المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 674 - بتاريخ: 03 - 06 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٧٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 674

- بتاريخ: 03 - 06 - 1946

ص: -1

‌وعينا القومي ينضج مثال في سورية ومثال في

‌شرقي الأردن

يخطئ من يقيس تقدم أمة أو تأخرها بما يشاهد من حال السابقين منها أو المتخلفين عنها؛ فإن من سبق إنما سبق بإعجازه، ومن تخلف إنما تخلف بعجزه؛ والإعجاز والعجز من الشذوذ الذي لا يسبب حكماً ولا يبني قاعدة. إنما يصح القياس بحال الكتلة التي ظلت متماثلة في اللون والكثافة والحركة بعد أن انفصلت منها قطعة إلى الأمام، وانخزلت عنها قطع إلى الوراء؛ لأن هذه الكتلة تمثل القدر المشترك من الشعور والإدراك والوعي والقلق والطموح والاندفاع؛ فرأيها هو الرأي العام، وأمرها هو الدستور الحاكم، ووحيها (هو السياسة القومية، وغضبها هو الثورة الوطنية، ورضاها هو السلام الدائم. والحكم على الأمة العربية - لمن يحلو له أن يحكم - يجب أن يكون، بناء على هذا القياس أو الأساس، قائماً على حركات كتلتها العجيبة التي ما فتئت منذ مؤتمر فرساي تتقارب وتتضام وتتماسك وتتحد على الرغم من الأسباب المفككة والعوامل المهلكة التي ابتليت بها من سفه الأحزاب السياسية في الداخل، وطمع الدول الاستعمارية في الخارج.

كانت هذه الكتلة الممزقة فاقدة الوعي حين أراد محمد علي إحياء الإمبراطورية العربية؛ وكانت فاقدة الوعي حين ثار أحمد عرابي على العناصر الأجنبية؛ وكانت فاقدة الوعي حين دعا مصطفى كامل إلى الفكرة الوطنية؛ ولكن وعيها القومي أخذ يتنبه حين زلزلت الأرض قنابل الحرب العالمية الأولى، فثارت الجزيرة وسورية والعراق على استعباد الأتراك، وتمردت مصر على احتلال الإنجليز، واستجابت الأمة العربية جمعاء لدعاء الحرية هنا وهناك، وسارت وراء قادتها بخطى الواثق المطمئن، فأضلوها السبيل، وأوردها السراب؛ ولكنها استفادت من كلال السير ووعوثة الطريق وسعار الظمأ، بنصراً في الوعي، وقوة في الموازنة، وصدقاً في التمييز، وصحة في الحكم؛ فلم تكد الحرب العالمية الثانية تنطفئ حتى أمام زعمائها تلهمهم فيقولون، وتأمرهم فيفعلون، وتوجههم فيتجهون. ومتى عرفت الأمة نفسها، وأحست نقصها، وتبينت قصدها، أبت على ولاة أمرها أن يدلسوا عليها الرأي، ويموهوا لها الباطل، ويقنعوها بما دون الحق. وفيما يجري الآن في مصر وفي وغيرها من الحوادث، ويذيع في المجالس والصحف من الأحاديث، شواهد صادقة على

ص: 1

اتساع الوعي القومي في نفوس المصريين والعرب تثب في عين المنكر إذا وازن بين ما كانوا عليه وبين ما صاروا إليه. كان الساسة الذين احترفوا الوصاية عليهم يفاوضون في أمورهم، ويعاهدون على مصيرهم، دون أن يحفلوا لهم برأي، أو يرجعوا إليهم بخيرة، وإن زعموا أنهم استشاروهم فأشاروا، وخيروهم فاختاروا! وهم اليوم يفاوضون تلك المفاوضة، ويراجعون تلك المعاهدة، ولكن الأمة التي وضعت المبادئ، وحددت المطالب، وأملت الخطط، وقدرت العواقب؛ فليس لمفاوض أن يقولها ما لن تقل، ولا الحاكم أن يريدها على ما لم ترد!

وهل نسيت يوم الجلاء في سورية؟ وكيف تنساه أذن الحي ولا تزال أناشيده وزغاريده تدوي في سمع الزمان؟ جلت جنود الاستعمار عن أرض سورية العزيزة، فاهتز العالم العربي اهتزاز الغبطة، واعتز اعتزاز النصر؛ وشعر كل فرد من أفراده، في مختلف بلاده، أن فريقاً من أهله تحرر من القيد، وأن جزءاً من وطنه تطهر من المغير؛ وأقبلت وفود الدول العربية تشارك دمشق في الاحتفال بإقامة العرش الأموي بعد أن خرت قوائمه وابتذل حماه؛ وقال العراق لمصر: ذلك يا أختاه هو الجلاء الذي يكشف الضر، والاستقلال الذي يرضي الحر، فمتى يكون لنا ولسائر أقطار العروبة مصير كهذا المصير يوم كهذا اليوم؟!

ذلك مثال من أمثلة الوعي القومي العربي تجلى في هذا الحادث الخطير صريحاً غير مشوب، وصحيحاً غير مزيف، فإذا وازنت بين موقف العرب من استقلال سورية، وموقفهم من استقلال شرقي الأردن، فلن يخامرك بعد ذلك شك في أن الأمة العربية الكريمة إنما تصدر عن وعي بصير، وتنقل عن شعور صادق.

فاوضت إنجلترا شرقي الأردن مفاوضة الند للند، ثم منحته الاستقلال التام، وعقدت بينها وبينه معاهدة الشرف والفخار، ثم رفعته من الإمارة إلى المملكة، واحتفل إخواننا الأردنيون بمبايعة أميرهم العظيم عبد الله بن الحسين ملكاً عليهم، فزاد ملوك العرب ملكاً، وزادت ممالك العروبة مملكة. وكان هذا النبأ العظيم عن هذا النصر الأعظم جديراً بأن يزلزل النفوس من الفرح، ويبح الحناجر من الهتاف، ويدمي الأكف من التصفيق، ويحشد جيوش العرب في ميادين عمان، ويدعو شعراء العرب إلى منابر عمان، ولكن هذا النبأ العظيم سرى به البرق، وتموج به الأثير، وكأنما ضرب الله على الآذان فلم تسمعه، وختم على

ص: 2

القلوب فلم تنفتح له! واحتفلت عمان وحدها بيومها التاريخي المجيد احتفالاً رسمياً لا روعة له ولا بهجة فيه. ذلك لأن العرب الذين لا ينفكون يسخرون من استقلال مصر، ويهزؤون باستقلال العراق، قد سئموا هذه المظاهر الكاذبة، وأنكروا هذه الألفاظ الفارغة، وكبر عليهم أن يشاطروا إنجلترا السرور بافتلاذ قطعة من الوطن العربي لا يزيد عدد سكانها عن خمس سكان القاهرة، لتجعلها وكراً للاستعمار يثب منه متى شاء علينا أو على من حوالينا من الأمم المطمئنة الوادعة.

أليس الوعي القومي هو الذي جعل العرب يميزون بين استقلال سورية واستقلال شرقي الأردن؟ أليس الوعي القومي هو الذي جعل لإنجلترا من جامعة الدول العربية، ما جعل الله لآل فرعون من موسى بن عمران؟ آووه وتبنوه ليكون ظهيراً للكفر، ونصيراً للظلم، ووزيراً للاستبداد، فكان لهم نذيراً من الله، وداعياً إلى الحق، وبشيراً بالحرية؟

أليس الوعي القومي الذي ولد صاحب الجلالة الفاروق في صحوته، ثم ترعرع وشب ومللك في ضحوته، هو الذي ألهمه أن يوطد أساس الجامعة العربية باجتماع الملكين في رضوى، وأن يوثق الوحدة العربية بمؤتمر الملوك والرؤساء في إنشاص؟

بلى، هو الوعي القومي الذي تيقظ واستبصر في نفوس العرب من ملوكها ورؤسائها، إلى سوقتها ودهمائها. ولن تجد مصداقاً له ولا دليلاً عليه أبلغ من هذا القلق الذي يساور كل نفس، وهذا الامتعاض الذي يرتسم على كل وجه، وهذا الانتقاد الذي يجري على كل لسان. كل امرئ يريد التغيير، وينشد الكمال، ويطلب الأحسن، وكل امرئ يحاول أن يفرق بين رجل ورجل، ويميز بين عمل وعمل، ويوازن بين مبدأ ومبدأ.

بلى، هو الوعي القومي الذي يذكر العرب اليوم أنهم خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتسارع إلى الخير، وتتعاون على البر، وتتناصر في الشدة، وتأبى إلا أن تتبوأ مكانها الأول من قيادة الإنسانية. ذلك الوعي القومي هو ضمان النهضة العربية من الانتكاس والردة، وأمان السياسة العربية من الغش والخديعة، ووقاء الوحدة العربية من الشتات والفرقة. فمن حاول بعد اليوم أن يقود الأمة العربية قيادة القطيع ليذبح، أو يسوسها سياسة الخيل ليركب، نبت في يديه كما ينبو المارد في يد الرجل إذا انطلق من حبسه، وامتنعت عليه كما يمتنع الثور على الطفل متى شعر بنفسه.

ص: 3

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌شيخ في مرقص!

للأستاذ علي الطنطاوي

- 2 -

(إلى كل شاب تريده نفسه على الإثم، ويدفعه دينه إلى العفاف،

وتسهل له دنياه طريق الفجور، وتوعر عليه سبيل الزواج. .)

قال: لما كانت تلك الهدأة، وسمعنا صوت الشيخ الوقور الخاشع يطل علينا من فرجة الضجيج، كما يطل شعاع البدر من خلال السحاب الداكن في الليلة الداجية، تبيناه يدعو الله، لا كما يدعوه خطباء الجمعة على المنبر، ذلك الدعاء الرسمي الذي يستحضرون به هيبة الناس أن يمسكوا عليهم لحنه أو حبسه، وهيبة الحكام أن يبلغهم عنهم أنهم نسوا ذكرهم أو قصروا في تعظيمهم أكثر مما يستحضرون في نفوسهم هيبة الله، بل دعاء مسلم يعلم أنه يخاطب رب الأرباب، فلا يعلق أمله إلا به، ولا يرجو غيره ولا يرهب سواه. وأشهد أن الله فتح لدعائه أبواب السماء، وأنه قد استجاب له لأننا وجدنا اثر الإجابة في رقة قلوبنا، وما عهدناها ترق ولا تلين، وفي انصباب دموعنا برغمنا، وبكائنا على نفوسنا، وكان إذ يقول (يا الله) تحس أن قلبه قد خرج من صدره بهذه (الهاء) التي تمشي في الجو مبللة بدموع الخشية، فتنعش القلوب وتحييها. .

ثم قال الشيخ: لا تقولوا إنه مرقص، فما المرقص لمن يدعو الله خاشعاً صادقاً وهو يبكي على خطيئته إلا مسجد مبارك، وما المسجد لمن يدعو بلسانه وقلبه معلق بالشهوات وفكره باحث عن سبل الموبقات إلا ملهى، وما كان الله لينظر إلى صوركم وأزيائكم وهندسة عماراتكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. وكم في الأسواق والقهوات والسينمات من ولي لله كتب له بإخلاصه حسن الخاتمة! وكم في التكايا والزوايا من ولي للشيطان يرائي بالدين ليأكل الدنيا!

ثم تكلم عن الدنيا كلاماً عجيباً، وساق أحاديث لم أحفظها، وأخباراً من أخبار الصالحين، قلبت والله قلوبنا، والله مقلب القلوب، فعظمت في عيوننا ما كنا نحقره قبل ساعة واحدة، وحقرت ما كنا نبالغ في تعظيمه، وأرتنا هذه الدنيا صغيرة، حتى لكأنما هي حقاً جناح

ص: 5

بعوضة!

ثم أخذ في الكلام عن (الشهوة الجنسية)، فحفظت من كلامه شيئاً من هنا وشيئاً من هناك، لا أستطيع أن آتى به على نسق، فأنا أقدم فيه وأؤخر، وربما أخللت بمعنى أو أخطأت في لفظ، فلا تأخذه هو بخلل أو خطأ مني!

وكان مما قال:

إن الله ركب هذه الشهوة في الإنسان، وجعل لها سراً عجباً من العجب، وسرها أنك وضعتها في موضعها، واتقيت الله فيها، سكنت واستقرت، وربحت مع السكينة والاستقرار الصحة في الدنيا والجنة في الآخرة، وإذا أنت أطلقتها ولم تقيدها بقيد الشرع والخلق، لم تزل هائشة هائجة كالنار كلما زدتها حطباً زادت للحطب طلباً، ثم إنك معها كالذي يطلب الماء من السراب لا يزال في عناء وظمأ، وكلما اشتد طلبه زاد عطشه ونصبه، والسراب عنه بعيد!

يرى الفاسق المرأة، فيملأ منها بصره، فيتبعها قلبه، فلا يزال يتخيل فيها المفاتن، ويتوهم في وصالها الملاذ، حتى يعتقد أن لذائذ الدنيا كلها ومسراتها قد اجتمعت في لقائها، وأن آلامها كلها في بعدها، ويجعلها مطلبه من دنياه، ويجن بها جنوناً. . . فإن هو استطاع الوصول إليها، وجد اللذة بها (نصف دقيقة) من الزمان. . . ووجد أنه لم يشبع منها، ولم ينل من وصالها ما كان يصور له وهمه. . . فيعود إلى التفكير فيها. . . وإلى تخيل اللذة بلقائها. . . ويتوهم أنه سيحظى هذه المرة بما فاته المرة الأولى. . . فإذا عاد إليها عادت إليه خيبة الأمل. . ولا يزال هذا دأبه معها حتى يملها وببأس من أن يجد عندها لذته الموهومة فيتعلق بسواها. . ولو أنه قارب ألف امرأة، ثم رأى واحدة أخرى، لعلقها وظن أن طلبته عندها. . فلا يشبع أبداً ولا يستريح!

وما هي لذة الوصال؟ إنها ليست في هذا التقارب الجسمي، كلا. . . إنما هي في انفصال القلوب. وإن عباس بن الأحنف هو عندي أدق شعراء الدنيا إحساساً بالمرأة، وأعظمهم بالحب معرفة، وأحسنهم لجوع العاطفة تصويراً حين يقول:

أعانقها والنفس بعد مشوقة

إليها وهل بعد العناق تداني؟!

وألثم فاها كي تزول حرارتي

فيشتد ما ألقي من الهيمان

ص: 6

كأن فؤادي ليس يشفي غليله

سوى أن يرى الروحين يلتقيان

وما يعانقها على الحقيقة فقط، ولكن على المجاز، فما يروي ظمأ نفسه إلى الحب ذلك (العناق)، وأنه يتمنى أن لو قطعها عضاً، وأن لو أفناها فيه، حتى عادا شخصاً واحداً. . . وذلك ما لا يكون!

لا. . . ما في إطلاق الشهوة من راحة ولا شبع، وإن نساء الأرض كلهن لا يرضينها، وامرأة واحدة بالحلال ترضيها وتشبعها. وهب أن رجلاً وسعته أحواله وأمواله أن يمد يده حيث شاء. . . أفتسعه صحته؟ هل يحمل جسمه أثقال هواه؟ إنه لا بد أن تجيء ساعة يعجز فيها ويرتد مريضاً وانياً يشتهي (الشيء) ولا يقدر عليه، ويقعد بالحرمان، فلماذا لا يرتد عن الإثم صحيح الدين والجسم والشرف؟ أليس ذلك خيراً له من أن يجمع على نفسه الحرمان والمرض وجهنم؟!

