الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 678
- بتاريخ: 01 - 07 - 1946
من صميم الحياة:
اليتيمان. . .!
للأستاذ علي الطنطاوي
أحس (ماجد) أنه لم يفهم شيئا مما يقرأ، وأن عينيه تبصران الحروف وتريان الكلم ولكن عقله لا يدرك معناها. انه لا يفكر في الدرس، إنما يفكر في هذه المجرمة وما جرت عليه من نكد، وكيف نغصت حياته وحياة أخته المسكينة وجعلتها جحيما متسعراً. ونظر في (المفكرة) فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد، ولا بد له من القراءة والاستعداد، فكيف يقرأ وكيف يستعد؟ وأنى له الهدوء والاستقرار في هذا البيت وهذه المرأة تطارده وتؤذيه ولا تدعه يستريح لحظة، وإذا هي كفت عنه انصرفت إلى أخته تصب عليها ويلاتها؟. . . هل يرضى لنفسه أن يرسب في أول سنة من سني الثانوية وقد كان (في الابتدائي) المجلي دائما بين رفاقه، والأول في صفه؟.
وإنه لفي تفكيره وإذا به يسمع صوت العاصفة. وان العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجئ الأمطار فتروى الأرض ثم تطلع الشمس، فتنمي الغصن الذي انكسر وتنبت معه غصنا جديدا، وعاصفة الدار تهب كل ساعة، فتكسر قلبه وقلب أخته الطفلة ذات السنوات الست، ثم لا تجبر هذا الكسر أبداً. . . فكأن عاصفة الحقل أرحم وأرق قلبا وأكثر (إنسانية) من هذه المرأة التي يرونها جميلة حلوة تسبي القلوب. وما هي إلا الحية في لينها ونقشها، وفي سمها ومكرها. لقد سمع سبها وشتمها وصوت يدها، شلت بدها، وهي تقع على وجه الطفلة البريئة، فلم يستطع القعود، ولم يكن يقدر أن يقوم لحمايتها خوفا من أبيه، هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها على حرب هذه المسكينة وتجريعها غصص الحياة قبل أن تدري ما الحياة. . فوقف ينظر من الشباك فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة، وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، والى جانبها أختها الصغرى، طافحة الوجه صحة، بارقة العينين ظفرا وتغلبا، مزهوة بثيابها الغالية. فشعر بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعا؛ ما ذنب هذه الطفلة حتى تسام هذا العذاب؟ أما كانت فرحة أبيها وزينة حياته؟ أما كانت أعز إنسان عليه؟ فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة، لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أما التدليل فلأختها،
التي تصغر عنها سنتين، والطرف لها، وهي البنت المفردة، على حين قد صارت هي خادمة في بيت أبيها، بل هي شر من الخادم، فالخادم قد تلقى أناسا لهم قلوب، وفي قلوبهم دين فيعاملونها كأولادهم، وأبوها هي لم يبق في صدره قلب ليكون في قلبه شرف يدفعه أن يعامل ابنته، إبنة صلبه، معاملة الخادم المدللة. لقد كتب الله على هذه الطفلة أن تكون يتيمة الأبوين إذ ماتت أمها فلم يبق لها أم، ومات ظمير أبيها فلم يبق لها أب!
وسمع صوت خالته تناديها: تعالي ولك يا خنزيره!
وكان هذا هو اسمها عندها: (الخنزيرة) لم تكن تناديها إلا به، فإذا جاء أبوها المساء فهي البنت: تعالي يا بنت، روحي يا بنت! أما أختها فهي الحبيبة: فين أنت يا حبيبتي؟ تعالي يا عيني!
وعاد الصوت يزجر في الدار: ألا تسمعين أختك تبكي؟ انظري الذي تريده فهاتيه لها! ألا تجاوبين هل أنت خرساء؟ قولي: ماذا تريد؟
فأجابت المسكينة بصوت خائف: إنها تريد الشوكولاته. . . - ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة اذهبي فأعطيها ما تريد! فوقفت المسكينة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها لقد اشتري لها أبوها البارحة كفا من الشوكولاتة، أعطاه لابنته الصغيرة فأكلته وأختها تنظر إليها، فتضايقت من نظراتها فرمت إليها بقطعة منه، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيه وهو يأكل، وأخذت المسكينة القطعة فرحة، ولم تجرؤ أن تأكلها على اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاتة. . .
- ولك يا ملعونة فين الشوكولاتة؟
فسكتت. . . ولكن الصغرى قالت: هناك يا ماما عندها، أخذتها الملعونة مني!
واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت (متلبسة بالجرم المشهود) ورأت خالتها الشوكولاتة معها حل بها البلاء الأعظم!
- يا سارقة يا ملعونة هكذا علمتك أمك. . . تسرقين ما ليس لك؟
وكان ماجد يحتمل كل شيء، إلا الإساءة إلى ذكرى أمة، فلما سمعها تذكرها، لم يتمالك نفسه أن صاح بها:
- أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي.
فتشمرت له واستعدت. . . وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائما، فكان يحتمل صامتا لا يبدو عليه انه يحفلها أو يأبه لها. فكان ذلك يغيظها منه، وتتمنى أن تجد سبيلاً غالى شفاء غيظها منه، وها هي ذي قد وجدتها. . .
- لا تسمح لي؟ أرجوك يا سعادة البك اسمح لي أنا في عرضك. . . آه ألا يكفي أني اتعب وانصب لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود. لقد ضاع تعبي معك أيها اللئيم، ولكن ليس بعجب أنت ابن أمك. . .
- قلت لك كفا عن ذكر أمي، ولا أسكتك.
واقترب منها فصرخت الخبيثة وولولت وأسمعت الجيران. . .
تريد أن تضربني؟ آه يا خاين، يا منكر الجميل، ولي. . . يا ناس، يا عالم، الحقوني يا أخواتي. . .
وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أي إلى الزاوية التي سموها غرفة، وخصوه بها لتتخلص سيدة الدار من رؤيته دائما في وجهها!
ودخل الأب المساء وكان عابسا على عادته باسراً لا يبتسم في وجوه أولاده، لئلا يجترئوا عليه فتسوء تربيتهم وتفسد أخلاقهم، ولم يكن كذلك من قبل ولكنه استن لنفسه هذه السنة من يوم حضرت إلى الدار هذه الأفعى وصبت سمها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن ماجدا وأخته ولدان مدللان فاسدان لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة.
وكانت الخبيثة إذا دنا موعد رواجه إلى الدار، تخلع ثيابها وتلبس ثيابا جديدة، كما تخلع عنها ذلك الوجه الشيطاني وتلبس وجها فيه سمات الطهر والطفولة، صنعه لها مكرها وخبثها، ولا تنسى أن تنظف البنتين وتلبسهما ثيابا متشابهة كيلا يحس الأب بأنها تفضل ابنتها على ابنته!. . .
دخل فستقلبته استقبال المحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة، ولكنها وضعت في وجهها لونا من الألم البريء تبدو معه كأنها المظلومة السكينة، ولحقته إلى المخدع تساعده على إبدال حلته وهناك روت له القصة مكذوبة مشوهة فملأت صدره غضبا وحنقا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه، ودعا بالبنت فجاءت خائفة تمشي مشية المسوق إلى الموت،
ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر. فقعد على كرسي عال، كأنه قوس المحكمة ووقفها أمامه، كالمتهم الذي قامت الأدلة على إجرامه، وافهمها قبح السرقة، وعنفها وزجرها. . وهو ينظر إلى ولده ماجد شزرا، وكانت نظراته متوعدة منذرة بالشر، ولم يسع ماجدا السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة وهي بريئة منها، فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر، فتعجل بذلك الشر على نفسه.
