المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 677 - بتاريخ: 24 - 06 - 1946 - مجلة الرسالة - جـ ٦٧٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 677

- بتاريخ: 24 - 06 - 1946

ص: -1

‌أصول الكلمات

للأستاذ عباس محمود العقاد

قرأت في (الثقافة) الغراء مقالا للكاتب الفاضل الأستاذ محمد فريد أبى حديد بعنوان (القواص المذهب) قال فيه:

(وكانت وظيفة القواص بسيطة جدا تتلخص في أن يقف ذلك الموظف على باب سيده الباشا الكبير، أو الحاكم الجليل لابسا ملابسه الزاهية الموشاة بالقصب الذهبي اللامع. ويحرص على أن يربي شواربه حتى تصير مثل الحبال الطويلة، ثم يبرمها برما شديدا ويشدها بالأذهان حتى تصير مجدولة ترفع طرفيها كالحراب، فيصبح منظره بهذا مهيبا يقع في النفوس موقع الرهبة؛ وصارت هذه الشوارب موضع تفاخر القواصين).

وقد التزم الأستاذ أبو حديد كتابة الكلمة في الأفراد والجمع بالصاد كما رايت، ولعله لاحظ في ذلك لهجتها التي كانت تلفظ بها وحروفها التي كانت تكتب بها في عهد الدواوين التركية، لان وظيفة (القواص) كما وصفها الأستاذ هي الوظيفة التي عرفت بين المصريين وغيرهم من الأمم التي شملتها دولة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها. فلم يكم (للقواص) عمل غير الوقوف على الأبواب ولم تزل الكلمة تقترن بأصحاب هذا العمل من الترك والارنؤود والشراكسة حتى حسبت من كلمات اللغة التركية، وكتبها بعضهم في أوربة كما كان ينطقها الترك كفاش ولكن الكلمة على التحقيق عربية من بقايا الدولة العباسية، لان القواسين كانت طائفة من طوائف الجند يحملون الأقواس كما كان اسليافون يحملون الاسياف، والنبالون يحملون النبال، والرماحون يحملون الرماح. ولك يكن عمل القواس في أول عهده مقصورا على الوقوف بالأبواب والأذن لطلاب المثول بين أيدي الأمراء والرؤساء، ولكنه كان يتقدم الأمير في مواكبه أو يخرج بين يديه كلما خرج للصيد أو في محافل العرض العسكري ليحمل له القوس التي يصيد بها أو يستخدمها في الرماية؛ لان الأمير كان يتقلد سيفه ولا يعهد في حمله إلى غيره كما يفعل بالأقواس والرماح.

وكان قادة الجند في أواخر عهد الدولة العباسية من الترك والديلم فاحتفظوا بمراسم الأمارة حتى قامت الدولة العثمانية ونقلت خلفاء المسلمين وأمرائهم من قبلها بعض مراسم الإمارة والحجابة، ومنهامشية القواس بين يدي الأمير ووقفته على بابه وقيامه قواسا بغير قواس

ص: 1

بعد أن أغنى عن حامل البندقية والطبنجة، بل بعد أن اصبح القواس نفسه يحمل الطبنجة في حزامه، ولا يعرف ما القوس وما الرماية بالسهام.

وهكذا تعيش الكلمات احيانا، وتفنى الدول والإمارات وما اقترن بها من المعالم والأشياء.

على أن الرجوع بالكلمات إلى أصولها يمضي بنا بعيدا في مجاهل النقل والاستعارة. فإننا نذكر القواس والرماح والسياف ونعلم أن السياف حامل السيف، وان السيف كلمة عربية قديمة من ساف ماله أي هلك كما قال ابن دريد. ولكن بعض الأدباء ينكرون على ابن دريد هذا التعسف في رد الكلمة إلى ساف يسيف ويقولون إنها يونانية الأصل من سيفوس التي حذف منها العرب آخرها كما يفعلون بكثير من أواخر الكلمات وان العرب اخذوا كلمة الحربة من العبرانيين، وهي عندهم من حرب معنى الخرب أو الخراب.

قلت: لا ضير على العرب أن تنقص من لغتهم كلمة بمعنى السيف فقد تغنيهم عنها مئات الكلمات، ولا ضير أن يفقدوا (خربة) واحدة فعندهم الصحراء بل الصحارى التي لا يقدر عليها أحد غير أبناء يعرب وقحطان.

إلا إن الكلمة التي لا يفرط بها العرب ولو كان لهم من اصل معناها ألوف الكلمات هي كلمة (العقل) التي ظن الأب انستاس الكرملي إنها متحولة من اللاتينية فقال في مجلته لغة العرب: (. . . ذكر صاحب تاج العروس سبب تسمية العقل بهذا الاسم وسر اشتقاقه أو اصل اشتقاقه من مادة عقل فقال ما هذا حرفه: واشتقاقه من العقل هو منع لمنعه صاحبه مما لا يليق، أو من المعقل وهو الملجأ لالتجاء صاحبه إليه، كذا في تحرير لابن الهمام. وقال بعض آهل الاشتقاق: العقل اصل معناه المنع ومنه العقال للبعير سمى به لأنه يمنع عما يليق. قال:

قد عقلنا والعقل أي وثاق - وصبرنا والصبر مر المذاق

وقد راجعنا كتب كثيرة في هذا المعنى فرأينا أصحابها لا يخرجون عن القول بأحد هذه الآراء. ونحن لا نرى هذا الرأي، والذي عندنا أن اصل معنى العقل هو العين لأنه عين النفس وباصرتها. ثم مات المعنى المادي وبقى المعنى المجازي، يشهد على ذلك أن اللاتين يسمون العيون والعقل باسم واحد، وهو عقل. .).

كذلك قال الأب انستاس. وقد عقب عليه الأستاذ روكسي ابن زائد العزيزي معلم العربية

ص: 2

بكلية ترسانته بالقدس في مجلة الأديب البيروتية فقال: (فلو قلنا أن العرب قالوا: عين القلب. ثم نحتوا من الكلمتين كلمة واحدة - عقل - لما أبعدناعن الصواب. ولو سايرنا ما ذهبتم إليه وقلنا أن العقل من عق لكان مقبولا، لان العقه هي البرقة المستطيلة في السماء، وهل العقل إلا وميض النفس وعين القلب؟).

ثم راح يقول: (ويقال عق بالسهم إذا رمى به نحو السماء وذلك السهم العقيقة. . . قال الجوهري:

عقوا بسهم ثم قالوا صالحوا - يا ليتني في القوام إذ مسحوا اللحى

وذلك السهم يسمى العقيقة وهو سهم الاعتذار، وكانوا يفعلونه في الجاهلية، فان رجع السهم ملطخا بالدم لم يرضوا ألا بالنقود؛ وان رجع نقيا مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية).

قلنا: والعقل براء من كل هذه الفروض والتخمينات في حرفه ومعناه؛ إذ ينبغي قبل أن نفرض النقل من اللاتينية أن نفرض استخدام الكلمة في لغتها الأصلية بهذا المعنى، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض الوسيلة التي يتم بها النقل من طريق السماع أو الكتابة، ونستبعد - عقلا - أن ينشأ معنى العقل من معنى العقال، وهو غير بعيد. . . بل هو اقرب شيء إلى ذهن العربي الذي يوازن أبداً بين حالتي الانطلاق وحالة الاعتقال،

الانطلاق وحالة الاعتقال، ويتحدث عن كبح الشهوات وكظم الغيظ، ويستعير الحجر في مادة أخرى من الحجر وهو المنع والتقييد. وصدق المتنبي حيث قال:

وبعض العقل عقال

والحجر كما لا يخفي هو العقل، والحجر كذلك هو المنع، كما في عقل وعقل بلا اختلاف.

فلماذا نرجع إلى العقل المنحوت من عين القلب أو نرجع إلى العقل المأخوذ من الكلمة اللاتينية وهي لم تطلق على هذا المعنى قط في أصلها الأصيل؟ ولماذا نأبى أن يكون الرجل العاقل هو الرجل الذي يملك زمام نفسه، فلا يندفع مع الأهواء والشهوات؟ وأي شيء أقرب شبها للعقل الزاجر عن الأهواء والشهوات من عقال البعير، ولجام الفرس، وكل كابح عن كل اندفاع؟

عرضنا لهذا التخريج في بعض المجالس فقال أديب: إذن هذا الكرسي مأخوذ من شير

ص: 3

الإنجليزية.

وقال آخر: لا بل هو مأخوذ من كر ومن رسا، لأن الإنسان يرسي على الكرسي بعد الكر والتعب.

وقال آخر: بل هو مأخوذ من جلس، ثم صحفت الجيم كافا واللام راء، وهو قريب في مذهب التصحيف وقال غيرهم: بل هو مأخوذ من الكراسة، لن الإنسان يجلس إذا أراد الكتابة فيها.

وطال التصحيف والجناس على هذا القياس فلم يبلغ أحد منهم في هزلة مبلغ الجادين في رد العقل إلى عين القلب أو إلى كلمة قديمة في لغة اللاتين.

فحذار حذار من مراجعة الأصول بغير الأصول، وخير لنا أن نقنع بالفروع إذا كان الرجوع إلى الأصل ينقطع بنا في هذه المتاهة بغير دليل.

ونحن في أمان حين نقنع الآن بالرجوع من الصاد إلى السين في اسم القواس. فلم يبقى لهذه الوظيفة ما يخاف في اسم ولا في مسمى بحمد الله.

عباس محمود العقاد

ص: 4

‌مقالات في كلمات

(إلى الأستاذ سيد قطب)

للأستاذ علي الطنطاوي

ذكرتني غضبتك للشعر والبيان في (الرسالة) 674 بأن في مكتبتي دواوين (شعرية. . . .) هي أولى إذا اطلعت عليها أن تكتب عنها، ففتشت عنها حتى وجدتها فإذا هي ثلاثة دواوين متشابهات في الحجم والقطع، وفي الوضع والطبع، كأنها قد صدرت عن ناشر واحد مع أن كلا منها قد ظهر في بلد - وكلاً من أصحابها يدين بدين من الأديان الثلاثة.

أولها: ديوان (الصيدح) لخليل جرجس خليل، طبع في مطبعة جرجس حنين بالمنيا في مصر سنة 1939، وهو جيد الورق أنيق الطبع في مائة صفحة وقد أهداه (الشاعر) لروح الرافعي!!

والثاني: ديوان (حنين النديم) لعبد الله نديم مويال بكالوريوس علوم وهو من فلسطين، طبع في مطبعة صادر في بيروت سنة 1936 على ورق صقيل مشكول الشكل الكامل، وهذا الشكل وحده أعجوبة الأعاجيب، وهو في مائة صفحة، وقد أهداه لوالده (المرحوم الدكتور شمعون بك مويال كلى الاحترام)،

وهذا هو نص الإهداء:

لذكرى والدي اهدي شعاراً

لصدق الوحي في رفق الشعور

إليك الاحترامُ الُمجْزِ ودّاً

حليف اللانهايات البحور

ولي الفكر والمبدأ وحسّ=لطيف خالد إهدا السطور

والثالث: ديوان (القلوب المنقطعة) لحسن محمود الحلبي، طبع في مطبعة الاستقلال العربي في دمشق 1938 وهو في مائة صفحة (أيضاً) وفي أوله صورة الشاعر في وضع سينمائي. . .

رمتني الليالي في القبور ذليلاً

وسار شبابي في الحياة ذبولاً

خلقت منالأحزان شخصاً مهدداً

وبين جموع الناس دمت هزيلاً

فليت أقول الشعر دون تلوّع

يسود فيبدو الشعر حزناً طويلاً

ولكن أرى في مقلتي دمع ناحب

يسيل فيعطي الشعر لوناً جميلاً

ص: 5

وإذا نزلت يا سيدي بهذا الأسلوب أدركه اخرى، وجعلت الموضوع كله في وصف بنات (المحل العمومي) وما يكون منهن وصفاً سافراً مفصلاً، جاء معك ديوان (قالت لي السمراء) لـ (نزار قباني) الذي صدر في دمشق منذ سنتين، وإذا زدت لغة هذا الديوان لعنة على لعنتها، وأسلوبه عمى على عماه، موضوعه فجوراً على فجوره، جاء معك كتاب (في قصور دمشق) الذي أصدره في دمشق من نحو عشر سنين، موظف صغير في دائرة الصحة عامي يدعى (محمد النجار).

هذا كله عندنا فماذا يقول نحن يا أستاذ؟!

النثر والشعر في المدارس:

كنت كلما درست الأدب العربي اعجب لما أجد من انصراف الطلاب عن نثره إلى شعره، على حين انهم أميل إلى النثر في الأدب الفرنسي منهم إلى الشعر، ففكرت فرأيت أن السبب في ذلك المناهج.

والذي تقرر المناهج تدريسه من النثر العربي في مصر والشام والعراق لا يخرج في جملته عن رسائل ميتة لا روح فيها، أو فقرات جامدة مسجعة أو غير مسجعة ليس فيها وصف يهز القلب، أو معنى يوقظ الفكر، حتى أن ما يحتار لمثل الجاحظ وهو في رأيي أحد الخمسة الذين انتهت إليهم إمامة النثر العربي (الجاحظ وأبى حيان التوحيدي والغزالي وابن خلدون ومحيي الدين بن عربي) هو من الممل الممل المضجر كوصف الكتاب وصفاً هو مجموعة جمل مستقلة تشبه حكم اكثم بن صيفي ليس بينها ارتباط، ولا يفسدها لا تقديم فيها ولا التأخير، ويصعب استظهارها وحفظها، مع أن الجاحظ المعجب المطرب، والمبهج المرقص من القصص والاوصاف، فكان من ذلك أن رغب الطلاب عن أدبنا وكرهوه، واثروا عليه الأدب الفرنسي، لأنهم وجدوه اقرب إلى قلوبهم، وأدنى إلى أفكارهم.

ودواء هذا الداء أن يخرج واضعو المناهج من هذه الزاوية التي حبسوا أنفسهم والطلاب فيها، إلى فضاء الأدب ورحبة، ويدعوا الصاحب والقاضي والفاضل، وهذه الرسائل الباردة، وهذا الأدب الميت الذي لا روح فيه ولا جمال، ولا يصح أن يكون مثالاً يحتذي، ودليلاً يتبع، ولا يجوز أن يعرض على الطالب ألا علىانه لون من ألوان الكتابة، فيدرسه دراسة المؤرخ له، لا دراسة المتأدب به، ويفتشوا بين العلماء والصوفية والمؤرخين عن

ص: 6

ذوي الملكات البيانية، فيجدوا فيهم من لا يعد معه أدب الصاحب وعبد الرحيم البيساني إلا لعب أطفال.

اذكر على سبيل المثال (ابن الجوزي) في كتابه صيد الخاطر وموضوعه ظاهر من اسمه، وهو خواطر كانت له فيدونها في هذا الكتاب، وليس في هذا الكتاب بلاغة الجاحظ وابن قتيبة، ولا صناعة ابن العميد، ولا فحولة الجرجاني، ولكن فيه شيئاً ليس مثله عند أولئك جميعاً، هو هذه السهولة وهذه السلاسة، وهذا الصدق في تصوير الخواطر، وهذه الإلمام بالمسائل النفسية والاجتماعية والدينية، وما فيه من وثبات ذهنية عجيبة، وما يقوم به من تحبيب الأدب إلى الطلاب، وهذا الكتاب لو نشر اليوم على انه لبعض الكتاب العصريين، لقامت له الصحف الأدبية وقعدت، وهللت له وكبرت، وأحلته الذروة والسنام.

واذكر (ابن السماك) هذا الرجل الذي تدل الفقرات القليلة التي رويت له على انه أحد أفرادالدنيا في بلاغة القول، وصفاء الأسلوب، وعلو التفكير، ولم يفكر مع ذلك أحد في استقراء اخباره، وتتبع آثاره، و (ابن حزم) في (طوق الحمامة) و (ابن القيم) في (روضة المحبين) وابن داود الظاهرى، والبطري، والغزالي، وابن عربي، وابن حيان، والشافعي، وأمم لو احب واضعو المناهج العناية بآدابهم، لوجدوا شيئاً ينسيهم وينسى الطلاب الصاحب بن عباد وإضرابه.

