المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 676 - بتاريخ: 17 - 06 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٧٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 676

- بتاريخ: 17 - 06 - 1946

ص: -1

‌من مخلفات الحرب هذا الطبلاوي أفندي

تخلص الإنجليز والأمريكيون من أوزار الحرب التي انقطع منها النفع، فباعوا كل ما تركت من شيء حتى القنابل المحشوة! وأقصوا كل ما خلفت من شخص حتى تشرشل الجبار! ونحن في مصر لا نزال نعاني من مخلفات الحرب وجرائرها ما يرمض الجوانح ويقض المضاجع.

لا أريد بمخلفات الحرب هؤلاء الجنود الغرباء الذين يملئون الدور

ويزحمون الشوارع، ولا هذه الضرائب الاستثنائية التي تقصم الظهور

وتقوض المصانع، إنما أريد بها أثرياء الحرب الذين يُفحِشون أسعار

الخبز واللحم والفاكهة على الفقراء في العواصم، ويرفعون أجور

القصور و (العشش) و (الكابينات) على الأغنياء في المصايف،

ويخفضون مستوى الخير والحق والجمال والذوق والفضيلة في جميع

الأماكن؟ أكثر هؤلاء طغام رُبوا في أحجار الفاقة، ودرجوا في أكواخ

البؤس، وأعوزتهم التربية الدينية التي تجمل الفقر بالزهد، والثقافة

المدنية التي تلطف الشقاء بالأمل، فشبوا على غرائزهم الأصلية،

يحتالون عند العجز احتيال الذئاب، ويفترسون عند القدرة افتراس

الأسود، وهم بين أحوال العجز والقدرة يكابدون آلام الشوق الملح

المحرق إلى المال في يد الغني وفي بيوت التجار، وإلى اللحم في جسد

المرأة وفي حانوت الجزار، ويحاولون ما استطاعوا أن يطفئوا هذا

السُّعار القاتل بالسرقة والقمار والتدليس والاحتيال والغش، فلم يزدهم

هذا الري إلا ظمأ، ولا هذه المتعة إلا حسرة!

فلما أوقد المستعمرون نيران الحرب لا خيرة في بقاع الدنيا فأكلت شباب الأمم، وأهلكت ثمار الأرض، ونقصت نتاج الناس، قُيدت المعاملات، وحددت الأرزاق، فوجد هؤلاء

ص: 1

الشرهون الجياع أن الانطلاق من هذه القيود إلى الحرام المشتهى والثراء المرجو، أسهل على نفوسهم من تكلف العفاف وإضاعة الفرصة، فاحتكروا السلع، واغلوا الأسعار، وطففوا الكيل، واخسروا الميزان، وأقاموا في ظلمات الطرق وفي كهوف الأرض سوقاً سوداء يستغلون فيها عُرى الفقير وجوعه ليسلبوه ما تجمع في يديه من ثمن عرقه ودمعه. وظلت الحرب بضروراتها وشواذها تركم على أجسادهم اللحم والشحم، وتكدس في خزائنهم الأوراق والأرزاق، حتى أصبحوا في المجتمع المصري طبقة متميزة لها طابعها الخاص، وسمته الفرد، وهندامها العجيب، وحياتها التي أصبحت للتصوير الهازل والصحافة الفكاهة مدداً لا ينقطع ومنبعاً لا ينضب!

أسخطني على هذه الطبقة الجديدة قصة سمعتها عن أحد أعيانها البارزين سأقصها عليك. وليست هذه القصة أول القصص ولا آخرها، فإن أغنياء الحرب ينفجرون كل يوم من فرط السمن والانتفاخ، فيكون هم من الشظايا والضحايا ما لهذه القنابل التي لا نزال نسمع انفجارها في الطرق أو في الملاهي!

أستزارني يوم الأحد الماضي صديقي الأستاذ (ج) في دارته الجميلة بالدقي، فزرته في وقت الشاي، وكانت الشرفة التي اختارها لجلوسنا تنظر إلى دارةٍ تقابل دارته، إلا أنها أوسع وأرفع وأفخم، ولكن أنماط الناس الذين يدخلونها أو يخرجون منها أو يحفون بها لا تأتلف مع جمالها ولا ترتفع إلى مستواها. دع هذا الصياح الذي يتفجر فيها، والزياط الذي ينبعث منه، فربما كان أصحاب الدارة غائبين والخدم ينفسون عن حريتهم المكظومة بهذا الهرج. فسألت صديقي من باب الكلام الذي يقصد به تحريك اللسان قطعا للصمت أو فتحا للحديث:

لمن هذه الدارة الفخمة؟

فابتسم صديقي وقال وهو يشير إلى امرأة تجلس وحدها على مقعد من مقاعد حديقته:

لهذه المرأة!

ونظرت إلى المرأة التي أشار إليها فوجدت جسما كالخيال دقيق الشبح معروق العظم تستره ملاءة لف من الطراز الذي كانت تلبسه الخادمات قبل أن يصبحن (أرتستات) حرب! فقلت لصديقي وأنا أبتسم كما يبتسم: ماذا تعني؟ فقال: إنما عنيت ما قلت، وهو أن تلك الدارة

ص: 2

لهذه المرأة، وهي مع ذلك لا تجد اللباس ولا تملك القوت، ولا يمر أسبوع دون أن تزورني مرة أو مرتين لألتمس لها من جانب هذا الثراء الضخم فضلة من الرزق تمسك الرمق وتديم العفة، ولكن!!

فقلت له والتعجب يترقرق في عيني ووجهي: لم أفهم ما تريد فماذا تعني؟

قال بلهجة الجد: أعني أن هذه المرأة زوجة صاحب الدارة، وهو فلان الغني الذي يسميه الناس (الطبلاوي أفندي) لأن بطنه المنتفخ المتسع المستدير يجعله أشبه بضارب الطبل العظيم حين يحمله على صدره. كان هذا الرجل فقيرا غير شريف، ووضيعا غير متواضع، تزوج وهو في تلك الحال من هذه المسكينة فولدت له خمس بنات وثلاثة بنين أكبرهم كما تقول لا يبلغ الرابعة عشرة، وكانت تعيش معه هي وأولادها على الكفاف، تساعده في حدود ما تستطيع بالعمل والتدبير والتقتير والقناعة، وتحتمل سرفه ونزقه بالصبر والإغضاء والنصيحة، حتى أدركته (نعمة) الحرب في سنتها الثالثة، فوصلت حباله بحبال المتعهدين لجيوش الحلفاء بالمواد الغذائية فشاركهم في الجمع والتوريد، وانفرد عنهم بالمصانعة والمهاواة، حتى استطاع بجرأته بعد قليل أن يدخل على رؤساء العمل الإنجليز من الباب الخلفي، فعاملهم بالغش وشاركهم في الربح، واستعان بهم على إخراج المحظور من السكر والرز، وإدخال الممنوع من الحشيش والأفيون؛ فتساقطت على رأسه وقفاه رزم البنك نوت تساقط البرد الغليظ، حتى اجتمع له في نهاية الحرب ربع مليون جنيه!

ومنذ رحل جيوش الحلفاء خلع الطبلاوي رداء العمل، وحشر نفسه في صفوف المترفين والعلية، فألفف جسمه بالحرير، وختم أصابعه بالماس، وعدد الألوان الفاقعة في بذلته وحذائه؛ ثم خلا جسمه المنهوم يضخم ويسترخي وينبعج جانباه، وترك شاربه الخشن يغلظ وينتفش ويطول سبالاه؛ ثم اقتنى الضياع والعقار، واشترى الرلزرايز والباكار. وكان يطلب الأغلى من كل صنف، والأعلى من كل شئ. ولا شك في انه هو الذي تحدث الظرفاء عنه بأنه استشار الطبيب فأشار عليه بفيتامين بيه فقال له: ولم لا تشير بفيتامين باشا؟ وانه طلب إلى رسام أن يرسمه فسأله: أتريد الصورة بالزيت؟ فقال له: كلا، بل أريدها بالسمن. وأن طبيب الأسنان أراد أن يصنع لأحد أضراسه المنخورة غلافا من الذهب، فطلب إليه أن يصنعه من الماس! ثم سكن هذه الدارة وألقى زمامه في يد الغاوين

ص: 3

من رواد اللهو وسماسرة الفجور، فجعلوا له في كل غرفة ماخوراً، ومن كل ردهة مرقصاً، ومن كل بهو حانة.

وأعجب ما في الأمر كله أن صورة بيته القديم كصورة ماضيه العظيم قد انمحت من ذاكرته، فلم يعد يذكر عنوان بيته ولا سكانه ولا جيرانه، كأنه لم يستقبل الحياة ولم يبصر الدنيا الأسنة 1945! وها هي ذي امرأته على الحال التي ترى، تأتي كلما دفعتها الحاجة لتتوسل بي وبغيري إلى هذا الوغد ليرمي إليها من وراء السور من فضلات الغواني وفتات الموائد ما يمسك الحياة عليها وعلى أولادها، وإن لم ينقص فلن يزيد.

فهل كنت تظن قبل هذا الحديث أن في خلق الله أمثال هذا الرجل؟ فقلت له: والله يا صديقي لو كان المحدث غيرك لاتهمته بالتزويق والتزوير، ولما صدقت أن يكون في بني الإنسان هذا الخنزير!

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌في النحو:

لا غير أبو العلاء المعري

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

يقول الشيخ أبو العلاء المعري في كتابه (عبث الوليد) في هذا البيت لأبي عبادة البحتري:

(أنابّ به بسطامه ومحمد=قمام علا يعيي الملوك حلولها

كان في النسخة: (أناب به) وهي كلمة نافرة في هذا الموضع ولو أنها (أثاب) لكانت أشبه. وفي النسخة (القمام) مرفوعة وإنما يجوز ذلك إذا جعلت بدلا من (بسطام ومحمد) والمعنى يصح على ذلك إلا أنه بعيد. والأحسن أن يكون (أبنَّ) في موضع (أناب) أي أقام ولزم. (قمام علا) ينصب بوقوع الابنان عليها وقد أساء في قوله: (قمام) لأن المعرفة قمم إلا إن زيادة الألف هاهنا جائزة تشبه بقلال وقباب. وفي بعض النسخ (أناف) وهو أشبه بمذهبه، وينصب حينئذ قمام لا غير)

فيكتب الأستاذ الأديب محمد عبد الله المدني المعلق على الكتاب هذه التعليقة على (لا غير) في قول الشيخ (ص190): (غير أسم ملازم للإضافة في المعنى ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقديم عليها كلمة ليس وقولها لا غير لحن: المغني لابن هشام. اهـ).

وهذا قول الأمام جمال الدين بن هشام في (غير) أرويه بتمامه - وإن طال - إذ قد يميل قارئ إلى الوقوف عليه:

(غير: اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يقطع عنها لفظا أن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة ليس، وقولهم: (لا غير) لحن. ويقال: قبضت عشرة ليس غيرها برفع غير على حذف الخبر أي مقبوضا، وبنصبها على إضمار الاسم أي ليس المقبوض غيرها.

وليس غير، بالفتح من غير تنوين على إضمار الاسم أيضا، وحذف المضاف إليه لفظاً، ونية ثبوته كقراءة بعضهم:(الله الأمر من قبل ومن بعد) بالكسر من غير تنوين أي من قبل الغالب ومن بعده.

وليس غير، بالضم من غير تنوين، فقال المبرد والمتأخرين إنها ضمة بناء لا إعراب وان غير شبهت بالغايات كقبل وبعد، فعلى هذا يحتمل أن يكون اسماً وأن يكون خبرا. وقال الأخفش ضمة إعراب لا بناء لأنه ليس باسم زمان كقبل وبعد ولا مكان كفوق وتحت،

ص: 5

وإنما هو بمنزلة كل وبعض، وعلى هذا فهو الاسم، وحذف الخبر، وقال ابن خروف: يحتمل الوجهين.

وليس غيرا بالفتح والتنوين، وليس غير بالضم والتنوين، وعليهما فالحركة إعرابية لأن التنوين إما للتمكين فلا يلحق إلا المعربات وإما للتعويض فكأن المضاف إليه مذكور، ولا تتعرف غير بالإضافة لشدة إبهامها).

فعند الأستاذ المدني - وتلكم تعليقه - أن الشيخ قد لحن، وسنده هو ابن هشام. وقد فتشت طويلا عن اللحن في عبارة المعري فلم أجده، ولن أجدها أبداً. وإن خيل أنه قد جاء من إعمال (لا) عمل (ليس) فالملحن نفسه يسطر في (المغني) هذه الأسطر:

(الثاني - من أوجه لا - أن تكون عاملة عمل ليس كقوله:

من صد عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

وإنما لم يقدروها مهملة والرفع بالابتداء لأنها حينئذ واجبة التكرار، وفيه نظر لجواز تركه في الشعر، و (لا) هذه تخالف ليس من ثلاث جهات (آدها) أن عملها قليل حتى ادعي أنه ليس بموجود. (الثانية) أن ذكر خبرها قليل حتى أن الزجاج لم يظفر به، فادعى أنها تعمل في الاسم خاصة وأن خبرها مرفوع، ويرده قولة:

تعز فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر مما قضى الله واقيا

وأما قوله:

نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل

فبوئت حصنا بالكماة حصينا

فلا دليل فيه كما توهم بعضهم لاحتمال أن يكون الخبر محذوفا وغير استثناء. الثالثة أنها لا تعمل إلا في النكرات خلافا لابن جني وابن الشجري، وعلى ظاهر قولهما جاء قول النابغة:

وحلت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا عن حبها متراخيا

وعليه بني المتنبي قوله:

إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى

فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا)

فهذه (لا) تعمل - أذن - عمل (ليس) - ودع قولهم إن عملها قليل فالقلة لا تمنع العمل. وما عدها أحد خطأ أو لحنا - وقد زاد العرب الباء في خبر أختها أو قريبتها فقال قائلهم:

ص: 6

فكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة

بمغني فتيلا عن سواد بن قارب

و (لا وليس) تتناوبان، قال اللسان:

(قد تجيء ليس بمعنى لا ولا بمعنى ليس، ومن ذلك قول لبيد: (إنما يجزي الفتى ليس الجمل) أراد لا الجمل. وسئل سيدنا رسول الله عن العزل عن النساء فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا فإنما هو القدر، معناه ليس عليكم الإمساك عنه من جهة التحريم وإنما هو القدر، أن قدر الله أن يكون ولد كان)

وهل (ليس) أصلها - كما قالوا - إلا (لا) ضمت أليها (أيس) ثم كان ما أراده الله تعالى وعمله الانتخاب الطبيعي في اللغة عمله في كل شئ، وهل أنت - يا فتى - من قبل أنت، هل دريت كيف كنت؟ قال التاج:

(أصلها - يعني ليس - (لا أيس) طرحت الهمزة ولزقت اللام بالياء، وهو قول الخليل والفراء، قال الأخير: والدليل على ذلك قولهم أي العرب: ائتني به من حيث أيس وليس، أي من حيث هو ولا هو، وكذلك قولهم جئ به من أيس وليس أو معناه من حيث لا وجد، أو أيس أي موجود ولا أيس أي لا موجود فخففوا. . .)

وقد استعمل الشيخ (لا غير) في كتابه العجيب العبقري (الفصول والغايات) وفي كتابه المدهش (رسالة الملائكة) كما استعملها في (العبث) فقال في شرح جملة في الأول ص 339:

(والعرف الرائحة الطيبة وغيرها، والريا الرائحة الطيبة لا غير).

وقال في الثاني ص 70:

(. . . ومعيشة عند (سعيد بن مسعدة) مفعُلة لا غير، وهي عند الخليل وسيبويه مفعِلة ولا يمتنع أن تكون مفعلة).

