحد) لينشروا الدعوة إلى (عالم واحد في ظل العقيدة الدينية) ويودون لو هيأت الحرب ومنازعاتها فرصة للسلام بين الأديان أو فرصة لاتفاق الناس في عالم الروح.
قال خطيب منهم في المجمع البروتستانتي بمدينة نيويورك: (إن الدين خليق أن يكون أكبر القوى الموحدة بين الأسرة البشرية. فهي تعرف به قوة إلهية واحدة وقانوناً أخلاقياً واحداً وأسرة واحدة من بني الإنسان. ولكنه على نقيض ذلك كان عاملاً من أكبر عوامل التفريق والتمزيق بين كل قبيل، ومهد الغدر لذلك الأيرلندي الساذج الذي أحزنه طول الخصام بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية فقال: ليت الله يجعلنا كلنا ملاحدة ننكر وجود الله أصلاً لنعيش معاً بعد ذلك كما ينبغي أن يعيش المسيحيون. . . في سلام!)
وقال هذا الخطيب - هاري ايدسون فوسديك - إنه لا يعني بالوحدة الدينية أن المسيحية مثلاً تعلم أتباعها ما يتعلمه البوذيون من ديانتهم أو من البيئة البوذية، ولكنه يلاحظ أن الذين سعدوا بعشرة أناس من البوذيين أو المسلمين المهذبين يحسون شيئاً من القرابة بين المؤمنين بهذه العقائد الدينية، ويرجون صادق الرجاء أن تتيح لهم هذه القرابة سبيل التعاون على بلوغ الغاية المشتركة التي ننشدها أجمعين.
وعند الخطيب أن الخلافات الدينية قد نشأ أكثرها من الجدل العقيم، ويضرب لذلك مثلاً رواه عن لويد جورج السياسي البريطاني المشهور بفكاهاته الجدية وفكاهاته الهزلية على السواء. قال إنه كان يسوق سيارته في بلاد الغال الشمالية ومعه صديق يتحدث إليه في شؤون الديانة، فقال السياسي الكبير: (إن الكنيسة التي أتبعها تتمزق الآن بنزاع عنيف على مسألة التعميد، فطائفة منها تقول إن العماد إنما يحصل باسم الأب، وطائفة أخرى تنكر هذا وتقول: بل يحصل العماد إلى اسم الأب ولا يحصل بحرف الباء. وإنني لا أكتمك أنني تابع إحدى هاتين الطائفتين وإنني شديد الغيرة عليها وعلى استعداد للموت من أجلها.
ولكنني نسيت أي الطائفتين هي التي أتبعها. . . طائفة (أمي) أو طائفة الباء!
وما رواه لويد جورج من باب الفكاهة هو الحاصل جداً وفعلاً في جميع الديانات الكبرى. فإن الشيع التي تتفرق فيها إنما تختلف أحياناً على شيء أيسر من الاختلاف بين حرفي الجر الصغيرين، ولكنه اختلاف يكفي كل طائفة من طوائفها لتكفير الطائفة الأخرى وإرسالها مع اللعنة إلى قرارة الجحيم!
وإذا جاز هذا في عصر الجدل فإنه لغريب جد الغرابة في عصر المشاهدات والأعمال. فقد كان (البرهان الجدلي) أساس المعرفة كلها سواء في العلوم أو في العقائد والأخلاق. فأما وقد أصبح لهذا (البرهان الجدلي) شركاء لا يقبلون منه استبداده المطلق فقد آن لحروف الجر وما شابه حروف الجر أن تقنع بمكانها في الأجرومية، أو أن تستغني بما يسفك حولها من المداد عما كان يسفك حولها من الأرواح.
وقد أشار الخطيب الأمريكي بحل لهذه المعضلة لا يبشر بالخير الكثير، لأنه يرجع بالخلافات التي من هذا القبيل إلى إباحة التفسير الديني لمن يشاء من قراء الكتب المقدسة، فكلما أتفق خمسة أو ستة على تفسير جديد لكلمة من كلمات الإنجيل خرجوا من كنيستهم وأنشئوا لهم كنيسة جديدة تنتمي إلى رئيس جديد، حتى عدت هذه الكنائس المتشعبة بالعشرات وصح فيها قول لويد جورج إنهم يختلفون ثم ينسون سبب الخلاف.
وإذ كان هذا هو الداء فالعلاج الذي يومئ إليه الخطيب أن يناط التفسير بالقادرين عليه ولا يستباح لكل مستبيح من العامة وأشباه العامة، فينحصر الخلاف إذن في أضيق الحدود. ولكنه علاج غير جديد في الديانات، فقد كان (حق التفسير المحصول) علة الانشقاق ومبعث الهجوم على حرية التفسير.
وإنما العلاج الجديد الذي يرجى أن يفيد فيما نعتقد هو توسيع حق التفسير حتى لا يكون فيه حرج على أحد ولا يوجب من فريق أن يعادي الفريق الآخر كلما عارضه في تفسيره. فتوسيع الأفق هو خير علاج لضيق الحظيرة، وقلة الصبر على فوارق الكلمات والحروف، وإقامة الدين على الأسس العامة هو العاصم للدين من تفتيت العقائد في الزوايا والسراديب. فليشمل الدين جميع المختلفين إذن ماداموا متفقين على الإيمان بقواعد الحق والخير والصلاح، وليذهب عصر الجدل الكلامي ليخلفه عصر الوحدة الواقعية التي تقوم على
اتفاق العقول في النظر إلى حقائق الوجود.
وقد أحسن الخطيب الأمريكي في كلامه عن الفصل بين الدولة والكنيسة لأنه يقول إن الفصل بينهما قاعدة أساسية في حكومة الأمة الأمريكية، ولكنه ينتقده إذا فهم القول من معناه أن تعليم الأديان محرم في المدارس وأن تعليم الإلحاد فيها مباح ومطلوب.
ففي الوقت الذي تدرس فيه كتب (فرويد) ويتعلم منها الناشئ أن الديانات وهم من أوهام العقل الباطن وحيلة من حيل الغريزة الجنسية، ينبغي أن يتفتح عقله لسماع كلام غير هذا الكلام عن دعاة الروح وسير القديسين والأنبياء، وينبغي أن يتوازن تفكيره بين وجهات النظر حتى لا يصبح التحيز إلى جانب الإلحاد آفة عقلية شراً على رأس الناشئ من التعصب الديني الذميم، ومن ضيق العقل في ناحية الإيمان والتسليم.
وهذا كله صحيح لا يختلف فيه المنصفون. فمهما يكن من شأن الدين فهو تراث إنساني عريق الأصول شديد السلطان على العقول، فليس في وسع أحد أن ينساه أو يتناساه في دور التنشئة والتعليم. وليس من العقل نفسه أن يستخف بقوة كهذه. القوة كأنها قد خرجت خروج الأبد من ميدان الحياة الإنسانية فإن الذي يريد أن يخرجها خروج الأبد لم يلبث هو نفسه على قدمين بضع سنين!! وقد رأينا المبشرين بالفلسفة المادية في روسيا الشيوعية يحنون الرؤوس أمام هذه القوة ويفسحون لها الطريق مكرهين، فإذا كانت في هذه التجربة عبرة (عقلية) و (علمية) فعبرتها العقلية والعلمية أن قوة الدين حقيقة راسخة لا يستأصلها كل من يريد، وهو لا يدري ما يريد.
وفي مجلة أمريكية - هي مجلة هاربر المشهورة - بحث آخر عن موضوعين: موضوع التقاليد الدينية وموضوع الغريزة الجنسية، يقول فيه الكاتب - جون مكبارتلاند - إن كنيسة الشعب الأمريكي في الأجيال الثلاثة الأخيرة قد تغيرت مدى بعيد، ولكن العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية لم يصاحب هذه التغيير إلى أقصى مداه ولا إلى بعض مداه. فنحن أمريكين اليوم نحب النهود والأفخاذ لأننا نشاهدها كلما فتحنا الشرفة أو ذهبنا إلى الصور المتحركة أو نظرنا إلى غلاف رواية، ولكننا نستعيذ منها في (البيئات المحترمة) كأنها رجس من عمل الشيطان، فما مصير هذه (الثنائية) الكاذبة في المعيشة والأخلاق؟
مصيرها تدل عليه وثائق الزواج والطلاق. فقد أحصيت نسبة الطلاق في أربعمائة ألف
وخمسين ألف زواج فإذا هي تربى على تسع وتسعين في المائة. . . فهلا تكفي هذه النسبة لإعادة الحجر على الموضوعات الجنسية أو عندك أيها القارئ - كما يسأل الكاتب الأمريكي - علاج جديد؟
ونقول: بل العلاج الجديد غير بعيد.
فالعلاج الجديد في عالم الروح، ولكنه الروح الرشيد الذي لا ينكر الجسد كما أنكره الأقدمون، وفي هذا الميدان متسع لدعاة الإسلام (الراشدين) الذين يوسعون الآفاق ولا يضيقون الخناق، لأن الإسلام دين يعرف للجسد حقه ولا يناقض بينها وبين حقوق الروح.
عباس محمود العقاد
3 - في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل
الجامعة الأزهرية
للأستاذ محمود أحمد الغمراوي
معذرة أيها الأستاذ الكريم، وعتباً!
لم أقصد - شهد الله - أن أهمز أو ألمز، أو أرمي بعبارة، أو أومئ بإشارة، إلى ناحية الرسالة، أو مكان رئيسها العزيز الكريم. وما كنت يوماً بذي وجهين، ولا أنا ممن يتكلمون بلسانين، وأرجو أن يكون الله يعلم ذلك مني ولم يكن للرسالة عندي، وليس لصاحبها الجليل في نفسي، إلا التقدير والاحترام؛ وإلا ما عنيت من أنه أبن الأزهر البار، البارع الفن، المعتدل الرأي، الذي يعده الأزهر فيمن يعدهم من مفاخره، ويعتز بهم جنوداً يدفع بهم عن كونه في مستقبله وحاضره!؟
إنما كان من سوء حظي وسوء حظ الأزهر أن جرى قلم الأستاذ الفاضل برأي لم يسبق للأزهر أن سمعه فيما سمع من دعاوى تقام عليه، وتهم توجه إليه، وسهام تصوب عليه. وآخر ما كان يجري على ألسنة أولئك الذين يرون الأزهر قذى في الأعين وشجى في الحلاقيم: أن الأزهر تنقصه الثقافة، وتعزه اللباقة والحصافة: وأنه لابد من توحيد تخريج المعلم، ليصقل خريج الأزهر بصقال العصر الحديث. هذا اشد ما كانت تلوكه ألسنة المتجنين على الأزهر أو ترمى به نبال الجانين عليه: سمعناه غير مرة فيما شهدناه من مجالس اجتمعت فيها لجان ألفت لبحث ما كان يسمى بمشكلة تخريج المعلم، على أننا لم نسمع من أحد ممن جلسنا معهم من أعضاء هذه اللجان وتحاورنا معهم: لم نسمع من أحد من هؤلاء، وهم من كبار رجال المعارف المسؤولين، وعظمائهم المعدودين، لم نسمع كلمة منهم تومئ إلى مثل ما جاء في الرسالة من أنه يجب تعديل نظام التعليم في الأزهر تعديلاً يقتطع ست سنين من مدة التعليم فيه لتحقق وحدة الثقافة التي تتوقف عليها وحدة الأمة.
فهل يلام الأزهر إذا جزع لسماع هذه الكلمة وإذا رآها مكتوبة في إحدى صفحات الرسالة بقلم مديرها المفضال؟
يا لهول الموقف! نظام الأزهر القائم يأبى وحدة الثقافة ولا يرضاها، ووحدة الثقافة تتوقف عليها وحدة الأمة!
أليس معنى ذلك أن نظام الأزهر القائم خطر على وحدة الأمة لأنه يأبى ولا يرتضي الثقافة التي تتوقف عند وحدة الأمة؟ وهل هذا إلا إلقاء الأزهر في فوهة المدفع؟ ومن ذا يستطيع أن يكون حجر عثرة في سبيل وحدة الأمة؟
وهل الأزهر: أرضه، وسماؤه، وبناؤه، ورجاله، وأبناءه إلا فداة الوطن والعرش، وبناة وحدة الأمة: يفدون الوطن والعرش بحياتهم وأرواحهم، ويشيدون بناء وحدة الأمة بعقولهم وجسومهم، ودمائهم!
أجل، إنه كان من سوء حظي ومن سوء حظ الأزهر أن تسطر هذه الكلمة بقلم الأستاذ الزيات، وأن تقرأها أعين الناس على صفحات الرسالة. فإذا كان فيما كتبت ما رأى الأستاذ فيه تعريضاً، فإن ذلك موجه إلى الرأي وحده؛ وليس موجهاً إلى رائيه أو حاكيه، فإني لا أرتاب في حسن نيته، ثم أعود إلى الموضوع.
2 -
إنشاء جيل قادر على الاجتهاد والتجديد:
إنشاء جيل من العلماء العاملين القادرين على الاجتهاد والكشف عن حكم الدين ويسره، وسماحة الشريعة فيما تضمنته من الأحكام هو أمنية كل مؤمن ونشدة كل مسلم يود أن تكون الأمة الإسلامية حيثما توجد جماعاتها عزيزة في أوطانها، سعيدة في حياتها، تستمد القوة والعزة من اعتصامها بالدين، وتجد طمأنينتها وسعادتها في ظل شريعته الوارف الظليل، وتدفع الظمأ بما تستنبطه من ينابيع هذه الشريعة العذبة الموارد الغزيرة الفيضان. ولقد كان الأزهر من أهم المدارس الدينية التي يرجى أن تسعف الأمة بحاجتها من أولئك العلماء المبرزين، وقد أخرج للأمة كثيراً من كبار رجال العلم في مختلف العصور ممن يشار إليهم بالبنان من الفقهاء وحفاظ الحديث، وعلماء اللغة، ورجال القضاء ممن أوفوا بطلبة الأمة إلى هذا العهد الأخير على قدر زمانهم.
أما الاجتهاد في الدين فليس من حق الناس في هذا الزمان أن يتطلعوا إليه، أو يتكلموا فيه وهم لا يعنون بشؤون دينهم، عنايتهم بنظافة أحذيتهم؛ وقد جعلوا من سفائن البحر مراكب ليقطعوا بها المهامه والفلوات، وأعدوا من النوق والأبعرة سفناً يشقون بها عباب بحر الظلمات. ثم هم لا يريدونه ديناً يرقى بالإنسانية إلى ذروتها العليا، ويسمو بآخذيه إلى أعلى المنازل العزة والقوة والمجد، فلا يرضى أن ينزلوا منها في المنازل الدنيا!. ولكنهم يريدون
أن يتخذوا لهم ديناً على غرار ما كان يتخذ بعض العرب معبوديهم في أزمنة الجاهلية؟
يريدون أن يستخدموا لهم ديناً من الحلوى، إن طاب لهم أكلوه وإذا لم يوافق شهواتهم تركوه!
يريدونه ديناً يحطب في حبال رغباتهم؛ ويضرى ما شره من شهواتهم؛ ويطعمهم الخبيث من لذاتهم، فهم في غيهم يعمهون، وما الله بغافل عما يعملون.
ثم أعود إلى ما كنت فيه من الحديث عن الأزهر الذي قد وضع في مفترق الطرق. فإذا كانت مهمته وغايته هي - كما قال الأستاذ الزيات بحق - أن يفقه الناس في الدين وفيما تفرع من أصوله من شتى العلوم، وأن يعلم اللغة وما أتصل بآدابها من مختلف الفنون - فالأمر بين؛ والطريق غير مشتبه؟ فلتترك له الأنظمة وأقسامه الابتدائية والثانوية تعد الطلاب لدراساته العالية في الكليات الأزهرية مع تعديل قليل في وضع المواد التي تدرس في هذه الكليات وليحمل الطلاب على احترام النظام ودراسة المقررات. وبقاء الأقسام الابتدائية والثانوية على نظامها الحالي الذي يعد الطلاب للدراسة في الكليات الأزهرية هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن الأزهر من أداء مهمته وتحقيق غايته، كما أن نظام الدراسة في المدارس الابتدائية والثانوية يعد طلاب هذه المدارس للدراسة في كليات الطب والهندسة والعلوم والزراعة وغيرها كما هو واضح من نظم الدراسة ومناهجها في هذه المدارس. محاولة جعل النظام الدراسي في معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية في غرار نظام المدارس الابتدائية والثانوية التي لوزارة المعارف يجعل من الخرافة التاريخية التي تروى للأطفال في قصة الغراب والقطا قصة واقعية نرجو أن لا تمثل في الأزهر.