انفجر البركان وزلزلت الدار زلزالا، وأرعد فيها صوت الأب المغضب المهتاج:
- تريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، يا ملعون؟ حسبت أنك لو أبلغت الرابعة عشرة قد صرت رجلا؟ وهل يضرب الرجل خالته؟ إنني أكسر يدك يا شقي!
- والله يا بابا مو صحيح. .
- ووقاحة أيضا؟ أما بقى عندك أدب أبداً؟ أتكذب خالتك؟
- أنا لا أكذبها، ولكنها تقول لك أشياء ليست صحيحة.
عند ذلك وثب الأب وانحط بقوته وغلظته وما أترعت به نفسه من مكرها زوجته، انحط على الغلام وأقبل يضربه ضرب مجنون ذاهب الرشد، ولم يشف غيظ نفسه ضربه فأخذ دفتره الأسود الذي أودعه دروسه كلها، فمزقه تمزيقا. . ثم تركه هو وأخته بلا عشاء عقوبة لهما وزجراً. . .
تعشى الزوجان وابنتهما، وأويا إلى مخدعهما، والغلام جاثم مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه، وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبني عليه أمله ومستقبله. . ثم قام يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوحت به قنبلة. فإذا هي آلاف لا سبيل إلى جمعها، ولا تعود دفترا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشلاء بشرا سويا يتكلم ويمشي. . فأيقن أنه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته، وكبر عليه الأمر، ولم تعد أعصابه تحتمل هذا الظلم، وأحس كأن الدنيا تدور به وزاغ بصره، وجعلت أيامه تكر راجعة أمام عينيه كما بكر فلم السينما. . .
رأى ذلك الوجه الحبيب، وجه أمه، وابتسامتها التي كانت تنسيه آلام الدنيا، وصدرها الذي كان يفزع إليه من خطوب الدهر، رآها في صحتها وشبابها، ورأى البيت وما فيه إلا السلم
والهدوء والحب، ورأى أباه أبا حقيقيا تفيض روح الأبوة من عينيه الحانيتين، ويديه الممتلئتين أبدا بالطرف واللطف، ولسانه الرطب بكل جميل من القول محبب من الكلام. . .
ويكر الفلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها، ويحسبه مرضا عارضا. . ثم يرى الدار والاضطراب ظاهر فيها، والحزن باد على وجوه أهلها، ويسمع البكاء والنحيب، ويجدهم يبتعدون به، ويخفون النبأ عنه، ولكنه يفهم منهم أن أمه قد ماتت. ماتت؟ إنها كلمة تمر عليه مرا هينا لا يأبه لها، وكان قد سمع بالموت، وقرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره من قريب ولم يدخل داره، ولم يذقه في حبيب ولا نسيب، غير أن الأيام سرعان ما علمته ما هو الموت حين صحا صبيحة الغد على بكاء أخته الحلوة المحببة إلى أمها، والتي كانت محببة تلك الأيام إلى أبيها، ففتح عينيه فلم يجد أمه إلى جانبها لترضعها وتضمها إلى صدرها، واشتد بكاء البنت، وطفق الولد ينادي: ماما. . . ثم جفا فراشه وقام يبحث عنها، فوجد أباه وجمعا من قريباته، يبكون هم أيضا. . فسألهم؛ أين أمه؟ فلم يجيبوه. وحين أراد الغدو على المدرسة، فناداها فلم تأت لتعد له حقيبته وتلبسه ثيابه ولم تقف لوداعه وراء الباب تقبله وتوصيه إلا يخاصم أحدا وألا يلعب في الأزقة، ثم إذا ابتعد عادت تناديه لتكرر تقبيله وتوصيته، وحين عاد من المدرسة فوجد امرأة غريبة ترضع أخته. . لماذا ترضعها امرأة غريبة؟ وأين ماما؟.
ويكر الفلم، ويرى أباه رفيقا به حانيا عليه يحاول أن يكون له ولأخته أما وأبا، ولكن هذا الأب تبدل من ذلك اليوم المشؤوم ورأى ذلك اليوم المشؤوم، يوم قال له أبوه: ستأتيك يا ماجد أم جديدة. . أم جديدة؟ هذا شيء لم يسمع به، إنه يعرف كيف تجئ أخت جديدة، إن أمه تلدها من بطنها، أما هذه الأم فمن أين تولد؟ وانتظر وجاءت الأم الجديدة، وكانت حلوة، ثيابها جميلة، وخدودها بلون الشفق، وشفاهها حمر، ليست كشفاه الناس. وعجب من لون شفاهها، ولكنه لم يحبها ولم يمل إليها، وكانت في أيامها الأولى رقيقة لطيفة، كالغرسة الصغيرة، فلما مرت الأيام واستقرت في الأرض ومدت فيها جذورها، صارت قاسية يابسة كجذع الدوحة، وإن كانت تخدع الرائين بورقها الطري وزهرها الجميل. . . ولما ولدت هذه البنت انقلبت شيطانه على صورة أفعى مختبئة في جلد امرأة جميلة. والعياذ بالله من
المرأة الجميلة إذا كانت في حقيقتها شيطانه على صورة أفعى!.
وانطمست صور الماضي الحبيب، واضمحل الفلم، ولم يبق منه إلا هذه الصورة البشعة المقيتة، ورآها تكبر وتعظم حتى أحاطت به وملأت حياته، وحجبت عنه ضياء الذكرى ونور الأمل. . . وسمع قهقهة فانتفض وأحس كأن رنينها طلقات (متراليوز) قد سقط رصاصه في فؤاده، وكانت قهقهة هذه المرأة التي أخذت مكان أمه يتخللها صليل ضحك أبيه. . . وأنصت فإذا هو يسمع بكاء خافتا حزينا مستمرا، فتذكر أخته التي نسيها، وذكره جوعه بأن المسكينة قد باتت بلا عشاء، ولعلها قد بقيت بلا غداء أيضا، فإن هذه المجرمة تشغلها النهار كله بخدمتها وخدمة ابنتها، وتقفل دونها غرفة الطعام، فلا تعطيها إلا كسرة من الخبز، وتذهب فتطعم ابنتها خفية، فإذا جاء الأب العشية، ولبست أمامه وجهها البريء. . . شكت إليه مرض البنت وضعفها:
- مسكينة هذه البنت، إنها لا تتغذى. . انظر إلى جسمها، إلا تريها لطبيب؟. . . ولكن ماذا يصنع لها الطبيب، إنها عنيدة سيئة الخلق. أدعوها للطعام فلا تأكل، وعنادها سيقضى على صحتها. . .
فيناديها أبوها ويقول لها:
- ولك يا بنت ما هذا العناد؟ كلي وإلا كسرت رأسك! فتتقدم لتأكل، فترى المرأة. . تنظر إليها من وراء أبيها نظرة الوعيد، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف وترتد. . .
فتقول المرأة لزوجها: ألم أقل لك، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية؟
فيهز رأسه، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها، وشد أذنها، وطردها من الغرفة، ويكون ذلك عشاءها كل عشية!
تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره.
- مالك؟ لماذا تبكين؟ أسكتي يا حبيبتي؟
- جوعانة!
