المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 675 - بتاريخ: 10 - 06 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٧٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 675

- بتاريخ: 10 - 06 - 1946

ص: -1

‌مصادفات في الطريق

للأستاذ عباس محمود العقاد

نعم هي مصادفات في الطريق

ولكنه طريق التاريخ لا طريق المدنية، أو طريق الزمان دون طريق المكان، وقد يحدث في هذه الطريق ما يحدث في كل طريق من المصادفات والمناقضات، فيعيش الناس في حي واحد ولا يلتقون، ويلتقون وهم يعيشون في أحياء لا يجمعها مكان. أيذكر القارئ كيف يتفق له أن يقضي السنين ولا يلقى في خلالها وجهاً من الوجوه التي تعود النظر إليها، ثم تعرض له فترة من الزمن فإذا هو يستقبل ذلك الوجه أمامه حيث سار على غير موعد وعلى غير انتظار؟

ذلك ما حدث لي في طريق التاريخ مع (عمر الخيام) خلال الأيام الماضيات، فما فتحت كتاباً إلا أطل منه (الخيام) بصفحة من صفحات وجهه أو جانب من جوانب نفسه، على تعدد الموضوعات وتباعد المناسبات. إذ كان من تلك الكتب ما أفتحه للمراجعة العاجلة في مسألة من مسائل التصوف أو مسائل السياسة أو مسائل الفلسفة أو مسائل الأدب وما إليه. وكنت مشغولاً بالشيخ الرئيس ابن سينا فما تعمدت لقاء الشيخ مرة إلا خراج لي الخيام في بعض الطريق كأنهم يقيمون من عالم الأرواح في عالم واحد أو كأنهم يحضرون معاً بدعوة واحدة على خلاف الآداب العصرية في استجابة الدعوات.

تحدث العروضي السمرقندي في (مقالاته الأربع) عن الفيلسوف ابن سينا وعن الفلكي عمر الخيام، فروى عن كليهما الأعاجيب، وكلاهما قد عاش زمناً في إقليم واحد وإن تلاحقا بالزمان. . .

وراجعت بعض الأقوال في تناسخ الأرواح فرأيت أناساً ممن يدينون بهذا المذهب العجيب يعممون التناسخ ولا يقصرونه على الحيوان والإنسان، فانتقال الروح من رجل إلى امرأة أو من رجل إلى رجل نسخ، وانتقالها من إنسان إلى حيوان مسخ، وانتقالها من إنسان إلى نبات فسخ، وانتقالها من إنسان إلى جماد رسخ. . . وما من انتقال منها كما رأيت إلا وهو على قافية الخاء، دون غيرها من حروف ألف باء، وهو حرف لا يوجد في معظم اللغات الأوربية ولغات الأمم على الإجمال. فكيف تسعفهم القافية يا ترى في تلك الأمم إذا احتاجوا

ص: 1

إلى التقسيم والترتيب في أطوار هذا الانتقال العجيب؟ وما بال أصحاب التناسخ يا ترى قد فكروا في انتقال روح الإنسان ولم يفكروا في انتقال الروح من الجماد إلى النبات أو من النبات إلى الحيوان؟

إنهم لم يفكروا في ذلك ولكن فكر فيه على نحو غير هذا النحو جماعة من شعراء (التطور) القديم ومنهم جلال الدين الرومي الشاعر الفارسي المشهور. فعنده كما يقول: (إن الإنسان في بداية أمره قد ظهر في عالم الجماد، ثم ترقى من هذا العالم إلى عالم النبات، ثم عاش هنالك شجرة من الشجر أو عشبه من العشب لا يذكر شيئاً مما كان فيه من تلك الحال المختلفة بين المعادن والحجارة الصماء، وصعد من طبقة النبات إلى طبقة الحيوان فلم يبق في ذاكرته أثر للطبقة التي كان فيها إلا ذلك الشوق الذي يميل به إلى الأوراق والأشجار ولا سيما في إبان الربيع وازدهار الرياض، كأنه الطفل الذي يهتدي إلى صدر أمه من حيث لا يدري سر هذه الهداية. . . وشاء الله بعد ذلك أن يرفعه من زمرة الحيوان الأعجم إلى صورة الإنسان حتى بلغ ما نعلمه من القوة والعقل والمعرفة، وما به من ذكر في هذه الحال لعيشته الأولى، وإنه ليترك في مصيره الأبدي، هذه العيشة التي هو فيها. . .)

فهذا انتقال من الرسخ إلى الفسخ إلى المسخ إلى النسخ على انعكاس في ترتيب التناسخ الذي يقول به التناسخيون ولا يقول به الصوفية المتطورون!. . .

والعجيب أن صاحبنا الخيام قد سلك بين هذه الزمرة وهذه الزمرة بشهادة أناس من الزمرتين، فقيل فيه إنه من المؤمنين بالتناسخ كما قيل فيه إنه من المؤمنين بارتقاء الأرواح في معراج الكمال إلى قدس الأقداس

زعموا أن الحكيم كان يتمشى مع مريديه عند مدرسة الحكمة والعلوم بمدينة نيسابور، وكانوا يرمون بعض جدرانها وينقلون إليها اللبن والحجارة على ظهور الحمير. فأبى حمار منها أن يدخل دار المدرسة أي إباء، وحاروا في دفعه إلى الدار وهو مصر على الوقوف دون ذلك أشد الإصرار، فلما رأى الحكيم ذلك منه تبسم ومال على أذنه يهمس بأبيات يقول فيها: أي هذا الذي ضل وعاد اليوم إلى مكانه وهو أضل سبيلاً!. . . إن أظافرك قد تجمعت فصارت حافراً، ولحيتك قد استدارت إلى موضع الذنب، فانتقلت من الأمام إلى الوراء. . .)

ص: 2

قالوا: فما سمع الحمار هذه الأبيات حتى عدل عن إبائه وأسلس قياده ودخل إلى الدار. وسأل التلاميذ أستاذهم عن سر ذلك الأباء وسر هذه الطاعة فقال: إن الحمار كان أستاذاً بهذه المدرسة فأبى أن يدخلها وهو دابة تحمل اللبن والحجارة وقد كان يدخلها وهو أستاذ يحمل الأسفار. . . فلما عرف أننا عرفناه كان له بعض الأنس بهذه المعرفة فأطاع

والحمير والله مساكين مظاليم

إنما الحمير حقاً أولئك الذين تناولوا هذه القصة فشكوا فيها تارة وأثبتوها تارة أخرى ليتهموا الرجل بمذهب تناسخ الأرواح. وتحضرني هنا قصة الصحيفة الإنجليزية التي أعلنت عن معرض للحمير يقام في حديقة هايد بارك بعد أيام، وكان موعد المعرض المزعوم موافقاً لليوم الأول من شهر إبريل، ولم يفطن له قراء الخبر إلا ساعة أصبحوا في الحديقة ولم يروا هنالك حميراً. . . فعلموا أنهم هم الحمير!

وما نخال الخيام إلا قد غلبه عفريت السخر في تلك اللحظة فسخر بنفسه وسخر بمريديه، وقال لهم إنهم كلهم يدخلون الدار ويحملون الأسفار!!

وشاءت المصادفات أن يصل البريد الأمريكي في هذه الآونة وفيه طوفان من كتب الجيب التي طبعت قبل ذلك في مختلف الأحجام بمختلف الأثمان

ومنها رباعيات الخيام

وهي على صغر الطبعة قد جمعت الصيغ المتعددة التي نقحها مترجم الرباعيات وأعاد تنقيحها في كل طبعة جديدة من طبعاتها الكثيرة. . .

ولا جرم يحتفل الأمريكيون بالرباعيات وهم يعيشون اليوم على مذهب الخيام، ويخرجون لميادين الحرب قائداً يسمى (عمر) تيمناً بسيرة الشاعر الفيلسوف!

فقلت: الخيام. الخيام. الخيام.

أفي كل مكان يسنح لنا طيف الخيام في هذه الأيام؟ وفتحت الصفحة على رباعية يقول فيها: (إن الكرم قد أنبتت عرقاً يلتف به كل كياني. . . فدع الصوفي يسخر ما يشاء، فإنني أسبك من معدني الخسيس مفتاحاً يفتح الباب الذي يطرقه ولا يجاب.)

وقلبت صفحة أخرى فرأيته يقول: (هذه الكرمة التي أنبتها الله، من ذا الذي يعاف عصيرها؟ وهذه العناقيد إن كانت شبكة من الشباك فمن ذا الذي وضعها هناك؟)

ص: 3

وفي صفحة أخرى يقول: (إلى الكون دخلت كالماء الدافق ولا أدري لماذا. ومن الكون خرجت كالهواء الخافق، فهل أدري لماذا؟. . .)

ومهما تقلب من صفحة في الرباعيات فما تخليك هنا أو هناك من بعض هذا المعنى أو بعض ذاك

قلت والله لقد ظلموك يا صاح بالتصوف كما ظلموك بتناسخ الأرواح. وصدق مترجمك فتزجرالد وهو أدرى بترجمة نفسك وشعرك من أولئك الرواة والمؤرخين. فما كانت خمرتك بالخمرة الإلهية، وما كانت عبارتك بالإشارات الخفية، ولكنك كما قال المترجم الأمين كنت تنظم الشعر في ماء العناقيد، وكان نظمك في معناه أكثر من شرابك إياه. . . وذلك فصل المقال فيما بين قولك وعملك من الاتصال

وأعجب العجب أنني فتحت مجموعة من الرسائل الفلسفية لابن سينا وغيره فظهر لي الخيام بين دفتي تلك الرسائل يسألونه عن سر الوجود كله وهو حائر في سر وجوده لا يعلم لماذا أقبل كالماء وانصرف كالهواء

سأله القاضي الإمام أبو نصر النسوي تلميذ ابن سينا (عن حكمة الخالق في خلق العالم خصوصاً الإنسان وتكليف الناس بالعبادات.)

فحاول الشيخ أن يروغ كعادته ولم يجد مهرب أمان، ولا عذراً مقبولاً للزوغان. وكيف يجهل ما يسألونه عنه وهو عندهم وعند أبناء زمنه جميعاً حجة الحق، فيلسوف العالم، نصرة الدين، سيد حكماء المشرق والمغرب، نادرة الزمان؟. . .

على أن الرجل قد أجاب بما ليس يعدوه جواب، فرجع إلى سبب الأسباب وهو واجب الوجود: ما من سبب إلا وله سبب إلا واجب الوجود فلا سبب لوجوده ولا لصفاته. . . وإلا لزم التسلسل بالأسباب إلى غير انتهاء، وهو في عقل الإنسان مستحيل. . .

والوجود فيض الجود الإلهي. فلماذا جاد بالوجود على المخلوقات. . .؟

الجواب أنه جاد لأنه جواد، ولا تعليل لصفاته كما لا تعليل لذاته. لأن التعليل يرجع بنا إلى سبب وراء واجب الوجود، ولا سبب هناك

ثم قال: (فإن قال قائل لم خلق المتضادات المتمانعة في الوجود؟ فيكون الجواب عنه أن الإمساك عن الخير الكثير من جهة لزوم شر قليل هو شر كثير، والحكمة الكلية الحقة

ص: 4

والجود الكلي الحق أعطيا جميع الموجودات كمالها الذاتي لها من غير أن يبخس حظ واحد منها. إلا أنها بحسب القرب والبعد متفاوتة في الشرف. . . لا لبخل من جهة الحق عز وجل، بل لاقتضاء الحكمة السرمدية ذلك)

أجل هكذا يقول الخيام

ولو سمعه قراؤه المفتونون برباعياته - من فتيان أمريكا وأوربا وفتياتها - لما صدقوا أن صاحبهم يسأل عن هذا، ولا صدقوا إن سئل عنه أنه يجيب بغير الكلمة التي تلخص جميع الرباعيات.

من يدري؟! من يدري أيها الناس؟

والناس قد حيروه حقاً بين زاعم أنه ينكر الروح وزاعم أنه يثبتها للإنسان والحيوان في الحياة وبعد الممات، وزاعم أنه يعلم سر الوجود كأنه من أصفياء مبدع الوجود.

وأخشى ما أخشاه أنني صرفت الحكيم الظريف بهذا المقال فلا ألقاه كما كنت ألقاه في كل منعطف طريق من مكامن التاريخ. . .!

عباس محمود العقاد

ص: 5

‌من صميم الحياة:

طبق الأصل. . .

(يا أيها الآباء: إن الذي لا يعتبر بغيره، يصير هو عبرة

للناس)

للأستاذ علي الطنطاوي

إن الحياة تؤلف قصصاً، يعجز أبرع أهل الفن عن توهم مثلها؛ ولكن الحياة لا تذيع (مؤلفاتها) ولا تعلن عنها، فتبقى (مخطوطة) مخبوءة لا يصل إليها ولا يقرؤها إلا رجل حديد البصر، طويل اليد، ذو جلد على البحث وصبر على التنقيب، ولست ذلك الرجل، ولا أنا من عشاق المخطوطات ورواد المباحث، ولكن الأيام ألقت هذه القصة في طريقي؛ فوجدتها (مطوية) في سجلات محكمة من المحاكم، مقطعة الأوصال، مفرقة الأجزاء، فألصقت أوصالها، وجمعت أجزاءها و (نشرتها) في الرسالة، ومالي فيها إلا الرواية!

بدأت هذه القصة في مخفر للشرطة في مدينة (كذا) في ظهيرة يوم وهج عصيب من أيام تموز تسعر فيها الجو، وأقفرت الشوارع من السالكين إلا سالكاً بسيارة تطوى له الأرض، أو عربة تخب به خيولها يقطر العرق من صدورها وأعرافها، أو صاحب حاجة مفلساً يخوض الهاجرة ماشياً في قضائها، أو موظفاً مسكيناً انصرف إلى منزله لا يجد إذا كان أميناً أجرة سيارة ولا عربة ولا حمار لو أنها كانت تؤجر الحمير الآن، كما كانت تؤجر من زمان. . .

وكان في المخفر أربعة من الشرطة قد نزعوا أرديتهم، وحلوا مناطقهم، واستلقوا على مقاعدهم في كسل وارتخاء، واستسلم كل لأفكاره وهمومه، أو انطلق سادراً في أودية الأحلام؛ فذو العيال منهم يفكر في هم البيت ومشاكل النفقات، والخبيث يكد ذهنه يفتش عن شيء براني وما أهون الوصول إليه في هذه الأيام التي فشت فيها الرشوات والبراطيل حين غلت الأشياء كلها ولكن رخصت الضمائر، وسعرت الحكومة الأشياء كلها وتركت الذمم، والعزب التقي يداري من شهوته مثل لذع النار تؤرثها مشاهد الطريق، ويحبسها خوف الله والعار، إن كان قد بقى في (العشق. . .) اليوم من عار.

ص: 6

والماجن يتعلل بذكريات ليلة فاجرة ويتلمظها ويلتذ بالتفكير في فجور جديد. . . وكانوا سكوتاً لا تسمع منهم إلا أغنية الصمت التي ليس لها آخر، يقطعها بين الفترة والفترة سؤال مختصر يلقيه أحدهم بصوت خافت تتعثر كلماته وهي سائرة في الفضاء من الضجر والملل، يجيب عليه الآخر بهزة من رأسه أو بكلمة مفردة يمضغها بين أسنانه ويبتلع الحرف الأخير منها، يعود السكون كما كان!