واستعمل (لا غير) أئمة قبل المعري وبعده. وهذه جريدة قصيرة في استعمالهم إياها:

الكتاب لسيبويه (ج 2 ص 317):

(ويكون الاسم على أنفعل في الوصف لا غير).

تهذيب إصلاح المنطق (ج 1 ص 181)، والتهذيب لابن السكيت والإصلاح للتبريزي:

(بفية الإثلِب والأثلَب أي الحجارة والتراب، قال أبو يوسف: أشك في الإثلب والأثلب

ص: 7

وأحسبه أفعل وأفعل. الحوفي هي أفعل لا غير، لأن الهمزة إذا كانت أولا يقضي عليها بالزيادة إلا أن يقوم دليل بأنها من الأصل).

الفصيح لأبي العباس ثعلب (ص 31):

(جلا القوم عن منازلهم جلاء وأجلوا أيضاً، وأجلوا عن قتيل لا غير إجلاء).

وفيه في (ص 81):

(ولد المولود لِتمام وتَمام، وليل التمام مكسور لا غير). الكامل للمبرد (ج 6 ص 54 رغبة الأمل من كتاب الكامل):

(قال رجل لعمر بن عبد العزيز يرثيه:

قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا

بدير سِمعان قسطاس الموازين

من لم يكن همه عينا يفجرها

ولا النخيل ولا ركض البراذين

أقول لما أتاني ثم مهلكه

لا يبعدنّ قوام الملك والدين

يقال هذا الأمر وملاكه لا غير، وتقول فلان حسن القوام مفتوح تريد بذلك الشطاط، لا يكون إلا ذاك).

الفائق للزمخشري (ج1 ص 126):

(النبي صلى الله عليه وسلم قال حري: رأيته دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفها على كتفيه: هي التي على لون ما أحرقته النار كأنها منسوبة بزيادة آلاف والنون إلى الحرق، يقال: الحرَق بالنار والحرق معا والحرق من الدق محرك لا غير). المخصص لابن سيده (ج 3 ص 50): (وقالوا: جزاك الله خيرا والرحم بالنصب والرفع، وجزاه الله شرا والقطيعة بالنصب لا غير).

شرح المفضليات لأبي محمد ألا نباري (ص 565):

(أنكرته حين توسمته

والحرب غول ذات أوجاع

قال عامر: أنكرته شككت فيه، يقال: أنكرت الرجل إذا كنت من معرفته في شك ونكرته إذا لم تعرفه، قال الله عز وجل: نكرهم وأوجس منهم خيفة. قال أبو عبيدة يقال أنكرته ونكرته بمعنى واحد وكذلك استنكرته، وأنشد بيت الأعشى:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

مني الحوادث إلا الشيب والصلعا

ص: 8

أي إنما أنكرت شيبي وصلعي لا غير، فأما كرمي وطبيعتي فلم أتغير عنهما). لسان العرب لابن منظور (ج 4 ص 346):

(قال الجوهري: وأما قولهم: قدك بمعنى حسبك فهو اسم تقول: قدي وقدني أيضا بالنون على غير قياس لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال وقاية لها مثل ضربني وشتمني. قال ابن بري: وهم الجوهري في قوله: إن النون في قدني زيدت على غير قياس وجعل نون الوقاية مخصوصة بالفعل لا غير. وليس كذلك، وإنما تزاد وقاية لحركة أو سكون في فعل أو حرف كقولك في من وعن إذا أضفتهما إلى نفسك مني وعني فزدت نون الوقاية لتبقى نون من وعن على سكونها، وكذلك في قد وقط تقول قدني وقطني فتزيد نون الوقاية لتبقى الدال والطاء على سكونهما. وكذلك زادوها في ليت فقالوا: ليتني لتبقى حركة التاء على حالها، وكذلك قالوا في ضرب ضربني لتبقى حركة الباء على فتحها. وكذلك قالوا في اضرب اضربني أيضا أدخلوا نون الوقاية عليه لتبقى الباء على سكونها).

وفيه في ج 6 ص 279:

(العَمر والعُمْر والعُمُر: الحياة، يقال: قد طال عمره وعمره، لغتان فصيحتان، فإذا أقسموا فقالوا: لعمرك فتحوا لا غير، والجمع أعمار، وسمي الرجل عمرا تفاؤلا أن يبقى). فهل يرى السيد عبد الله المدني أن شيخنا أبا العلاء وهؤلاء الأئمة المتقدمين كلهم أجمعين كانوا من اللاحنين؟. . .

محمد إسعاف النشاشيبي

ص: 9

‌مجانين.

. .!

للأستاذ علي الطنطاوي

(تعليق على ما كتبه الصديق النبيل الأستاذ كامل الكيلاني في

العدد 671 من الرسالة عن (نيوتن والوزير العباسي) مع

تحياتي وأشواقي إليه. . .)

(علي)

إذا رأيتم رجلا يمشي في الطريق منفوش الشعر، شارد النظر، قد لبس معطفه على القفا، ومشى على غير هدى. . . قلتم إنه (مجنون). . . وقد يكون (مجنوناً)، ولكنه قد يكون فيلسوفاً. . . أو شاعراً. . . أو رياضياً. . .!

وإذا سمعتم أن رجلا لا يفرق بين السراويل والقميص، ولا بين الجمعة والخميس، قلتم إنه (مجنون). . . ولكن (أناتول فرانس)، والعهدة على الراوي (جان جاك بروستون) دعي إلى وليمة يوم الأحد، فذهب يوم السبت ولبث ينتظر متعجباً من تأخر الغداء، ولبثتْ ربَّة الدار تنظر متعجبة من هذه الزيارة المفاجئة، ثم لم يرض أن يصدق أنه يوم السبت. . . فهل كان (أناتول) نابغة قومه في البلاغة وباقعة العصر مجنوناً؟!

وإذا شاهدتم رجلا يعتزل في كوخ، أو ينفرد في غار، لا يقبل على الدنيا، ولا يكلم الناس قلتم إنه (مجنون)، ولكن (الغزالي) عاف الدنيا وقد اجتمعت له، والمجد وقد أقبل عليه، والرياسة وقد أتته منقادة تسعى إليه، وحبس نفسه في أصل منارة الجامع الأموي في دمشق، فهل كان (الغزالي) حجة الإسلام وعلم الأعلام مجنوناً؟!

وإذا بلغكم أن إنساناً نسي اسمه قلتم إنه (مجنون)، ولكن (الجاحظ) نسي كنيته وطفق يسأل عنها حتى جاءه ابن حلال بالبشارة بلقياها، فقال له: أنت أبو عثمان؟ فهل كان (الجاحظ) عبقري الأدب، ولسان العرب مجنوناً؟.

ونيوتن. . . وقد كانت في داره قطة، كلما أغلق عليه بابه، وقعد إلى كتبه ومباحثه، أقبلت تُخَرمش الباب وتخشخش بأظفارها فتشغله عن عمله حتى يقوم فيفتح لها، فلما طال عليه الأمر كدَّ ذهنه، وأطال بحثه، فاهتدى إلى المَخْلَص. . . ففتح في أسفل الباب فتحة تمر

ص: 10

منها فاستراح بذلك من شرها. . . ثم ولد لها ثلاث قُطيْطات ففتح لكل واحدة منها فتحة. . . لم يستطع هذا العقل الكبير الذي وسع قانون الجاذبية أن يتسع لحقيقة صغيرة: هي أن الفتحة الواحدة تكفي القطة الأم وأولادها!

وأمبير. . . وقد كانت تعرض له مساءل في الطريق، فلا يجد قلماً لها وورقاً، فحمل معه حواَّراً، فكلما عرضت له مسألة، ورأى جداراً أسود، وقف فخط عيه، فرأى مرة عربة سوداء واقفة، فجعل يكتب عليها أرقامه ورموزه، واستغرق فيها، حتى سارت العربة، فجعل يعدو خلفها وحَوَاره بيده، وهو لا يدري ما يصنع!

وهنري بوانكاريه. . . وقد دعا قوماً إلى وليمة في داره، وضرب لها الساعة السابعة موعداً، فلما حل الموعد وجاء القوم، كان مشغولا. . . فدعوه فلم يسمع، وألحوا عليه فلم ينتبه، وكانوا يعرفون شذوذه، فأكلوا وانصرفوا. . . وقام بعد ساعتين فأمَّ غرفة المائدة، فرأى الصحون الفارغة والملاعق المستعملة وبقايا الطعام، فجعل يفكر: هل أكل أم هو لم يأكل؟ ثم غلب على ظنه أنه أكل فعاد إلى عمله!

وأمر الله أفندي. . العالم التركي المشهور صاحب المَعْلَمة التركية، وقد كان يركب البحر كل يوم ما بين داره في (اسكدار) وعمله في (اسطامبول)، فركب يوماً وكان إلى جنبه موظف كبير في السفارة البريطانية، وكان في جيبه فستق حلبي، وكان (أمر الله أفندي) مشغول الفكر، فجال بيده وهو لا يشعر، فسقطت في جيب البريطاني ووقعت على الفستق فأخرج منه فأكل، وظن الرجل أنه مزاح، فسكت، ولكن الشيخ عاد وأوغل في الأكل حتى كاد يستنفد الفستق كله، وكان الفُلْك مزدحماً ما فيه مفر للبريطاني من هذه الورطة، فأحب أن يتلطف بالشيخ حتى يكف، فسأله: كيف وجدت الفستق؟ قال: (عال!) وعاد إلى تفكيره وأكله؛ فقال له: ولكن ليس في جوار الدار مثله اشتريته للأولاد، وإذا دخلت عليهم من غير فستق بكوا. . . قال الشيخ:(عجيب)! وعاد إلى الأكل والتفكير، فقال له: أفلا تتكرم بإبقاء شيء لهم؟ قال: (بلى، بكل امتنان)، وأخرج طائفة من الفستق فدفعها إلى الإنكليزي وأكل الباقي!

وقد وُلِّي وزارة المعارف وأعطي سيارة، فكان كلما بلغت به السيارة المنزل، وفتح له السائق الباب، أخرج كيسه وسأله كم تريد؟ فيقول له: يا سيدي هذه السيارة لمعاليك، فيتذكر

ص: 11

ويقول طيب!

وقد سألته امرأة مرة، وكان يمشي أمام داره: أين دار وزير المعارف يا سيدي؟ فقال لها: ومن هو وزير المعارف الآن؟ وصديقنا اللغوي العراقي عبد المسيح وزير. . . وقد دخل مرة غرفة غير غرفته في وزارة الدفاع، وكان (طاب ذكره) من كبار موظفيها، فرأى أثاثها على خلاف ما كان يعهد، فغضب ودعا الفّراش، وقال له: حوّل هذه المنضدة، انقل هذا الهاتف، اعمل كذا، افعل ذاك. . . فلما استوت له ما يريد، نظر فقال: أهذه غرفتي؟! قال: لا يا سيدي، فانتقل إلى غرفته!

وكنا نزوره أنا وأنور، فدعا لنا مرة بشاي وتدفق بالحديث، وهو يشرب كأسه، فلما فرغت، وضعها وتناول كأس الأستاذ العطار فشربها، ثم ثلث بكأسي، فلما جاء الفراش يأخذ الكؤوس، قال سألتكم بالله، هل تريدون كأساً أخرى؟!

وشيخ الشام ومربي الجيل طاهر الجزائري، وقد حدثني الشيخ قاسم القاسمي أنهم احتالوا عليه حتى اشتروا له جبة جديدة وألبسوه إياها، وذهبوا به إلى دمّر فجلسوا حول البركة العظيمة في منزل الأمير عمر، وكان في المجلس الشيخ عبد الرزاق البيطار، وأشيخ جمال الدين القاسمي، وجلة العلماء، فما كان من الشيخ طاهر إلا أن قام فنزع اجبة، وجعل يغمسها في البركة، ثم يدلكها بالتراب، ثم يغمسها، ثم علقها على غصن حتى جفت وتكرّشت فلبسها وقال: الآن استرحت، إن الجبة الجديدة تشغل فكر صاحبها، أما العتيقة فإنه لا يبالي بها فينصرف إلى تفكيره. . .

وصديقنا الكبير سامي بك العظم مفتش العدلية العام، وقد حدثني من فمه أنه دعا (فلاناً) وكان رئيساً للوزراء إلى الغداء في داره في أقصى المهاجرين، فلما كان اليوم الموعود جاء الرئيس بسيارته إلى باب المنزل، فنزل منها وصرف السائق لئلا يطول عليه الانتظار، واجتاز الحديقة الممتدة، وصعد الدرج العالي، وقرع الباب، فلم يرد - أحد عليه، فعاد إلى البلد ماشياً في شمس الهاجرة من آب. أما سامي بك، فقد نسي الموعد، ولم يكن في الدار أحد، لأن أسرته في القاهرة، فذهب فتغدى في المطعم!

وصديقنا الأديب العالم الراوية عز الدين التنوخي، وقد دعا للبحث في إعداد مهرجان المتنبي من سنين جمهرة من أدباء البلد إلى المجمع العلمي يوم كان سكرتيره، فلما جاءوا

ص: 12

وجدوا المجمع مغلق الباب، فذهب بعضهم إلى دار الأستاذ يسأل عنه خشية أن يكون به مرض، وإذا هو يشتغل بتحقيق كتاب أبي الطيب اللغوي، وإذا هو يحدثهم عن الكتاب، أما حكاية الدعوة، فقد نسيها من أساسها!

أفكان هؤلاء، وفيهم كل عبقري علم، وكل نابغة إمام. . . أكانوا كلهم مجانين؟

أما في رأي الناس، فنعم!

ذلك لان القافلة تمشي، فمن سايرها عدة أهلها عاقلا، ومن تقدم عنها يسلك طريقاً جديداً قد يكون أقرب وآمن، عدّوه مجنوناً، كمن تأخر عنها ليتيه في مجاهل الصحراء!

لكن ذاك جنون العبقرية، وهذا جنون المارستان!

إن العبقري شغل بالعلم فكره كله، فلم يبق منه شيء لفهم الحياة، فصار عند أهلها مجنوناً! وبين جنون العبقرية وجنون المارستان نوع ثالث، ألا وهو جنون الغرام:

وكل الناس مجنون ولكن

على قدر الهوى اختلف الجنون

والهوى. . . يا ويح الهوى، ما أكثر شعابه، وما أضلّ أوديته؟!

الهوى. . . ومنذا الذي لم يته في واد من أوديته، ولم يسلك شعباً من شعابه؟

إن من لم يهوَ الغيد الحسان، هَوِىَ الرياض والجنان أو الأصفر الرنان، ومن لم تفتنه العيون التي في طرفها حور، فتنته الشهرة واستهواه الجاه. . . كل الناس مجنون، ولكن أخطر المجانين: مجانين الهوى!

وهل في الدنيا اشد جنوناً ممن ينكر الحياة ويعرض عنها، لا يريد أن يبصر وجهها، ويراها سوداء في عينه لا تنيرها الشمس ولا يضوئها القمر، كل ذلك لأن (امرأة) لم تمنحه قبلة. . . يا حفيظ! اللهم إنا نسألك السلامة!

أما عرفتم مجنون (ليلى)؟ هذا الذي زهد في المجد والرفاهية والعلم والمال والجنة. . . احتوى حياة البشر، وهام مع الوحش في البرية، وملأ أيامه حسرة وكآبة وغمام، لأن. . لأن الله خلق عيني ليلى سوداوين فتانتين، وجعل أنفها رقيقاً دقيقاً وبرأ فمها أحمر كالوردة، حلواً كالسكر، صغيراً لا يعرف إلا لغة القبل. . .

نعم، إنه جُنّ لأن الله لم يخلق ليلى هذه قبيحة شوهاء!