جوعانة؟ من أين يأتيها بالطعام؟ وقام يفتش. . فأسعد الحظ فوجد باب غرفة الطعام مفتوحا، وعهده به يقفل دائما، ووجد على المائدة بقايا العشاء، فحملها إليها فأكلتها فرحة بها مقبلة
عليها، كأنها لم تكن من قبل الابنة المدللة المحبوبة، التي لا يرد لها، لو طلبت، طلب، ولا يخيب لها رجاء. وآلمه أن يراها تفرح إذا أكلت بقايا أختها وأبيها يسرقها لها سرقة من غرفة الطعام، وعادت صور الماضي فتدفقت على نفسه وطغت عليها ورجعت صورة أمه فتمثلت له، وسمعها تناديه. . لقد تجسم هذا الخيال الذي كان يراه دائما ماثلا في نفسه، حتى رده إلى الماضي وأنساه حاضره. . ولم يعد يرى في أخته البنت اليتيمة المظلومة؛ وإنما يراها الطفلة المحبوبة التي تجد أماً تعطف عليها، وتحبها. .
ونسى دفتره الممزق، ومستقبله الضائع، وحياته المرة، وطفق يصغي إلى نداء الماضي في أذنيه. . إلى صوت أمه. .
- قومي يا حبيبتي، إلا تسمعين صوت أمك، تعالي نروح عند ماما!
فأجفلت البنت وارتاعت، لأنها لم تكن تعرف لها أما إلا هذه المرأة المجرمة. وخافت منها وأبت أن تذهب إليها. لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة أجمل صورة عرفها الإنسان: صورة الأم!
- تعالي نروح عند ماما الحلوة: أمك. . إنها هناك في محل جميل: في الجنة. . إلا تسمعين صوتها؟
وحملها بين يديه، وفتح الباب، ومضى بها. . يحدوه هذا الصوت الذي يرن في أذنيه حلواً عذباً، إلى المكان الذي فيه أمه!
وقرأ الناس في الجرائد ضحى الغد أن العسس وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدا في الرابعة عشرة، وقد حملا إلى المستشفى، لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر، أما الغلام فهو على أبواب الجنون، فهو لا يفتأ يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه. . . والمرأة التي تشبه الأفعى!
(دمشق)
علي الطنطاوي
ناثان الحكيم
للدكتور جواد علي
ناثان تاجر يهودي وهبه الله مالا غزيرا لما كثر أبناء جنسه، ووهبه عقلا كان خير دليل له في الخروج من مآزق الأمور، وفطنة كانت سلاحا فتاكا يستعمله في التغلب على خصومه.
وكان هذا اليهودي الذكي يعيش في أرض فلسطين في عهد السلطان صلاح الدين عيشة ناعمة يحسد عليها. وكان يرابي فيقرض الأمراء والسلاطين. وكان السلطان الأيوبي العظيم قد اقترض منه مبلغا عظيما من المال، لقاء فائض فاحش. وأراد السلطان كما تصوره الرواية الامتناع عن الدفع ومصادرة أموال اليهودي بطريقة لا يتمكن فيها هذا المرابي من الدفاع عن نفسه ومن إقامة الدعوى عليه.
فطلب منه ذات يوم أن يجيب عن موضوع طالما اهتم به وشغل باله به هو قضية الأديان، وأي تلك الأديان أفضل! وما هو الدين الحق من بين هذه الأديان. وكانت غاية السلطان من هذا السؤال هو إيقاع اليهودي في الفخ حتى إذا ما أجاب جواباً يناقض عقيدته وفضل ديانته على ديانة المسلمين أوقع به عقابا صارما وجزاه جزاء كبيرا فيصادر أمواله، ويصبح عندئذ في حل من الدفع.
أدرك ناثان ما كان يقصد السلطان من هذا السؤال، فالتفت إليه وطلب منه أن يقص عليه قصة من القصص المعروفة هي قصة والد شفيق كان له ثلاثة أولاد يحبهم حبا جما ولا يميز بينهم أبدا؛ وكان له خاتم ثمين ورثه عن أجداده ويريد المحافظة عليه بحيث يبقى في الأسرة، فلا يخرج منها. ولما كان لا يريد التفريق بين أبنائه ولا التمييز فيما بين هؤلاء الثلاثة في الدرجة حار فيما يصنع، أيعطى الخاتم للابن البكر فيزعج بذلك الأخوين ويعكر بينهما صفو الأخوة وهو حريص جدا على أن تبقى رابطتها قوية فيما بين أبنائه، أو يعطيه لشخص آخر من الأسرة، وفي هذا العمل مخالفة لوصية الآباء؟
وكان الرجل ذكيا، تمكن بذكائه من إيجاد حل أرضى به أولاده الثلاثة. ذهب إلى صائغ قدير كلفه بأن يصنع له خاتمين يشبهان هذا الخاتم تماما بحيث لا يمكن التفريق بينهما وبين الخاتم الأصلي. وقد صنع الصائغ ما طلب منه وأجاد الصنعة حتى صعب على الصائغ نفسه تمييز الخواتم الثلاثة.
ولما توفى ذلك الوالد الشفيق تسلم كل واحد من أولاده الثلاثة خاتما. وبعد مضي أمد أدعى كل واحد منهم بأن خاتمه هو الخاتم الحقيقي، خاتم الأسرة. وقد حاول كل واحد منهم البرهنة على أن ما قاله هو الصحيح.
فلما سمع صلاح الدين بهذه القصة استحسنها، وامتدح ذكاء (ناثان) وقربه إليه، وغدا منذ ذلك الحين من أقرب الناس اليه، وهي قصة تمثل وجهة نظرة الإنسانيين الذين نظروا إلى الأديان بنظرة التسامح نوعا ما. أما القصة نفسها، فقد كانت معروفة في أوروبا، وقد أخذها هذا الأديب (لسنك)، وسبكها في قالب (دراما) شعرية، تمثل آراء الشاعر ومشاعره أحسن تمثيل. حتى لقد قال الفيلسوف الألماني (شليكل) (إن هذه الدراما تمثل نفسية لسنك فمن عرفها عرف لسنك كل المعرفة.
في سنة 1752 للميلاد كان شاعرنا صاحب القصة في مدينة (ويتنبرك) وكان قد تفرغ لكتابة رسائله وفصول بعد أن حنكته التجارب، وبعد أن تخرج من مدرسة (فولتير) تلك التي أنشأها هذا الأديب الفرنسي العظيم في قلب العاصمة البروسية وفي قصرها. تعلم على هذا الأديب شيئا كثيرا ودرس عليه أصول النقد الأدبي التي عرف بها تلك الأصول التي أثارت في نفس صاحبنا الميل لدراسة الآداب الغربية ولا سيما آداب الشعب الإيطالي سليل الرومان، وآداب الشعوب الشرقية، ولا سيما الأدب العربي وتاريخ المسلمين.
وكان مما قرأه (لسنك) من آداب الإيطاليين بعض مؤلفات الفيلسوف الإيطالي (كاردانوس هيرونيموس)(1501 - 1576) وكان هذا الفيلسوف الإيطالي الكاثوليكي حر النزعة بالنسبة إلى رجال وقته، واسع التفكير، يعتنق مذهبا يعارض مذهبه، هو مذهب (وحدة الوجود) يرى أن كل ما في الطبيعة حي يجري فيه ماء الحياة حتى المادة الجامدة لا تخلو من الحياة. وأن الخالق في الكون جميعه والكون جميعه في الخالق بحيث لا نستطيع الفصل بين الاثنين. هذه هي الحقيقة، حقيقة الله في الكون، إلا أن قليلا من الناس من يدرك هذه الحقيقة، وقليل من الناس من يحاول الإدراك وفهم الحقائق.