الكتب المدرسية والكتب الأدبية:

زرت من سنين أحد (الناشرين) في دمشق، وكان عنده صديقي الأستاذ التنوخي، ومعه كتاب (المثنى) لأبى الطيب اللغوي الإمام العلم قريع ابن خالويه، وزميله في بلاط سيف الدولة. وقد وقع على النسخة الوحيدة منه التي ليست في خزانة من الخزائن العامة في الشرق ولا في الغرب، وانه أعلن في مجلة المجمع العلمي العربي السؤال عنها فلم يكن عند علم بها. والنسخة الصحيحة مقابلة بالأصل (أي بنسخة المؤلف) عليها تعليقات بخطوط كبار العلماء كابن الشحنة وغيره، فاشتغل بنسخها وتصحيحها ومعارضتها بكتب اللغة أمداً طويلاً. . . فرأيته يعرض عليه طبعها بشرط واحد: هو انه لا يشترط شرطاً. . . ولا يريد مالا ولا يبتغي على تعبه أجراً. وعند الناشر (معلم) يعرض عليه كتاباً في القراءة والمطالعة كل عمله فيه انه نسخ من كتب الأدب قصصاً وأحاديث كتبها في أوراق

ص: 7

ثم جمعها فخاطها فجعلها بأذن الله كتاب مطالعة للصفوف الثانوية، وهذا المؤلف يأبى إلا أن يكون أربعون في المائة من النسخ المطبوعة ثمن (تعبه. . .)!

وقد مرت ألان سنوات على هذه المقابلة طبع فيها هذا الناشر مائة كتاب مدرسي، وكتاب المثنى لا يزال مخطوطاً في دار أبي قيس.

أدباء المجالس:

من الأدباء من كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لسناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما ابتغي، فأتخيل شخصه، واتوهمه على أوفي ما يكون عليه المتفوه اللسن، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصموت، الذي لا يكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام، وإذا تكلم اخفي صوته، ولطف حروفه، حتى لا يسمع منه ولا يفهم عنه. . ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفياض الذي ينتقل من نكته إلى نكتة، ومن قصة إلى أبيات من الشعر، فيبتدع لها المناسبات، ويلقيها بصوت قوي، ويتكئ على الحروف، ويعظم مخارجها، فأكبره وأعظمه وأساله أن يكتب مقالة، أو ينشئ فصلاً، فيفر منه فراراً، وسوف يعتذر. . . فإذا أحرج وكتب جاء بشيء أشبه (بسفرة المسحر) فيها من كل طعام لقمة، ولكن الحلو مع الحامض، والحار مع البارد، وكل طعام مع طعام.

وقد تتبعت أحوال هؤلاء، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص، ولا يطالع بجد، ولا يبحث بإمعان، ولا تدع له (المجالس) وقتاً لدرس ولا بحث، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس، ويعيدها بعينها، ترث وتبلى وتصبح كالثوب الخلق، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث، فيطلقون على الاثنين اسم الأديب. . فمتى الناس بين الأديب الحق، وبين (أديب المجالس)؟

مجمع الشريعة الإسلامية:

اخبروني أن عالماً في دمشق يفتي الناس بان الورق السوري (البنكنوت) لا تجب فيه الزكاةلأنه ليس بذهب ولا فضة، ويقول بان هذا هو الحكم في المذهب الشافعي مع أن النقد في سورية كله من هذا الورق، وان الفضة فقدت خلال الحرب، وان التعامل بالذهب

ص: 8

ممنوع، فتكون فتوى هذا العالم الفقيه. . . إنما هي فتوى بمنع الزكاة، وهذه الفتوى على فسادها وضلالها وانه لا يقول بها مذهب شافعي ولا مالكي ولا يقول بها مسلم عاقل، وان هذا الشيخ الفاضل الذي ينكر أن يكون الورق السوري مالاً يقبض في آخر الشهر راتبه ورقاً سورياً، ويشتري به خبزه وجبنته، ويقاتل أن منع عنه. . . إنها على هذا كله قد وجدت من يأخذ بها لتخلص من الزكاة ومن يرد عليها وخبروني أن عالماً آخر أفتى بسقوط فريضة الحج في هذه الأيام. . . ونسب الفتوى إلى مذهب الشافعية، ورحم الله الشافعي كم ينسب إليه.

وخبروني بان المناقشات قائمة بشأن الربا، وهل تعد المعاملات المصرفية منه أو لا تعد؟! وبشأن رؤية الهلال وكيف يثبت دخول الشهر، وبشأن التوسل، وكرامات الأولياء، وبشأن الطلاق. . . إلى غير ذلك من المشاكل الفقهية التي تحتاج إلى مرجع يرجه أليه فيها.

وكنت قد سمعت من الأستاذ الشافعي القاضي العالم الشيخ فرج السنهوري لما زرت مصر ان الملك فؤاداً رحمه الله، كان عازماً على إنشاء مجمع للشريعة على نحو مجمع اللغة العربية، يكون من عمله رد الشبهات، وحل المشكلات، والإفتاء، ووضع مشروعات القوانين، فلماذا لا يلتمس علماء مصر من جلالة الفاروق حفظه الله أن يأمر بإنشائه فيضم هذه المنقبة إلى مناقبه الكثيرة، فيرضى بذلك ربه، ويحقق رغبة ابيه، ويجدد للمسلمين دينهم، ويسن سنة في الاصطلاح يكون له اجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وينقذنا من هذه المناقشات، وهذه المجادلات، وهذه الجرأة على الإفتاء؟

(دمشق)

علي الطنطاوي

ص: 9

‌سعيد.

. . .!

للأستاذ صلاح الدين المنجد

(أيها الأغنياء المجرمون. . أن هذا الفقير السعيد، لا شرف منكم جميعاً. . .!)

كان الضباب ينحدر ببط من حدود الجبال نحو القرية الهاجعة في أحضان الظلام، وكان الهواء يعصف ويزأر، ويهب من حقول الذرة تارة يحمل الزوابع والتوابع، ويهبط من الجبال الملأ بالزعرور، يحمل الجن والعفاريت، كأنه يريد أن ينقض على هذه القرية فينسفها نسفاً.

وكانت الطرقات قفراً، لا تلمح علة ظهورها أحداً، فقد دفع الهواء العاصف آهل القرية أن يختبئوا في دورهم تاركين المصاطب التي تحلقوا فوقها، يستمعون إلى أحاديث الحصاد، ويتحدثون عما لديهم من الآمال والأشغال.

وساد الظلام في كل مكان. . وعبث الهواء بمصباح القرية المعلق أمام الجامع فأطفأه وألقى به في الأرض. وانتشر فوق القرية رعب وكآبة، ونام القرويون. . حتى الحارس (أبو شنب) فقد ترك عصاه الغليظة أمام باب الجامع، وأغفى وراء الباب.

وفجأة ظهر في طرف القرية، من إحدى العلالي، نور ضعيف ثم اخذ يشتد ويقوي حتى أنارت العلية. . وظهر رجل يقترب من نافذتها.

ولو أن الحارس كان مستيقظاً لأسرع إلى العلية يستطلع أمر هذا النور، ويسأل صاحبها إطفاءه، لئلا يستدل العدو على القرية فيهاجمها بجنده، ويصب عليها نار مدافعه.

ووقف الرجل في النافذة، فنظر حوله، ثم اخذ يخطو في العلية خطوات غير متزنة، ثم عاد إلى النافذة ينظر. . . كأنه يترقب أمراً، أو يستطلع سراً، ثم أتفتل إلى المصباح، فاضعف نوره، وعاد إلى النافذة يتمتم بصوت ضعيف كأنه يخشى أن يسمعه أحد:

- (لقد سخر مني، عيرني بالفقر والعجز، لم يخجل من شيبي وضعفي. . . لقد تخطيت الستين. . اكتب عليّ أن أكون عبداً له، اتعب ليستريح، وأجوع ليشبع، وألبٍ المزق ليرفل بالحرير، وها أنذا لا املك شيئاً، وأولادي الصغار قضوا ثلاث ليال لا يأكلون، بل لا يجدون اللقمة الواحدة.

أمهم تعللهم بي، وأنا مختبئ أمام الدار، اسمع أصواتهم ويرن في آذني بكاؤهم، فيتفطر

ص: 10

قلبي، وينهمل دمعي. انهم قطع مني كيف اتركهم يجوعون. . . انهم أولادي، فكيف ادعهم يبكون. . . ليقولوا أني سارق وأني مجنون. . وليسوقوني إلى السجن، فهم كفرة لا يرحمون، ولا طعم أولادي. فلعلهم يشبعون. أن الدراهم عندي، ولن أرجعها، ولكن، ما ادري! ما الذي يعيث في صدري، وبين أضلعي؟ انه يضنيني ويقلقني. . . ما اشد هذه الليلة عليّ. . .! أنها لأقل من هذه الجبال واقل من السماء. ماذا افعل يارب؟ أن عفريتاً يحطم منى. كأن في يده معولاً فهو يضربني. أني لأسمع همساته في كل دقيقة، بل في كل طرفة تزن في آذني وتطنّ (هات الدراهم، هات الدراهم) لكن لا ليس في العلية أحد، أجني يكلمني؟ ماذا أصابني؟)

ورفع الشيخ يده إلى جبينه يسمح العرق عنه، ثم حول بصره إلى الغرفة فنفضها، عله يجد فيها الذي يقلقه. ولكنه لم يجد أحداً. فخطر على باله أن ينام. لقد حاول النوم من قبل ففر منه النوم. أما الان، فلعل النوم يشفق عليه، وينقذه من هذا العفريت الذي يطن في آذنيه. فاضطجع على كيس من القش اتخذه فراشاً. فقرأ وتعوذ، ودمدم وهمهم، وسرد ما حفظه عن شيخ القريةيوم الجمعة، مما يذهب الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس. وتقلب في فراشه ذات اليمين وذات الشمال. وحاول أن ينسى الدراهم، بل تمنى لو كان اصم، فلا يسمع هذا الهمس الناعم، ولكن صورة الدراهم كانت تملأ عينيه، وهمس العفريت كان يرن في آذنيه.

وجفا فراشه، وقد تحطم جسمه. واخذ يطوف حول العلية، مطرق الرأس، حاني الظهر. كيف الخلاص مما يسمع؟ أن هذا الهمس:(هات الدراهم) يكاد يقتله، وماذا فعل؟ لأنه سرق؟ وقلبه ماذا أصابه؟ أنه يكاد يتمزق في صره. ونادى: (ألا دعني أيها العفريت. . أحرج من صدري، ابتعد عني. آه لو كنت شاباً. . . دعني فأنا شيخ محطم أكاد أموت.

دعني، فما أخذت الدراهم لنفسي، ولا لزوجتي، ولكن لأولادي.

انظرهم كيف يبسوا من الهزال، وسقموا من الجوع! أيبقون بلا رغيف ثلاثة أيام وفي صناديق جاري الدنانير؟ أيموت صغاري من الجوع، ولي عند (البيك - إلا لعنة الله على (البيك) - أجرة ثلاثة شهر؟ لقد طردوني، أيها العفريت، ولم ينقدني أجرها. فطفقت أشكو، فلم يصغ أحد ألي. لقد قالوا أني كاذب، لأني فقير ضعيف. وانه صادق لأنه سيد القرية

ص: 11

الغني فدعني. فلم اعد أطيق. واذهب اليه، فهو مجرم كبير. اذهب أليه، وارقب غشه ودسه. . فأني فقير. اخرج أنت يا قلبي معه لاستريح. لقد طلبت بنيتي قرشاً فقلت لها غداً، وسألني بنيّ ثوباً، فقلت له غداً. وبت اخجل أن أراهما. أفلا أسرق يا رب، ويا عفريت، ويا قلب لأطعمهم وأفرحهم، وأدخل على قلوبهم السرور؟).

ولكن العفريت، كان أصم، فها هو ذا قلبه يخفق ويضرب ضربات كأنها القنابل مسكين لم يصغ إليه أحد، لا العفريت ولا قلبه. .

وضاق الشيخ بنفسه ذرعاً. أيقتل نفسه؟ لقد فكر في ذلك، ولكنه انصرف عن هذه الفكرة سريعاً، وفضل أن يفر من القرية. ثم رأى انه لا يطيق فراق أولاده، وقد رزقهم وهو شيخ قد بلغ الخمسين.

وفجأة التمعت عيناه. لقد فكر في الله. لم لا يصلي ركعتين، ويخلص لله النية، ثم يدعوه بدعاء تعلمه؟ لقد سمع هذا الدعاء من شيخ القرية، وحفظه عنه، ورسخ في ذهنه أن هذا الدعاء، وفيه توسل بالأولياء والصالحين، سريع الإجابة، عظيم التأثير. أذن فليدع الله. وسرعان ما قفز الشيخ فشمر عن ساعديه، فليتوضأ، وها هو ذا قد توضأ، وتوجه إلى القبلة، يصلي، فلما فرغ من صلاته رفع يديه، والدنيا سكون واخذ يدعو. وفرغ من دعائه، وانتظر قليلاً ولكن المعول ما يزال يهدمبين ضلوعه، والعفريت ما يزال يهمس في أذنه، والانقباض يغمر نفسه، والكآبة تشع حوله.

وجهد أن ينام مرة ثالثة، وأغفى إغفاءة قصيرة، وما لبث أن هب من فراشه، وقد عزم على أمر.

لقد ارتدى معطفه الممزق، ودلف برفق، بخطوات وئيدة نحو الصندوق الخشبي الصغير، لئلا تستيقظ زوجته وأولاده. ودس يده الراجفة في جيبه، فأخرج مفتاحاً صغيراً، فتح به الصندوق بهدوء.

لبث الشيخ لحظة مشدوهاً، وعيناه عالقتان بالصندوق تلمعان. ثم غاص بيده فيه، فاخذ صرة صغيرة بيد راعشة، وقلب راجف، وانتفض كالهر فهرول نحو الباب، تاركاً الحوائج مبعثرة، والصندوق مفتوحاً.

شار الشيخ مثقل الرأس، يحمل همه على كتفيه. يسرع الخطو تارة، يبطيء أخرى. وكان

ص: 12

الهواء الثائر قد هدأ عصفه وخف زئيره، فلا تسمع سوى أنات النسيم الرقيقة يبثها فوق ورق الزعرور. . . وكانت السماء موشاة بغيوم متناثرات هنا وهناك. وقد ظهر القمر شاحباً يترنح بين الغيوم، كأنه ثمل أو سكران. . وكانت القرية مغمورة بكآبة نشرها عليها ضوء القمر الشاحب. وكان الشيح يمشي هو ساهم يترنح. ولم ينس أن يبتعد عن مخفر الحارس لئلا يقبض عليه. لقد تمثل في خاطره كيف ساقوه إلى الحاكم لأنه سرق دراهم جاره الغني، وكيف اقسم انه لم يسرق، لئلا يفتضح وقد شاب رأسه. وذكر ما أصابه منذ انفتل راجعاً إلى داره يحمل لأولاده لقيمات. وكان يخيل اليه، وهو يمشي، أن تلك الأنات التي ترسلها النسمات معناها (الدراهم) أما تلك الأشجار المنتصبة في الفضاء فهي أشباح، أو أناس يترصدونه لقبضوا عليه جزاء يمينه الغموس التي حلفها اليوم. وخامره خوف شديد لا عهد له به من قبل.

فكان يقشعر بدنه كلما ظهرت أمامه شجرة من وراء المنعرج، أو من يمين الطريق، كأنها الشبح. فإذا ما تبينها تنفس الصعداء وأحس كأن ماء حاراً صب فوقه، فيرفض جسمه عرقاً. ثم يعاود سيره بجد، ويلتفت من حين إلى حين يمنة ويسرة، ينظر أيتبعه احد، ثم يحدق أمامه ليطمئن إلى طريقه الطويلة. وينظر إلى الأحجار المبعثرة على جنبات الطريق، التي تبدو كأنها جماجم الموتى، تلمع، وهي صلعاء، تحت ضوء القمر.