لقد كان يعيش قبل أن يعرف ليلى كما كان يعيش سائر أبناء آدم، وكانت حياته كاملة سعيدة

ص: 13

من غير ليلى، فاشتهى يوماً أن يدنو من امرأة كما يشتهي كل رجل، فقادته المصادفة إلى ليلى، فأرادها. . . فلم يصل إليها فجن. . . ولو كان عاقلا لرأى في كل امرأة في الدنيا غناء من ليلى. . . إن مثله مثل رجل أراد أن يدخل بيتاً له مائه باب، فطرق باباً منها وعالجه، فلم يفتح له، فتوقف يبكي وينتحب، شوقاً إلى الدخول، ويضرب الجار برأسه، والأبواب التسعة والتسعون مفتحة أمامه!

وإن لكل رجل (ليلى):

كل يغني على ليلاه متخذاً

ليلى من الناس أو ليلى من الخشب

فان فاتته ليلى الناس أجزأت عنها ليلى الخشب، فما بال قيس؟ أو لم يخلق الله في النساء جميلة إلا ليلاه؟ أو ليست المصادفة هي التي ألقتها بين يديه، ولو كان رأى سعدي أو سلمى، لكان مجنون سلمى أو سعدي؟

وهذا مجنون آخر هو ستيفن ماجدولين:

ولقد عرفته مذ نقله إلى الشرق إمام الكاتبين المنفلوطي رحمة الله على روحه، ثم رأيت وجهه الفرنسي الأصيل في يوم كنت فيه أنا أيضاً مجنوناً يفكر بأعصابه لا بدماغه، ويرى الدنيا كلها خلوة من خلوات الحب، والحياة قصة من قصص الغرام، والوجود كله وجه فتاة فتانة. . وقاتل الله الصبا وحماقات الصبا. . . عرفته يومئذ فرايته (بجنوني) بطلا من أبطال الحب، وشهيداً من شهداء العاطفة، ولكني عدت إليه اليوم، وقد عقلت، أو كدت، فإذا هو. . . أعوذ بالله!

يقول المجانين إن الحب يطهر النفوس ويزكيها، ويوسع آفاقها وينميها، ويسمو بها ويعليها، فتعالوا اسمعوا حديث هذا المحب الفرنسي ما صنع به الغرام:

هجر أباه وتبرأ منه، وأنكر حق أبوّته. . . ثم ذهب أخوه إلى المعركة وخاف أن يسقط عن سرجه، فبعث إليه يسأله ثمن سرج جديد، فلم يرد عليه، لأنه يحتاج إلى المال لينفقه فيما هو أهم، يريد أن يستأجر به مقعداً في المرقص يرى منه وجه ليلاه، أي ماجدوليته، فسقط أخوه عن سرجه، ومات في المعركة. . . ثم فارق أباه وبقي في العراء، فأحسن إليه واحد من أقربائه، وأعطاه ما يبغي من المال، فكانت مكافأته إياه على إحسانه أن سرق ماله، ودفع في صدره، فعجل موته. . .

ص: 14

فعل ذلك كله من أجل امرأة، أضاع كل شيء ليجدها، ولكنها أعرضت عنه، ومالت إلى غيره. . إلى صديقه الذي قاسمه خبزه، وشاركه فراشه، صديقه الذي سلبه سريره من تحته، فباعه لينفق ثمنه على مآربه وهواه، وهذا المجنون المغفل لا يحس ولا يدري، لأن الحب أعماه وأصمه. وهل رأيتم محباً له بصر؟ أعرضتْ عنه، ولها الحق في الأعراض. . . هل تتزوج مجنوناً؟ إن الزواج إذا بني على هذا الجنون الذي يسميه أصحابه (حباً)، صار البيت من بعده مستشفى مجاذيب، ومارستاناً من المارستانات!!

تزوجت بغيره، فذهب ينتزعها من زوجها الشرعي، ويرى أنه أحق بها، لأن اسمه واسمها منقوشان على شجرة زيزفون. . .

ما شاء الله كان! إنك تستطيع أن تأخذ المرأة من بين ذراعي زوجها، لأنك حفرت اسمها مع اسمك على شجرة. . . اسمعوا يا عقلاء (وأين العقلاء) شريعة المجانين. . . اسمعوا منطق الحب!

هذا هو الحب الفرنسي: تفريط بحق الأسرة، واستهانة بواجبات الشرف والدين، واستئثار قاتل يمحو من الحياة أسمى فضائلها، لهذه اللذة التي ينالها، ويفقر النفس العامرة بالإيمان والفضيلة والمجد، ولا يبقى فيها إلا صورة الحبيب، يراه العاشق في الأفق إذا نظر إليه والشمس واقفة للوداع، وفي السماء إذا تأمل فيها ونجومها تتوقد في هدأة الليل، وفي صفحة الماء والروض البهيج، وفي كل كتاب يقرؤه، ومشهد يراه:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثل لي ليلى بكل سبيل

فيا رحمتا لهؤلاء المجانين! إنهم عُمْى لا يبصرون من الدنيا إلا وجه امرأة واحدة. . . صُمّ لا يسمعون إلا صوتها. . . بُلْه لا يشتغلون إلا بها. . . مجرمون لا يبالون بكل رذيلة إذا أوصلتهم إليها. . . أذلاَّء لأنهم فقدوا الرجولة والكرامة، وغدا المثل الأعلى لهم أن يطيعوا هذه الرعناء الطائشة. . . لأن لها عيناً بلون السماء وزرقة البحر. . .

هذا هو الحب يا أيها الشباب الصغار!

كل عاشق هو (ستيفن)، ولو تناءت الديار، وتباعدت الأزمان، فاقرءوا سيرة ستيفن تقرءوا سيرة كل عاشق. . .

لقد ارتضى أن يخسر كل شيء ليربح ماجدولين، فلما خسرها لم يبق له شئ. . . لقد غدا

ص: 15

مجنوناً. . . وهل يمكن أن يكون محب عاقلا؟ ها هو ذا يحرق الورقة المالية التي لا يملك غيرها. . . ليقرأ على ضيائها رسالة الشيطانة. . . أعني الحبيبة، ويبقى من بعدها طاوياً يتضور جوعاً، لا يدري أن أحلام الحب وحماقاته لا تملأ المعدة الفارغة، وأن الرغيف الواحد أثمن عند الجائع من كل ما في الأرض من لَيْلَيَات وماجدولينات. . . لقد غدا تائهاً يدور في السبل والطرقات. . . وينام حيث يدركه المنام. . . لقد صيّره الحب موجوداً كالمعدوم. . . صار عضواً من الأمة أشلّ لا ينفع ولا يضر، بل إنه يضر ولا ينفع!!

لقد سَدَّ في وجهه طرقَ المجد، وحجب عن باصرتيه نور الشمس، فلم يبق فيه فائدة لنفسه ولا للناس، بل لقد صار هُزْأة وغدا مَسْخَرة. . . وكذلك يكون العاشقون!

وينال هذا المجنون خمسة عشر ألفاً يستطيع أن يصنع بها الجلائل، ويرفع بها لنفسه ولأمته مجداً. . . فماذا صنع بها؟ دفعها إلى عابر سبيل لا يعرفه. . . فما أكرم هؤلاء العشاق الذين يمنحون ثروتهم كلها إلى من لا يعرفون، ويضن الواحد منهم على أخيه بثمن سرج لفرسه، ويتركه يموت في المعركة. . .!

ثم يأتيه المال الوفير، فينفقه في أتفه الأمور وأحط الرذائل، يستأجر مقاصير المسرح كلها، ويرى الرواية وحده. . لماذا؟ ليغيظ المرأة التي أحبها فتزوجت بغيره، لأنها تريد أن يكون زوجها رجلا مثل الرجال، لا امرأة لها شاربان ولحية ولا عقل لها ثم يترقى ستيفن في فضائل الحب، فينتهي إلى الغصب والنهب من حانة. . . ويعلن جنونه ليهدم به الحياة البشرية، فيزعم أن الحب أقدس الواجبات، والزواج شر الرذائل، ثم تختم هذه الحياة النبيلة. . . السامية. . . بجريمة القتل!

هذا هو مجنون ماجدولين، وذلك مجنون ليلى. . . أما سائر المجانين ، فهم بقية العاشقين!

فإذا كان في الدنيا جنون عبقرية، وجنون مارستان، فإن جنون الهوى هو جنون الإجرام، لاسيما إذا كان هوى على الطريقة الفرنسية. . .

فيا أيها الشباب الصغار! إذا لم يكن بد من الجنون، فلنجن بالمعالي والمكارم والعلم والفن، أو لنسكن المارستان. . . أما المرأة، فصدقوني إذا قلت لكم: إنها لا تستحق أن يجن بها أحد!!

(دمشق)

ص: 16

علي الطنطاوي

ص: 17

‌على هامش النثر:

دفاع عن البلاغة

تأليف الأستاذ الزيات

للأستاذ سيد قطب

- 1 -

شغلتني الشواغل عن قراءة هذا الكتاب عند ظهوره، اعتمادا على أنني قرأت معظم فصوله منشورة في (الرسالة). . . فلما عدت إليه في هذه الأيام، وأنا أستعرض كتب النقد الحديث في المكتبة العربية عامة، وجدت أنني كنت مخطئا في اعتمادي على ما قرأته فصولا في الرسالة. فقراءة هذه الفصول شيء، وقراءة كتاب كامل في موضوع معين شيء آخر. ووجدت ان القضية التي يعرضها الكتاب جديرة بان تطور حولها الشروح والتعليقات، في هذا الأوان بالذات.

فللمرة الأولى بعد كتابَيْ (عبد القاهر) في القرن الرابع الهجري، تعرض قضية البلاغة على بساط البحث في هذا المحيط الشامل، وتناقش بوصفها وحدة في بحث مستقل، لا في صدد دراسة لكاتب أو كتاب.

ونحن قد نخالف الأستاذ في الكثير من قضايا هذا الكتاب كما نوافقه على أسس معينة لهذا البحث. ولكن هذا كله شيء آخر لا يمس القيمة الذاتية للكتاب في المكتبة العربية بوصفه أول علاج شامل لقضية البلاغة بعد كتابي عبد القاهر. لا يقف فيه مؤلفه عند الأدب العربي وحده، بل يسترشد كذلك بالنقاد الفرنسيين، وتطور المذاهب الأدبية هناك، كما يسترشد بالنقاد العرب، وتطور الأساليب في العصر الحديث.

وعنوان الكتاب قد يدل على موضوعه دلالة كافية (دفاع عن البلاغة) والأستاذ الزيات أولى الكتاب المعاصرين بالدفاع عن البلاغة فهو صاحب (مذهب التنسيق التعبيري) وضعت له عنوانه في كتابي القادم: (المذاهب الفنية المعاصرة) ذلك المذهبي المتفرع عن المنفلوطي، صاحب (مذهب الابتداع التعبيري).

والذي يجعل للتعبير وتنسيقه أهمية كبرى في الفن بل الذي يجعل الفن هو أساس هذا

ص: 18

(التنسيق التعبيري).

نحن نتفق مع الأستاذ في أساس القضية، وهو أن العمل الفني في الأدب لا يوصف بالجودة إلا أن يتهيأ للفكرة الجيدة، أو الإحساس الجيد، أسلوبا جيدا، وعبارة جيدة. وأن لا يفسد ويرك ويتعقد ثم تبقى لهذا العمل قيمته الفنية.

(فالفكرة والصورة في الأسلوب كل لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك: أعنيك، غير قولك: إياك اعني. وقولك: كل ذلك لم يكن، غير قولك: لم يكن كل ذلك. وقولك: ما شاعر إلا فلان، غير قولك: ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن. . . ص60

(من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة، يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار والصور والعواطف ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة. والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسة. وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبر عنه أو لتنفر منه). ص62

أوافق الأستاذ على هذا الأساس الذي عبرت عنه على طريقتي في كتاب (التصوير الفني في القرآن). والذي سبقنا إليه الإمام عبد القاهر فعبر عنه على طريقته في كتابه (دلائل الإعجاز). ولقد قررت هذه الحقيقة هناك بهذه الفقرات:

(وبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات (موضوعات القرآن) ويرى ما فيها من دقة وعظمة، وصلاحية ومرونة، وإحاطة وشمول، يحسبها ميزة القرآن الكبرى، ويحسب أن طريقة التعبير تابعة لها، وأن الإعجاز كله كامن فيها، كما أن بعضهم يفرق بين المعاني وطريقة الأداء، ويتحدث عن إعجاز القرآن في كل منهما على انفراد.

(أما نحن فنريد أن نقول: إن الطريقة التي اتبعها القرآن في تعبير، هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات، فهي كفاء هذه الأغراض والموضوعات.

(ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول اللفظ والمعنى وقد استغرقت من النقاد العرب

ص: 19

ما استغرقت منذ أثارها الجاحظ فزعم أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدامة وأبو هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين. وأنا لنحسب أن (عبد القاهر) قد وصل فيها إلى رأي حاسم حين انتهى إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ، إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه؛ وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير، إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه. وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به، فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.

(لم يصغ (عبد القاهر) القضية هذه الصياغة المختصرة، فنحن نترجم عنه، وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا، ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية، ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها لبلغ الذروة في النقد الفني، فنحن نقول عنه: إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى، وإنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد، اختلفت صورتا هذه المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد، فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة؛ فإذا تغيرت الصورة تغير المعنى بمقدارها. وقد لا يتأثر المعنى العام في ذاته، ولكن صورته في النفس والذهن تتغير. وهي المعول عليها في الفن - إذ التعبير في الفن للتأثير - فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه فالمعنى المنقول مختلف بلا مراء). ص 190

ويرتب الأستاذ الزيات على هذه الحقيقة نتائجها الطبيعية التي رتبها عليها بعض النقاد في الشرق والغرب، ولكن في شيء من الحماسة قد يجاوز القصد. قال في ص 66

(وقد غإلى علماؤنا البيانيون، فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها، فمن أخذ معنى بلفظه كان سارقا، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظا أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه.

(على أن هذا الرأي الجريء لم يكن من رأي العرب وحدهم. وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن (الأسلوب) التي ألقاها يوم دخل

ص: 20

الأكاديمية الفرنسية: إن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.

(نعم قال: (بوفون) إن الأسلوب من الرجل نفسه، ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل، كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال، إن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب، ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس؛ وإنما أراد أن الأسلوب، ويعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة؛ ومعنى ذلك أن الأفكار تكون قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكا خالصا له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه، فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك. ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة، فلما أجاد شوقي سبك اللفظ عليه في بيته المشهور:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة، وأبياته المروية!)

ونحن - على اتفاقنا مع الأستاذ في المبدأ السابق - نختلف معه هنا كما نختلف مع الجاحظ صاحب نظرية المعاني الملقاة على قارعة الطريق.

فإن كون العمل الفني يتألف من المعنى والصورة، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. لا يقتضي أن تكون الصورة وحدها هي العمل الفني الذي يثبت ملكيته من يجيده، ولا يقتضي كذلك أن تكون جودة الصيانة كفيلة برفع المعنى إلى مرتبة الجودة، كما جاء في بحث الأستاذ في مكان آخر حيث يقول في ص 73:

(إذا حلى في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبت إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها فدعك من أولئك الذين عادوا الكمال الفني بطباعهم. . الخ)

أو حيث يقول في ص 26:

(وليس أدل على أن الشأن الأول في البلاغة إنما هو لرونق اللفظ وبراعة التركيب، من أن المعنى المبذول أو المبذول أو التافه قد يتسم بالجمال، ويظفر بالخلود، إذا جاد سبكه وحسن معرضه. ولا بأس أن أقدم إليك مثلا من آلاف الأمثلة، بلغ معناه الغاية في السوقية

ص: 21

والفحش، ومع ذلك تحب أن تسمعه وتحفظه وتعيده لأنة بلغ من سر الصناعة تطلع دونها اكثر الأقلام.