كانت في آرائه هذه جرأة بالطبع بالنسبة إلى العالم الذي عاش فيه، جرأة له مئات من المشاكل والمصاعب فيما بعد. وكان يرى بالإضافة إلى كل هذا بأن الأديان واحدة لها أهداف واحدة هي النظم الأخلاقية وضبط حياة الإنسان، فيجب أن تستخدم هذه النظم في
خدمة الغرض الذي من أجله نشأت، وللمحافظة على الوحدة، ولذلك حذر من الخوض في المواضيع الدينية والمشاكل الدينية باللغة المحلية، لأن هذا الجدل من عقيدة فيصح لكل مواطن أن يعتنق ما يشاء من العقائد، وله أن يدين بأي دين.
وبهذه الفكرة كتب الفيلسوف الإيطالي أفكاره في: تلك المحاورة (ديالوك) الفلسفية التي ينبري فيها رجال يمثلون أربعة أديان للدفاع عن عقائدهم وديانتهم التي يعتنقونها، الديانة اليونانية الرومانية، والديانة اليهودية، والديانة المسيحية، ثم الديانة الإسلامية. وقد حدث في هذه المحاورة كل محام بما كان يعتقده أصحاب ذلك الدين. فتحدث على لسان الوثني، وتحدث على لسان اليهودي، وتحدث على لسان المسيحي، وتحدث على لسان المسلم، وذكر دليل كل واحد منهم. وهذه محاورة جريئة بالطبع، أوقعت المؤلف في مزالق الكلام، وهوجم على محاورته هذه هجوما عنيفا اتهم بأنه قصر في دفاعه عن عقيدة المسيحيين، وأنه أظهر المحامي المسيحي بمظهر المحامي الضعيف الذي لا يملك حججا قوية لأفحام خصمه، وقد كان في ذلك متعمدا لا محالة.
تأثر (لسنك) بآراء هذا الفيلسوف. وانبرى على الرغم من تفاوت عهده عنه للدفاع عن آرائه فدافع عنه في دفاعا أوقعه في مثل ما وقع فيه ذلك الكاتب المفكر. ذكر بأن الفيلسوف لم يكن مقصرا فيما كتبه ولم يكن متعمدا إضعاف دليل المسيحيين. وكل ما فعله هو أنه صاغ دليل النصارى على لسانه. ولم يتمكن النصارى من إبراز أدلة أقوى من تلك الأدلة، ولم يتمكن المسيحيون من إيراد حجج أقوى من تلك الحجج التي دونها كاردانوس فأضاف بهذا القول دليلا جديدا على تلك الأدلة التي كان يذكرها الناس في إثبات مروق (لسنك) وزوغانه عن جادة الحق.
ولم تكن دراسة الفلسفة في ذلك العهد من الدراسات التي يرتاح لها رجال الدين، وكان لسنك وهو في مكتبة (ولفنبتل) يقرأ كتب الفلسفة بينهم ويقبل عليها في ساعات فراغه كل الإقبال. ولم يكتف بالمطالعة بل صار يخرج كتب الفلسفة إلى الأسواق ويشوق الناس إلى دراستها، وكانت أحب فلسفة إليه هي فلسفة (رايمارس)(1694 - 1768م). وهذا الفيلسوف هو على راس الفلاسفة الذين عرفوا باسم وقد شاعت فلسفتهم في القرن الثامن عشر على الأخص. وكانت تحاول تبسيط مبادئ فلسفتها وتقريبها من أذهان الناس
للحصول على أكبر عدد ممكن من الاتباع. وكان هذا الفيلسوف من أولئك الفلاسفة الذين اعترفوا بوجود إله هو أساس هذا العالم وسببه. غير أنه كان كأكثر الفلاسفة (التوضيحين) ينكر خوارق العادات ولا يؤمن بالمعجزات، ويجحد تدخل الله في شؤون العالم وفي شؤون الأفراد وكل ما في الكون من مخلوقات. وكان يدعو إلى (الديانة الطبيعية العقلية) ويهاجم أسفار التوراة والأناجيل وينتقدها انتقادا مرا، لذلك تعرض بالطبع إلى حملات رجال الدين عليه والى نقد قوي مرير.
تعرض لسنك إلى نقد رجال الدين، إلى نقد (كوتزة) على الأخص فكانت بينهما مهاترات علمية تدخل فيها أناس من عشاق الجدل الفلسفي الديني، وقد تمكن (كوتزة) هذا من إثارة مجالس الأقاليم على لسنك، فأصدرت تلك المجالس أمرا إلى دوائر الرقابة تطلب فيه إلا يسمح للسنك بنشر أي شيء إلا بإذن من الحكومة، فكان في هذا القرار توفيق لرجال الدين.
وكان (لسنك) قد اطلع على آراء فيلسوف إيطالي آخر هو (بوكاجيو) 1303 - 1375م) الكاتب الإيطالي الفيلسوف.
وقد وجه هذا العبقري كزميليه دانتي (1265 - 1321م) و (بترركا) أنظار قومه نحو مثل جديدة، نحو المثل الإنسانية التي تدعو إلى التسامح في مقابل تعصب الكنيسة وتمسكها بآرائها الدينية. وقد حث قومه على دراسة الشعر واللغة والفلسفة، وقد مهد هو وزملاؤه بذلك الطريق لما سمى فيما بعد باسم:(عصر النهضة والأحياء) واتصل لسنك عن طريق الترجمة بهؤلاء، فقرأ لبوكاجيو، وكان هذا الأثر الأدبي المهم قد ترجم إلى الألمانية في القرن الخامس عشر للميلاد وطبع في (أو كسبرك سنة 1489 للميلاد). ومنه استل صاحبنا مادة (ناثان الحكيم). أخذ من (دكامرون) عناصر القصة الأولى، وأضاف إليها بعض العناصر الجديدة التي كانت شائعة عند الأوروبيين في ذلك الوقت. ولعل بوكاجيو نفسه كان قد أخذ قصصه من القصص الأوربية القديمة التي كانت شائعة قبل ذلك العهد ففي أسبانيا حيث عاشت الأديان الثلاثة كان الناس يتحدثون عن ملك متسامح حكيم وعن قصة الخاتم، وفي أوروبا تحدث الناس عن السلطان صلاح الدين وعن تساهله بالنسبة للمسيحيين واليهود.
وقد تطورت هذه القصة وأمثالها بمرور الزمن فنصت فيما بعد على أن الخاتم الحقيقي كان يعرف من بين الخواتم الأخرى بما كان يظهر منه من الأعمال الخارقة والمعجزات. وكان هذا دليلا على أنه هو الأصل وهو خاتم المسيحيين. كما تطورت صورة ناثان إلى أن جعل لسنك صورة هذا الشخص تنطبق على صورة صديقه الفيلسوف اليهودي (موسى مندلسن (1729 - 1786م) والكاتب الذي عاش في مدينة برلين. وكان شخصية فذة معروفة في أوساط تلك المدينة حتى تمكن بفضل منزلته من تخفيف حدة البروسيين بالنسبة لليهود.
وقد ساعد (مندلسن) صاحبنا كثيرا وسعى عند تاجر من تجار مدينة (هامبرك) حتى أقرضه مالا طبع به بعض كتبه. وتأثر بكثير من آراء مندلسن؛ فأخذ بأفكاره بالنسبة إلى الفلسفة اللاهوتية والأديان ولا شك في أن لتلك القصص الدينية التي كان يسمعها من (موسى مندلسن) دخلا في صقل عقلية لسنك وفي قصة (ناثان الحكيم).