وخرج الشيخ من القرية وابتعد عنها، وبلغ داراً كبيرة منعزلة قامت على رابية، وطرق سمعه أصوات عربدة تصدر من الدار فتقدم من نافذة الدار. فرأى النور يتدفق منها، فساءل نفسه، لم ينهره الحارس إذا رأى النور في عليته، ويسمح للحاكم أن ينير غرفته؟ ثم حدق في ثقب من النافذة، فرأى مائدة حفلت باللحوم والأطعمة والأشربة. ورأى الحاكم، وقائد الجند يكرعون الشراب كرعاً، ويلتهمون اللحم التهاماً، فأرتد بصره، وذرف دمعة، وصعد حسرة.

وتعالت أصوات المعربدين، لقد حار في أمره، انه ننا قائد الجند الفظ الغليظ، ذو العصا الضخمة. . . ولئن طرق الباب، فانه ليخاف عصاه، وهو يخشى أن ينهره الحاكم، أو يسلمه للجند. انه الحاكم، لا يخيفه أحد، ولا يحفل بإنسان.

وهجمت على رأسه فكر سود كالخفافيش، فذهل. ونبهه همس ناعم. وخفق قلبه. وهم أن

ص: 13

يعود. فارتجف، واصطكت ركبتاه خوفاً من العفريت الذي يرافقه، والذي سيلقاه في غرفته، والذي سيؤنبه على السرقة، ويلحف عليه برد الدراهم، ففضل أن يضربه القائد آلف ضربة، وان ينهره الحاكم آلف مرة، على وخزات العفريت، ولسعات الضمير.

وتقدم من الباب، ومد يده المرتجفة، فدقه دقات ضعيفة، وقلبه يخفق.

لم يسمع الشيخ جواباً، فلقد كانت عربدات السامرين تحول دون سماع دقات الباب، فأعاد طرق الباب مثنى وثلاث، وفجأة هدأت الأصوات، وسمع صوت ينادي فيشق سكون الليل:

مين؟

فتلعثم الشيخ. . وعاد الصوت يسأل:

مين. .؟

فنادى الشيخ:

أنا. . أنا.

من أنت؟. .

واقترب الصوت. .

إنها جريمة، لابد. . أوف! في النهار شغل، وفي الليل شغل. . . وفتح الباب، وظهر الحاكم، ومن رائه القائد.

واخذ الحاكم يحدق في الشيخ، ولقد حسبه خادمه احمد:

احمد. . شو، في جناية. . مين مقتول. . مين. . وقال القائد وهو يتلعثم:

قبضتم على القاتل. . هو في السجن طبعاً. . مرحى. . أهرب؟. . لا. . لا. .

وارتبك الشيخ وقال:

لا. . آنا الشيخ جاسم:

وحدق فيه الحاكم وقال:

جاسم؟

نعم، جاسم، الذي اخذ الدراهم. .

ومسح الحاكم عينيه بكفيه وقال:

معك دراهم المقتول؟ كيف أخذتها. . اقبضوا عليه. . .

ص: 14

وردد القائد:

هيا. . اقبضوا عليه. .

واضطربالشيخ. والتفت حوله. . ولكن لم يتقدم أحد لقبض عليه. .

وعاد الشيخ يقول:

أنا الذي أقسمت اليوم يمنياً، إنها يمين كاذبة. أنا الذي سرقت الدراهم. . لقد جئتك بها، والعفريت يتبعني، يضرب في قلبي. خذها. . يا سيدي. . افضل أن اجوع، ولا أتعذب خذها. . لا أريدها!

ورمى الشيخ بالصرة، وانفتل يهرول. .

وقهقه القائد، وهو يقول:

رزق جديد. . هو لا يأخذها؟ هه. . . نحن نأخذها. . هات، هات. .

وابتعد الشيخ عن الدار. فنظر إلى الارض، والسماء، ونظر أمامه وخلفه، وعن يمنيه وعن شماله. انه لا يسمع ألان شيئاً. قلبه لا يخفق كذا قبل، وكأن جبالاً رفعت عن كتفيه وأحس بالنسيم اللطيف يدغدغ رئتيه. . . ورأى القمر كألطف ما يكون. لقد تغير كل شيء، وها هو ذا يبتسم، رغماً منه لقد أحس بالفرح، فانطلق يسرع في مشيه وهو يتمتم:

آه. . لقد استرحت. . الآن أنا سعيد!

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

ص: 15

‌على هامش النقد:

(دفاع عن البلاعة)

تأليف الأستاذ الزيات

للأستاذ سيد قطب

يبلغ الأستاذ الزيات فصل الخطاب حين يتحدث عن (الذوق) فيقول في ص33:

(ولكل لغة من اللغات المتمدنة عبقرية تستكن في طرق الأداء، وتنوع الصور، وتلاؤم الألفاظ. وهذه العبقرية لا تدرك ألا بالذوق. والذوق لا يعلم، وإنما يكتسب بمخالطة الصفوة المختارة من رجال الأدب، ومطالعة الروائع العالمية لعباقرة الفن. واطلاع الكاتب على الأمثلة الرفيعة من البيان الخالد يرهف ذوقه، ويوسع افقه، ويريه كيف تؤدي المعاني الدقيقة، وتحيا الكلمات الميتة)

ولكي لا يقع اللبس في ما يعنيه الأستاذ بالكلمات الميتة، نقتبس فقرات له في ص82 توضح هذا المعنى ولها في ذاتها قيمة في بيان قضية البلاغة:

(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق، لأن الكلمة ميتة، ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة، إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة. وللكلمات أرواح كما قال (موباسان). واكثر القراء، وان شئت فقل اكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها، ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي اعد لها، وهندس عليها، ونفحت فيها الروح التي تعيد لها الحياة، وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة وذلك في الجهاد الفني فوز غير قليل).

وهذا كلام جيد، فلقد آن الأوان لان نقدر قيمة الكلمة في تلوين الصورة الفنية، فهي أشبه شيء باللون المعين في الصورة، وكما تتبين مهارة المصور في اختيار الألوان وتنسيقها

ص: 16

لتحدث التأثير اللازم في جو الصورة العام، فكذلك اختيار الكلمات وتنسيقها لتشع ظلالها الخاصة، وليتألف من هذه الظلال مجتمعة صورة منسقة.

هذا الاختيار والتنسيق لا يتم عن طريق الوعي، فهناك الذوق الخفي، تربي شيئاً فشيئاً وأساسه موهبة لدنية، ولكن المرانة هي التي تبرز هذه الموهبة، وتلونها، وتجعلها في النهاية عاملاً من عوامل لخلق والاختيار.

ولقد غالت المدرسة العقلية في تقدير قيمة المعاني وإهمال قيمة اللفظ المصور، اكتفاء باللفظ الدال. والمسألة هي تعريف هذا اللفظ الدال في الفن. فنحن قد نرتضي هذا الوصف للفظ، ولكن لا يكون دالاً في الفن بمجرد أدائه للمعنى اللغوي أو الذهني فذلك يصلح في العلم وربما في الفلسفة. ولكنه لا يكفي في الفن، فالصورة - لا المعنى - هي المقصودة في الفن. واللفظ والعبارة يكونان دالين في الفن حين يؤديان المعنى الذهني، ويخلعان بجواره ظلالا معينة تتسق مع هذا المعنى، ويحدثان في الوقت ذاته إيقاعاً معيناً يتسق مع الظلال والمعاني. . . ومن مجموع هذه الخواص تتكون دلالة اللفظ أو العبارة في النص الفني، كما تتكون الصورة الفنية المعبرة عن فكرة فنية.

وفي هذا المجال يتفاضل الأباء وذلك مع عدم إهمال القيم الذاتية لخصائص الشعور، وطبيعة التفكير. هذه القيم التي لا تبدو على حقيقتها إلا عند ما يعبر عنها في صورة جيدة كما أسلفنا الحديث.

(لكل لغة عبقرية تستكن في طرق الأداء، وتنوع الصور، وتلاؤم الألفاظ)

ويرى الأستاذ الزيات أن عبقرية اللغة العربية من حيث طريقة الأداء تستكن في الإيجاز. وعبقريتها من حيث تلاؤم الألفاظ تستكن في السجع والازدواج.

وهذه ملاحظة صادقة في تسجيل خصائص المأثور من البيان العربي. ولكن الدعوة إلى الوقوف عندها في أساليبنا العصرية هي التي نفترق فيها عن الأستاذ.

فلننظر فيما يقول في هذين الأصليين الكبيرين.

(إذا كانت الوجازة أصلاً في بلاغات اللغات، فإنها في بلاغة العربية أصيل وروح وطبع. وأول الفروق بين اللغات السامية واللغات الآرية أن الأولى إجمالية، والأخرى تفصيلية. يظهر ذلك في مثل قولك (قتل الإنسان!) فإن الفعل في هذه الجملة يدل بصيغته الملفوظة

ص: 17

وقرينته الملحوظة على المعنى والزمن والدعاء والتعجب وحذف الفاعل. وهي معان لا تستطيع أن تعبر عنها في لغة أوربية إلا بأربع كلمات أو خمس. وطبيعة اللغات الإجمالية الاعتماد على التركيز والاقتصار على الجوهر، والتعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللمحة الدالة. كما أن طبيعة اللغات التفصيلية العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات، والاستطراد إلى المناسبات، والميل إلى الشرح ولم تعرف العربية التفصيل والتطويل والمط إلا بعد اتصالها بالآرية في العراق والأندلس. ولا أقصد من وراء ذلك إلى تفضيل لغة على لغة، أو ترجيح أسلوب على أسلوب؛ فإن الاختلاف اختلاف جنسية وعقلية ومزاج. والتفصيل إذا سلم من اللغو كان كالإجمال إذا برئ من الإخلال. وكلاهما حسن في موقعه، بليغ في بابه. وقد يكون التفصيل من الإيجاز إذا قدر لفظه على معناه)

وإلى هنا فالكلام جيد دقيق، لأنه يكتفي بتقرير حالة واقعة في اعتدال وقصد. وإن كان في هذا التعميم ما يستحق بعض الاستدراك. فالميل إلى الإجمال أو التفصيل قد لا يكون مزاج أمة ولا لغة، بل مزاج فرد أو جماعة في كل لغة. ولكن هذا الكلام مقبول في حدود السمات العامة للغات.

ثم يقول:

(اختصر في صفة واحدة صفات البلاغة في أساليب القرآن والحديث وأشعار الجاهليين الأمويين وكتب العباسين فلن تكون هذه الصفة غير الإيجاز)

(وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى، وسهل أبن هارون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز. حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتن أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة)

وهكذا كلام جيد حين يراد به تسجيل حالة واقعة - ما عدا الكلام عن إيجاز القرآن فلنا فيه رأى آخر سنبديه - أما حين يراد اتخاذه مثالاً فلا أن طبيعة الموضوعات التي عالجها النثر العربي المأثور، وأهمها الحكم والأمثال، والتوقيعات، والرسائل، هي التي اقتضت هذه الإيجاز، وكان سائغاً فيها. ولكنه في الشعر بدا عيباً في كثير من الأحيان. فمعظم

ص: 18

الشعر العربي يعمد إلى بلورة المعنى وإرساله كالقذيفة، وقلما يعني بتصوير الحالات النفسية ووصفها وبسط التجارب الشعورية التي تمتع الحس بتتبعها. إنه يخاطب الذهن غالباً بالمعنى الذهني الأخير الذي لا يتمتع به إلا الذهن وحده. وفي هذا تتفوق طريقة الأداء في غير الشعر العربي: في الشعر الأوربي والهندي والفارسي. ولقد كتبت عدة فصول عن (طريقة الأداء في الشعر) وعن (الصور والظلال في الشعر) وكلها تبرز تقصير طريقة الأداء في الشعر العربي عن نظائرها في الشعر العالمي. والعيب كله راجع إلى بلورة المعاني، واقتضاب التفصيلات، أي إلى هذا الإيجاز الذي قد يفلح في شعر الحكم ولكنه يخفق في تصوير الحالات النفسية، والخطوات الشعورية كل الإخفاق. كما يخفق في القصة التي تقتضي مزيداً من (العناية بالدقائق، والإحاطة بالفروع، والاهتمام بالملابسات) تلك الخصائص التي ذكر الأستاذ الزيات أنها من خصائص اللغات التفصيلية. . . وقد نقل الأستاذ كلاماً لأبن الأثير في ص94، له دلالته في موضوعنا: قال أبن الأثير (جلس إلي في بعض الأيام جماعة من الإخوان، وأخذوا في مفاوضة الأحاديث، وانساق ذلك إلى ذكر غر ائب الوقائع التي تقع في العالم، فذكر كل من الجماعة شيئاً. فقال شخص منهم: (إني كنت بالجزيرة العمرية، في زمن الملك فلان، وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً، فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية، وصعدنا إلى سطح طاحون لبنى فلان، وأخذنا نلعب على السطح، فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون، فخفنا أن يكون آذاه؛ فأسرعنا النزول إليه، فوجدناه قد وطء البغل فختنه ختانة صحيحة حسنة، لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها).

فقال له شخص من الحاضرين: والله إن هذا عىّ فاحش، وتطويل كثير لا حاجة إليه. فإنك بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون، فوقع صبي منكم إلى أرضها، فوطء بغل من بغالها فختنه ولم يؤذه. ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه. ولو كانت بأقصى المغرب، لم يكن ذلك قدحاً في غرابتها. وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان فإن مثال هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم بدونه) وتعليق أبن الأثير على لسان (شخص من الحاضرين) هو نموذج من فهم العقلية العربية التقليدية للفن. فالمعنى هو

ص: 19

المقصود، المعنى أوجز لفظ وأخصره، مجرداً عن ظلاله وملابساته وظروفه. المعنى المركز في (برشامة)!

ونحن لا نتردد في إيثار طريقة صاحب الطاحونة! - من الناحية القصصية - لأنه يصور الجو والملابسات، ويطيل التشويق، ويتضمن المفاجأة في النهاية وهو على تفاهة حكايته (صاحب فن) في روايتها، يهيئ له أن يصبح قصاصاً!! أما صاحبه الآخر الذي رد عليه فرجل عجول، وهو قد يكون أشد عروبة، ولكنه ليس أحسن فناً!

أما القرآن فلم يتبع خطة واحدة. لقد استخدم الإيجاز والإصناب كلاّ في موضعه، وحسب الغرض النفسي الذي يتوخاه وقد جاء في فصل (التناسق الفني في القرآن) من كتاب (التصوير الفني في القرآن) ما يأتي:

(بعض المشاهد يمر سريعاً خاطفاً، يكاد يخطف البصر من سرعته، ويكاد الخيال نفسه لا يلاحقه. وبعض المشاهد يطول ويطول حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول. وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة، وبعضها شاخص لا يريم. وكل أولئك يتم تحقيقا لعرض خاص في المشهد، يتسق مع الغرض العام للقرآن ويتم به التناسق في الإخراج أبدع التمام)

ثم ضربت أمثلة متعددة للقصر الخاطف، وأمثلة متعددة للطول المقصود في عرض المواقف. ويحسن أن أختار هنا مثالين من تلك الأمثلة الكثيرة:

1 -

يريد أن يصور للناس قصر هذه الحياة الدنيا التي تلهيهم عن الآخرة، فيخرج القصر في هذه الصورة:

(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا، كما أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فاصبح هشيماً تذروه الرياح).

(وانتهى شريط الحياة كله في هذه الجمل القصار، وفي هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة: (ماء أنزلناه من السماء) ف (اختلط به نبات الأرض) ف (أصبح هشما تذروه الرياح).

(ألا ما أقصرها حياة!