إن الأزهر لا تزال فيه بقية من الذماء، وصبابة في الإناء، هي هذه البقية الصالحة من الغراس النافع الذي امتدت بالإحسان به إلى الدين وإلى الوطن الإسلامي العام يد الملك العظيم المغفور له الملك فؤاد، طيب الله ثراه، وخلد بأعماله الصالحة الباقية ذكراه، وجعل الجنة مأواه.
فهذا الغرس الصالح الذي غرسته يد فؤاد المباركة، وهذه الصبابة النافعة الباقية من بركات يده وسيبه الجزل جديران بأن ينالا حظهما من عطف شبله العظيم، ورعاية نجله الملك الهمام جلالة الملك فاروق، أيد الله عرشه وأدام ملكه محروساً بعناية الله، ليؤتى هذا الغراس
العزيز أكله، ويثمر هذا الزرع المبارك بفضل من عطف جلالته ثمره، فإن العهد بجلالة الفاروق (حفظه الله) الحفاظ بما تركت يد والده من غراس - وكل غراس له صالح، وتعهده بما يكفل له النماء والبقاء.
وهذا النظام الإصلاحي الباقي في الأزهر شبحه لم تكلأه عين ساهرة، بل شغلت الشواغل الخارجة عنه تلك الأيدي الماهرة. ثم أنه لم يوضع عفواً، ولم يجعل لهواً؛ ولكنه ألفت له اللجان، وتصافحت فيه المجان، ورفعت له البنود، وتزاهت فيه البرود. فمن الحيف عليه، والتخون لواضعيه أن يوأد وهو وليد، أو يشوه خلقه وهو غصن جديد.
والأمل معقود بعطف جلالة الملك المعظم في الإبقاء عليه حتى يشتد هذا الفطيم وينهض قائماً على ساقيه، ويعدو في ميدان الحياة سباقاً على قدميه. وهذا ما نرتقبه للأزهر بهمة شيخه الجديد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرزاق وفقه الله وأعانه وحقق على يديه الآمال.
وأختم كلمي كما بدأته بإسداء أكرم التحيات إلى الأستاذ الزيات مدير (الرسالة) ممجداً فيه حرية الرأي، ورحابة الصدر، وبراعة الفن، وبلاغة القلم. والسلام.
محمود أحمد الغمراوي
المفتش بالأزهر وشيخ معهد دسوق والزقازيق سابقاً
شيخ في مرقص!
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
كنت أصلي أمس في مسجد العباس، فلما قضيت الصلاة وتلفت للسلام لمحت (فلاناً) فكذبت بصري وعدت إليه أتثبته فإذا هو بلحمه ودمه، وإذا هو يصلي صلاة خاشع لله متبتل أواب، وكان آخر عهدي به أنه ركب في طريق الغواية رأسه، وأقدم إقدام الفرس الشموس، فحب في الضلال ووضع، وأغار ونجد، ثم انتهى به الخبط إلى الهاوية، فوقع (على أم رأسه) في اشتهاء راقصة مشهورة، وحسب هذا الاشتهاء حباً كالذي قرأ وصفه في الروايات فصنع مثلما يصنع المحبون: نسى عقله ودينه، وجاد بقلبه وماله، وعرفت منه الفاجرة هذه الحماقة، فاستنزفت دم (جيبه) وماء قلبه، ثم لم توصله إلى إربه ولم تمتعه بحبه. . . وكان له ضمير يناديه فأعرض عن نداء ضميره، وكان له إخوان ينصحونه فسد أذنيه عن نصح إخوانه، فلما يئسوا منه ومن صلاحه انصرفوا عنه وتركوه لنفسه وللراقصة ولإبليس، ثم للمرض والفقر وجهنم!
. . . فلما رأيته في المسجد عجبت وانتظرته حتى فرغ، فأقبلت فسلمت عليه وسألته، فقال: إن حديثي عجب، وإني لا أحب أن أتحدث به في بيت الله فتعال معي إلى بيتي تسمع حديثي. . .
وحدثني فقال:
إن الفضل علي فيما رأيت من توبتي لله ثم للشيخ صلاح الدين أحسن الله إليه، فلقد هداني الله به وهدى أقواماً بعد إذ كانوا ضالين. ولقد عرفت رجالاً شجعاناً أولي عزم وإقدام، وسمعت أخبار العلماء الذين واجهوا الملوك بما يكرهون، وأحاديث أهل الجراءة والصدع بالحق؛ ولا والله ما سمعت ولا عرفت بأجرأ من هذا الشيخ، ولا أثبت منه جناناً. . .
قلت: إذ صنع ماذا؟
قال: إذ وعظ في المرقص! أما سمعت الحكاية؟ لقد استفاض خبرها وتناقلته الصحف، وكان حديث السوامر أياماً طوالاً. . . وذلك أنه نظر فرأى طلاب العلم لا يزالون ينقصون، ورأى الناس ينصرفون عن المساجد فلا يحضرها إلا الكهول والعجز، وما
يحتاج هؤلاء الوعظ إنما يحتاجه الشباب. وسأل أين الشباب؟ فأجلوه عن أن يخبروه، ثم قالوا: إن الشباب في السينمات والمراقص ونوادي القمار. . . قال: وما السينمات والمراقص؟ لم يكن الشيخ يدري ما هي، ولم يكن يعرف من الدنيا إلا مسجده وداره، ولا يسمع إلا حديث العلم، وقال المصنف، وذكر الشارح وعقب عليه المحشي. . .
قالوا: إن المراقص أبهاء واسعة تمتلئ بالناس وفي صدرها منصات عالية لها ستر ترتفع وتنسدل، يقوم عليها نسوة عاريات إلا من خرق لا تكاد تستر من أجسادهن شيئاً، يقفزن ويلعبن ويحركن أيديهن وأرجلهن. . .
قال: حسبكم، حسبكم! إنا لله وإنا إليه راجعون! نساء يلعبن أمام أعين الرجال الأجانب؟! ما ظننت أن مثل هذا يكون في دار الإسلام، قوموا بنا إلى المرقص!
قالوا: إلى المرقص يا مولانا؟!
قال: نعم. نتقى مثل لعنة داود وعيسى بن مريم، ونغير هذا المنكر بألسنتنا إذ قد قعدت بالحكام رقة دينهم عن أن يغيروه بأيديهم.
قالوا: يا مولانا، إنهم يسخرون منا ويؤذوننا، ولا يصغون لمقالنا.
قال: ما نحن بأفضل من الأنبياء، وما نفوسنا بأكرم علينا من نفوسهم. ولقد سخر منهم وأوذوا في سبيل الله فما ضعفوا ولا استكانوا، وإنما علينا البلاغ والهدى هدى الله.
قالوا: إن المدارس قد ابتدعوا فيها هذه الأيام بدعة جديدة من أخزى البدع وأرضاها لإبليس، وهي أن تبرز البنات سافرات حاسرات فيلعبن أمام الرجال، فلنبدأ بالمدارس قبل المراقص فأنهم سيقتلون فيها الأخلاق، باسم الرياضة والصحة والفن!
قال الشيخ: بل نبدأ بالمراقص إن شاء الله.
فلما رأوا منه الجد والإصرار، قالوا: أمهلنا يا مولانا حتى نعد لك مكاناً فيه تعظ من الناس.
وذهبوا إلى (مرقص أبي نؤاس) فسألوا صاحبه أن يؤجرهم المسرح ربع ساعة ما بين الفصلين، ليجئ الشيخ فيعظ فيه الناس. فنظر الرجل فيهم لعله يبصر تحت معاطفهم المسروقة ثياب المستشفى التي فروا بها من (القصير) وابتعد عنهم خشية أن تعاود أحدهم جنته فيثب على عنقه فيخنقه أو يشج رأسه بحديدة يخفيها في كمه، ودعا أعواناً له لينقذوه من هؤلاء المجانين الذين يريدون أن يجيئوا بشيخهم ليعظ الناس على مسرح التياترو. . .
ولكن القوم قطعوا عليه ما هو فيه وجروه من رسنه فانقاد ذليلاً طيعاً، حتى عرضوا عليه في هذا ال (الربع من الساعة) نصف ما يكسبه في الليلة كلها، وقبل منهم وشيعهم إلى الباب، ولكنه لم ينس أن يقبض المبلغ منهم قبل أن يغلقه دونهم.
وفرح الرجل بهذا الإعلان الجديد عن مرقصه، وأمل أن يغلب به (مرقص مطيع بن أياس) الذي يقوم إلى جنبه يزاحمه ويقاسمه قصاده، وانتظر أن (يمثل) الشيخ (مهزلة) تكون (رواية الموسم)، وذهب فطبع (إعلانات) ضخمة عن (المفاجأة المدهشة) التي ستروع الناس، وجاء الناس يرون هذه المفاجأة وما يقع في وهم أبعدهم خيالاً، إلا أنها راقصة جديدة، أو أنها رقصة مبتكرة، وماذا يكون في المرقص إلا الرقص؟!
وكنت تلك الليلة هناك، ورقصت (فلانة) رقصة عبقرية مبدعة عرضت فيها من فنونها وفتونها عجباً ما رأى الراءون مثله، وجننت الحاضرين حتى ما يدرون من الفتنة ما يصنعون، وحتى دميت الأكف من التصفيح والتصفيق، وبحت الحناجر من الهتاف والصراخ، وأرخى الستار على الراقصة وهي أحب إلى كل واحد منهم من زوجه وولده، وما واحد منهم إلا ويبذل في ساعة منها ماله وشرفه ودينه، وجعلوا ينادون باسمها، يريدون أن يمتعوا أبصارهم برؤيتها كرة أخرى، فلما تمادى غيابها أقبلوا يرددون أسمها في إلحاح واتصال، ويقرعون الأرض بأقدامهم فعل الصبيان، ورواد الملاهي. لهم عقول كعقول الصبيان، فارتفع الستار ونظروا. . .
نظروا فإذا هم يرون مكان ذلك الجسم الحبيب المشتهى، وذلك العرى المغري الفتان، شيخاً جالساً بعمامته ولحيته وجبته، شيخاً حقيقياً لا تمثال مكسواً ثياب المشايخ، ولا شيخاً مزوراً من شيوخ (التمثيل)!
وبدأ الشيخ درسه بحمد الله والصلاة على رسول الله؛ وربطت الدهشة ألسنة الحاضرين لحظة، فكانت سكتة شاملة، ثم صحوا فجأة، فكان الانفجار. . .
إن كل محاولة لوصف هذا الانفجار إنما هي إفساد وتشويه لصورته في نفس السامع، وإنك تعرف هؤلاء الناس وإن فيهم كل ماجن خبيث، وجبار فاجر، وفيهم السكران وفيهم الحشاش، وقد جاءهم هذا الشيخ في الساعة التي اكتملت فيها نشوتهم، وطغت (براح الراقصة) سكرتهم، ليتلو عليهم حديث التقى والصلاح من فوق منصة المرقص، وليقول
لهم دعوا هذه المرأة فأنها رجس، وغضوا عنها أبصاركم فأنها عورة، وانصرفوا عن هذه البقعة فأنها دار دنس وإثم، وقد طلع عليهم وهم يرتقبون طلعة الغادة العارية المغناج. . . فتصور ماذا يكون منهم!
لقد صفروا له وسخروا، ورموه بكل قبيح في القول، وسألوه أن يتجرد فيرقص لهم ويريهم غنجه، وعرضوا عليه كؤوس الخمر مترعة، وهو ماض في كلامه كأنما هؤلاء ذباب يحوم حوله من بعيد، بل أن الرجل ليحفل بالذباب وهو لم يحفلهم ولم يبال بهم. وتعب الشاغبون ومل الساخرون، وكان في القوم من يعرف الشيخ، فصاحوا بهم أن اسكتوا ويلكم نسمع ما يقول، وكانت سكته أخرى، وهي كل ما كان يتمنى الشيخ فتمكن فيها من آذانهم ونفذ إلى قلوبهم، فأصغوا ثم اطمئنوا، ثم خشعوا، ثم انقادوا إليه وتعلقوا به، وحل من قلوبهم محل (تلك)، ولكن حبهم إياها كان حباً سفلياً، وهذا حب طاهر مقدس. . . فلما انتهى كلامه، وقام ليخرج، قاموا معه وخرجوا وراءه، وتركوا المرقص لصاحبه وللشيطان. . . ولازمته أنا من ذلك اليوم كما لازمه كثير ممن كان هناك. . .
قلت: ألم تحفظ شيئاً من كلامه؟
قال: هيهات إنه تكلم بكلام علوي، كنا نحس به ينصب في القلوب انصباباً فتستشرفه وتتسامى إليه، ومازال يقول وهي ترتفع حتى خلصت من هذه الحمأة الدنسة التي كانت غارقة فيها، إلى الفضاء الأرحب وإلى الجو الطهور. إنه لم يتكلم كما أتكلم أنا وأنت، ولا كما كان (هو) يتكلم، فقد سمعته قبل ذلك اليوم، فما سمعت منه مثل هذا، وإني لأظن أن ملكاً نطق بلسانه فمن هنالك خرج الكلام نورانياً سماوياً.
قلت: مثل ماذا؟
قال: أنا رجل عامي، فإذا أعدته عليك لم آت به من ذهني الكليل إلا أرضياً منطفئاً، كالشهاب المنير إذا روته الأرض لم يكن على لسانها إلا صخرة باردة جامدة. . . أفتحب أن أرد عليك ما حفظت منه من ذهني أنا لا من ذهنه، وبلساني لا بلسانه؟
قلت: نعم.
قال: إن مما حفظت منه قوله. . .
(البقية تأتي)
علي الطنطاوي
الإنسان، هذا المجهول.
.
الدوافع البيولوجية وأثرها
للأستاذ فؤاد عوض واصف
كانت ظاهرة التقليد التي قال بها العلامة تارد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هي التفسير الوحيد عند علماء الاجتماع للحياة الاجتماعية؛ فظهور فرد قوي أو قائد شجاع أو مشرع كبير في مجتمع ما يمكن من خلق عرف جديد ينتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم. ذلك لأن الناس على دين ملوكهم وحكامهم وقادتهم، يقلدون تقليداَ أعشى كل ما يبتدعه رعاتهم، ولقد ملك تارد بتفسيره هذا عقول العلماء ردحاً كبيراً من الزمن إلى أن ظهر العلامة الأمريكي الأشهر ماكدوجل، فطلع علينا بتفسير جديد هو على خلاف فيه مع نظرية تارد، وقد عرفت نظرية تارد بنظرية الدوافع. ولئن كانت معرفتنا بالدوافع قديمة قدم أرسطو، فإن الاهتمام بها لم يبلغ الحد العظيم الذي بلغته بعد أبحاث ماكدوجل. لقد كشف لنا ماكدوجل في أبحاثه عن أثر الدوافع البيولوجية في الإنسان وأسرارها العظيمة ونتائجها العديدة، حتى لقد رد الحياة الاجتماعية كلها إلى هذه الدوافع البيولوجية الكامنة في الإنسان، ومن هنا كان أن عرف بأبي علم النفس الاجتماعي.
وقد كان من أثر أبحاث ماكدوجل في الدوافع أن ظهرت في معامل علم النفس مقاييس لقياس الحوافز والدوافع بطريقة دقيقة كل الدقة حتى لقد مكنتنا من معرفة درجات القوة والضعف في الدوافع العضوية الداخلية معرفة يسرت لنا تفسير أنواع الانحرافات النفسية والجنسية والاجتماعية أيضاً؛ فالسلوك الإنساني يرد في النهاية إلى الدوافع الداخلية، كما هو الحال مثلاً في سن البلوغ، إذ يشاهد أن تولد الميل الجنسي ناتج عن دافع عضوي، وهذا الميل الجنسي يقترن بتغيرات في الهيئة والسلوك، فيميل البالغ إلى الحياة الخيالية كما هو معروف في الحب الصبياني.