وإن من بديع صنع الله أنه لم يخلق امرأة تشبه في جمالها الأخرى، فالنساء مختلفات، ولكن طعم المتعة بهن واحد لا يختلف، وما فرق بين هذه الراقصة وبين امرأتك إلا أن الأولى تأتيك على جوعك بالرغيف قد لفته بمنديل الحرير، ووضعت المنديل في شملة، وألقت الشملة في صندوق من الفضة المذهبة، وجعلت حول الصندوق الورق الشفاف، فأنت كلما رفعت حجاباً من هذه الحجب اشتد جوعك، وشوقك إلى ما وراءها. . . فإذا بلغت الرغيف حسبته قد قطف من قمح الجنة، ثم طحنته الملائكة، ثم عجنته بأيديهن الحور العين. . . وتلك تأتيك بالمائدة الحافلة مكشوفة ظاهرة. . . وأنت لا تأكل المنديل ولا الشملة ولا الصندوق، إنما تأكل الرغيف، وأنت لا تريد هذه الثياب ولا هذه الأنوار. . . إنما تريد المرأة، ولعل امرأتك أبهى منها وأجمل!

وهب أن هذه أطرى جسماً، وأحلى وجهاً، وأقدر على الفتنة، فمن قال لكم إن الجمال هو هذا؟ هو الإخلاص. إنك ترى أمك جميلة في عينك، حبيبة إلى قلبك، ولعل في وجهها من تجاعيد الكبر أودية وجبال. . . ولعل فمها كالمغارة الخالية. . . ولعل يديها كمخالب الطير، وترى المرأة التي خانتك وغدرت بك قبيحة بغيضة، وإن كانت في عين الرائي) أجمل النساء. . .!

إنكم تفتشون عن السعادة، ولكنكم لا تعرفون طريقها، ولا تفكرون بعقولكم فيها. لماذا تسعد

ص: 7

أيها التاجر الذي يملك الآلاف إذا ربحت ألفاً آخر؟ لأنك كنت تطلب هذا الألف وتشتهيه، فجاء يسد مطلبك، ويوافق شهوتك، فمن هنا كانت سعادتك به، ومن هنا ألمك لفقده، على حين أن التلميذ الذي لا يبلغ أقصى أمله أن يمتلك عشرين قرشاً لا يألم إن يربح هذا الألف، بل هو لا يفكر فيه، أفليس التلميذ ذو العشرين قرشاً أغنى بها منك يا ذا الآلاف بآلافك؟!

والموسر الفني الذي يملك عشر عمارات يألم إن عرضت للبيع عمارة أخرى ولم يقدر على شرائها، على حين أن الموظف الصغير الذي يسكن غرفة بالأجرة لا يجد هذا الألم، وينام ملء جفونه في الليلة التي يتقلب فيها الموسر من الأرق أسفاً على العمارة التي أضاعها، أفليس الموظف بغرفته المأجورة أغنى منك يا صاحب العمارات بعماراتك؟!

والفاسق الذي قارب مائة غانية وراقصة يألم إذا جاءت راقصة جديدة فلم يحظ بقربها، ويبيت الليل مسهداً من أجلها، ويبذل حر ماله وماء وجهه في سبيلها، وينغص عيشه من بعدها، على حين أن التقي الذي لم ير في عمره إلا امرأته، لا يأبه لها ولا يدري بها، أفليس هذا التقي أسعد بامرأته الواحدة منك يا ذا الخليلات ويا زير الراقصات؟!

إن الحياة النفسية كدفتر التاجر، ليست العبرة بضخامة أرقامه، ولكن بالباقي بعد الجمع والطرح، فالذي يملك مليوناً ويطلب منه مليون، مثل الذي لا يملك شيئاً ولا يطلب منه شيء، والذي نال من دنياه كل لذة. . . وهيهات! مثل (الدرويش) السائح في البرية الذي لا يطلب إلا لقمة يسد بها جوعه وجرعه يبل به جوفه، وأرضاً يلقي عليها جنبه، ومعه رغيفه وركوته، وله أرض الله الواسعة. . . إن هذا هو أسعد السعداء، لا لأنه نال من الدنيا كل شيء. بل لأنه حقرها عن أن يطلب منها شيئاً. فمن قنع أسعده الأقل الأقل، ومن طمع لم يسعده شيء مهما جل، لأن النفس تطمح إلى اللذة، فإن وصلت إليها، أبطلت الألفة اللذة فتطلب غيرها. . . إنك أيها الفقير تسعد لو ركبت يوماً سيارة الغني، ولكن الغني ذا السيارة لا يحس هذه السعادة بها. إنها عنده كالترام عندك، بل ربما كان الترام أمتع لك، بل ربما اشتهى هو أن يركب الترام، كما يشتهي المترف صاحب المائدة الملوكية أكلة فول على التراب!

إن الله (جلت ودقت حكمته) لم يجعل السعادة في مال ولا نشب ولا متعة، ولكنه جعلها

ص: 8

صلة خفية بين الأشياء وصاحبها، فلا تأخذوا الأمور على ظواهرها، فإن المريض الزمن لو حمل من الألم ما تظنه أنت حامله ما عاش، والغني لو نال من اللذة ما تحسب أنه نائله ما وسعته الدنيا، ولكن العادة تبطل اللذة والألم، وتهون السجن على السجين، والحرب على المحارب، وتجعل الخليفة الذي كان في قصره عشرة آلاف غادة من جميلات الأرض حشرن إليه حشراً، مثل الذي في بيته امرأة واحدة! إنما اللذة التي لا تفنى ولا تنقص لذة القلب، لذة التأمل، لذة المتعبد في هدأة الليل، والمناجي ربه في الأسحار. . . ومن هنا قالت طائفة الصوفية:(لو ذاق الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف). . . إي والله وبالمدافع والرشاشات!

ذلك هو النعيم المقيم، ولكن ذلك شيء لا يفسر ولا يعرف:

لا يعرف العشق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

إنها تمر على المتعبد ساعات في كل لحظة منها لذة تفضل لذة (الوصال) كما تفضل الشمس الشمعة، والبحر الساقية، ومن ذاقها عرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم:(حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) ليس معناه أن نبينا مولع بالنساء - كما فهم دواب المستشرقين - ولكن سر المعنى في قرن الطيب والنساء، وهما من لذات كل نفس بشرية، ثم في رفعها عنهما، للدلالة على أن الصلاة لذة ومتعة ولكنها أسمى وأعلى. . .

إن مرد ما تجدون من عرام الشهوة وشدتها إلى أمرين: حب الغلبة، والتطلع إلى المجهول. يسمع أحدكم أن فلاناً من الفساق قد صنع كذا من الآثام، فيتصور ما نال بإثمه من اللذائذ، فيمتد أمله إلى تذوق مثله لعل فيه لذة جديدة، وتأبى عليه غريزة المكافحة والتغلب أن يبقى محروماً مما نال فلان هذا. . . ولو هو فكر، لعلم إنما اشترى فلان لنفسه الحرمان من لذة أنقى وأبقى هي لذة الآخرة، ولسكت عنه الإغراء وذهب الألم، وما يألم لفقد المعصية إلا من جعلها أكبر همه، وترك لنفسه الحبل على الغارب، فأطلقت الجوارح كلها في شهوتها: فالعين تنظر العورات، والأذن تسمع أحاديث الموبقات، والذهن يحفظ هذه الصور والذكريات، والخيال يوشيها ويزينها بالمبالغات. . . فلا ينتبه الشاب إلا والسم قد مشى في جسده من تلك النظرة، وإذا هو قد نسى الدين والخلق ومطالب الوطن، ولم يبق له في الدنيا

ص: 9

عمل إلا ابتغاء الوسائل إلى لذته تلك، فهي في فكره يقظان، وفي أحلامه نائماً، وعلى لسانه متحدثاً، وهي دينه إن كان متديناً، ودرسه إن كان طالباً أو معلماً، وشغله إن كان موظفاً. . . ولذلك أمر الله بغض البصر، وقال عليه الصلاة والسلام:(لك الأولى وعليك الثانية)! ووصفت النظرة بأنها سهم صائب من سهام إبليس:

كل المصائب مبدأها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

يا أيها الناس، لقد عشتم من عمركم سنين، وعصيتم الله وأطعتموه، فانظروا الآن ماذا بقي من ذلك في أيديكم؟ أين لذة المعصية؟ لقد ولت وخلفت سواداً في صحائفكم! أين تعب الطاعة؟ لقد ذهب وترك حسنات كتبت لكم! أفما تتمنون الآن لو أنكم ما عصيتم الله قط؟! بل تخيلوا أنكم في ساعة الموت. . . هل من الموت بد؟! فماذا تنفع من يعالج سكرات الموت كل لذة كان قد نالها بجنب تلك الآلام؟! ثم تصوروا موقفكم بين يدي جبار السماوات والأرض، وقد ذل الأعزة بالإثم، وسيق المتكبرون إلى العرض على الله حفاة عراة، ونادى المنادي من جانب العرش: لمن الملك اليوم؟! وأجاب المجيب: لله الواحد القهار!! وكان الامتحان الأعظم، ونودي بأسماء الناجحين. . . ففتحت لهم أبواب الجنة. . . وبأسماء (الراسبين). . . ففضحوا على رؤوس الخلائق، وقذفوا في النار فرسبوا فيها. . .! أين يومئذ تلك اللذائذ؟! أين متعة العين بهذه الراقصة؟! أين لذة الجوارح بوصالها؟! أين جمالها وفتنتها والصديد يسيل منها؟!!

يا ناس!! إن لهذا الكون إلها. إن في الكون عدلاً. إن من زنى زني به ولو بجدار داره، أفما لكم بنات؟! أما لكم أخوات؟!. . . فعفوا تعف نساؤكم، إنكم لا تدرون ماذا يكون في غد، ولعل ابنة أحدكم تقوم هذا المقام، فأشفقوا على هذه المسكينة، فإن لها أباً وأماً. . إنها ما جاءت من جذع شجرة!!

قال صديقي: لما بلغ الشيخ من كلامه هذا المبلغ، سالت دموعنا رحمة للراقصة، وإشفاقاً عليها، وصرنا ننظر إليها كما ينظر أحدنا إلى ابنته يسعى ليسترها ويحميها، بعد أن كنا لا ننظر إليها إلا لنقطف زهرتها ونذويها. . . ولقد وفق الله بعد ذلك، فأخرجنا المسكينة من هذه الحمأة، وزوجناها برجل صالح، فهي الآن ربة بيت وأم أولاد!!

قال: حتى صاحب المرقص صار يتردد على الشيخ، وأحسبه سيغلق مرقصه اليوم أو غداً،

ص: 10

ويجد لنفسه عملاً شريفاً!!

هذه هي قصة الشيخ في المرقص! فيا ليت كل مرقص يدخله (شيخ)! ويا ليت (شيخاً) يدخل وزارة المعارف!!

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 11

(مرآة نفسي)

ديوان للدكتور عبد الرحمن بدوي

للأستاذ سيد قطب

1 -

من نشيد البعث الوطني

ثورةٌ!

ثورةٌ!

ثورةٌ! أماه شبت من بعيد

انظريها! إنها البعث الجديد

هبّ وادي النيل شعباً واحدا

طارحاً نيراً ثقيلاً راقدا

يطلب استقلال مصر خالدا

هبّ يحيي مجد فرعون القديم

ينشر الآمال والنور العظيم

من مصب النيل حتى

خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى

معمعان الصحراء

صلصل الناقوس! هيا يا شباب

هيئ المركب وامخر في العباب

في نضال

مستحر

وبقلب. . .

مستقر

وبعزم

مستمر

صارع الأنواء حتى تبلغا

شاطئ المجد العظيم المبتغي

من مصب النيل حتى

خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى

معمعان الصحراء

ودعي أماه ليثاً كاسراً

واطلبي لي العود حراً ظافرا

واذكري - إن جاء نعيي من منادي

أنني قد مت من أجل بلادي

ميتة الأبطال في سوح الجهاد

ص: 12

فابشري، أماه، حقاً فالمنون

في سبيل الأرض حظ الخالدين

من مصب النيل حتى

خط عرض الاستواء

ومن القلزم حتى

معمعان الصحراء

2 -

من تحية العلم

رفرفت في الجو طيات العلم

فانهضوا حيوه عنوان البلاد

رمزنا! في طية مجد الوطن

وثناياه أسارير البدن

وسجل الفخر في كر الزمن

ولعرش المجد والعليا عماد

إنه الروح لأبدان الأمم

من صميم القلب نهديك السلاما

ودواماً ما به تعلو مقاما

نعملن عن طيب نفس، وإذا ما

رمت من أجلك إشعال الجهاد

فلك الأنفس تفدى يا علم

3 -

من ملحمة دنشواي

وموسيقاك (يوتربا) أعدي

(وملبومين) فيضي بالمآسي

أعيدا هذه المأساة لفظاً

وقد كانت عياناً للأناسي

ففي الذكرى اتعاظ وانتباه

وزلزلة تلاعب بالرواسي

بريشكما سويا صوراها

بصبغ الزهر: ثالوث وآس

ولون البدر يعلوه شحوب

لما يرنوه من حزن الأناسي

أقرية (دنشواي) تسام هذا

أفردوس الطهارة قد تضام؟

أينبوع الفضائل والأماني

يلوث ماءه العذب القتام؟

وأيم الله كدت أطير شكا

من الدنيا وما يبلو الأنام

فأضحى زورقي في اليم يسرى

شريداً قد تحير لا ينام

تجاذبه الرياح من النواصي

ومن أقسى زوابعها يسام

4 -

من نشيد الشهداء

لا تئنوا، لا تمنوا، لا تضنوا

بالجهاد للبلاد نعم الاستشهاد

ص: 13

كل هم، كل غم، كل دم

لا يراق بانطلاق يفسد الجهاد

الضريح، يستريح، والجريح

إن رواه من دماه كان نعم الدار

والضريح، لا يريح، الطريح

إن سكنا واستكنا صار ويل النار

القداسة. . . بالحماسة، والنجاسة

بالسكون والركون بئس الاستسلام

كل فيض بعد غيض، كل روض

بعد حزن بعد مزن فاتركوا الأحلام

يا شباب الذئاب بالغلاب

والفداء والدماء تترك الأوطان

الجلاء لا يفاء بالرجاء

بل بقهر ثم نصر ثابت الأركان

5 -

من رؤيا ملاك

يا ملاكي! طار بالروح إلى

ملكوت الرب منطاد الخيال

فرأت فيما تخطى زحلاً

منظراً قد فاض تيها بالجلال

يتجلى في الفراغ اللا نهائي

جمع أجرام تغني وتدور

ترسل الألحان من سحر الغناء

فيسود السحر في كل الأثير

كل جرم خلف جرم يتغنى

كفراش حول مصباح يحوم

أو زنابير تجاه السقف تفنى

في حديث مستفيض وتهيم

6 -

مناجاة

سألت لبى: إلام حبي

فقال قلبي: مدى البقاء

بذلت جهدي، فصنت عهدي

وعشت وحدي على الشقاء

حطمت روحي، وهجت لوحي

فلا تبوحي، بذا الغرام

جلوت شوقاً، وكان برقاً

أكان حقاً، فما المرام

سألت سمعي، منال لوعي

فكان دمعي، لك الجواب

رميت نفسي، بقاع يأسي

فصرت أرسي، على تباب

طغى سقامي، على كلامي

وما ملامي، سوى ابتهال

غدوت معنى، أشاع لحناً

وحل مبنى، من الخيال

هفا حنيناً، فرد حيناً

فصار ديناً، له الصلاة

ص: 14

فأنت ربي، سكنت قلبي

بفضل حبي، مدى الحياة

أقسم بالله العظيم، أن هذا الذي مر بك - أيها القارئ - هو من عمل الدكتور عبد الرحمن بدوي، نشره بتوقيعه في كتاب مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1946 تحت عنوان مرآة نفسي ديوان شعر. تأليف عبد الرحمن بدوي) وأنني لم أكن كاذباً ولا مدعياً ولا مزوراً، ولم أدس شيئاً على (الشاعر) لم يثبته في ديوانه؛ وأنني لم أقصد إلى (القذف في حقه) ولا (التشهير به) بنسبة هذا الكلام إليه!!!