ويفتح الباب.

ويرفع الشرطيون الأربعة رؤوسهم ينظرون من هذا المتطفل الثقيل الذي دخل عليهم في هذه الساعة، وكل واحد منهم يتمنى أن يكفيه غيره مشقة صرفه والتخلص منه، ولم يكن فيهم من ينشط لعمل ولا لحديث؛ ولكنهم لا يرون القادم حتى يطير الخمول من نفوسهم، ويدب النشاط في أجسامهم، وينسى ذو العيال هم البيت، وطالب الرشوة لذة المال، وينسى (العاشق) المحروم فتاة أحلامه، وتتعلق أبصارهم بالقادم وكأن الدهشة قد ثبتتها في محاجرها فهي لا تتحرك ولا تطرف، ثم ينظر كل في ثيابه فيصلح منها ما يستطيع، ويمد يده إلى قميصه فيحكم زيقه وإلى ردائه فيرتديه، ويقف مستعداً كأنما قد فاجأه المدير العام، ويتم ذلك كله في لحظات!

ولم يكن القادم المدير العام بل تلك الفتاة الجميلة المتكبرة التي كانت تمر بها كل يوم شامخة الأنف تنظر دوماً إلى الأمام، لا تتنازل أن تلقي عليهم نظرة واحدة. . . وكانت تترك وراءها كلما مرت عبقاً من الروعة والسحر، فقد كان جمالها من الجمال الشرس الأخاذ الذي يروع الناظر إليه ويشدهه حتى يتركه وكأنما قد أصابه دوار حلو وخدر لذيذ. . .

فإذا ابتعدت وصحوا من سكرة جمالها، عادوا إلى الحديث عنها فأنفقوا فيه نهارهم. ولقد تسقطوا أخبارها فلم يسمعوا عنها ما يريب، برغم هذه الثياب (الفظيعة) التي كانت تخرج بها، ثياب أزهى من زهر الربيع، وأرق من دين الراقصات، وأقصر من عمر الحب! غشاء من الحرير إلى ما فوق الركبتين، يبرز ما تحتهما ويصور ما فوقهما، والذراعان باديتان والشعر يتموج على الكتفين خصلاً تزري بحر العسجد وخالص الحرير.

ووقفت الفتاة تصوب فيهم نظرات متعالية ثم قالت عابسة زاوية ما بين عينيها، ضامة شفتين كزر الورد على فم لا يتسع للكلمات، لا يصلح إلا للقبل:

ص: 7

- إن أمام باب المخفر شاب وقح لا يزال يلاحقني كلما مشيت في الطريق، فأرجو سؤاله عما يريده مني!

وعرفوا الذي يريده منها، وكانوا في قرارات نفوسهم يريدون مثله، وكانوا قوماً همجاً متأخرين ذوي عقول قديمة رجعية. لا يفهمون من تكشف البنات إلا (ذلك) المعنى العتيق جداً. . . لا يعلمون أن الدنيا تقدمت، وأن البنت تتكشف على الساحل للسباحة، وفي المدرسة للرياضة، وفي الطريق وفي الترام للصحة وحدها فقط. . . لا غير. . .

ولكنهم أسرعوا مع ذلك إلى الباب ليقبضوا على هذا (الوقح) الذي تطاول إلى سماء الجمال، فأراد أن يدنس الكوكب الذي تستنير به قلوبهم، ولا يجرءون على التأميل فيه والتفكير في الوصول إليه، وكل منهم يود أن يسبق إلى اتخاذ اليد عند الآنسة الفتانة المتكبرة ذات الثياب (الفظيعة)! وجاءوا به.

وكان شاباً مخنثاً خليعاً، تحس إذا نظرت إليه أن رجولته كورقة النقد المزورة لها لونها ونقشها، ولكن ليس لها قيمتها، ولا تشتري لصاحبها إلا مكاناً في السجن، كما أن رجولة هذا الشاب لا تكسبه إلا موضعاً في جهنم. . . وكان الشرطيون لأربعة يحفون به بقاماتهم المديدة، وأجسامهم التي تتفجر بالقوة، كما تحف أربعة سنانير بفأر هزيل، ينظرون إليه بازدراء احتقار، أهذا هو المخلوق الذي يطمع في هذه الآنسة ويطمح إلى أن يكون (رجلها) من دون الرجال؟!

وزجروه وأوعدوه، ولكنه لم يزدجر ولم يخف، ولبث ينظر إلى الفتاة بعيون ثعلب، ويبتسم ابتسامة قرد مهذب، فلم يكن من أحد الشرطيين إلا أن لطمه (بيد ما وقف عليها طبيب) لطمة تركت على وجهه من آثار الأصابع خطوطاً يكاد ينبثق منها الدم، وترنح ومال، ولكنه تصبر واستند على نضد، وقال لها:

- أيرضيك هذا يا آنسة؟ أتحبين أن أفضح السر؟

فانتفضت وقالت:

- أي سر أيها الكلب؟ أيها السادة: أرجوكم وضع حد لهذه المهزلة!

فكروا عليه بالضرب واستاقوه إلى (القفص)، فلما ابتعد عن الفتاة، قال لهم:

- أنا أحذركم. إنكم تعتدون علي بغير (موجب قانوني) إن هذه البنت برغم ما تظهره من

ص: 8

التسامي. . . إنها عشيقتي، وأنا أعرف كل بقعة في جسمها، وآية ذلك أن مكان كذا منها علامة كذا، وقد قبضت مني ليلة أمس إذ باتت عندي إلى الصباح، ثلاثين ليرة ذهبية.

ابتعد الشرطيون فتشاوروا فرأوا أن يدعوا أباها، وكان تاجراً كبيراً وثرياً من أثرياء الحرب الذين أصابوا فيها غنى فاحشاً جعلهم ينتقلون نقلة واحدة إلى منازل (الأكابر. . .)، فتركوا حياة الفقر، ولكنهم تركوا معها حياة العفاف والستر، وقلدوا الأكابر في مناعمهم، ولكنهم قلدوهم أيضاً في رذائلهم. وأكثر ما تعيش الرذيلة راسبة في القعر أو طافية على الوجه، فلا تراها إلا في أسفل السلم الاجتماعي أو في أعلاه، أما الأوساط فهم الأخيار وهم الصالحون. . .

واستبقوا الفتاة والشاب في المخفر ريثما يحضر الأب.

ووقفت السيارة الفخمة بالباب، ودخل أخو البنت جاء به الرسول إذ لم يجد والدها، فلما أبصر أخته في المخفر وأبصر معها هذا الشاب المخنث زاغ بصره وحدثه قلبه بالشر، فانتحى به الشرطي ناحية ونفض إليه خلاصة القصة، فلم يتمالك أن جرّ أخته فأدخلها غرفة خالية عند الباب، وواراها وهي متعجبة تبصر ولا تفهم، وتحسّ منه الغضب ولا تعرف السبب، ومدّ يده مسرعاً فرفع ثوبها الرقيق القصير قبل أن تتنبه له أو تدري ما هو صانع. فلما رأى العلامة، أحسّ أن دماغه قد غلي فجأة كما يغلي الماء في إبريق الشاي، وثار كما يثور المرجل ثم شعر أنه قد (تبخر) من رأسه وأنه انقلب مجنوناً. . . ودارت به الأرض وتداخلت المرئيات ونسي هذا (التجدد) الذي استحبه ودعا إليه وارتضاه لأخته وزوجته كما ارتضاه أبوه. . . ونسي أنهم هم الذين اشتروا للبنت هذه الثياب، وهم ألبسوها إياها بعد الملاءة السوداء والنقاب الصفيق، وهم أرسلوها إلى المدرسة (الحديثة) التي أنشأتها الجمعية النسائية. . . وهم تركوها تقرأ على الشباب وتجالس الأغراب، وهم بعثوا بها وحدها تقيس الطرقات وتجاور في السينمات. . . وأحسّ بالجرح في قلبه، وانصبت نقمته على الفتاة وحدها، فبصق عليها ولعنها، ثم رفع يده فصك هذا الوجه الجميل صكه طنت في آذان الشرطيين فأحسوا حرّها على وجوههم وحزتها في قلوبهم، إذ قد فهموا منها أن قصة هذا (المخنث) صحيحة، وأن الفتاة التي حسبوها بطهرها وكبرها وسحرها أمنع من نجم السماء، قد بذلت أعز شيء عليها لهذا. . . المخلوق!

ص: 9

وأقبل الأخ فأعطى الشاب ثلاثين ليرة ذهبية من غير أن يلقي عليه نظرة أو يقول له كلمة، ثم استاق أخته وخرج، ولم يبصروا منها إلا قفاها، ولكنهم أبصروها مطأطئة الرأس، قد ذهبت عنها تلك الكبرياء وبطل ذلك السحر، أو أن إيمانهم بزلتها خيل إليهم ما زعموا أنه رأوه. . .

ومضت السيارة بالأخت وأخيها.

تركها في مقعد السيارة كأنما هي عدل ملقى، وقاد السيارة إلى الضيعة المعتزلة حيث كان أبوه، فأسرع عليه فسارة وأعلمه بالأمر، فسرعان ما أمحى طلاء (التمدن) الكاذب عن هذا التاجر الذي أعطاه الله مالا ولم يعطه عقلاً ولا ديناً شأن أكثر أغنياء الحرب. وسرعان ما عاد ذلك العربي الذي كان يئد البنات خوف العار، والذي تحوي لغته كلمة لا يمكن أن تترجم لأنه ليس في لغات الناس ما يقابلها ويحمل معانيها هي كلمة: العرض، وكذلك يبين إذا جد الجد، وكانت النتيجة الضرورية لهذه المقدمات (التي هي التكشف والانطلاق والاستهتار). . . أننا لا نزال كعرب الجاهلية في غيرتنا، وأن هذا التجديد تمويه، وقديماً قال المثل الأوربي: حك جلد الروسي يظهر لك التتري!

ثم عاد فجاء بالبنت؛ فلما رأت أباها، انفجرت عواطفها التي كبتتها المفاجأة الظالمة التي فاجأها بها أخوها وأجهشت وألقت بنفسها بين ذراعيه، وقالت: أبي! وحسبت أنها بلغت الحمى الآمن. وإذا بالأب يدفعها فتسقط، ثم يركلها بقدمه ويقول:

- أنا لست أباك أيتها العاهرة، لعنة الله عليك!

فتجحظ عيناها دهشة، ثم تثور مرة واحدة، وتصرخ:

- ما لكم؟ هل جننتم؟ إذا كانوا قد حكوا لكم شيئاً، أو وشوا وشاية فاسألوني وتحققوا، فإن. . .

فيقول الأب:

- أولك عين تحدق، ولسان يناقش يا ملعونة؟ قولي: ما هي صلتك به؟ قولي الحق وإلا ذبحتك كما تذبح النعجة. . .

- من هو الذي تعنيه؟ إني لا أفهم!

فيقول الأخ:

ص: 10

- لا تفهمين يا فاجرة؟ الكلب الذي دفعت له ثلاثين ليرة بدلاً عن التي قبضتها ثمن بكارتك وعرضك وشرفك. . .

- أنت والله مجنون، أي ثلاثين ليرة؟ وما دخل عرضي وشرفي، وأنا لم أكلمه في عمري، ولم أعرفه. . . والله والله إن. . .

- لا تذكري اسم الله بلسانك الدنس.

ويهجم عليها فيشدها من شعرها، ويخرج بها. . . إعلانا لختام المحاكمة، وثبوت الجرم!

ارتقب الشرطيون أياماً فلم يروا البنت تمر بهم، وطفقت أمها تسأل عنها في المنزل، ومعلمها يسأل عنها من المدرسة، فيقولون للأم: هي في رحلة مدرسية. ويقولون للمعلم: هي في سفرة عائلية. وكاد الشرطيون ينسونها، وتضيع صورتها في مشاهد الحياة وهمومها، وفرغت كأس الحديث عنها فلم يبق لهم ما يتساقونه، فعادوا إلى صمتهم وتكاسلهم واستلقائهم على كراسيهم. . . ولكن الشرطي (العاشق) الذي رآها تشبه فتاة أحلامه لم ينسها. . . فكان كلما انتهى عمله في المخفر يلقي بزته العسكرية ويلبس ثيابه المدنية، ويتعقب ذلك (الشاب) يحصى عليه حركاته وسكناته، ليضبطه (متلبساً بجرمه) ويمسكه معها فلا يراه إلا منفرداً. . . حتى كاد ييأس منه وينصرف عن ملاحقته لولا هذه المصادفة:

وجده مع فتية من لداته عند حلاق، فدخل فقعد كأنه ينتظر دوره ليحلق، فسمع منه حديثاً خافتاً ورأى على وجهه ابتسامة ظفر، ثم أبصره يخرج لهم من جيبه الذهب ليروه، فخفق قلبه وعلم أن الحديث عنها، فتلطف ودنا وأصغى فسمعه يقول:

- (لا والله إني لم أكلمها في عمري، ولم أمسس جلدها ولا أعرف اسمها، ولكنها كانت بنتاً جميلة في السابعة عشرة، وتلبس هذه الثياب القصيرة التي يهب عليها النسيم، فيحركها فتكشف كل ما تحتها، فألحقها عن بعد لأمتع البصر بما يبدو من خفايا حسنها. وكانت يوماً على درج المدرسة، وكنت واقفاً تحت الدرج بحيث لا تراني، فانحنت لتصلح حذاءها انحناءة كشفت نصفها الأسفل كله، وكانت تلبس (كلسوناً) من الحرير الشفاف يوضع من صغره في علبة كبريت، ويصغر عن منديل، فأبصرت هذه العلامة. . .).

وعاد الشرطي إلى رفاقه بالنبأ، فوجدوا شيئا يعملونه.

ص: 11

أحضروا الشاب ومن كان معه، وحققوا واستنبطوا وهددوا فلم يسعه إلا الإقرار، ولم يسعهم إلا الشهادة، وكتب الضبط بالحادث ودعي الأخ الذي دفع المال.

فلما حضر وسمع الحديث شحب لونه حتى كأنه قد نزف دمه كله، وانقلب وجهه فصار كوجوه الموتى، ودنا من الشاب وهو يرتجف كمن مسته قشعريرة، وقال له بصوت رهيب مخيف لا يشبه أصوات البشر:

- ألا تعرفها؟ ألم يكن بينك وبينها شيء؟

قال الشاب فزعاً:

- لا والله، لا والله، ما كلمتها في عمري ولا مسستها، وهذه ليراتك. . .

- قال: ليراتي يا ابن الكلب، بعد ما ذبحت البنت البريئة؟

وانقلبت عيناه في أم رأسه، وصار مثل الوحش الهائج، وتلفت حوله فوجد قضيب حديد يتخذونه مزلاجاً. . . فتناوله ونزل على الشاب ضرباً به على رأسه، وهم جميعاً يحاولون إمساكه فلا يقدرون عليه، حتى سقط الشاب ميتاً عند قدميه وسط بركة من الدم، فداس على عنقه وبصق عليه، ثم ارتخت يداه بالقضيب، وقال:

- أسلم نفسي! أنا ذبحت أختي وقتلت هذا الشاب!

وارتمى على المقعد ينتظر حكم المحكمة عليه في الدنيا، وحكم الله عليه وعلى المحكمة في الآخرة. . .