ويمكن تعريف الدافع العضوي بقولنا (هو كل حافز يدفع إلى فعل يتحول بالتحليل إلى حالة تنبيه، تثير الفرد وتدفعه إلى سلوك ما عن طريق مجموعات خاصة من العقد العصبية!!
ومن أهم الدوافع الداخلية، إفرازات الغدد الصماء التي تثير النزعات والميول والرغبات، وتحمل الشخص أن يقوم بحركة وأن يسعى نحو تحقيق الميل وإشباعه بطريقة أشبه بأن
تكون آلية جبرية.
ولكل دافع من الدوافع العضوية الداخلية استجابات خاصة به تختلف من دافع إلى آخر، فلدافع الجوع والعطش استجابات تختلف عن استجابات الدافع الجنسي مثلاً.
والدافع الجنسي من أمثلة الدوافع الكيميائية التي تتمثل في إفرازات غدد خاصة موجودة في الإنسان. وكل أنواع الاستجابات والسلوك الجنسي هو نتيجة ترد في النهاية إفراز الغدد التناسلية. فقد أثبتت التجارب العديدة أن عملية استئصال الإفراز الجنسي من الخصيتين أو المبيض يقضي على الميل الجنسي، في حين أن تجديد هذا الإفراز يعيد الميل الجنسي إلى حالته الطبيعية؛ فكأن الاختلاف بين الذكر والأنثى في السلوك الجنسي يرد إلى اختلاف الغدد فحسب؛ والرجل والمرأة لا يختلفان في تكوينهما، وما السمات المميزة لكل منهما إلا أثر بل استجابة لإفراز معين تفرزه غدة تناسلية تختلف في الذكر عنها في الأنثى. وإنه لمن السهل علينا الآن أن نجعل من الدجاجة ديكاً، ومن الديك دجاجة تقريباً، وذلك بعملية استئصال غددي فتتحول الدجاجة إلى ديك وتفقد كل سماتها الأولى وتصبح ذات عرف يأخذ في النمو، وينقلب سلوكها ولا يمكن تمييزها في النهاية من ديك آخر. وكذلك الحال إذا أردنا أن نجعل من الديك دجاجة فما علينا إلا استئصال الخصيتين فيفقد الديك عرفه ويتسم بكل سمات الدجاجة وسلوكها.
ولا يقتصر تأثير الدافع العضوي على الهيئة والتكوين الفسيولوجي فقط، بل أيضاً في اتجاه السلوك والأخلاق؛ ويمكن أن نوضح هذا جيداً بحالة بعض الأفراد الذين يتأخرون في بلوغهم نجد الواحد منهم في سن العشرين مثلاً وكل مظاهر الرجولة معدومة فيه لا في المظاهر الفسيولوجية فحسب، بل أيضاً في السمات الخلقية، ففيه نجد حياء الأنثى وخوفها ومرونتها وما إلى ذلك. فإذا عولج هذا الشخص المتأخر في بلوغه بواسطة خلاصة الخصيتين لا يلبث بعد مدة يطول زمنها أو يقصر، حسب حدة الحالة، أو يصبح وقد ظهرت عليه سمات مختلفة من ذي قبل فيرتفع صوته ويتضاعف نشاطه ويزول الخجل منه والخوف وما إلى ذلك من مظاهر الأنوثة الأخلاقية، ويتولد في الميل الجنسي. ومن هنا يظهر لنا، أن سمات الرجولة والأنوثة سواء كان ذلك من الناحية الفسيولوجية أو الخلقية إنما يرد في النهاية إلى الدافع الكيميائي وهو إفراز الغدد التناسلية.
والآن إذا أردنا أن نحصي الدوافع في الإنسان بسائر أنواعها فإننا سنجدها من الكثرة بحيث يصعب معها العد والحد؛ فإن دافعاً كدافع الجوع العضوي قد يبدو بسيطاً مع أنه مركب من عدة دوافع: فالحاجة إلى الأكل، تتضمن الحاجة إلى موالح ونشويات ودهنيات الخ. ودافع العطش ليس هو الحاجة إلى الماء فحسب؛ لأننا إذا أعطينا عاملاً مجهداً في يوم قائظ ماء ساخناً ليرتوي، فإنه بذلك لن يرضي دافع العطش، لأن الحاجة هنا تتضمن غير الماء، درجة خاصة من الحرارة وغيرها. ومن هذا يبدو أن دافعاً واحداً كدافع الجوع أو العطش يتضمن في ذاته عدة دوافع. من أجل ذلك فإن إحصاء عاماً للدوافع كما أراده ديكارت وهويز يعد ضرباً من المستحيل، إذ ان الحاجات تتعدد، وبالتالي تتعدد الدوافع المولدة لهذه الحاجات. وعمل الدوافع في الإنسان يقترن بتغيرات كيميائية وعضوية في جميع أنحاء الجسم حتى في البشرة. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الحب مثلاً الذي هو إرضاء للدافع الجنسي. وتعمل الدوافع على أن تلائم بين الإنسان والطبيعة، فقد يبدو أن لون البشرة السوداء عند زنوج المناطق الاستوائية ناتج في الأصل عن تأثير حرارة الشمس المحرقة، مع أنها نتيجة لأفعال منعكسة قامت بها خلايا البشرة لإرضاء دافع الحاجة إلى درجة حرارة مناسبة للجسم؛ فليست الحرارة هي التي تحرق البشرة، لكونها حرارة، بل هي تقوم فقط مقام الباعث لاستجابات ناتجة عن دوافع وحاجات، أعنى في هذه الحالة أن هنالك دافعاً في الإنسان قد اقتضى تغيرات فسيولوجية حتى يتم التوافق بين الإنسان في نزوعه إلى الحياة وبين الطبيعة الخارجة عنه.
ونريد هنا أن نلفت النظر إلى أنه في كثير من الأحوال يكون المنبه الخارجي هو المحرك للدافع إذا كان في حالة كمون. فإذا كنت في وقت ما جائعاً وكان دافع الجوع في كمون لانشغالي بأفكار وخواطر، فإن الساعات تمر بدون أن يتعدى الدافع العضوي حدود الشعور؛ فإذا فرضت أن رائحة شهية لطعام قد وصلتني وشغلت شعوري برهة من الزمن، كان هذا المنبه كافياً لتحويل الحاجة إلى الطعام من حالة الكمون إلى حالة النشاط أي إلى رغبة، وكذلك الحال فيما يختص بالدوافع الأخرى.
وقد سبق أن ذكرنا أن إحصاء عاماً للدوافع ضرب من المستحيل ولكن يمكن ان نقسم الدوافع إلى أنواع أربعة:
دوافع عضوية: كدافع الجوع والعطش الخ. . .
دوافع كيميائية: كالدافع الجنسي ودافع التعب.
هو عبارة عن بعض السموم تكونت في دم الإنسان فأوجدت فيه حالة التعب. والذي يثبت لنا أن التعب ومظاهرة ليس نتيجة مباشرة لمجهودات عضلية التجربة التي قام بها عالم نفساني كبير. وتتلخص في أنه حقن كلباً لم يقم بأي عملية إجهادية بدم كلب ظل طوال اليوم يرافق سيده في الصيد، فكانت النتيجة أن ظهرت في الكلب السليم كل مظاهر التعب والإنهاك الموجودة في الكلب المتعب. فكأن التعب ومظاهره نتيجة لعامل كيميائي موجودة في الدم وهو سموم أشبه ما تكون بالسموم المعروفة، ومن هذا يبدو أن التعب ومظاهره استجابة لدافع كيميائي موجود في الدم.
دوافع نشاط وتكون ذات استجابات مناسبة تتلاءم مع ما يحيط بالإنسان من ظروف.
4 -
دوافع الجمال: مثل أن تظهر في استجابات الطفل الصغير لما يحيطه من ألوان وموسيقى ذات مقاطع، تجذبه إلى أن يسلك سلوكاً معيناً، هو استجابة ساذجة لما يحيط به من جمال. كذلك الحال في البالغين لقد ركب فينا دافع للجمال، لعله الروح تنزع إلى الجمال وتستجيب له كما ينزع الأليف إلى أليفه ويستجيب له. وفي السجون الحديثة يعالج المجرم بسماع الموسيقى وبإحاطته بألوان من الجمال تستجيب لها نفسه فيبعث بعثاً ويعود إنساناً.
لقد ذكرنا من الدوافع ما هو عضوي وكيميائي ونشاطي وجمالي؛ بقي نوع خامس من الدوافع يستجيب للمؤثرات الفجائية العنيفة كالخوف والغضب والبغض والعار. وتسمى هذه المجموعة من الدوافع بالانفعال
والدراسات العلمية الكثيرة في مجال علم النفس المقارن، حققت لنا وجود ظاهرة الانفعال عند الكثير من الحيوانات، مع ملاحظة خاصة، وهي أن الإنسان كثيراً ما يخضع انفعالاته ويوجهها توجيهاً خاصاً، في حين أن الحيوان ينفعل فلا يكاد يملك أسباب التوجيه أو إخفاء انفعالاته.
وقد قامت مشكلة كبيرة في علم النفس خاصة بالانفعال وتتلخص في هذا السؤال: هل أنفعل أولاً ثم أضطرب أم أضطرب أولاً ثم أنفعل؟ والرأي الصحيح عند وليم جيمس هو أن
الإنسان يضطرب أولاً ثم ينفعل، أعني أن الانفعال في ذاته هو نتيجة لاضطرابات عضوية وكيميائية في جسم الإنسان. ففي حالة الخوف مثلاً، تحدث في داخل الجسم إفرازات عضوية معينة، تكون نتيجتها ظهور سمات الخوف على الإنسان. وبكلمة مختصرة، الانفعال في أساسه فسيولوجي قبل أن يكون نفسانياً.
وهنالك ثلاثة أنواع من الانفعالات الأولية في الإنسان وهي الخوف والغضب والحب. والظواهر المختلفة التي تبدو على الإنسان نتيجة لهذه الانفعالات نتيجة لإفرازات معينة في الغدد الصماء بتأثير الجهاز العصبي.
أما انفعال الخوف فينتج شعوراً رديئاً؛ فبالإضافة إلى ما يثيره من الاضطراب في بعض أجهزة الجسم كما يكون الحال في سرعة دقات القلب والتنفس السريع، بالإضافة إلى ذلك يكون للخوف طابع خاص يظهر في امتقاع الوجه واضطراب المفاصل والأطراف وقفوف شعر الرأس. . . الخ. . . وللغضب مظاهره الخاصة كذلك وهي في جملتها أقل عنفاً من مظاهر الخوف، وفي حين تكون نتيجة الخوف تقهقراً تكون نتيجة الغضب تقدماً واندفاعاً. أما الحب فهو أحد الانفعالات الأولية التي تحدث شعوراً طيباً محبباً. والذين جعلوا للحب مركزاً خاصاً في القلب لم يبتعدا كثيراً عن الحقيقة. فانفعال الحب في الواقع يتركز أثره في وجهة ما فوق القلب نتيجة لتأثر الدورة الدموية بباعث الحب وما يثيره في الدورة من نشاط. وللحب طابعه الخاص، يظهر في ابتسامة الفم وإشراق الوجه، ولعل أروع صورة ساذجة لطابع الحب الجميل، تظهر في محيا الطفل الصغير وهو يرنو إلى أمه.
هذه المعرفة الخاصة بالدوافع، قادتنا إليها دراستنا للحيوانات العليا وللطفل وللإنسان البدائي.
وإن دراستنا للإنسان البدائي الساذج، تجعلنا نقف أمام صورة كائن يمضي أغلب وقته في الأكل والشرب مبتعداً عن الأصوات المزعجة والحرارة اللافحة، يجري ويقفز، يصيح وينصت ويتأمل ويشاهد أنه مدفوع إلى النشاط بما يبعثه الكون المحيط به؛ قد يجد لذة في أن يداعب كلبه أو في أن يقفز على شجرة، كل هذه الاستجابات تتولد من الكون الفسيح وما يبعثه من مؤثرات ومنبهات. وإنه لمن الإنصاف أن نقرر ما ذكره ثورنديك من أن قائمة الدوافع التي قال بها ديكارت وهوبز لا تصور الحقيقة، فإن الدوافع في الإنسان
والحيوان من الكثرة بحيث يختلط بعضها ببعض، وإن حيل الحيوان وحتى أبسطها في السعي لرزقه، تجعلنا نقرر بأن إحصاء عاماً للدوافع ضرب من المستحيل.
هذه هي الدوافع، وهذا موضوعها. والإنسان في سعيه إلى رزقه وفي سعيه إلى الحياة، إنما يستجيب إلى الدوافع التي ركبت فيه تركيباً. ولو شئنا التطرف مع ميرفي ونيوكمب إن الإنسان ليس شيئاً آخر غير الدوافع التي ركبت فيه وجاءته عن طريق الوراثة، ومن هنا يكون الإنسان في هيئته وجنسه وسلوكه الأخلاقي، مدفوعاً بدوافع داخلية لا قبل له بردها. فالحب تبعاً لهذا ليس إلا استجابة لإفراز الغدد الصماء، والإجرام في بعض الأفراد ليس إلا استجابة طبيعية لتكوين المجرم الجسماني الذي أتاه عن طريق الوراثة. إن الدوافع الداخلية في الإنسان هي التفسير الوحيد لحياته الجسمية والأخلاقية. ومن هنا لا يكون الإنسان مخيراً بل مسيراً ولا يكون للتربية مجال كبير أو صغير في توجيهه وتهذيبه.
وهكذا يذهب ميرفي ونيوكمب ومعهما جمرة من العلماء، ويقولون بنوع من القدرية في تقرير الكائن الحي، إن كان سيولد إنساناً أم فأراً أم عصفوراً، إن كان سيولد بمنقار أو بشفتين، بأربع أرجل أم برجلين. فاختلاف الكائنات الحية عندهم نتيجة لاختلاف الدوافع التي وهبت للكائن الحي قضاء وقدراً. وكذلك الحال عندهم في اختلاف الأفراد بعضهم عن بعض، فليس هذا إلا نتيجة لاختلاف الدوافع فحسب. ولئن زعم الناس بمرونة الإنسان وقبوله للتشكل والإصلاح، فلينظروا إلى هذا الاختلاف البين بين الأفراد بعضهم وبعض في نموذج كل مجتمع. أجل إن هذا الاختلاف لمثير، ومجموعة من الكلاب الصغيرة يمكن أن ترمز إليه كما ترمز إليه مجموعة من الأطفال في معهد خاص.
ليست هنالك إذن مرونة في الإنسان أو قابلية للتشكل في نظر تلك الفئة من العلماء، فالإنسان يستجيب للمؤثرات المحيطة به كما يستجيب لها الحيوان.
وكذلك يذهب أيضاً العلامة لمبروزو أستاذ القانون الجنائي في جامعة روما؛ فهو يرى أن الجريمة فرع من القضاء والقدر لا دخل لحرية الإنسان فيه؛ فالمجرم يولد مجرماً بالطبيعة وإنه لمن التعسف أن يعاقب المجرم عن شئ لا يملك فيه اختياراً أو مشيئة. وليس في الإمكان إصلاح مجرم ولد هكذا ولا تجدي فيه التربية أو التوجيه الحسن.
وقد خصص لمبروزو لشرح نظريته كتابين شهيرين هما: كتاب الرجل المجرم '
والمرأة المجرمة فاللص عند لمبوروز ذو تكوين خاص في هيئته وكذلك سائر المجرمين، وما الجريمة إلا استجابة لتكوينهم العضوي الناقص الذي جاءهم عن طريق الوراثة. وكثير من اتجاهات علم النفس الجنائي إلى يومنا هذا تستلهم موضوعاتها من بحوث لمبروزو.