2 -

ويريد أن يبصر الناس بنعمة من نعم الله عليهم، هذه الصورة نفسها: صورة نزول الماء من السماء وإنبات الزرع به، وصيرورته حطاماً. . . ولكن في تطويل وتريث

ص: 20

وتفصيل، لأن التذكير بالنعمة يقتضي التريث والتفصيل فالقسم الأول

من الصورة وهو نزول الماء من السماء يعرض هكذا:

(الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)

والقسم الثاني بعد وصول الماء إلى الأرض يعرض هكذا:

(ألم تر أن الله أنزل من السماء، فسلسكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً)

فالرياح تثور، فتثير السحب في السماء، فيتراكم السحاب، فيخرج منه المطر، فينزل المطر من السماء، فيستبشر به عباد الله فإذا نزل إلى الأرض، فلا يختلط بالأرض ولا بنبات الأرض - كما حدث هناك - إنما يسلك ينابيع. (ثم) - في تراخ - يخرج به زرعاً. (ثم) مرة أخرى - يهيج فتراه مصفراً - وفي الوقت مهلة لتراه - (ثم) مرة ثالثة يجعله حطاما. (يجعله!) وهناك (اصبح هشيما) كأنما يصير هكذا من نفسه بلا حاجة إلى مصير!

وفي مشاهدة القيامة مثل هذه الإطناب وذلك الإيجاز، وفي المواقف القصصية. وفي كل موضع يقتضي التفصيل او الأجمال، فالقران في هذا خارج عن مأثور النثر العربي. متميز بخصائصه الفنية في كل موقف وفي كل حال.

فلننظر في السمة الثانية من سمات اللغة العربية في تلاؤم الألفاظ. وهي السجع والازدواج. والازدواج بشكل خاص: (فالازدواج على اطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ، منذ كان للعرب ذوق، وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف، وسمجت بالفضول. وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على أن ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس، ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب، وتنسب إلى خصائص اللغة، كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ والمعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، أو اتحاد الفاصلة

ص: 21

والفاصلة في الروي.

(واقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي في القران، وهو (كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما)

ونحن لا نجادل الأستاذ في أن السجع والازدواج أساسان من أسس النثر العربي المأثور - وندع الحديث عن القران إلى موضعه - ولا نجادله في أن فيهما جمالا حين يسحن استخدامهما ولكن هذا لا يعني انهما مفروضان ضربة لازب على الأساليب العصرية.

وقبل كل شيء نود أن نقرر في صراحة: انه إذا كان في اللغة العربية شعر يبلغ نهاية الجودة وقمة الفن - في بعض الأحيان - فانه ليس في اللغة العربية نثر يتسم بهذه السمة! أن الأسلوب النثري المأثور في اللغة العربية أسلوب متخلف متضع تنقصه الطلاقة والحيوية والاندفاع. ولم يبلغ النثر العربي يوما ما بلغه على أيدي كتاب العصر الحاضر الذين أطلقوه من قيوده البطيئة في التعبير والتنغيم على السواء.

وهذه حقيقة تنفعنا، فانه إذا جاز أن نتجه إلى الشعر العربي المأثور للمحاكاة والانتفاع، فلا يجوز أن نتجه إلى النثر العربي المأثور إلا لتكوين الذوق اللغوي، لا المحاكاة الفنية.

وإيقاع السجع والازدواج - على تفاوت بينهما - هو إيقاع (التقاسيم) الشرقية في الموسيقى، فيه الارنان المتوازي أو المتقابل. ولكن تنقصه التموجات العريضة العميقة، وتنقصه الرفرفة الخفيفة والاندفاعات الطليقة. وهو على أية حال ليس إلا لونا واحدا من ألوان الإيقاع لا يصلح لجميع الأحوال. والتناسق الحقيقي هو اتفاق صورة الكلام وإيقاعه مع طبيعة الشعور الذي انبعث عنه الجو النفسي الذي يصوره. وهو بهذا الوضع جزء من دلالة العبارة كالمعنى الذهني سواء. والسجع والازدواج لا ينفسحان عن جميع الصور النفسية.

ثم نصل إلى الحديث عن القران.

وأنا الذي الفت كتابا كاملا عن (التصوير الفني في القران) وأبرزت سمة (الإيقاع الموسيقي) في هذا التصوير، لا اتررد في الجهر بان القران لم يستخدم السجع والازدواج في كافة أغراضه بل استخدمهما في المواضع الخطابية التاثيرية. وفي هذه المواضع

ص: 22

وأمثالها دون سائر الأغراض يحسن السجع والازدواج.

فإذا خطر لنا أن نتأثر أسلوب القران، فلنعرف مواضع كل طريقة من طرق الأداء فيه. ولنفرق بين السمات المطردة فيه، والسمات الخاصة بموضوع دون موضع.

فطريقة التعبير بالتصوير سمة مطردة. أما الإيقاع في السجع والازدواج فسمة موضوعية.

ومن هنا يأتي الخطأ لجماعة ممن يعن لهم تقليد أسلوب القران في العصر الحديث. فهم لا يقلدونه في طريقة التعبير بالتصوير. ولكن في طريقة تركيب الجمل، وتنسيق العبارات. . . ولقد دعوت مرة إلى التأثر بطريقة الأداء القرآنية، عنيت بها الصور والظلال وتجانس الصور والإيقاع. ولكنني لم اعن تركيب الجمل على النسق القرآني في كل المواضع والموضوعات. وهناك أساليبه الطليقة التي استخدمها للشرح والتقرير، والأساليب التأثيرية التي استخدمها في مواضع خاصة تصلح لهذه المواضع، ولا تطرد في كل المواقف.

وهذا مفصل القول في هذا الموضوع الدقيق.

(للبحث بقية)

سيد قطب

ص: 23

‌المفتى المهاجر

للأستاذ توفيق محمد الشاوي

(فلسطين! وما فلسطين؟

هي الوطن، إذا كان الوطن أن نعيش فيه سادة أحرار.

وهي الدين، إذا كان الدين أن نذود عنه أعزة كراما.

وهي الأمل، إذا كان الأمل هو كل ما يملك النفس ويحركها.

وهي الحلم، إذا كان الحلم هو كل ما يشغل القلب ويجذبه مهما كانت حجب الزمان والمكان

فلسطين! هي ذلك التاريخ الحافل الذي حفظته الدنيا، فلن يمحى بعد ذلك!

هي ذلك المجد الخالد الذي صنعه الأباء، فلن يحيا بدونه الأبناء! هي ذلك التراث المجيد الذي يملكنا ونملكه، هو لنا الماضي، ونحن له المستقبل!

نعم! وهي هي التي دعتني إلى الفراق حين فرض الفراق، وتدعوني إلى اللقاء حينما يجب اللقاء. . .)

لعل هذه هي الخواطر التي شغلت دائما هذه النفس الهادئة القوية، وملأت هذا القلب الطاهر العميق، وانك لتستطيع أن تقراها واضحة ناطقة في هذا الوجه الباسم المطمئن، وهاتين العينين الصافيتين الهادئتين، عيني المفتى مفتى فلسطين الكبير!

انك لتراها واضحة لأنها تصدر عن فكرة قوية هادئة، تعبر عن إيمان صادق عميق، وثقة ثابتة لا تتزعزع، تلك هي العقيدة الإسلامية الخالدة التي تمثلت في تاريخنا الحافل، ولا يمكن أن يجحدها جاحد، وخاصة إذا تمثلت في رجل عظيم!

فكرة تكسب الرجل قوته وعظمته التي عجزت أمامها (السياسة) الإنجليزية الماكرة، وأفلست حيالها كل المكايد الاستعمارية الخادعة. . . أخرجته من فلسطين ولبنان، ومن لبنان إلى العراق، ثم منها إلى إيران، ومن إيران إلى تركيا فأوربا، وها هي أوربا قد قلبت رأساً على عقب، وهو هو، تطورت الأحداث، وهو ثابت لم يتزعزع بأيمانه القوى الثابت، وفكرته التي خرج بها من بلاده، والتي تجمعها هذه الكلمة التي لا تبرح خاطره ولا تغادر قلبه (فلسطين)!

(من اجلها استوى عنده الشرق والغرب والقرب والبعد! زمن أجلها خرج عن المال والولد،

ص: 24

وطابت له الهجرة، ولكن إلى حين! من أجلها دار هذه الدورة التاريخية من الشرق إلى الغرب، مخترقاً قلب هذه القارة الطاغية الجبارة (أوربا) في سبيل تلك الغاية الواحدة (فلسطين)!

وأنه ليقيم في باريس، في ضيافة فرنسا، في تلك الفيلا الهادئة المنعزلة قرب (السين)، فهلا يستريح؟ كلا! وأي نجم في السماء يستريح؟ كلها تدور كما جار هو صابراً ثابتاً، من برج إلى برج، في هدوء وإشراق، لا تقف في منتصف الطريق، لا بد من أن تتم الدورة، لا بد من (العودة) إلى هذه النقطة التي بدأ منها، والتي أتجه إليها دائماً بروحه وقلبه، والتي يعيش من أجلها. . . فلسطين أنشودته الخالدة:

فلسطين يا فلسطين

أنت لي دنيا ودين!

الإنجليز يطاردون واليهود يترصدون، والفرنسيون مترددون مراقبون، ولكنه هادئ باسم، لأنه مؤمن ولأنه واثق: مؤمن بالحق، وواثق بالله. . . . مؤمن بأنه يجب أن يعود، وواثق بأنه سيعود!

وماذا يكلفه ذلك؟ إنه لا يملك شيئاً إلا روحه، وهي رخيصة في سبيل غايته؟ لقد عرضها على الموت في كل آن، منذ أن بدأ جهاده في سبيل الحق وهو يبحث عن الموت ويطلبه في سبيل بلاده وعقيدته، ولكن الموت عنيد لا يطلب من يطلبه. . . فليجاهد حتى الموت!

وكيف يعود؟ لا بد من إذن الحكومة الفرنسية، ورضاء الحكومة الإنجليزية وطلب الحكومات العربية، ولا بد من إجراءات دبلوماسية تطول، وعقبات سياسية لا سبيل إلى تذليلها الآن!

كلا! دعوا كل هذا، وأقرءوا هذا الوجه الهادئ الواثق، هناك ابتسامة عريضة تكاد ترسم قوساً تحت هذا الأنف العربي الأشم، إنه سيعود، إنه لا يفصله عن غايته إلا مثل هذا القوس، الطريق من باريس إلى الشام لن يكلفه أكثر من هذه الابتسامة المؤمنة الهادئة، ما دام أنه يجب أن يعود، فلا بد أن يعود، ولا يمكن أن يبقى تحت رحمة السياسة الدبلوماسية، وخير له أن يخاطر ليعرض روحه على الموت مرة أخرى في سبيل غايته، فإنه سيبلغ بلا شك إحدى الحسنين! دين آبائه وأجداده من قبل! فليعد مخاطراً مجازفاً، سواء رضيت إنجلترا أو لم ترض، سواء أذنت أو لم تأذن. . . لا بد من العودة. . لا بد منها. . .

ص: 25

فلسطين. . . الشام. . . وقد كان!

توفيق محمد الشاوي

مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد

ص: 26

‌التطورات السياسية في الشرق الأقصى

للأستاذ محمد جنيدي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

يتولى الحكم في إندونيسيا نائب عن الملكة ولهلمينا يدعى باسم الحاكم العام، يساعده مجلس مكون من رؤساء المصالح الكبيرة، المالية، والحربية، والبحرية، والعدلية والاقتصادية وهم هولنديون، طبعاً!. ويسمى هذا المجلس المجلس الهندي، ويساعده أيضاً المجلس النيابي.

وفي يناير 1920 أنشأ بعض رجالات جزيرة حزب (شركت مادورا) عاملاً لتقوية الحركات التحررية في هذه الجزيرة. وفي 8 مايو 1920 تأسست جمعية سياسية في جزيرة (سيليبيس) باسم (شركة أمبون) لا تخرج غايتها غايات الأحزاب الوطنية التي ظهرت قبلها.

وخلال عام 1919 حدثت عدة اضطرابات في المرافق العامة إظهاراً للشعور المكبوت من سياسة الحكومة الهولندية في إدارتها أمور البلاد بطرق دلت على الاستغلال والاستعباد للشعب، وأشهر حوادث الأعتصاب: الإعتصاب الذي قام به موظفو وعمال ترام سومطرة الغربية، ثم موظفو وعمال مطبعة سورابايا الأميرية، ثم لإضراب نقابات الخياطين الوطنيين، ثم الإضراب النهائي الكبير في مصانع السكر العائدة للأميريالية الغربية، فشلت حركاتها أياماً.

في عام 1917 حاول الدكتور سمعون والمستر تان ملاكا والمستر عالمين نشر المبادئ الاشتراكية الحديثة في حزب الرابطة الإسلامية. فهؤلاء الثلاثة كانوا أعضاء في حزب الرابطة الإسلامية بمدينة (سمارانج) وقد تلقوا مبادئ الاشتراكية من المستر سنفليت الهولندي مؤسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي فوقف لهم زعماء الرابطة موقفاً رائعا، صدوا المبادئ الشيوعية من الولوج في المجتمع الإسلامي بإندونيسيا، وبعد مجادلات في الصحف وفي الأندية. انفصل اشتراكيو (شركة إسلام) منه وانشئوا حزباً سياسياً باسم (شركة إسلام ميرة) أو (الرابطة الإسلامية الحمراء) بزعامة الدكتور سمعون. وأما (شركة إسلام) الأصلية فقد زيدت في اسمها كلمة واحدة، وأصبحت تدعى باسم (الرابطة الإسلامية البيضاء) برئاسة شكري أمينوتو. ثم أبدل زعماء الرابطة الإسلامية الحمراء اسم حزبهم

ص: 27

إلى (شركة رعيت) أو (حزب الأمة) وانتشرت فروعة في القرى والمدن وكانت الروح المعادية للإميريالية تكتسح المجتمع الإندونيسي وتهز دعائم الحكم الهولندي. وفي 23 مايو 1920 ظهر حزب الأمة بمظهر جديد، فقد بدل أسمه إلى حزب (الحزب الشيوعي الأندنوسي) المرموز إليه بحرف ، ويعد هذا الحزب أكبر الأحزاب الأندنوسية المتطرقة، ومبادئه العمل الإيجابي لإزالة الاستعمار الهولندي من إندونيسيا.

وفي عام 1922 سافر الدكتور سمعون إلى أوربا ومنها إلى موسكو للاتصال بمركز قيادة الحزب الشيوعي الروسي واطلع على نظمه وبرامجه ومؤسساته، ثم عاد إلى إندونيسيا. ومنذ ظهور الحزب الشيوعي في المسرح السياسي اشتعلت اندنوسيا ناراً، فالمبادئ الشيوعية تنتشر في القرى والمدن، والأفكار الحرة تهدم معاقل الاستعمار.

من شهر نوفمبر 1926 إلى يناير 1927 اندلعت نار الثورة الشيوعية الكبرى في إندونيسيا، أشعلها الحزب الشيوعي الاندنوسي، فكافحتها السلطة الهولندية كفاحاً عظيماً استعملت خلاله المدافع الرشاشة والدبابات والسيارات المصفحة. أما الإندونيسيون فكانت أسلحتهم المسدسات والقنابل اليدوية!.

واستطاعت الحكومة الهولندية إخمادها لقواتها الكثيفة التي قذفتها إلى ميدان الثورة. وبعد انجلاء الموقف سجنت السلطة الهولندية (4500) إندونيسي شيوعي، ونفت أيضاً إلى غينيا الجديدة (1308) شيوعيين!