(قال أبو العيناء الأعمى لابن ثوابه: بلغني ما خاطبت به أبا الصقر، وما منعه من استقصاء الجواب إلا انه لم ير عرضا فيمضغه، ولا مجدا فيهدمه.

(فقال له ابن ثوابه: ما أنت والكلام يا مكدي؟

(فقال أبو العيناء: لا ينكر على ابن ثمانين سنة، قد ذهب بصره، وجفاه سلطانه، أن يعول على إخوانه، ثم رماه بمعنى مكشوف. فقال ابن ثوابه:

(الساعة آمر أحد غلمانى بك.

فقال أبو العيناء:

(أيهما؟ الذي إذا خلوت ركب، أم الذي إذا ركبت خلا؟)

فانظر في هذه الجملة الأخيرة تره رمى ابن ثوابه في نفسه وفي زوجه، وهما معنيان سوقيان يترددان كل ساعة على السنة السبابين من أوشاب العامة. وانك مع ذلك من هذه الجملة موقف المشدوه المعجب، تحرك بها لسانك، وتعمل فيها فكرك، وتعرضها على مقاييس البلاغة وشروطها، فتطول على كل قياس وتزيد على كل شرط).

إلى أن يقول في ص 28:

(فأنت ترى أن الصياغة وحدها هي التي سمت بهذه المعاني الخسيسة إلى أفق البلاغة فتداولتها الألسن، وتناقلتها الكتب. وليس حال المعنى في ذلك حال اللفظ، فإن اللفظ في ذاته كالموسيقى يخلب الأذن، ويلذ الشعور وإن لم يترجم. أما المعنى فكالكهرباء، إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل، انقطع تياره، فلا يعرب ولا يطرب. اقرأ قول القائل:

لما أطعناكم في سخط خالقنا

لا شك سلَّ علينا سيف نقمته.

(ثم وازن معناه الشريف ونسجه السخيف، بما رويت لك من كلام أبي العيناء، فلا يسعك إلا أن تقول كما أقول:

(إن القَذر يوضع في آنية الذهب فيقبل ويحمل، وإن المسك يوضع في تافجة الطين فيرفض ويهمل)

ونريد نحن أن نقف عند الحقيقة الأولى التي اتفقت فيها مع الأستاذ كل الاتفاق، فتجاوزها

ص: 22

قد يوقع في الزلل

والسبيل الأقوام في هذا المجال أن نقول:

إن العمل الفني لا يكون بالفكرة الجيدة المبتكرة وحدها، ولا بالإحساس الصادق الجميل وحده، إنما يتم بالصورة الجميلة التي يبرز فيها المعنى والإحساس

أما الصورة وحدها، فلا تستطيع أن تخلق فناً إنسانياً خالداً إذا خلا من الإحساس الجميل الصادق، ومن الفكرة العميقة المبتكرة، ومن التصور الفذ الخاص، هذه العناصر التي يجب أن يحسب لها حسابها في كل فن يراد له السمو أو الخلود

وأقصى ما تصل إليه الصياغة أن ترفع المعنى أو الإحساس في صورة عنه في صورة أخرى، ولكنها لا ترفع بذاتها عملا فنياً على عمل فني آخر، إذا ارتفعت في الأول مع سفول معانيه، وانخفضت في الثاني مع ارتفاع قيمته.

إنها تصلح مقياساً حين تتحد الفكرة أو المعنى العام ثم تختلف الصورة، ولكنها لا تصلح للقياس الدقيق حين يكون هناك فكرتان أو معنيان يختلفان في قيمتهما الإنسانية والشعورية.

وهذه كلمة أبي العيناء، إنها ستبقى - على براعة صياغتها - مجرد نكتة لاذعة، لا تتسامى إلى الآفاق الشعورية في الفن العالي، وكذلك سيبقى بيت (شوقي) حكمة مكرورة شائعة، ولكنها لا تسلك في مستوى الحكمة النابعة من طبع ذي خصوصية وامتياز. أما البيت الذي استشهد به الأستاذ على ما تصنعه الركة بالمعنى العالي، فهو صالح كذلك للاستشهاد به على سوقية التفكير، إذ لا خصوصية ولا ارتفاع عن تفكير العوام

والخصوصية في الأحاسيس والمشاعر والأفكار شيء ثابت، وله قيمته التي لا تنكر، وهي مناط الأصالة في الفن، وكل ما نريده هو القول بأن هذه الخصوصية لا تبدو كاملة إلا في صورة جيدة الصياغة، وفي أصالة أسلوب وتعبير تكافئ أصالة الشعور والتفكير، وإلا بقيت مطموسة ناقصة لا تبدو في جلالها الكامل، ولا ترقى إلى الآفاق العالية في الفنون

وقد تحدث الأستاذ عن الأصالة والخصوصية في الأسلوب حديثاً في غاية الجودة والصحة حين قال في ص 82:

(يراد بالأصالة في الأسلوب بناؤه على ركنين أساسيين من خصوصية اللفظ وطرافة العبارة، وتلك هي الصفة الجوهرية للأسلوب البليغ، والسمة المميزة للكاتب الحق. ومِلاك

ص: 23

الأصالة ألا تكتب كما يكتب الناس، ملاكها أن تكون أصيلا في نظرتك وكلمتك وفكرتك وصورتك ولهجتك، فلا تستعمل لفظاً عاماً ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارة مشاعة. ولعلك قرأت فيما قرأت كلاماً يرضي اللغويين ويعجب النحاة، واكنه مضطرب الدلالة، مختلط الألوان، تفه المذاق، لا تستقله روح، ولا تمثله صورة. ذلك هو الأسلوب الذي صدر عن الذاكرة، ولم يصدر عن الذهن، ونقل عن الناس ولم ينقل عن النفس، وعبر بالجمل لا بالكلمات، وأبان بالتقريب لا بالدقة، وصور بالسوقي المبتذل لا بالأصيل المبتكر)

وكان من حق الأصالة في الشعور والتفكير أن تنال من الأستاذ ما نالته الأصالة في الأسلوب والتعبير، فالمعاني والأحاسيس ليست شائعة ملقاة على جانب الطريق، وإلا فأين تذهب الطبائع الأصيلة الممتازة التي ترى الدنيا والأشياء بعين خاصة، فإذا هي تعيش في كون خاص بها من صنع أحاسيسها وتفكيرها؟

تلك فلتة من فلتات الحماسة للبلاغة من صاحب (دفاع عن البلاغة) يرد بها الغلوّ في إنكار قيمة التعبير، فيجعل المزيّة كلها للتعبير

على أن الأستاذ يعود فيضع الأمر في نصابه إلى حد كبير في ص 78 حين يقول:

(خلص لنا من محض هذه الأحاديث أن الأسلوب الفني يتكون من الصورة والفكرة، كما يتكون الماء القراح من الهيدروجين والأكسجين. وكما استحال في فن الطبيعة أن يتكون الماء من أحد عنصريه، فقد استحال في فن الإنسان أن يتكون الأسلوب من أحد جزأيه. ولا أقصد وجه الشبه بين الأسلوب والماء على أن تركب هذا وذاك من عنصرين ضربة لازب إنما أمدُّ الشَّبه إلى أن نسبة الصورة إلى الفكرة في الأسلوب يجب أن تكون كنسبة الهيدروجين إلى الأكسجين في الماء! وإذن لا يعد من الأساليب ألفية تلك المعاني الحكيمة التي تعرض في معرض بشع من الركاكة والغثاثة والتعقيد والخطأ، ولا تلك الصور المموهة التي تنتفخ انتفاخ الفقاقيع، وتبرق بريق الشرر، ثم لا يكون من ورائها غير فراغ وظلمة)

ففي هذا التقرير قصد ودقة تعود بنا إلى الحقيقة الأولى التي اتفقنا عليها، وتحسب لكل من الفكرة والصورة حسابها الصحيح

(للكلام بقية)

ص: 24

سيد قطب

ص: 25

‌الأدب في سبر أعلامه:

مِلْتُن

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للكاتب محمود الخفيف

- 16 -

بعد أوبته من إيطاليا:

آب ملتن إلى وطنه بعد أن غاب عنه سنة وثلاثة أشهر! وكانت الحرب بين إنجلترا واسكتلندة في أولى مراحلها؛ وكانت السياسة الداخلية دائبة في عصفها لا تكاد تجنح إلى السكون حتى تهب ريحها عاتية من كل جانب.

وكان يتوقع منه بادي الرأي وقد آثر العودة إلى بلاده على المضي في رحلته حياء منه، كما ذكر، أن يستمتع بالرحيل والأحرار في وطنه يعانون ضروب البلاء، أن يلقي بنفسه في غمار السياسة أنفة منه وحفاظا ودفاعا عن الحرية التي يعشقها والتي ركب في فطرته الميل إلى نصرتها؛ ولكنه ركن إلى الدرس ولاذ بالعزلة كما كان يفعل قبل رحيله.

وقد ملأ الحزن جوانب نفسه على صديقه ديوداتي، وآلمه ألا يجد مكانه من يستطيع أن يفضي إليه بأنباء رحلته، ويظهره على ما لقي أثنائها من حفاوة وما اكتسب من حسن السمعة وذهاب الصيت.

والتمس العزاء لنفسه في مرثية كتبها فأدى بها حق الوفاء لصديقه. وقد اختار لها اللغة اللاتينية كما اختار لها الجو القروي وصور الرعاة وحياتهم، والذين يعرفون اللاتينية ممن كتبوا حياة ملتن على اتفاق أنها من حيث الفن في ذاته لا تنزل عن مستوى مرثيته ليسيداس؛ وإنها من حيث العاطفة أعمق وأصدق من أختها لأن صلة ديوداتي بملتن كانت أوثق من صلة كينج به، فقد كانا ديودتي قرينه منذ صغره وقرب خلانه إلى قلبه وأشدهم محبة له؛ واخذ ملتن يذكر له في مرثيته ما كان يحب لولا أن طواه الموت أن يلقيه على سمعه؛ وجعل ملتن من نفسه ومن صاحبه راعيين كما فعل في ليسيداس، وأثنى على خلال

ص: 26

صاحبه ولا سيما وفاءه وذكاءه ومرحه وتألم أن كان بعيداً عن وطنه في غير ضرورة ملجئة فلم ير نهاية صديقه. وأشار ملتن في هذه المدينة إلى أنه سوف يجد العزاء في الشعر فيكتب إلياذة عن تاريخ قومه وأساطيرهم جاعلا الملك أرثر وفرسانه أبطال ملحمته متخذاً اللغة الإنجليزية أداته؛ ولكن هذه الملحمة التي وعد بها ظلت مجرد وعد فقد صرفته عنها شواغل السياسة والدين كما صرفته عن الشعر جميعاً اللهم إلا بضع مقطوعات قصيرة زهاء عشرين عاماً. . .

وكما أطلق ملتن على إدوارد كنج اسم ليسيداس أطلق هنا على ديوداتي اسم دامون؛ وكان دامون من مشاهير الفلاسفة ورجال الموسيقى بأثينا، وكان صديقاً وأستاذاً ابركليس؛ وقيل إنه كان كذلك أستاذاً لسقراط، وكان مضرب المثل في الوفاء، فقد اقترف أحد أصحابه جريمة كان قصاصها القتل، وعول ملك سيراكوز على قتله فاستأذنه أن ينصرف ليقوم على بعض شؤون أسرته ثم يعود لينفذ فيه القصاص. وتقدم دامون فرضي أن يكون رهينة عند الملك ليقتله بدل صاحبه إن لم يعد في موعده؛ وحل الموعد وهم الملك بقتل دامون فجاء صاحبه معجلا فأنقذه؛ وأثر وفاء الرجلين في نفس الملك فعدل عن قصاصه وطاب إليهما أن يكون ثالثهما في هذه الصحبة الوثيقة.

ونجد في اختيار ملتن هذه الاسم لصاحبه شاهداً من شواهد فنه، فهو يلمح كما ذكرنا من قبل إلى المعنى الواسع بالكلمة الواحدة. . .

واختتم ملتن مرثيته بإشارته إلى موت صاحبه ولم يتزوج، فذكر الحب وقال إن من حق الشباب أن يحب، وأن الذي يذوق طعم الحب وقد تقدمت به السن يذوق طعم الحسرة مضاعفا؛ ثم يبشر صاحبه بأنه سيلقى في الجنة خير العوض عما فاته في الدنيا فسيستمتع بزواج خالد في عرس بهيج من أعراس الفردوس.

ويجد بعض الكتاب في ذكره الحب وأنه من حق الشباب وفي تألمه على موت صاحبه ولم يتزوج تلميحا منه إلى حالته هو، وإن خفي هذا التلميح، ويقولون إن ملتن كان يفكر يومئذ في الزواج وإنه قد مل أن يعيش أعزب.

على أنه يعود إلى القراءة في إقبال لا يقل عن سالف إقباله عليها أثناء مقامه في هورتون؛ وقد اتخذ له بعد أوبته من إيطاليا مسكنا في لندن فلم يعد إلى القرية. ورضى أبوه الشيخ أن

ص: 27

يمدد بما يطلب من المال وإن كان لا يزال يعجب ويتألم ألا يتخذ ابنه عملا إلا ما لا يبرح يردده من تثقيف نفسه أيكون أهلا لما يستشرف له في دنيا الأدب؛ وراض الرجل نفسه على سماع هذا وعلى الجود بما يطلب ابنه من المال. والحق أن ابنه لم يطلب منه كثيراً وحسبه من المال ما يشتري به قوته وما يلزم له من الكتب وما يدفع منه أحر مسكنه. . .

وضاق المسكن الجديد بكتبه ما اقتناه منها في هورتون وما اشتراه من إيطاليا، فاتخذ له مسكنا أوسع منه في أطراف المدينة. وهناك عكف على القراءة والدرس تاركا الشؤون العامة إلى (عناية الله أولا ثم إلى من وكل إليهم الناس القيام على هذه الشؤون).

وأشرف ملتن في مسكنه الجديد على تعليم ابني أخته وقد قبلها ليقيما عنده بعد موت أبيها وزواج أمها من غيره، وما لبث أن ضم إليها عددا من أبناء أصحابه الأقربين. وأقبل على تعليمهم جميعا في حماسة ولذة لا تقل عن شغفه بالقراءة والدرس ولقد عجب دكتور جونسون من عمله هذا وسخر منه فأشار إليه بقوله:(إنه ينظر بشيء من الفكاهة إلى ذلك الرجل الذي يبادر بالعودة إلى وطنه لأن قومه يكافحون في سبيل الحرية، ولكنه لا يلبث وقد ميدان العمل أن يدع وطنيته تتبخر في مدرسة يفتحها في بيته).

وأقبل ملتن على تعليم هؤلاء الصبية وعلى قراءة فلا يدع فيها ساعة من نهاره إلا ملأها بعمل حتى أيام الآحاد فلم يدع فيها كتبه وأوراقه إلا ريثما يؤدي واجب الدين. ونتبين مما كتبه أحد ابني أخته فيما بعد عن حياته وأخيه في بيت خالهما أنه كان يأخذهما بالجد في غير هوادة ومن كان معهما من أبناء أصحابه، ولكنا لا نتبين فيما كتب أن ملتن قد اهتدى إلى طريقة خاصة في التعليم أو أنه جرى على أسلوب اقتنع بسلامه وفائدته، فكل ما ذكر ابن أخيه لم يعد الكم؛ فهو يباهي بأنهم قرءوا كثيرا وتعلموا كثيرا. . .

بهذا الدأب وبهذه العزيمة أقبل ملتن على العمل بعد عودته من إيطاليا. على أن ابن أخته يذكر من أنباء تلك الأيام أن خاله كان ينصرف عن العمل كل ثلاثة أسابيع أو كل شهر مرة فيقضي يوما بين نفر من صحابته يستمتعون بالمرح واللهو البريء.