ولقد هممت أن أثبت هذه النصوص (بالزنكوغراف) لتكون شاهدي إذا خطر للنيابة العامة أن تقدمني إلى المحاكمة بتهمة (القذف) في حق الدكتور بدوي. وتعريفها: (نسبة أشياء إلى شخص بحيث لو صحت لأوجبت احتقاره بين أهل وطنه)!

ولست أتعمد الإساءة إلى هذا الشاب الذي نشر هذا الكلام بل الحق أنني قد أكون شديد الإعجاب - إلى حد الدهش - بجرأته الخارقة!

إنه مدهش!

مدهش أن ترتفع جرأته النادرة إلى حد أن يواجه الناس بهذا الكلام، وينشره في ديوان، ثم لا يقدمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أو يرفضوه، بل يطلع عليهم به في ادعاء عريض ويقدمه إليهم بإعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال!

كل هذه الفهاهة في التفكير والتعبير؛ وكل هذه الركة في النظم والأداء؛ وكل هذه الأخطاء اللغوية. . . وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري؛ وكل هذه التفاهة الصبيانية في الحس والتصور. . . وكل هذا الإعياء حتى في النظم اللفظي. . .

كل هذا. . . وينشر سنة 1946 لا سنة 1820 أيام كانت هذه اللغة (الوقائع المصرية) ولغة جماعة من الأرمن المستعربين!

إنها جرأة تستحق الإعجاب بكل تأكيد!

ولفت نظري في القصيدة الأخيرة (مناجاة) أنه يقول عنها (وهذا ضرب جديد من النظم. وفيه كل بيت مقسم ثلاثة أقسام مقفاة بقافية واحدة)

لفت نظري هذا؛ لأن هذا الضرب قديم يعرفه كل من قرأ شعراً قديماً. . . ثم لقد نظم منه (الغول) الذي نعرفه جميعاً في (حواديت) العجائز.

ص: 15

فالدكتور عبد الرحمن بدوي يقول:

طغى سقامي، على كلامي

وما ملامي، سوى ابتهال.

والغول يقول:

لولاش سلامك، سبق كلامك

لكلنا لحمك، قبل عظامك

مع فارق صغير في ترتيب المقاطع بين (شعر) الدكتور بدوي و (شعر) الغول

ولقد كنت أقرأ بعض ما ترجمه الدكتور عبد الرحمن بدوي من الشعر الغربي فأحس هذه الفهاهة وهذه الركة، فأقول: لعله اضطراب فهمه للنصوص وعدم قدرته على التعبير عنها تبعاً لهذا الاضطراب. . .

فلما قرأت (مرآة نفسه) عرفت السبب وتبينت العلة. ورثيت للمساكين الذين مروا بهذه المرآة حين ترجم لهم هذا الشاب العجيب!

لقد علمت أن سائلاً سأل ناشر هذه الكتب: من الذي يقرأ كتب الدكتور بدوي؟ فكان جوابه: إنها تقرأ في العراق. . .!

وإنني لأسأل بدوري: ترى هذا الديوان كذلك قد طبع للعراق. . .؟

ومعذرة لإخواننا العراقيين. فناقل الكفر ليس بكافر. . . وفي وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الاتهام!

وبعد فمعذرة للقراء! إنهم لم يعهدوني أكتب بهذه اللهجة عن أحد ولا عن عمل أدبي كذلك.

ولكنني هنا لا أكتب نقداً، ولم أقصد إلى شيء من ذلك ولم أكن لأملك أن أكتب بأسلوب الناقد الجاد. . . إن مجرد الحديث في لغة الجد والنقد عن مثل هذه (المساخر) لهو احتقار للشعر والأدب والنقد، واحتقار للصحيفة التي أكتب فيها، وللناس الذين أكتب لهم.

هذه (عَمْلةٌ) لا يجوز أن تمر. فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة، ولا بد أن يوضع حد لهذه (المساخر) بأية طريقة

وإذا كان القانون لا يملك - مع الأسف - أن يعاقب على مثل هذا الاستهتار فيجب أن يرد الناس عن أنفسهم هذا الاحتقار. فما يجرؤ إنسان على نشر مثل هذا الكلام بمثل هذا الادعاء إلا أن يحتقر نفسه أو يحتقر القراء.

سيد قطب

ص: 16

‌العصبية المعهدية

للأستاذ عبد الحميد يونس

في هذا الوقت الذي تلغى فيه الحدود الجغرافية نفسها على عتوها وجبروتها، وتتقارب الجماعات البشرية التي طال اصطراعها حتى أصبح التاريخ الإنساني كله عبارة عن سرد متصل لمشاهد حروبها وأهوال أيامها؛ بل وفي الوقت الذي تغلب فيه الدعوة إلى العدالة الاجتماعية سائر الدعوات فتعمل على محو الفروق بين الطبقات، أو التقريب فيما بينها على الأقل؛ أقول في هذا الوقت تقوى في مصر عصبية خطيرة تخلق طبقات جديدة وتنشر الإحن والأحقاد في نفوس الأفراد والجماعات

ومن عجب أن هذه العصبية تفرق أولاً وقبل كل شيء بين المتعلمين على الرغم من أن المصادفة وحدها جعلت المتعلم متعلماً والجاهل جاهلاً، وكان الأحجى أن يتقارب الاثنان ويأخذ الفاقد من الواجد، ولا أقول يعطي الواجد الفاقد

وفرقت هذه العصبية كذلك بين المتعلمين أنفسهم، فجعلتهم طبقات، واخترعت لهذه التفرقة مراحل وأقسماً، فهؤلاء هم أهل الطبقة الأولى، وهؤلاء أهل الطبقة الثانية، وأولئك أهل الطبقة الثالثة. . . وهكذا

ولم تكتف هذه العصبية الوبيلة بذلك، بل راحت تفرق الطبقة الواحدة شيعاً وأحزاباً لا تتعاون فيما بينها، لأن الأحقاد والإحن هي أساس وجودها والباعث على بقائها واطراد نموها.

ترى ما هذه العصبية الحمقاء التي صورتها بهذه الصورة المنكرة؟ هذه العصبية هي التي سميتها (العصبية المعهدية)، ولطالما نبهت إليها وحذرت منها، فلم يأبه للتنبيه والتحذير أحد، لأن الكل متهم بها، منتفع من وجودها، وعامل على إذكائها.

هذه (العصبية المعهدية) هي السر فيما تسمعه كل يوم من أن طائفة بعينها، أو قسماً بعينه يريد أن يسوي بينه وبين طائفة أخرى وقسم آخر في بعض المزايا والحقوق؛ أو أن أبناء معهد بعينه ينكون على أبناء معهد آخر ما يضطلعون به من جهد وما يقومون به من عمل، وكأنما العلم بضاعة يحتكرها أولئك دون هؤلاء، والقوامون على مرافق هذه الأمة يساعدون أحياناً، عامدين أو غير عامدين، على تقوية هذه العصبية بتفضيل طائفة من المتعلمين على

ص: 18

غيرها، أو معهد من معاهد التعليم على غيره، وفيهم من تأخذه عنجهية هذه العصبية إلى أبعد مدى، فيحتكر العلم أو التعليم لأبناء طائفته أو معهده

ولعل من المضحكات أو المبكيات ما روى من أن مصلحة من مصالح الحكومة أرادت أن تتحرى العدالة في اختيار في اختيار موظفيها لتبرأ من المحسوبية المتفشية في الدواوين وغير الدواوين، فعقدت امتحان مسابقة تختبر به كفايات المتقدمين ومقدار صلاحيتهم للأعمال التي ستناط بهم وتوكل إليهم، ولم يكن العمل يتطلب تخصصاً ضيقاً، وتقدم إلى هذا الامتحان جمع من معاهد شتى، وانقضت أيام وأعلنت النتيجة، فإذا الأول من معهد، والثاني والثالث والرابع من معهد آخر، فاختار مدير المصلحة الثلاثة دون الأول، لأنهم من المعهد الذي تخرج فيه، فهم لذلك دون غيره أصلح للعمل معه!

ولا تظنن أن هذا المثال الفريد في بابه، فكثير مثله يجري كل يوم في كل مصلحة وفي كل عمل، يختار المتعلم من هذا المعهد دون سواه، لأن رؤساءه منه، أو لأنه ينتمي إلى طائفة قد أصبحت طبقة يجب أن يعمل حسابها ولا يستغضب أبناؤها، ولسنا نبالغ في تجسيم هذه العصبية المعهدية وبيان أثرها مبالغة المتعصبين المعهديين في امتداح أنفسهم وطوائفهم ومعاهدهم، والحط من قدر الآخرين وطوائفهم ومعاهدهم، وذكر العنت الذي يقع عليهم دون سائر الناس

ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين خريجي المعلمين العليا ومعهد التربية، والانتصاف لهؤلاء مرة ولأولئك أخرى، لأن مقاليد الأمور كانت في يد هؤلاء مرة وأولئك مرة أخرى؟!

ألم يبلغك الخلاف الذي قام قبل ذلك بين هؤلاء المعلمين وبين الجامعيين والذي لا تزال له آثاره حتى اليوم؟

ألم يبلغك الخلاف الذي قام بين بعض الجامعيين وأبناء دار العلوم، وما له من أثر وبيل إلى يومنا هذا؟!

ألم تقرأ عن هذه الحرب الشعواء بين أبناء الأزهر وأبناء دار العلوم، والتي اتخذت لنفسها صوراً وأشكالاً لم يكن الشعب المصري يألفها من قبل؟

اختر لنفسك أي مدرسة من مدارس هذا القطر من الإسكندرية إلى أسوان للبنين أو للبنات، واختبر حالة المعلمين والمعلمات، فسيأخذك الدهش من كل جانب لأنك ترى هؤلاء الذين

ص: 19

يعيشون للعلم وللتعليم أحزاباً متنافرة، لا لشيء إلا لأن كل فريق من معهد، وقد أدت سياسية الارتجال وأنصاف الحلول والإصلاح المؤقت واسترضاء الطوائف إلى أن يتخرج المعلمون في المدرسة الواحدة من أكثر من خمس معاهد لا يدعو التخصص وحده إلى هذا التفريق فيما بينهما، فأنت واجد مدرسي اللغة العربية المتخرجين في الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، وأنت واجد في المدرسة نفسها أبناء معهد التربية العالي والابتدائي معاً، إلى جانب خريجي المعلمين العليا، وهم جميعاً يدرسون مجموعة واحدة من المواد. وكذلك الحال في مدارس البنات، فخريجات السنية والمعاهد الإضافية إلى جانب الجامعيات وخريجات معهد التربية الابتدائي، وهكذا. . . ولكل فريق من هؤلاء رؤساء يذكون في عصبية ويساعدونه في وجدوده وارتقائه

وأفرخت هذه العصبية عصبيات أخرى من نوعها وإن كانت أصغر وأقل شأناً، فإن المعهد الواحد قد ألزمه قانون تقسيم العمل والتخصص إلى أن يفرق طلابه على الأقسام ونشأت (عصبيات قسميه)، إذا صح هذا التعبير، ورأينا هؤلاء الطلاب إذا تخرجوا، ألفوا ما يشبه النقابات تضم أبناء قسمهم، بل ورأينا أنه إذا ابتسم الحظ لواحد منهم وجعله من أصحاب الحل والعقد في ناحية من النواحي، ضاقت نفسه بأبناء غير قسمه، وإن كانوا من معهده، ورأينا أكثر من ذلك أن رجال العلم والتعليم في هذا المعهد أو ذاك، قد يضطرهم قانون التعاون إلى أن يجتمع بعضهم وهم من أقسام شتى للقيام بعمل علمي أو اختبار طالبات أو طلاب فينتصر كل إلى قسمه وأبنائه، وإن كان ذلك تحيف على العدالة الواجبة في كل شيء وفي العلم ومعاهده بنوع خاص

نعم، إن هذه الهيئات والجامعات قد تكون لها وظيفة نقابية فتدافع عن مصالح أبناء المهنة الواحدة، وتحافظ لهم على حقوقهم، وتستغل الفرد لمصلحة الجماعة كلها، وتجند الجماعة لمصلحة الفرد من أبنائها؛ ولكن ما رأيك في أن المهنة الواحدة تتوزعاه نقابات مختلفة، وتتنازعها اتحادات شتى، تتسمى كل واحدة منها باسم (معهد)، أو حتى قسم من معهد، فأنت تجد اتحاد خريجي الجامعة، وتجد اتحاد خريجي كلية الآداب، بل واتحاد وخريجي قسم اللغة الإنجليزية، بل إن جماعة المعهد الواحد تنقسم بدورها إلى شعب، من ذلك أن لخريجي دار العلوم أكثر من ناد واحد في مدينة القاهرة وحدها

ص: 20

وهذه العصبيات تؤرق الحكام وتضنيهم، وقد أزعجت الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وأزعجت وزير المعارف، وأزعجت وزير المالية ووزير الداخلية وسائر الوزراء، واضطرت أولي الأمر إلى إقفال هذا المعهد أو ذاك أمداً ليس بالقليل، والتلويح بالوعود لهؤلاء، والنذر لأولئك، فيرضى قوم ويغضب آخرون، وتبقى العصبية المعهدية على حالها تنخر في عظام هذا المجتمع الناشئ المتطلع وتفسد ما بين المتعلمين، وكان الأحجى بهم وبرؤسائهم أن يجتمعوا على مكافحة الفقر والجهل والمرض، وهم الذين أدبتهم الأمة للاضطلاع بهذه المهمة، لا لأن يحارب بعضهم بعضاً

والعلاج الوحيد لهذه العصبية المنكودة هو أن نأخذ الداء من أساسه ونجتثه من جذوره، فنوحد بين سبل التعليم العام أولاً، فلا نكون هناك مدارس أولية وأخرى ابتدائية تؤدي هذه وتلك إلى غيرها بنظام الحلقات المتداخلة في التعليم الذي يدرج عليه نظامنا الواهن السقيم، وأن تتوحد فرصة هذا التعليم العام المشترك لجميع المصريين، فلا يستطيعه الواجدون دون الفاقدين، ولا أبناء الحضر دون أبناء الريف، ولا المسلمون دون النصارى كما هو الشأن في بعض معاهدنا المتسمة بسمة القرون الوسطى إلى اليوم

أما التعليم العالي وما فيه من تخصص واستعداد مهني فيجب أن يكون في كليات واحدة، لا في معاهد مستقلة برأسها، والمتخرجون في هذه الكليات يجب أن يكونوا في نظر الدولة سواء، فلا ينظر رجال البوليس في شيء من الحسد إلى رجال الجيش، ولا يطلب المهندسون المساواة بالقضاة، والمدرسون المساواة بأولئك وهؤلاء، وتختفي هذه الشكايات التي تملأ أعمدة الصحف وتبرأ المنفوس من الحقد والجشع، ولا نسمع أن طبيباً أهان وكيل نيابة، أو أن طلبة الأزهر تماسكوا مع طلبة دار العلوم

عبد الحميد يونس

عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية

ص: 21

‌شعراؤنا المؤرخون

كيف نرتب دواوينهم ونقرؤها

للأستاذ محمود عزت عرفة

قد يستسيغ قارئ الأدب منا أن يطالع شعر ابن أبي ربيعه مثلاً في غير ما ترتيب ولا تبويب - كم هو الشأن في ديوانه المطبوع - فلا يفرق بين أوائل شعره وأواخره؛ ولا يتدرج في المطالعة من شعر صباه وشبابه، إلى شعر رجولته واكتهاله، ثم إلى شعره وهو يدب هوناً إلى الثمانين. . .