ولكن البحوث التي قام بها علماء الأحياء منذ ربع قرن في موضوع الوراثة وكذلك علماء سلوك الإنساني، وخاصة في دراستهم لأنواع الشذوذ والانحرافات، أدت إلى الإقلال من حتمية الوراثة، وأثبتت مرونة الإنسان وقابليته للتشكل والإصلاح، فسلوك الإنسان قابل للتغير والتحسن، ويتوقف نجاح التربية إلى حد كبير على إحكام طرقها وإتقان أساليبها.
ليس الإنسان إذن أسير وراثة أو تكوين عضوي خاص كما كان شائعاً من قبل، بل إنه يملك إلى حد كبير أسباب التغير والإصلاح. لا يوجد هنالك ما يسمى طبيعة مجرمة في النفس الإنسانية؛ بل على العكس من ذلك، إن طبيعة النفس الإنسانية كما يقول كانت خير وكل الخير، وإنما هنالك نفوس مريضة تدافع عن توازنها الاجتماعي، فتضل في المعترك عن الطريق السوي.
إن للدوافع في الإنسان كما سبق وذكرنا شأناً كبيراً، ولكنها في الإنسان غيرها في الحيوان. لا، بل إن الحيوان نفسه قابل للترويض وللائتلاف، فكم يكون الحال في الإنسان وفيه من نور الله قبس! أوليس فيما وصل إليه علم التربية والنفس أكبر الدليل على مرونة الإنسان وعلى كونه يختلف اختلافاً بيناً عن سائر الكائنات بما وهبه الله من عقل يفكر ويتذكر؟ إذاً فللدوافع في الإنسان شأن كبير ولكنه أقل من أن يجعل الإنسان مسيراً لا مخيراً.
فؤاد عوض واصف
ليسانسيه في العلوم الفلسفية
الشرق كما يراه الغرب:
الصين الجديدة
للأستاذ أحمد أبو زيد
إن أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان حين يذكر اسم الصين هو ذلك الجمود الذي ران عليها طويلاً دون بقية أمم العالم، حتى صارت بذلك رمزاً على التأخر والتخلف والمحافظة على القديم وعلى كل ما هو ثابت راسخ لا يكاد يتحرك ولا يتغير ولا يتطور. ولقد كان للصين في يوم ما حضارة تعتبر من أقدم وأرقى الحضارات التي عرفها الإنسان، ولكن الصين اليوم تأتي في ذيل الأمم المتحضرة المتمدينة.
ومع أن الناس جميعاً يعرفون عن الصين ذلك، إلا أنهم لا يكادون يعرفون عنها شيئاً صحيحاً عدا ذلك؛ وقد ساعد على هذا الجهل بالصين وبحياتها وبعادات أهلها بعدها النائي وشبه العزلة التي تعيش فيها، وبعد الشيء قد يكون سبباً كافياً للجهل به. ولكن الصين مع ذلك كتب عنها الشيء الكثير، ولكن كثيراً مما كتب بعيد كل البعد عن الحقيقة. . .
إن معظم الذين يكتبون عن الشرق من الأوربيين قليلاً ما يتوخون الحقيقة والواقع، وكثيراً ما يصدرون فيما يكتبون عن بعض أهواء وشهوات في نفوسهم يريدون إرضاءها ويظهرون الشرق على غير ما هو عليه، بل وحتى إذا كانوا منزهين عن تلك الأهواء والشهوات فقليلاً ما تكون كتاباتهم صادرة عن الفهم العميق الصحيح لما يرون أمامهم؛ لذلك قلما نجد كتاباً يتناول مسائل الشرق وحياته بدقة وصدق وفهم على الرغم من كثرة ما كتب عن الشرق وحياته.
ومن تلك الكتب الدقيقة القليلة كتاب عن الصين ظهر تحت عنوان: (الصينيون وكتبته سيدة تدعى وينفريد جالبريث أمضت فترة طويلة من حياتها بالصين؛ فقد نزحت إلى هناك من إنجلترا بعيد الحرب الكبرى الماضية واشتغلت بالتعليم في مدارس الصين، ولا تزال تعيش هناك حتى الآن، أو على الأقل حين أصدرت كتابها في عام 1942. ولا شك أن طول الفترة التي أمضتها في الصين، وطبيعة العمل الذي زاولته هناك، قد أتاحا لها فرصاً طيبة للوقوف على خصائص الحياة الصينية وأسرارها قلما تتاح للكثيرين. وعلى ذلك نستطيع أن نقول مطمئنين آمنين إن ذلك الكتاب صدر عن فهم عميق للصين وطبيعتها
وشؤونها المختلفة، كما نستطيع - من قراءته - أن نلمس بوضوح النزاهة والدقة والتجرد عن الغرض التي لازمت المؤلفة في كتابته. . . والكتاب على لطافة حجمه يتناول كثيراً من المسائل، فيعرض لتاريخ الحضارة الصينية كما يتناول آداب الصين وفنونها وقيم الحياة اليومية فيها ونظم الحكم بها وغير ذلك من المسائل. ولم تنس المؤلفة زيادة على ذلك أن تبين لنا ما يختلج في صدور أهل الصين من آمال وأمان في المستقبل وما يرجون لبلادهم من حياة جديدة زاهرة تغاير ماضيهم وحاضرهم، وإن لم تقطع الصلة بهما تماماً.
ولا تشك المؤلفة في أن الصين الجامدة الخامدة آخذت تفيق من سباتها العميق الطويل من أوائل هذا القرن، وأن قيام الحرب الصينية اليابانية قد ساعد على هذه اليقظة، بل ولعلها تكون المسئولة الأولى عنها، فأخذت تنفض عن نفسها ذلك الخمول الذي ضرب عليها، أو الذي ضربته بنفسها على نفسها، وتتجه نحو حياة أخرى، وتنتحل أساليب جديدة سواء في الصناعة أو الفكر أو السياسة تختلف أشد الاختلاف عن تلك الأساليب العتيقة البالية. ولكن ينبغي مع ذلك ألا نغفل عن حقيقة واضحة جلية، وهي أن ذلك التطور لا يتم في الصين إلا ببطء شديد وبصعوبة شديدة بحيث لا يكاد الإنسان يدرك لأول وهلة أن هناك حياة جديدة أخذت تدب في أوصالها الميتة؛ ذلك لأن حياة الصين لا تقوم في الواقع على مجرد بعض قوانين وضعية أو قواعد يرسمها من بيدهم مقاليد الحكم ويأخذون الناس بتنفيذها، إنما تقوم حياة الصين على قيم أساسية عامة متغلغلة في أعماق النفوس تستمد منها قوتها وسطوتها، بحيث لو انعدمت كل سلطة في الصين ولم تصبح ثمة أي هيئة حاكمة فيها لظلت الصين مع ذلك قائمة على ما هي عليه، ولاستمرت تلك القيم الأساسية تعمل عملها في حياة الناس والبلد وتحفظ عليهم طابعهم التقليدي القديم الذي يتعارض مع كل ما هو جديد.
ولا ريب في إن الأمة التي تريد أن ترقى وأن تصل إلى غاية بعيدة من الكمال والرفعة لن يتسنى لها ذلك ما لم تسر أولاً تحت قيادة موحدة تخضع كلها لها، وما لم تختف منها العوامل الانفصالية والنزعات الشخصية التي من شأنها تمزيق الدولة أقساماً وشيعاً. وقد كانت الصين في معظم تاريخها دولة واسعة ممزقة منقسمة إلى مقاطعات وحكومات متفرقة تستقل كل منها عن الأخرى تماماً، ولم يكن الرجل الصيني العادي يعرف من وطنه إلا
حدود قريته أو مدينته أو على الأكثر المقاطعة التي ولد ونشأ وتربى فيها، ولم يكن يعرف أنه فرد في وطن أوسع وأعظم من ذلك كله، وأن وراء تلك الحدود الضيقة التي نشأ فيها ملايين أخرى من الناس ينتمون جميعاً إلى نفس الوطن الذي ينتمي إليه؛ ولذا كان الرجل من الشمال إذا اجتمع برجل من الجنوب لا يعرف إلا أنه من الشمال وأن صاحبه من الجنوب دون أن يحس الصلة الوثقى التي تربط بينهما. وقد ساعد على ذلك أن الصيني مغلق على نفسه، ولا يحب الهجرة ولا السفر ولا الانتقال كمعظم الشرقيين، فهو يفضل الاستكانة والالتصاق بالبقعة التي وجد نفسه فيها. وقد نشأ عن ذلك تعدد كبير في اللهجات المحلية واختلاف عظيم بينها بحيث أن الرجل من إحدى المقاطعات لا يكاد يفهم اللهجة التي يتكلم بها غيره من مقاطعة أخرى. وكان ذلك كله عاملاً على ظهور الحركات الانفصالية وخاصة في أطراف الصين البعيدة. ومن هنا كان كثير من الكتاب يظنون أن الصين لا يمكن أن تعيش كدولة موحدة ما لم تخضع للحكم الأجنبي. وقد يكون لهؤلاء الكتاب العذر كل العذر فيما يذهبون إليه، إلا أن السيدة جالبريت ترى أن ذلك كله أخذ يزول شيئاً فشيئاً، وأخذ الشعور القومي يزداد بين الناس وخاصة بعد الغزو الياباني؛ فقد شعر الصينيون جميعاً أن أرضا عزيزة عليهم أخذ العدو يغتصبها منهم، فقاموا جميعاً يشتركون في الدفاع عنها ضد الغاصبين. وهكذا اختفت كل النزعات الانفصالية أمام الخطر المشترك، وأخذ الصينيون يحسون أنهم أبناء وطن واحد وأرض واحدة. وقد ساعد على ذلك حركات الهجرة من المناطق المحتلة أو المعرضة للغزو إلى الداخل، فقد عمل ذلك على تقريب اللهجات المتباينة، وأصبحنا نجد على ما تقوله المؤلفة:(في غرب الصين ما لا يقل عن أربعة عشر صنفاً من الناس نزحوا من مناطق ومقاطعات مختلفة يعيشون جميعاً عيشة واحدة، ويأكلون طعاماً واحداً، وينشدون أغاني وأهازيج واحدة انتشرت في أرجاء الصين جميعاً، وذلك ما لم يكن له وجود من قبل). ومع أن الوحدة في العادات لم تتبلور تماماً حتى الآن، ومع أن الاختلاف بين تقاليد كل فريق لا يزال اختلافاً قوياً صارخاً، إلا أن جالبريت ترى أن كل ذلك يسير في طريق الاندماج شيئاً فشيئاً ولكن بقوة، بحيث لا يتأخر اليوم الذي تصطبغ فيه الصين من أقصاها إلى أقصاها بصبغة واحدة من العادات والتقاليد.
وقد أخذت الصين تتجه منذ بداية هذا القرن على الخصوص نحو الحضارة الأوربية، واعتنقت الكثير من مظاهرها المادية، ولكن تلك المظاهر المادية لم تصل في الواقع إلا إلى الطبقات العليا فقط من السكان في المدن الكبرى وفي الأطراف الخارجية، ولم تفلح في التغلغل قليلاً ولا كثيراً إلى داخل الصين ذاتها، أو إلى طبقات الشعب الفقيرة من سكان الريف ومن الفلاحين والعمال، وهم يمثلون الغالبية العظمى من السكان. وقد كان لذلك - ولا ريب - أسوأ الأثر في المجتمع الصيني، إذ ساعد على توسيع الهوة التي تفصل بين مختلف الطبقات، كما ساعد بالتالي على إضعاف قوة التماسك الاجتماعي في الصين. ولكن الحرب الصينية اليابانية قللت أيضاً من ذلك الأثر حتى كادت تمحوه؛ فقد أصبح من العسير - نتيجة للحرب - على المنتجات الأوربية أن تصل إلى الصين؛ والقليل النادر الذي يصل إلى هناك يباع بأسعار خيالية لا تصدق ولا يكاد يقوى على شرائها إلا فئة قليلة جداً من الناس؛ وكانت نتيجة ذلك كله أن أخذ الناس ينصرفون عن ذلك النوع من الحياة المادية المترفة التي قبسوها عن أوربا، ويعتاضون عنها تدريجياً بالإنتاج المحلي البدائي؛ وبذلك عاد أهل الصين جميعاً إلى أساليب حياتهم القديمة، واشتد تبعاً لذلك التقارب بين مختلف الطبقات عما كان عليه. وقد يبدو ذلك الرجوع إلى القديم نكسة أصابت الصين في تطورها ورقيها، ولكن السيدة المؤلفة ترى عكس ذلك، فهي تعتقد أن الرقي الحقيقي هو في تماسك الشعب وتقارب طبقاته قبل كل شئ، ثم رقيه كله معاً مرة واحدة.
وفي الصين الآن اتجاه قوي يرمي إلى الأخذ بنظم الحكم الديمقراطي؛ ولكن هذا النظام لم يتحقق بعد، ولا ينتظر أن يتحقق كاملاً في الوقت الحاضر على الأقل، كما أن من الصعب على الإنسان أن يتكهن بطبيعته في صورته الأخيرة، وإن كانت كل الدلائل تدل على أنه لن يكون نظاماً نيابياً ديمقراطياً بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون. ويقف دون تحقيق النظام الديمقراطي الأوربي اتساع مساحة الصين وترامى أطرافها بشكل غير معهود في بقية الديمقراطيات الأخرى. ولا شك أن من أصعب الأمور على شعب حديث عهد بالنظم النيابية أن يحقق ذلك النظم تحقيقاً كاملاً في دولة في مثل حجم الصين. وقد حاول الدكتور صن أن يؤلف مجلساً نيابياً للصين، ولكن ذلك المجلس لم يقدر له الاجتماع قط، ولكنه حين يتم تأليفه، فسوف يكون مكوناً من 1681 من النواب، منهم 395 نائباً تعينهم الدولة. ويبدو
أن الانتخابات في الصين لن تكون من درجة واحدة كما هو الحال في الديمقراطيات الأوربية، بل سوف يجتمع رؤساء كل مائة أسرة معاً وينتخبون من ينوب عنهم، وبذلك سوف يكون نظام الحكم في الصين مزيجاً من الديمقراطية والبطريركية التي تسود الصين الآن. ومن الدلائل التي تبشر بقيام الحكم النيابي في الصين وجود مجلس الشعب السياسي هناك ' وهو يتألف من مائتي عضو من الرجال والنساء، وكلهم معينون. وهم يمثلون كثيراً من مدارس الفكر والمهن والأعمال المختلفة؛ وقد أبدى المجلس براعة كبيرة في مناقشة وبحث أمهات المسائل التي عرضت عليه، ولكن يقلل من أهميته أنه لا يعد مسؤولاً أمام الشعب.
وهناك عامل آخر تظن السيدة جالبريت أنه سيكون له شأن كبير في تطور الديمقراطية في الصين، وهو سعة انتشار الشيوعية هناك ووجود حزب شيوعي قوي يضم كثيراً من الأفراد من أصحاب الثقافة العليا ومن أكابر المفكرين الصينيين. وقد أمضى معظم أعضاء الحزب الشيوعي أعواماً طويلة في خدمة الجيش الأحمر الروسي، كما أنفقوا جهوداً كبيرة في تعليم الفلاحين وإصلاح حالهم؛ وقد ساعدهم ذلك على تعرف ظروف حياة الطبقات العاملة هناك، كما أصبحت لهم خبرة واسعة بوسائل الإصلاح التي يمكن أن تجدي عليهم. بيد أن الحكومة المركزية في الصين لا تعترف بالشيوعية ولا تقر طرقها، بل إنها تناصبها العداء صراحة، ولا يزال الصراع سجالاً بين الحكومتين إلى الآن.
(البقية في العدد القادم)
أحمد أبو زيد
التاريخ في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 14 -
بين الطغيان والحرية:
تربى جيمس في أسكتلندة تربية بروتستنتية إلا أن هواه كان مع الكاثوليك، ولم يك ذلك بدافع العقيدة فما كان يعبأ مثله بعقيدة. وإنما كان بدافع الرغبة في الاستناد إلى الكنيسة كدعامة من دعائم الاستبداد.
وكان البيوريتانز قد تزايد عددهم في البلاد حتى أصبحوا قوة عظيمة، وكان هؤلاء خارجون على كنيسة إنجلترا لأنها كاثوليكية العقيدة وإن كانت رياستها لملك إنجلترا منذ فصلها هنري الثامن عن رياسة روما.