وماذا كان يقرأ ملتن بعد أوبته من إيطاليا؟ إنه اليوم شديد الولوع بالتاريخ وعلى الأخص تاريخ قومه، وإن الملحمة التي داعبت خياله في إيطاليا عن تاريخ قومه أو الآرتريادة ليعاوده حلمها اليوم ويلح عليه. ولقد أشار إليها كما ذكرنا في مرثيته عن صديقه ديوداتي؛

ص: 28

كما أنه أثبت كثيرا مما يتصل بها في كشكوله الذي اتخذه منذ إقامته في هورتون ليكتب فيه كل ما يعن له من الآراء والملاحظات. . .

وأثبت ملتن في تلك الكراسة من الإشارات ما يدل على دراسة شؤون السياسة، كالمعضلة المالية والضرائب والملكية والجمهورية وحرية الرأي وحرية النشر والقوانين والاستبداد، وغيرهما مما يتصل بأحوال عصره.

ولن يزال يقرأ ويتدبر، ولن يزال يعتقد أنه لم يفرغ بعد من أهبته لما يجب أن ينهض له من عمل في دنيا الشعر، تجد دليلا على ذلك في قوله إنه يساير (ذلك التلقين الباطني الذي يزداد يوما بعد يوم فيوحي إلى أنه بالجد والدراسة المقصودة وهو ما أعده حظي في هذه الحياة مضافا إلى ذلك ميل فطري قوي، قد يتأتى لي أن أترك أثرا كتبته لمن يأتي بعدي من الأجيال فلا يدعونه إلى النسيان).

وما عسى أن يكون ذلك الأثر ومتى ينهض له؟ لعل الشاعر لم يكن أكثر بينة من أمره فيما يتصل بموضوع ذلك الأثر الخالد منه فيما يتصل بتاريخ البدء فيه، فأن كراسته تنطوي على نحو مائه موضوع غير الآرثريادة وكثرتها تتصل بالدين ومسائله من عهد آدم وحواء والخروج من الجنة وما إلى ذلك مما يدل بكثرته وتنوعه على حيرة الشاعر بين ما يأخذ وما يدع. . كذلك حار ملتن بين الصور التي يختار واحدة منها لموضوعه، أتخذله الملحمة على نحو ما فعل هوميروس ودانتي، أم يتخذ له الدراما؛ أم يترك هذه وتلك إلى سلسلة من الأناشيد مثل أناشيد بندار، فلكل من هذه الصور مميزاته ومحاسنه، ولعل مرد حيرته في اختيار الصورة إلى أنه لم يحدد الموضوع، إذ أن الموضوع في الواقع هو الذي يعين الصورة التي يؤدي فيها.

ومهما يكن من أمر هذه الحيرة فقد على الشاعر أن يدع قيثارته جانبا نحو عشرين سنه لم يكن له فيها أداة إلا النثر اللهم إلا مقطوعات قليلة نفس بها عن صدره في بعض المناسبات.

اجتمع البرلمان الطويل في نوفمبر سنه 1640، وقد إليه مقترح الأصل والفرع، ذلك المقترح الذي شمر له البيوريتانز، وأرادوا به القضاء على النظام الأسقفي ومن المشفقين من التطرف في الدين والسياسة الذين آثروا الوقوف إلى جانب الملك ودب الخلاف على

ص: 29

هذا النحو بين أعضاء البرلمان.

وانتقل الخلاف إلى خارج البرلمان فانقسم الناس فريقين: أنصار النيوريتانز، وأشياع الملك وكبير الأساقفة

وظهر الجانب السياسي من تفكير البيوريتانز يومئذ في وضوح، وأخذوا يشيعون آراءهم في الناس؛ فالناس جميعا أمام الله سواء، ولا يكون الخوف إلا من الله وحده، والعدالة الاجتماعية وإقرار الحق في كل أمر هما دعامتا المجتمع الأساسيتان إلى غير ذلك من الآراء الحرة التي تناهض الاستبداد والطغيان.

وأما في الدين، فلم يبرح البيوريتانز يعلنون مقتهم لكنيسة روما وللنظام الأسقفي وازدراءهم لهما، وما يرجوا كذلك ينسبون إلى القساوسة أنهم هم الذين يوحون إلى الملك طغيانه وعلى الأخص كبيرهم وليم لود، وراحوا يذيعون أن لا حاجة بالناس إلى أخذ الدين عن القساوسة، فلكل امرئ الحرية أن يتفقه في دينه مستعيناً بكلام الله، وإذا فلم لا يستغني الناس عن الأساقفة ولم يعد لهم ما سلف من خطر؟

وتمسك لود وحزبه بوجوب طاعة الملك، وأعلنوا أن لا غنى للدولة عن النظام الأسقفي، وأن الكنيسة هي دعامة الملك والمجتمع، فإذا قضى عليها شاعت الفوضى في كل شيء. وكان يعمل لود على العودة شيئاً فشيئاً إلى كنيسة روما في روحها ونظامها ومظهرها، وكان يحارب مبدأ كلفن في القدر المحتوم، ويعضد المبدأ القائل بالاختيار، ويضطهد من يدعوا إلى الاعتماد على الإنجيل وحده بغير رجوع إلى القس، وأمعن لود في الكيد للنيوريتانز، واستعان بسلطة الدولة فأذاقهم سوء العذاب!

على أن فريقاً من المعتدلين وقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وان كانوا قلة. ويرى هؤلاء المعتدلون أن المرء حر فيما يفكر فيه، أو فيما يأتي من عمل ما دام يطيع الملك والقس. وكان ملتن أقرب إلى هؤلاء المعتدلين منه إلى متطرفي البيوريتانز؛ فقد كان يجب التسامح ويدعو إليه. وخالف البيوريتانز في تزمتهم ومبالغتهم في الزهد والتقشف. وعنده أن المرء إذا وفي واجب الدين حقه، واستمسك بالفضيلة فلا تحرم عليه زينة الله التي أخرج لعباده. وللناس أن يستمتعوا أيام الآحاد بما يشيع البهجة والمرح في نفوسهم بدل أن يحشروا حشرا إلى الكنائس ويحملوا على البقاء فيها طويلا. . .

ص: 30

ولكن ملتن أنكر بكل ما في نفسه من حب للحرية على القساوسة تعصبهم واستبدادهم، وألقى بقيثارته من يده على رغمه وخرج من عزلته ليبدأ ضد القساوسة كفاحا ثائرا عنيفا تجلى فيه كل ما في طبعه من إنكار ومقت للتعصب، وكل ما في روحه من تمرد على الاستبداد وميل إلى نصرة الحرية.

(يتبع)

الخفيف

ص: 31

‌التطورات السياسية في الشرق الأقصى

للأستاذ محمد جنيدي

تمخضت الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى عن ظهور الجمهورية في جزائر الهند الشرقية المعروفة في القاموس السياسي الحديث باسم ولكي يدرك القارئ مدى مدلول استعمال هذه الكلمة - حديثا وقديما - نقدم له تعريفاً أولياً عن الوضع الطبيعي والسياسي للجزائر الإندونيسية، كما ذكره علماء التاريخ والجغرافيا.

الوضع الطبيعي:

قرر علماء التاريخ والجغرافيا أن الشعوب الأسيوية المنتشرة في جزر المحيط الهادي والمحيط الهندي، وفي شواطئهما الطويلة تفرعت من أصل واحد، هو الأصل الإندونيسي، الذي وجد في هذه الجزائر قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة آلاف سنة! وبنوا تقريرهم على الحقائق الثابتة للصفات واللغات والسمات التي تنسجم عليها هذه الشعوب في حياتها الحاضرة فعرفوا بلدانها بكلمة جامعة هي وهي كلمتان ركبتان تركيباً مزجياً هي بمعنى الهند والثانية بمعنى الجزائر في اللغة اليونانية. وتشمل إندونيسيا الجزر والبلدان الواقعة في شرق وجنوب آسيا، وهي:

1 -

جزر الفلبين. 2 - تايلاند (سيام). 3 - أنام (الهند الصينية). 4 - بورما. 5 - ملايا. 6 - جزائر الهند الشرقية - جاوا، سومطرة، بورينو - سليبيس.

وأشهر حاصلاتها الزراعية: الأرز، قصب السكر، السمسم، البن، الشاي، الخان، القطن، البردي، النارنج، الكينا، المطاط، الكاكاو، النيلة، الأناناس، الفوفل، القات، الفلفل،

وأكثر معادنها المستخرجة: الذهب، الفضة، الفحم الحجري، النفط، القصدير، الألمنيوم، الحديد.

وأشهر حيواناتها: الجاموس، البقر، الخيل، الغنم.

إما جوها فمعتدل: إذ تهب عليها الرياح من المحيطين، والأمطار تتساقط عليها دوماً، حتى جعلتها زمردة خضراء في الشرق الأقصى!. . .

الوضع السياسي:

ص: 32

لما بدأ الاستعمار الغربي للشرق في القرن السابع عشر، شرعت حكومات إسبانيا والبرتغال وهولندا وإنكلترا في الفتح الاقتصادي للشرق الأقصى، فإنشاء شركات تجارية تنقل المحصولات الزراعية الإندونيسية. من الشرق إلى الغرب، عن طريق الشرق الأوسط ورأس الرجاء الصالح. وكانت التوابل الإندونيسية أهم الصادرات من الشرق الأقصى لأوروبا. ولما تمكنت الشركات الأوروبية من السيطرة على الحياة الاقتصادية للشرق الأقصى، اندفعت حكوماتها إلى ميدان السياسة الاستعمارية وفرضت سيادتها على البلدان الإندونيسية، بعد قتال ومعارك عنيفة؛ ففي هذا الظرف كانت في إندونيسيا حكومة إسلامية مركزها مدينة ديمك بجزيرة جاوة، وحكومات أخرى في سومطرة وبورنيو وملايا والجزر الأخرى.

فالدولة الأسبانية استعمرت الفلبين التي تبلغ مساحتها 114000ميل مربع، والدولة الفرنسية استعمرت (أنام) التي تبلغ مساحتها 281000 ميل مربع، وإنكلترا استعمرت (بورما وملايا) اللتين تبلغ مساحتهما 262000 ميل مربع لبورما، 36000 ميل مربع لملايا. وجاوة وسومطرة وبورنيو استعمرتها هولندا، وتبلغ مساحتها 731000 ميل مربع. أما تايلاند فقد حافظت على استقلالها.

وتطلق كلمة (إندونيسيا) في العصر الحديث على المستعمرة الهولندية سابقا التي أشهرها الجزائر الآتية:

جاوة، سومطرة، بورنيو، سلبيس، غينيا الجديدة، جزائر الملوك، بالي، مادورا، بنكا، بليتون، سمباوة، تيمور، فلوريس، وتبلغ مساحتها 731 ألف ميل مربع، وعدد سكانها 75 مليون نسمة.

ففي هذه الجزائر ظهرت الجمهورية الحديثة، التي هي أول حكومة جمهورية في الشرق الأقصى. وسنتابع الآن البحث عن التطورات السياسية التي حدثت في إندونيسيا منذ فجر القرن العشرين حتى عام 1935، ليقف القارئ العربي على أهم الحركات الاستقلالية التي قام بها الشعب الأندونيسي، خلال خمسة وأربعين عاما.

لقد تأثر الشعب الإندونيسي بنتائج الحرب اليابانية الروسية في عام 1904، وزاد تأثره قوة الدعايات اليابانية الشهيرة، بدعوة الشرق إلى ضم صفوفه للقضاء على الاستعمار الغربي.

ص: 33

فكان انفجار القنبلة الأولى (الشرق للشرقيين) التي حفزت الشعوب الشرقية لمقاومة الاستعمار الغربي يهدر في المحيط الشرقي فيرتجف الغرب له، ويزيد في تقوية مركزه. وفي 20 مايو سنه 1908 نهضت إندونيسيا الكبرى نهضة قوية مركزها على أسس علمية حديثة. فقد أنشأ طلبة كلية الطب برئاسة الدكتور وحيدن بمدينة جاكرتا جمعية أو النزعة الفاضلة للمقاصد الآتية:

1 -

السعي لاستقلال إندونيسيا السياسي.

2 -

العمل لنشر الثقافة العالية.

3 -

العمل لإصلاح الحالة الاقتصادية.

وفي شهر أكتوبر عام 1908 عقدت الجمعية أول مؤتمراتها. فبلغ عدد الأعضاء 000، 10 عضو، وهذا رقم يدل على قبول الشعب لمقاصد الجمعية.

كان أكثر المنتسبين للجمعية طلبة المدارس والكليات العالية وأبناء الأسر الراقية، وانتشرت فروعها في أنحاء إندونيسيا. تسعى لتحقيق مقاصد الجمعية، واشهر من قاموا بالدعاية للجمعية الدكتور لشلومو الذي اصبح في عام 1936 زعيما لحزب إندونيسيا الكبرى وشكري أمينوتو الذي اصبح في عام 1912 زعيما لحزب (الرابطة الإسلامية). وتعتبر جمعية (بودي أوتومو) الحجر الأساسي للأحزاب الوطنية، والدعامة الأولى في صرح النهضة الإندونيسية الحديثة.

استطاعت جمعية بودي أوتومو إثارة الروح القومية، وإشعال نار الحماسة في نفوس الإندونيسيين. فأصبحت إندونيسيا أتونا يتقد، وفي 10 سبتمبر سنة 1912 ظهر في المسرح السياسي - الهولندي الإندونيسي - حزب سياسي له سلطته الدينية وقوته القومية، هو حزب برئاسة شكري أمينوتو لتنفيذ الخطط الآتية:

1 -

العمل لتحرير إندونيسيا السياسي التام.

2 -

الدفاع عن الإسلام.

3 -

توسيع نطاق التعلم، وإصلاح الحالة الزراعية والاقتصادية.

وفي عام 1916 بلغ عدد أعضائه ثلاثة ملايين عضو. أما فروعه فمنتشرة في المدن والقرى، وللحزب أقسام عليا رئيسية هي: التشريع، والقضاء، والتنفيذ. وأقسام أخرى

ص: 34

للشباب والرجال والمرأة والفتاة، والتعليم، والمالية، والصحافة ، والنشر والرياضة، والاقتصاد، ودائرة كبيرة للتحكيم.

وأبرز أعضاء الحزب: مستر أغوس سالم، وهو وكيل الحزب، كان قنصلا للمفوضية الهولندية بمكة قبل نشوء الحرب العالمية الأولى، ثم استقال واشتغل بالسياسة في حزب الرابطة الإسلامية. وفي عام 1923 مثل نقابات العمال الإندونيسيين بجنيف. وفي العهد الحاضر يتولى منصب وكالة وزارة الخارجية للجمهورية الإندونيسية. وفي عام 1921 انتخب عضوا في المجلس النيابي في دورته الثانية عن حزبه.

وفي 6 سبتمبر 1912 أنشأ الدكتور دويزديكر والدكتور شفتو ماعون كسومو والبروفيسور كي هاجر ديوانتارا حزب أو الحزب الأندولندي، قابلا أعضاؤه من الهولنديين ما داموا ولدوا في إندونيسيا. والحزب يسعى لاستقلال إندونيسيا. وفي عام 1913 نفت الحكومة الهولندية زعماء الحزب إلى الجزر الإندونيسية البعيدة عن المجتمعات المتحركة الحية. ثم في عام 1914 نفتهم جميعا إلى هولندا مراعاة لمركزهم الاجتماعي لدى الشعب. وبهذا العمل، قضت السلطة الهولندية على الحزب.