قد نستسيغ ذلك لأن ابن أبي ربيعه وأمثاله من الشعراء العاطفيين لا يصدرون في أقوالهم إلا عن بواعث نفسية وموحيات خاصة، لا ترتبط عند القارئ، ولا عند الشاعر في أكثر الأحايين، بزمان محدود أو مكان معلوم.

ولكن الشأن يختلف في ذلك كثيراً مع شعرائنا الاجتماعيين من أمثال المتنبي والنواسي والبحتري وأبى تمام والشريف ومهيار والسري وصردر؛ أولئك الذين سجلوا في شعرهم صوراً كاملة من أحداث عصورهم، وجروا في حلبة التاريخ أشواطاً تختلف طولاً وقصراً باختلاف سني أعمارهم. فارتبط شعرهم بحوادث تاريخية مشهورة، محدود زمانها ومكانها؛ وتجلت من أجل ذلك أهمية الترتيب والتبويب في مطالعة إنتاجهم، ترتيباً وتبويباً ليس منهما في شيء مراعاة أبجدية القوافي، ولا الاكتفاء بملاحظة أغراض الشعر المختلفة، كما هو الشأن في معظم الدواوين المطبوعة اليوم، وفي أصولها المخطوطة من قديم.

ولنضرب هنا المثل بشاعر كالبحتري؛ فهو قد ولد في أوائل عهد المأمون، وتوفي - عام 284 هـ - في خلافة المعتضد. وبذا يكون قد عاصر عشرة من خلفاء بني العباس اتصل بستة منهم اتصالاً وثيقاً، هم على ترتيب عهودهم: المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد؛ وله في كل منهم مدائح أو أهاج تكشف عن مدى اتصاله بالحياة السياسية على عهده وانغماسه في تيار الحوادث الجارف خلال هذه الحقبة الطويلة الهامة من حكم العباسيين. وإذا نحن نظرنا إلى هؤلاء الأعلام الستة كنجوم لوامع نيرات في أفق ديوانه تحدد لنا أهم اتجاهاته، كان لنا أن نتخذ من سائر الأعلام المنبثة فيه نجوماً أو كواكب أقل التماعاً نملأ بها الفجوات الفسيحة فيما بين ذلك؛ فنخرج من شعر البحتري

ص: 22

بصورة تاريخية مشرقة المعالم واضحة التعابير، لحمتها حقائق التاريخ وسداها الفن الرفيع والأدب المعجب. . . ذلك أننا نجد إلى جانب ما قاله في أولئك الخلفاء قصائد ومقطعات أخرى تبلغ المئات عدداً من مدائح وأهاج ومعاتبات ومراث ومداعبات، ومن سائر ما يدور بين المتعاصرين - كلها تتعلق بشخصيات تاريخية هامة من الوزراء والقواد والولاة والسرة والأدباء والأعيان وغيرهم؛ وأكثرها يسجل معالم واضحة دقيقة لأسر خطيرة الذكر على هذا العهد من أمثال آل طاهر وآل المدبر وآل حميد، وآل مخلد وسهل ووهب وخاقان ونيبخت وبسطام. . . وغير هؤلاء

ومثل ذلك يمكن أن يقال عن أبي تمام الذي مدح المأمون والمعتصم والواثق من الخلفاء - وتوفي قبل الأخير بعامين - ثم التمعت في ثنايا ديوانه الحافل بالأعلام، أسماء آل دواد ووهب وسهل ورجاء وحميد ومزيد الشيباني وطوق التغلبي ويوسف الطائي. . . الخ يمكن أن نقول ذلك عن كل شاعر اجتماعي من أمثال من أشرنا إليهم، فترتيب شعر هؤلاء وفق أبجدية القوافي أو أغراض الشعر كما هو متبع إلى اليوم، تشويه لعرض إنتاجهم ليس بعده تشويه، وإعراض عن ناحية هامة كان ينبغي أن تتجه إليها العناية منذ بعيد، تلك هي الناحية الاجتماعية التاريخية من هذه النفائس الخالدة.

وإن عذر القدماء لواضح في لزوم هذه الطريقة الفجة في جمع الدواوين، إذ كان الأمر في ذلك موكولاً إلى جماعة الرواة منهم والحافظين، والغاية منه حفظ هذه الكنوز من الضياع، ثم مساعدة المتأدبين والأدباء على اقتناء مجموعات شعرية وافية تسهل مراجعتها واستخراج البيت منها أو الأبيات بأيسر المجهود، لتذوق ما فيها من شاعرية، أو لدراستها دراسة لغوية لا تخرج عن دائرة النحو والبلاغة والعروض وما إليها. أما هذه الناحية التاريخية التي نشير إليها فلم تكن مما يخطر للقوم على بال؛ وإنما هي غرض يتجدد ويزداد شعورنا بالحاجة إليه كلما تطاول الزمن على هذه القصائد فاكتسبت صفة السجلات التاريخية الوثيقة.

وإن تحقيق هذا الغرض ليقتضينا أن نرتب كل ديوان ترتيباً تاريخياً نراعي فيه تسلسل الحوادث المختلفة التي يسجلها الشاعر، وتاريخ حياة كل من الأشخاص الذين يتحدث عنهم. وليس يطعن في صدق هذا التاريخ الأدبي أو ينتقص من قدره ما قد يتجه إلى الشعراء

ص: 23

عامة من الريبة في صحة أحكامهم لأنهم كمؤرخين معاصرين للحوادث التي يوردونها، يمتازون من الخبرة وسعة الاطلاع بما لا يتأتى لغيرهم ممن سجلوا هذه الحوادث بعد انطواء أزمانها. وأي وصف لخيانة الأفشين للمعتصم أصدق عبارة مما سجله أبو تمام في قصيدته: الحق أبلج والسيوف عوار؟. . بل أي تسجيل لحوادث فتح عمورية أبلغ أثراً في النفس مما تقرؤه في بائيته: السيف أصدق أنباء من الكتب؟

والأمثلة على ذلك كثيرة نومئ إلى بعضها فيما يلي:

1 -

رحلت عن الربع المحيل فعودي: لأبي العتاهية في عقد الرشيد العهد لأبنائه الثلاثة في ذي الحجة عام 186 هـ

2 -

شغلان من عذل ومن تفنيد: للبحتري فيعقد المتوكل البيعة لأبنائه المنتصر والمعتز والمؤيد في ذي الحجة عام 235 هـ

3 -

قل للسحاب إذا حدته الشمأل: للبحتري في وفود الروم على المتوكل، ومفاداته الأسرى (في شوال عام 241 هـ)

4 -

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام: لابن الرومي في إيقاع صاحب الزنج بأهل البصرة أيام المعتمد (شوال 257 هـ)

5 -

عواذل ذات الخال في حواسد: للمتنبي في حروب خرشنة على عهد سيف الدولة عام 340 هـ.

6 -

فتوحك ردت بهجة الملك سرمداً: للسرى الرفاء في الغرض السابق.

7 -

فتح أعز الإسلام صاحبه: للسرى الرفاء في هزيمة الدمستق وبناء قلعة الحدث عام 343 هـ.

8 -

على قدر أهل العزم تأتي العزائم: للمتنبي في الغرض السابق

وينبغي بعد ألا يفوتنا النص على أن هؤلاء الشعراء كانوا من حزب الخلافة في أكثر أمرهم، فلهجتهم هي الرسمية، ووجهة نظرهم هي الوجهة العامة الغالبة. وكتب التاريخ التي ننحني أمام صدقها لا ينظر أكثرها إلى الحوادث السائرة إلا من هذه الزاوية. فهؤلاء الشعراء في تسجيلهم لحوادث التاريخ العامة لم يكونوا إلا لساناً ينطق برأي الهيئة الحاكمة، ولا يخالف كثيراً - إن لم يمثل تماماً - رأي الهيئة المحكومة من عامة الشعوب الإسلامية.

ص: 24

هذا، ولم تكن الأطماع التي تعتلج في نفوسهم، والتي يحتمل معها الشك في صدق أحكامهم، بالأطماع الجريئة بعيدة الغور التي قد تتشوه بها الحقائق ويختل معها ميزان الأحكام. فهم مع انجذابهم في تيار السياسة لم يكونوا من رجالها بالمعنى المفهوم، وإنما أهل فن وأدب: مطلبهم العيش الرغيد وأمنيتهم الحياة السهلة الوادعة؛ يفتنهم جمال الحق، ويعجبهم الانضواء تحت لوائه والقيام بنصرته. وإنهم لأقل الناس انحرافاً، وأقلهم تبعاً لذلك تشويهاً للحقائق بزيادة فيها أو نقصان.

وكبار المؤرخين أنفسهم يتجه إليهم من النقد شيء كثير، ويؤخذ عليهم من المآخذ ما يكفي أقله لأن يودي بقدر مؤلفاتهم التي نعتمد عليها الاعتماد كله، ونستنبط منها حقائق التاريخ - فيما نزعم - جلية ناصعة.

جاء في (ضحى الإسلام) عند الحديث عن مؤرخي العصر العباسي الأول:

(قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحياناً، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيراً من وصف النواحي الاجتماعية وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته. . . الخ).

ونقول إنه لن يكون نصيب الشعراء من أمثال هذه المآخذ أكثر من نصيب المؤرخين، مع ما ينبغي الاعتراف به دائماً من وفرة حظ الأولين من الصراحة وصدق التعبير، وقلة تعلق أكثرهم بالماديات تعلقاً يدفعهم إلى اعتساف سبيل التحيز أو التحيف.

على أنه ينبغي لنا ندرك الفرق بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين؛ فلا نجشم الشعراء طريقاً غير طريقهم. . . وإنهم لأصحاب الإغراق والإسراف والمبالغة والتهويل. . . تلك الهالات المونقة التي تزين جبين الشعر، والتي لا يصعب على المتفرس أن يتعرف إلى وجه الحقيقة من ورائها. ثم هم بعد ذلك يتفردون بالإبداع في تصوير نفوس الأفراد والجماعات والتعمق في تحليل الشخصيات التاريخية التي يعاصرونها إلى الحد الذي لا يتأتى لكثير من المؤرخين. ورب أبيات قصيرة يصف بها الشاعر حالة من حالات خليفة أو أمير في مجلس سمر أو ساحة قنص أو محفل مناظرة أو مقام مشاورة - تكشف لنا من خلجات هذه النفسية التاريخية ونوازعها ما يعلل الكثير من الأحداث الهامة التي يكتفي

ص: 25

المؤرخون بسردها، ثم هم يتخبطون في مجاهل الغيب إن تطاولوا إلى ما فوق ذلك بتعليل بواعثها.

ولتحديد موقف الشعراء من المؤرخين، وبيان مدى الاعتماد على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ نورد ما ذكره الدكتور طه حسين بك في كتابه (مع المتنبي)، وهو يتحدث عن وصف الشاعر لحروب سيف الدولة، قال:(قد يقال إن المتنبي أغرق وأسرف، وعظم من أمر هذه المواقع أكثر مما ينبغي، وأضاف إليها من الخطر أكثر مما تستحق، وأعرض عن تصوير الهزيمة، ولم يعن إلا بتصوير الانتصار. ولكن يجب أن نتفق، فلم يكن المتنبي مؤرخاً ولا محققاً، وإنما كان شاعراً، وشاعراً ليس غير. أستغفر الله، بل كان شاعراً يشترك في الجهاد، يذوق لذته ويشقى بآلامه. فالذين يطالبون هذا الشاعر بالتاريخ وتصوير الحق كما وقع يسرفون عليه، ويسرفون على أنفسهم، ويسرفون على الشعر نفسه. وأين كانت تقع حرب طروادة التي وصفت الإلياذة طوراً من أطوارها من هذه الحروب التي شهدها المتنبي ووصفها تسعة أعوام كاملة. أفيعاب شعراء الإلياذة بأنهم لم يصفوا التاريخ كما كان، أم يحمد من هؤلاء الشعراء أنهم صوروا نفوس الجماعات والأفراد التي اشتركت في هذه الحرب أبدع تصوير وأروعه؟).

ثم يعتذر صاحب الكتاب مع المتنبي عن تهويل الشاعر في وصف وقائع سيف الدولة فيقول: (كلا إنه لا يتجاوز الحق، ولا يفسد التاريخ بالقياس إلى الذين لا يحسنون استنباط التاريخ من الشعر، ولا يفرقون بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين) هـ.

وإذا كنا قد أطلنا الحديث عن الناحية التاريخية من الشعر، فحسبنا أن نجتزئ بالإشارة العابرة إلى ناحية أخرى تتعلق بعلم الجغرافيا. وخير من الإطناب في هذا المقام أن ننقل للقارئ فقرة موجزة من كتاب (امرئ القيس) للدكتور محمد صبري حيث يقول: (قد جرى امرؤ القيس في معظم قصائده، وتبعه في ذلك جميع شعراء العرب من جاهلين وإسلاميين، على سنة تحديد الأماكن وذكرها، ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا هذه السنة التي سنها الشاعر لضاعت نصف جغرافية بلاد العرب، إذ من المعلوم أن معجم ياقوت ومعجم البكري كان الشعر مرجعهما الأول لوصف بلدان كثيرة. على أنهما لم يستوعبا كل شيء ولا تزال العناية بدراسة شعراء كالمتنبي والبحتري وأبي تمام مثلاً من شأنها أن تساعد على تصحيح

ص: 26

أسماء بلدان كانت معروفة في العصر العباسي، ولكنها وردت مغلوطة في تواريخ الطبري، وابن الأثير) هـ.

وبعد، فهاتان ناحيتان من الشعر طالت غفلة النقاد عنهما قروناً. ويبدو أن أول خطوة عملية ينبغي لنا اتباعها هي أن نضيف إلى كل (ديوان تاريخي) بعد ترتيب قصائده ملحقاً بتراجم أشهر الأعلام التي ورد ذكرها فيه، ثم معجماً لأهم البلدان التي نوه فيه بذكرها. . .

وكيفما كان أمر شعرائنا أو القول فيهم، فإن من اليسير أن نستقري ما خالف من شعرهم، ثم نلتقي على ظلمته ضوءاً من حقائق التاريخ الثابتة بعد أن ندرج كل قصيدة في موضعها من مجموعتها حتى تتصل بما قبلها وبما بعدها من شعر، اتصالاً قوياً وثيقاً تبتهج له نفوس طلاب الحقائق، وتكتسب به الدواوين حرارة وحيوية يبدو معهما كل شاعر إنساناً حياً، لا شبحاً باهت الظل متخيل الوجود. بل تكتسب المعاني والحوادث المسرودة نفسها قوة لم تكن لها من قبل، وتنطبع في الأذهان بهيئة لا يدرك تناسقها وروعة جمالها إلا من تهيأ له - في مرة أو أكثر. . . أن يمارس هذا الترتيب بين القصائد، فيرى كيف تنطق الحقيقة الجافة بلسان الخيال الرطيب، ويشهد كيف يتواطأ التاريخ الدقيق والأدب الرقيق معاً على غزو العقول بسحر جمالها؛ وكيف يتجليان في مرايا العقول كالفرقدين، تنزلا من أفق واحد، ليشرقا على دنيا واحدة.

محمود عزت عرفة

ص: 27

‌الأدب في سير أعلام:

ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 15 -

بين الطغيان والحرية:

واستبدل شارل بالأمر أحد عشر عاماً لقي أثناءها الإنجليز ما شاء له طغيانه من ضروب العسف والإذلال، وكان وليم لود الذي رقى في عام 1633 إلى منصب كبير الأساقفة مشيرة في الشؤون الدينية ولورد استرافورد مشيرة في الشؤون السياسية.