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 12

‌من خواطر جحا (الحالم اليقظان):

قصة الساحر والتاجر

(مهداة إلى أعلام السياسة وأساطين الاقتصاد)

للأستاذ كامل كيلاني

ننقل القصة التالية عن المقدمة النفيسة التي افتتح بها (أبو الغصن جحا) خواطره التي أهداها إلى ولديه (جحوان) و (جحيّة). وقد ضمها مخطوط جحوّي نفيس، لعله مكتوب بخط أحد معاصريه أو بخط ابن أخيه: أبي السّبهلل: (طارق بن بهلل بن ثابت).

وسيرى قارئ القصة كيف استطاع الساحر أن يحول الدنانير الذهبية ذات الرنين الفاتن والبريق الخلاب، - منذ مائتين وألف من السنين - ورقاً عادياً لا قيمة له ولا خطر، قبل أن يهتدي إلى ذلك أعلام السياسة وأساطين الاقتصاد في هذا العصر، الذين استطاعوا - بفنون سحرهم - أن يحولوا الملايين من أموال حلفائهم ورقاً لا نفع فيه ولا غناء، ولا قدرة له على البيع ولا الشراء. كما استطاعوا من قبل - بفنون حقدهم - أن يحولوا ثروة العالم وصواعق ومهلكات تدمر الدنيا بمن فيها، وتنسف المدن بساكنيها، وتحيل الجبال الشم أودية ووهاداً، والأحياء - من الحيوان والإنسان - فحماً ورماداً.

قال (أبو الغصن عبد الله دجين بن الثابت) الملقب بجحا:

(كنت في زمن الطفولة الباكر حين وقعت حوادث هذه القصة لأبي عويف بن جعفر، وكان تاجراً أميناً معروفاً بين الناس بالورع والتقوى، موصوفاً بالبر والإحسان، وهو من جيراننا الأقربين، وكان جزاراً ناجحاً في تجارته، فلم يلبث أن ذاع صيته، واستفاضت الأحاديث الحسنة عما يسديه إلى الفقراء والمعوزين من فنون البر سراً وعلانية.

وذا صباح وفد عليه شيخ وقور مهيب الطلعة رائع السّمت يدعى (أبا تميم بن زهير) قد جلل المشيب رأسه ولحيته، وتألق وجهه بشراً ونوراً، حتى ليحسب من يراه - أول وهلة - أنه من أولياء الله الصالحين.

ولم يكد يحييه حتى خفّ إليه التاجر مرحّباً بمقدمه، متبركاً بلثم يده، يسأله أن يأمر فيطاع.

فهمس الشيخ (أبو تميم) في أذن التاجر يخبره بما اجتمع عليه أمره من بذل في سبيل الله.

ص: 13

فقد اعتزم أن يشتري منه كل صباح لحم خروف بدينار ليفرقه على طائفة من المحتاجين. ثم أعطاه - من فوره - ديناراً لامعاً مشرق الجدة. وانتهزها التاجر فرصة للتبرك بنقود هذا الشيخ الصالح، فاعتزم أن يدّخر ديناره حتى ينتهي العام، فيشتري بها ما يحتاج إليه من ماشية وأغنام، فأسقط الدينار من ثقب في أعلى درج خفي. وجرى كلاهما على عادته: يشتري الشيخ كل يوم خروفاً بدينار، ويضعه الجزار في صندوقه، حتى إذا أشرف العام على نهايته، فتح التاجر درج النقود المدّخرة، فهاله ما رأى، وفزعه أن يجد أوراقاً صفراً مستديرة - بعدد أيام السنة - مكان الدنانير الصفر الجديدة التي أخذها من الشيخ.

وسرعان ما تبين التاجر جلية الأمر، وعرف حقيقة الشيخ وأدرك أنه مدلس كبير وساحر خطير، فتربص به وهو يكاد يتميز من الغيظ، حتى إذا أقبل (أبو تميم) اندفع إليه الجزار صاخباً لاعناً مشّهراً بسوء فعلته.

وثمة عرف الساحر أن أمره افتضح، وسره وضح. فهمس في أذن التاجر مستعطفاً يرجوه أن يخفض من صوته حتى لا يسيء إلى سمعته، واعداً إياه بمكافأة سنية عاجلة إذا صفح عن زلته، وتجاوز عن إساءته. فلم يزد الجزار إلا تمادياً في صياحه وتشهيره، ووعيده ونكيره. وأقبل الناس يحاولون أن يهدئوا من ثورته الجامحة وهو آخذ بتلابيب خصمه، ممعن في هياجه، متماد في لجاجه، حتى إذا يئس الشيخ من صفح التاجر قال له منذراً متوعداً بصوت ثائر، مجلجل في أجواز الفضاء كأنه الرعد القاصف:

(لقد صبرت عليك طويلاً، فلم تزد إلا تمادياً وإصراراً، فاعلم أن لكل شيء اَخراً، وأن للحلم حداً لا سبيل إلى تجاوزه. وإني منذرك - على ملأ من الحاضرين - أنني معلن ما خفي من أمرك، ومذيع ما بطن من سرك، إذا لم تكف عن هذيانك وخرافاتك، وتقلع عن إساءتك وترّهاتك) فاشتد غيظ التاجر على الساحر وقال له في تهكم الساخر:

(وأيّ تهمة يستطيع مثلك أن يعزوها إليّ؟).

فأجابه الساحر في جرأة سافرة، ووقاحة فاجرة، وقد جمع كيده وسحره، وحشد مكره وغدره:

(أستطيع أن أعلن لهم حقيقتك وأفضي إليهم بما تقترفه من فنون الإجرام وكبائر الآثام، فأدلهم على ما تخفيه في الصندوق من رءوس الآدميين الذين تذبحهم كل يوم لتبيع الناس لحومهم بعد أن تخفي رءوسهم).

ص: 14

ولم يكد الساحر يتم فريته حتى أسرع الناس إلى دكان الجزار فرأوا مصداق ما افتراه الساحر بعد أن خيل لهم سحره أن لحوم الخراف المعلقة لحوم بشرية، والرؤوس التي في الصندوق رؤوس آدمية. ولم يتمالكوا من فرط غيظهم أن ينهالوا على التاجر سباً وشتماً وضرباً ولكماً، حتى إذا أغمي عليه رآها الساحر فرصة سانحة للهرب، فتسلل إلى بيته ناجياً بعد أن أفلحت مكيدته ونجحت دسيسته.

وذاعت قصة التاجر، فأقبل القاضي عليه، بعد أن زال سحر الساحر، فلم ير إلا خرافاً معلقة لحومها على باب الدكان. فلما فتح الصندوق لم ير إلا رؤوسها. ولما أفاق التاجر عرف القاضي منه تفصيل ما حدث. فأدرك - حينئذ - براءته من تلك التهمة النكراء، والخزية الشنعاء، بعد أن هدم شرفه ولوثت سمعته. ولم يلبث أن ذاع صيت هذا التاجر بين الناس، بعد أن رأوا من المظاهر الكاذبة ما أقنعهم بأن الشيخ جان أثيم، وشيطان رجيم، وإن دلّ مخبره على أنه محسن رحيم وملك كريم.

مات هذا التاجر المحسن اليوم - بعد أن مرّ على قصته ربع قرن - وكان مشيّعوه إلى قبره يذكرونها متعجبين لما أصابه من كيد الساحر الأفاك. أما أنا فقد وعيت قصته منذ طفولتي، فلم أقع في مثل هذه الورطة مع أحد من الأشرار - وما أكثر ما لقيت منهم - فقد وجدت في التغابي مهرباً من الاشتباك معهم في صراع قلّ أن ينتهي بخير.

وقد آثرت أن يتهمني الأغرار بالغفلة على أن أزج بنفسي في محرجات لا أدري كيف أخرج منها.

وطالما ذكرت ما دار بين عمرو بن العاص ومعاوية من حوار معجب حين قال أولهما للثاني مفاخراً بلباقته وسرعة خاطره: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).

إلا عرفت كيف أخرج منه وكيف أجابه معاوية بقولته الحكيمة: (أما أنا فما دخلت مأزقاً قط).

وقد وعيت قصة الساحر وحكمة (معاوية)، منذ عرفت الحياة، فانتفعت بهما أيما انتفاع.

أذكر على سبيل المثال أنني كنت أمشي - ذات يوم - في الفلاة، فأحسست وقع خطوات تقترب مني، فأرهفت أذني - دون أن ألتفت إلى الوراء - فسمعت همساً أدركت منه: أن لصين يأتمران بسرقتي. وليس معي شيء يسرق غير الحمار. فلم ألتفت إليهما خشية أن

ص: 15

يصيبني منهما مكروه، وتشاغلت بمحادثة نفسي تارة وبالغناء تارة أخرى، حتى أهيئ لهما الفرصة لسرقة الحمار. وشعرت أن أحد اللصين يفك مقود حماري، ثم يضعه في عنقه ويسلم الحمار إلى صاحبه.

فتغاضيت ومشيت - على عادتي - متبالهاً حتى دانيت المدينة واقتربت من العمران. فالتفت إلى الخلف، وإذا باللص الخبيث مكان حماري الطيب القلب، والمقود في عنقه، وهو يمشي خلفي.

فتظاهرت بالحيرة والدهش، وسألته متبالهاً لأهيئ له الجواب:

(من أنت؟ وأين حماري؟ وكيف حللت مكانه؟).

فأجابني متخابثاً: (إن قصتي أيها السيد الكريم، لا تكاد تصدق لغرابتها، فأنا آدمي مثلك، ولكني غلوت في الإساءة إلى أمي - فيما مضى من الزمان - فلما نفذ صبرها، واشتد غيظها علىّ، ابتهلت إلى الله داعية أن يمسخني حماراً فاستجاب الله دعاءها.

فخرجت من البيت هائماً في الطريق، فلقيني بعض الأشرار، فأسرع بي إلى السوق وباعني لك. وما زلت أخدمك - في أمانة وإخلاص - إلى اليوم، ولعلي بذلك قد كفرت عما أسلفته لأمي من إساءة.

وقد رأيتني الآن أسترد آدميتي، فمشيت خلفك مطرقاً مفكراً فيما لقيت من عجائب الحياة. وأغلب الظن أن أمي قد عاودها رضاها عني، فراحت تستغفر الله لي حتى استجاب دعاءها مرة أخرى، فخلعت عني ثوب الحمارية، واسترددت من فوري ثوب الآدمية.

ترى كيف أجيب هذا الألعبان؟

تمثلت في الحال قصة الساحر والتاجر، فلم أجد لي مندوحة عن التظاهر بتصديق هذا الكيذبان الماكر. فقلت له متبالها:

(حسبك ما لقيت من عقاب إلهي، فهل تعاهدني على أن تتحرى مرضاة أمك، وأن تبذل في هذا السبيل قصارى جهدك) فعاهدني اللص على ذلك، وهو يحسبني - لغباوته - أكبر مغفل لقيه في حياته.

ثم لقيت حماري بعد أيام يبيعه اللصان، ولم أكد أدانيه حتى اختفى أولهما الذي لقيته منذ أيام، وأسلم الحمار إلى شريكه ليتم بيعه.

ص: 16

فدنوت من الحمار ثم تظاهرت بأنني أسرّ في أذنه حديثاً موجزاً.

فاشتدت دهشة الناس مما رأوا. ودفعهم الفضول إلى سؤالي عما همست به في أذن الحمار. فقصصت عليهم قصتي بمسمع من اللص، ثم ختمتها قائلاً:

وهاأنذا أجد صاحبي قد خالف عهده، وأغضب أمه مرة أخرى، فلم يلبث أن عاودته حماريته وزايلته آدميته. فلم أتمالك أن أسررت في أذنه معاتباً:

(لقد حذرتك - يا صاحبي - هذه العاقبة، فلم تسمع. فلا تلومن إلا نفسك). ولم يكد الحاضرون يستمعون إلى هذه القصة حتى استغربوا (أي: أغرقوا في الضحك).

وشعر اللص الأفاك بالحرج، فتسلل هارباً وترك لي حماري، فعدت به إلى داري، وقضيت يومي راضياً محبوراً، قرير العين مسروراً.

وسرق بعض الأشرار مقود حماري، فبحثت عنه طويلاً فلم أجده. وبعد أيام رأيته معلقاً في رأس حمار أكبر من حماري. فلم أكد اقترب منه حتى رأيت صاحب الحمار - وكان شريراً فاتكاً معروفاً - ينظر إليّ شزراً.

فتذكرت قصة الساحر والتاجر، وقلت متظاهراً بأنني أحدث نفسي:(يا للعجب العاجب! هذا رأس حماري، ولكن ما بال جسمه قد تغير).

فكاد اللص يستلقي على قفاه من شدة الضحك، وتجاوز لي عن المقود طائعاً مختاراً.

واستيقظت قبيل الفجر ذات ليلة على صوت لص، فصبرت عليه حتى سرق كل ما في البيت من متاع، وتسللت في أثره مقتفياً خطواته - وهو لا يراني - حتى بلغ داره. فلم يكد يراني حتى تملكه الدهش والحيرة. فنظر إليّ يسألني: كيف جئت إلى هنا؟

فقلت له مداعباً: (جئت لأعرف الدار الجديدة التي انتقلت إليها).

فاستظرف إجابتي، واستحسن دعابتي، ورد إلي أثاث بيتي ولم ينلني منه أذى بعد ذلك اليوم.

وشعرت ذات ليلة بلص يقتحم داري فاستولى عليّ الخوف، وأسرعت إلى خزانة صغيرة فاختبأت فيها بين ثنايا الفرش، وكنت أعلم أن الدار خالية والحمد لله مما يسرق. وقد بحث اللص طويلاً فلم يظفر من بحثه بطاثل. وهم بالخروج، ولكن خاطراً دفعه إلى فتح الخزانة، فلما رآني صاح فيّ غاضباً:

ص: 17

(مالي أراك مختبئاً؟) فلجأت إلى الدعابة قائلاً: (لقد أخجلني أنك لم تظفر بما يستحق السرقة في داري فاختبأت في هذه الخزانة ولم أجرؤ على مواجهتك).

فضحك اللص مما سمع وكفاني شره وأذاه.

وشعرت بلص من الأشرار يسرق متاع داري ذات ليلة، فتشجعت وقلت له مداعباً:

(ما أضيع بحثك أيها السيد الكريم! إنك تحاول عبثاً أن تعثر في ظلام الليل الحالك على شيء تسرقه من داري. ولقد حاولت ذلك من قبلك في رائعة النهار، فلم أر شيئاً في الدار).

ألا ليت الناس يذكرون دائماً قولة صديقي الألمعي الحكيم عبد الله بن المقفع: (إن الماء يبلغ - مع ليونته - ما لا تبلغ النار مع شدتها).