واستعان لسنك بعنصر آخر هو التاريخ الشرقي ذاته.
وكانت أوروبا في هذا العهد ولا سيما فرنسا قد تذوقت الأدب الشرقي وأقبلت عليه، وصار الأدباء يبحثون بين ثنايا القصص الشرقي لينسجوا منه نسيجا جديدا. وكان فولتير الذي تعرف عليه لسنك في برلين، والذي اتصل به اتصالا وثيقا، في طليعة هؤلاء الكتاب الذين استعانوا بالخيال الشرقي وبتاريخ الشرق. ولفولتير هذا مسرحية زيير وكانت هذه المسرحية قد اكتسبت شهرة واسعة ومثلت في برلين، وكان لسنك بالطبع ممن حضر التمثيل ودرس الرواية وله (دراما محمد
تأثر لسنك في (ناثان الحكيم) بقصة كثيرا حتى إننا لنجد التشابه ظاهرة في كثير من المواضع، كما تأثر فولتير وبأفكاره السياسية، حتى أماكن النقد تكاد تكون واحدة. وقد استعار منه حتى المصطلحات التي كان قد تخصص بها فترجمها إلى الألمانية.
صور (صلاح الدين الأيوبي) في هذه الرواية وفي الروايات الأوروبية الأخرى بصورة الملك الفيلسوف، بصورة فيلسوف حديث يحمل آراء القرن الثامن عشر ويبشر بها بين الناس. فيدعو إلى (المذهب الإنساني) الذي استولى على أفئدة الناس في ذلك الوقت. ويحث الناس على اتباع الفلسفة التي كان يدعو إليها لسنك وأمثاله. فهو ملك شرقي وفيلسوف غربي في آن واحد.
ولم يكن لسنك من المستشرقين كما أنه لم يكن من المؤرخين، ومعلوماته التاريخية عن الشرق معلومات عامة مأخوذة من هنا ومن هناك. أخذ حياة صلاح الدين من كتاب (صلاح الدين سلطان مصر وسوريا) للأب دي مارين الذي طبع سنة 1758م. كما أخذ معلوماته عن تاريخ الخلفاء من كتاب (تاريخ العرب في أيام الخلفاء) للأب (دي ماريني) وقد طبع هذا الكتاب بالفرنسية عام 1750 للميلاد واستفاد من كتاب (التاريخ العام) الذي طبع بمدينة لندن عام 1759.
وحاول لسنك الرجوع إلى المصادر الأولى، إلا أننا نشك في قدرة هذا الشاعر على ذلك لأنه لم يكن يعرف العربية، على أنه كان يستعين بالكتب المترجمة عن العربية. مثل ترجمات وترجمة جلان (1704 - 1708) لألف ليلة وليلة والترجمات الأخرى، وكان يستعين بالمستشرقين أنفسهم أمثال المستشرق ريسكي الشهير. ومع ذلك فإن قصة (ناثان الحكيم) لا تمثل التاريخ كما تمثل الأفكار الإنسانية والمبادئ الفلسفية التي تمثل نفسية هذا الفيلسوف.
(بغداد)
جواد علي
على هامش النقد:
(دفاع عن البلاغة)
تأليف الأستاذ الزيات
للأستاذ سيد قطب
(تتمة)
هل هناك مذهب جديد؟
كان هذا السؤال الذي جعل الجواب عليه هو الفصل الأخير من الكتاب، وناقش فيه من يدعون إلى العامية، ويدعون إلى الرمزية. والعامية ليس من الضروري أن تكون عامية اللفظ، فهي عامية التعبير وعامية التفكير. وقد لا تكون الألفاظ عامية، ثم تكون طريقة الأداء عامية، كما تكون كذلك طريقة التفكير.
وفي سياق بحث الموقف الحالي للأساليب العربية شرح تطورات أساليب النثر العربي شرحا مختصرا وافيا دقيقا، ولخص مذاهبه تلخيصا جميلا مفيدا، ورتب على هذا التطور نتائجه المنطقية ترتيبا بارعا وصادقا في الوقت ذاته.
وفي اعتقادي أن هذا الفصل هو أبرع فصول الكتاب وأدقها وأصدقها. وهو كذلك بحث جديد في المكتبة العربية، لم يلخص من قبل مثل هذا التلخيص.
وأحب أن أشرك القارئ معي في تقدير قيمة هذا الفصل الجيد من فصول الكتاب.
جاء في ص 125:
(. . . إن المذهب الكتابي أو الشعري إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه مبتغوه. فأسلوب عبد الحميد بن يحيى إنما كان الطور الأول للأسلوب العربي الضيق الموجز، دعت إليه مقتضيات المجتمع الجديد من تشعب أطراف الدولة، وبدو ثمار الحضارة، ودنو العربية من الفارسية. وأسلوب ابن المقفع الذي ظهر في فجر الحضارة العربية كان طوره الثاني، دعا إليه اتساع الخلافة، وتنوع الثقافة، وشدة اختلاط العرب بالفرس. ثم كان طوره الثالث أسلوب الجاحظ الذي اقتضاه نقل العلوم الأجنبية، وازدهار المدنية العباسية، وانتشار المقالات الإسلامية، وتعقد الحالة
الاجتماعية، وتولد المعاني الحضرية، واقتباس الآراء الفلسفية. ثم أترف المسلمون، وتقبلوا في أعطاف النعمة، وتأنفوا في مظاهر العيش، فظهر طوره الرابع في أسلوب ابن العميد المنمق المسجوع. والى هنا كان التطور في النثر الفني تطورا طرديا يسير من الضيق إلى السمة، ومن الجزالة إلى الرقة، ومن الترسل المتوازن إلى الصنعة المطبوعة. فلما ضعفت الخلافة وقام بالأمر غير أهله بدت على الكتابة أعراض الفساد والوهن، فكثرت المعاني المزيفة، وانتشرت الصنعة المتكلفة؛ وكان من ذلك مذهب القاضي الفاضل وهو الطور الخامس من أطوار الأسلوب العربي، غلا فيه أصحابه حتى أفسدوا الفكرة بالتفاهة والمبالغة، وشوهوا الصورة بالزخرف الكاب والسجع المجتلب. ومن هنا كان رد الفعل بظهور طريقة ابن خلدون، إذ رغب عن السجع، وزهد في البديع، وسار باللفظ وراء المعنى. وقد صرح بذلك في كلامه عن كتابته لأبي سالم أحد ملوك الأندلس قال:
(وكان أكثرها يصدر عنى بالكلام المرسل، بدون أن يشاركني أحد ممن يتحل الكتابة في الأسجاع، لضعف احتمالها وخفاء المعاني فيها على أكثر الناس، بخلاف المرسل، فانفردت به يومئذ، وكان مستغربا عند من هم من أهل هذه الصناعة).