في 4 يوليو 1927 أنشأ الدكتور سوركانو (اتحاد الشعب الإندونيسي) وساعده في إنشائه المستر سر تونو، والمستر اسحق والمستر بودترات، والمستر سوجادي، والدكتور شفتو ماعون كسومو. وفي ديسمبر 1928 عقد الحزب مؤتمره الأول بمدينة سورابايا، وقررت الهيئة الرئيسية للحزب إبدال اسم الحزب. فسمى (الحزب الوطني الإندونيسي) برئاسة الدكتور سوكارنو فأنشا هيئات عسكرية من الشباب سميت بفرقة الهجوم. وفي هذا الظرف كان الشعب الإندونيسي يترقب مصير الحكم الهولندي في إندونيسيا، حيث أن الحزب الوطني كان أقوى حزب سياسي في إندونيسيا، سياسته رفع السيادة الأجنبية عن إندونيسيا. وفي نهاية عام 1929 داهمت جنود الحكومة الهولندية دار الحزب الوطني بمدينة (باندونج) فجمعت أوراقه ومستنداته، ثم داهمت أيضاً فرقة من الجنود الهولنديين (50)

ص: 28

مدينة في إندونيسيا فيها فروع الحزب، وقبضت على (300) عضو من أبرز أعضاء الحزب. أما رئيس الحزب فقد سيق إلى السجن ليلاً والأسباب التي دعت الحكومة الهولندية إلى إجراء هذا العمل شعورها بثورة يشعل نارها الحزب الوطني في غرة عام 1930 لما رأت منه من الأعمال الثورية منذ ظهوره في الميدان السياسي. وبعد محاكمات طويلة قررت السلطة الهولندية سجن الدكتور سوكارنو أربع سنوات، وسجن كل من المستر غاتوت والمستر ماسكون والمستر سوفريا والمستر سنغيه مدداً مختلفة. أما الدكتور سوركانو فقد قضي عامين مسجوناً في سجن (سوكا مسكين) بسورابايا، وأنقص عامان من مدة سجنه بأمر من الحاكم العام وأما الأعضاء الآخرون فقد أتموا مدة سجنهم.

في 31 ديسمبر 1931 خرج الدكتور سوكارنو من السجن فوجد أتباعه قد اقسموا إلى قسمين: قسم برئاسة المستر سرتونو وقسم آخر برئاسة الدكتور محمد حتى. فأنضم إلى (الحزب الإندونيسي) أو بزعامة المستر سرتونو. ثم في عام 1932 اسند إليه رئاسة الحزب، وبدأ عمله السياسي كما كان وفي 5 مارس 1933 قبض عليه ثم نفي إلى جزيرة فلورس. وفي عام 1936 أعيد إلى مدينة (بنكولين) بجزيرة سومطرة، ثم عهدت إليه الجمعية المحمدية الأشراف على أقسامها الثقافية بفرعها بهذه المدينة.

أما الدكتور محمد حتى فقد أنشأ بمساعدة الدكتور شهرير (حزب التربية الإندونيسية) وكانت مبادئه تحرير أندونيسيا من الاستعمار الهولندي. وفي 25 فبراير 1934 ضربي السلطة الهولندية بيد من حديد على هذا الحزب. فنفت رئيسه الدكتور محمد حتى إلى جزيرة (بندانيرا) والدكتور شهرير إلىغينيا الجديدة، وهكذا تضرب الإمبريالية الغربية الحركات الشرقية التحريرية.

وفي ديسمبر 1297 تألفت هيئة سياسية باسم: (اتفاق الهيئات السياسية القومية الإندونيسية) أو المرموز غليه بالحروف الأولى ، ، ، ، لاتخاذ مناهج سياسية مستقيمة لمقاومتها الاستعمار الهولندي، وتولى رئاستها المستر محمد حسني تمرين من حزب (إندونيسيا الكبرى)، وتكونت هذه الهيئة من حزب (بودي أوتومو) وحزب (الرابطة الإسلامية) وحزب (قوم بتاوى) و (سومطرة بوند) وأدت هذه الهيئة خدمات سياسية في صالح الشعب.

ص: 29

في 16 أكتوبر 1930 أبدل الدكتور ستومو (نادي التعليم) إلى حزب سياسي باسم (اتحاد الشعب) للتكاتف مع الأحزاب السياسية في كفاح الاستعمار. وفي 29 أبريل 1931 أنشأ الدكتور أمير شرف الدين حزب النهضة الإندونيسية للعمل لتحرير إندونيسيا من الاستعمار الغربي. وقد استطاع الدكتور أمين الدين بجهوده العظيمة إيجاد حالة سياسية للشعب أوضحت له ان أعماله وجهاده ستثمران بعد سنوات قليلة، ومنذ نشأت الجمهورية في إندونيسيا تولى الدكتور شرف الدين وزارة الأخبار ثم عين إلى وزارة الداخلية ثم عين إلى وزارة الدفاع، ولا يزال يشرف عليها للآن.

وفي 14 سبتمبر 1930 أنشأ المستر محمد يمين (حزب الشعب الإندونيسي)، وكانت سياسة حزبه ترمي إلى الاستقلال التام لإندونيسيا أو البقاء تحت الاستعمار! أما إنشاء حكومة ذاتية أو غيرها من أنواع الحكومات فليس من الحكمة الرشيدة، والسياسة المستقيمة! ويتولى اليوم المستر محمد يمين منصب حاكم جاوا الغربية.

وفي 24 ديسمبر 1935 أدغم الدكتور ستومو حزب أوتومو، وحزب اتحاد الشعب، وحزب دشركت سومترا، وأخراج منها حزباً سياسياً كبيراً هو (حزب إندونيسيا الكبرى) اتبع الحزب سياسية معتدلة تجاه السلطة الهولندية، وكان عمله الأول متجهاً نحو الحياة الاقتصادية والحياة الثقافية فمؤسساته الاقتصادية:

1 -

البنك الوطني الإندونيسي. وله فروع كثيرة في أهم المدن الإندونيسية ويؤدي الأعمال التجارية.

2 -

شركة الملاحة الوطنية.

3 -

المعهد الزراعي. ومؤسساته الثقافية: 1 - معهد التربية الإندونيسية 2 - دور للأيتام 3 - مدارس ثانوية 4 - مدارس شعبية عامة 5 - هيئة للأيتام 6 - دور للأطفال لحمايتهم من داء - ، ، ، إدارة للصحافة والنشر.

في ديسمبر 1936 أسس بعض الزعماء الإندونيسي (الحزب الإسلامي الإندونيسي) لعمل خطة سياسية لإسلامية يسير عليها الشعب الإندونيسي المسلم في جهاده في سبيل استقلاله وتولى رئاسة الحزب (رادين ويووهو) العضو بالمجلس النيابي وساعده في إدارته الدكتور سوكيمان، والمستر كسمات والدكتور سكارى. وقد جعل الحزب مبادئه مستمدة من القرآن

ص: 30

والحديث مع مراعاة سير التطورات السياسية في الشرق والغرب. وأعطى لرئيس الحزب التصرف المطلق حتى لقنته الصحافة الوطنية بلقب (دكتاتور) ولهذا الحزب وزير في الحكومة الإندونيسية الحديثة هو الدكتور محمد ناصر ويشغل وزارة الاستعلامات، وكان قبل نشوب الحرب الأخيرة رئيساً لفرع بمدينه سورابايا.

في 21 مايو 1939 أنشأ المستر أبيكوسنو زعيم حزب (شركت إسلام إندونيسيا) والمستر محمد حسني تمرين وكيل حزب (فرندرا) والمستر أمير شرف الدين زعيم حزب النهضة الإندونيسية. انشأ هؤلاء رابطة سياسة باسم والمقصد السامي لها توحيد الأحزاب السياسية الوطنية للعمل متحدة في سبيل تحرير إندونيسيا من السلطة الغربية، والأحزاب التي اشتركت في هذه الرابطة السياسية هي:

حزب إندونيسيا الكبرى.

حزب النهضة.

حزب الرابطة الإسلامية.

حزب الاتحاد الميناهاسي.

حزب فاسوندان.

الحزب الإسلامي.

وأول عمل قامت به هذه الرابطة مطالبة السلطة الهولندية بإنشاء برلمان. وقامت الرابطة بدعاية واسعة النطاق لمشروع البرلمان في الدوائر الإندونيسية والهيئات الهولندية. وفي 23 - 25 ديسمبر 1939 أقامت الرابطة مؤتمراً قومياً باسم (المؤتمر القومي الإندونيسي) بمدينة جاكرتا لبحث ما وصل إليه زعماء الرابطة من أعمال مشروع البرلمان. واشتركت الجمعيات الإندونيسية في هذا المؤتمر قدمت الرابطة مذكرة إلى المجلس النيابي بطلب إنشاء برلمان للبلاد، وأوضحت فيها مستوى ما وصل إليه الشعب من الثقافة والتربية السياسية، ثم أحال المجلس النيابي مذكرة الرابطة إلى البرلمان الهولندي بلاهاى، فأغمضت هولندا عينيها وتجاهلت الحالة في إندونيسيا.

هذه خلاصة تاريخية للتطورات السياسية والحركات الاستقلالية في لإندونيسيا. فلعل القارئ تمكن من تصوير حقيقة الشعب الإندونيسي، والتكهن بمستقبله بعد أن أعلن استقلاله

ص: 31

بين أصوات المدافع وهدير الطائرات، ثم خطى خطوات موفقة بين الأشلاء والدماء!. . .

محمد جنيدي

ص: 32

‌في خطبة للنشاشيى:

كتاب أحمد شاكر الكرمي

كان وعد في (الرسالة) في المقالة (الفيلسوف أمين الريحاني) رحمه الله عليه - أن ينشر كتاب النابغ الناقد مازني الشام وعقاده، المأسوف على آدابه وشبابه الأستاذ (أحمد شاكر الكرمي) صاحب صحيفة (الميزان).

و (كتاب أحمد) هو في خطبة للنشاشيي اسمها (كلمة موجزة في سير العلم وسيرتنا معه) قالها منذ أربع وثلاثين سنة في الحزب الكبرى الأولى، في كلية صلاح الدين الأيوبي، في بيت المقدس.

وهذا هو الكتاب:

سيدي الأديب الجليل:

وصلتني (كلمتك الموجزة) فكنت أتمثلك وأنا أتلو سطورها، مدرهاً من فحول الجاهلية قهر تصاريف الأيام، وحظى بنعمة الخلود، وقام يقرع مسمع الدهر بآيات العلم والعرفان في عصر العلم والنور.

إني مدين لرسالتك بنشوة السرور التي خامرت قلبي في زمن لا يبعث كل ما فيه إلا على الحزن والأسى، فقد أطربني حقاً وجود أديب بين ظهرانينا يجلو أسرار العلم الحديث ومعجزاته في هذه الحلة العربية القشيبة في زمن استعجم فيه أبناء الضاد، وكادوا يضيعون آخر الذخائر وأثمن النفائس التي ورثهم إياها أسلافهم الأبرار.

وإني لأرجو أن تدفعك غيرتك على هذه اللغة المجيدة التي قلّ أنصارها إلى الإكثار من هذه الآثار التي تعتز بها دولة الأدب، وتهتز لها أعطاف البلاغة. والسلام عليك مكن أخ مخلص يجلب منزلتك، ويكبر أدبك وبيانك.

دمشق الشام في 18 آذار 1922

أحمد شاكر الكرمي

وهذه شذرة من الخطبة التي شرفها وأعلى قدر منشيها اسم النبي محمد فيها.

(ثم أتى على العالم من بعد ما اجتلى من الحكمة الإغريقية والعلم الإغريقي الذي اجتلاه

ص: 33

حين من الدهر كربت تضمحل فيه الآثار هذه الحكمة. وتنطفئ من سمائها أنوار درارىء طالما هدت السارين، وأرشدت الضالين. (وبينما العسر إذ دارت مياسير) وبينا العالم يرتقب هادية وقد تطاول ليل ضلاله وحيرته صات صائت في فلاة لم تعتد الناس أن تسمع فيها للخير دعاء. فأرهفت لأسماع ما يقول الصوت أذنه: فإذا هو يوقظ الهاجد في عماه، وينبه الغافل من كراه، وينادي إلى الحق وصراط مستقيم. وذلك الصائت هو سيدنا وزعيمنا وإمامنا ومصلحنا. وقرة أعيننا، ومهوى أفئدتنا؛ شرف العرب بل المشارقة بل قطين الأرض قاطبة. موحد أهواء أهل (الجزيرة) المتشتتة. والمؤلف بين قلوبهم المتفرقة، ونازع ما في صدورهم من غل. والكادح الجاهد في إعزاز مكانتهم وأعلاه كلمتهم، وتمليكهم الدنيا. مهدم عروش الطغاة والجبابرة من الأكاسرة والقياصرة. محرر الشرق من الغرب. مخرج هرقل من سوريا. وطارد كل طارئ أوربي من كل قطر أسيوي أو أفريقي ذو الخلق العظيم والكتاب الكريم شائد الوحدة العربية وصفوة النوع الإنساني، وأكبر معاني الكون (محمد بن عبد الله) فتبدلت الأرض في ذلك الوقت غير الأرض، وارتدت من الخير بجلبات كانت قد نضته، ورحبت وأهلت بما قلته من الحكمة واجتوته، وغدا آباؤنا إلى طلل العلم الدارس والمدنية الطامسة. فشادوا في مكانه صرحاً لهما ممرداً).

ذلكم ما أملى على، فكتبته، ورويته. ولم يزد على الكلام وكاتبه حرفاً.

السهمي

ص: 34

‌الشاعران المتشابهان

السابي (التونسي) والتجاني (السوداني)

للأستاذ أبي القاسم محمد بدري

الشابي:

انحدر أبو القاسم الشابي من أسرة عريقة ذات مجدودين، قبيلته الشابية، وبلدته توزر عاصمة الواحات التونسية. شدا طرفا من علوم الشريعة الإسلامية كالفقه والتوحيد والأصول، واخذ نصيباً من الثقافة العربية كالنحو والصرف والبيان والأدب. درس ذلك على الأساليب العتيقة، من متن وشرح وحاشية. وفاز بشهادة (التطويع) في جامع الزيتونة ثم التحق بمدرسة الحقوق، وحصل على إجازة الحقوق. ثم أصيب بداء الصدر الذي صده عن إتمام دراسته؛ فانقطع عن العلم والتفت إلى معالجة المرض العضال الذي ظل معه يغاديه ويراوحه، حتى اخترم حياته في ربيع شبابه.

التجاني:

أما التجاني يوسف بشير فهو شاب ينتمي إلى أسرة من كرائم الأسر السودانية سليلة أعرق القبائل العربية. تلقى تعليمه في المعهد العلمي بأم درمان. فاستلقى من نبعه الصافي علماً واسعاً وأدباً رائعاً، وأعانه ذوق مرهف وذكاء وقاد على فهم الحقائق العلمية، وتمييز الدقائق البيانية والاشتغال بها نع العلوم الدينية في زمن سادت معهده فيه أساليب التعليم العتيقة التي لم تعن بفن الأدب عنايتها بعلوم الدين. وأصيب أيضاً بداء الصدر العضال الذي غالبه حقبة من الزمن، ثم صرعه المرض وهو في سن باكرة نضج فيها إنتاجه، وبلغ ذروة الإتقان وموضع الافتنان. وافاه الأجل المحتوم وهو ناضر الصبا ريان الشباب في مقتبل حياته الأدبية، ومفتتح عبقريته الشعرية؛ وأمته وأسرته أحوج ما تكونان إليه، لأعواز العوض عنه وعظم الفجيعة فيه.

وجه الشبه في حياتهما:

نشى في بيئة دينية محافظة ونهلا من فيض الثقافة العربية الإسلامية العربية، ثم تأثراً بالأدب الغربي في قراءة الكتب المترجمة لأن كليهما لم يدرس لغة أجنبية وقد اتفق أن

ص: 35

نظرتهما للحياة كانت متقاربة التقارب كله؛ وليس هذا يحدث إلا في النادر القليل. رغب كلاهما عن الحياة العابثة الماجنة، ونزعا نزعة التصوف والزهد وسخطا على عيشهما، وتبر ما بقومها، وتشاءما من حياتهما تشاؤماً، مبعثه حب الإصلاح وانتقاد ما يريان من أحوال وأعمال. وأودعا كل ذلك في شعر رائع زاخر يجيش ثورة واضطراما على التقاليد، ويفيض ناقماً على المنازعات والحزبيات، ثم يتدفق عذوبة ويتفجر إخلاصاً وحماسة في معالجة المشكلات وتقوية الأواصر والصلات بين المواطنين المخلصين وأبناء العروبة الغر الميامين.