عبد الله جحا

وفق الأصل

كامل كيلاني

ص: 18

‌جلالة الفاروق ولويس الرابع عشر

للدكتور محمد غلاب

الآن، وبعد أن تكسرت على صخرة أحداث المفاوضات موجة التأثر التي أثارها في النفوس التجاء ملك إيطاليا المتجرد من عرشه إلى مصر، فإننا نستطيع أن نرسم في إيجاز تلك العاطفة التي أحسسنا بها عندما طالعنا في الصحف وصف تلك الحفاوة الملكية الرائعة التي استقبل بها عاهل أرض الكنانة ذلك الملك المبعد عن بلاده. ولقد كانت في طليعة تلك الأحاسيس التي شعرنا بها حين قرأنا هذا النبأ عاطفة النشوة الناجمة عن الإحساس بأن مصر قد بدأت تسترد عزتها الداثرة، وتستعيد عظمتها الغابرة، وأن أشعة هذا الأمل العذب قد أخذت تتمثل في استعداد وادي النيل لإيواء الملوك اللاجئين والأمراء المبعدين، ولم لا؟ ألم يكن من أبرز مفاخر فرنسا إلى هذه السنين الأخيرة أنها قبلة اللاجئين، وغاية المهاجرين، ولا سيما الملوك والأمراء الذين لأمر ما تعذر عليهم الثواء في بلادهم. ولا جرم أن في هذه الخاصية من خصائص الدول معنى من أبهى معاني الرفعة والسمو، لأنه يلطف آلام فريق من أولئك التعساء، ويحيي الأمل في نفوس فريق آخر منهم، ويشعر فريقاً ثالثاً بأن الإنسانية لم تتحول كلها إلى وحوش ضارية، لان الإكرام العملي والحفاوة الواقعية يتركان في النفوس من محمود الأثر ما تعجز عن تأديته العبارات المعسولة التي لا تكلف المتفيهقين بها كثيراً ولا قليلاً. ونحن إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة نظرة عميقة ألفينا أن الفضل الأول فيها عائد بالذات إلى حضرة صاحب الجلالة مليكنا المفدى الذي عرف كيف يكشف أسرار عظمة الدولة، ثم يطبعها بطابع خاص تتحقق فيه الدقة والرقة والمثالية إلى جانب ثماره الأساسية، وهي المجد والفخار والخلود. وكيف لا تكون هذه السماحة النادرة، وتلك البشاشة النبيلة، وذلك الإكرام الكامل من الأمور المثالية في هذا العصر الذي كادت الإنسانية فيه - مع الأسف الشديد - تفقد كل معالمها، والذي أصبح فيه الشغل الشاغل لأكثر الدول هو التفكير في وسائل ونتائج الاستيلاء على حقوق الغير واغتصاب ممتلكاتهم الشرعية تارة في مجون واضح وصفاقة بغيضة، وأخرى تحت ستار الدفاع عنهم أو تحسين حالاتهم الاجتماعية.

وفوق ذلك، فإن هذه الحادثة قد أعادت إلى مخيلتي ذكريات تلك المحامد النبيلة التي انفرد

ص: 19

بها الشرق، وهي البشاشة التقليدية والسخاء الموروث وإكرام الضيف دون أية علة أخرى غير الالتذاذ النفساني بتحقيق العمل المجيد وما إلى ذلك من العواطف العالية التي أوشكت واقعية عصرنا الحاضر أن تسحب عليها أذيال النسيان.

أسند بعض الكتاب ذلك المظهر الملكي الجليل الذي استقبل به مليكنا ضيفه اللاجئ الأخير إلى فضيلة عرفان الجميل من جانب جلالته نحو أسرة سافوا، وتلك بلا ريب عاطفة جليلة جديرة بأن تدفع النفوس الملكية أكثر من غيرها إلى رد خير الصنيع إلى أهله، ولكن أليس تعليل أولئك الكتاب هذا المظهر الفاتن بتلك العاطفة وحدها يخفي كثيراً من جوانبه الأخرى الخلابة وعناصره الجوهرية التي نحن على يقين من أنها قامت بدور أساسي في تصرف جلالة مولانا الملك وبواعثه؟ ومن هذه العناصر الأولية التي غفل عنها أولئك الكتاب تلك الدوافع التي فطرت عليها النفوس النبيلة والطباع الكريمة، والتي لا تزال تنعش ذوي المحاتد العريقة وتدفعهم إلى القيام بالأفعال الخليقة بالخلود في ذاكرة التاريخ تتخذ منها الكافة نبراسها في دياجير الحياة، وتجد فيها الخاصة دروساً في العظمة، والتي تنشئ لدى الشعوب ملكة تذوق المجد المجرد من النفعية، وهل يحسب أولئك الذين طغت عليهم روح الواقعية أنه من الممكن أن تستغني الإنسانية عن هذه الأحاسيس السامية، وأن تكتفي بتلك المدنية المادية مهما بلغت أعلى آواج السطوع والإخصاب؟

نحن لا نحسب أن الإنسانية مقصورة على هذه الروح الواقعية منحصرة في هذه الدائرة العملية الضيقة، وإلا فما هو سر جاذبية تلك الصور التاريخية الساحرة التي فتن جمالها القلوب، وخلب سموها النفوس، والتي قدمت إلى أهل الحياة العملية فريقاً آخر من البشرية ضحوا براحتهم وهدوئهم، بل بحياتهم أحياناً في سبيل الشهامة والمروءة المثاليتين. وهكذا لم أطالع في الصحف نبأ تلك الحفاوة الرائعة المؤثرة التي قام بها جلالة مليكنا المفدى نحو ملك عريق مهاجر من وطنه حتى أحسست بذكريات تنبثق من غياهب التاريخ وتنقذف إلى ذاكرتي، وسرعان ما أحسست بتوثق وجه الشبه بين تلك الأحداث التي طوت العصور ممثليها ولم تقو على محوها من سجل الزمن، وبين ذلك الحادث الكريم الرفيع. ولقد كان في طليعة هذه الذكريات الخالدة حفاوة لويس الرابع عشر ملك فرنسا العظيم بجاك الثاني ملك إنكلترا حين قلب له الدهر ظهر المجن.

ص: 20

ومجمل ذلك أنه لم تكد سنة 1688 تشرف على الانتهاء حتى كانت الثورة الإنجليزية الثانية قد بلغت أقصى حدودها وأعلن الثوار - في مقدمة ما عابوه على مليكهم جاك استوارت - أنه كاثوليكي، وأن الأمة بروتستانتية، فلا ينبغي أن يجلس على عرشها من اختلف دينه مع دينها، ثم دعوا للتملك عليهم الأمير الهولاندي جيوم الثالث. وعلى أثر نزول هذه الكارثة بالأسرة المالكة، كان ذلك الملك المنكوب بين عاملين متعارضين: أحدهما يدفعه إلى الالتجاء إلى فرنسا والاحتماء بعاهلها الأعظم والعيش في كنفه المنيع، وهو عامل الصلة الأسرية التي كانت تربطه بالبيت المالك فيها. والعامل الآخر هو ذلك العداء الذي كان مستحكماً بين دولتيهما في ذلك الحين، إذ أن شارل الثاني والد هذا الملك التعس كان قد أعلن الحرب على فرنسا في سنة 1678 أي قبل هذه الصدمة بنحو عشرة أعوام. وأكثر من هذا أن شارل الثاني نفسه كان يحنق على فرنسا حنقاً خاصاً ويحسدها على أسطولها، وأنه سجل هذا الشعور الإنجليزي التقليدي البغيض الذي يجري في نفوس أفراد هذا الشعب جريان الدماء في أوردتهم وصوره في هذه العبارات التالية:

(إن كبرى العقبات التي تعترض سبيل الحلف الفرنسي هي تلك العناية العظمى التي يبذلها الفرنسيون الآن لينشئوا لهم كياناً تجارياً، وليكونوا قوة بحرية تفرض إرادتها، إذ أن كل خطوة تخطوها فرنسا في هذه السبيل، تخلد الحسد بين هاتين الدولتين).

بيد أن ذلك الملك السيئ الحظ بعد أن وازن بين الحالتين رجح الالتجاء إلى فرنسا لثقته بنبل مليكها وكرم خلقه، وسمو طبعه. وفي أواخر ديسمبر سنة 1688 نجحت ملكة إنجلترا وولدها ولي العهد في اجتياز المانش إلى كاليه بفضل تلك المحاولة الجريئة التي قام بها أحد النبلاء الفرنسيين، وهو دوق دي لوزان مدفوعاً إلى ذلك بالشهامة البريئة التي تتغلغل في فطرته النقية من العلل النفعية. ولما كان الملك قد وعدها أن يلحق بها في كاليه فقد انتظرته هناك بعض الوقت، ولكن لويس الرابع عشر لم يلبث أن بعث إليها بموكب فخم يحف بها إلى باريس لتنتظر رفيق حياتها في العاصمة مكرمة معززة. وفي اليوم السادس من يناير سنة 1689 وصلت الملكة وولدها إلى ضواحي باريس، فلم يكن من ملك فرنسا - هو ذلك الملك الأريستوقراطي النزعة - إلا أن انتقل ترافقه حاشيته لاستقبالهما، وعندما لمح المركبة الملكية ترجل واتجه إليها، فعانق ولي العهد في حنان أبوي ثم هرول إلى

ص: 21

الملكة، وبعد أن حياها تحية رقيقة مفعمة بالاحترام والإكبار، أصعدها إلى مركبته وأجلسها إلى يمينه كما تقتضي أرقى مراتب الذوق واللياقة. ولما وصلوا إلى العاصمة وضع ذلك الملك الكريم تحت تصرف ضيوفه قصر سان جيرمان، وهو ثاني قصر في الدولة بعد قصر فرساي، ثم بذل كل ما في وسعه لإسعادهما وللحيلولة بينهما وبين الشعور بغيبة أدنى الكمالات. وفي أثناء رحلة الملكة إلى باريس ظفر زوجها بعد عناء شديد بنعمة الوصول إلى الساحل الفرنسي.

وفي اليوم السابع من يناير وصل بدوره إلى ضاحية سان جيرمان حيث كان لويس الرابع عشر في انتظاره. وعندما أعلن قدومه أسرع لاستقباله وتعانقا عناقاً مؤثراً أحس أثناءه ملك إنجلترا بالحقيقة المرة وقدر منزلته الراهنة تجاه أعظم ملوك الدنيا في عصره، فانحنى حتى ركبتي لويس الرابع عشر، ولكن هذا الأخير تأثر كثيراً وأبى أن يعامله إلا معاملة الند للند، وبعد أن تسارّا ملياً اقتاده إلى حيث تقيم قرينته وولده ثم ودعه قائلاً له:(هذا هو منزلك تستقبلني فيه كما أستقبلك في فرساي). ولم يكتف ذلك الملك الجليل بهذه البشاشة الفائقة، وإنما خصص الأيام التي تلت يوم قدوم ضيفه الكبير للاحتفالات بمقدمه والحفاوة بشخصيته، وليس ذلك كل شيء، بل إنه أمر أن يعامل ذلك الملك المخلوع في البلاط الفرنسي معاملة ملك على عرشه. وما أبهى ما تحدثنا به ما دام دي سيفينييه في تعليقها على هذه الحادثة إذ تقول:(إن الملك قد سلك بازاء جلالتي ملكي الإنجليز مسلكاً إلهياً بحتاً، أفليس من أوصاف ذي القدرة والجلال إعانة ملك طريد لفظته بلاده، وغدر به أصدقاؤه وهجره أنصاره؟ لا شك أن نفسية الملك العالية قد راقها أن تقوم بهذا الدور العظيم).

وهكذا بقي جاك الثاني في ضيافة ملك فرنسا عزيزاً محترماً حتى فارق الحياة في سنة 1702.

وأخيراً ألست ترى معنا أن وجه الشبه بين هذين الملكين: فاروق الأول ولويس الرابع عشر قوى متين إلى حد يلفت النظر ويسترعي الانتباه.

محمد غلاب

ص: 22

‌الطاقة الذرية

لم يكن انطلاق الطاقة الذرية بالشكل الذي تبين حديثاً للعالم وليد فكرة

تخيلها العلماء وأخرجوها من حيز الفكر إلى حيز العمل في وقتنا

الحاضر. بل نتيجة لسلاسل طويلة من التفكير الطويل والبحث

المتواصل.

الاستنتاجات والبحوث الأولية:

منذ 2500 سنة مضت، عارض ديمقراطيس وهو أعظم فلاسفة اليونان القول بأن المادة قابلة للتجزئة من غير حد. وقرر وجود الجزء الذي لا يتجزأ، أو الجوهر الذي يقف عنده التجزؤ وتحلل إليه الأجسام. وكان يرى أن الجزء الذي لا يتجزأ (أي الذرات) صغير لا تدركه الحواس. وهو في حركة دائمة وباق لا يدركه الفناء. وقد تطورت تلك الأفكار على يدي ليوراطيس ووضعت في المنظومة المشهورة المسماة (في طبيعة الأشياء).

وقد اعترف الإنسان بداهة منذ أن بدأ في التفكير والتعليل والوصول إلى شرح العمليات الطبيعية في احتمال صحة النظريتين اللتين تنص إحداهما على (الاستمرار) والأخرى على (عدم الاستمرار)، فحبذ ديمقراطيس نظرية عدم الاستمرار، بينما حبذ (أفلاطون) وتلاميذه نظرية الاستمرار، أي النظرية التي تنص على أن الطبيعة مركبة من سائل شامل. أو بتعبير آخر (انشغال الفراغ بالهيولي) وكل من هاتين النظريتين صحيحة من الناحية الفلسفية. على أن هنالك اختلافاً ظاهراً بينهما إذا ما وضعا تحت البحث التجريبي العلمي. ولما كانت العبودية مسلماً بها في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر اعتبرت الفلسفة الفكرية من مكملات الحياة الأرستقراطية، بينما العمل اليدوي مهين لكل من يزاوله. وترى من هذا أن فلاسفة ذلك العصر كانوا يعتبرون العمليات اليدوية، أو بعبارة أخرى البحث التجريبي العلمي أحط طريقة للوصول إلى حقيقة الأشياء. ولما كانت الفلسفة الأفلاطونية معترفاً بها في الفترة الأخيرة قبل ميلاد المسيح وكانت آراؤه وتعاليمه تمثل التفكير السائد في ذلك العصر أخذت نظرية الاستمرار مكانتها وسادت، وكانت هي النظرية المعترف بها لمدة 2000 سنة تقريباً.

ص: 23

نشوء العلم الحديث:

وفي أواخر العصر الأوسط نشأت حركة فكرية جديدة بظهور جيل جديد من الفلاسفة الطبيعيين. وربما كان السبب في هذه النهضة ارتقاء منزلة العامل اليدوي مثل البناء والرسام والمهندس والطبيب من ناحية، والتفكير في الفلسفة الرومانية واليونانية على أساس جديد، وذلك بظهور عصر الإصلاح، أو النهضة العلمية من ناحية أخرى. وقد ظهرت النظرية الذرية للمادة من جديد واستخدمها (فرانسيس باكون) كقاعدة لنظريته في الحرارة؛ واستخدمها أيضاً (روبرت بويل) لتفسير ماهية التغيير الكيميائي. وباستخدامها كذلك تمكن نيوتن من الوصول إلى قانون بويل وكان في هذا أول من توصل إلى تعبير رياضي لنظرية طبيعية. غير أن الفخر يرجع (لجون دالتون) الكيميائي الإنجليزي الشهير في وضع تلك النظرية في شكلها الحالي. فكانت هي الحجر الأساسي الذي بني عليه علم الكيمياء الحديث. وكانت تلك النظرية أيضاً بمثابة الهام لكل باحث كيميائي حديث.

ولما قارب القرن التاسع عشر على الانتهاء كانت نظرية دالتون للدقيقة في أنها النهاية القصوى لكل مادة كيميائية دقيقة لا تتغير ولا يمكن نفوذها يتميز بها كل عنصر عن الآخر، نظرية مقبولة اعترف بها كل علماء العالم تقريباً كأساس لطبيعة الأشياء.