وامتحنت الحرية امتحاناً طال ليله واشتد بالناس هوله، وسلط لود على البيوريتانز من أنواع الاضطهاد وأساليب العسف ما شاء له سلطانه وما أملاه غيظه وغلظه فكانت تكوى جباههم وصفحة وجوههم بالحديد المحمي أو تقطع أطراف آذانهم أو أنوفهم وليس لهم منجاة من هذا العذاب إلا أن يطرحوا عقيدتهم؛ ولكنهم كانوا يمدون آذانهم وجباههم ووجوههم وأنوفهم جماعات إلى من يكويها أو يتحيفها دون أن يذل لهم إباء أو تهن لهم عقيدة، وكانوا كلما أمعن لود في تعذيبهم ازدادوا تمسكاً بمذهبهم وازداد مذهبهم رسوخاً وانتشاراً كالشجرة كلما امتدت إليها الأيدي بالتقليم تغلغلت في الثرى جذورها وامتدت في الجو فروعها.

ولم يقتصر التعذيب على عامة البيوريتانز، فامتد إلى الخاصة وشمل كل من كتب شيئاً ضد الملك أو الأساقفة، وكان يعين الملك في طغيانه محكمتان: إحداهما هي محكمة غرفة النجم، والأخرى محكمة عليا أنشأتها اليزابيث أول الأمر للحكم على من يخالف قرار توحيد العبادة؛ وكان من الضحايا العديدين لهاتين المحكمتين أحد كبار رجال الدين فضرب وحبس ووضع في الأصفاد وقطعت أذناه لأنه كتب ينتقد لود وأساقفته؛ وأحد رجال القانون لأنه كتب كتاباً يعيب فيه على من احترف التمثيل من الأوانس والسيدات مسلكهن فظن أنه يعرض بالملكة فيما كتب ولم يك جزاؤه أخف من سألفه؛ ومن هذين المثلين ندرك مبلغ ما

ص: 28

حل بالناس من ألوان العذاب.

ولما كانت المشكلة المالية هي التي تضطر الملك إلى الاستعانة بنواب البلاد، فقد أشار سترافورد على الملك باتباع سياسة الاقتصاد ليطرد استغناؤه عن البرلمان، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، فتحسنت الحالة المالية إلى حد ما وخيل إلى سترافورد أن ليس للبرلمان رجعة.

ولكن الملك وازن بين دخله ومنصرفة فلم تسره الموازنة ووجد نفسه لا يزال في حاجة إلى زيادة الدخل وإلا اشتدت به الضائقة ثانية، فسلك سنة 1634 مسلكاً كان أبعد ما سلك عن الصواب، وذلك أنه عمد إلى فرض ضريبة مباشرة، وكانت تسمى ضريبة السفن، وهي ضريبة قديمة كان من حق الملك وفق الدستور أن يفرضها على المواني إذا تعرضت المملكة لخطر الحرب فتقدم المواني سفناً أو ما لا يقوم مقامها؛ ونظر الإنجليز هذه المرة فإذا بالملك يفرض هذه الضريبة وليس ثمة من خطر يتهدد المملكة ولكن الملك احتج بأنه يبتغي بها مطاردة ما يتهدد التجارة من القراصنة، وتمادى الملك فخرج على القانون والعرف وفرض هذه الضريبة لا على المواني فحسب بل وعلى داخلية البلاد، ثم استمر يفرضها عاماً بعد عام وكان الأصل فيها ألا تفرض إلا حين الخطر

ويأبى القدر إلا أن يرتطم الملك وكبير أساقفته في ورطة كانت هي القاضية عليهما، فقد شاء لود أن يدخل في اسكتلندة النظام الأسقفي على الرغم من تمسك الاسكتلنديين بنظام الكنيسة البرسبتيرية، وأعد لود كتاباً للصلاة على نمط كتاب الصلاة في انجلترة، وأراد أن يحمل الاسكتلنديين على اتباعه في كنائسهم، فثار الناس هناك وأعلنوا سنة 1638 في مجلس عام رفض النظام الأسقفي وطردوا الأساقفة الذين أرسلهم شارل إليهم فكان هذا تحدياً صريحاً لمشيئة الملك؛ وأصبحت المسألة في الواقع تتصل بحق شارل في حكم اسكتلندة أكثر مما تتصل بالنزاع الديني، وبات الموقف بالغ الخطورة، فإذا استطاع الاسكتلنديين أن يعصوا الملك فماذا عسى أن يكون وقع هذا في إنجلترا.

ولجأ الملك إلى الحرب وتأهب الاسكتلنديون للقتال وتلاقى الجيشان فأحس الملك ضعفه فهادن الاسكتلنديين وهادنوه وسكنت ريح الحرب إلى حين.

وأحس الملك بضرورة دعوته برلماناً فدعا ذلك البرلمان في ربيع سنة 1640 وعرف باسم

ص: 29

البرلمان القصير لأنه لم يلبث أن أنكر على الملك فرض ضريبة السفن، ولما ساومه الملك وعرض أن يتنازل عن ضريبة السفن نظير أن يمنحه البرلمان مبلغاً معيناً رأى البرلمان أن قبوله هذا العرض يتضمن الاعتراف بحق الملك في فرض تلك الضريبة فأبى إلا أن يكون تنازل الملك عنها بغير قيد وضاق الملك بالبرلمان فحله في نفس العام.

ولكن الاسكتلنديين عبروا نهر التويد في الصيف زاحفين على إنجلترا، ودعا الملك مجلساً من الأعيان فأشار هذا المجلس بوجوب الاستناد إلى برلمان، ولم يجد الملك بداً من الإذعان فدعا برلماناً جديداً في نفس السنة وعرف هذا البرلمان بالبرلمان الطويل، وظهر في هذا البرلمان زعماء أشداء كان من أشهرهم بم وهمبدن وأليفر كرمول. . .

ووجد البرلمان الفرصة سانحة ليصفي حسابه فوجه إلى لود واسترافورد تهمة الخيانة العظمى للشعب الإنجليزي وأطلق السجناء من أنصار الحرية، وأزال من الكنائس كل ما يصلها بروما من مظاهر وصور وتماثيل، واحتاط البرلمان للمستقبل فأصدر قراراً يقضي بأنه لا يجوز أن ينقضي أكثر من ثلاث سنوات بغير أن يدعى برلمان، وقدم سترافورد إلى المحكمة، ووضع تحت الحراسة كيلا يهرب، وكان لا بد من موافقة الملك حتى تقام الحراسة فوافق الملك مه أنه وعد سترافورد أن يدافع عنه وأدين سترافورد وأعدم وتنفس أنصار الحرية الصعداء، وبالغ البرلمان في الحيطة فأصدر قراراً فحواه ألا يجوز حل البرلمان إلا بموافقة أغلبية أعضائه؛ وقضى البرلمان بحل محكمة غرفة النجم والمحكمة العليا المختصة بالشؤون الدينية.

وخيل لأنصار الحرية أنه لم تعد تعترضهم عقبات، ولكنهم ما لبثوا أن أحسوا روحاً رجعية في مقاعد البرلمان نفسه، وذلك بسبب مغالاة البيوريتانز ضد النظام الأسقفي، فقد قدم هؤلاء مقترحاً إلى البرلمان يقضي بإزالة هذا النظام كله وسمي مقترحهم باسم مقترح الأصل والفرع، ولكن بعض النواب كانوا يميلون إلى النظام الأسقفي فعارضوا هذا المقترح وانضم إلى هؤلاء نواب آخرون أشفقوا من تطرف البرلمان في استلاب سلطة الملك ورأوا أن الملك قد أذعن أكثر مما يجب أن يذعن وتوجسوا خيفة من عواقب هذا التطرف كأنما يلمح لهم شبح الفوضى.

وأخافت هذه الرجعية بم وزملاءه، فأقدم بم على عمل خطير وهو ما سمي الإعلان الأعظم

ص: 30

وهو عريضة قدمت إلى البرلمان وفيها جميع ما ارتكب الملك وأعوانه من أخطاء في السياسة والدين منذ بداية عهده وطلب إلى البرلمان أن يقرر صحة ما جاء فيها، وبعد مناقشة عنيفة في جلسة طويلة استمرت الليل كله وافق البرلمان عليها بأغلبية تسعة أعضاء فحسب فأظهرت هذه العريضة عدد أنصار الملك في البرلمان وتبين أنه عدد لا يستهان به.

وتزايدت مخاوف بم وأنصاره، وكان الملك قد ذهب إلى اسكتلندة على أثر وفاق البرلمان بين إنجلترا والجيش الثائر في اسكتلندة، فلما عاد شارل إلى إنجلترا استقبل في لندن بحفاوة عظيمة. . . . . .

وكأنما أغرته تلك الرجعية في مقاعد البرلمان وهذه الحماسة التي لقيه بها أهل لندن بأن يضرب ضربة، فخطا خطوة جريئة ود كثير من أنصاره أنفسهم لو أنه لم يخطها، وذلك أنه وجه في سنة 1642 إلى خمسة من أعضاء البرلمان على رأسهم بم تهمة الخيانة العظمى، وبعد يومين ذهب إلى البرلمان بنفسه على رأس قوة من حرسه وقفت عند بابه شاكية السلاح وطرق شارل الباب ودخل القاعة ليقبض على الأعضاء الخمسة، ونهض النواب وقوفاً وحسروا القبعات على رؤوسهم، واتجه الملك إلى منصة الرئيس فخر أمامه على ركبتيه وساد الصمت فلا يسمع إلا همس، ودار الملك بعينيه يطلب الأعضاء فلم يتبين في الصفوف منهم أحد فقد نما إليهم ما اعتزمه الملك قبل حضوره بدقائق ففروا فسأل عنهم الرئيس فأنكر معرفته متى حضروا ومتى انصرفوا، ونظر الملك إليه نظرة شديدة ثم خرج هادئ الخطى يعلن إلى حرسه أن قد (طارت الطيور الخمسة).

وتسامعت لندن بما كان من أمر الملك فهبت المدينة التي لقيته بحفاوتها منذ قليل تدافع عن النواب، واشتدت حماسة الناس، وصمموا على أن يعود الأعضاء إلى مجلسهم في مظاهرة كبرى وأعدت الزينات في الشوارع وعلى صفحة النهر في القوارب، وكان لا بد أن تمر المظاهرة بقصر الملك فلم يطق الملك أن تقع عيناه عليها أو تسمع أذناه ضجيجها فترك المدينة.

وأخذ البرلمان يعد العدة للدفاع عن كيانه، وأعد الملك عدته ليسحق بها البرلمان ومن يظاهره من الناس، واندلعت نيران للحرب الأهلية التي انتهت بهزيمة شارل بعد أن دارت رحاها لأكثر من أربع سنوات

ص: 31

(يتبع)

الخفيف

ص: 32

‌حرفة الأدب

للأستاذ عباس حسان خضر

ألممت في مقال (نظرات في أدب المتأخرين) المنشور في عدد مضى من (الرسالة) بحرفة الأدب إلماماً وجيزاً. وقد رأيت أن أجيل القلم في نواح من هذا الموضوع أوجزت القول في بعضها بالمقال السابق، ثم رأيت أنها تحتاج إلى شيء من البسط والنواحي الأخرى جال بها الفكر بعد.

قلت في ذلك المقال: (وكثيراً ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت حرفة الأدب مجلبة للبؤس وشؤماً على من أدركته).

فقد سارت كلمة (أدركته حرفة الأدب) مسير المثل، تقال في كل أديب يناله شر، وعند كل حالة يمنى فيها بالخيبة والإخفاق. وكل أمر يقترن بالمحن والرزايا معدود في المشئمات، مرمى بجرائره دون نظر إلى الملابسات؛ فالأديب إنسان له حاسة سادسة إلى حواسه الخمس، هي طبيعته الفنية التي تستعمل الحواس الأخرى في إحساسها بنواحي الحياة إحساساً ينفرد به الأديب كما ينفرد ببيان لا يتأتى لغيره من سائر الناس، وهو بفنه هذا مشغول، مستهلك جل قواه، مصروف عن مقومات حياته وضرورات عيشه، فإذا مسه ضر عد أدبه شؤماً وقيل:(أدركته حرفة الأدب).

فلست أرى الشؤم من واقع الأمور، وإنما هو حالة نفسية تنشأ عن اقتناع بأن المتشائم منه يجلب الشر والأذى، ومن مقتضيات هذه الحالة تهيب المتطير منه والإعراض عنه أو الإقبال عليه مع الكره وتوقع الشر، وكأن المتطير يستدعي بذلك ما يخشاه، وكأنه يهيئ نفسه ليكون مهبطاً له؛ فتستجيب له النوائب وتنزل بساحته الكوارث وقد أعد لها.

ولست أرى بأساً على من ينحى عنه خاطر التشاؤم ولا يدع له إلى نفسه سبيلاً؛ وقد اقتنع بذلك ابن الرومي (وهو رأس المتشائمين والقائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان) لما أنشده أحد الشعراء وقد علم أنه يتطير:

ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه

بتفريق ما بيني وبين الحبائب

رجعت على نفسي فوطنتها على

ركوب جميل الصبر عند النوائب

ومن صحب الدنيا على جور حكمها

فأيامه محفوفة بالمصائب

ص: 33

فخذ خلسة من كل يوم تعيشه

وكن حذراً من كامنات العواقب

ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح

تطير دار أو تفاؤل صاحب

راقت هذه الأبيات ابن الرومي، وتأثر بها، فحلف ألا يتطير أبداً (من هذا ولا من ذاك) وأومأ إلى جاره الأعور، وكان يتشاءم منه. فقال له أحد الحاضرين:(وهذا الخاطر من التطير) فهو وإن كان اقتنع رأيه بفساد مذهب التطير فقد غلبته طبيعته فأخطرت له التطير وهو يحلف ألا يتطير!

على أنني أعود من هذا لأشاطرك ما لا بد أنه يجول بذهنك وهو أن الأدب لم يكن دائماً قريناً للبؤس والحرمان، وليس كل أديب كيعقوب الخزيمي القائل:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به

إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

ويخطر لك هذا لأنك تعلم أن الأدب نفع ورفع كثيرين، فأنالهم المال، وأبلغهم المناصب. وقد اختلفت حظوظ الأدباء من حيث انتفاعهم بأدبهم أو (إدراك الحرفة إياهم) باختلاف أسباب، بعضها من ذات أنفسهم، وبعضها خارج عن ذواتهم؛ فالنوع الأول كاباء الأديب واستنكافه أن يسلك مسلكاً يراه غير لائق، وليس في المجتمع الذي يعيش فيه غيره من طرق الانتفاع بالأدب، على حين لا يتحرج أديب آخر من ذلك؛ أو أن يكون الأديب واسع الحيلة أو ضيقها، أو حسن التدبير أو سيئه. والنوع الثاني من تلك الأسباب كظروف الزمان والمكان، فهذه دولة يشجع رجالها الأدباء، على مختلف بواعث التشجيع، وبمختلف وسائله؛ وتلك أخرى يحتجن أصحابها البر عن الأدباء، أياً كانت أسباب هذا الاحتجان. وقد لا يكون الأديب بحاجة إلى الانتفاع بأدبه، لأن له من ثرائه أو كسبه من طرق أخرى ما يغنيه عن ذلك، فيتنقل بين زهر الآداب ويغرد على أفنانها لا لشيء إلا ليرضي حاجة نفسه، ويمكن (حاسته السادسة) من القيام بوظيفتها.

وبالطبع كانت تروج كلمة (أدركته حرفة الأدب) كلما توافرت معوقات الاكتساب، وأنت تراها قد قلت في عصرنا هذا فإن التأليف والصحافة قد أصبحا سوقاً نافقة للكتاب وخاصة المعروفين منهم لدى جمهور القراء، وقد ربح بعضهم في السنوات الأخيرة ما يعد من جملة أسباب (التضخم النقدي) ومما يؤسف له أن هذا الربح الوفير قد أغرى الكثيرين بكثرة الإنتاج التي لا تتم إلا باللهوجة والسلق، ولا سيما سلق البقول التي تجمع من حقول

ص: 34

الأسفار، فتصنف المؤلفات كما تصنف (شربة الخضار) كأن الأذواق قد اعتلت، فهم يصنعون لها هذا اللون من الحساء. . .!