وتشابها أيضاً في العلة فقد أصطلح عليهما داء الصدر الذي عاق نموها الجسمي وتقدمهما العقلي في العمل والتفكير؛ فماتا في عنفوان الشباب عندما تفتقت زهرتاهما عن أكمامها عبقتين فواحتين بأريج النضج والاكتمال، وشذى الإنتاج والإبداع. ومن غريب مصادفة القدر أن فقدهما حدث في زمنين متقاربين. مات الفقيدان طيب الله ثراهما وأخلد ذكراهما - بعد أن اقتطفا من متاع الحياة خمسة وعشرين ربيعاُ لم ينعما فيها بأطايب العيش ولذائذ الحياة، ولم يستكملا فيها مراحل تطورهما في النظم والتصوير، وابتكار النماذج العالية الخالدة في الأدب الشرقي والشعر العربي المستقى من الفن الغربي والمذهب الواقعي.

المشابهة في طريق النظم والتعبير:

من الواضح أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد. فلا بد له من الصورة الفنية والموسيقى الجميلة والخيال البارع. ومعلوم أن المقصود بالمشابهة في النظم والتصوير هو الشبه بينهما في لغة الشعر.

فما هي لغة الشعر إذن؟ هي أداة يستخدمها الشاعر في فنه قوامها الألفاظ والكلمات التي لا تخرج كثيراً عما يتحدث به.

الناس ويكتبونه به. وبهذه الأداة المألوفة يستطيع الشاعر أن يخرج فنا يفوق جميع الفنون.

وبما أن الشعر الصحيح ينبعث دائما من إحساس قوي ممتاز، فالشاعر ملزم حينئذ أن يتخذ للتعبير عنه لغة خاصة متجانسة مع هذا الإحساس. فليس المعنى وحده هو الذي يؤثر في النفوس؛ بل إن الألفاظ - التي هي منه بمثابة الجسد من الروح لها تأثيرها الخاص. ففي الشعر الرصين ينبغي للفظ:

ص: 36

أولا: أن يتجانس مع المعنى فيكون رقيقا في مواضع الرقة، قويا عنيفا في مواضع العنف والقوة.

ثانيا: أن يكون اللفظ على قدر المعنى، فلا يكون هناك حشو ولا زيادة، ولا قصور في الدلالة على المعنى.

إذا أنعمنا النظر في شعر هذين الشاعرين نجد المشابهة قوية أخاذة ذات سحر وجلال ينفذان إلى شغاف القلوب ويؤثران في طوايا النفوس. قال الشابي يصف الجنة الضائعة: -

كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير

كانت ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور

والذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الغرير

أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير

وطهارة الموج الجميل وسحر شاطئه المنير

ووداعة العصفور بين جداول الماء النمير

ففي الأبيات المتقدمات يسكب الشاعر ذوب نفسه وعصارة فكره؛ وهو يتشوف إلى العهود العذبة التي قضاها في الوادي النضير؛ ويتحسر على ضياعها، لأنها كانت تسمو على كل لذة من لذائذ الوجود وتفوق كل متاع من متع الحياة. ألم يقل إنها ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور، والذ وأمتع للنفس من سحر الصبا وبسمة الطفل الغرير. وهل يوجد في الوجود شيء يعدل هاتين اللذتين في العذوبة والطهارة والوداعة والجمال.

ألا تسمع إلى رنين جرس العبارات وحلاوة الألفاظ والتعبيرات في الكلمات التالية. - سحر الصبا - بسمة الطفل - طهارة الموج - وداعة العصفور. أن الألفاظ فيها تجانس للمعنى وفيها رقة تسيل على القرطاس وتتفجر عن أنبل عاطفة واحساس. ثم إن اللفظ على قدر المعنى فلا حشو ولا زيادة مع اقتدار فيه على تأدية المعنى أداء بليغا مؤثرا.

ولنستمع إلى صاحبة التجاني يوسف بشير يناجي النيل في وقفة له شاعرية سمت بروحه إلى أعلى عليين حيث فاضت على السامعين من نبعها الصافي هذه الأبيات الخالدات في قصيدته (في محراب النيل). -

أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موقف في مسابك

ص: 37

ملء اوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من انسابك

حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت على وضيء عبابك

وأمدت عليك أجنحة خضراً وأصفت ثيابها رحابك

ألي أن قال واصفاً مسير المياه.

يتوثبن في الضفاف خفافاً ثم يركضن في ممر شعابك

عجب أنت صاعداً بمراقيك لعمري أو هابطاً في اصبابك

اختار الشاعر النابغة احسن الألفاظ وقعاً في النفس وإثارة للعواطف، مما يناسب المعنى الذي تصدى لتوضيحيه وبيانه.

ألا تسمع إلى هذه الكلمات - نبيل موفق في مسابك، ثم المفيض من انسابك - ثم إلى يتوثبن - ثم إلى كلمتي خفافاً (ويركضن).

أنها ألفاظ تدعو إلى الفكر كل المعاني الجميلة التي تدانيه أو تمت إليه بسبب. فكلمة يتوثبن ترسم للذهن في أوضح صورة منظر الماء المنساب فوق الضفاف في سرعة وقوة حيث يغمر سطح الأرض ويفيض على روابيها العالية، ثم ينحسر عنها جاريا إلى المنخفضات والوديان، وهذا يتمثل في عبارة (يركضن في ممر شعابك) في قوة ووضوح. وكلمة أجنحة خضراً تدعو إلى ذهن السامع كل المعني الجميلة التي تلابسها، فيستعرض الذهن منظر الخضرة اليانعة والظل الوارف، والطير الصادح، وكل ما هو جميل مؤثر.

تصوير المرئيات والمناظر الطبيعية:

يقل في شعر هذين المفلقين وصف المرئيات - أو بعبارة أخرى رسم الصور لما يريان من الأشياء. بينما يزخر شعرهما بنفثات الصدور وخلجات النفوس، ومظاهر تأثيرهما بالأحداث والنكبات، واستهجانهما للتقاليد والعادات وتصويرهما الحقائق التي امتزج بها الخيال ولونتها العاطفة. ولكل هذه الموضوعات اثر في نفسيهما الثائرين، حيث يشتد الألم البالغ ويطغي الهيجان الفوار ويغلي الدم الحار، فتنطلق من الشفاه، همسة محزونة أو صرخة مدوية أو نفثة قوية تذهب في الناس مثلا سائراً وقولا مأثوراً أبقي على الزمن من الزمن.

افتن شاعرنا التجاني بمنظر الطبيعة الساحرة لما رأى جزيرة (توتي) تستيقظ في غلس

ص: 38

الليل الدابر وتستقبل الصبح السافر كأنها روضة مفتنة حفها النيل وحتواها البر ففاح شذى زهورها وشدت على الأغصان طيورها، فطرب الشاعر وسكر، وعبر عن هذا الإحساس بلغة خيالها قوى ونغمها شجي، ومعانيها ساحرة. استمع إليه يقول: -

يا درة حفها النيل واحتواها البر

صحا الدجى وتغشاك في الأسرة فجر

كم ذا تمازج فن على يديك وسحر

يخور ثور وتثغو شاة وتنهق حمر

والبهم تمرح والزرع مونق مخضر

إلى إن قال: -

وذاب في الرمل أو ماج في الترائب تبر

هذا شراع مكر، وذا شراع مفر

يطوي وينشر الريح من هناك تسر

وزورق يتهادى وزورق يستحر

يرسي ويقلع والشاطئ هادئ مستقر

ورب قنواء للعصم والانوق مقر

أوفى على النيل فرع منها واشرف جزر

أتريد بعد هذا البيان بياناً يصور فيه الشاعر العبقري منظر الطبيعة الساحرة ويعطي صور كاملة العناصر موصولة الأواصر تنتقل فيها من خاطر إلى خاطر حتى تستوعب كل المعاني التي تكمل بها الصورة للناظر في أبيات هي السحر الساحر. ولقد أبدع التجاني أيما إبداع في رسم صورته؛ وفاق فيها المصور الماهر الذي يعمل في دائرة ضيقة حينما يرسم على لوحته حالة من حالات النفس أو صورة من صور الحس. على حين إن دائرة التجاني ارحب واوسع، لانه يستكمل تصوير منظره في أبيات متعددة إن عجز عن تعبيرها في بيت أو بيتين.

ولنستمع ألان إلى قصيدة مشابهة من قصائد الشابي التي يصور فيها صورة واضحة لما يحس من أشعة الوجود وألوان الطبيعة وعبر الحياة. يقول مخاطبا الحياة التي يريدها

ص: 39

لشعبة في قصيدته (إرادة الحياة): -

وقال لي الغاب في رقة محجبة مثل خفق الوتر

يحل الشتاء: شتاء الضياء، شتاء الثلوج، شتاء المطر

فينطفئ السحر: سحر العيون، وسحر الثمار، وسحر الزهر

وتهوى الغصون وأوراقها وأزهارها عن جمال نضر

وتلهو بها الريح في كل واد ويدفنها السيل أنى عبر

لقد نقلك الشاعر الساحر إلى جو عبق زاهر فيه تحب الحياة ويحلو المتاع ويطيب النعيم. كيف يكون ذلك وهو يصف ذبولها ونحولها؟ انه يعطيك صور الحياة الممتعة بعرض صورها القاتمة وبضدها تتميز الأشياء. ويصور لك ما يغشاه من ظلام الشتاء، وانطفاء السحر والرواء، حينما تذوى الثمار وتذبل الأزهار، ويغيب النوار، وتسقط أوراق الأشجار التي تلعب بها النكباء في زمهرير الشتاء، ويدفنها السيل الدافق في أغوار المهاد والوهاد.

هذه صورة جميلة عبر بها الشاعر عن احساسات قوية وتاثرات عميقة رسمها باستخدام ألفاظ منتقاة مرتبة في أعذب الحان، واجمل موسيقى، وأقوى أشجان.

(البقية في العدد القادم)

أبو القاسم محمد بدري

مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)

ص: 40

‌الأدب في سير أعلامه:

مْلتُن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 17 -

حربه على القساوسة:

اعتزل ملتن الشعر إلى حين لعله ظنه قريبا، فلم يدر بخلده أن هجران احب شيء إلى نفسه سوف يمتد عشرين عاماً. والحق أن اعتزال ملتن الشعر والأدب على ما كان من فرط تحمسه له وانكبابه على الأخذ باسبابه، امر يحمل المرء على العجب الشديد بادئ الراى، ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا عدنا إلى خلق ملتن ونزعات وجدانه

خلق ملتن محاربا يحب النضال ويعشق بفطرته الحرية، فلن يستطيع إن يغمض العين عما يرى من خلل أو فساد، ولن يستطيع أن يظل جامداً تلقاء ما يراه ظلماً أو استبداداً بالرأي في غير حق ولو كان في ذلك هلاكه؛ كذلك رأيناه وهو بعد طالب بالجامعة، وكذلك رأيناه وهو يفصح عن عقيدته الدينية في إيطاليا، وكذلك نراه اليوم يوقد نار الحب على القساوسة أو خلق ملتن ديناً تقياً مخلصاً لعقيدته تواقاً إلى الإصلاح، لذلك ركن إلى البيوريتانز في كثير مما ذهبوا أليه، وإن خالفهم في إسرافهم في التزمت ومغالاتهم في النفور من الفنون ومن طيبات الحياة وكانت روح البيوريتانية يومئذ، أو ما يهجس في نفوس أشياعها من الرغبات هو إصلاح الكنيسة كما أصلحت الكنائس في القارة وتقرير مبدا الحرية الفكرية والسياسية، وقد استقرت هذه الرغبة في نفس ملتن وآمن بها أيمانا قوياً واعتقد ملتن كما اعتقد جمهرة البيوريتانز ان القساوسة في انجلترة بتعصبهم لنظام الكنيسة وبمظاهرتهم الملك في عناده وطغيانه هم العقبة الكؤود في سبيل الإصلاح وفي سبيل الحرية؛ لذلك أيقن طالبو الإصلاح أن لا أمل لهم في عمل مجد ألا أن يقضوا أولا على الأساقفة وسلطانهم،

ص: 41

ولهذا اقدم ملتن فيمن اقدموا لمحاربة الأسقفية؛ ولهذا اعتزل الارثريادا أو الفردوس المفقود، أو سواها مما كان يملا خيالة من الشعر، وآثر أن يجيب داعي الله بالدفاع عن دين الله

بيد انه على الرغم من حماسته إذ يقدم على مناضلة القساوسة كان يحس في أعماق نفسه عظم تضحيته بهجرانه الشعر، فلقد انقطع له منذ حداثته، وتوفر على الاستعداد والدرس، وأمتلات نفسه طموحا إلى شيء يسلكه في الخالدين؛ وكان هذا الطموح عزاء قلبه وبهجة نفسه وأنس روحه في عزلته القاسية، وفي دراسته الطويلة الشاقة!

ولكن لم يك من هذا الهجران بد، فلم يك يسعه في مثل ذلك الوقت كما قال أن يقف بمعزل (وكنيسة الله تحت أقدام من يهينها من أعدائها)، ولم يك لينجو من عذاب ضميره لو لم يجعل ما اكتسب من ثقافة ومعرفة وقفاً على الدفاع عنها، وفي رأيه انه إذا لزم الصمت، فان الله يؤاخذ بصمته، فلن يغفر الله له أن يقبل الفراغ والقدرة على الدرس، وقد تهيأ له بعروق قوم آخرين، ولا ينفقهما ألا في أن يزين بهما موضوعات هي من فخر الحياة وغرورها، ولكن (إذا كانت قضية الله، وحقت إجابة داعي الله بنصرة كنيسته، فان الله سميع إليك إذ تطلق صوتك. .

فان بقيت ابكم كالدابة، حق عليك منذ ذلك الوقت ما تصير أليه من أثم بصمتك الذي يشبه صمت البهائم!) ولئن كان همه أن يكتب موضوعاً يكسب به الفخر، فليس هذا وقته والجيل كله يشترك في صراع من اجل الحرية تتلظى ناره، إن يشهد على الأقل ذلك الصراع، وينتظر الناس وأنفاسهم عالقة ما إذ يكون من أمر هذه المعركة، أو كما قال ملتن (انه لمن الحمق أن تلقى بشيء كتبته جاهداً في نسق عال إلى قوم هم عنه ساهون، إذ يقطع إصغاءهم أليه ما يزخر به عصرهم من ضجيج وصخب). أضف إلى ذلك انه لم يكن يعتقد انه اخذ اهبته لذلك الشيء بعد، فانه يشير إلى ذلك حتى بعد بدء الحرب على القساوسة بنحو عام قائلا:(أني لم استكمل بعد في عقلي دائرة دراساتي الشخصية)!