المواد الرديومية. أو المواد ذات الفعل الرديومي:

ظهر كشفان خطيران في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر: الأول هو الكشف عن المواد الرديومية في عام 1896، والثاني الكشف عن الإليكترون في عام 1897. لما كان الهدروجين هو أخف العناصر وزناً ظن العلماء أن ذرة الهيدروجين هي أصغر الدقيقات الممكن الحصول عليها، والإلكترون دقيقة وزنها 1 على 2000 من وزن ذرة الهيدروجين. وعلاوة على ذلك يمكن الحصول على الإلكترونات من أي نوع من الذرة. ويمكن القول من هذا أن الذرات لا بد أن تكون ذات تركيب وأنها قادرة على التغيير. وقد أمكن إثبات هذه النتيجة بعد دراسة ماهية المواد الرديومية دراسة شاملة. وقد كان (أندرو بكرل) هو أول من كشف عن المواد الرديومية في عام 1896 إذ لاحظ أن أحد العناصر (اليورانيوم) ينبعث منه إشعاعات دائمة تخترق المادة وتؤثر على الألواح الفوتوغرافية وتنتج في الوقت

ص: 24

نفسه على ما يظهر مقداراً من الحرارة لا ينفد. وقد تابع (بيير ومارى كوري) بحوث بكرل وكشفا عن مادة الرديوم. وهي مادة رديومية أقوى بكثير في تأثيرها من اليورانيوم.

وقد ظهر في هذا الوقت عالم نيوزيلاندي اسمه (أرنست رثرفورد) وهو من أعظم علماء هذا العصر شهرة وأعلاهم مكانة. كان رثرفورد يبحث في أشعة إكس والإلكترونات تحت إشراف العالم البريطاني المشهور (السير جوزيف تومسون) في كامبردج. ولما علم رثرفورد بالكشف عن المواد الرديومية وخواصها تاقت نفسه في الحال للبحث فيها وعلى تركيز قواه الفكرية ومعلوماته التجريبية في بيان ماهيتها. وقد عين رثرفورد فيما بعد أستاذاً لعلم الطبيعة بجامعة مونتريال بكندا. وفي بضع سنوات تمكن من وضع الخواص الأساسية للمواد الرديومية. وقد اقترح رثرفورد وزميله (سودي) في عام 1902 أن الأصل في الفعل الرديومي هو (الاستحالة) الذاتية للذرات. وقد بينا أيضاً أن الذرات تستحيل على ما يظهر حسب قوانين المصادفة. وكانت هذه النظرية الخطيرة هي الثالثة من النظريات التي وضعت للكشف عن ماهية المواد الرديومية، ويتبين من هذا أن قوانين المصادفة على ما يظهر هي في الواقع أساس كل العوامل الطبيعية. وهذه نتيجة خطيرة يعد حدوثها مثالاً جديداً من أمثلة الاستحالة.

الطاقة:

جاء الكشف الذي نص على أن في داخل الذرة مقداراً هائلاً من الطاقة في وقت كانت فيه النظريات التي وضعت في تفسير الطاقة قد تطورت تطوراً خطيراً أمكن بها تفسير ماهية الطاقة في العناصر الرديومية. ولم يضع الباحثون قبل القرن التاسع عشر نظرية يمكن بها تفسير طبيعة الطاقة تفسيراً ظاهراً مبنياً على التجارب. ولما تطورت الآلة البخارية تقدم (جيمس وات) بالتعبير السائد وهو (قوة الحصان). وبعد أن بحث العلماء في آلات الحرارة تبين أن هناك تعادلا صحيحاً مضبوطاً بين مقدار الشغل الذي تعمله الآلة ومقدار الطاقة التي توضع فيها. وقد وضع (ماير وجول) في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً برهاناً قاطعاً بينا به أن الطاقة على اختلاف أنواعها سواء كانت ميكانيكية أو كهربائية أو طبيعية أو كيماوية أو حرارية كلها متعادلة يمكن تحويل كل منها إلى الأخرى. ثم أمكن في الوقت نفسه الحصول على تعبير رياضي دقيق لمقدار الطاقة الممكن الحصول عليها من قطعة من

ص: 25

الفحم وذلك بوضعها تحت ظروف خاصة. ثم وجد العالم الألماني الطبيعي (ماكس بلانك) في عام 1900 أنه من المستحيل تفسير توزيع الطاقة في الأشعة الملونة المختلفة في الضوء المنبعث من مصدر ساخن مثل الشمس بدون الفرض أولاً بأن الطاقة قد انبعثت في شكل حزم صغيرة ذات حجم محدود. ويظهر من هذا إذن أن الطاقة لا بد أن تبقى في شكل ذري.

وضع (إينشتين) في عام 1905 نظريته المعروفة في (تبادل الانتساب) لشرح الحقيقة الغريبة التي تنص على أن سرعة الضوء ثابتة في المادة بقطع النظر عما إذا كان منبع الضوء متحركاً أو غير متحرك. وتخالف هذه النظرية النظريات القديمة المألوفة للمسافة والزمن مخالفة تامة، بل تؤدي إلى نظرية جديدة تبين فيها المسافة والزمن كعاملين مختلفين لنفس الأساس الواحد. ولما تبع هذا البحث الكشف عن العلاقة العضوية بين المسافة والزمن، بين إينشتين أن هناك علاقات مماثلة بين الخواص الأخرى المميزة للمادة كانت تعتبر حتى هذا الوقت كأنها خواص مميزة ظاهرة لا يرتبط بعضها مع بعض. وقد بين إينشتين أيضاً أن كلاً من الكتلة والطاقة قابلة للتغيير والتبديل، وأنهما خاصتان من أساس واحد. ويمكن الاستدلال من هذا أن المادة هي عبارة عن طاقة متجمعة.

ولم يمض من الوقت غير القليل حتى تنبه العلماء إلى أن هذه النظرية يمكن بها شرح أصل تلك الكميات الهائلة من الطاقة التي تنبعث من الشمس والنجوم شرحاً وافياً كاملاً. فقد أشرقت الشمس من ملايين السنين، وهي مستمرة في الإشراق ولم تنقص طاقتها إلا بكمية ضئيلة جداً.

نشوء علم طبيعة النواة:

كان المعروف إذن في أوائل القرن العشرين أن كل الذرات تحتوي على جوهر مشترك وهو الإلكترون، وأنه يمكن تحويل ذرات العنصر إلى ذرات لعنصر آخر، وأن هذا التحويل يلازمه انطلاق الطاقة.

وقد تابع رثرفورد بحوثه، وتصور في مخيلته فكرة جريئة جداً نصت على استخدام تفكيك الذرات للبحث عن تركيبها، أو بعبارة أخرى البحث في الدقيقات المنبعثة من الذرة للكشف عن ماهية موضوعها أو أصلها في الذرة. وأعقب ذلك أن أجرى سلسلة من التجارب تعد

ص: 26

من أمهر التجارب العلمية وأدقها. وضع من نتائجها نظرية النواة للذرة في عام 1911. وقد بين رثرفورد أن ظاهرة التشعيث أو سلوك الدقيقات المندفعة بانفجار الذرات تدل على أن الذرة تتركب من نواة صغيرة جداً تكاد تحتوي على الكتلة الكلية للذرة. ويحوط النواة إلكترونات عدة موزعة حول النواة على أبعاد شاسعة نسبياً، وعلى هذا تعتبر الذرة وكأنها شيء فارغ فسيح جداً، وأن الكتلة الذرية الكلية للذرة تقريباً مركزة في دقيقة في وسطها (أي في النواة) وأن النواة مشحونة بشحنة كهربائية موجبة، وأن هذه الشحنة الموجبة توازن تماماً الشحنة السالبة التي تحملها الدقيقات الأخرى (أي الإلكترونات) الموجودة في الأجزاء الخارجية من الذرة، وقد ظهر أيضاً أن الذرة إذا استحالت نشأ هذا عن تفكك النواة نفسها، وليس نتيجة لفقد بعض الإلكترونات الخارجية الموجودة في الفراغ حول النواة، أي أن المقدار الهائل من الطاقة المنبعث من المواد الرديومية يتأتى من داخل النواة.

التشعيث الصناعي:

ولما كانت المواد الرديومية مثل اليورانيوم والراديوم تتفكك باستمرار بالمصادفة كان من الجائز الفرض إمكان تفكيكها صناعياً، وقد بدأ رثرفورد في تحقيق هذا.

حضر في هذا الوقت من كوبنهاجن أخصائي هولندي في علم الطبيعة حديث السن اسمه (نيل بور) للبحث مع رثرفورد في مدينة منشستر، وقد كان أن وضع بور قبل مقدمه تفسيرات للكثير من الخواص المعروفة للذرات، أساسها أنموذج رثرفورد للذرة والنظرية الكمية للطاقة التي وضعها ماكس بلانك، وقد أمكن باستخدام (النظرية الكمية للذرة) التي وضعها بور تفسير عدد كبير من الحقائق الطبيعية في التحليل الطيفي تفسيراً صحيحاً شاملاً، وكذلك تفسير وجود (جدول مندليف) للعناصر.

استمر رثرفورد إبان سني الحرب (1914 - 1918) في محاولة شطر الذرة وتجزئتها صناعياً، وتوصل إلى أول نتيجة أثبت بها نجاحه قبل انتهاء الحرب، وبعد انتهاء الحرب مباشرة في عام 1919 توصل وهو في كامبردج إلى برهان قطعي في إمكان شطر ذرات الهيدروجين والألومنيوم، وقد توصل إلى ذلك بتصادم تلك الذرات بدقيقات مندفعة من مواد رديومية.

وقد كان من الطبيعي البحث في إمكان استخدام تلك الطريقة في شطر الذرة بطرق

ص: 27

ميكانيكية، وقد تحقق هذا بتصميم زميله المهندس الكهربائي (كوك كروفت) لجهاز استخدم فيه ذرات الهيدروجين التي حصل عليها صناعياً في تفريغ كهربائي، والتي زيدت سرعتها زيادة كبيرة باستخدام مجال كهربائي لتحطيم ذرات عنصر متوازن آخر وهو عنصر (الليثيوم). وقد وجد أن ذرات هذا العنصر تتحطم، وأن الطاقة المنبعثة هائلة جداً بالنسبة إلى تفاعل صغير جداً مثل تحطيم نواة واحدة، ولما كانت التفاعلات النووية قليلة في نفس الوقت كانت كمية الطاقة المنبعثة نتيجة للتفاعل صغيرة جداً بالنسبة لمقدار الطاقة الكلي وهناك ثلاثة عوامل ساعدت على الوصول إلى هذه النتيجة وهي: أن الدقيقات المصادمة شحنت بشحنة موجبة التكهرب، أي مثل شحنة النواة المطلوب التصادم معها، وإن الدقيقات ذات الطاقة العالية جداً هي التي تتحمل التنافر الناتج، وإن حجم النواة صغير جداً جداً بالنسبة إلى حجم الذرة؛ وأخيراً إن التفاعل لا يتولد ذاتياً.

النيوترون:

وفي الوقت الذي كان كوك كروفت يجري فيه بحوثه كان زميله (جيمس شادويك) يبحث في الطرق التي يمكن بها شرح النقط الدقيقة المرتبطة بشطر الذرات صناعياً، وذلك باستخدام مواد رديومية طبيعية. ففي الفترة الأولى من عام 1932 عقب بحوث أجراها (بوذ، بيكر، جوليو) بين شادويك وجود دقيقة أخرى. شحنتها الكهربائية متعادلة. لها نفس الكتلة في النواة كذرة الهيدروجين، ولكنها تختلف عن تلك النواة وذلك في أن ليس لها أي شحنة كهربائية. فكان من المنتظر حينئذ أن يكون لتلك الدقيقة الجديدة التي سميت (بالنيوترون) قوة اختراق (أي نفوذ) هائلة. فإذا تصادم النيوترون بذرة ما لا ينجذب نحو الإلكترونات السالبة التكهرب التي تحوط الذرة، كما أنه لا يتنافر مع نواة تلك الذرة الموجبة التكهرب. أو بعبارة أخرى يكون من السهل نسبياً للنيوترون أن يؤثر على الذرة التي يتصادم معها فيحدث تحطيمها. وخلاصة القول أن العلم قد كشف عن طريقة جديدة قوية جداً لتحطيم نواة الذرة، بل كشف عن طريقتين لتحطيم هذه النواة في بحر أسابيع قليلة

البقية في العدد القادم

ص: 28

عن النشرة العلمية الإنجليزية

ص: 29

‌كتب قرأتها:

الأدب الشعبي اللبناني

للأستاذ حبيب الزحلاوي

يطيب للنفس في بعض الأحايين أن تنضو ما عليها من أردية مستعارة لتنعم بساعة من وجودها النقي الأول، كما يحلو للذهن أن ينحى عنه شواغله وينفلت من قيوده ليغتبط ببرهة من هدوء تعود به إلى عهد البراءة الخالصة يوم كان خلياً من متاعب الحياة.

ألم نلتفت مرة إلى أنفسنا وقد لقيناها تعود من سبحات لا هي يقظات واعية ولا هي هجعات غافية نجد في غضونها الراحة والهناءة؟

ألم نر رجلاً من ذوي العقول الراجحة والاتزان الصحيح يطمئن إلى صحبة من هو دونه بمراحل استجماماً لذهنه وترفيهاً عن نفسه؟

أليس الأدب الشعبي عوداً على بدء الفطرة للتعبير عن المشاعر والغرائز بلغة البداهة الساذجة؟

لعلي بهذه المقدمة أستطيع أن أغري القارئ بعودة ذهنية إلى خميلة من خمائل الطبيعة الفطرية نكشف بها عن ناحية من جمال أدب شعبي لشاعر لبناني من زحلة يدعى أميل مبارك قصر أغانيه على الضيعة.

للضيعة اللبنانية طابع خاص يختلف عن طوابع القرى في أغلب الأقطار والأمصار، كما أن للريف اللبناني ميزة تميزه من بقية الأرياف، فلا غرو إذا خصه شاعر بأغانيه ووقف على وصفه ديوانه (أغاني الضيعة).

يمتاز الأدب الشعبي اللبناني بخلال طبيعية ومزايا اجتماعية، وأوصاف محلية قل أن تتوافر لأدب شرقي سواه.

يمتاز بالحنين وإثارة الوجدان، لأن أكثر من نصف أهالي لبنان يعيشون في مهاجرهم النائية عن الوطن، ولأن هاتيك المهاجر لم تقو ولن تقوى على أقلمة اللبنانيين ومزجهم بها في الروح والشعور والخلق.

ويمتاز أيضاً بالبقاء لسهولة حفظه وعذوبته في الإنشاد الجماعي، واشتراك المرأة في تذوقه، ولجمعه بين الوجدان والعاطفة ولطابعه الدال على كيانه اللبناني الفريد، وعلى

ص: 30

الحرص على إبراز هذا الكيان في المهجر.