وفي مايو عام 1914 أسس المستر سنفليت الهولندي الحزب الاشتراكي الديموقراطي مع بعض زملائه الهولنديين ممن تشبعوا بالأفكار التي حملها المستر سنفليت من أوربا. وهي الأفكار الاشتراكية الحديثة، ولخشية السلطة الهولندية من انتشار الروح الشيوعية في المجتمع الإندونيسي حلت الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وأرجعت إلى هولندا بعض زعمائه. أما سنفليت فمكث في إندونيسيا.

ومبادئ الحزب الاشتراكي الديموقراطي، القضاء على الرأسمالية الدولية، وإنشاء قوة شعبية اشتراكية، تمكن إندونيسيا التحرر من الاستعمار الهولندي الذي يؤيده الإمبريالية العالمية.

وفي سبتمبر عام 1914 أنشأ بعض الزعماء الإندونيسيين حزب أشهرهم رادين أوتو اسكندر ديناتا. وكان الحزب يرمي إلى إيجاد رابطة شعبية مكونة من كبار الموظفين والتجار والصحفيين والأسر الراقية، لتقود الشعب إلى ميدان الجهاد لتحرير إندونيسيا من السيطرة الهولندية. وفي عام 1917 ظهر في جزيرة سومطرة حزب أو (رابطة سومطرة)

ص: 35

قاصداً إلى توحيد الجبهات الشعبية في جزيرة سومطرة للعمل متحدا في حقل الميدان السياسي لمقاومة الاستعمار.

ولما نشبت الحرب العالمية الأولى قدمت الأحزاب السياسية الوطنية مذكرة إلى الحكومة الهولندية بإنشاء حكومة إندونيسية وبرلمان، فوعدت السلطة الهولندية الأحزاب السياسية بإنشاء مجلس نيابي بعد أن تضع الحرب أوزارها. وفي مايو 1918 افتتح المجلس النيابي جلسته الأولى، فجاء مخيبا لآمال الوطنيين، إذ كانوا يرمون إلى إنشاء برلمان وحكومة وطنية. وانتخب أعضاؤه من الإندونيسيين وعددهم ثلاثون عضوا، ومن الهولنديين وعددهم خمسة وعشرون عضوا، ومن الشرقيين خمسة أعضاء. ودلل هذا الانتخاب على أن هذا المجلس ليس مجلساً نيابيا أندونيسيا؛ بل هو مجلس هولندي، فما نسبة ثلاثين عضوا من سبعين مليون نسمة؟!. . إنها نسبة تتضاءل جدا أمام هذه الأرقام الهائلة!

(البقية في العدد القادم)

محمد جنيدي

ص: 36

‌الشيوعية الخُرِمَّية

للأستاذ عباس حسان خضر.

الخُرمية نسبة إلى خُرَّم بمعنى الفرح، وأصحابها يحللون كل ما يريدون ويشتهون، فيسمون مذهبهم مذهب الفرح. وقد أخطر لي الكلام على هؤلاء الخرميين الشيوعيين الذين قاموا بأذربيجان منذ أحد عشر قرناً - تلك الحوادث الجارية في ذلك الإقليم من شمال إيران المتاخم لروسيا. ولك أن تلاحظ صلاح تلك البيئة لنمو الأفكار الشيوعية فقد نشأت بها مذاهبها متجهة من الجنوب إلى الشمال: كانت المزدكية القديمة في بلاد فارس، ثم كانت الخرمية (موضوعنا) في شمال فارس ولعل الفكرة قد تابعت سيرها إلى الشمال حيث استقرت في روسيا في عصرنا الحاضر شيوعية مغربلة منخولة، نفي التنظيم الحديث منها كثيراً من العناصر الفوضوية القديمة، حتى أصبحت نظاماً من نظم الحياة في هذا العصر، له مبادئه وفلسفاته، وله أنصاره ومعارضوه. قامت الشيوعية الخرمية بتلك الأصقاع في عهد المأمون، واستطار شرها وعظم خطبها، وهب إعصارها على لحضارة الإسلامية في إبان ازدهارها، فحشدت لها الدولة العباسية قواتها وظلت تكافحها عشرين سنة، حتى أخمدت أنفاسها.

كانت الخرميةُ الميلاد الثاني للشيوعية في تلك البلاد، بعد مزدك الذي ظهر في عهد قباذ ملك الفرس، فدعا إلى المشاركة في كل شئ، بحيث لا يمنع أحد مما يشتهي، كما دعا إلى ترك المنازعات والخصومات والحروب. ومال قباذ إلى هذا المذهب، فلما ملك بعده ابنه أنوشروان قتل مزدك وقضى على الشيوعية الأولى. أما الخرميون فقد زادوا على المزدكية القديمة القتل والغصب والحروب، وكانوا - إلى تلك الإباحية - يدينون بالتناسخ، أي حلول الأرواح في أجساد أخرى غير التي فارقتها، وقد أدعى زعيمهم بابك الخرَّميّ أنه إله، حلت به روح كبيرهم الأول جاويدان

كان بابك في حياته الأولى راعياً صغيراً في قرية بأذربيجان، وقد زعمت أمه أنها نظرت إليه وهو نائم فرأت تحت كل شعرة من رأسه وصدره دما، فلما انتبه من نومه اختفى هذا الدم، فقالت إنه سيكون لابني نبأ جليل. .

اتصل بابك بجاويدان ملك الخرمية، فقر به إليه، لما رأى من فطنته وخبثه وشهامته. فلما

ص: 37

مات جاويدان استدعت امرأته بابك وقالت له: إنك جلد شهم، وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغد. . .

فلما أصبحت تجمع إليها جيش جاويدان، فقالوا: لمَ لمْ يدعنا ويوصي إلينا؟

قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث إليكم وجمعكم انتشر خبره، فلا يأمن عليكم شِرَّةَ العرب، فعهد إليَّ بما أؤديه إليكم.

قال لي: أني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني، وتدخل في بدن بابك، وتشترك مع روحه؛ وإنه سيبلغ بكم أمراً لم يبلغ أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة، ويرد المزدكية، ويعز به ذليلكم، ويرتفع وضيعكم.

فآمن القوم ببابك، وتزوج امرأةُ جاويدان. ومن غريب ما جرى في الاحتفال بهذا الزواج أنهم أتوا ببقرة، فقتلوها، وسلخوها، وبسطوا جلدها، وجعلوا فوقه طستاً مملوءاً خمرا، ووضعوا خبزا حوالي الطست، فكان كل رجل يأتي يأخذ لقمة ويغمسها في الخمر ويأكلها ويقول: آمنت بك يا روح بابك، كما آمنت بروح جاويدان.

أخذ بابك ومن معه يعيثون في الأرض فسادا، وينشرون مذهبهم الإباحي. وبلغ المأمون خبره سنة 201 هـ الموافقة لسنة 816 م، فأهتم بأمره، وعزم على مطاردته، والقضاء على مذهبه، وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع، والمضادة لتعاليم الإسلام، والمنذرة لأركان الحضارة الإسلامية بالتصدع والانهيار. فوجه المأمون إلى بابك أربعة من قواده في أربعة حملات متعاقبة، فلم يستطيعوا التغلب عليه، لمكانه الحصين، وقوته الكبيرة، وشدة تأثيره في قلوب جمهوره. وأدركت المأمون منيته قبل أن يتمكن من القضاء على الخرمية الإباحية، فكان من وصيته لأخيه المعتصم أن كتب له:(والخرمية فاغزهم ذا حزامة وصرامة، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك واعمل لذلك عمل مقدم النية فيه، راجيا ثواب الله عليه).

وفي أول عهد المعتصم استفحل أمر الخرمية في أذربيجان، ودخل فيه خلق كثير من أهل الجبال وهمذان وأصبهان وغيرها؛ ولكن المعتصم شمر عن ساعد الجد، وبذل جهده في الخلاص من هذا الشر، فاختار لحرب الخرمية قائداً من كبار قواده، هو المعروف

ص: 38

بالأفشين، وسيره إليهم في سنة 220 هـ على رأس جيش منظم، فدبر الأفشين أمر القتال، وأحكم تدبيره، ووزع قواده على الحصون والمعاقل لحراسة القوافل والسابلة، وأطلق عيونه وجواسيسه حتى يعرف خطوات الثائر وحركاته. واستمر يحاربه سنتين، حتى انتصر عليه في سنة 222 هـ الموافقة لسنة 837 م.

وفر بابك متنكرا حتى نزل مكانا بأرمينية، فعرف خبره سهل بن سنباط أحد بطارقة أرمينية، فذهب إليه، وسلم عليه بالملك، وقال له: قم أيها الملك إلى قصرك الذي فيه وليك، حيث تكون في أمان من عدوك. فسار معه إلى قصره، ورفع سهل مجلسه وعظمه، وقدمت المائدة، وجلس يأكل معه، فاستشعر بابك جبروته غافلا عما يدبر له فقال لسهل: أمثلك يأكل معي؟ فقام سهل وقال: أخطأت أيها الملك، وأنت أحق من احتمل عبده. ودخل حداد كان سهل أرسل في طلبه، فقال لبابك: مد رجلك أيها الملك. والتفت إلى الحداد قائلا: أوثقه بالحديد. فقال له بابك: اغدرا يا سهل؟ قال سهل: يا ابن الخبيثة، إنما أنت راعي غنم وبقر، ما أنت والتدبير للملك ونظم السياسات؟ وسلمه إلى الأفشين، فأرسله إلى الخليفة بسامرا، فأمر بقتله وصلبه.

وكان يوم دخول الجيش ببابك مدينة سامرا يوما مشهودا، خرج فيه الخليفة، ومعه أشراف الدولة، فاستقبلوا الأفشين استقبالا باهرا، وكان فرح المعتصم عظيما، حتى أنه كان يرسل إلى قائده الباسل في صبيحة كل يوم حلة شرف ومعها الهدايا الثمينة.

وجلس الأفشين للشعراء، يستمع إلى أشعارهم في الثناء عليه إذ أراح الناس من شر ثائر روع البلاد والعباد عشرين عاما، قتل فيها مائتين وخمسة وخمسين ألف انسان، وأسر ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل وسبعة آلاف وستمائة امرأة، وقد ظلوا في أسره حتى أنقذهم الأفشين.

عباس حسان خضر

ص: 39

‌الطاقة الذرية وكيف صارت سلاحا حربيا

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

الفعل الرديومي الصناعي:

بين (جوليو) في العام التالي. أي عام 1933. إن من الممكن صناعياً تحويل عدد كثير من الذرات إلى ذرات ذات فعل رديومي. أي أصبح في الإمكان صناعة مواد كثيرة ذات فعل رديومي بأية كمية مطلوبة. وفي عام 1934 كشف العالم الإيطالي (فيرمي) وزملاؤه بروما، أنه عند تصادم أثقل العناصر المعروفة وزناً أي اليورانيوم بالإلكترونات، أعطى اليورانيوم ذرات معروفة؛ وذلك طبقاً لإحكام إحلال الفعل الرديومي. وتدل هذه النتائج على ما يظهر أن من الممكن الحصول في المعمل على ذرات أعلى في عددها الذري من الذرات الموجودة في الطبيعة. وقد دلت الدراسات والتجارب التي أجريت بعد ذلك على أن عدد العناصر (عبر - اليورانيوم) - المتكونة كثير شاذ، على أن البحوث الكيميائية الدقيقة التي أجريت في نفس الوقت للتعرف عن نوع الذرة الناشئة بذرات تلك العناصر التالية لليورانيوم مباشرة في العدد الذري أو الوزن قد فشلت.

انقسام اليورانيوم انقساماً ذاتياً:

وفي يناير من عام 1939 كشف العلم أيضاً عن نتيجة في غاية الخطورة. فقد أيد (أوتو كاهن) وزميله (ستراسمان) ببرلين الحقيقة الثابتة التي نصت على أن ذرات اليورانيوم يمكن شطرها مع إطلاق كمية هائلة من الطاقة. وقد توصلا بجانب هذا إلى كشف آخر في غاية الأهمية، وهو الذي نص على أن أحد مركبات (عبر - اليورانيوم). هو عبارة عن نظير العنصر (باريوم) الذي في عدده الذري وكتلته لا يختلف اختلافاً تاماً عن نصف العدد الذري وكتلة اليورانيوم. وقد كان أن فطن العلماء عقب هذا مباشرة أنه ينشأ عند استحالة اليورانيوم تفاعل نووي يختلف اختلافا تاماً عن أي تفاعل درس حتى هذا الوقت، بمعنى أن ذرة اليورانيوم وهي ذرة كبيرة جداً، لابد وأن نفرض بأنها قد انقسمت إلى قطعتين، وأن هاتين القطعتين تحتويان على ذرتين عاديتين وزنهما متوسط. ولما أضيف وزن هاتين الذرتين كل منهما إلى الآخر وجد أن الوزن الكلي أقل بمقدار محسوس عن

ص: 40

وزن ذرة اليورانيوم، وأن النقص في الوزن قد ظهر في شكل طاقة منبعثة ، وأن هذا التأثير أقوى عشرين مرة من أي تأثير من نوعه كشف عنه العلم من قبل. وفي الحال بدأ الباحثون في الكثير من بلدان العالم في إجراء بحوث دقيقة شاملة لمعرفة ماهية انقسام ذرة اليورانيوم انقساماً ذاتياً.

وفي بحر شهور قليلة توصل (جوليو) وزملاؤه بباريس إلى الكشف عن أدلة بينوا بها أن ذرة اليورانيوم عند انقسامها إلى ذرتين ينطلق منها في الوقت نفسه عدة نيوترونات - من المؤكد أكثر من أثنين - أي أصبح من الممكن إذن الوصول إلى سلسلة من التفاعلات مبينة في شكل متوالية هندسية. فلنفرض أن في متناولك كتلة من اليورانيوم أطلق فيها نيوترون واحد. النتيجة أنه يصحب استحالة ذرة واحدة من اليورانيوم انطلاق 2 نيوترون على الأقل؛ وأن ال 2 نيوترون يسببان استحالة ذرتين أخريين من ذرات اليورانيوم، وينتج من هذا انطلاق 4 نيوترون على الأقل. وتستمر العملية على هذا المنوال حتى تحدث استحالة عامة في الكتلة. وقد كان من الواضح الجلي أنه من الممكن باستخدام عملية كهذه الوصول إلى منبع هائل من الطاقة.

وفي ربيع عام 1939 وقت أن كان الأستاذ (نيل بور) يزور أمريكا، وضع مع الأستاذ (هويلر) بجامعة برنستاون بمقاطعة نيوجرسي نظرية في عملية الانقسام الذاتي. وعلى أساس هذه النظرية تكهن العلماء أن من بين نظائر اليورانيوم الثلاثة المعروفة ب (نم 238، نم 235، نم 234)(نم) هو الرمز الكيميائي لليورانيوم باللغة العربية) إن من المتوقع أن النظير الشائع (نم 238) ينقسم انقساماً ذاتياً في حالة ما إذا كانت النيوترونات المنطلقة ذات طاقة عالية فقط. وأن (نم 235) النادر الوجود لا ينقسم انقساماً ذاتياً إلا إذا كان طاقة النيوترونات، أو بعبارة أخرى سرعة النيوترونات، المنطلقة بطيئة جداً. وقد تأيدت تلك التكهنات في مارس من عام 1940 بتجارب أجراها (نير)(بجامعة مينيسوتا)، بود، دانينج جروس بجامعة (كولومبيا بنيويورك) وقد نصت تجاربها على استخدام عينه من اليورانيوم زيدت فيها كمية (نم 235) عن الكمية العادية بواسطة (الأسبكتروغراف الكتلي) الذي اخترعه (نير).

وعند تصادم اليورانيوم بنيوترونات ذات طاقة معينة معتدلة. تكون نظير له عدد يساوي

ص: 41

94.