وقد كان هؤلاء البيوريتانز عند نشأتهم كما رأينا فريقاً من قساوسة الكنيسة الإنجليزية ولكنهم في الواقع أصبحوا يعدون من البروتستانت في ميولهم ومبادئهم ورغبتهم في الإصلاح وأن أطلق عليهم أسم خاص بهم؛ وطمع كل من الكاثوليك المتشيعين لروما والبيوريتانز أن ينالوا عطف جيمس. أما طمع الكاثوليك فلأنه ابن ماري الكاثوليكية ملكة أسكتلندة، وأما طمع البيوريتانز فلأنه تربى تربية بروتستينتية في أسكتلندة وفق الكنيسة البرسبتيرية، ولكنهم جميعاً ما لبثوا إلا قليلاً حتى رأوه يميل إلى نظام كنيسة الدولة كما نشأت في عهد هنري الثامن وتوطدت في عهد اليزابيث.
وأجتمع سنة1604 مؤتمر من قساوسة الكنيسة وممثلي البيوريتانز بغية التفاهم على حل، ولكن ثلاثمائة من البيوريتانز آثروا اعتزال مناصبهم على الاعتراف بكتاب الصلاة الذي تقره كنيسة الدولة. وأعلن جيمس كلمته الشهيرة يومئذ التي أفصح بها عن رغبته في
التمسك بالنظام الأسقفي في رياسة الكنيسة وفروعها وهي قوله: (إن لم يوجد القس فلن يوجد الملك)؛ وتهدد البيوريتانز بطردهم من المملكة إن لم يذعنوا له.
وكان أعضاء البرلمان يميلون إلى البيوريتانية فاشتد غضب أشياع روما عليهم، كما أنهم غضبوا على الملك لتمسكه بنظام كنيسة الدولة فدبروا مؤامراتهم الشهيرة مؤامرة البارود لنسف البرلمان والملك جميعاً، ولكن مؤامراتهم أحبطت إذ نما خبرها إلى الحكومة، وأزيل البارود والفتائل من تحت البناء ولاقى المؤتمرون نكال الملك جزاء بما أجرموا، وحاق بهم سوء ما مكروا فنسف ما بقي لديهم من البارود عدداً منهم، وأصبح أشياع روما موضع سخط الناس جميعاً وكراهتهم وظل الناس زمناً طويلاً يعلمون بحادثة منكرة إلا ردوها إليهم، وظل السذج من العامة ينسبون كل شر يقع مهما كانت صورته إليهم، ولا يزال بعض القرويين حتى اليوم يحرقون تمثالاً رمزياً للبابا في ذكرى هذا الحادث من كل عام.
وعظم ميل الناس إلى البيوريتانية بقدر ما أشتد سخطهم على الكاثوليك، ولكن القساوسة على الرغم من ذلك يوحون إلى الملك اضطهاد البيوريتانز والعطف على الكاثوليك من أتباع الكنيسة الإنكليزية، والتمسك بالنظام الأسقفي، وأصبح هؤلاء القساوسة في نظر البيوريتانز وأنصار الحرية الفكرية جميعاً رمز التعصب الأحمق والاستبداد الغبي، لا يدرون أهم أم الملك أحق منهم بالمقت والازدراء؛ وكان كلما أشتد سخط الشعب على الأساقفة ازداد عطف الملك عليهم وحباهم بالمودة والرعاية وبالغ في التمكين لهم في سلطتهم وتنفيذ ما يشيرون به يكيد بذلك لمخالفيه ويشرح صدور مؤيديه.
وتناصر على الملك وحزبه البرلمان البيوريتانز، ومازالت هاتان القوتان تعملان على مناوأته في ثبات ويقين حتى أدركه الموت سنة 1625، وخلف لابنه شارل الأول العرش والثورة معاً، ولسوف تكون البيوريتانية في عهده أشد خطراً عليه من النزاع الدستوري بينه وبين البرلمان.
واستوى على عرش إنجلترة شارل الأول، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وكان شارل على الضد من أبيه في خلقه فلم يعرف التبذل واللهو، بل كان ملكاً من جميع أقطاره يملأ النفوس هيبة باحتشامه ووقاره، ولم يك ضعيف العزيمة ولا خواراً ولا أرعن الكلم ولا ثرثاراً؛ بيد أنه لم يتوفر له من الثقافة بقدر ما توافر لأبيه منها. وكان البرلمان قد مرن
على أساليب المعارضة والمقاومة في عهد جيمس، فلم يك أمام شارل ألا طريقاً واحداً هو مسالمته، ولكنه تنكب هذا الطريق، وبالغ في إعنات البرلمان وأسرف في تمسكه بالحق الإلهي المزعوم، وأصبحت سياسته تنحصر في مقاومة الرأي العام حتى مل الناس، لا يحفلون رضاه أو غضبه.
لم يكد يجتمع أول برلمان في السنة الأولى من حكمه حتى دب الخلاف بينه وبينه، وذلك أن البرلمان لم يمنحه المال إلا بقدر حتى يظل محتاجاً إليه فلا يحله، كما أن البرلمان لم يعتمد له ضريبة التجارة إلا لسنة وكانت للملك طول حياته، وكانت الحرب قائمة بينه وبين أسبانيا فكانت حاجة الملك إلى المال شديدة، وأمدت انجلترة فرنسا ببعض سفنها لتقذف بها أسبانيا ولكن فرنسا قذفت بها البروتستنت في أرضها حيث تحصنوا في ميناء لاروشل فغضب البرلمان وما زال ينتقد سياسة الملك حتى ضاق به الملك فحله.
ولكنه دعا برلماناً جديداً في السنة التالية أي سنة 1626 فاشترط هذا البرلمان أن يزيل الملك أسباب ما يشكو الناس منه وإذ ذاك يجيبه في سخاء إلى ما يطلب من مال. واتهم البرلمان لورد بكنجهام توطئة لمحاكمة أمام اللوردات، وكان أقرب المقربين إلى شارل، وكان بكنجهام هوفلير أحد أصفياء أبيه جيمس من قبله، وكان يعتقد الناس أنه هو الذي يوحي إلى الملك الطغيان ويدفعه إلى محاربة البرلمان، واستشاط الملك غضباً وأمر بالمحرضين على ذلك فألقى بهم في السجن، وامتنع البرلمان عن العمل حتى يطلق الملك سراحهم، وأعلن ألا تجبى ضريبة التجارة إلا بموافقة البرلمان، وأذعن الملك فأطلق المحرضين، ولكن البرلمان عاد إلى اتهام بكنجهام فلم يطق الملك صبراً، وتخلص منه بحله.
وعمد الملك إلى فرض قرض جبري لمواجهة الحرب وأخذ في جمعه بالقوة، وكان يرسل إلى السجن من يرفض أن يدفع، وكان ممن دخل السجن بسبب الامتناع جون همبدن أحد زعماء البرلمان وقد أصر على امتناعه معلناً في صراحة وجرأة أن الملك لا يملك فرض مثل هذا القرض، وزاد على ذلك قوله (أن العهد الأعظم ينبغي أن يقرأ مرتين كل سنة في وجه من يخرجون عليه).
واشتدت الضائعة بالملك، فقد ساقته حماقته إلى خلاف بينه وبين فرنسا وانقلب الخلاف إلى
حرب وما تزال الحرب بينه وبين أسبانيا قائمة؛ وأرسل شارل حملة بحرية لمساعدة البروتستنث الفرنسيين (الهيوجونون) في لاروشل، وكانت قيادتها لبكنجهام وباءت بالفشل، فازداد الناس سخطاً عليه وعلى الملك، وراح الملك يجمع القرض الجبري بكل ما في وسعه من عنف حتى لقد ألقى بنحو ثمانين من العلية في السجن ممن حذوا حذو همبدن، أما العامة فكان الجلد جزاء من يمتنع أو الحشد في صفوف الجيش أو في سفن الأسطول، ولم يغني عن الملك بطشه فقل المال في يديه وأيقن أن لا بد من دعوة برلمان ومهد السبيل لذلك بإطلاق من سجن، كما أنه طمع أن يكتسب بذلك مودة الشعب
واجتمع البرلمان الثالث سنة 1628 فافترض حاجة الملك إلى عونه وعاد إلى اتهام بكنجهام، وتحرج الأمر بينه وبين الملك. ثم أعد النواب ملتمساً سموه ملتمس الحقوق، وأعلنوا استعدادهم لإجابة الملك إلى بغيته من المال إذا أجابهم إلى ذلك الملتمس، ووافق الملك فأجابوه إلى ما أراد، ونص الملتمس على أنه لا يحق للملك فرض ضريبة إلا بموافقة البرلمان، وألا يسجن أي شخص إلا وفق القانون، وألا يجعل الجند عالة على الناس، وألا يلجأ إلى الأحكام العسكرية بدل القانون العام، وهذا الملتمس مستمد في روحه من العهد الأعظم، ويعد بعده الوثيقة الثانية لحقوق الإنجليز وحرياتهم.
على أن أشد ما استاء منه الناس هو مسلك الملك يومئذ في سياسته الدينية. أظهر شارل من أول الأمر ميله إلى نظام الكنيسة الإنجليزية، ومع أنه لم يك كاثوليكياُ وفق مذهب روما فإنه كان يكره البيوريتانز كرهاً شديداً ويخاف من تزايد عددهم ويشك في دعوتهم الإصلاحية ويراها ضربا من التطرف لا مبرر له ويميل بالرجوع بالدين إلى مظهره الكاثوليكي القديم.
وحدث أثناء إجازة البرلمان أن قرب الملك إليه أحد رجال الدين وهو وليام لود ورقاه أسقفا للندن، وأخذ يعمل بما يشير عليه به، وكان لود من أشد أعداء البيوريتانز، وكان هؤلاء يمقتونه أشد المقت لتعصبه لنظام الكنيسة الإنجليزية ولميله الفطري إلى الاستبداد بالرأي والقسوة في معاملة خصومه ولضيق تفكيره وفظاظته، وغلظ قلبه، فلما قربه الملك إليه، عد البيوريتانز عمل الملك نذيراً لهم فأجمعوا أمرهم بينهم على مقاومته ومعاندة لود وممالأة البرلمان عليهما، وأصبح البيوريتانز من أكبر المتحمسين في طلب الحرية السياسية، فهي
فضلاً عن كونها من مبادئ مذهبهم تعد في رأيهم الآن طريق الخلاص من وليم لود أسقف لندن خصمهم العنيد.
وقتل بكنجهام بيد مغتال لأمر لا يتصل بالسياسة فتنفس الناس الصعداء، وخفف عنهم ذلك مروق ونتورث شيئا قليلاً ودأب الملك في جمع ضريبة التجارة، وعاد الجند يفرضون على الناس لإطعامهم وإيوائهم أينما انتقلوا، ونظر النواب فإذا ملتمس الحقوق لم يبقى فيه من الحقوق شيء.
فلما اجتمع البرلمان سنة 1629 كانت قلوب أعضائه مليئة بالسخط على الملك الذي نقض عهده، وأخذ البرلمان يدعوا إليه بعض المسؤولين ليستجوبوهم عما عدهم مخطئين فيه مما يتصل بحماية ضريبة التجارة فكان عمله هذا تحدياً لإرادة الملك.
وأعد بعض النواب مقترحاً فحواه أن جباية هذه الضريبة عمل غير قانوني فليس على الناس أن يدفعوها، وصاح فيهم رئيس المجلس أن الملك قد أمره ألا يكون موضع مناقشة، ونظر الرئيس فكأنما أنقلب المجلس بركاناً يلفظ الحمم، وصعب عليه أن يتبين ما هز أرجاء القاعة من عبارات صاخبة فمن احتجاج على التدخل الملك في إدارة الجلسة ومن هتاف بوجوب الإصرار على المقترح، ومن صيحات موجهة إلى الرئيس أن ينزل عن كرسيه إلى غير ذلك من مظاهر الغضب والسخط، وذهب بعض النواب فأغلقوا باب القاعة وجاءوا بمفتاحها فوضعوه على المنصة وأنزل عضوان الرئيس عن كرسيه بالقوة وبعض اللوردات وكبار الموظفين يطرقون الباب في غير جدوى إلى أن قرء المقترح ووافق عليه النواب في حماسة عظيمة، ومما جاء في فيه قول النواب (إن من يحدث تغيراً في الدين أو من يفرض ضريبة جديدة أو يدفعها بغير موافقة البرلمان فهو عدو للملكة).
ولما نما ذلك إلى الملك لم يسعه إلا حل البرلمان فحله في اليوم الذي تحدد لاجتماعه بعد هذه الجلسة المشهودة، وأمر الملك فقبض على بعض أعضاءه وأرسلوا إلى السجن، وكان في مقدمتهم سيرجون إليوت صديق همبدن وصاحب المقترح، وبعد مضي بعض الوقت تاب الأعضاء مما فعلوا فخلى سبيلهم إلا اليوت فقد ظل على إصراره. وساءت في السجن حالته ومشى السقم في بدنه فما زاده ذلك إلا عناداً وإصراراً. واقترب منه الموت بعد بضع سنين فما أخافه شبح الموت ولا أوهن له اصطباراً ولقي النائب الشجاع حتفه بين جدران
السجن فكان أحد شهداء الحرية، وكان من السهل أن يشتري حياته بإذعانه لمن سجنه ولكنه آثر ميتة البطل؛ ولم يتورع الملك عن أن يكيد له وهو بعد رفات فمنع أهله من أن يدفنوا جثته خارج السجن فوسد حيث استشهد، ودفن حيث أبت روحه أن تدفن.
(يتبع)
الخفيف
نظرات في الأدب:
الأدب والمجتمع
كان من نتائج شيوع المذاهب الاشتراكية، أن بدأ كثير من الكتاب - ولاسيما دعاة تلك المذاهب - يتجهون في كتاباتهم اتجاهاً جمعياً؛ ويحاولون أن يعالجوا كل ما يمس المجتمع من قريب أو من بعيد؛ ويجهدون - قدر الطاقة - في وسم كل إنتاج لهم بالميسم الاجتماعي.
ولا شك أن هذا الاتجاه إلى معالجة شئون المجتمع، والنظر إليها هذه النظرة الفاحصة الممحصة لمما يحمد أثره في النهوض بالشعوب والرقي بالأمم.
ولا شك في أنه أيضاً اتجاه طبيعي إلى حد كبير؛ وهو - في ذاته - معقول ومجد، لأنه يتفق وغلبة النزعة الاشتراكية على بلاد العالم جمعاء. . . حتى الديمقراطية منها.
ولكن كل هذا - وإن كنا نقره ونعترف به - لا يبرر - بأي حال - وجوب اتجاه الأدب - بوصفه فناً من الفنون الجميلة - إلى المجتمع. . . والمجتمع فحسب: يعالج شئونه، ويجاهد أن يحل قضاياه، ويتلمس أن يتعرف علله الظاهرة منها والباطنة؛ ثم هو لا يتجه من بعد ذلك إلى غير هذا؛ فهو من المجتمع: ابنه البكر ووليده المشمول برعايته - وإليه؛ ولا ينبغي أن يبتعد عنه ويروح يغوص في لجج التيارات الفردية والنزعات الإنسانية التي تلغي قيود الزمنية والمكانية.
. . . هذا بعينه - هو ما يذهب إليه دعاة الأدب للمجتمع. . . ذلك النفر المغالي في إنكار الذات إلى حد غير متقبل عقلاً وبداهة
لقد ظن أولئك الدعاة أن الأديب يحيد عن رسالته الروحية حين لا يصرف كل جهوده في توجيه المجتمع وحل قضاياه؛ وارتأوا أن في انتهاجه المنحى الفردي - الذي يحصر حدود الكلام فيما يعتلج في النفس ويدور حولها ويتعلق بها ويرتد إليها - انحرافاً يستدل منه على أنه لا يماشي المجتمع ويجري وراء الأوهام والتعلات!
وهذا قول من شأنه أن يضيق من حدود مجالات الأدب الفسيحة، حتى يضيق الأدب به ويضيق بأصحابه على خلاف ما يتوهمون!