ويمتاز أخيراً بالنقاء من شوائب اللهجات والتعبيرات المجاورة للحدود اللبنانية، بمحافظته على المفردات العامية والاصطلاحات التي تتقارب قليلاً، ولا تتباعد كثيراً بين قرية وقرية سواء أكانت في الجنوب أم في الشمال، بصوره المنقولة نقلاً حسياً عن جمال طبيعي من صنع المجهول لجبال وأودية وينابيع وغدران وأشجار وأثمار وأطيار ندر وجود ما يضارعها في فتنتها الساحرة وجمالها الأخاذ في أنحاء هذه الكرة الأرضية، وفي رسم عادات أهل الضيعة، وطبائعهم وسذاجتهم وبساطتهم في حياتهم القريبة من البدائية.

مشتاقْ أرجعْ للضيعة

مشتاق كتير

إتعمشقلي بشي تينه

وصيد عصافير

عنت عَ بالي الضيعة

وياما مشتاق

عبِّي السلة بكوعي

وحوِّش جرجير

قد يجد غير اللبناني بعض الصعوبة في فهم الكلمات لارتباطها بحروف أو لإدغامها في حروف أخرى، ولكن بيسير من إعمال الفكر تدنو المعاني من الإفهام، لأن الكلمات ليست بدخيلة على اللغة ولا هي ببعيدة عن أصول آدابها.

نحن نرى أن البيت الأول واضح كل الوضوح لكل قارئ أما البيت الثاني فقد استعمل الشاعر كلمة (تعمشق) بمعنى (تسلق) وفي البيت الثالث كلمة (ع بالي) المحذوفة منها بعض الحروف بمعنى (على بالي).

مشتاق ارجع عالضيعه

شوفْ رفاقي

واسرحْ بمروج الخُضرةُ

وجو الناقي

واسمع دجاجات ستي

عمبِتقَاقي

ورافق جدي وبقراتو

واحّملوا النير

يجب أن نلاحظ أن أكثر أهالي لبنان يلفظون القاف بصحيح مخارجها، بعكس الكثيرين من أهالي مصر والشام يلفظونها همزة، أما أهالي حلب فيلفظونها (آف) مفخمة.

كِنتْ صغير، وصرت كبير

برمت قطار المسكوني

غني عشت، وعشت فقير

وشفت كتير بزماني

ص: 31

وما عا بالي بيعنّ

غير البيت الرباني

بهذه الكلمات الموجزة البسيطة يعبر الشاعر عن خلجات صدر كل لبناني كان في الأصل صغيراً يوم ترك قريته في طلب الرزق، ثم صار كبيراً وقد جاب أقطار الأرض، وعاش فقيراً ثم غنياً، ورأى الكثير من دهره، ولم يبق ثمة من شيء يخطر بباله سوى البيت الذي نشأ فيه، ودرج منه، ليعود إليه، ولو يدب إليه دبيباً.

مَحْلا الضيعة والرزقات

والراعي وصوت العنزات

ومحلا خرير الشلالات

تحت سلاح السندياني

يا هل ترى بَرْجع بعد

بَسْكن بيت الرباني؟

محلا الضيعة محلاها

محلا مناخا وهواها

كيف ما بدِّي أهواها

يلاّ الهجر كفاني

راجع يا بيتي مشتاق

بَهْواك وأنت بتهواني

يقام حتى هذه الساعة، أسواق للأدب الشعبي تعقد حلقاتها في الساحات العمومية، يؤمها الناس من الجنسين من كل حدب وصوب يستمعون مباراة الزجالين ويشتركون معهم في الهزيج والإنشاد. وتمتاز هذه الاجتماعات العامة بميزة الارتجال التي لا أحمدها كثيراً لاضطرار مرتجليها إلى الارتكان على الذكاء وحده دون الروية والتبصر. وقد حدثونا عن إحدى هذه الحلقات وقد حضرها الدكتور طه حسين بك فقال الزجال مرتجلاً

وحياتك يا طه حسين

مِنْي عاوز التِّنْتين

عين الواحدة تكفيني

خد لك عين وخلي عين

أما الزجال أميل مبارك صاحب ديوان (أغاني الضيعة) فهو نسيج وحده، لا يحتذي سواه من الزجالين، بل ينظم القصيدة في شهر أو في شهور، وما يزال بها نحتاً وصقلاً، تارة في تنحية الكلمات الذاهبة في الأدب مذهب المثل، وتارة في استبعاد الكلمات العامية التي صارت شبه منسية أو هي في حكم المندثرة الحوشية، حتى يبلغ الغاية من الرضى عنها. ويكفيه أن ينشدها مرة واحدة حتى تتلقفها الآذان، وتتداولها ألسنة الناس إنشاداً، وينقلها البريد إلى كل صوب يأوي إليه لبناني في بقاع الأرض

اشتقت لزقزقة العصفور

ولريحة هوا بلادي

ص: 32

بدي أرجع لمّ زهور

عن حفة نهر الوادي

ربينا سنين وربينا شهور

بالوادي بين الصخور

ربينا وكان يجي العصفور

يشاركنا عَ الزوادي

كم لمشاركة العصفور على الزاد من سحر روحي جذاب قد لا يستعذبه سوى أليف الضيعة والمرهف الحس!

لا يشغل الغزل حيزاً واسعاً في ديوان (أغاني الضيعة) المتواضع، فكأن الحنين إلى المكان ألهى ناظمه عن السكان، وكأن حرصه على ذكر الدالية بعناقيدها، والتينة بما على فروعها من أعشاش، والعليق المتشابك عند الغدير، وتشوقه إلى قطف (كبوشه) أي عناقيده المزة الطعم، والصفصافة المنحنية الأغصان، والالتفاتات الكثيرة إلى ما جل ودق في طبيعة أشياء وأشخاص الضيعة من جرود وسهول وجبال إلى البقرة والعنزة والدجاجة، أنساه عنصر الحياة الأول، عنصر المرأة، وهي سر الغريزة الحقيقي، لا نسياناً كلياً، ولكنه توسل به توسلاً عرضياً فجاء وكأنه يستغني بالتلميح عن التصريح.

لما شافتني تنهدت بدون حَكِي

ورغرغت بالدمع قصدا تشتكي

واحمر ورد خدودها وبكيت خجل

ومن غصّتي ما قدرت قلها شو بِكي

لنلاحظ أن النظرة هي التي عطلت لغة الكلام، وأن الخجل هو الذي أحنى الرأس، وأن الغصة اشتركت مع النظرة في تعطيل اللسان فخفق القلب.

ضميت واقف وهي كمان وقفت معي

رحنا ما قلنا رْجاع ولا ارجعي

وتنينا بها الوقت كنا بلا وعي

عرفنا شو حكيو قلوبنا من التكتكي

فهذه الصورة على ما فيها من بساطة التصوير الرائع لاضطرابات النفس وخلجات الوجدان ونبضات الغرائز تماثل الصورة التالية وهي أكثر إمعاناً في سذاجتها وأدق في براءتها.

قديش كنا نروح ع دْروب الهوا

وكبوش شِنْا محببي نقطف سوى

وكل ما حكينا ينقِّزنا الهوى

قديش كنا نخاف لمح خيالنا

قديش كنا نروح نلعب بالحقول

ونفرفط الزعرور ونفز الجلول

وقديش كان بَيَّك لبييِّ يقول

بعدو ولدْ لا تضربوا كرما لنا

ص: 33

كم من مرة ذهبنا إلى الحقول وتخطينا الحواجز لنفرط الزعرور؟ وكم كان يقول أبوك لأبي دع ولدك إكراماً لي ولا تضربه لأنه لم يدرك بعد.

لناظم ديوان (أغاني الضيعة) ميول بينة إلى تسجيل كل ما يحيط بحياة القرية اللبنانية من ظواهر جوية وتغييرات مردها إلى تبدل فصول السنة وهي جد مضبوطة في ربوعه يعرفها قطانة باليوم الواحد يعدون لها العدة، ويرى طوالع الشتاء في فصل الخريف. . .

تجمعوا النحلات ورجعوا للقفير. . . . . . . . . . . . . . . . . .

والشمس بردوا حبالها، وناص القمر

والميْ شحت ما بقى لها خرير

بردت أشعة الشمس وقل ضوء القمر، وشحت المياه وقلت، وعاد النحل إلى قفاره لأن البرية تتعرى في الخريف.

ويستقبل الشتاء بابتسامة المتأهب:

محلا الشتا ومحلا البرد

لو عندك موني تكفاك

وندف الثلج وطق الشرد

والقعدة حدّ الشباك

ومحلا الهوا بقلب الغاب

ومحلا الكبوة حد النار

والرعد وطرق المزراب

وهو يتشوق إلى نسيم الصيف من خلال زهور الحقل في فصل الربيع.

رجع عالعش العصفور

عا لحقلَهْ طار الفرفور

المرجة فرشت أرضا زهور

تانيّم قمر نيسان

وبتشوف الندى بنيسان

عا مدَى السهل وطولو

بتحسِّب فوق الريحان

الدنيا مشتَّابي لولو

على مدى السهل، ترى الندى فوق الريحان في شهر نيسان كأنه اللؤلؤ أمطرته السماء.

يعلم الشاعر مبارك أن عدد القاطنين جبال لبنان اليوم يساوي عدد المهاجرين المتناثرين في أميركا الجنوبية والشمالية وفي المستعمرات البريطانية وسواها، ويعلم أيضاً أن لا سبيل ألبته إلى عودتهم إلى قراهم إلا بالتحبيب والتشويق والتذكير، ولم يتوسل بالموازنة بين مدن يسكنونها وهي عامرة، وبين مساقط رؤوسهم وهي شبه مقفرة، ولا بالمقارنة بين عواصم نزلوا بها وبين مباءات طفولتهم ومعقد ذكرياتهم، بل ابتكر طريقة حوار وسؤال

ص: 34

بين لبناني مقيم وبين لبناني مهاجر:

بتسألني شو في عندك

بالضيعة، تنّك مهم

عندي أحسن ما عندك

عندي بَسْطٌ وعندك هم

عندي البيت الرباني

والمعبور ودروب الكرم

عندي قدحة وصوّانة

والضبوة وتتنات الغرم

عندي البيت الذي ربيت فيه، وعندي الطريق الموصل إلى كروم العنب والتين، وعندي أيضاً عدة التدخين عامرة بالتبغ وقداحة الشرارة.

في عندي القعدة بكِّير

تحت صنوبر ضيعتنا

وترويقه قُرَّه وجرجير

بتسوي العيشة وغربتنا

عندي أن الجلوس في الصبح الباكر تحت ظلال الصنوبر وتناول طعام الفطور من الجرجير والقرة وهي من فصيلة الجرجير إلا أنها حريفة يساوي حياة بأكملها نقضيها في الاغتراب.

يا ما عبينا السلة

تين أسود من تينتنا

يا ما لعبنا عالتلة

نِحْنا وبنات جارتنا

كم ملأنا السلة من التين، وكم لعبنا على الربوة مع البنات ويعود أيضاً فينطق اللبناني المهاجر فيصور خلجات صدره وأمنيات نفسه ويقول:

بعد بيفتح درب البحر

ولبنان بشوفلو صوره

تخمين برجع للرزقات

ويعيش عيشة مستوره

وبرجع بفني فراقيات

عا عنات الناعورة

ترى يسهل ركوب البحر فأعود أرى لبنان مرة ثانية؟ ترى أعود إلى بيتي وكرمي اكتفي بالعيش الهنيء؟ أتراني أعود أخيراً إلى ضيعتي أسمع صرير الساقية فأتخذ منه لحناً للغناء والتذكر بالأحباب المفارقين وطنهم؟

هيهات!! تلك أمان تختلج في فؤاد المهاجر، ولكن مغالبة الحياة، وزحمة العمل، والتقيد بروابط الزواج والنسل تهدئ حركة تلك الخلجات، وتخفف من اضطراباتها. أما وما برحت أبواب الهجرة مفتوحة للبنانيين، وما دامت المدينة اللبنانية تجذب أبناء الضياع إلى

ص: 35

حواضرها لتلفظهم من جديد إلى ميادين رحبة في طلب الرزق، فإن الزجال اللبناني سيجد المعين الغزير الذي يبعث فيه روح الحنين والشوق فينشد القصائد الحية كما أنشدها أميل مبارك في (أغاني الضيعة).

حبيب الزحلاوي

ص: 36

‌8 - الزندقة في عهد المهدي العباسي

أصولها الفارسية

للأستاذ محمد خليفة التونسي

(بقية الكلام في مذهب زرادشت وكتابه: الثنوية: مرقيون وابن

ديصان)

يروي الراغب الأصفهاني أن (زرادشت شرع زواج الأمهات) كما يروي القلقشندي أن المجوس (يستبيحون فروج المحارم من البنات والأمهات، ويرون جواز الجمع بين الأختين) كما يروي الجاحظ في أخباره في الحمقى أن ابن عوانة الكلبي قال: (استعمل معاوية رجلاً من كلب فذكر يوماً المجوس وعنده الناس، فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم! والله لو أعطيت مائة ألف درهم ما نكحت أمي! فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله! أترونه لو زاده على مائة ألف فعل! فعزله) وقال اليعقوبي عند كلامه في الفرس: إنها (تنكح الأمهات والبنات، وتذهب إلى أنها صلة لهن وبربهن وتقرب إلى الله فيهن، وينسب عبد القاهر البغدادي إلى المجوس هذه الأنواع وغيرها من الزواج كزواج بنات البنات وبنات البنين وقد ظلت ضروب الزواج هذه شائعة بين المجوس وغيرهم من الطوائف الأخرى حتى بعد فتح المسلمين فارس وظل المسلمون يعيبونهم بها، وينكرونها عليهم، وليس من همنا هنا أن نبين رأينا في هذه الأنواع بل نرجئه إلى الكلام في أثرها عند الزنادقة، وحسبنا أن نبين أن العرب قد عرفوا في جاهليتهم بعض هذه الأنواع وكانوا يستبيحونها ولا ينكرونها حتى جاء الإسلام فأنكرها عليهم وعلى غيرهم وحدد من يحل للإنسان أن يتزوجهن ومن يحرم عليه الزواج منهن.

عرف العرب في الجاهلية زواج الأم كما حكي عنهم المؤرخ اليوناني استرابو، وعرفوا زواج امرأة الأب فقد تزوج الصحابي الجليل عمرو بن معد يكرب الزبيدي امرأة أبيه في الجاهلية، ولم يكن راضياً عنها كما تزوجت باهلة أم القبيلة المعروفة بهذا الاسم زوجها معناً أبا قبيلة باهلة ثم تزوجت بعده ابنه، بل عرف العرب من ضروب الزواج ما يسمى نكاح الضمد وهو - كما جاء في السيرة الحلبية - أن تجتمع جماعة دون العشرة ويتزوجوا

ص: 37

امرأة واحدة ولذلك كله أسبابه الاجتماعية مما لا يعنينا هنا الخوض فيه، ويكفي أن نبين أنه من التعنت واللغو النظر إلى أنواع الزواج التي كانت تجري عند المجوس بالعين التي ننظر إليها بها لو أنها وقعت الآن، فقد تحولت أسبابها الاجتماعية، وصرنا الآن ننكرها ونعدها فاحشة ومقتاً، ونرجح أن زرادشت لا يسأل وحده عن هذه الأنواع من الزواج، فهو كما نرجح لم يشرعها، وكل ما عمل أن أقرها فبقيت سارية بين المجوس، وكان لها أثرها عند الزنادقة قبل عهد المهدي العباسي وأثناءه وبعده، فقد زاولها بعض الزنادقة في عهده على ما سنبينه إن شاء الله.