وقد تكهن العلم أيضاً على أساس نظرية (بور - وهويلر) أن هذا النظير - الذي أطلق عليه اسم (بلوتونيوم) وعبر عنه بالرمز الكيميائي يمكن انقسام ذاتياً بنفس السهولة التي ينقسم بها (نم 235).

انطلاق الطاقة الذرية:

كان الكشف عن انقسام اليورانيوم انقساماً ذاتياً بمثابة قوة دافعة حركت أذهان كل المهتمين بالبحث في هذا الفرع من العلم. فبدأ في الحال الأستاذ (جوليو) وزملاءه بباريس والأستاذ (فيرمي) وبعض علماء الطبيعة الذرية الآخرين في الولايات المتحدة الأمريكية، والسير جورج تومسون وزملاؤه في لندن، في إجراء التجارب بقصد الوصول إلى طاقة ذرية منبعثة يمكن ضبطها.

وقد دلت التجارب التي توصل إليها العلماء في لندن، والتي أيدها زملاء الأستاذ جوليو بعد وصولهم إلى إنجلترا بتجارب كانوا قد أجروها مستقلين قبل هذا بباريس، على أن الأمل كبير في استخدام الطاقة الذرية كمنبع للقوة. ولما كانت النتائج في هذا الوقت ليس لها أهمية حربية منتظرة أبطأت البحوث في هذا الموضوع في لندن.

وفي الشطر الأول من عام 1940 اقترح على الحكومة كل من الأستاذ شادويك والدكتور (فريش) والأستاذ (بيرليس) كل على حدة أنه من الممكن الحصول على فرقعة هائلة على جانب كبير من الخطورة إذا استبدل النظير النادر (نم 235) باليورانيوم العادي. وعليه ألفت الحكومة لجنة من العلماء المتخصصين تحت رئاسة السير جورج تومسون، وبدأت عملها أولا في جمع كل المعلومات العلمية التي ظهرت في هذا الموضوع وقد تطور البحث الذي كان قد بدأ في لفربول تحت إشراف السير جيمسشادويك بتعيين الدكاترة فريش وروتبلات مساعدين له. ولما أخذ البحوث تترى ظهرت هناك مسائل أخرى لها علاقة بهذا الموضوع. وعليه ساهم معمل (كافنديش) المشهور بكمبردج بنصيبه في هذا البحث الخطير تحت إشراف الدكاترة (فيذر، برتشر) وقد أجريت التجارب في فصل (نم 235) في معمل كلارندون تحت أشرف الدكتور (سيمون) يعاونه في البحث من الناحية الكيميائية الأستاذ (هوارث). وقد أجريت البحوث من الناحية النظرية الأستاذ (بيرلس) يعاونه الدكتور (فوش) وغيرهما من العلماء. وذلك بجمع المعلومات التجريبية من مختلف المعامل. وقد

ص: 42

وضعت اللجنة في 15 يولية سنه 1941 تقريراً أثبتت فيه إمكان تحضير سلاح حربي له قوة تخريبية لا مثيل للها، أي استخدام الطاقة الذرية كسلاح حربي:

وقد تطور في نفس الوقت في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما اقترح المرحوم الرئيس روزفلت في عام تبادل المعلومات والنتائج بين الباحثين البريطانيين والباحثين الأمريكان وافق المستر تشرشل على هذا الاقتراح. وعليه قدم فريق من العلماء بريطانيا. وفي فبراير من عام 1942 رحل فريق من العلماء البريطانيين إلى أمريكا. واستمر العمل بعد ذلك في إنجلترا وأمريكا في جويشوبه التعاون التام بين البلدين. أما في إنجلترا فقد زيد في عدد العلماء الباحثين؛ وانضمت جامعتا برستول ومانشستر، ووضع لكل منهما برنامج بمسائل للبحث فيها. ولما اشتدت الغازات الجوية على بريطانيا أصبح من الضروري نقل الكثير من المجهود البريطاني إلى أمريكا عام 1943 رحل العدد الكبير من الفريق البريطاني إلى أمريكا للعمل مع زملائهم هناك. وقد كان من تأثير هذا النقل أن وقع معظم الحمل على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تم استخدام المواد الخام اللازمة من كندا. واشتغل العلماء الأمريكيون والكنديون والبريطانيون جنباً إلى جنب في جو يشوبه التعاون التام والإخلاص لغرض واحد. والعالم أجمع يعرف الآن نتيجة تلك الجهود الموفقة وهو فوز لا نظير له في التاريخ. فوز في تطبيق المعلومات الجديدة لتركيب الذرات ونواتها. وقد اشترك علماء لكثير من الدول في الوصول إلى هذه النتيجة الباهرة التي لا مثيل لها في تاريخ العلوم. ولكن الفخر كل الفخر يرجع بلا شك لرثرفورد الذي عاجلته المنية منذ بضع سنوات قبل تطبيق هذا الفرع الجديد من العلم تطبيقاً ناجحاً، والذي ساهم فيه لرثرفورد بنصيب وافر.

المستقبل:

قد رأينا كيف استخدم الطاقة الذرية كسلاح حربي في غاية الخطورة. بيد أنه من الممكن استخدامها في الوقت نفسه في الكثير من النواحي لسعادة المجتمع بنجاح تام وفائدة لا مثيل لها فمن الممكن مثلا استخدام المفرقعات الذرية لتحويل الأصقاع. ومن الممكن أيضاً استخدامها للحصول عل حفرة هائلة في الحجم خنادق في الأرض وتحويلها إلى بحيرات وأقنية أو مصارف. بهذا يصبح في الإمكان إنشاء بحيرات في وسط الصحراوات. أي

ص: 43

يمكن تحويل أردأ بقاع الأرض إلى واحات وأرض خصبة. من الجائر أيضاً توليد كميات هائلة دائمة من الحرارة في المناطق القطبية للراحة والاستجمام.

ومن المنتظر في القريب العاجل تطبيق منبع الطاقة الجديدة تحريك السفن والقاطرات. أو على الأقل يمكن استخدام الطاقة الذرية للوصول إلى قوة بدون الدخان والقذر المألوف.

وستنتج معامل الطاقة الذرية كميات هائلة من مستخرجات مواد الرديومية يمكن توزيعها على الجامعات لأجراء بحوث أخرى شاملة، وعلى المستشفيات للبحث واستخدامها في الأغراض الطبية العديدة. فإذا ما تصادمت النيوترونات بسرعة محددة مع نظير اليورانيوم الأكثر ثقلا، كتلتة238 وحدة، وقعت سلسلة من التحويلات، يتغير فيها اليورانيوم أولاً إلى (نبتيونيوم) ثم إلى (بلوتينيوم) ولكل من هذين العنصرين اللذين ليس لهما وجود في الطبيعة خواصه الكيميائية الفريدة. فالنبتيونيوم ذو فعل رديومي يتحول نصف وزنه إلى بلوتنيوم في فترة أكثر من يومين بقليل. ولما كان البلوتينيوم يتبع نظرية الانقسام الذاتي أصبح من الممكن استخدامه في انبعاث الطاقة الذرية.

فالعلم إذن قد كشف عن عناصر جديدة من المادة في الوقت الذي كشف العلماء فيه عن قوة فتاكة. فماذا عسى أن يكون مأربه الجديد؟ هل البحث عن تطورات جديدة في الحياة؟

عن النشرة العلمية الإنجليزية

ص: 44

‌هُتَاف.

. .!

للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي

هاتف، عله الذي أتمنى

من وراء الغيوب، روحاً وفنا

عشقت روحه الزكية روحي

فمتى تلتقي العيون؟ وآينا؟

هو في خاطري رؤًى؛ وبقلبي

حلُم راعه زماناً فجنا

هو ظلُّ نديتُه بدُموعي

وتفيأته سلاماً وأمنا

هو نور هدى يقيني، ونارُ

صليتْها شكوكُ قلبي المعنًّى

هو في الزهر والفراش تراءى

لخيالي وفي الشعاع استكنَّا

عله الهاتفُ المسرُّ لي الشو

قَ ملحاً، فكنتُ كأي أُذنا

أسمع الصوت في (المسرة) حلواً

عبقرياً؛ يهتزُّ ناياً ولحنا

يرقص الكونُ كله من حواليَّ

فأفنى في الكون ناياً وغصنا

شارداً في عوالم الوهم، هل آ - ن لهذا الطريد أن يطمئنا؟

إيه يا هاتف (المسرة) أشرق

إن لي مقلة بليلك وسنى

آن أن يشرق الصباح عليها=لترى الكون بين عينيك كون

ص: 45

‌رباعيات عثمان

للأستاذ عثمان حلمي

يا أخي إن قرأت هذا الكتابا

بعد أن صرت في التراب ترابا

لا ترع وابتسم فسخرك بالدن

يا صواب إذا ضللت الصوابا

وتذكر أني حكيتك في الأر

ض غروراً وبهجة وعذابا

صورة منك كان قلبي وقبلي

من حكاني كهلا بها وشبابا

لا جديد بالليل أو بالنهار

وقديم ما جدَّ في الأخبار

فوليد في مهده وفقيد

صرعته مخالب الأقدار

والليالي هي الليالي كما كا

نت قديما سلالة التكرار

قمرٌ جدَّ في المسير وشمسٌ

لاحقتها النجوم في التسيار

فالعجيبُ العجيبُ غيرُ عجيبِ

ومريب الأمورِ غيرُ مريب

والذي أنت فيه صورة فا

تَ ولون القديم ولونُ القشيب

فابتسمْ ما استطعت واسخر إذا اسطع

ت بما جدَّ من جديد الخطوب

إنَّ جدَّ الحياة أخلق بالسخ

ر وأجدى لا بالأسى والنحيبِ

كلٌّ ما أنتَ مبصرٌ لك يٌغري

لو تأملت بابتسامة سخرِ

ليت شعري أيٌّ النفوس وإن خ

لّ خلا من ضعفٍ به ليت شعري

وزوايا النفوس فيها كثير

من خفايا غرورها المستقرَّ

فابتسم يا أخي إذا خدّ أمرٌ

ساخراً إن فطنتَ من كلّ أمر

ضائع ما أفاده كلّ حي

من جميل محجبٍ ورديَّ

ما أفاد الذكيٌّ في الكدح إلاّ

ما أفادت في الكدح نفس الغبيَّ

تعبٌ غيرٌ مثمر فوق ثرى الأر

ض تساوي سعيدٌها بالشقىَّ

وعناءٌ لا ينقضي يتساوى

جاحدٌ في عنائه بالتقيَّ

أيٌّ جهدٍ جازاهٌ أيٌّ رجاَء

فوق هذا الثرى وتحت السماءِ

إن تساوت مصائر الناس يوما

بمصير البهيمة الخرساء

من تراب إلى تراب ومن مح

ض فناءٍ حق لمحض فناء

ص: 46

يتلاقى الجهول فيه وذي الحك

مة والأقوياء بالضعفاء

فعلامَ الأسى على غير مجدٍ

بين ماضٍ ومقبلٍ مستجدَّ

واقعٌ ما أُعدَّ في الغيب لا تست

طيع نفسٌ تبديل حتم المعَدِّ

ومحالٌ عليكَ ردُّ الذي فا

تَ محالٌ إرجاءُ ساعةِ فقد

عاجز أنتَ يا أخي عجزَ أهل الأ

رض عن ردِّ فائتٍ مسترد

كلُّ غادٍ أو رائحٍ غيرُ غادِ

يتولى بغصةٍ في الفؤادِ

والذي لم ير الحياة وإن كا

ن جماداً أسعدْ به من جماد

ساعة الموت لو تأملت في السا

عات خَيرٌ من ساعةِ الميلاد

منتهى هذه الحياة فسادٌ

مبتد في نشوئه من فساد

هذه سنة الحياة ولولا

جهلنا لم نقم على الأرض نسلا

راحة جهلنا الحقيقة بالخل

ق فزدنا بالحق والخلق جهلا

فمن الجهل راحة ورضاءٌ

ورضاءُ النفوس بالعجز أولى

إنّ عقل الإنسان لم يك يوماً

بخفايا الوجود للفهم أهلا

إن عجزي عن فهم أسرار روحي

ثم بخلي بالنفس بخل الشحيح

من مُلحٍّ من الغرائز فيها

تتجلى قناعتي وطموحي

في حياة منها الصحيح تساوى

في احتكام النهي بغير الصحيح

لم يدع لي من مطلب في وجودي

غير سعيي وراء كل مريح

ولقد جزتُ من حياتي عُمرا

ذقت فيه الحياة خيراً وشرا

وبلوت الأمور في هذه الأي

ام فيما عرفتُ طياً ونشرا

كلما زدت في المقادير خبرا

زادت النفسُ بالمقادير سُخرا

وانتهى بي المطاف أني رأيت ال

يأس في الناس راحة لي كبرى

بين يأسي أحيا وبين رجائي

لا أُبالي بشقوةٍ أو هناء

لا أبالي أسارَ زيدٌ أمامي

دون حقٍّ أو سار زيد ورائي

علمتني الأشياء كيف أرى الشئ

بعين لم تُعنَ بالأشياء

وسواءٌ لو تغرب الشمسُ في المش

رق أو لا تنير جوف السماء

ص: 47

لا أُبالي إن مر ركب الوزير

بيَ بين التهليل والتكبير

أو هوى صاعق على الأرض لا يخ

شى فؤادي ماذا يكون مصيري

وضميري أرحته وكفاني

أنني لم يثر علىَّ ضميري

لي وحدي تقدير من هو أولى

باهتمامي في الخلق أو تقديري

كل كسبي من التجارب أني

عشت في الأرض عيشة المطمئن

وكفاني من كل ما أتمنى

أنني لا أُطيل فيه التمني

إن تجّنى علىّ من يتجنى

دون حق بسمتُ للمتجني

وكفاني أن نلت منه بسخري

ضعفَ ما نال بالحماقة منّي

أنا في موكب الحياة أسير

في زحامٍ على الرغام يمورُ

موكبٌ دائبُ المسير فما يع

روه كلُّ أو يعتريه فتور

صاخبُ في غروره لم يفارق

هـ طوال الزمان هذا الغرور

لا يبالي بمن تخلف أو يع

ني بمن كَلَّ أو دهاه قصور

ولقد حار في وجوديَ فكري

وتبرمتُ فاستعنتُ بصبري

وأخذت الحياة باليسر حتى

لم يضق بالحياة والناس صدري

لا أرى أن أكون غِرّاً ولا أر

ضى لنفسي في الناس تفكير غرِّ

كيفما كانت الأمورْ فإني

لم تفارقنيَ ابتسامة سخري

فوجودي ما لي يد في وجودي

لا ولا في النحوس أو في السعود

غفر الّله للجدود فلما أر

غب في أن أُعيد حمق الجدود

لا أرى الأرض بعد ما ملأ النا

س فضاها تواقة لمزيد

خلني خلني فنفسيَ أولى

باهتمامي من كلِّ وجهٍ جديد

ما كفى ما أحاطني من قيود

فأزيد القيود في التعقيد

علم الله ما يخبئه الغي

ب لنفس السعيد والمجدود

هكذا تسخرُ الطبيعةُ بالخل

ق وتغري نفوسهم بالخلود

ويصيب العمى القلوب فما تب

صر ما في الثرى وما في اللحود

جاء من جاء في الوجود ومرَّا

كخيال على الثرى ما استقرا

ص: 48

ضاقت الأرض بالجميع فألفوا

جوفها للجميع أوسع صدرا

أكلتهم من بعد ما أكلوها

فاسأل الأرض فهي بالناس أدرى

ما لها أنبتت من الرّم أثم

اراً طعاماً للآكلين وبذرا

ربَّ تفاحةٍ كخدٍ صقيل

نبتتْ من صميم خدٍّ صقيل

مضغتها الأضراس ثم طواها

في ظلام الأحشاء جوفُ ثقيل

والليالي بالهمس تضحك من ك

لِّ قبيحٍ وكلِّ زاهٍ جميل

كالرحى ما تني عن الطحن أو تس

كن في سعيها سكون ملول

(الإسكندرية)

عثمان حلمي

ص: 49

‌البَريد الأدَبي

توفيق الحكيم وقواعد الفن:

لا يزال في كتابنا النابهين من يكتب بالسليقة فلا يكلف نفسه عناء

الرجوع إلى معاجم اللغة، أو النظر في قواعد الأعراب، أو البحث في

أصول الكتابة. وقد ساعدهم على الإخلاد إلى هذا الكسل الأدبي

إغضاء النقد وغفلة القراء. وعاقبة هذا الكسل وخيمة على الفن في

ذاته، وعلى الفنان في مستقبله.