لذلك يدع قيثارته إلى اجل لعله يكون قريبا يوم يرى وطنه على حد تعبيره: (وقد خلص نفسه من ذلك الطغيان الذي لم يكن مثل هذا الزمن أوانه، ذلك الطغيان المستند إلى مقام كبار القساوسة، والذي لا يرجى لأي فكر حر أو ذكاء المعي أن ينمو ما دام له تجسسه واستبداده) وتمت دافع آخر لا يقل خطرا على هاتيك الدوافع يسوق ملتن إلى تلك الحرب،

ص: 42

وذلك هو عظيم ثقته في نفسه وفي الشعب الإنجليزي، فهو منذ صغره - كما رأينا - يعتقد انه كفء لعظائم الأمور، - مهما كان خطره - أل ابلغ منه ما يريد: واليوم يخالجه شعور أن نفسه تنطوي على قوة كامنة فيها أن هي أثيرت كانت ذات اثر عظيم في مستقبل الكنيسة وفي مستقبل وطنه. والحق أن وراء طموح ملتن أن وراء طموح ملتن نحو العظمة الأدبية طموحا آخر نحو العظمة في ذاتها في آية صورة من صورها، فلا ضير أن تواتيه في صورة الدفاع عن الحرية أو عن الكنيسة، أما ثقته في الشعب الإنجليزي فكان مردها إلى انه يرى بني قومه الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وانه تجلى لخلقه من الإنجليز أول ما تجلى، وانهم سوف يقيمون على هذه الأرض مملكه الله التي ترى رأى العين ومع شدة حماسه لما هو مقبل عليه نراه ينطبق قبيل دخوله المعركة بما يشعرنا بتردده وإشفاقه، نجد شاهدا على ذلك في قوله بعد أن أشار إلى ما كان فيه من استغراق في الأدب والشعر:(ما اقل ما يحفزني من ميل إلى أن اقطع ما أن اقطع ما أنا بسبيله من مثل هاتيك الآمال، وان اترك عزله هادئة ممتعة تكتنفها تأملات سارة وثيقة لا قلع بسفينتي في بحر مضطرب تملاه والضوضاء والجدل الصاخب). وهو فضلا عن ذلك يحس انه ترك ما يحسن إلى ما لا يحسن مما يزيده شعورا بتضحيته، وانه نسي نفسه وما كان يتحرق أليه من مجد أدبي ليجيب داعي الله، تجد ذلك في قوله:(ما كانت لاختيار لنفسي أن هذا النهج من الكتابة، وأنا على علم باتي هنا على باني هنا دون حقيقتي، فقد أعدتني قوة طبيعية صادقة لعمل آخر: ولذلك فإني في هذا المتجهة الجديد أحس كأنما استعمل يدي اليسرى) ولكنه يسلم إلى الله، انظر إلى قوله:(إذا جاء آمر الله بان نشرع البوق وان ننفخ فيه نفخه شاكية صاخبة، فلن يدخل في إرادة الإنسان بعد ذلك ماذا يقول ولا ماذا يخفي في نفسه). وكلن يؤمن ملتن بان الله سيثبه على فعله وسيهبه القوة والأقدام، ويمد له في حياته ليكون بوق النصر كما كان بوق المعركة، ولقد ظل أثناء المعركة يفكر فيما هو عائد آلية بعد أن تنهى الحرب. والحق أن ملتن قد أفاد من المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة الطويلة تكونت في نفسه ملحمته الكبرى الفردوس المفقود، فكانت كملحمة دانتي عملا ليس قوامه الفصاحة والخيال والمقدرة الفنية فحسب، بل أضيف إلي ذلك تجربة الحياة ومعاناة خصومتها والوقوف من

ص: 43

كثب على عوامل الشر والخير في النفس البشرية وفي المجتمع، وتذوق طعم الأمل مرة والأخبية مرة، والنفاذ إلى أعماق العواطف والانفعالات ثم معرفة كيف يكون اليأس القاتم فلا عجب أن يتغنى الشاعر بعد ذلك بالفردوس المفقود، وقد شهد فقدان بني وطنه ما كان يرجوه لهم ويرجو معه المصلحون من حياة في الدين والسياسة على الأرض كحياة الفردوس. وفي هذه المعركة تهيأت في نفسه الملحمة فلم يبق إلا أن يغنيها وان يلبسها لباس الشعر: والحق أن المعركة أجدت علية اكثر مما أجدت قراءاته ودراساته، إذ استطاع أن يضيف خبرة الحياة إلى هبة الفن وان يترك أهذه الدنيا آثرا فذا من هاتيك الآثار الخوالد التي يغنيها كل عصر وتأنس أليها كل بيئة. ومن الخطأ أن نعد ملتن تلك المعركة انتصارا منه لأصدقائه البيوريتا فحسب فان حبة الحرية وميله إلى نصرتها أبدا هو الشعور الحقيقي الذي دفع به إلى الحرب، وكانت غايته التي يصبو أليها أن يعيش الناس طلقاء في أفكارهم وأعمالهم بعد أن يذهب سلطان القساوسة القائم على التعصب والاستبداد بالرأي والاضطهاد، وكان ملتن بحميته وثورة نفسه يمثل في الواقع روح العصر، ففي العصر كله ثورة على الطغيانفي أي صورة وما كانت فلسفة دينية ووثبة سياسية معا. ومهما يكن عنة من عبارات تشعرنا بتردده وإشفاقه فانه اقبل في حماسة عظيمة وشجاعة فذة بعد أن أبتدأ النضال ورأى نفسه في غمار المعركة، وإنما كان ما خيل آلية أنة تردد أسفاً منه على هجرانه الشعر والتهيؤ له. . .

وكيف بدأت المعركة؟ لم يكن ملتن البادئ بها وإنما بدأت في البرلمان الطويل سنة 1640 إذ تقدم البيوريتانز من النواب بمقترح الأصل والفرع فعندئذ نشر أحد القساوسة وكان يدعى هول كتيباً سماه (الإعلان المتواضع) ورد فيه على ما اسماه يم وزملاؤه الإعلان الأعظم كما ورد على مقترح الأصل والفرع؛ وأجاب خمسة من البيوريتانز سموا أنفسهم سمكتمنس يدحضون فيه ما ذهب إليه هول؛ وكان توماس ينج أستاذ ملتن القديم أحد أفراد الجماعة، ولذلك ظن أن ملتن اشترك في وضع هذا الكتيب؛ ثم توالت الكتيبات كالسهام من جانب البيوريتانز ومن جانب خصومهم. وشد ملتن قوسه فيمن شد وأطلق أول سهم من سهامه سنة 1641 في صورة كتيب له أول كتيباته جعل له عنواناً طويلاً هو (حول الإصلاح الديني فيما يتصل بنظام الكنيسة في انجلترة والأسباب التي عاقته حتى اليوم).

ص: 44

كان هذا الكتيب الأول أقل كتيبات ملتن صرامة في القول وعرامة في الخصومة، وإن كان ليبعد كل البعد عن أن يوصف بالهدوء إلا أن يقاس إلى ما سيأتي بعده، وحسب القارئ أن يقع على خاتمته التي يدعو الله فيها أن يجعل العار خاتمة حياة القسيسين على هذه الأرض، وأن يلقي بهم في الدرك الأسفل من النار ليخلدوا فيها وليكونوا في مواطئ غيرهم من أصحاب الجحيم، وفي صفحات الكتيب غير هذا من صارم القول وقاذع الوصف ما يدل على غل الخصومة واحتدم السخيمة.

أتى ملتن في كتيبه هذا بموجز لتاريخ الكنيسة منذ القدم فلم تعجبه في قديمها ولا في حديثها، وما قساوستها الحديثون إلا مقلدون يسيرون على نهج أسلافهم في مظاهر الصوم والصلاة والتظاهر بالزهد، وما كان أسلافهم إلا ضالين غاوين، فالقسيسون أنفسهم خطأ في ذاتهم؛ وهؤلاء الحديثون منهم ليسوا قسيسين في شيء، ثم يشير إلى النهضة الإصلاحية في انجلترة ويذكر كيف تعثرت ووقفت بسبب تعصب القساوسة والملوك واستبدادهم بآرائهم، ويذكر الناس بهؤلاء الأحرار الذين هاجروا بعقيدتهم عن أوطانهم الحبيبة والذين (لم يكن لهم عاصم من غضب القساوسة إلا المحيط الفسيح وصحاري أمريكا الوحشية)، والرأي عنده أن يقضي على الأسقفية فتذهب إلى غير عودة وتحل البرسبتيرية محلها؛ ولئن تم ذلك أصبحت انجلترة (مدينة الله) وانتشرت الحياة الطيبة في أنحائها طولا وعرضاً، فأن هؤلاء القساوسة منذ حلوا بكنتربري قبل اليوم بنحو أثنى عشر قرناً وهم في جملتهم لم يكونوا في انجلترة لأرواحنا واسفاه إلا سلسلة من أئمة الهداية العميان الجهلاء، ولأموالنا وتجارتنا إلا عصبة متلفة من اللصوص ولدولتنا وحكومتنا إلا هيدرا الإساءة والعدوان).

ويتضمن هذا الكتيب ناحية من نواحي ملتن الدينية وهي ما تصوره عن ذات الله سبحانه، فعنده أن الله لا يحد ولا يوصف بصورة معينة ولا تدركه الأبصار، ولا يفوته هنا أن يتهم الكنيسة بأنها تحاول تحديد ذات الله وتصويره وذلك في رأيه أصل الخرافات جمعيا، يقول عن رجال الكنيسة (كما استطاعوا أن يجعلوا الله ينتمي إلى الأرض وأن يكون له مثل جسدنا، وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن ينتموا إلى السماء ولا إلى عالم الروح).

وجاء في هذا الكتيب رأيه لأول مرة عن الشعب الإنجليزي، فهو الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وخليق بهذا الشعب أن يبرهن على أنه جدير بهذا الاصطفاء، ويعلن ملتن

ص: 45

رضاءه عن النظام الدستوري الإنجليزي في ذاته بل إنه ليغلو في امتداحه كل الغلو فيقول: (ليس فيما سلف من الحكومات المدنية نظام كنظام حكومتنا الإنجليزية، لا عند الإسبرطيين ولا عند أهل روما. . . حيث تجد أعظم الناس نبلا وأكثرهم جداً وأبعدهم نظراً ولهم بمحض إرادة الناس واختيارهم تحت سيادة ملك جر لا قيم عليه الكلمة العليا والرأي الفاضل في أعظم المسائل).

وينتهي الكتيب بابتهال إلى الله طويل حار ملؤه العاطفة الصادقة أن يخلص كنيسته من هؤلاء القسيسين وأن ينزل عليهم لعناته، ثم يتنبأ بنبوءة فحواها أن فجراً بهيجاً يوشك أن ينهل نوره على انجلترة، ولن يعدم ذلك الفجر طائرة الصداح، فلسوف يتمنى من بين هؤلاء القديسين الذين ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنهم الله ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار. .

(يتبع)

الخفيف

ص: 46

‌رباعيات عثمان

للأستاذ عثمان حلمي

هكذا كانت الحياةُ فزنها

كيف كانت وخذ نصيبك منها

لا تزنها إلا بعقلك إن شئـ - تَ خلاصاً من بطشها لا تزنها

إن ميزانها بمقياس إحسا - سك أدعى لأن يصدَّكَ عنها

وحرامُ عليك إن شئتَ ما فيـ - ها فإن الذكيَّ من لم يشنها

إن فيها لمن أراد خبالا

وجمالاً لمن أراد جمالا

لوُنها لونُ ما بنفسكَ من حا - لٍ إذا ما بعينك حالا

وكذا تسمعُ النفوسُ صداها

فترى الحق في الحياة ضلالا

إنما العقلُ للبصيرِ هو المر - جعُ والمستبدُّ من يتغالى

طالما جئتَ رغم أنفك فيها

يا ابنها كنْ كواحدٍ من بنيها

كن حكيما مخذ نصيبك منها

حسناً ما أصبته أو كريها

لا تكن جامداً إذا شئت أن تحـ - يا ولا مسرفا بها أو سفيها

وإذا لم تشأ فدونك نفسُ

ما عزيزُ عليكَ ما يُرديها

علم النفس أن يكون رضاها

بالذي كان واقتصد في مناها

وقليلُ من التجاهل والصبـ - ر أمانُ من بطشها وأذاها

أنت ما جئت في حياتك كي تصـ - لح ما في الحياة من أخطاها

لا ولا جئت كي تضيع من العمـ - ر كثيراً في همها وشقاها

إن يوماً مضى بغير سرورِ

ليس من عمرك السريع القصير

وقليلُ من التجهّم والحز - ن كثير فما ترى في الكثير

ومن الحمق والجهالة بالخلـ - ق إذا عشتَ عيشةَ المصدور

فأتخذ من جوانب الجدّ للهز - ل مجالاً يحدّ جدّ الأمورِ

لك عمرُ مهما بلغتَ قصير

طالَ فيه الأسى وقلَّ السرورُ

فتعلم كيف أنتها بك للعمـ - ر فإن الذي مضى لا يحورُ

والليالي لها جناحان بالأعمّـ - ار في غفلةِ النفوسِ تطيرُ

ص: 47

يرجع الليلُ وما ير - جعُ يوماً ما غيبته القبورُ

وأتخذْ من تجارب الغابرينا

لك عوناً حتى تذوق ألقينا

واضعف عِاَم من مضوا لتجاريـ - بك وأحذر من أن تموت حزينا

والذي مرّ في حياتك لا تأ - سف عليه أو ما عسى أن يكونا

خلَّ دنياك كيف شاءت وصلها ماجناً إن أوسعتك مجونا

وتبسّمْ للسعدِ والإقبال

وتبسم في خيبة الآمالِ

وتنقلْ كما تشاء الليالي

غير آس من أيّ حالٍ لحالِ

إن عمراً ختامه الموت جهلُ

إن تقضّي في الهمَّ والبلبال

وعزيزُ علىَّ أن تَردَ الم - ت حزيناً في زمرة الجهّال

ما ارتوتْ بالبكاء مهجةُ باك

لا ولا أثمرت شكايةُ شاكِ

إن موج الحياة يحمل في مدّ - هـ وفي جزره صنوفَ الهلاكِ

وتمر الأجيالُ والناسُ صرعي

رممُ وسدتْ بغير حراك

سخر الدهر بالجميع وساوي

بين رم الفجار والنساك

في اكتمال الشباب نقص المشيب

وانتهاء الشروق بدء الغروبِ

ومصير المشيب ألعن ما في

هـ خمودُ القوى وموت القلوب

ضجعة الموت لا تنغّصُ بالذء - ر ولا بالجوى ولا بالنحيب

فتأمل فليس في الأرض أو في الـ - خلق ما يستحق شقَّ الجيوب

لم أجد فيما مضى من حياتي

لي عذراً في الهمّ أو في الشكاة

ولقد عشت ما ندمت على ما

فاتني أو جزعتُ من أي آت

طىُّ قلبي ابتسامة ما توارتْ عن فمي للصحاب أو العداة

وكلامي في كل لفظ لمن يفطن ماضٍ من الصوارم عاتٍ

عادلُ من يصرف الأياما

وغبيُّ من اشتكى أو لاما

وصميمُ الحياةِ ولغو

فمن العدل أن نمرَّ كِراما

ما الذي نرتجيه في أمرنا الوا - قع إن كان في القضاء لزاما

لا يذم الزمان والناس إلا

من تغابى عن فهمهم أو تعامى

ص: 48

لا تلم مسرفاً على الإسراف

لا أرى لومه من الإنصاف

لا تلمه وإن تمادى ومهما

بلغت نفسه من الإتلاف

بيد الدهر للخليفة ميزا - ن دقيقُ وعدله غير خاف

إن هوتْ كِفةُ فمعناه شالتْكِفَّةُ دون أيما إجحاف

لا تلمني إذن فلستُ أبالي

رغم ضعفي طول اعتلالي

إن جسمي الذي تضعضع وانهـ - ار جديرُ بسوء هذا المآل

قد تقاضى الزمان مني أثمـ - ان ضلالي على مرور الليالي

ومن العدل أن أرى العدل فيما

نال مني جزاء هذا الضلال

قد نهبتُ في العمر نهبا

ورأيتُ الإسرافَ في اللهو كسبا

وجرى بي الهوى فما بتُّ إلاَّ

بفؤادٍ دوّى هياماً وحبْا

ورأيتُ الأيام تجرين خبّا

فجرت بي من خلفها النفس خبْا

ولو اسطاع فوق ذلك جسمي

أو فؤادي زيادة ما تأبى

هذه سنتي وحسبك نصحي

فأرحني من كل ذمِ ومدح

ليس بالذم إن ذممتَ أو المد - ح إذا ما مدحت خسري وربحي

إنما شئت أن أصور ما أحـ - سست بالنفس من شعورٍ ملحَّ

في حياة أمضيتها وكفاني

وكفاها إثباتُ جدْي ومزحي

وقصاري رأي وغاية قصدي

وانتهائيْ من بعد أخذٍ ورد

أن تمر الأيام باليسر لا بالـ - عسر حتى بلوغ يوم التردّى

لا نحيبُ ولا تحدٍ ولا لو - مُ لفردٍ ولا عتابُ لفرد

طالما اسطعت بابتسامة سخر

أن تحدًّ الأمورَ في خير حدَّ

لا أذم الحياة بعد المشيبِ

طالما جُزتها بقلب طروبٍ

إنّ للشمسِ في الضحى من جلال الـ - حسن في العين ما لها في الغروب

ونصيب الشباب في العيش لا يفـ - ضل في حسنه نصيب الشيب

كل يوم له مذاقُ ولونُ

ماله في صفاته من ضريب

لا تلمني وأنظر إلى تكويني

فظنوني من كهنه ويقيني

ص: 49

والتمس يا أخي لي العذر في رأ - يي وفي كل شارد من ظنوني

عن شمالي هادٍ وعنها مُضلُ

ولنفسي سواهما عن يميني

فخفى يضلني وخفىُّ

لست أدري مراده يهديني

ومحيط الإنسان أكبرجان

هو أو رحمة على الإنسان

ومن الجو والوراثة والصـ - حاب جان ومن صروف الزمان

ومن العلم والجهالة والأهـ - ل ومن كل ما ترى العينان

ليس للمرء من يد في هدى النفـ - س ولا في الضلال والخسران

عثمان حلمي

-

ص: 50

‌البريد الأدبي

إلى أدباء العراق:

حمل البريد إلى (الرسالة) وإلى عدداً من الرسائل الواردة من العراق، تتراوح لهجاتها بين الحملة العنيفة، والعتاب الرقيق، على ما فهم الأخوان هناك من اتهامي لهم بأنهم من قراء الدكتور عبد الرحمن البدوي!