(وآثر النابغون من خريجي المدارس المدنية الحديثة الذين وقفوا على آداب الفرنجة، الطريقة الخلدونية على الطريقة الفاضلية، لجريانها مع الطبع، وملاءمتها لروح العصر، ومشابهتها لأساليب الغرب، فظهرت مهذبة عذبة فيما كتب قاسم أمين، وفتحي زغلول، ولطفي السيد، ومن جرى مجراهم. وانفرد بالأسلوب البديعي رجال دار العلوم ومن يمت بسبب إلى الأزهر، من أمثال الشيخ حمزة فتح الله، وتوفيق البكري، وحفني ناصف، ومن حذا حذوهم. وبدت على أسلوب هؤلاء مظاهر التكلف، فأسرفوا في المحاكاة، وأوغلوا في الصنعة، وتشددوا في القياس، وتصعبوا في استعمال اللغة. كما بدت على أسلوب أولئك مظاهر التطرف، فتجوزوا في القواعد، وتسامحوا في اللغة، واستخفوا بجمال الصياغة، وهبطوا إلى مستوى العامية. وفي ذلك الوقت نشأت على أقلام عرب لبنان النازحين إلى الأمريكتين طريقة ثالثة فيها الفكرة والطرافة والحركة والتنوع، ولكن فيها الركاكة والتساهل والدخيل والعجمة. فكان من رد الفعل الذي لا بد منه لهؤلاء الطرائق الثلاث أن تنشأ طريقة رابعة تأخذ من محاسنها وتخلو من مساوئها فترتضيها الأذواق جميعا. تلك
كانت طريقة إحياء الأسلوب العربي الخالص مكمل النقص بما فاته من صور البيان، لانقطاع أهله عن مسايرة التمدن الفكري الحديث. استبانت هذه الطريقة في نثر المنفلوطي، كما استبانت في شعر البارودي. ثم نهجها الكتاب الموهوبون المطبوعون فتميزت بالرقة والدقة والسلامة والرصانة والقصد. ثم نبغت طائفة من الكتاب جمعوا بين ثقافة الشرق القديم وثقافة الغرب الجديد، فبلغوا بالنثر الفني منزلة لم يبلغها في عصر من عصوره. فالأسلوب الذي كتب به المنفلوطي والبشري والرافعي، ويكتب به العقاد وطه حسين والمازني، هو ثمرة التطور الحديث في الأدب والعلم والفن والحضارة. وهو إن اختلف بين الكتاب في القوة والضعف، والعمق والضحولة، والدقة والتجوز، والتركز والانتشار، يشترك في الصفات الجوهرية للغة وهي الصحة والنقاء والمرونة، وفي الخصائص الأصيلة للبلاغة وهي الأصالة والوجازة والتلاؤم. . .)
لقد استطردت في الاقتباس من هذا الفصل القيم، لأنني معجب بتصوير هذا التطور والتسلسل في ذلك الحيز الضيق بمثل هذه النصاعة؛ ولأنني أريد أن ادعوا وزارة المعارف للانتفاع بهذا الفصل خاصة - إن لم يكن بالكتاب كله - في مدارسها ومعاهدها بدل تلك الفصول القاصرة البائسة التي يدرسها طلاب المدارس الثانوية!!
والآن قد استعرضت وناقشت الأسس العامة في كتاب (دفاع عن البلاغة) يعن لي أن أناقش بعض الموضوعات الفرعية التي جاءت هنا وهناك في الكتاب.
يناقش المؤلف رأيا لأميل زولا في البلاغة، واستعراض هذه المناقشة مفيد في بيان رأي المؤلف وزيادة إيضاحه.
قال إميل زولا:
(ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكتاب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقا يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغير والزوال بسرعة. ولا بد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حيا؛ ولا يمكن أن يكون حيا إلا إذا كان حقا. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية).
ثم يقول بعد ذلك:
(وهل نستطيع أن تبيين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟).
ويعلق الأستاذ الزيات على هذا الرأي فيقول:
(وهذا القول الظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب، لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما قال شاتوبريان)
(أما قوله: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرؤهما مترجمين؟) فمرماه أن روائع اليونان والرومان لم تخلد على الدهر إلا بمعانيها المبتكرة ووقائعها المشوقة، وعواطفها الصادقة، وشخوصها الحية، بدليل أننا نقرؤها اليوم بمعانيها لا بمبانيها، وبفكرها لا بصورها. فلو كان خلودها منوطا بدقة الصياغة وجودة الصناعة لما عاشت بالترجمة. ثم يترتب على ذلك خطأ القول باتحاد الصور والأفكار في الأسلوب، لأننا حين نقرأ الإلياذة مثلا في الفرنسية أو في العربية لا نقرأ منها عين الموضوع.
(والحق الذي تؤديه الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم).
ونحن نرى أن أميل زولا كان على كثير من الحق وهو يقول: (والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية) وليس هذا القول (ظاهر البطلان) كما يرى الأستاذ الزيات؛ كما أن تعليق الأستاذ بعد هذا صحيح، ولا تتناقض صحته مع صحة رأى زولا في شيء. فالمخلوقات الحية التي بلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء إلا بالأسلوب. ولكنها يجب أن تكون (حية) ليحتفظ الأسلوب لها بالحياة وإلا عجز منحها الحياة!
وكذلك نحتاج إلى شيء من التحفظ في تعليق الأستاذ على خلود روائع هوميروس وفرجيل؛ فليس الأسلوب (وحده) هو الذي ضمن لها الخلود، فلا بد من عنصر آخر حي مع الأسلوب، كما اتفقنا من قبل، الأستاذ وأنا، على هذا الأصل الكبير (في أول مقال).
ويستطرد الأستاذ في تعليقه فيقرر في شأن الترجمة رأيا صحيحا نرجو أن ينتفع به من يتصدون لترجمة روائع الأدب العالمي! ذلك حين يقول في ص72:
(والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجمانا ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلا لفظيا بأسلوبه الذي يترجم به عروض الأحوال، أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن نقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير؟ أم ترى أنك قرأت ألفاظا كالعظام المعروقة المبعثرة، لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه، ولا صورة من صوره؟. . . الخ).
وهذا دستور جيد للترجمة. وأشهد أني أقرأ في هذه الأيام مترجمات لا أدري إن كانت على رأي البحتري، إن كان صنع إنس لجن، أن صنع جن لإنس! فلعل من يتصدون للترجمة ينتفعون بهذا الدستور القويم!
وأخيرا نقف أمام لفتة طيبة تقرن فحولة الفن بفحولة الأمة عامة وفحولة البطل منها خاصة؛ وهي لفتة صادقة ولكننا لا نثبتها هنا لمجرد الصدق، بل للتوجيه أيضا:
جاء في ص122:
(وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما إذا حللته لا يخرج عن قوة الرجولة في هذا وضعفها في ذاك. فعصر الجاهلية عند العرب واليونان، وعصر الفتوح عند المسلمين والرومان، وعهد الفروسية عند الفرنسيين والطليان، كانت أزهى عصور البلاغة، لأن الرجولة كانت فيها بفضل النزاع والصراع في سبيل الحياة والغلبة والمجد والمرأة أشد ما تكون تماما واضطراما وقوة. فلما قتل الترف الرجولة، وأذل العجز النفوس، زهقت روح الفن، وذهبت بلاغة الأسلوب، وأصبح أدب الأديب سخفا وزيفا وثرثرة)
وجاء في ص123:
(إن الأدب البليغ كامن في البطل على أي صورة كان. فهو إن أنتجه برز فيه، وان لم ينتجه شجع عليه. لذلك ازدهر الأدب في ظلال أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. وما دام كبراؤنا لم يخلقهم الله من الأبطال ولا من عباقرة الرجال، فهيهات أن ينتجوا الأدب أو يفهموه أو يحبوه أو يعضدوه أو يقدموا أهله. وسيظل هذا النور الضئيل من الأدب
القوي الحر محصورا في ظلام العمي والجهل، حتى تقوى الأمة فينتشر، وينبغ فيها القادة فيزدهر. وسيعيش رجاله القلال المخلصين معتكفين في المكاتب اعتكاف النساك في الصوامع، يمثلونه على بصر الطبيعة، وينشدونه على سمع الزمن، حتى تقوى دولة الحق والجمال، فيجلسوا في الصدر ويمشوا في المقدمة).