إن الأدب - أسوة بغيره من الفنون - تعبير. . . تعبير بكل ما نريد بهذه الكلمة من تبيان
معاني (الإفصاح والإبانة والتجلية). وفن هذا شأنه وهذه طبيعته، لا يمكن أن نقسره على أن يكون صدى لمجتمع بعينه أو بيئة بعينها. وكل ما ينبغي أن نطالبه به وننشده فيه، هو أن يكون صادقاً مبيناً صادراً عن نفس تحس فتتأثر ثم تؤثر.
والكاتب حين يصدر في إنتاجه عن حس صادق مستوفز للمؤثرات والحوافز، وملكة مواتية ذلول تموج فيها تيارات الإلهام الدافق المتفجر - لا يمكن أن يكون (مسؤولاً) بعد ذلك، عما إذا كان قد تناول شؤون المجتمع أم طوى كشحاً عنها. . . لا يمكن أن يكون (مسؤولاً) في (عرف) آلهة الفن وحواريه وملائكته. . . وشياطينه أيضاً! ولا علينا بعد ذلك أن يكون (مسؤولاً) أمام المجتمع أو أمام الساسة المهرجين!
أجل. . . حسب الأديب الفنان أنه عبر. . . في صدق وإخلاص يكون لهما في القلب رنين. . . حسبه هذا، وكفى به رصيداً - أي رصيد - يضم إلى تراث الإنسانية الرفيع!
وتعبير هذا شأنه من الصدق وتحري نفحات الإلهام هو - من غير شك - لذو أثر في السمو بالإنسانية عامة - أيا كان لونه واتجاهه. ولا يعنينا - بعد ذلك - أن يكون إحساس هذا الأثر جلياً ظاهراً للعيان، صادرا عن مجاوبة مجتمع بعينه، أم خفياً ينسرب إلى التراث الإنساني في خفة العصفور الدقيق الرشيق. . . بل إني لأراه أطيب وأوقع في النفس، وأقوى على تحمل البقاء في رصيد الإنسانية، حال خفائه وإنسرابه إليه في خفة العصفور الدقيق الرشيق!
وأني لأسمع الكثيرين يتساءلون حين يصادفون نتاجاً أدبياً، يتناول وقائع خاصة أو أحداثاً شخصية فردية بحتة، بحيث لا تمس أحوال المجتمع في كثير أو قليل. . . إني لأسمعهم يتساءلون في أسى وحيرة:(. . . وما جدوى هذا الإنتاج للمجتمع؟!)
. . . وما أحراهم أن يديروا هذه الأسئلة التالية في عقولهم - وفي قلوبهم أيضاً! - ليجدوا المخلص من أساهم وحيرتهم اللذين لا مبرر لهما. . . في نظري:
أليس هذا الإنتاج (إنسانيا) على كل حال؟ أليس المجتمع - في ذاته - ليس إلا مجموعة أفراد؟. . . ومهما تمايزت المجتمعات واختلفت الشعوب وتباينت النحل والأجناس، ألا توحد بينهما جميعاً رابطة الإنسانية العليا؟!. . . ثم. . . أليس في حكم البدائة المقررة أن النفس الإنسانية - مهما تعددت في شكولها الظاهرية، وبالنسبة إلى الزمنية والمكانية -
واحدة في جوهرها وفي صميم فطرتها الأصيلة؟!
. . . ولا ينبغي أن يخشى أولئك الاجتماعيون - الذين يريدون أن يستأثروا بهذا الوصف وحدهم. . . لست أدري لماذا؟! - لا ينبغي أن يخشوا أن ينحرف الأديب - إذا لم يقيد إنتاجه بالغرض الاجتماعي والهدف النفعي - إلى قضايا الشر يؤيدها ويمجدها ويحث على إثارتها. . . فيهود بذلك المجتمع ويصبح حرباً عليه، حين كان يؤمل فيه - لو أنه توجه في تياره - أن يكون عوناً له ونوراً به يستضئ. . . لا ينبغي أن يخشى أولئك الاجتماعيون، شيئاً من ذلك على الإطلاق، لأننا لا نعرف الفنان إلا خيراً، ولا نعرف الفن إلا خيراً صرفاً كله؛ لأنه لا يجوز في الذهن - والفنون بالبداهة أسمى كنوز الإنسانية، وأغلى ما تعتز به من تراث - أن تكون نفس الفنان مركبة على حب الشر والنزوع إليه. وما هذا الأدب الشرير الذي منه يتوجسون وعلى مجتمعهم منه يشفقون، إلا غطاء ظاهري نسجه المجتمع اللعين، وظاهره في ذلك القدر فطمر على ينابيع الخير الثرة في النفس الفنانة الشفيفة
. . . لا خوف على الإنسانية من شر ظاهري زائف، يفضحه الخير المتأصل في النفس - ونعني بها هنا نفس الفنان - تأمل الخصب في الأرض الطيبة السمحة!
(مصر الجديدة)
عبد العزيز الكرداني
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
734 -
جاء الزمان إلي منها تائباً
دخل عبد الله بن عبد الواحد على الملك العادل بن المنصور (من ملوك الأندلس والمغرب) فقال له العادل كيف حالك؟
فأنشده:
حال متى علم أبن منصور بها
…
جاء الزمان إلي منها تائباً
فاستحسن ذلك منه وولاه أفريقية.
وهذا البيت للمتنبي وإنما تمثل به لموافقة اسم منصور فيه لاسم والد العادل فحسن التمثيل به.
735 -
تسأل عنها أخاك إبليس
في (العقد) كان ابن سيرين إذا سئل عن مسألة، فيها أغلوطة، قال للسائل: أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس.
736 -
يبكي الغمام وتضحك الأزهار
قال ابن ظافر: اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأديب أبو العباس بن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب برق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء. فقال ابن القبطرنة:
هذى البسيطة كاعب أبرادها
…
حلل الربيع وحليها النوار
فقال ابن صارة:
وكأن هذا الجو فيها عاشق
…
قد شفه التعذيب والأضرار
ثم قال:
وإذا شكا فالبرق قلب خافق
…
وإذا بكى فدموعه الأمطار
فقال ابن القبطرنة:
من أجل ذلة ذا وعزة هذه
…
يبكي الغمام وتضحك الأزهار
737 -
أتاك مني بما لا تشهى القدر
كان أبو الهذيلي العلاف المعتزلي يبغض العباس بن الأحنف ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلواً كان ناصركم
…
قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم
…
فكل ذلك محمول على القدر
فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره.
فقال العباس بن الأحنف:
يا من يكذب أخبار الرسول لقد
…
أخطأت في كل ما تأتى وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك فقد
…
أتاك منى بما لا تشتهى القدر
738 -
لم لم يروحه كما أغداه؟
في (الموشح) قال الصولى: قال الأصمعي: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدى من قصيدته الطويلة:
فتى تمّ فيه ما يسّر صديقه
…
على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت أعراقُهُ غيرَ أنه
…
جوادٌ فلا يُبقي من المال باقيا
أشمُّ طويل الساعدين، شَمردلٌ
…
إذا لم يرح للمجد أصبح غادياً
فقال الرشيد: ويله! ولمَ لمْ يروحه في المجد كما أغداه؟
إلا قال: إذا راح للمعروف أصبح غادياً.
فقلت: أنت والله (يا أمير المؤمنين) في هذا أعلم منه في الشعر.
739 -
سؤال الحوائج عند الطعام
في (شذرات الذهب): كان أبو العباس - أول خلفاء العباسيين - إذا حضر طعامه أبسط الناس وجهاً، فكان إبراهيم بن مخرمة الكندي إذا أراد أن يسأله حاجة أخرها إلى أن يحضر طعامه، ثم يسأله. فقال له يوماً: يا إبراهيم، ما دعاك إلى أن تشغلني عن طعامي بحوائجك؟
قال: يدعوني إلى ذلك التماس النجح لمن أسأله له.
فقال أبو العباس: إنك لحقيق بالسؤدد لحسن هذه الفطنة.
740 -
مصيبة. . .
يهودي بلا مال
…
وأعمى ماله صوت
741 -
من أدب السلف الصالح
في (الآداب الشرعية والمنح المرعية):
ابن عقيل في الفنون: مما وجدتهُ في أدب أحمد إنه كان مستنداً وذكرَ عنده ابن طهمان، فأزال ظهره عن الاستناد وقال: لا ينبغي أنْ يجرى ذكرُ الصالحين ونحن مستندون.
قال ابن عقيل: فأخذتُ من هذا حسن الآداب فيما يفعله الناسُ عند إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته.
742 -
إن اللئام إذا ما سافروا ضجروا
كانت العرب تقول (السَّفر ميزانُ القوم) كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم. قال العطوي:
أكرمْ رفيقك حتى ينقضي السفر
…
إن الذي أنت موليه سينتشر
ولا تكن كلئام أظهروا ضجرا
…
إن اللئام إذا ما سافروا ضجروا
743 -
ويكون جُرحك جبارا
في (نفح الطيب) كان ابن الصابوني الأندلسي في مجلس أحد الفضلاء بأشبيلية فقدم فيما قدم خيار، فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين، فخطف ابن الصابوني السكين من يده. فألح عليه في استرجاعها. فقال له ابن الصابوني كف عنى وإلا جرحتك بها.
فقال له صاحب المنزل: أكفف عنه لئلا يجرحك ويكون جرحك جبارا. . .
744 -
الأعرابي وفن العروض
في (محاضرات الراغب): دخل إعرابي مسجد البصرة فانتهى إلى حلقة علم يتذاكرون الأشعار والأخبار وهو يستطيب كلامهم ثم أخذوا في العروض فلما سمع المفاعيل والفعول ورد عليه ما لم يعرفه فظن أنهم يأتمرون به فقام مسرعاً وخرج وقال:
قد كان أخذهمُ في الشعر يعجبني
…
حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
لما سمعت كلاماً لست أعرفه
…
كأنه زجل الغربان والبوم
ولَّيت منفلتاً والله يعصمني
…
من التقحم في تلك الجراثيم
شهادة.
. .!
للدكتور إبراهيم ناجي
قولها بين يدي صديقي الشاعر الوجداني الأستاذ أحمد عبد
المجيد الغزالي تحية معطرة بشذى (زهر الربيع)
وفيْنانةٍ ريَّانةٍ بجمالها
…
بتول، كأملاك السماء كَعاب
رآها أخ بالحسن والسَّحر عارف
…
عليم بشُهدٍ في الحياةِ وصاب
بها صور شتى من الحسن، لم تدرْ
…
ببال، ولا جالت له بحساب
بدت سافرات تنهب القلب والحجى
…
ولو كان هذا الحسن خلف نقاب!
إذاً لتحدَّى صولةً كل حائل
…
وشق إلى الأنوار كل حجاب
فيالك من حسن قوي وإن يكن
…
كفجر وديع في الضَّياء مذاب
رآها. . . فصاح القلب في الصدر هاتفاً:
…
ألا ليتني أدركتها بشبابي. . .!
هي.
. .
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(أرفع تلك الورقة المخضلة بهذه الأبيات وكأنها زهرة منداة من (زهر الربيع)
أطلَّت على دنيايَ فجرَ شبابي
…
فعشت بقلب في الضَّياء مذاب
يباكره منها السنا كلما سرَت
…
فتشرق آمالي به ورِغابي
حبتنِيَ من نور الجمال ونوْره
…
ضياء ظلامي وازدهار يَبابي
عرفتُ بها سرَّ الجمال محجّباً
…
وأدركتُه سرًّا بغير حجاب
فلا أنا في الحاليْن أرضى ضلالتي
…
ولا أنا أرضى جانب المحراب
محيَّرةٌ في القرب والبعد يستوي
…
شرابي من كأساتها وسرابي
حنانَيْك أودت بي قُطيعتكِ التي
…
مضت. . . والتلاقي قد أضاع صوابي
ولست بشاك ما أعانيه من ردَّى
…
لغير التي منها أكابد ما بي!
عيد الجلاء.
. .!