وقال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) ما نصه: (ومما أخبر به زرادشت في زندوستا، قال: سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه أشيزريكا ومعناها الرجل العالم بالدين والعدل، ثم يظهر في زمانه بلياره فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على أهل العالم ويحيي العدل ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأولى، وينقاد له الملوك وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن).

ونحن لا نعدم ملامح أشيزريكا هذه في كل المنقذين كما تصورتهم الفرق الفارسية والإسلامية التي آمنت بهم وانتظرتهم، وهذه الملامح تتضح لنا في المهدي الذي آمن به الشيعة العلويون على اختلاف طوائفهم ولا يزال باقياً فيهم حتى الآن وهو ركن من أركان مذهبهم، كما تتضح ملامحه في المهدي الذي اخترعه العباسيون وآمنوا به، ونحن نرجح - وسنبين الأسباب - أن أبا جعفر المنصور إنما سمى ابنه محمداً - المهدي حين رأى الشيعة العلويين ينادون بالمهدي منهم، واخترع أولئك وهؤلاء الأحاديث في المهدي ليشدوا بها أزرهم، كما اخترع الأمويون منقذاً سموه السفياني يعيد إليهم مجدهم وكان ذلك في أول عهد الأمويين حين وقع الخلاف بين أفراد البيت الأموي فنهد لهم شياطين الشيعة فلم يكذبوا بالسفياني بل صدقوا به. غير أنهم نحلوا النبي عليه السلام من الأحاديث ما يدل على أن السفياني بعد ظهوره وذيوع أمره وسلطانه وجوره في الناس سيأتي له المهدي من آل البيت فيقتله ويملأ الأرض عدلاً وأمناً كما ملأها السفياني جوراً وخوفاً فأسندوا بذلك إلى السفياني مهمة بلياره الفارسي وإلى مهديهم مهمة أشيزريكا، وفي ذلك ما فيه من الإشارة إلى قيام

ص: 38

الدولة العباسية بعد الأموية، وللزنادقة مهديوهم المنتظرون كلما ساءت الأحوال واحتاج الأمر إلى مخلص، فمنهم ماني ومزدك وأبو مسلم الخراساني والمقنع صاحب الزنادقة المبيضة وعبد القهار صاحب المحمرة في عهد المهدي العباسي، ومنهم بعده بابك الخرمي صاحب الفتنة التي وقفت الخلافة عاجزة عن إطفائها نحو عشرين سنة. . . وقد كان لفكرة المنقذ أثر كبير في الزنادقة، وإن كان هذا الأثر فيما نرجح يرجع أكثر ما يرجع إلى إيحائه في النفوس كلما تعقدت الأمور الاجتماعية واحتاج الحال إلى منقذ. فأثر هذا الإيحاء أكثر من أثر الاطلاع على ما كتب زرادشت وغيره.

قدمنا أن زرادشت خلف مذهباً وكتاباً.

فأما المذهب فقد تحدثنا بما يهمنا منه فيما سبق بقدر ما يسع المقام، وقد اتضح لنا من بيان ما بينا منه أن زرادشت كان فيلسوفاً ومصلحاً ومشرعاً ولم يكن نبياً ولا متنبئاً ولا صاحب دين كما نفهم من معنى الدين بالرغم من أن مذهبه يحتوي على بعض الشعائر والآراء التي تحسب من الدين، فليس المقصود بتلك الآراء في الكون إلا أن تكون أساساً للآراء الفلسفية والتشريعات الإصلاحية التي هي عماد المذهب وأهم ما فيه، كما أن تلك الشعائر القليلة لم يقصد بها التعبد المحض بل الرياضة النفسية ومثلها في ذلك مثل نظيرتها في الفلسفة البوذية والبرهمية في الهند والكنفشيوسية في الصين، بدليل تفضيل زرادشت العمل في الحياة على الصلاة والصوم والأدعية والقرابين، فعنده أن من يصلح الأرض ويبذر فيها الحب ويرويها أفضل ممن يقرب ألف قربان ومن يصلي عشرة آلاف صلاة وممن يدعو عشرة آلاف دعاء، بل إنه حرم الصوم لأنه يضعف الإنسان.

وأما الكتاب الذي جاء به زرادشت فهو أفستا ويظهر أن هذا الكتاب كان يحتوي على آراء غامضة رفيعة لا قبل للعقول العادية حينذاك بفهمها وقبولها بدليل عجز الكثير منهم عن ذلك مما جعلهم يحيطونه بكثير من الخرافات، وبدليل ما أدى إليه غموضه عند الكثير من اضطرار زرادشت إلى شرحه بكتاب يسمى (زندافستا - ثم إلى شرحه الشرح بكتاب سماه (بازند) ثم إلى شرح علمائهم هذا الشرح بكتاب سموه يازده، وبدليل ثالث هو منع كيستاسب تعليمه العامة، وقد قدمنا الكلام في هذا التحريم وسداد رأى كيستاسب فيه، ولم يكن لزرادشت في هذا الكتاب الأفضل تقييد ما ارتضى هو وحكماء الفرس من آراء بعد

ص: 39

الاستطلاع والمشاورة كما قدمنا في بيان مذهبه، ومن أجل ذلك نحن في غنى عن الخلاف الذي أشار الشهرستاني والمسعودى والقلقشندي فيما إذا كان هذا الكتاب من تصنيف زرادشت أم هو وحي نزل عليه من السماء، وقد كان لهذا الكتاب أثره في نشأة الزندقة واشتقاق لفظها نرجئ بيانه إلى موضعه من هذا البحث حيث الكلام في المانوية لأنه بهم أمس ولبيان مذهبهم ألزم، ونشير هنا إلى أن كيستاسب الملك صان هذا الكتاب في هيكل باصطخر ووكل به الهرابذة بعد كتابته بالذهب على جلود البقر ومن أجل ذلك سمي ذلك المكان (دزنبشت) أي حصن الكتاب و (كوه نبشت) أي جبل الكتاب، وهناك بناء فخم على هيئة برج ما يزال إلى اليوم يعرف بكعبة زرادشت في أطلال مدينة اصطخر عاصمة الفرس أيام الدولة الساسانية وهي بالقرب من مدينة برسبوليس عاصمتهم أيام الدولة الكيانية.

سادت الزرادشتية البلاد الفارسية ودان بها الملوك والعامة منذ ظهر زرادشت، فقد بذل كيستاسب جهداً جباراً لحمل الناس عليها وتعرض من أجلها لثورة من أحد عماله وفقد فيها ابنه وكادت تدك ملكه لولا أن أسعفه الحظ بموت غريمه، وقد بذل الملوك بعده جهدهم حتى استأثرت الزرادشتية بفارس وبقيت متسلطة عليها حتى كانت موقعة أربل بين الإسكندر الأكبر ودارا الثالث سنة 331 ق. م وانهزم دارا فضاع استقلال فارس وانهارت الوحدة الفارسية، وعم الاضطراب البلاد طوال حكم ملوك الطوائف الذين حكموا البلاد متفرقين أكثر من خمسة قرون ونصف قرن بدأت عقب هزيمة دارا آخر ملوك الكيانية سنة 331 ٌق. م وانتهت بقيام أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الساسانية سنة 226 موران عليها طول تلك المدة الانحلال العقلي والخلقي والسياسي، وكان لذلك كله أثره في ضعف الزرادشتية، ويقال إن الإسكندر أحرق كثيراً من كتب الفرس العلمية وفيها جزء كبير من كتاب زرادشت وأحرق وهدم كثيراً من الآثار الفارسية المكتوبة على الخشب والمباني ونقل كثيراً منها إلى مصر وبلاد اليونان وكان قد أمر بترجمة بعض ما وجد من كتب فلما ترجمه أحرق أصوله، فلما قام أردشير ابن بابك سنة 226 مووحد البلاد الفارسية وحاول ما استطاع أن يجمع ما تفرق من هذه الذخائر وبعث في طلبها الرسل إلى الهند والصين ومصر وبلاد الروم، وجعلها أساس النهضة العلمية في فارس، كما جمع ما استطاع من

ص: 40

كتب الزرادشتية واعتنقها وعمل بها فأرجع لها بعض سلطانها الذي فقدته أثناء ملوك الطوائف.

كان ضياع جزء من كتاب زرادشت إبان الفتح المقدوني مما أوهن الزرادشتية أيام ملوك الطوائف وهيأ لقوم الإتيان بآراء ومذاهب جديدة لم يأت بها زرادشت وحكماؤه، كما هيأ الفرصة لإحياء كثير من الخرافات والعقائد القديمة التي هي أدنى إلى عقول العامة من الصفوة التي اختارتها الزرادشتية، لكن ذلك لم يمحها ويستأصلها، فقد بقيت حية في فارس أثناء حكم ملوك الطوائف على ضعف واستحياء، فلما جاء بنو ساسان أنهضوها وشدوا سلطانها وجعلوها دينهم الرسمي، وظلت قائمة حتى بعد فتح المسلمين فارس، وكانت قد تسللت في الجاهلية إلى البلاد العربية ودانت بها بعض قبائلها النازلة على حدود فارس، وآمن بها بعض الصحابة قبل إسلامهم، وكان يدين بها كثير من الفرس في العصر الإسلامي عن رضا من المسلمين عندما سنوا بهم سنة أهل الكتاب كما بينا في مقال سابق فتركوهم عليها واكتفوا منهم بالجزية، وكان مما أيدها أن فرض المسلمون الجزية على من أسلم ومن بقي على عقيدته على السواء في أكثر سني الحكم الأموي والعباسي، وقد اصطنع المسلمون كثيراً من أهلها في الأعمال التي يجهلها الحكام المسلمون كأعمال الدواوين، بل كان لأهلها ضلع في انتصار العباسيين على الأمويين، ودارت بينهم وبين المسلمين مجادلات في العهدين معاً، وتبادلوا في ذلك كتب الجدل، وكانت لهم أياد على كثير من العلوم المحدثة في الإسلام إلى وقت متأخر، ويقول الأستاذ لينجوبرث (إن القصص التي يستطاع إرجاعها إلى أفستا بقيت معروفة في زرنكة حتى زمن الفردوسي سنة 1000 م) وكان لهذه القصص فضل على الفردوسي إذ كانت بعض مادته تأليف الشاهنامه، وقد انتشرت الزرادشتية حتى فيما وراء بلاد فارس كالصغد وبلاد الترك قديماً فيما وراء النهر في العصر الإسلامي فقد امتدت إلى هذه البلاد في القرن التاسع الميلادي، وكانت في الهند في القرن الرابع عشر الميلادي وأهلها يسمون هناك الإكنواطرية، بل لقد نشرها هؤلاء الهنود وإخوانهم من الفرس فيما حول باكو في القرن الثامن عشر، وهم لا يزالون إلى الآن بالهند ويسمون الفرسيين، وكان أولهم قد هاجروا إليها من فارس عندما فتحها المسلمون ولم يضعف شأن الزرادشتية - إلى ما قدمنا - إلا مرقيون وابن ديصان

ص: 41

وماني.

محمد خليفة التونسي

ص: 42

‌نقل الأديب

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

761 -

فإن شهدت عليه بالمعصية فاشهد له بالطاعة

الفصول والغايات لأبي العلاء المعري:

اعلم - أيها المسكين - أن الأيام شهود لك وعليك، فإن تمالأت على تزكيتك فأنت السعيد، وإن توافقت على تكفيرك فأنت حامل العبء الثقيل، وإن جرح بعضها شهادة بعض فإن الله كريم. أيها اليوم الحاضر، إن أمس ذهب وأنت أقرب الأيام إليه، وقد حمل عني كتاباً يشتمل على الغفلة والتفريط، فدراكه دراك، إن فاتك فأنا أحد الهالكين. وإن عجزت أن تلحقه فإن الغد أعجز منك. وكيف تدركه وغداتك لا ترى ضحاك، وأصيلك لا يتفق مع الهجير، والله على الممتنعات مقيت. فناد في أثره عليه بإذن الله يسمع دعاء الداعين، فإن أجابك فقل: إن البائس فلانا يسألك أن تلقي الصحيفة من يدك. ولو نطق لحلف لا أستطيع، أنا أمين عالم الدفين، ولو فعلت لرهبت من المعصية كما تخاف، ولكن أنا وأنت عند الله كفرسي رهان، فإذا شهدت عليه بالمعصية فاشهد له بالطاعة.

762 -

بعد فهمهم وتأخر معرفتهم

كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري:

قد رأينا الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطاً. فمما خاطب به أهل مكة قوله سبحانه (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب) وقوله تعالى: (إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) وقوله تعالى: (أو ألقى السمع وهو شهيد) في أشباه لهذا كثيرة. وقلما تجد قصة لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحة ومكررة في مواضع معادة لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم.

763 -

إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال

كان أبو بكر الباقلاني (العالم المتكلم المشهور) كثير التطويل في المناظرة مشهوراً بذلك

ص: 43

عند الجماعة، وجرى يوماً بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، فأكثر القاضي أبو بكر الكلام ووسع العبارة وزاد في الإسهاب ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا علي، إنه إن أعاد ما قلت لا غير لم أطالبه بالجواب.

فقال الهاروني: اشهدوا علي، إنه إن أعاد كلام نفسه، سلمت له ما قال.

764 -

الحياء، الخجل، الوقاحة

(الذريعة) للراغب: الحياء انقباض النفس عن القبائح، وهو من خصائص الإنسان. والخجل حيرة النفس لفرط الحياء، ويحمد في النساء والصبيان، ويذم باتفاق من الرجال. والوقاحة مذمومة بكل إنسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية، وحقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح، واشتقاقها من حافر وقاح أي صلب، وبهذه المناسبة قال الشاعر:

يا ليت لي من جلد وجهك رقعة

فأقد منها حافراً للأشهب

765 -

اسمه غازي

(وفيات الأعيان):

كان أبو الفتح غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ملكاً مهيباً عالي الهمة حسن التدبير والسياسة.

يحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة، منها أنه جلس يوماً لعرض العسكر وديوان الجيش بين يديه، وكان كلما حضر أحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه لينزلوه حتى حضر واحد فسأله عن اسمه فقبل الأرض، فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعادوا إلى سؤاله فقال الملك: اسمه غازي، وكان كذلك؛ وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان موافقاً لاسم السلطان، وعرف هو مقصودة.

766 -

وجه المليح أطل من شباك

قال القاضي محيي الدين بن قرناص:

وحديقة غناء ينتظم الندى

بفروعها كالدر في الأسلاك

والبدر في خلل الغصون كأنه

وجه المليح أطل من شباك

767 -

ليس هذا من سؤال القضاة

ص: 44

في (نفح الطيب):

خرج أبو حازم القاضي من داره إلى المسجد يريد الصلاة، وإذا بسكران يمشي في الشارع فقال الناس: سكران سكران!

فوقف القاضي وقال هاتوه فأدنوه منه.

فقال له القاضي: من ربك؟ (يريد امتحانه)

فقال له السكران: ليس هذا من سؤال القضاة (أصلحك الله) إنه من سؤال منكر ونكير.

فغلب القاضي الضحك وقال: خلوا سبيله.

768 -

عواد المرضى

عاد رجل مريضاً فقال له ما تشتكي؟ قال: وجع الخاصرة. قال والله كانت علة أبي فمات منها، فعليك بالوصية يا أخي. فدعا المريض ولده وقال يا بني أوصيك بهذا لا تدعه يدخل علي بعد هذه.