ومن أقرب الأمثلة على الخروج عن قواعد الفن الأولية أن صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم قد سمح لحماره أن يتدخل في فنه، فنشر في عدد السبت الماضي من (أخبار اليوم) أقصوصة جعل عنوانها (وكانت الدنيا)، ومن حول هذا العنوان كتب بخط ظاهر: قصة العدد خيالية. ثم بدأها بقوله: (لماذا تمرد إبليس؟ قصة ذلك مدونة جاءت بها الكتب السماوية ولا سبيل للشك فيما روت؛ ولكن خيال الروائي يجنح أحياناً إلى اختلاق صور أخرى للحادث الواحد، ولا بأس من عرض إحدى هذه الصور على سبيل التفكهة لا الاعتقاد). ثم نقل عن (أبى الفداء) كلاما في إبليس، ثم قال بعد ذلك:(وتبدأ قصتنا هذه المخترعة بعد أن تم خلق آدم. . . الخ).

فهل يجوز للقصصي أو الروائي أن يفضح سر فنه للناس فيقول لهم أول ما يقول: إن هذا الحادث الذي ستقرءونه أو ستسمعونه أو ستشاهدونه اختلاق محض وكذب صريح؟ وهل يسمح لنفسه كاذب أو فياش من عامة الناس أن يبدأ حديثه الذي احتشد له وأفتن فيه بأنه تلفيق أو إغراب أو مبالغة؟ إن المحدث متى اعترف بكذب حديثه أول الأمر جرده من اللذة والفائدة فلا يهتم له السامع أو القارئ مهما كان موضوعه طليا وعرضه فنيا؛ ولذلك شرطوا في القصة أو الرواية الصدق أو قابلية الصدق وأوجبوا على القصاص أو الروائي أن يستعين على تمثيل الحقيقة بالخداع الشعري أو المسرحي ، محافظة على التأثير والتشويق، وحرصاً على التوفيق بين الفن والحقيقة. ويظهر أن الذي دفع الأستاذ الحكيم إلى هذه المخالفة الفنية، مخالفة الأقصوصة للنصوص الدينية، ولكنه كان حقيقاً بأن يحتال

ص: 50

بفنه على أن يمكن القارئ من فهم ذلك بنفسه، أو بأن يختار من الموضوعات ما يستطيع التوفيق فيه بين فنه واعتقاده.

هيج أو هاج لا أهاج:

جاء في (رسالة لم تنشر للجاحظ) الجزء الأخير في مجلة (الكاتب المصري) الغراء:

(وأهاج المتبلد).

واليقين كل اليقين أن هذا من تحريف الناسخين، فبعيد بل محال أن يقول أبو عثمان (أهاج) وإنما يقول (هيج أوهاج)(وهاجه غيره يتعدى ويلزم).

السهمي

جامعة هارفرد تهتم بالشرق العربي:

تبدي حكومة الولايات المتحدة اهتماماً شديداً بالشرق الأدنى والأوسط كما يستدل عليه من خطاب الرئيس ترومان الأخير في شيكاغو في احتفال (يوم الجيش). وقد رددت صدى هذا الاهتمام الصحف والمجلات والراديو والأندية السياسية وغيرها من المعاهد التي تهتم بشؤون الشرق.

ومن أدلة هذا الاهتمام أن جامعة هارفرد - كبرى جامعات أمريكا - عقدت مؤتمرا للبحث في شؤون الشرق الأدنى والأوسط برعاية دائرة الدروس الحكومية لتلك الجامعة، وذلك في اليومين الثالث عشر والرابع عشر من شهر نيسان - أبريل - وقد كان المشتركين في البحث بهذا المؤتمر الأستاذ جيمس لاندس - عميد مدرسة الشريعة في جامعة هارفرد والمستشار الاقتصادي لحكومة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أثناء الحرب الأخيرة - والأستاذ كارل فريد ريخ أحد أساتذة الجامعة المذكورة - والأستاذ وليم رابارد - أحد أساتذة جامعة جنيفا ورئيس لجنة الوصايا سابقا في جمعية الأمم المنحلة.

وقد طلب القائمون بالمؤتمر من معهد الشؤون العربية الأميركية إرسال ممثل عنه للاشتراك في أبحاث المؤتمر، فلبى المعهد الطلب وندب عنه الدكتور خليل طوطح الذي اشترك في جميع أبحاث المؤتمر وخطب مظهرا أهمية معرفة الشرق العربي عن كثب، وبالاختبار لا بالمطالعة، ومن الوثائق الرسمية فقط. ولفت الأستاذ طوطح أنظار

ص: 51

المحاضرين إلى أهمية البعث العربي الأدبي والسياسي والاجتماعي الذي شمل جميع أقطار الشرق العربي، ولا يزال من أهم عوامل تقدمه في جميع مرافق الحياة ومظاهرها. وأشار بوجه خاص إلى التقدم في طبقات الشعب المتوسطة وبين الفلاحين والعمال. فقال إن كلمة (أفندي) لا تعني طبقة خاصة من الناس تمتاز بشيء عن غيرها، واستشهد على ذلك بنفسه، وبالعصامي المعروف السيد عبد الحميد شومان. فقال أنا أدعى أفندي مع أنني ابن فلاح وكذلك السيد شومان الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وأحرز ثروة لا بأس بها في شارع واشنطون - نيويورك - قبل أن عاد إلى فلسطين وأسس مصرفا عربيا في القدس له فروع مختلفة في مدن فلسطينية عديدة، وفي غير فلسطين من الأقطار العربية المجاورة.

يوم ولا كالأيام!

هكذا كان عنوان إحدى المقالات الرائعة في الرسالة. وفي تركيب هذا العنوان ما إلى عكس ما قصد إليه الأستاذ الكاتب؛ إذ أن المعنى الحقيقي لهذا التركيب: إنه يوم لم يبلغ أن يكون في أوصافه شبيها بالأيام، والأستاذ إنما يريد أنه يوم لم تبلغ الأيام أن تكون في أوصافه مثله. وقد شاع هذا النوع من الخطأ في كلام كثير من الكتاب فيقولون مثلا: شاب ولا كالشباب، فيضعون منه من حيث لم يريدوا الإطراء. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدون، فتى ولا كالشباب، فيضعفون منه من حيث لم يريدوا إلا إطراءه. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدان، فتى ولا كمالك، ماء ولا كأصداء، فهي تضرب للشيء الذي فيه وغيره أفضل منه كما يقول أبو الحسن الأخفش في تعليق على الأمل للمبرد.

عبد الغني الدفر

مدرس الأدب العربي في المعهد العلوم الشرعية في دمشق

كتاب أنساب الخيل:

قد أتمت دار الكتب المصرية طبع كتاب انساب الخيل لابن الكلبي، وهو معروض للبيع يوميا وثمن النسخة للجمهور 250 مليما، ولباعة الكتب 200 مليم، ولمن يشتري عشر نسخ فأكثر

خطأ أم عمد؟

ص: 52

رويت في مقالتي في العدد (674) من الرسالة، أبيات: أعناقها والنفس بعد مشوقة الخ. . . ونسبتها لابن الرومي، فلما جاءت المقالة منشورة وجدت اسم العباس ابن الأحنف مكان اسم ابن الرومي، فإذا كان خطأ فأرجو تصحيحه وإن كان عمداً فأرجو بيان دليله.

(دمشق)

علي الطنطاوي

(الرسالة): الأبيات لابن الرومي والتغيير قد حدث خطأ.

في الكتب

عبد الله فكري:

تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن

هذه ولا ريب نهضة مباركة أن يقوم شبابنا المثقف بتعريف الجيل الحديث بأعلام القرن الماضي، حتى تتم حلقات التاريخ، ويعتمد الحاضر على دعائم وثيقة من الزمن. وحياة الأمم تقاس برجالها وتاريخها وماضيها.

وليس الأستاذ محمد عبد الغني حسن غريباٌ عن قراء العربية، فهم يعرفونه أديباً شاعراً كاتباً، وقد أحسن الكتابة عن عبد الله باشا فكري، لأنه كان أديباً وكاتباً وشاعراً كذلك. فهذه المماثلة بين صاحب الترجمة وبين المؤلف هي في نظرنا السر في ظهور هذا الكتاب في هذه القوة وهذا الإشراق.

بيّن المؤلف نشأته ومولده، وتعليمه في الكتّاب، ودراسته في الأزهر، وصور حياة الأزهر في ذلك الوقت أحسن تصوير، ولقد كانت حياة العلم في الأزهر في القرن الماضي أفضل منها في العصر الحاضر بعد أن تقيد الطلبة بالمناهج، وتقيد الأساتذة بطائفة من الحصص. لقد كانت الحرية الواسعة التي يلقاها الأساتذة والطلاب في الأزهر القديم سر نجاحه ومصدر بروز بعض المتخرجين فيه. لقد كانوا يطلبون العلم للعلم وهو أفضل الغايات. تقلب عبد الله فكري في وظائف الحكومة حتى بلغ نظارة المعارف وهو مثال الموظف

ص: 53

الأمين على وظيفته، الناظر في مصلحة الشعب، المخلص لعمله، فليتدبر من يقرأ هذا الكتاب من الموظفين في الحكومة ماذا تكون نتيجة الإخلاص للوطن

ولم تمنعه الوظيفة الحكومية على ما فيها من أعباء ثقال، وعلى الأخص في ذلك العهد العصيب من الناحية السياسية، الذي ظهرت فيه حركة عرابي وانتهت بالاحتلال، لم تمنعه هذه الأمور كلها من التأليف وقرض الشعر.

وبعد، فهذه دراسة جدية بذل فيها المؤلف جهداً واضحا، ورجع إلى نحو ثلاثين مرجعاً أثبتها في صدر الكتاب مما يدل على التحقيق وسعة الاطلاع.

ونرجو إن يستمر الأستاذ عبد الغني حسن على هذا النمط، فيترجم لنا عن بعض الشخصيات الأخرى من أعلام الماضي، ليكون ذلك نبراساً يهتدي به شبان هذا الجيل.

أحمد فؤاد الأهواني

ليلة النهر:

(للأستاذ علي أحمد باكثير)

لا عجب ومصر بلاد فيها نهر النيل، فيهب الحياة لقطانها وحيوانها وزرعها، أن يتغنى المرء بفضل ذلك المنهل الخصيب على كل مرفق من مرافق الحياة. ولكن الأستاذ على أحمد باكثير - هو الأديب المطبوع - يرى أن لهذا النهر وحياً آخر أسمي من الماديات، فهو بالحب يوحي، وناره يزكي ، ويلهم للشاعر أغاريده فتصدح بها نفسه دون وعي.

(ليلة النهر) قصة حب رعته الطفولة البريئة الباكرة، ونماه الشباب الطموح الوثاب، وألهب أدواره ليلة أمضاها العاشق مع معشوقته في زورق حمله النيل الرؤوم كما تحمل الأم رضيعها، فتفجرت من العاشق عاطفته فإذا بها شعر وجداني رقيق يصاحبه نغم موسيقي رائع، وإذا بالأيام تقبل على الشاب فيصبح من أعلام الشعراء والموسيقيين والمطربين وهنا تنهض التقاليد في وجهه، فلا يستطيع الظفر بمحبوبته والزواج منها لأن خالها القيم على شؤونها، رأى أن يعقد عليها لشاب متعطل مفتون ليس له من مؤهلات سوى أنه نجل أحد الأثرياء من حملة الألقاب.

وتزداد الدنيا على الفنان إقبالا، فيصيب من المال والنجاح والشهرة ما لم يسبقه إليه مفتن

ص: 54

سواه، لأنه ينظم الشعر جيدا، ويكسوه رداء غير فضفاض من الموسيقى ذات النغم الخالد، ثم ينشده بصوت يشيع الطرب في النفوس، ويدفع السأم عن القلوب، ولا يسع المرء إزاء إلا أن يستزيده ويقبل على الإصغاء إليه.

وتمعن الدنيا في التنكر لذلك الشاب العاطل زوج الفتاة، فتكبل بالحديد يداه، ويزج به بين غياهب السجون لإثم اقترفه ويختلف وراءه زوجة وطفلا يعانيان من نكد الدنيا أمره.

ولكن الأيام بالأحداث حبالي، فإن الشاعر الموسيقار وإن سخت عليه المقادير بالمال والجاه، لم تسخ عليه بغذاء قلبه؛ وإن واتته الشهرة والمجد، لم تواته عاطفة الحب بأكلها، فأنسى ظامئاً يتلهف على ري نفسه فلا يستطيع، وسرعان ما تذيل زهرة العمر وتنزل المنية به وهو في شرخ الشباب وأوج المجد، فينعاه الناعي من المذياع الذي طالما تردد صوته منه فأطرب وأشجى، وتستمتع إليه محبوبته التي فرقت الأيام بينهما، فينزل عليها النبأ نزول الصاعقة، وتصبح في اليوم التالي نزيلة صومعة من صوامع مستشفى الأمراض العقلية.

هذا موجز قصة (ليلة النهر) التي وضعها الأستاذ باكثير، وصاغ لها قصائد ثلاثاً من جيد الشعر، ولم يقنع المؤلف بسرد أحداث تتكرر في روايات أخر، بل رأى أن يضيف إلى ذلك عنصراً جديداً يمكن تسميته (عنصر الخفاء) وذلك لأنه جعل الشاعر بطل الرواية يتصل - في هيام روحه - بروح شاعر مات بعدما حرقت جميع لأشعاره، فاخذ يملي عليه ما ضاعت آثاره من شعره. فالشاعر العاشق في الواقع ليس سوى رواية لشعر غيره، ورجع لصداه، يقبل الشعر عليه من غير جهد فيسجله وتتوارد إليه عند تسجيله النغمات الموسيقية الملائمة، فتكتمل لها ناحيتان تضاف إليهما ناحية الغناء فيتم الثالوث الغني المطلوب.

وهذه الرواية ضرب من ضروب الحب العذري العفيف الذي يحرص الأستاذ على أحمد باكثير على أن لا يتجاوز في ما يكتب من الروايات كروايتي (سلامة القس) و (وا إسلاماه) اللتين أصدرهما من قبل وعلى الرغم من أن المؤلف (خلق) في رواية (ليلة النهر) رجلا من رجال الفن وأدار أحداثها حول بطولته، أبى أن يسمح لهذا البطل بالاستهتار والتبذل واحتساء الخمر، والإقبال على مشهيات الحياة. وقد يحسب البعض أن في هذا (الاعتدال) الذي أتصف به بطل الرواية تكلفا وخروجا عن المألوف، واكن الناقد المنصف لا يسعه إلا

ص: 55

أن يحمد للمؤلف هذا الاتجاه. والمؤلف بعد ذلك وقبله، خلاق يخلق أبطال روايته كما يشتهي، ويجيد الخلق متى أخرج لنا شيئاً جديدا ليس لنا به من قبل عهد.

وبعد، إنها قصة جيدة متماسكة الجوانب تقف بين أترابها شامخة مرفوعة الرأس.

وديع فلسطين

ص: 56