وقد عمد مديرو بعض المجلات الشعبية إلى بعض الكبار من الكتاب يستكتبونهم بأجور مغرية، ومفهوم أن أصحاب هذه المجلات يقصدون ترويجها أو ازدياد رواجها بأسماء المشهورين من الأدباء، ولكن بعض هؤلاء الكتاب الفحول أسفوا في كتاباتهم لأنهم قصدوا إلى الدنو من ذهن القارئ العادي، وطلبوا طرائف الموضوعات فلم يوفقوا، وتكلفوا الظرف ومسايرة روح تلك المجلات؛ وذلك ليس في طبعهم، فجاء إنتاجهم في هذا المضمار بائخاً لا غناء فيه.

وأن تدرك حرفة الأدب هؤلاء وأولئك خير من إفساد السوق الأدبية برديء المنتجات، وإفساد السوق الاقتصادية بتضخم النقد واستمرار الغلاء.

وإن من حق الكتاب الناضجين - بلا شك - أن يستثمروا فنهم ويجنوا ثمرته، ولذلك أثره حفز الهمم وشحذ القرائح، ولكن من حق الأدب ومن حق (مستهلكيه) إجادة الإنتاج وألا يزاول الكاتب من أنواع الكتابة إلا ما يحسنه، وإذا كانت المصانع المشهورة تحرص على جودة مصنوعاتها لأنها تحمل أسماءها، أفلا يجدر بهؤلاء الكتاب المشهورين أن يتعهدوا أسماءهم بالجلاء والصقل؟

أما الشعراء فلم يعد لهم سبيل لائق بكرامة الأدب في العصر الحديث إلى الاكتساب من فنهم، وكم كان ظريفاً ذلك الشاعر - وهو من أساتذة اللغة العربية - الذي قال: إنني أتكسب بالشعر ولكن لا بشعري أنا وإنما بألفية ابن مالك!

وممن أدركتهم حرفة الأدب في عصرنا أفراد معرفون بالانتحال، ينشئون المقال أو الخطبة أو القصيدة أو الكتاب، وينحلونه من لم تدركهم الحرفة لقاء قروش أو جنيهات معدودات فيتسلق هؤلاء المجدودون أولئك الحرفاء، لأنهم لا سيقان لهم في الأدب يقومون عليها. وهؤلاء وأولئك يرتكبون التدليس والتزوير في الأدب، حتى ليصح أن يقال إن الأدب أدركته حرفتهم! فنكبته بهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .

ونخلص من كل ذلك إلى ما قررناه وهو أن الأدب لم يكن دائماً مجلبة للشقاء والحرمان، بل كثيراً ما كان سبباً إلى النعمة والرفاهة، فلا يصح أن نقرنه بالشؤم، لأنه يتخلف عنه،

ص: 35

وما بالذات لا يتخلف، كما يقول الفلاسفة.

على أن فن الأدب نفسه متعة؛ فإن لم يصل صاحبه إلى الأعراض الأخرى فحسبه إمتاع فنه والحياة الرفيعة التي يضطرب فيها بفكره وصفاء روحه، والله المستعان.

عباس حسان خضر

ص: 36

‌الشرق كما يراه الغرب:

الصين الجديدة

للأستاذ أحمد أبو زيد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ليست الديمقراطية مجرد نظام صوري من نظم الحكم تفرضه الدولة على رعاياها وتنتحله لسياسة أمورهم؛ بل الديمقراطية شيء أبعد من ذلك، إذ أنها تعتمد في أصلها على مزاج الشعب ذاته وعلى طبيعته وعلى مدى استعداده لتلقي ذلك النظام وقبوله؛ أو بقول آخر يتوقف نجاح الديمقراطية على مدى رغبة الشعب وميله إلى الاتحاد والتعاون والتضامن فيما بينهم، وعلى مقدار قابليته لتأليف الجماعات التعاونية المختلفة؛ فحيث يكون الناس أقدر على التضامن والتعاون فيما بينهم بروح سمحة يكون الأمل في قيام الديمقراطية كبيراً. ومن هنا تنتقل السيدة جالبريت إلى دراسة الحركات التعاونية في الصين لترى مدى نجاحها. . . وهي تعتقد أن الصينيين يميلون بطبعهم إلى التعاون والتآزر؛ فقد ظهرت منذ أقدم العصور أنواع شتى من الزمر والهيئات والجمعيات التي تقوم في أساسها على التعاون مثل جماعات العائلات (ويتألف كل منها من مائة عائلة) وغيرها. فالهيئات التعاونية نشأت إذن في الصين منذ أمد بعيد واتخذت صوراً مختلفة وأغراضاً متفاوتة أشد التفاوت. وقد قامت الحكومة الصينية في عام 1935 بإحصاء عام لحركات التعاون فزادت الجمعيات هناك على مائة ألف جمعية تعاونية، ولا تزال الحكومة المركزية تولى حركة التعاون جانباً كبيراً من اهتمامها.

وقد خطت الحركة التعاونية في الصين خطوة جبارة منذ عام 1938، بعد ظهور جمعيات التعاون الصينية للصناعة: وما لاقته من نجاح واسع سريع. وقد انبثقت فكرة هذه التعاونيات في أذهان بعض الصينيين ممن لهم سابق خبرة بالتعاون لأول مرة في أغسطس من عام 1938، إذ أدركوا أنه لا مندوحة لهم - أمام التوغل الياباني - عن إعادة تنظيم موارد الصين واستخدام كل القوى فيها حتى يمكن تعويض ما فقدته البلاد من المراكز الصناعية الرئيسية التي دمرتها الحرب. وبدأت تلك الجماعة من الخبراء عملها بتقسيم

ص: 37

الصين إلى مناطق ثلاث؛ فالمنطقة الأولى أزالوا منها كل وسائل الإنتاج وجميع المصانع حتى لا تقع في أيدي الأعداء، وخصصوا المنطقة الثانية لقيام بعض الصناعات الخفيفة التي يمكن نقلها بسهولة وسرعة إذا حدث ما يستدعي ذلك. أما المنطقة الثالثة - وهي في وسط الصين حيث تكون بعيدة عن متناول الأعداء - فقد تركزت فيها كل الثروة الصناعية لإنتاج ضروريات الحرب. وقد نتج عن ذلك التنظيم الجديد لمواجهة حاجات الحرب وأخطارها أن انضم كثير من المصانع بعضها لبعض واندمجت معاً وبذلك أمكن إيجاد تعاونيات لصنع الملابس الصوفية والزجاج ودبغ الجلود وتكرير السكر والطباعة وغير ذلك. ولما كانت الصين تنقصها الأيدي العاملة وخاصة بسبب الحرب التي تستنفذ معظم العمال المدربين فإن الصناعة الآن تعود على المهاجرين المدنيين وعلى الجنود الجرحى؛ ولا شك أن هؤلاء تنقصهم الخبرة والدربة ولذلك بنيت مدارس تعاونية لتمرينهم على العمل، كما أنشئت لهم وحدات علاجية تعاونية؛ بل وأفضل من ذلك إنشاء مدارس تعاونية لتعليم أطفالهم على نفقة أصحاب المصانع. وهكذا تنتهي الكاتبة إلى أن هذه الحركة التي أظهرتها ضرورة مواجهة أخطار الحرب قد عادت على الصين بخير عميم، وهي ترى أن هذه الحركة سوف تؤدي في نهاية الأمر - إن لم تتدخل الحكومة فيها وإن لم تدب الخلافات ويستبد الطمع مرة أخرى بأصحاب المصانع - إلى نوع من الاشتراكية الصحيحة الصالحة.

ولكن مهما يكن من أمر التقدم الصناعي في الصين ومستقبله، فإن مشكلة الصين الأساسية لا تزال - ولن تزال - تنحصر في الميدان الزراعي. فالصين بلد زراعي قبل كل شيء، وسوف تظل هكذا أبداً، والصينيون أنفسهم يعرفون ذلك، ولذا ظهرت حركة جديدة قوية هي بمثابة رد فعل لانصراف الناس إلى الاشتغال بصناعة الحرب، وهي تدعو إلى العودة إلى الأرض التي تقوم فيها حياة الصين كلها. والحكومة ذاتها لا تألو جهداً في العمل على تحسين حال الزراعة وحال الفلاح؛ وهي تنفق في ذلك عن سخاء حتى في أيام الحرب؛ وترجو أن يعود عليها ذلك بالخير. وقد أنشأت الحكومة مدارس زراعية تجريبية ومحطات للبحث - بلغ عددها الآن خمساً وعشرين مدرسة ومحطة - وكل غرضها هو إقامة التجارب لتحسين إنتاج الأرز والقمح والشعير وحفظها من الأوبئة والآفات. كذلك تعمل

ص: 38

الحكومة - عن طريق الجمعيات التعاونية الزراعية - على تحسين حال الفلاح ورفع مستوى المعيشة في القرى على العموم. ولكن كل تلك الجهود لم تأت حتى الآن بالثمرات المنشودة. . . ولعل ذلك يرجع أولاً وأخيراً إلى طبيعة الفلاح نفسه؛ فالفلاح الصيني - كأي فلاح آخر - محافظ بطبعه على القديم وعلى الوسائل التي اعتادها وورثها عن آبائه، فليس من الأمور السهلة الميسرة إقناع الفلاح بأن ينبذ وسائله العتيقة وأن يأخذ بتلك الوسائل والآلات الحديثة التي تحاول الجمعيات التعاونية ومدارس التدريب نشرها بين الفلاحين؛ وإن كان ذلك لا يمنع من أنه سوف يجيء اليوم - قرب أو بعد الذي تحل فيه تلك الوسائل الحديثة محل الوسائل القديمة لأربعة آلاف عام مضت.

ولكن لا يمكن للصين ولا غيرها من الأمم أن تجني ثمار ما تقوم به من الإصلاحات المختلفة وأن تصل إلى ما تبغيه لنفسها من حياة سعيدة راقية ما دام شعبها يرسف في أغلال الجهل، فكل حركة يراد بها الإصلاح، وكل تحسين يدخله المصلحون على أي مظهر من مظاهر الحياة سوف يكون عبثاً، ولن يتأصل في الدولة ما لم يتعلم الشعب أولاً؛ فمحاربة الجهل والقضاء عليه ونشر التعليم بين الناس هو أول ما ينبغي للدولة أن تأخذ نفسها به إن أرادت لنفسها رقياً. ولقد شعرت الصين بما يتهددها من جراء الجهل الفاشي بين الناس، فاتخذت وسائل كثيرة شتى للقضاء عليه، وقد أفلح بعض تلك الوسائل والبعض الآخر لم يفد شيئاً مذكوراً. ولا شك أن القضاء على الجهل في بلد واسع كثير السكان كالصين يعتبر من أشق المهام؛ ولكن الدولة بذلت مع ذلك الكثير من الجهد والمال لتحقيق تلك الغاية. ومن أشيع الوسائل المتبعة في الصين لذلك تنظيم سلسلة من الدروس القصيرة في المدن تجبر الدولة الناس على الاستماع إليها؛ إلا أن هذه الدروس القصيرة تنتهي سريعاً، وهي وإن كانت تعلم الناس بعض العلم وبعض القراءة إلا أن الكاتبة تشك في أن لها قيمة جدية لأن ما يتعلمه الإنسان سريعاً دون أن يبذل فيه جهداً كبيراً ينساه سريعاً أيضاً. . .

وفي الصين مشروع ضخم الآن يرمي إلى إنشاء مدرسة واحدة لكل جماعة تتألف من مائة عائلة، وذلك في بحر خمس سنوات؛ وسوف تقوم تلك المدارس بتعليم الصغار والكبار على السواء - ما بين الخامسة عشر والخامسة والأربعين - القراءة والكتابة. والأمل أن يفلح

ص: 39

هذا المشروع في القضاء على الجهل تماماً في الصين.

ولكن من ناحية أخرى نجد في غرب الصين حركة فكرية ناهضة تتمشى معها ثورة صناعية يقوم بهما الشباب المتعلم المثقف. وتشبه السيدة المؤلفة هذه الحركة الناشئة بحركة النهضة الأوربية (الرينسانس) وقد كان الدافع الأول عليها هو الحرب اليابانية أيضاً؛ فقد اضطرت الجامعات من جراء الغزو الياباني للصين أن تتقهقر من أماكنها في المدن الكبرى إلى المدن الصغيرة في غرب الصين تاركة وراءها كل آلاتها الفنية ومعامل الأبحاث التي كان الطلبة يتمرنون فيها، ومكتباتها الزاخرة بالكتب، وعلى ذلك كان يتعين على الطلبة أن يعتمدوا في حياتهم العلمية الجديدة على مجهوداتهم الخاصة، وقد أحدث ذلك بلا ريب انقلاباً هائلاً في طرق التعليم الجامعي ومناهجه ومادته أيضاً، وبدلاً من أن يدرس الطلبة تلك المعلومات التي كانوا يقرؤون عنها قي الكتب الأوربية، وبدلاً من أن يقوموا بتجاربهم العلمية في معاملهم المدرسية الصغيرة نزلوا إلى ميدان الحياة والواقع وذهبوا للعمل والدراسة في المصانع والمعامل والحقول، وبذلك أصبحت المناهج أقرب إلى الواقع وترمي إلى أهداف ونتائج واقعية. ولا ريب أن الصين سوف تفيد كثيراً من جراء هذه النزعة الواقعية العملية في التعليم، وسوف يساعدها ذلك إلى حد كبير على حل مشكلاتها.

إن الصين تبذل الآن بغير شك مجهودات جبارة في سبيل الاتجاه نحو مثال جديد ونحو حياة جديدة، ومع أن السيدة جالبريت تعترف بأن الصين قد أفلحت في تحقيق جانب كبير مما رسمته لنفسها إلا أنها مع ذلك تحتاط ولا تبالغ في قيمة الإصلاحات التي تمت بالفعل حتى الآن. وهي ترى أن كثيراً من الوسائل والطرق التي تتبعها الصين وسائل عقيمة وطرق غير مجدية. يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأعمال التي أنجزت بالفعل وقعت في أيدي الأعداء فخربوها، كما أن سكان المقاطعات الصينية التي وقعت تحت سطوة اليابانيين قد تدهوروا ورجعوا إلى حالة من الانحطاط لا تبشر بخير؛ وذلك ذل العبودية التي فرضها المنتصرون عليهم من ناحية، وبتأثير الأفيون والمخدرات الفتاكة التي كان اليابانيون يوزعونها عليهم بسخاء من ناحية أخرى. فقيام الحرب اليابانية ولو أنه كان أهم الدوافع التي دفعت الصين إلى التقدم وإلى التطلع إلى حياة أفضل من حياتهم التي حيوها آلاف السنين إلا أن الحرب كانت هي أيضاً العقبة الكؤود في سبيل استكمال تلك الحياة

ص: 40

والوصول إليها. . . ولقد انتصرت الصين أخيراً على غزاتها، ولكنها وقعت في حرب أهلية لا يعرف بالضبط مدى تأثيرها وإن كان لا شك في أن عاقبتها تكون وخيمة. ثم إن مستقبل الصين ليس في يدها وحدها، فهو لذلك لا يزال متقلقلاً غير ثابت تتقاذفه كثير من التيارات، ولكن الصين في أحلك ساعاتها كانت تتمسك بأهداب الأمل وكانت تؤمن بنفسها وبمستقبلها، ودفعها ذلك الإيمان إلى العمل وإلى الإصلاح وهي مشغولة بالحرب. ولعل ذلك الإيمان الراسخ يساعدها على التغلب على ما تلاقيه في طريقها من صعاب. لقد قال كونفشيوس حكيم الصين (إن شعباً يعيش بلا إيمان لا يمكن أن يعيش).