فمن أمثلة الحملات العنيفة رسالة من الأديب (صلاح الدين بيات - كلية الحقوق ببغداد) يقول فيها:

(. . . قرأت في العدد 674 من مجلتكم ما أدهشني بل وأغضبني حقاً. حتى كدت من فرط غضبي وحنقي أن أمزق المجلة وألعن كاتب السطور. . .

(فقد كتب (سيد قطب) أن (كتب الدكتور بدوي تقرأ في العراق!) وقد زعم بأن سائلاً قد سائل (من الذي يقرأ كتب الدكتور بدوي؟. . . .) فكان الجواب ما أوردت)

ثم يقول في نفس الرسالة:

(معذرة يا سيدي. لا يذهبن بك الظن إلى هذا الحد - وإن بعض الظن إثم - فالعراق ليس بمثل هذه الدرجة من البلادة والغباوة بحيث يقرءون عبث صبيانكم وسفاسفهم).

إلى أن يقول:

(وثق أيها الأستاذ أن كثيرا من كتبكم التي تقرأ تنقد. بل أحياناً - أقول لك بصراحة - إنها تستخف، ويوصم بعض كتابكم بالمتاجرين في الأدب!

(أكتب هنا وأنا منفعل اشد الانفعال من كلمتكم الجارحة إذ لا يفتأ بعض كتاب مصر العزيزة من جرح شعور العراقيين في كل فرصة سانحة، ولا أدري سبب ذلك. . .).

ومن أمثلة العتاب الغاضب ما جاء في رسالة للأديب (عبد الله نيازي):

(مما حز في قلبي أني قرأت في عدد (الرسالة) 674 للأستاذ سيد قطب رأيا في العراق والعراقيين يخالف الواقع.

حيث أن حضرته الصق بالعراقيين تهمة قلة الذوق الدبي، وعدم التفهم لما يقرءونه، بتصريحه أن كتب عبد الرحمن بدوي لا تقرأ إلا في العراق. مع أني أؤكد بأنبدوي المشار إليه ليس إلا نكرة في العراق.

ص: 51

(وحسبي أن أقول للأستاذ سيد قطب ما يلي:

(هل زرت العراق أيها الأستاذ وشاهدت بنفسك جمهور العراقيين يتهافتون على شراء كتب عبد الرحمن بدوي، أم القضية لا تعدو السماع؟. . . فإذا كانت الأخيرة، فليس من اللياقة والكياسة أن تتهم شعباً ناضجاً بتهمة هو بريء منها).

ومن أمثلة العتاب الرقيق ما جاء في رسالة (قارئ) حيث يقول:

(- لولا أنني أعرفك من كتاباتك. ومن بعض أخواني العراقيين الذين زاروا مصر وتحدثوا إليك، وعرفوا روحك بازاء أدب الشقيقات العربية وأدبائها. . . لولا هذا لاتهمتك بالتعصب الشديد ضد العراق. ولولا ذلك لما اتهمته في ذوقه مثل هذا الاتهام الجارح. . . فمن قال لك سيدي إن كتب دكتوركم عبد الرحمن بدوي تجد قراء كثيرين عندنا. وهل خفت أن نتهمكم أنتم - المصريين - في ذوقكم بمناسبة هذا الديوان فرأيت أن تلقي التهمة على العراقيين. . .؟!

(. . . على كل حال. هذه مغفورة لك. لما أعلمه ويعلمه الكثيرون عنكم هنا من عدم التعصب، وعنايتكم بآثار أدباء العربية في جميع البلدان الشقيقة. . . والسلام).

واكتفى بهذه الأمثلة الثلاثة للدلالة على تلك الحساسية في نفوس إخواننا العراقيين. ولكنني في الحقيقة أميل إلى أن التمس لهم العذر في أعنف حملاتهم عليّ وعلى (الرسالة).

إن التهمة ثقيلة، وجارحة. ومن حقهم أن يتبرءوا منه!!!

ولكن أسلوبي كان واضحاً مفهوماً، في أنني لست صاحبها. وقد جاء في كلمتي بالحرف الواحد:

(ومعذرة لإخواننا العراقيين. فناقل الكفر ليس كافر وفي وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الاتهام).

فكيف جاز لأحد منهم أن يفهم أنني أنا الذي ألقى عليهم هذه التهمة لولا أن سورة غضب جامحة، وحساسية كذلك شديدة لم تدع لهم أن يتبينوا مرامي قولي، وأن يدركوا كذلك وجه النكتة، وأسلوب التهكم المقصود؟!

اغلب الظن أن جماعة صغيرة من متحمسي الشباب هناك هم الذين ألهبهم الغضب، فأنساهم النظر في مدلول ما كتبت. وان الآخرين - وهم الكثرة - من القراء والأدباء في

ص: 52

العراق، فهموا وجه القول، فلم يجدوا فيه طعناً للذوق العراقي، ولا منقصة ولا اتهاماً!

ولقد لمحت في بعض الرسائل الثائرة روحاً من التعصب المحلي الضيق، فلم أرد أن اقتطف هنا ما يدل عليها، فلعلها سورة غضب وقتي، ثم يعودون فيرون أم مصر والصحافة المصرية حفية بكل أدب عربي، وإنني أنا باللذات نوهت بمعظم ما وقع لي من هذا الأدب كالأدب المصري سواء. أما (الرسالة) بخاصة فلا يمكن أن تتهم بإغفال أدباء البلاد العربية وعلى صفحاتها تجري اقلامهم، وقد تكون هي أول من يعرفهم حتى إلى مواطنيهم. على أن هناك ما ينفي التعصب جملة: أليس الكتاب الذي يلقى هذا النقد كتاب شاب مصري؟!

ولقد شكوت مرة من صعوبة حصولنا على مطبوعاتهم. وعندي بحث عن شعراء الشباب وبحث عن القصة الحديثة أؤجلهما فترة بعد فترة لأنني ل ما أستطيع إلى اليوم الحصول على إنتاج البلاد العربية فيهما، ولم أرد الاكتفاء بالأدب المصري، فهل بعد هذا نتهم مصر بالتعصب

سيد قطب

كفل به وكفل أيضاً:

سعادة الأستاذ الكبير السيد احمد حسن الزيات - أطال الله بقاءه - قرأت - سيدي - كلمة طيبة في الرسالة لعالم فاضل من بني سهم، تتبع فيها ما كنت نشرته في مجلة المجمع العلمي العربي من وجوب أن يقال (كفل به) إذا يريد (تحمل به) لا كفله، واستشهد على صحة (كفله) بما ورد في لسان العرب خاصا بذلك وهو (كفل المال وبالمال ضمنه) وذكر أمورا أخرى تدل على نفس عطر في العربية ونفس كريمة، وأورد أن أذكر لخضرته أني أطلعت على ما في اللسان وعلى ما في غيره فقد جاء في المصباح المنير (وحكى أبن القطاع كفلته وكفلت به وعنه إذا تحملت به) وقد توفي ابن القطاع سنة (515 هـ) فهو من المتأخرين؛ وإني لم أنقل قول الزمخشري - وهو معاصر لأبن القطاع - لكون أساسه مستوعباً لكل لفظه وتركيب - كما ظن العالم الفاضل حفظه الله - بل كان ذلك من قبيل التمهيد لدعواي. فأنا أقول محتجاً لدعواي تلك: إن العرب ميزت بين (كفله وكفل به) فلكل منها معنى والمساواة بينهما تورث اللبس، وإن أخوف ما خافته العرب على لغتها هو

ص: 53

الالتباس، فلذلك استعانوا بحروف الجر كل الاستعانة - كما هو بين للعالم الفاضل الناقد - ولو كان أمر (كفله وكفل به) من باب الحذف والإيصال الذي هو من خصائص هذه اللغة الكريمة لكان تنبيهي تشديداً وتحجراً تأباهما طبيعتها السهلة السمحة، وإنما هو أمر ذو بال، وإدخال الباء على المكفول به لازم، وكذلك الحال فيما أشبهه، فقد قالت العرب (تحمله) فلما أرادوا به (كفل به) وقالوا (زعمه) ثم قالوا (زعم به) أي كفل به. ولم يبقى بيني وبين من أجاز (كفله) إلا كلام العرب وهو الحكم الفيصل، فقد جاء في كتاب بهج البلاغة في أثناء وصف الحيوان (فهذا غراب وهذا عقاب وهذا حمام وهذا نعام، دعا كل طائر باسمه وكفل برزقه) وجاء في وصف النملة منه (تجمع في حرها لبردها وفي وردها لصدرها، مكفول برزقها مرزوقة بوفقها) وورد في كلام الأخطل للشعبي في حضرة عبد الملك ابن مروان (من يكفل بك؟ قلت أمير المؤمنين) وفي الغاني من يتكفل بك؟) فالباء لازمة في كليهما.

وقال المبرد في أخبار الخوارج (وطالب الكفلاء بمن كفلوا به فكل من جاء بصاحبه أطلقه وقتل الخارجي من لم يأت بمن كفل به منهم قتله) وقال الطبري (فلم يزل يحيي أبن عمر محبوساً إلى أن كفل به فأطلق)

وقد تعقبت هذا اللفظ وحرف جره خمس عشرة سنة فلم أجد من خالف فيه وجهه الصحيح إلا أبن الساعاتي الشاعر المتوفي سنة 604 هـ بقوله:

كفل الدمع رى سفحيك والدم - ـع ملئ بع النوى بالكفالة

وهو شاعر متأخر مضطر كسائر الشعراء. فمن يأتني بعبارة لعربي فصيح استعمل فيها (كفله) بمعنى (كفل به) فقد عارض الحجة وحقق صحة ما ورد في اللسان وفي غيره والزمني الرجوع عن قولي.

هذا وأني شاكر للعالم الجليل الفاضل ما اصحر به من كمال الأدب والغيرة على لغة العرب، أيده الله تعالى.

(بغداد)

الدكتور مصطفى جواد

حول ترجمة (المقامر) لدستويفسكي

ص: 54

قرأت في عدد مايو من مجلة المقتطف نقداً لقصة (المقامر) التي نقلتها إلى العربية ونشرتها دار الكاتب المصري. ولقد كان أسلوب الكاتب في نقده جديراً بأن يصرفني عن الرد عليه، لولا أن هناك أموراً أريد أن أقررها لمن يعنون بالأدب الروسي من قراء العربية.

لقد تناول الناقد ترجمة كونستانس جارنت الإنجليزية، وترجمة ألمانية لم يذكر كراسم صاحبها، وظل يداول بينهما اشهراً حتى حصل على اختلاف يسير بينهما وبين ترجمتي، فصاغه في أسلوب القدح والنبز، وظن انه قد هدم القصة والمترجم. والحق انه كان (هجاء) بارعاً، فعادى بين المترجم والناشر، وكاد يوقع بينهما المؤلف.

هل يعني الأستاذ الناقد أن ترجمة المقامر ليست ترجمة مطابقة، وإنما هي ترجمة مقاربة؟ ومن ذا الذي يدعى أن ترجمة كتاب روسي عن الفرنسية أو الإنجليزية ترجمة مطابقة؟ أنني سيدي الناقد لا اقدس الأوربيين كما تقدسهم، فقد نقلت عن ترجمتين، كما راجعت أنت ترجمتين: أما أولاهما فترجمة هو جارث الإنجليزية، وأما الثانية فترجمة البرين كامنسكي الفرنسي. وقد لقيت من الجهد في التقريب بين الترجمتين ما يعرفه الناقد أن عنى نفسه بمثل هذا العمل. لن تكون تراجمنا عن الأدباء الروس تراجم مطابقة حتى ننقل عن الروسية، وهذا عمل لن نعتمد فيه على جيل قادم بل سوف ننهض نحن به. فكثير أن ندعي لأنفسنا العلم بالأدب الروسي ونحن نقلب بين أيدينا تراجم الناقد أن يرميني بركاكة الاسلوب، واستشهد بسبع عبارات عدها أخطاء لغوية، ويكفيني أن امثل لهذه (الأخطاء اللغوية) التي عثر عليها الأستاذ بعبارتين اثنتين.

فقد كتبت (نظر إلي باستعلاء) فعدها الأستاذ خطأ، ونص على أن صوابها (متعالياً، أو في عنجهية) وكتبت (تسمع احتجاجي) فعدها الأستاذ خطأ أيضاً، ونص على أن صوابها (تأذن إلى استنكاري). . . أما (الأخطاء) الباقية فقد نتجادل في صحتها إلى آخر الدهر، لان مرجعها رغبتي في التوسع، معتمداً على التضمين أو حذف الخافض أو غيرهما من قواعد اللغة، حتى يسهل الأسلوب ويلين، ويطوع لأكثرها ما في الأصل من معان، ومن ظلال معان. أما الأستاذ الناقد فيؤثر التنوق والاغراب، ويتفاصح بتخطئة الصحيح المقبول، ويعد من لا يتنوق ولا يتفاصح مثله ركيك الأسلوب.

على أن مثار دهشتي أن الأستاذ وهو المتشدد في اللغة، قد أرداه تنوقه فاستعمل كلمتين لا

ص: 55

وجه لهما، ولا فائدة في الدلالة على معنى خاص، فقال في أول مقاله (ابهظته خيانة الزوجة) وليس في العربية إلا (بهظه) وليس في ابهظ معنى زائد. وقال في أخره (عد المعرب على عبارات المؤلف بالمسخ والتشويه والتقطيع) والتقطيع - يا سيدي - كأخيه الابهاظ، لم تذكره كتب اللغة.

هذا ما بدا لي في مقال الأستاذ، كتبه لأبين منهجي في ترجمة هذا الأدب. واعرض عن لغو كثير.

شكري محمد عباد

إلى الأستاذ علي الطنطاوي

قلت في كلمتك من مزايا (الرسالة) المنشورة في بريد العدد 675 (لكن السهمي لم يصحح تفسير الأستاذ الكبير العقاد لكلمة المحدث فقد ذكر أن (المحدث الذي يسمع كلام الله) مع أن الذي قالوه في المحدث انه الملهم)

(منصف)

(تصويب):

في مقال (دفاع عن البلاغة) في العدد الماضي وقعت أغلاط منها غلطتان لا بد من تصويبهما في هاتين الفقرتين:

العمل الفني في الأدب لا يوصف بالجودة إلا أن يتهيأ للفكرة الجيدة. . أسلوب جيد) وقد كتبت (أسلوباً جيداً)!

(لأنه بلغ من سر الصناعة غاية تظلع دونها اكثر الأقلام) وقد كتبت (تطلع)!

ص: 56