عاد رجل مريضاً فلما خرج قال لأهله لا تفعلوا في هذا كما فعلتم في الآخر، مات وما أعلمتموني.

عاد بعضهم مريضاً فلما خرج قال لأهله: أحسن الله عزاءكم! فقالوا إنه لم يمت، قال: قد عرفت، ولكني شيخ كبير لا أستطيع النهوض في كل وقت، وأخاف أن يموت فأعجز عن المجيء لأعزيكم به.

دخل قوم على مريض فأطالوا. ثم قالوا: أوصنا. فقال: أوصيكم ألا تطيلوا الجلوس عند المريض إذا عدتموه.

ص: 45

‌رثاء نسيب عريضة

هكذا حدث. . .!

للدكتور أحمد زكي أبو شادي

(ألقى في الحفلة التذكارية للشاعر الكبير المرحوم نسيب عريضة لمناسبة صدور ديوانه اليتيم (الأرواح الحائرة) ومرور أربعين يوماً على وفاته. وقد أقامت الحفلة لجنة أدباء الجالية السورية (والرابطة القلمية) في نزل تاورز في بروكلن بمدينة نيويورك مساء الأربعاء 15 مايو سنة 1946، وكانت الحفلة برعاية سعادة الدكتور قسطنطين زريق القائم بأعمال المفوضية السورية في واشنطن)

ما كان عمرك موهوباً لإنسان

ولا لإحساس هذا العالم الفاني

ولا لأرض وأوطان حننت لها

فالعبقرية لم تخلق لأوطان

والشاعرية لم تُقصَر منازلها

على الحياة ولو من رسم فنان

بل كان عمرك آيات هتفت بها

ولم تفسر بإنجيل وقرآن

ولم تكيف بأوصاف ننمقها

ولم تقدر بمقياس وميزان

ولم تخصص، فحتى أنت كنت بها

في نشوة بين مشدوه وحيران

ملء الزمان تُناجينا وتُسعدنا

وتحمل النور ميراثاً لأزمان

وتبعث الوحي فينا وهو ينقلنا

إلى عوالمَ من حسن وإحسان

تُشنام بالروح أطيافاً وأخيلة

علوية، وجِناناً دون جنّان

أكُنَّ من صنعك الفتان أم نشأت

عن معجزات سمت عن خَلق إنسان؟

لعل في مقبل الأجيال عارفها

إن فات تعريفُها روحي ووجدان!

يا شاعر الهمسات الساميات بنا

المبدعات لنا قدسيّ ألحان

كأنها صلوات لا حدود لها

يغني الوجود بها من قلبك الحاني

جم التواضع، جم العلم، يسعده

أن لا يميز في مدح وشكران

وليس يبخس إلا نفسه أدباً

كأن أخلاقه أخلاق ديان

وليس يعرف غير الحب منقبة

ويحسب الزهو من أوزار شيطان

يحنو على الشعب في البلوى ويسعفه

ويستثير شعور الغافل الواني

ص: 46

ويرفض الضيم حتى لو أنى ملك

به، وكان رسالاتٍ لأديان

يا حامل العبء في إيقاظ أمته

حملت عبئين بل رزأين في آن

ما بز آثارَك الغراء مبتدع

ولا بنى فوق ما أعليته باني!

تركتُ مصر وقلبي ذائب حرَقاً

وجئت أطفئ لوعاتي ونيراني

وكنت جانبت أطياف الربيع بها

وقلت حسبي بكم جنات (لبنان)

ومذ وفدت رأيت الربع مكتئباً

كأن أحزانه من لون أحزاني

فلا الجمال قرير في مباهجه

ولا النسيب على روض وأفنان

كأن (آذار) عاداه وباعده

وما رأت عينه أفراح (نيسان)

ما للبشاشة قد ماتت بنضرته

وللأزاهر ما هشت لبستاني؟

وللجداول قد غصت بحسرتنا

كأنها لم تكن راحاً لريحان

وللنسيم قتيلاً بعد عاصفة

وللسحائب في رعد وإدجان

وللطيور التي كانت مغردة

تنقر العشب في يأس وإذعان

وللنواطح لم يشمخن في نظري

وللروائع قد خيبن حسباني؟

شاهت جميعاً بعيني بعدما حرمت

لقاء من عشت أهواه ويهواني

جعلت قلبك قرباناً وتقدمة

للناس، والآن ما حبي وقرباني؟

وما رثائيَ مَن آثاره عَمم

وكل بيت له كنز لديوان؟

غنيتَ عن كل صيت من عوالمنا

وعن بكاء وتمجيد وعرفان

وعشت فينا غريباً، فلتعد ألقاً

لموطن الأصل أو للموطن الثاني

فأنت وحدك تدري الآن ما عجزت

عنه مواكب أذهان وأذمان

وحسبنا ذكريات منك عاطرة

وموحيات بأنغام وألوان

وخالدات من الإيمان ناصعة

تهدي العزاء وتسِمى كل إيمان

من مات موت شهيد لم يمت أبداً

وقد تبدل أبدان بأبدان

ومن تكن نفسه شعراً وفلسفة

وبسمة من أغاريد وأوزان

يأبى الإسار وإن وافى مجاملة

من الشموس، ويأبى العالم الفاني!

(نيويورك)

ص: 47

أحمد زكي أبو شادي

ص: 48

‌البريد الأدبي

في العروض والقوافي:

كان هذا الضعيف نبه في مقالاته (في العقد) و (في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) في (الرسالة الغراء) على التشديد في القوافي المشددة ووجوب تركه والاكتفاء بالسكون حتى لا يختل الوزن. وقد وجدت في (المخصص) - ج13 ص184 - وأنا أراجعه هذا الخبر الطريف:

(قال ابن الأعرابي: نزل بعض العرب بامرأة منهم، فأحسنت ضيافته، فقال: ما رأيت أم بيت أحسن ثغراً منك، وراودها على القبل، فزينته، فقال:

تقول أم عامر بالغمز: قِلْ

فإن تَقِل فعندنا ماء وظلْ

وإن أبيت فالطريق معتدلْ

أما الذي سألتنا فلا يحلْ)

فرأيت محقق الكتاب العلامة اللغوي الكبير الشيخ محمد محمود الشنقيطي رحمه الله قد ضبط (ظل، يحل) بالتشديد مع السكون كما ضبط مثل ذلك كثير من المتقدمين. وربما حملت مكانة العلامة الشنقيطي محققي الكتب القديمة وناشريها على المضي على الخطأ، والحق هو ما أعلنته في تلك المقالات. ولم أزل منذ دهر طويل أفتش عن نص لإمام من المتقدمين يؤيد انتقادي. فلقيت (الضالة المنشودة) عند أبي العلاء المعري، ولا كلام لعالم من بعد قول الشيخ (الشيخ بالنحو أعلم من سيبويه وباللغة والعروض من الخليل) كما روي ابن القارح في رسالته.

قال أبو العلاء في كتابه (عبث الوليد) ص180:

(ومن التي أولها (قالت الشيب بدا قلت أجل) كان على القوافي المشددة مثل (الأقل والأشل) تشديد، وذلك عندهم خطأ لأن التخفيف لازم. وكان بعض أهل العلم يعاب بأنه وجد بخطه قول لبيد:

يلمس الأحلاس في منزله

بيديه كاليهودي المصل

مشدد اللام في (المصل) وحكي ابن عثمان بن جني كان يرى مثل هذه الأشياء أن يكون

ص: 49

التشديد من تحت الحرف. والأجود أن يعلم الناظر أن التشديد لا يجوز في مثل هذه المواضع).

محمد إسعاف النشاشيبي

من مزايا الرسالة:

من مزايا الرسالة، وبحمد الله ما أكثر مزاياها، أن حولها نفراً من كرام الكاتبين وحذاق الناقدين، قريبة دارهم، حديدة أبصارهم، لا يدعون غلطة تمر حتى يصححوها؛ فإذا بدت لعين عاجز مثلى غلطة، وبعث تصحيحاً لها، وجدهم سبقوه إلى ذكرها، فيضيع تعبه ويذهب هباء.

ولقد سبقت في هذه الفترة مرات: بعثت أستدرك على أستاذنا النشاشيبي أنه لم يذكر وجه الصواب في تفسير بيتي حسان، فإذا بالأستاذ محمد الطنطاوي (وبارك الله في طنطا بلدنا وبلده) يسبق حفظه الله إلى الاستدراك. وبعثت بالجواب بشأن بيتي عروة فسبقني بلدينا الفاضل السباق إلى الجواب عني (جزاه الله خيراً). وأرسلت كلمة في المحدث فسبقني إلى بيانها الأديب الكبير (القارئ)(السهمي) النشاشيبي (المسلم)؛ وكثرة الأسماء دليل على شرف المسمى. ولكن السهمي لم يصحح تفسير الأستاذ الكبير العقاد لكلمة المحدث؛ فقد ذكر (أن المحدث الذي يسمع كلام الله) مع أن الذي قالوه في المحدث أنه الملهم، أنظر (البخاري 149: 4 ومسلم 7: 145 ومسند أحمد 2: 339) أما ما كتبه أستاذنا بتوقيع (مسلم) بشأن الطلاق، وقوله إن (هذا الذي يرضي النبي محمداً) فإن الكلام في رده طويل، وليس يرضي محمداً ولا رب محمد إلا قول استنبط من محكم الكتاب، أو من صحيح السنة، وجاء الاستنباط فيه من (أصوله) واقترن بدليله.

علي الطنطاوي

(فكرة الشر) واقترانها بسلوك لفنان:

إلى أخي الأستاذ جبريل خزام:

تناولت - بالنقد - بعض ما جاء في مقالي (الأدب والمجتمع) وأود أن ألفت نظرك إلى (فكرة الشر) واقترانها بمظاهر سلوك الفنان في بعض الأحيان، فأقول: إنه لا ينبغي أن

ص: 50

نحكم (النظرة المادية) في هذا الموضوع الخطير، فيكون الشخص - بناءً على هذه النظرة - شرّيراً. . . كلما ارتكب فعلا يدل - في ذاته - على قيام فكرة الشر عنده؛ بل يتعين علينا أن نحاول استكناه (النوايا) و (البواعث) الدافعة إلى ارتكاب الفعل، فإذا دل البحث عن سوء نية الفاعل، ألصقنا به تهمة الشر بناء على ذلك. وهذه هي (النظرة الشخصية) التي نبه إليها دعاة المدرسة الإيطالية وعلى رأسهم الفقيه لمبروزو، والذين كان لهم فضل توجيه نظر الباحثين إلى وجوب تقدير العقوبة على أساس من دراسة دوافع السلوك وبواعث الأعمال والعوامل الاجتماعية المحيطة المؤثرة.

والنفس الفنانة كثيراً ما يستحثها توفر الحس فيها وتعدد شعورها بجوانب الحياة المختلفة - علويها وسفليها - إلى التورط في الشر والانكباب عليه. . . ولا يكون هذا السلوك إلا دلالة قاطعة على ما تلاقيه هذه النفس العاثرة الجد - التي تنطوي على الخير المحض - من عسف وإعنات من جانب المجتمع والقائمين على رعايته. وبالتالي يروح الرجل - المتميز بأي ضرب من ضروب الامتياز - يغرق همومه ويعالج إخفاقه في الحياة بالتهالك على المتعات الحسية واستياف اللذات الرخيصة. وما هذا السلوك من جانبه - في واقع الأمر - إلا برهان قوي على قوة الحيوية في نفسه وتعدد طاقاته وعدم ارتضائه الاستكانة إلى الظلم ومذلة الهوان!

ولا أظن أحداً يتشكك في حسن طوية (النّواسيّ) ونقاوة سريرته ورحابة آفاقه؛ وإن فيما أورده المعنيون بالبحث في طبيعة نفسه، ما يستشعر منه تشبث هذا الفنان الممتاز بعاصم الكبرياء وقوة شعوره بذاته.

ولعل فيما أثبته الأستاذ الفاضل عبد الرحمن صدقي عن (بودلير) في كتابه (الشاعر الرجيم) ما يؤكد ما ذهبنا إليه في إمكان رد أغلب سيئات الفنان وحماقاته إلى ظروف الأسرة وقساوة المجتمع!

عبد العزيز الكرداني

تجديد علم المنطق للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

قامت مكتبة الآداب بدرب الجماميز بطبع كتاب تجديد علم المنطق في شرح الخبيصي

ص: 51

على التهذيب في (مطبعة الرسالة) وهي الطبعة الثانية من هذا الكتاب، وتمتاز على الطبعة الأولى بكثير من الزيادات والتنقيحات.

وقد جاء الكتاب كاسمه تجديداً في شرح الكتب الأزهرية وفي طبعها وترتيبها، وما إلى هذا مما جاء من التجديد والتهذيب فيه، بعد أن مضت عليها أزمان تطبع فيها أقبح طبع، وتظهر في أقبح ترتيب، وتتجافى عما حدث في علومها من تجديد، فتتغير الدنيا ولا تتغير، وينقلب العلم من حال إلى حال وهي باقية على حالها، ويسير إلى الأمام بخطى واسعة وهي واقفة في مكانها، وتقف تبعاً لها عقول الطلاب، وتتأثر بجمودها وسوء ترتيبها وقبح طبعها، لأن عقل الطالب يتأثر بالكتاب في أسلوب بحثه، وفي طريقة ترتيبه، وفي هيئته وشكله.

وقد بدأه مؤلفه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بمقدمة بين فيها ما وصل إليه المنطق عند علماء اليونان، وعند علماء العرب، وعند علماء أوربا، وبين فيها كيف يجري المنطق في اللغة العربية، وقد وضعه علماء اليونان على أساليب اللغة اليونانية، وهذا إشكال قد أثاره الإمام الشافعي رضي الله عنه، وتأثر به رجال الأدب والشعر الذين أنكروا أسلوب المنطق اليوناني، كأبي عبادة البحتري من الشعراء، وكابن الأثير من علماء الأدب، فحل المؤلف هذا الإشكال في مقدمته أحسن حل، وأنصف المنطق اليوناني من الذين أزروا به من رجال الشعر والأدب.

ثم عني الأستاذ بعد هذا بالموازنة بين المنطق القديم والمنطق الحديث، فذكر عقب شرح كل فصل من فصول هذا الكتاب ما وصل إليه المنطق الحديث فيه، ووازن بين المنطقين في كل فصل من هذه الفصول، فأحدث بهذا تجديداً له قيمته في شرح الكتب الأزهرية، وجمع في كتابه بين المنطق القديم والحديث، ليكون الطالب على بينة منهما، وهي طريقة أجدى على الطلاب من قصرهم على دراسة المنطق القديم، أو على دراسة المنطق الحديث، وتكاد الجامعة الأزهرية تمتاز بها على سائر الجامعات.

وما أحوج الكتب الأزهرية كلها إلى مثل هذه الطريقة في الشرح والتجديد، وفي حسن الطبع والترتيب، لتلائم حال هذا العصر، وتجذب إليها نفوس الطلاب، فيقبلوا على دراستها وتتأثر عقولهم بما تجده فيها من التجديد والترتيب، وتتهيأ بهذا إلى تجديد أتم،

ص: 52

وتستعد إلى إصلاح أكمل، ومن سار على الدرب وصل.

ص: 53