أحمد أبو زيد

ص: 41

‌تصحيح كتاب (البخلاء)

للدكتور داود الجلبي

قرأت باهتمام في هذه المجلة في أعدادها (667 - 669) المقالة التي عني فيها (أستاذ عظيم) بنقد كتاب البخلاء للجاحظ طبعة وزارة المعارف بمصر. وسبب اهتمامي أني حاولت قبلاً تصحيح الكتاب المذكور المطبوع في دمشق سنة 1357 هـ باعتناء علماء من أبناء الشام، نشرت تصحيحي في مجلة المجمع العلمي العربي بعنوان:(تصحيح أغلاط كتاب البخلاء) في الجزء الأول والثاني المزدوج، وفي أربعة أجزاء مزدوجة أخرى تليه من المجلد العشرين مع تصحيح واستدراك في الجزء الأول والثاني المزدوج من المجلد الحادي والعشرين. فأردت أن أرى هل تنازل الأستاذ العظيم إلى مطالعة تصحيحي، وما الذي جاء في تصحيحي موافقاً لتصحيحه، وما الذي خالفه. وبعد المطالعة ظهر لي أن الأستاذ لم يعلم بوجود تصحيحي، ووجدته عظيماً حقاً في انتقاده وآرائه الصائبة، وعددت نفسي سعيداً لاتفاق التصحيحين في الغالب. ولست في صدد تعداد ما جاء موافقاً، وما جاء مبايناً أتركه لحكم من أراد الاطلاع والتتبع.

ولكن لا بد من ذكر بضع فقرات وردت في كلام الأستاذ العظيم تحتمل النظر فيها، فأقول:

جاء في الرسالة في عددها 669 ص 475 كلمتا (الفرد) و (الجوهري) وقال الأستاذ: إن الفرد أصلها (العرض) والجوهري أصلها (الجوهر). أما أنا فقد كنت صححت الفرد بال (قصرة) سقطت منها الصاد وحرفت وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال. وصححت الجوهري بال (حواري) وهو لب الدقيق الأبيض الخالص. وتصحيحي هذا ينطبق على القصة دون الالتجاء إلى المجاز أو الاستعارة أو التشبيه.

وفي الصفحة عينها استنكر الأستاذ كلمة إنفاق، وأراد تصحيحها بأنفاط جمع نفط، ولكن الكلام كان على الزيت والسمن، أي على الأدهان المأكولة، والنفط ليس منها. أراد الجاحظ بالإنفاق زيت الإنفاق، وهو الزيت المعتصر من الزيتون الفج، ويسمى بالزيت الركابي أيضاً. جاء في التاج في مادة (فوق): الإنفاق وهو الغض من الزيت. وجاء فيه في مستدرك مادة (نفق): وزيت أنفاق: غض. وجاء في مادة (ركب): ويقال زيت ركابي لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل. أهـ. وقال ابن سينا في الجزء الأول من القانون في

ص: 42

مادة (زيتون): وقد يعتصر من الزيتون الفج الزيت، وقد يعتصر من الزيتون المدرك. وزيت الإنفاق هو المعتصر من الفج. أهـ. وقال داود الانطاكي في الجزء الأول من كتابه تذكرة أولى الألباب:(زيت) وهو الدهن المعتصر من الزيتون، فإن أخذ أول ما خضب بالسواد ودق ناعماً وكب على الماء الحار ومرس حتى يخرج فوق الماء فهو المغسول؛ ويسمى زيت أنفاق. وإن عصر بعد نضج الثمرة وطبخ بالنار بعد طحنه وعصره بمعاصير الزيت فهو الزيت العذب. أهـ. وفي بحر الجواهر لمحمد بن يوسف الطبيب الهروي (طبعة الهند على الحجر): والزيت قد يعصر من الزيتون المدرك، وزيت الإنفاق هو المعتصر من الفج، وإنما سمي به لأنه يتخذ للنفقة، ويقال له الركابي أيضاً لأنه كان يحمل على الركاب أي الإبل من الشام إلى العراق، كذا قال بعض الفضلاء. وقال مولانا نفيس: نقل أبو ريحان في الصيدلة عن ماسر جوبه أن كل ثمر يكون غضاً نضيراً يقول له أهل الروم انفاقين، والانفاق مشتق منه. أهـ. أقول إن قول ماسر جويه هو الصحيح، فإن الكلمة معربة من اليونانية، ويريدون به كل ثمر فج، ومنه الحصرم. وجاء في لاروس الكبير أن مشتقة من امفاكس المذكورة وجاء في قاموس ليتره الطبي في مادة قوله:، وترجمته: زيت الإنفاق زيت مر معتصر من الزيتون الذي لا يزال غضاً. أهـ.

أما زيت الماء فالمفهوم أنه المعتصر من الزيتون المدرك، سمي به في مقابلة الركابي، لأنه كان يجلب إلى البصرة بالسفن نهراً.

وأما الأبيات الواردة في ص 476 من الرسالة وهي:

تهنا لثعلبة ابن قيس جفنه

يأوي إليها في الشتاء الجوع

ومذانب لا تستعار وخيمة

سوداء عيب نسيجها لا يرقع

فكأنما فيها المذانب حلقة

ودم الدلاء على دلوج ينزع

فكنت قد صححت (ودم) ب (وذم). ورأى الآن أن الأبيات تحتاج إلى تصحيحات أخرى كي يظهر لها معنى مقبول؛ ففي البيت الأول تستبدل (فينا)(بتهنا) و (خيمة)(بجفنه) وفي الثاني تستبدل (جونة)(بخيمة) و (سخامها)(بنسيجها) و (لا يرفع) ب (لا يرقع)، وفي الثالث (تنزع)(بينزع)، و (ولوج) جمع ولاج وهو الولادي (بدلوج) ذلك أن الإنسان يبرد

ص: 43

في الشتاء فيحتاج إلى كن يقيه البرد وبخاصة إذا كان جائعاً، وهذا الكن في البادية هو الخيمة لا الجفنة. وقال الافوه الأودي هذه الأبيات مفاخراً. ولكن كيف يفخر الإنسان بخيمة سوداء لا ترقع خروقها. الصحيح أنها جونة. وأراد بالجونة القدر السوداء الظاهر، لأنهم يفخرون بها لكونها دليلاً على كثرة الطبخ بها. قال أحدهم يفخر بسواد قدره في جملة أبيات:

بقدر كأن الليل سحمة قدرها

ترى الفيل فيها طامياً لم يقطع

أراد بالفيل الجمل الضخم. وبعد هذه التصحيحات تكون الأبيات هكذا:

فينا لثعلبة ابن قيس خيمة

يأوي إليها في الشتاء الجوع

ومذانب لا تستعار وجونة

سوداء عيب سخامها لا يرفع

وكأنما فيها المذانب حلقة

وذم الدلاء على ولوج تنزع

عبر عن سخام القدر بالعيب، وهذا مدح في معرض الذم، كقول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وأما تصحيح الأستاذ العظيم كلمة العود بالفتح بالعود بالضم في البيت: المشرف العود فأكتافه. . . الخ، وقوله وهو كناية عن ارتفاع قامته مادياً أو ارتفاع هامته معنوياً، فلا أدري قامة من، وهامة من قصد، في حين أن لا ذكر لرجل هناك. يجب تصحيح البيت هكذا: للشرف عوض المشرف، واللام الأولى في للشرف مفتوحة وهي للتأكيد؛ والفرد عوض العود؛ وجمران عوض حمران، (كما في طبعة دمشق) فالشرف هو الجبل، والفرد وجمران وينصوب (جمعه يناصيب) أسماء جبال في البادية ذكرها ياقوت في معجم البلدان. والشاعر يقول في امرأة بدوية أنه إذا وجدت منعاً وضيفاً من زيد بن أيوب (ولعله كان حضرياً) يكون خيراً لها أن تعود إلى منازلها التي ألفها عند الجبال المذكورة. . .

ولقد أصاب الأستاذ بتصحيحه كلمة (كسجر) ب (كسحر) في البيت، ونار كسجر العود. . . الخ كما أتى بآراء صائبة يشكر عليها في مقالته.

(الموصل)

الدكتور داود الجلبي

ص: 44

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

746 -

والمقصود حتفي

أنا ما بين عدوي

نهما قلبي وطرفي

ينظر الطرف، ويه

وى القلب والمقصود حتفي

747 -

عمك أبو سماك الأسدي

في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء):

قال جد كناسة: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني فكحلتني ثم قالت: اضطجع قليلاً حتى يدور الدواء في عينيك، فاضطجعت ثم تمثلت بقول الشاعر

امخترمي ريب المنون ولم أزر

طبيب بني أود على النأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟

قلت: لا

قالت: فيّ (والله) قيل. وأنا زينب التي عناها وأنا طبيبة بني أود أفتدري من الشاعر

قلت: لا

قالت: عمك أبو سماك الأسدي

748 -

والدهر لجة ماء

قال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر:

الناس مثل حباب

والدهر لجة ماء

فعالم في طفو

وعالم في انطفاء

749 -

فشق أثوابه من الطرب

قال ابن دحية في المطرب: اجتاز الوزير أبو بلال يوماً وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر وهو ينظر من بعض مناظره ومجلسه بخواص ندمائه حال، وصوت المثاني والمثالث عال. فقال: أطلعوا لنا هذا الفقيه؛ فلما مثل بين يديه أمر بمناولته الكأس فتقبض متأففاً والسلطان يستغرب ضحكاً بما هجم عليه، ويد الساقي ممدودة إليه.

ص: 46

واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة فظهر من السلطان التطير من ذلك فأنشد الفقيه مرتجلاً:

ومجلس بالسرور مشتمل

لم يخل فيه الزجاج من أدب

سرى بأعطافه ير نحه

فشق أثوابه من الطرب

فسر السلطان وسرى عنه، واستحسن من الفقيه ما بدا منه وأمر له بجائزة سنية.

750 -

علم أو أدب أو فائدة

نقش مأمون بن آدم على باب داره هذين البيتين:

إن كنت صاحب علم أو أخا أدب

أوفيك فائدة فانزل ولا ترم

وإن تكن صورة لا فيك فائدة

ولا مؤانسة فارحل ولا تقم

751 -

ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس

في صبح الأعشى: اعلم أن اللحن قد فشا في الناس والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً، والنطق بالكلام الفصيح عيا والذي يقتضيه حال الزمان والجري على منهاج الناس أن يحافظ على الإعراب في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وفي الشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها؛ ويغتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم مما يتداولونه بينهم، ويتحاورون به في مخاطبتهم، وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام منذ فسدت الألسنة.

752 -

فوجده كما قال

قال أبو السحن المدائني: أصبح عبد الملك يوماً في غداة باردة فتمثل قول الأخطل:

إذا اصطبح الفتى عنها ثلاثاً

بغير الماء حاول أن يطولا

مشى قرشية لا شك فيها

وأرخى من مآزره الفضولا

ثم قال كأني أنظر إليه الساعة محلل الإزار مستقبل الشمس في حانوت من حوانيت دمشق ثم بعث رجلاً يطلبه فوجده كما قال.

753 -

يا سدرة الوادي

قال أبو السعادات بن الشجري:

هذى السديرة والغدير الطافح

فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح

ص: 47

يا سدرة الوادي الذي إن ضله الس

اري هداه نشره المتفاوح

هل عائد قبل الممات لمغرم

عيش تقضي في ظلالك صالح

ولقد مررنا بالعقيق وشاقنا

فيه مراتع للمها ومسارح

ظلنا به نبكي فكم من مضمر

وجدا أذاع هواه دمع سافح

يا صاحبي تأملا حييتما

وسقى دياركما الملث الرائح

أدمى بدت لعيوننا أم ربرب

أم خُرَّد، أكفالهن رواجح

كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى

ومن الشقاوة أن يراض القارح

754 -

قل في إهلاكه

قال رجل: كنا في أملاك فلان.

فقال حكيم: لا تقل في أملاكه، قل في إهلاكه.

755 -

غنيمة

إذا كان الزمان زمان سوء

فيوم صالح منه غنيمة

756 -

عمود الجمال ورداؤه وبرنسه

قالت امرأة لخالد بن صفوان: إنك لجميل يا أبا صفوان.

قال: وكيف تقولين هذا وما فيّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه.

فقيل له ما عمود الجمال؟

قال: الطول ولست بطويل، ورداؤه البياض ولست بأبيض، وبرنسه سواد الشعر وأنا أشمط، ولكن قولي إنك لمليح ظريف.

757 -

وويل جيراننا كلهم

ذكر الخرائطي عن بعض العلويين قال:

بينما أنا عند الحسن بن هانئ وهو ينشد:

ويلي على سود العيون

النهد الضمر البطون

الناطقات عن الضمير

لنا بألسنة العيون

فوقف عليه إعرابي ومعه ابن فقال: أعد علي فأعاد عليه. فقال: يا ابن أخي ويلك أنت

ص: 48

وحدك من هذا؟ ويلي أنا وأنت وويل ابني هذا، وويل هذه الجماعة، وويل جيراننا كلهم!

758 -

كيف كنت وكيف كانا

نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب، وهو مخمور فقال له:

عيناك قد حكتا مبي

تك كيف كنت وكيف كانا

ولرب عين قد أرتك مبي

ت صاحبها عيانا

759 -

هذه بضاعتنا ردت إلينا

قال ابن حجة: كان قاضي علاء الدين بن أبي البقاء قد عزل من وظيفة قضاء بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته وألبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع الأموي على العادة (ومعه أخوه بدر الدين قاضي القضاة بالديار المصرية)، فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرئ وقرأ:(قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا) الخ الآية فحصل بالجامع الأموي ترنم صفق له النسر بجناحيه.

760 -

الكون الباكي

في (لوعة الشاكي)

كل من في الوجود يشكو فراقاً

من حبيب أو لوعة من غرام

فصليل الرعود أنة حزن

وانسكاب الغيوث دمع الغمام

تتعرى الغصون من حلل الزه

ر فتبكي عليه ورُق الحمام

وعيون الغوار خوف المنايا

في رباها لم تكتحل بمنام

وإذا مال للغرور قضيب

ضحك الزهر منه في الأكمام

ص: 49

‌من وحي المرأة

وسواس. . .!

للأستاذ عبد الرحمن صدقي

يعاودني الوسواسُ، يا طولَ وسواسي

إذا جَدَّ ذِكرٌ للدواءِ وللآسي

يساورني الوسواسُ أني مقصِّرٌ

ولولاه لم تُمْسي رهينةَ أرماس

عذابيَ نَطْسٌ في الأُساة جهلتُه

كأنّ الأُولَى آسوكِ ليسوا بأنطاس

وثَمَّ دواءٌ مُحْدَثٌ كنتُ أرتجي

عجائَبه لو أمهل الزمنُ القاسي

أُجرِّد من نفسي لنفسي مُخاصماً

وحبُّكِ في النفسَيْن كالجبل الراسي

فيا هول حربٍ كالجبال صِدامُها

تَداعَى لها ركني، وشباب لها راسي

وما ذاك إلا أن حبَّكِ فوق ما

بذلتُ وما اسْتقضيتُهُ سائرَ الناس

ولو أنه صحَّتْ لعُمْرِك وُصْلةٌ

وَصَلْتُكِ مِن عمري وُجدْتُ بأنفاسي

محنة مضاعفة:. .!

ربي! أراني شقيّاً

مشرَّداً في فضاكْ

أكاد من فرط يأسي

أشكو إليك قضاك

يُطيف بالنفس شكٌ

كالنارِ نارِ غَضاك

عدْمتُ بالأمس زوجي

فلا عدمتُ رضاك

عبد الرحمن صدقي

زهر الربيع. . .!

للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي

يا طيورَ الرَّوض غنينا النشيدا

وانثري فوق الرُّبى زهر الربيع

واهتفيِ باللحن ريان جديداً

واسبحي في ذلك الأفق الوسيع

أيقظي الفجرَ نديّاً باسماً

يتهادى من وراء الأفق

يرسل النور عليه حالماً

ويحييه بصبح ألِق

ص: 50

رددي في الروضِ ألحانَ الصباح

وانهَلي الألحان من زهر الربيع

واسكبيها بين أنفاس الأقاحي

قبلةً تمسح أنداء الدموع

داعب الظلُّ شعاعَ الجدولِ

وعلى شطَّيْه قام السامرُ

ها هنا دنيا الهوى والغزل

صفَّق الموج، وهام الشاعر

إيه يا (زهر الربيع) الباكر

يا متاع القلب، يا أنس الأماني

جدِّدِ العمرَ لهذا الطائرِ

يملأ الروضَ بأصداء الأغاني

كانت اللُّقيا حناناً وحنيناً

وطبيباً بين دائي ودوائي

يشهد الرِّعشة والداء الدفينا

يا طبيبي، أتُرى آن شفائي؟

ها هنا الدَّاءُ وفي (زهر الربيع)

لي آسٍ من جراحي ونُدُوبي

ما له يَنْسى أنيني ودُموعي

ويُولِّي هارباً غير مجيْب

عَلَّهُ آتٍ، فحسْبي ألمُ

صحَّ في لُقياه عِندي أملُ

طابَ يا (زهر الربيع) الحلم

وعلى خديك تحلو القُبَل

فاسقنيها في ربيع الزمن

خمرة من رِّيها العذبِ أُوامي

علَّني أنسَى شتاء المحَن

وتندِّي الفرحة الكبرى هُيامي

أحمد عبد المجيد الغزالي

ص: 51

‌البريد الأدبي

الرسالة وإصلاح الأزهر:

علمنا من لدن عليم مسئول أن اقتراح (الرسالة) لحل مشكلة الأزهر قد وقع من الجهات الرسمية موقع التقدير والنظر. والنية معقودة على أن يسير الإصلاح الجديد في طريق هذا المقترح حتى تتبوأ الجامعة الأزهرية مكانتها بين الجامعات الحديثة فتؤدي رسالتها الدينية والأدبية على النحو الذي يقتضيه تطور العالم وتقدم العلم.

كفل المال وبالمال

في الجزء الأخير من (مجلة المجمع العلمي العربي الغراء) مقالة عنوانها: (التنبيه والتوجيه) خطأ فيها الأديب اللغوي الفاضل الدكتور مصطفى جواد عبارة كانت قد وردت في مجلة المجمع وهي (ولنا ما يكفل إعادة النظر) قال:

(ويكفل من الكفالة يتعدى بالباء لا بنفسه. وفي أساس البلاغة (وهو كفيل بنفسه وبماله؛ وكفل عنه لغريمه بالمال وتكفل به) فالصواب ما يكفل بإعادة النظر، أما للإنسان فيقال يكفله).

كلام الأساس على العين والرأس، وكتاب جار الله هو في الحقيقة في المجاز، وهو مصنف عبقري منقطع القرين قد حدت على وضعه ووضع الكشاف عقيدة الرجل تؤيدها العربية - وللعقائد فوائد - فالكتابان من حسنات خصومنا المعتزلة، ولكن الإمام الزمخشري لم يقل إنه أودع أساسه كل لفظة وتركيب. ورأينا الضعيف فيه أن جميع ما يحتويه هو حجة، بيد أنه لا يستضعف أو يغلط ما خلا منه، ورواه غيره من أئمة اللغة.

في (لسان العرب): (كفل المال بالمال ضمنه) وكلام اللسان - كم يلوح صحيح.

السهمي

الأعرابي وفن العروض:

في العدد الأخير من (الرسالة) روي الأستاذ الكبير النشاشيبي عن محاضرات الراغب ثلاثة أبيات منسوبة إلى أعرابي في فن العروض. ولكن الزبيدي في طبقاته قال ما خلاصته:

ص: 52

إن أبا مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان كان قد نظر في النحو فأعجبه، بيد أنه لم يحسن التصريف فأنكره. وقد جلس معاذ الهراء يوماً يتكلم في الصرف، فسمع منه أبو مسلم كلاماً لم يعرفه، فقام عن أصحاب النحو وقال:

قد كان أخذهم في النحو يعجبني

حتى تعاطوا كلام الزنج والروم

لما سمعت كلاماً لست أفهمه

كأنه زجل الغربان والبوم

تركت نحوهم والله يعصمني

من التقحم في تلك الجراثيم!

والرواية تختلف عما في المحاضرات قليلاً. وقد أجاب أبا مسلم معاذ بقوله:

عالجتَها أمرد حتى إذا

شبت ولم تحسن أبا جادها

سميتَ من يعرفها جاهلاً

يصدرها من بعد إيرادها

سهل منها كل مستصعب

طود علا القرن من أطوادها

وبعد، فما رأى الأستاذ الكبير، أي العلمين أجدر بهذه الأبيات: الصرف أم العروض؟!

(كلية اللغة العربية)

أحمد إبراهيم الغرباوي

الأدب والمجتمع:

عرض الأستاذ الفاضل الكرداني في مقالة (الأدب والمجتمع) لموضوع الفن لذات الفن، والفن لخدمة المجتمع الذي كان نقطة نقاش بين الأستاذين أحمد بك أمين وتوفيق الحكيم على صفحات (الرسالة) منذ زمن.

ولكن نظرته كانت جديدة حينما ربط بين الأدب وبين النزعة الاشتراكية التي وجهت أكثر الكتاب إلى الوجهة الاجتماعية وصرفتهم عن الفن لذاته. وبذلك يكون الأستاذ الفاضل قد أضاف إلى موضوع الفن الرفيع شيئاً جديداً يشكر له، ولفت الأنظار إلى السبب الرئيسي أو المباشر الذي حول الكتاب إلى الناحية الاجتماعية.

ثم يقول في كلامه عن الإنتاج الأدبي وعلاقته بالأفراد: (أليس المجتمع سوى مجموعة أفراد؟) ولكني أقول له: إن علم الاجتماع ينظر إلى المجتمع على أنه وحدة لا تنقسم، وجميع عناصره أو أعضائه لا يمكن أن توصف أو تفسر تفسيراً علمياً إلا إذا نظر إليها

ص: 53

ككل واحد لا ينقسم. وعلى ذلك فليس من الضروري إذا تناول الأديب وقائع خاصة أو أحداثاً شخصية فردية أن يكون ممثلاً للجماعة، بل إنه لم يزد في هذه الحال على أن يكون ممثلاً لنفسه ولنفسه فقط.

على أني أسلك في تفسير الأدب الرفيع مسلكاً آخر غير الذي سلكه الأستاذ فأقول: إن الأدب، سواء وصف أحداث المجتمع أو تناول أهواء الفرد، هو أدب له قيمته. ولا يغض من شأنه، أو ينقص من قيمته، إلا عجزه عن التصوير الدقيق والتأثير البليغ.

ويقول الأستاذ في آخر المقال تقريباً: (لا نعرف الفنان إلا خيراً، ولا نعرف الفن إلا خيراً صرفاً كله). وأكرر ما قلته أولاً أن الأدب لا يكون غثاً إلا إذا جاء تصويره فاتراً، وتأثيره على النفس واهناً. والشر في الأدب لا يقلل من قيمته، بل قد يكون من دواعي رفعته. ونضرب مثلاً على ذلك أبا نواس في الأدب العربي، وبودلير في الأدب الغربي؛ فهذا صور في شعره شهواته الجارفة وخمره وغزله بالمذكر، وذلك أتى من ضروب تصوير اللذة البهيمية ما رفعه إلى الذروة في الفن. وكلاهما لم يخرج عن الشر في صوره الأدبية في الغالب.

جبريل خزام

قبور بعض آل البيت:

كتب الأستاذ أحمد أبو زيد مقالاً قيماً عنوانه (الموالد المصرية) في العدد 632 من (الرسالة) الغراء جاء فيه:

(وتعتبر القاهرة أسعد مدن مصر، بل أسعد مدن العالم الإسلامي أجمع نظراً لكثرة ما تضمه من رفات الأشراف والأولياء من نسل النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. فالقاهرة في ذلك لا يضارعها حتى مكة نفسها، ففيها رأس الحسين، ورأس ابنه زين العابدين، ورفات فاطمة، وسكينة ابنتي الحسين أيضاً الخ)

وهذا القول مخالف للواقع، لأن الإمام زين العابدين قضى في المدينة سنة أربع وتسعين أو خمسة وتسعين أو تسع وتسعين على مختلف الروايات، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن

ص: 54

قال السيد محسن الأمين في كتابه (المجالس السنية):

(يقال إنه مات مسموماً، سمه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقال الكفعمي: سمه هشام بن عبد الملك في ملك أخيه الوليد، فلما توفي غسله ولده الإمام محمد الباقر، وأعانته على غسله أم ولد له، وحنطه وكفنه وصلى عليه ودفنه. قال سعيد بن المسيب: وشهد جنازته البر والفاجر، وأثنى عليه الصالح والطالح وانهال الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ودفن في البقيع بالمدينة الخ ج5 ص271)

أما سكينة بنت الحسين، فإنها توفيت بالمدينة ودفنت فيها عام سبعة عشر ومائة، وقد جزم بهذا القول أكثر المؤرخين كابن خلكان في وفيات الأعيان، وأبي الفرج الأصبهاني في الأغاني، والمازندراني في كتاب (معالي السبطين) وندر من قال إنها دفنت في مصر. وقد جاء في كتاب (السيدة سكينة) لمؤلفه الأستاذ عبد الرزاق الموسوي ما يؤيد هذا القول:

(ولادتها بالمدينة ووفاتها فيها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الأول سنة سبع عشرة ومائة، وقيل توفيت بمكة في طريق العمرة، كما قيل رجعت إلى الشام وقبرها هنالك. وينص الشعراني في لواقح الأنوار أنها توفيت بمراغة من أرض مصر، وقبرها بالقرب من السيدة نفيسة، حيث أن أكثر المؤرخين نصوا على أنها بالمدينة، فهو بالصحة أجدر. ص6)

فاضل خلف التيلجي

تغريدات الصباح:

(ديوان شعر للأستاذ الأسمر)

هذا الديوان يمثل المدرسة الأدبية المحافظة تمثيلاً قوياً، إذ لا تروعك معانيه وأخيلته بقدر ما تأخذ بمجامع قلبك رصانة أسلوبه، وروعة بيانه. وهذا لا يطامن من قدر الشاعر، ولا يتنقص من جلاله؛ لأن الأستاذ الأسمر قد وفي لبيئته واستجاب لطبعه، فهو ربيب البيئة الأزهرية، ترى أثرها في متانة أسلوبه، وإشراق ديباجته، ومجافاته التحليق في أجواء ينفر منها الخلق، ويألم منها الضمير. أما معانيه فليست من الطراز الذي يتملك القلوب، ويستحوذ على الشاعر، ولكنها من النوع الذي نعجب به العجب الذي نملك معه الزمام، إلا

ص: 55

أن فنه الأدائي - كما قلنا - يبلغ مبلغ الجلال والجمال والروعة في كثير من المواطن.

محمد عبد الحليم أبو زيد

مكتبة الطفل:

الأستاذ كامل كيلاني، صاحب فكرة، أقسم بالله جهد أيمانه ليوفين فيها على الغاية مهما أدمت يديه ورجليه أشواك الزمان، وليس هذا فرضاً أفترضه، أو كلاماً ألقيه على عواهنه. فأديبنا ما زال يدأب على خدمة هذه الفكرة، متجاهلاً كل العقبات ما زال والمتاعب، فكرة إنشاء مكتبة الطفل في الأدب العربي - الذي خلا منها في جميع العهود - ابتدعها الأستاذ كامل كيلاني بقلمه الذي يشبه (البطاريات) الكاشفة عن مواقع الأهداف في غلس الظلام؛ فأدبنا العربي تجاهل الطفل، والفتى اليافع، بل والشاب الناشئ، ولم يفتح عينيه إلا على الرجل الناضج، ومن يستطيع أن يقفز إلى أعلى السلم متخطياً درجاته الأولى دفعة واحدة؟!

ها هي ذي الدرجات الأولى في سلم الأدب العربي يضعها الأستاذ كامل كيلاني ببراعة المهندس، وحكمة البناء، وذوق الفنان الذي، يتحدث عن عمله فيقول:(أخذت في إظهار مكتبة الأطفال التي أمضيت في تأليف أجزائها عدة أعوام، وجعلت منها مجموعات يقرؤها الطفل على مراحل مرسومة، كل مرحلة تناسب سناً معلومة، دفعاً للحرج، وتمشياً مع سنة الترقي من درج إلى درج؛ فهو يقطع هذه المراحل في المطالعة والدرس، مستريح البال، مطمئن النفس، لوضوح مقاصدها، وسهولة مآخذها ومواردها، لا يجد فيما يطالع منها إلا ما يناسب مزاجه ويوائمه، ولا يصادف فيما يقرأ إلا ما يوافي طبعه ويلائمه)

وكان من أثر هذا المجهود الفذ أن ظفر صاحبه بثناء الأمراء المثقفين، والوزراء المتأدبين، وحملة الأقلام في الشرق، اعترافاً منهم بتبريزه وفذاذته؛ فها هو ذا الأمير سيف الإسلام عبد الله ولي عهد اليمن يوجه إليه خطاباً كريماً يفيض بالتقدير ويختمه بقوله:(وسنقتني منها ومن مكتبة الكيلاني للأطفال - كمية يستفيد بها الأولاد في اليمن)

وها هو ذا سعادة الأستاذ نجيب الهلالي باشا يوجه إليه رسالة من نيانه الرائع فيقول: (ضالة الجبل، ومنطق العرب الأصيل رجال في مرح الأطفال، وأطفال في هدى الرحال، جد في لعب، وجوهر من الصدق في عرض من الكذب. . .) ثم يقول سعادته: (وإن طفلاً

ص: 56

تتعهده هذه الكتب، وينشئه هذا الأدب لهو خليق أن يمضي في البلاغة قدماً، حتى يطلع في سمائها نجماً ولقد جئت في ذلك بدلائل الإعجاز، وسموت فيما دبجته يراعتك من إطناب وإيجاز).

بين يدي الآن مجموعة من مكتبة كيلاني للأطفال فهذه قصة: (أصدقاء الربيع) وقصة: (زهرة البرسيم) وقصة: (في الإسطبل) وقصة: (جبارة الغابة) وقصة: (أسرة السناجيب) وكلها قصص علمية للأطفال قصص تقوم على أساس علمي من حيوات الحيوان والنبات، فهذه ظاهرة علمية من حياة حيوان أو عمر نبات، ولكنك تترشفها من بيان كيلاني أفكوهة أو موقفاً مسرحياً يبتز منك الإعجاب والاهتزاز. ولأديبنا كيلاني قدرة عجيبة على مزج الحقائق بالأساطير مما يجعل لنفسك متنفساً حينما تنتقل من فئ إلى فئ، ومن ضوء إلى ضوء. وليس هذا عجباً ممن مارس الطبائع في شتى الصور حينما تصدى للكشف عنها في قصص ممتع شهي كهذا الذي بأيدينا الآن.

ورجاؤنا أن يتناول أديبنا الكبير في قصصه الآتية - إن شاء الله - ناحية التاريخ الإسلامي بما هو أهل من العناية، ويظهر ما فيها من كنوز؛ فإن العالم الإسلامي الذي يقرأ ويتعلم اللغة العربية من كتب الكيلاني مشوق إلى هذا النوع من القصص بأسلوب الكامل.

وهبي إسماعيل حقي

عضو البعثة الألبانية بالأزهر

ص: 57