أن الذي يقرره الأستاذ عن الصلة بين فحولة الأدب وفحولة الأمة أو الفرد صحيح؛ ولكني لا أوافقه في تشاؤمه من العصر لأنه لم يوجد فيه بعد أغسطس وبركليس والرشيد وسيف الدولة. إن الأدب لم يعد اليوم في حاجة إلى أمير يرعاه أو كبير يشجعه. لقد انتهى عهد الأمراء والكبراء. والعصر عصر الشعوب والأفراد. والأمة العربية الناهضة اليوم بمجموعها عوض عن أمراء الإقطاع في عهد سيف الدولة. فللأدب العالي أن يزهو اليوم مستقلا بنفسه، وللأدباء اليوم أن يسيروا في الأرض غير معتمدين على ذراع أمير أو كبير.
وما نظرت يوما إلى الأديب في نفسي والى أي أمير أو وزير أو كبير إلا وجدتني أكبر وأشد قوة، وإلا وجدت هذا الأمير أو الوزير أو الكبير في حاجة إلى رعايتي قبل أن أكون في حاجة إلى رعايته! وهذه هي الدعوة التي يحسن أن نهتف بها للأدب والأدباء ليرتفع بعض من لا يترفع منهم، عن الزلفى للأمراء والوزراء والكبراء.
سيد قطب
الأدب في سير أعلامه
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 18 -
حربه على القساوسة:
وأردف ملتن هذا الكتيب بكتيب ثان في يوليو سنة 1641 رد به على (أشر) أحد كبار الأساقفة، وكان كتيبه الثاني صغيرا، وقد عد رده على هذا الأسقف جرأة عظيمة ومبالغة منه في الثقة بنفسه، وذلك أن أشر كان من أوسع الأساقفة أفقا في تاريخ الكنيسة ومسائلها؛ قضى نحو ثمانية عشر عاما من عمره في هذه الدراسة حتى أصبح من أفذاذ طائفته. وقد جادله ملتن جدالا عنيفا، ولجأ إلى المنطق في مجادلته. ومن أمثلة ذلك قوله (ترجع الأسقفية إما إلى اصل إنساني أو إلى اصل الهي، فإن كانت الأولى جاز القضاء أو الإبقاء عليها حسبما توحي المصلحة، وان كانت الثانية وجب أن يقوم الدليل على ذلك من الكتاب المقدس، فانه إن لم يقم هذا الدليل فلن يكون لأي تأكيد إنساني لها أية قيمة يعول عليها)، وبعد أن يعجز ملتن خصمه بمطالبته بهذا الدليل يستعرض ما اعتمد عليه من المراجع فيسفهها ويسخر منها في لغة هي أقرب إلى السباب منها إلى النقد، ولن يخشى ملتن أن يسجل في كتيبه احتقاره لآباء الكنيسة القدامى وزرايته عليهم وعلى كل من يخالفه سواهم فيما يذهب إليه مهما يكن من خطره أو سلطانه. . .
ولم يلبث أن أعقب في السنة نفسها كتيبه الثاني بثالث، وذلك أن (هول) رد على جماعة سمكتنسي بكتيب جديد يدافع به عن كتيبه الذي سماه الإعلان المتواضع. فانبرى له ملتن وراح يسخر منه ما وسعته السخرية، وجرى في ذلك على طريقة عجيبة، فهو يورد رأيا من آراء هول ويسوقه مساق التحدي في صيغة سؤال أو اعتراض ثم يجيب عليه متهكما
ساخرا حتى لا يتورع أن يرد على أحد الاعتراضات بضحكات يثبت صورتها هكذا. . ها! ها! ها! على نحو ما يفعل الطلاب إذ يتجادلون في أمر من الأمور.
ولم يستطع ملتن أن يملك زمام قلمه إذ كان يرد على أحد المتحمسين من الفئة التي يبغضها ويحاربها في عنف بالغ، لذلك جاء من عبارات الهجاء والفحش بما نعجب كيف يصدر مثله ممن كان له مثل ثقافته وأدبه ونفسه الشاعرة وحسه المرهف، وتلك في الحق عجيبة من عجائب عقله وخلقه. . .
وفي مستهل سنة 1642 نشر ملتن كتيبا رابعاً، وجمع في هذا الكتيب كل ما واتته به ثقافته ودراسته من المعرفة وكل ما جادت به قريحته من الآراء وساقها جميعا حربا على خصومه القساوسة، وكان في هذا الكتيب أكثر عناية بالشرح والإقناع منه بالسخرية والإقذاع، لذلك جاء خلوا من الحشو بريئا من هجر القول وان لم تكن لهجته فيه اقل حماسة منها في سالفيه، ولهذا الكتيب الرابع أهمية من ناحية أخرى، وذلك أن ملتن أبان فيه بعض آرائه في الدين والسياسة.
ففي الدين أعلن تمسكه بالبرسبيترية وأنها خير نظام لإدارة الكنيسة، فلا يصح أن يترك لهؤلاء القساوسة الإشراف على الكنيسة فيرتفع بعضهم فوق بعض درجات، ويتخذوا من مناصبهم الدينية سلاحا للعدوان والطغيان والجشع، وإنما يجب أن يكون المشرفون على إدارتها قوم يرضى عنهم الناس ويختارون بمشيئتهم ويكونون في مناصبهم سواء، وهو في ذلك إنما يشير باتباع نظام كلفن في حماسة وإخلاص.
وذكر أحد القساوسة في هذه المعركة أن آدم هو أول قس، فكان مما رد به ملتن على ذلك قوله: إنه إزاء ما يراه من شدة ولوعهم بالقديم في الدفاع عن قضيتهم يوافقهم فيما يزعمونه، بل انه يذهب في القدم إلى ابعد مما ذهبوا؛ فإذا كان آدم في البشر هو أول قس، فقد كان إبليس من قبل آدم هو في الملائكة القس الأول. ويخرج ملتن من ذلك بنتيجة وهي أن القساوسة في أصلهم ينتمون إلى الشيطان، فحسبنا من بغض هذا النظام أنه من عمل الشيطان.
ويؤمن ملتن بعقيدة الثالوث على الرغم من فكرته السامية التي تجلت في إنكاره تصوير الله وتحديده ويصلي مستعيذا بهذا الثالوث ككل من يؤمن بهذه العقيدة في أصلها.
ويميل ملتن إلى الاعتدال والتسامح في معاملة أهل المذاهب الأخرى من غير البيوريتانز، فوجود هؤلاء المخالفين أمر طبيعي لان هؤلاء يعدون قبل الإصلاح الجديد كالآلام الشديدة التي تسبق كل وضع؛ وما من شيء يتغير من حال إلى حال في عالم المادة إلا بعراكه مع العناصر الأخرى المضادة له، وفي المصنوعات لا بد من ذهاب بعض المادة في التسوية والتهذيب، وما من تمثال من المرمر يقام أو من صرح يبنى إلا إذا أزيل كذلك شيء مما علق به.
ولا يسع ملتن إلا الموافقة على عقوبة الطرد من الكنيسة ولكن على إلا يستعمل هذا الحق إلا بمنتهى الحذر وبعد التحري الدقيق وطول الأناة والوثوق من أن المذنب يستحق تلك العقوبة.