للأستاذ أنور العطار
دمشق ترفل في أفواف وادينا
…
غنَّى لها (برَدَى) هيمان مفتوناً
السلسل العذب يُهدي (النيربينْ) هوى
…
كالروض يَعبقُ أوراداً ونسْريناً
و (قاسيون) انتشت بالنور هامته
…
كأنه قبس الأنوار من (سينا)
وضجت الغوطة المنضور جانبها
…
بيوم (جلَّقَ) واهتزت أرانينا
يوم أغرُّ على الأيام مؤتلقٌ
…
مُشَهَّرُ ما يزال الدهر ميمونا
يا صفحة قد كتبناها بأيدينا
…
بالدمع والدم قد زِينتْ أفانينا
ويا جهاد الأُلى أعتز الجهاد بهم
…
أرضيتم اليَعْر ُبيّين الأبيّينا
نزَّهتمُ الشام من باغ يعيثُ بها
…
وصُنتمُ مهدها مهد النَّبِيِّينا
ملأتمُ ساحها عزاً وتكرِمة
…
فكان حاضرُنا رمزاً لمِاضينا
أتت على الشام أعوام مُرَوًعة
…
كأنما هي أجيالُ تُعَنًينا
جرُ المغير ' علينا نقمةَ عَظُمت
…
فكانت الدار نهب الأجنُبيِينا
فهبًّ من مهدوا يوم الخلاص لنا
…
يصارعون الرٌزايا غيرَ وأنينا
فكان إقداُمهم بعثاً لهامدنا
…
وحافزاً يحفز الشًّعْت المساكينا
مشوا إلى الهول يرتادون جاحمه
…
يستعذبون المنايا غير خاشينا
كأنهم أرَجُ الفردوس تَنفحه
…
رياض جلٌقَ فوٌاحاً تحاسينا
تباركَ الدم قد أهرَقتموهِ فداً
…
وقدًّ ستْ أنفسُ سُالتْ قرابينا
لم تُلهِكم مُتعُ الدنيا وزينتها
…
أن تبعثوها على الباغي براكينا
ولم يُخفكم أذى العادي وصولته
…
أن تذعنوا أو تقرٌوا الذٌل عانينا
ولا ارتضيتم مِهاد العيش لينة
…
والحرٌ لا يعرف الإذعان والهُونا
الخالدون وما الدنيا وبهجتها
…
إلا سنا الخالدين العبقريينا
عاشوا جمال الدٌنا حتى إذا نزلت
…
بهم مناياهم ظلوا عناوينا
كأنما يبدءون العمرَ ثانية
…
حتى إذا ما تواروا أشرقوا فينا
يا حفنة من ثرى الأجداد طيبة
…
تكاد من طِيبها تَندى رَوابينا
هبت فكانت ربيعاً في حواضرنا
…
وبهجة وائتلاقاً في بوادينا
يلفٌهَا الحبُّ مختالاً بها فرحاً
…
كأنها الشام قد رفٌتْ بساتينا
نبثها فرحة الأحفاد قد نهضوا
…
وأثْلُوا الملك تدْعيماً وتمْكِيناً
بثٌوا الرسالة في أوج العلى ومشوا
…
للمجد والعزة القَعْساءِ سامينا
طافوا بقبر صلاح الدين واستلموا
…
فعل المطيفين بالبيت المناجيا
شادوا كما شادتِ الأجدادُ في وطنٍ
…
صُنْعَ الأباةِ الحماةِ العَبْشَمييٌنا
المالكين وعزُّ الملكِ يلحظهم
…
والمالئين فِجاجَ الأرض تمدِينا
الناهجينَ إلى العلياءِ منهجها
…
والألمعيين إتقاناً وتحْسينا
حيوا لأوطانهم حتى إذا رقدوا
…
تفرٌدوا بجلال الذٌكر باقيا
لم يطمئنوا إلى الأيام خادعة
…
والدهر مازال حرب المطمئنينا
مَن مبلغ راقداً في الرمل متشحاً
…
بُرد الشهادة مغموراً رياحينا
الجوهرَ المحضَ تاهت (ميسلون) به
…
كأنه البدر في راجي ليالينا
والصادق العزم لو لاقى بعزمته
…
صم الجنادل رد الصخر موهونا
من آثر الموت أن يحيا إلى زمن
…
يذوق فيه الردى صاباً وغساينا
تدرًّع العزم لا يلوى به أمل
…
ولقٌن الصبرَ في الهيجاء تلقينا
إنٌ الوفيينَ قد صحٌتْ عزائِمهم
…
فزحزحوا عن حِمى العرب المغيرينا
وشيٌدوا المجد بالهامات طائحة
…
وللمآثر والعلياء بانونا
تلكم دماؤُهم ضجت مزغردةً
…
وتلكم يا بني قومي أضاحينا
وأنت يا عيدَهم بوركتَ من أمل
…
حلو على الدهر نُحييه فيُحيينا
في (ميسلون) طريف من مفاخرنا
…
وفي حماها رفيف من أمانينا
وفي تضاعيف سوح الشام أمثلةُ
…
من الفداء تُناجينا فتُصْبينا
وعداً عليًّ وقد أصغى الزمان لنا
…
لأ نظمنٌ بها أحلى أغانينا
يا وحدة العرب لوحي في أباطحنا
…
وأشرقي كالدراري في مغانينا
وأنت يا نفحة الضاد التي سكرت
…
بها النفوس وما تنفك تغرينا
لأنت زاد الأُلى ازدان الوجود بهم
…
وأنت أنت السٌنا في الخطب يهدينا
إذا ضللنا ولم ترشد محجتنا
…
لذنا بوحدتنا الكبرى تؤاخينا
وإن ضعفنا وأوهى الضعف عقدتنا
…
كانت لنا داعماً في الضعف يعلينا
وإن حننا إلى الأطيار صادحة
…
شدت لنا اللغة الفصحى تناغينا
يا فرحة الملتقى أذكيتني طرباً
…
وهجت أحلى المنى في أرض (جيرونا)
تركت قلبي مغموراً بنشوته
…
سكران تصيبه أفراح النجيينا
يا طول شوقي إلى الآلاٌف قد رجعوا
…
ولم يكن طيفهم يوماً يصادينا
غنى لَهم خاطري فرحان مبتهجاً
…
لحن اشتياقٍ يسيلُ الدمعِ مخزونا
تساءل النفسِ في شوقٍ وفي لهفٍ
…
منْ أنتَ يا من أذاعَ الوجدِ مكنونا
أأنتَ ذيالكَ الطيف ' الذي خفقتْ
…
له الضلوعِ وغناة المغنونا
أم أنتَ دنيا مِن الأحلامِ طيبةُ
…
كالمسك نشراً وأنفاسِ الربا لينا
أم حققَ اللهُ وعداً فاتناً لهجت
…
به النفوسَ ونصراً كانَ مضمونا
أأنتَ طيفُ سَرى في العينِ ناعِمة
…
أم أنتَ حققت للعُرب الأظانينا
فصحتُ من طربٍ والزهوُ يملكني:
…
(أضحى التداني بديلاً من تنائينا)
ماذا على القلبِ إنْ هاجتْ هوائجه
…
فراحَ ينشد أشعارَ (أبن زيدونا)
يا جيرة العُرب صان الله عقدكم
…
وزادهُ الحب توثيقاً وتمكينا
حلٌلتُم الوطن المزهوًّ جانبه
…
من بعدِ ما نهلتْ منه أعادينا
وبعد داء عياء لا كفاَء له
…
جمٌ المواجع يُشجينا ويُبكينا
الغاشم المرٌ ولُى عن أباطحنا
…
وأنهارَ كالسيلِ سكباً من صياصينا
قد حطٌهُ وهو في عليائه قدر
…
يردِى المغير ويطوى المستبدٌينا
فقل له زاجراً نهلان ِمن سخر
…
لا عدتَ يا من صحبت الرأي مأفونا
ولا أظلٌتك دنيا الناس تملؤها
…
غماً طويلاً وويلاتٍ أفانينا
أثرْتَ للحق تُعليه وتُعظمه
…
أم كان ذلك تضليلاً وتلويناً
غررت ناساً فقالوا ثورة عجب
…
قد صاغها الحق حيناً والعلى حينا
يعيش فيها الحجا جذلان مغتبطاً
…
ويستنير برأي الألمعيينا
ثم انجلتْ فإذا طغيان مختبل
…
جم المخازى فما زينت ولا زينا
تفيض بالفتنة الكبرى جوانبها
…
وتملأ الأرض تفكيكاً وتوهينا
يا يوم (جلق) ضم العرب فائتلفوا
…
فما ترى بيننا غير المحبينا
الهائمين تلاقوا بعد ما افترقوا
…
وعاهدوا الله أن يحيوا وفيينا
تمازجوا في إخاء رائع عجب
…
فعل الأخلاءِ في الدنيا المصافينا
(نجد) الهوى و (الحجاز) السمح قدْ سربا
…
في (جلق) وانثنتْ (بغداد) تطرينا
وأشرقتْ (مصر) باللأ لأء باهرة
…
وبالحياةِ وبالأرواحِ تفدينا
ومر (لبنان) في خلابِ صورتهِ
…
كأنه الشِعر ترتيلاً وتلحيناً
(عمان) طافت تهز النفس روعتها
…
ورفتْ الشام في وشى (اليمانينا)
لكنما العين مازالتْ مؤرقة
…
تبكي الأحبة في دنيا (فلسطينا)
تهيب بالعْربِ في علياءِ عزتهمْ
…
أن ينقذوا اليعربيينِ المصابينا
العرب في (المغرب) الأقصى تناجينا
…
والعرب في (المغرب الأدنى) تنادينا
لهفي عليهم وقدْ ضاقَ الفضاء بهمْ
…
ماذا من الغاشمِ العادي يلاقونا
ما زالتْ الأرض تندى من دمائِهِمْ
…
وما تزال عواديهمْ عوادينا
العرب في ثورةِ للمجدِ شاملة
…
علياء وطدها الصيدِ المحامونا
حراس وِحدتنا الكبرى ومن سفكوا
…
أرواحهمْ في سبيلِ العربِ فادينا
ومن أشاحوا عن الدنيا ومن تخذوا
…
هوى العروبةِ فيما بينهم دينا
هذا هو المجد خطته أناملهم
…
وخلدته على الدنيا قوافينا
كأنما هو مسكُ من دمائهِم
…
قد استطارَ دموعاً من مآقينا
البريد الأدبي
في مقالة للأستاذ العقاد:
روى العلامة الأستاذ الشيخ المحترم عباس محمود العقاد في مقالته: (من الدعوة الهندية) في الرسالة الغراء 671: (وكل ما أدعيه أنني محدث) وقد ضبطت هذه اللفظة الأخيرة بكسر الدال وتشديدها - ولا ريب في أن ذلك تطبيع - ومقصود القائل، هو المحدث بفتح الدال وتشديدها. قال أبن الأثير في النهاية.
(قد كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر أبن الخطاب. جاء في الحديث تفسيره أنهم المهملون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة، وهو نوع يختص به الله عز وجل من يشاء من عبادة الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه).
والمروع - بفتح الواو وتشديدها - مثل المحدث. جاء في لسان العرب:
(وفي الحديث المرفوع أن في كل أمة محدثين ومروعين فإن يكن في هذه الأمة منهم أحد فهو عمر. المروع الذي ألقى في روعه الصواب والصدق وكذلك المحدث كأنه حدث بالحق الغائب فنطق به).
وقد رأى الشيخ المحترم أن (التسليم) هو للكلمة الفرنجية قائساً إياها - كما أوقن - على التهويد والتنصير والتمجيس. روى البخاري:
(ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. . .).
وفعل ذلك المصدر (سلم يسلم) ولهذا في العربية معان كثيرة ليس الحرف المختار للفرنجية منها، وإذا لم نسلم بما قال الأستاذ العقاد فماذا نقول؟. . .
السهمي
إلى الأستاذ أحمد حسين:
خذ - يا أخا العرب - غير مأمور هذا الخبر في الطلاق إن لم تكن قد رويته في كتابك (الزواج والمرأة) وهو حجة لك وفيه قضاء عدل:
(. . . عن عكرمة في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مئة سوط فامرأتي طالق. قال: لا
يجلد غلامه، ولا تطلق امرأته؛ هذه من خطوات الشيطان). ذكره (ابن داود في تفسيره) في لا تتبعوا خطوات الشيطان).
فلا طلاق إلا أمام القاضي من بعد فحص وبحث، وتذكير وتحذير، ونصح طويل، ولوم جميل. و (آخر الدواء الكي). هذا الذي يرضي النبي محمداً.
مسلم
الجامعة العربية تنشئ معهداً للفقه الإسلامي:
من المشروعات التي ستعرض على اللجنة القانونية لجامعة الدول العربية في شهر يوليو القادم إنشاء معهد للفقه الإسلامي تدرس فيه المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة، ومقارنة بعضها ببعض، ثم مقارنتها جميعاً بالقوانين الغربية الكبرى. والغرض من إنشاء هذا المعهد تهيئة جو مناسب لدراسة الفقه الإسلامي دراسة علمية حديثة تسير بهذا الفقه العظيم في طريق التطور الذي اختطه السلف الصالح من الفقهاء المتقدمين، حتى إذا تهيأت الأسباب أمكن أن يكون الفقه الإسلامي ركناً من الأركان التي تقوم عليها دراسة القانون المدني في العالم؛ وأمكن في الوقت ذاته أن يكون هذا الفقه مادة خصبة تستمد منها التشريعات الحديثة في دول الجامعة العربية. فهل تستطيع كلية الشريعة في الجامعة الأزهرية أن تضطلع بهذا المشروع الخطير لذي تقتضيه حال التطور الدائم في الأقطار العربية والإسلامية؟ إحدى اثنتين: إما أنها تستطيع، لأنها وحدها وريثة الفقهاء الأربعة، وإذن يكون إنشاء هذا المعهد من الفضول الذي يأخذ ولا يعطي، ويعدد ولا يوحد، وزيد ولا يفيد. وإما أنها لا تستطيع، لأن الذين ينهضون بهذا العبء يجب أن يكونوا فقهاء من طراز عبد العزيز فهمي، وعبد الحميد بدوي، وعبد الرزاق السنهوري، وإذن يكون رأي الأستاذ محمود الغمراوي محتاجاً إلى التعديل، حتى لا يتبدد تراث هذا المعهد الإسلامي الجليل.
التربية الدينية في المدارس:
أرسل صاحب المعالي الأستاذ محمد العشماوي باشا وزير المعارف إلى سعادة الأستاذ وكيل الوزارة الكتاب الآتي نصه:
(يهمني العناية بالتربية الدينية بالمدارس على اختلاف أنواعها ودرجاتها بالثقافة حسب
مستوى التعليم، وأن يعني بجانب تعليم العبادات وتفهم روحها ومراميها بإحاطة الطلبة والطالبات علماً بمبادئ الدين الإسلامي في إصلاح النفوس والأجسام وتنظيم المجتمع وتنظيم العلاقات بين الأفراد والأمم على أساس من العدل والاستقامة والأمانة، وتعريف الطلبة بأبطال الإسلام تعريفاً يقوي فيهم روح التقدير للمثل العليا ويحفزهم إلى القدوة الحسنة.
وإني أرجو أن تعرض على اقتراحاً بتشكيل لجنة لهذا الغرض، يكون من المستحسن تشكيلها من الشيخ محمود شلتوت والشيخ حسن البنا وعميدي اللغة العربية بالوزارة لتقترح الخطة، والمنهج، والكتب المحققة لهذا الغرض حسب مراحل التعليم بعد بحث الوضع الحالي لدراسة الدين والثقافة الإسلامية، ويعرض مشروع قرار وزاري بذلك على وجه السرعة بعد الاتصال بحضرات الأعضاء من خارج الوزارة للاتفاق معهم على المساهمة في هذه المهمة.
الجوائز الملكية للعلوم والآداب والقانون:
أوشكت اللجنة الوزارية التي يرأسها صاحب المعالي وزير المعارف أن تفرغ من قواعد النظام الخاص بتوزيع جوائز صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد الأول.
ومما استقر الرأي عليه في ذلك أن يكون توزيع الجوائز الثلاث التي باسم المغفور له الملك فؤاد الأول في 27 إبريل من كل سنة تخليداً لذكرى وفاته، وهي ثلاثة آلاف جنيه، كل جائزة قيمتها ألف جنيه.
ويكون توزيع الجوائز الثلاث التي باسم صاحب الجلالة الملك فاروق الأول وهي على نفس النظام في يوم ذكرى عيد جلوسه السعيد. وهذه الجوائز توزع:
1 -
لأحسن عمل أو إنتاج في العلوم.
2 -
لأحسن عمل أو إنتاج في الآداب.
3 -
لأحسن عمل أو إنتاج في القانون.
وقد سمعنا أن معالي وزير المعارف قد اقترح على اللجنة أن تخصص الوزارة من عندها جوائز أخرى لتشجيع العلوم والفنون فتقرر الأخذ بهذا المبدأ.
من شهادة الفرنج للإسلام:
تلقى (مستر لايس) المفتش السابق للمدارس الإنجليزية بمصر دروساً في اللغة العربية على أستاذنا العلامة اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك عضو المجمع العلمي بدمشق، وقرأ القرآن على أستاذنا العلامة المفسر الشيخ عبد الله العلمي. وقد سمعه الأستاذ المبارك يقول:
لسان العرب وتاريخ الإسلام يغنيان عن كل لسان وكل تاريخ، وما من حسنة في بلاد الفرنج إلا وأصلها من بلاد الإسلام، وما من سيئة في بلاد الإسلام إلا وأصلها من بلاد الفرنج.
فوزي محمد القباني
في الفقه المقارن:
أظهرت مكتبة الآداب بالجماميز الطبعة الرابعة لكتاب الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية، بعد أن أضاف إليه مؤلفه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي المدرس بكلية اللغة العربية كثيراً من الزيادات والتنقيحات، فجاء في 152 صفحة من القطع المتوسط، وقد درس فيه الميراث في الشريعة الإسلامية بتفصيل، وبين فيه طريق حساب الإرث بالقواعد الحسابية الحديثة بعد بيانه بالقواعد القديمة، وذكر فيه جدول المواريث مع تحقيق الخلاف في واضعه.
ثم بين فيه بعد هذا المواريث عند قدماء المصريين، وعند الأمم الشرقية القديمة، وعند العرب في الجاهلية، وعند الأمة اليهودية، وعند قدماء اليونان وعند قدماء الرومان، وهذه هي أشهر الشرائع القديمة.
ثم بين فيه بعد هذا الأصول الحديثة للمواريث الوضعية، والميراث في القانون الفرنسي، والميراث عند الاشتراكيين، واكتفى بذكر الميراث في القانون الفرنسي عن ذكر الميراث في غيره من القوانين الحديثة؛ لأن هذه القوانين مستمدة من القانون الفرنسي، ولا تختلف عنه إلا قليلاً.
ثم ذكر فيه بعد هذا الموازنات بين الميراث في الشريعة الإسلامية والمواريث في هذه الشرائع، فانفتح بذلك باب جديد ظهر فيه أسرار عظيمة في الميراث الإسلامي، أظهرتها تلك الموازنات بينه وبين غيره بعد خفائها، وبينت أن ما جاء بها الإسلام في الميراث
يوافق الأصول الحديثة الصحيحة للمواريث أكثر من المواريث الحديثة والقديمة، وأنه يكفل مراعاة ميل المورثين، والعدل بين الوراثة، والمحافظة على الجيل الجديد، أكثر من المواريث التي وضعت لها هذه الأصول.
وتلك أسرار جديدة لم تكن لتظهر في المواريث الإسلامية لو اقتصر في دراستها على الطريقة القديمة، لأنها تظهر فيها أحكاماً تعبدية لا يفقه لها حكمة إلا اختيار الشارع لها، وإيثاره لها على غيرها، كما جاءت صلاة الصبح ركعتين، وصلاة الظهر أربع ركعات، إلى غير هذا من الأحكام التعبدية.
وما أحوجنا في هذا العصر إلى دراسة أبواب الفقه الإسلامي كلها على هذه الطريقة الجديدة، ليعرف فضلها بالموازنة بينها وبين غيرها من الشرائع، وتظهر فيها أسرار جديدة تجذب الناس إليها، وتحملهم على تقديرها وإنصافها.
اقتراح:
كانت الرسالة تختم كل مجلد بفهرسين: فهرس لإعلام الكتاب وفهرس للموضوعات، ثم ضيقت الحرب صفحاتها، فتركت الأول واكتفت بالثاني.
والرسالة سجل الأدب الحديث لا يكاد يستغني عن الرجوع إليه متأدب ناشئ أو ناقد أديب. ولقد احتجت اليوم إلى النظر في مقالة أعرف موضوعها واسم صاحبها ولكني لا أعرف عنوانها بالضبط لأعود إليه في فهرس الموضوعات، فاضطررت للتفتيش عنها ساعتين كاملتين، ولو كان للإعلام فهرس لوجدتها في خمس دقائق.
فأنا اقترح على الرسالة أن تصل ما كان انقطع وتنظم فهرساً واحداً لإعلام الكتاب عن سني الحرب كلها يكون مكملاً للفهارس السابقة فتعظم فائدته ويجزل شكر القراء عليه. وأحسبه يكلف تعباً كثيراً ولا يأخذ من صفحات الرسالة أكثر من ست صفحات أو سبع، أو يتطوع أحد القراء بتنظيم هذا الفهرس وتقديمه للرسالة لتنشره باسمه وتكون عهدته عليه.
(دمشق)
أحد القراء
مهرجانات جامعة أدباء العروبة في الأقطار الشقيقة:
اعتزمت جامعة أدباء العروبة أن تقيم مهرجانات أدبية في القدس ودمشق وبيروت تحقيقاً لغرضها الأسمى، وهو وحدة الفكر العربي والنهوض بالأدب ليحمل رسالة الإصلاح والبعث والتوجيه. وسيسافر أعضاء الجامعة برياسة معالي إبراهيم دسوقي أباظه باشا إلى الأقطار العربية في الأسبوع الأول من شهر يوليه القادم، وقد تبرع الأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم عضو الجامعة بسياراته لتقل حضرات المدعوين كما ستنزل الجامعة في ضيافته خلال هذه الرحلة.
وقد تألفت لجنة لإعداد هذه المهرجانات من حضرات الأساتذة الدكتور محمد وصفي، ومحمد عبد المنعم إبراهيم، وطه عبد الباقي سرور، وجميلة العلايلي، ومحمد عبد الوارث الصوفي، وعبد الله شمس الدين.
والجامعة تدعو أدباء العالم العربي للمساهمة في هذه الأسواق الأدبية الكبرى نظماً ونثراً، وترسل الكلمات إلى سكرتيرية الجامعة 196 شارع محمد علي بالقاهرة.
طه عبد الباقي سرور
السكرتير العام
القصص
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
عضو المجمع اللغوي الفرنسي
بقلم الدكتور محمد غلاب
4 -
حسن الختام:
يونيو في مدينة تالوار.
إن كل ما يحوطني الآن مفعم بالهدوء والسلام والعظمة والجلال والابتسام، وحول منزلنا الصغير النائم تحت أشعة الشمس تبدو الجبال زرقاء وبيضاء. وقبالة هذا المنزل توجد البحيرة العظيمة بلونها الفضي، وباريس الآن بعيدة.
نعم باريس بعيدة وكذلك الماضي بعيد، وتلك الساعات القاسية التي احتملتها والتي كنت أتصور أنها ستقضي على حياتي، كل ذلك قد انتهى كما انتهى الماضي البعيد، والحياة الآن ستستأنف متحدة مضيئة. ولقد كان هذا التغيير فجائياً بدرجة لا أكاد أصدقها.
يا عجبا! إن آخر سطر في مذكراتي الماضية كان غاية في اليأس والقنوط، وهو:(لأن أقدم حياتي خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة ولدي).
ولقد كنت أكتب هذه المذكرة في حجرة الطفل المريض وبجانب سريره، وكانت الحاضنة تقرأ في تلك اللحظة نبأ قدوم الطبيب في الساعة الخامسة، وكنت أنتظر حضوره في جزع شديد، ولو أني كنت عارفة قراره مقدماً، وهو قوله: لا جديد، فلننتظر. وفي الواقع لم يكن هنالك جديد، إذ أن جسم الطفل كان غارقاً في العرق، وهو يئن في سريره في وسط نوم مضطرب. وعند الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم دخل خادم زوجي ولقد كنت أكره لونه الذي هو مزيج من: صفرة وزرقة ورمادية، وعينيه اللتين لا يمكن كشف ما وراءهما، وفمه ذا الشفتين اللتين لا تكادان تريان من كثرة انقباضهما، فسألته قائلة:
- ماذا تريد يا جوزيف؟
- إن سيدي الكونت يسأل سيدتي أصحة سيدي الفيكونت أحسن الآن؟
- إن سيدك إذا لم يخرج.
- لا يا سيدتي، إن سيدي ظل من بعد الغداء إلى الآن في مكتبه، وهو يرجو من سيدتي أن تنبه حينما يحضر الطبيب.
- حسن يا جوزيف، ستنزل الحاضنة لتنبئ سيدك عندما يحضر الطبيب.
لم يكن زوجي إذا قد خرج، لأنه كان قلقاً على صحة الطفل وكان يريد أن يحضر زيارة الطبيب، فهل كان أحد يصدق ذلك؟ لقد زاد هذا الاهتمام الفجائي بصحة الطفل من غضبي حتى أحسست في تلك الساعة أن الحقد يتضاعف في نفسي إلى درجة أني لم أعد أحتمل حنانه عليه وقلت في نفسي: ليتركني وحدي مع هذا الصغير العزيز المريض، وليذهب إلى تلك المخلوقة. ولا ريب أن كبرياء الألم هي التي خلقت عندي هذه العاطفة، لأنه كان ألماً مبرحاً.
وبعد الساعة الخامسة بقليل حضر الطبيب، ولما نبأت الحاضنة الكونت صعد فوراً، وكان في هذه اللحظة يختلف كثيراً عن طبيعته المفعمة بقوة الإرادة والشجاعة إلى حد أنني أحسست بالشفقة عليه، لأنه كان متألماً من ذلك العراك الذي كان يحتل نفسه في تلك الساعة بين هذا الخلق الكريم الحقيقي الذي حببه إلى الناس جميعاً، وبين ذاك الهوى الوضيع الذي كانت نفسه تلح عليه في إطاعته.
(لا جديد فلننتظر). هذه الكلمة التي تنبأت بها قالها الطبيب بحروفها وهو يضع على الوسادة رأس الطفل بعد أن فحص جسمه.
أعاد الطبيب كلمة (فلننتظر) وأضاف إليها قوله: يجب أن تستعدوا لكل شئ، فالأزمة بدأت تتطور، وسيظهر في هذا المساء حدث جديد، ولو أن في الأمر شيئاً سيظهر لما استمرت الحمى على هذا النحو، فهل عندكم طبيب ماهر في هذا الحي ليلاحظ الطفل في حالة حدوث ما لا ينتظر؟
- نعم. يوجد طبيب ماهر في ميدان (بوفو) وهو: الدكتور (جيل).
- إنه لشاب ذكي، وإني أعرفه وسأكتب إليه كلمة، لأوصيه بكم، فإذا ما حدث أي شئ جديد فأدعوه على عجل في أية ساعة كانت.
- انصرف الطبيب وبقيت مع راءول وحدنا في الحجرة، فتصنعت أني لا أنتبه إلى
وجوده، إذ كنت أسير في الغرفة جيئة وذهاباً دون أن ألتفت إليه أو أحادثه، وأخيراً قال بلهجة غير طبيعية:
- (إنني سأتعشى الليلة في المنزل يا جينيفييف)
وحينما كان ينطق بهذه الكلمة كنت أقرأ في نفسه كأنما أقرأ في كتاب مفتوح أمامي هذه الأفكار الآتية: (إنه لرديء من جانبي أن أترك جينيفييف المسكينة وحدها في مثل هذا القلق فلنتوسط في الأمر، ولنمنحها مرافقتنا إياها في العشاء، تلك المرافقة التي ستجن بها سروراً، وبهذا أكون قد أديت واجبي ثم أذهب بعد ذلك إلى شارع (فيزيليه).
وفي الواقع أنه لو كان قد عرض علي هذا العرض قبل ذلك اليوم بليلة واحدة لقفزت فرحاً وطرت سروراً، ولكن اليقين الذي احتل عقلي اليوم من جهة، والقلق المضني على صحة الطفل من جهة أخرى قد غيراني تماماً فأجبته في فتور قائلة:
- تعش هنا إذا أردت يا صديقي، أما أنا فلن أنزل إلى حجرة المائدة لا سيما وأنني لا أرغب في الأكل.
وعلى أثر سماعه هذا الجواب حل اليقين من نفسه محل الشك وآمن بأني لا بد أن أكون قد عرفت شيئاً، فامتقع وجهه ورأيت في عينيه أنه يتردد في أن يعترف لي بكل شئ وأن يطلب مني الصفح والتصافي، ولكن تأثير الرغبة السيئة لم يلبث أن غلبه على أمره فاكتفى بأن يقول لي في لهجة فاترة:(حسن! اعملي ما تريدين) وقد كنت إذ ذاك منحنية على الطفل، فلم يتجرأ على الاقتراب منه، ثم تردد قليلاً، وأخيراً خرج. وعلى أثر ذلك طفقت الساعات الطويلة تسير في بطؤ، وأنا جالسة إلى جانب سرير المريض الذي يئن في نومه، وفي كل دقيقة أنحني عليه وأنظر إلى جسمه الذي أخذ يزداد حرارة وحمرة، ولكن لم يظهر على جلده شئ من الحبوب. وفجأة هدأت الحمى وأخذ المريض في التحسن واستيقظ وطلب لعبه، فأفهمته ألا يكشف ذراعيه وصدره فأذعن ونام في هدوء مطمئن، فلما رأيت ذلك سررت واستسلمت إلى النعاس، فأخذتني سنة من النوم لم تطل، إذ لم ألبث أن استيقظت على أثر حركة خفيفة أحسست بها، فلما تبينتها وجدت زوجي منحنياً على سرير الطفل يحدق إليه بعناية وكان مرتدياً ملابس الخروج، غير أنه قد ارتدى فوق هذه الملابس (جاكتة) منزلية، وكانت الساعة إذ ذاك التاسعة والثلث فقلت في نفسي: إنه سيخرج، وبعد
نصف ساعة سيكون بين ذراعي تلك المرأة. وفي الحال خطرت لي فكرة انتظاره في ذلك المنزل كما كنت قد قررت آنفاً، ولكن هذه الفكرة لم تبق في رأسي إلا لحظة قصيرة، إذ وجدتني أقول في نفسي:(كلا، كلا، إن مكاني ليس هناك، بل هو هنا).
وفي الحال قدمت لي بإخلاص إلى إلهي ضحية كبريائي وعاطفتي كزوجة محبة لينجى لي هذا الطفل.
وفجأة هتف راؤول قائلاً:
- (جينيفييف جينيفييف!)
فنهضت واقفة لأني أيقنت أن هذا الإيقاظ له علاقة بصحة الطفل، وفي ثانية واحدة انمحى من نفسي كل الحقد الذي كنت أحمله له ثم قلت:
- ماذا؟ ما الذي حدث؟
- انظري
قال هذا وأشار إلى نقط كحبات العدس قد أخذت تنتشر في وجه الطفل وذراعيه، ولونها أحمر باهت، فصحت في جنون قائلة:
يا إلهي يا إلهي ما هذا؟ إني أرجو على الأقل ألا يكون الجدري قل لي يا راؤول. وفي هذه اللحظة تناولت يده وضغطت عليها ناسية كل شئ.
- امكثي هنا يا جينيفييف فسأذهب لإحضار الطبيب ثم خرج. وفي الوقت الذي فصل بين خروجه وعودته كنت أنا والحاضنة تائهين نذهب ونجئ في الحجرة تارة، وننحني من النافذة لنسمع ضجيج المركبة تارة أخرى. ولقد كنت أدعو ربي وأتوسل إليه وأجدد النذر القديم وهو أن أحتمل في سرور خيانة زوجي كزوجة خاضعة تحرس في أمانة منزل الخائن.
وفي النهاية عاد الكونت يصحبه الطبيب فأخذ يفحص الطفل وكنا في هذه اللحظة: أنا وراؤول ننتظر حكمه مرتعدين كطفلين يسيران في الظلام، وكان كل منا يعتمد على ذراع الآخر رهبة وخوراً. ومضت على هذا خمس دقائق كاملة قبل أن يفوه الطبيب بكلمة، وأخيراً قال:
- أنا أظن أنه ليس في الأمر خطر، أظن ولست متأكداً، لأن المرض لم يتحدد بعد.
- فقلت في تمتمة مضطربة:
- ولكن على كل حال هل هو الجدري.
- لا، يقينا إن هذا ليس هو الجدري.
كان الطبيب يقول هذه الكلمة ببساطة وهو لا يدري أنه قد رد بها إلي التنفس والحياة. وعلى أثر ذلك سقطت بين ذراعي راءول فاقدة القوى وإن كنت قد أحسست أن ثقة خفية بزوال الخطر قد احتلت نفسي دفعة واحدة وشعرت بالرضى والسعادة، فطفرت من عيني دموع غزيرة لا أدري أهي دموع رد الفعل أم دموع السرور، ثم انتابتني على أثر ذلك أزمة عصبية لم أفق منها إلا حين لاح نور الصباح. وحينئذ وجدت راءول جالساً عند وسادتي فلم أشأ أن أضيع الوقت في سؤاله عن سبب جلوسه بجانبي، وإنما هتفت به قائلة: ورينيه كيف هو؟.
- إنه الآن أحسن حالاً، وإن مرضه لخفيف وبسيط، وإن الحبوب الآن بادية على وجهه بهيئة تجعله دميماً في هذه اللحظة فقط، ولكن الخطر قد زال، والحاضنة والخادمة - ساهرتان عليه. وأنت كيف صحتك؟
- أنا صحتي جيدة جداً.
وإذ ذاك أردت أن أنهض فخانتني قوتي وسقطت على الوسادة فقال راءول وهو يقبض على يدي.
- مسكينة يا صديقتي.
وبعد ذلك ساد بيننا صمت كنت أثناءه أقول في نفسي: من حيث أن راءول هنا فهو إما أن يكون قد عاد من شارع فيزيليه وإما أنه لم يذهب ثم سألته قائلة:
- في أية ساعة عدت يا راءول؟
- إني عدت مع الطبيب، وإني بجانبك منذ أن نمت إلى الآن.
قال هذا وقرب وجهه من وجهي فتمتمت قائلة:
ثم ماذا إذاً؟
وإ ذاك فهم كل شئ، فأجابني بصوت خافت: إذاً. . . أن أحبك وحدك وينبغي أن تصفحي عني، وهذا هو كل شئ
وعلى أثر ذلك تبادلنا قبله لم نذق مثلها منذ عهد خطبتنا!
مضت على هذا الموقف ثلاثة أسابيع جعلت صحة الطفل أبانها تتحسن باطراد حتى استطعنا أن نسافر به إلى (تالوار). وها نحن أولاء بمنزلنا سعداء شأننا في صيف كل عام. ولقد أطلعني راءول على برقية وردت إليه من هذه المرأة في صباح تلك الليلة المزعجة، وقد جاء فيها ما يلي:(لقد انتظرت أمس ساعتين كاملتين في هاتيك الغرفة الدميمة، وإنني لا أحب الأشخاص السيئ التربية فعم مساء يا سيدي).
ويبدو أن هذا ال (عم مساء) كان معناه الوداع الأخير. أما الآنسة جيفيرني فهي ستتزوج.
إن الطفل قد برئ تماماً، وإنه لجميل كما كان ولم يبق في وجهه أي أثر للحبوب، وإن الدكتور روبان قد قال لي: إنه سيكون شاباً فاتناً له من أسيرات حبه مثل ما لأبيه.
فأجبته قائلة:
- مثل أبيه! إني أسأل الله أن تكون أسيراته في الغرام أقل عدداً من أسيرات أبيه.
محمد غلاب