ولا يزال ملتن في كتيبه هذا مواليا للملكية، وغاية ما يسعى إليه أن يتلخص الملك وأن تتخلص انجلترة من طغيان القساوسة. وفي رأيه أن القساوسة هم الذين يوحون إلى الملك الطغيان والاستبداد، لأنهم بتعصبهم وحرصهم على مناصبهم ومغانمهم يكرهون كل رأي حر، ومتى لمحوا رأيا حرا رأوا فيه نذر الفتنة وخوفوا الناس من عواقبه وأشفقوا على النظام والهدوء من الفوضى المزعومة، هذا إلى دسائسهم وسوء مكرهم وافترائهم الكذب على من يخشونه من الناس؛ وانه ليرى فيهم بذلك وبغيره أصلح أداة للطغيان. ولقد اعتادت الكنيسة أن تتخذ من الكتاب المقدس سلاحا تشهره في وجه الحرية، ووسيلة إلى الجشع الذي لا يشبع والطموح الذي لا يقف عند حد.
وجاء في كتيبه هذا فيما جاء من آرائه طعن شديد على الجامعات؛ فما إن يزال ملتن حانقا على الجامعة وأسلوب التعليم بها بعد أن تركها بعشر سنوات، وجاء رأيه عن الجامعات عرضا فهو يعجب كيف أن أناسا علم من أمرهم أنهم أهل ثقافة وعلم يدافعون عن الكنيسة بكتاباتهم؛ ويرد ذلك إلى أنهم اكتسبوا ما يسمونه علما في الجامعات، فقد قصدوا إليها يبتغون المعرفة الصحيحة، ولكنهم لم يجدوا هناك إلا ألوانا من السفسطة وضروبا من تعاليم القساوسة سدت بها حلوقهم فعاقت دخول الفلسفة الصحيحة، كما حنق أصواتهم إلى الأبد ما امتلأت به حناجرهم من لغو ميتافيزيقي. . .
وفي سنة 1642 نشر القس هول وابنه كتيبا عنيف اللهجة قاسي العبارات وجها فيه إلى
ملتن مطاعن شديدة تناولت فيما تناولت شخصه ومسلكه إبان طلبه العلم بالجامعة، وكأنما أراد أن يحارباه بسلاح من أسلحته لكي يذيقاه مرارة المطاعن الشخصية. والحق أنهما أوجعاه وملأ قلبه بكتيبهما هذا غيظا شديدا وحنقا ولا سيما أنهما افتريا عليه ما ليس من خلقه ونسبا إليه ما هو نقيض ما عرف عنه من استقامة وطهر وعفة حرص عليها أشد الحرص سرا وعلانية حتى باتت من أبرز صفاته وأخصها. . .
اتهمه هول وابنه أنه لسوء مسلكه في الجامعة قد لفظته كما تلفظ الحلوق القيء، فذهب إلى منعزل على مقربة من لندن حيث كان يقضي نهاره في الفسوق والفجور وليله في أماكن ومواخير الفساد، وحيث راح يغازل أرملة غنية بغية الزواج بها.
ورد ملتن بكتيب كان خامس هاتيك الكتيبات فذكر أنه ما كان ليعبأ بما يقولان لولا أنه لصلته بجماعة سمكتمنسي ولإخلاصه لواجبه في القضية التي هو بصددها يحرص على أن يطهر اسمه مما حاولا أن يلصقاه به، ومهد بهذا الحديث طويل عن نفسه يعد تاريخا لحياته حتى ذلك الوقت. . .
نفى عن نفسه أن الجامعة لفظته، فها هو ذا يجمل شهادة من أكبر شهاداتها، ولقد كان هناك كما يعرف أهلها جميعا موضع التوقير والمحبة، وكان يقضي أصباحه في قراءة أعظم المؤلفين وفي تقوية بدنه بالرياضة، أما أمساؤه فلم يعرف فيها فجورا ولا لهوا اللهم إلا ما كان يشاهده من تمثيل مسرحيات الكلية في كمبردج إن كان يعد هذا من الفجور.
ويشير ملتن إلى عزلته بعد أن ترك الكلية والى دراساته التي أخذ نفسه بها في غير رفق، هنالك حيث قرأ فيمن قرأ أفلاطون ونده زينوفون قراءة درس وتمحيص و (حيث أعني إذا تكلمت عما علمته من الحكمة والحب الجانب الحق منهما، ذلك الجانب الذي ليس غير الفضيلة كأسه الساحرة التي يطاف بها على من يستحقونها فحسب. أما الذين لا يستحقونها فتطوف عليهم شيطانه نزلت باسم الحب وأهانته بكأس مزاجها شراب مسكر ثقيل؛ وتعلمت كيف تبدأ في النفس وكيف تنتهي فيها أولى غايات الحب وأهمها فتلد توأميها السعيدين: العلم والفضيلة.
ويعد ملتن قارئيه أنه سوف يتكلم عن الحب الصحيح أكثر مما تكلم وذلك (في وقت هادئ لا شتائم فيه، لا في هذه الجلبة القاتمة إذ ينبح الخصوم بالباب كما يتعلمون).
ويعود إلى حيث العفة فيقول: (أن من يحب إلا يغلق دونه الأمل في أن يكتب ما يعظم وقعه في النفس فعليه أن يكون هو نفسه قصيدة صحيحة، أعنى مزيجا من أجمل الأشياء وأشرفها بهذه الفكرة يصحبها جمال في طبيعتي وكبرياء شريفة في نفسي ونظرة منى سامية إلى ذاتي سواء فيما سلف من حياتي وفيما استقبل منها؛ بهذا كله لا أزال أعلو على ذلك التدهور العقلي الذي لا بد أن ينحط إلى اسفل منه من تقر نفسه الفسوق والفحشاء).
ويقول إنه قد تعلم كمسيحي أن فقدان العفة في الرجل وهو أكمل الزوجين جنسا وهو صورة الله ومجده، أكثر عيبا منه في المرأة التي هي مجد الرجل فحسب؛ وأن في الجنة ألحانا قدسية لن يفهمها إلا من لم يدنس بالنساء بدنه. وتطرق من هذا إلى قوله انه ككل عاقل يفضل أن يتزوج بعذراء فقيرة على أن يتزوج بأرملة غنية.
وينتقل ملتن بعد الدفاع إلى الهجوم، فيعود إلى التنديد بالأساقفة وجمود عواطفهم وتعصبهم وجهلهم وحماقاتهم على نحو لا يسهل معه أن نقول أيهما كان أقذع لفظا وأفحش هجوا: ملتن أم خصمه هول.
بهذا الكتيب الخامس تنتهي الحرب بين ملتن والقساوسة، وهي جانب من جوانب دفاعه عن الحرية، وهو هنا إنما يدافع عنها أمام التعصب الفكري الذي هو من أشد أعدائها خطرا عليها.
ولا بد من نظرة إجمالية في هذه الكتيبات الخمسة بعد أن بينا موضوع كل كتيب منها والدافع الذي حمل ملتن على كتابته.
يخطئ من ينظر إلى هذه الكتيبات على أنها عمل أدبي، فما كانت في الواقع إلا حربا قوامها الحماسة والعنف، لا يعني صاحبها إلا أن يصيب فيصمى فيهزم، وشتان بين هذا وبين العمل الأدبي الذي يقيمه صاحبه على أساس من الفن وتكون قوامه فكرة إيجابية فيبنى كما يهدم ويتبين ما يأخذ مما يدع، ويتفنن في إبداع الصورة وفي اختيار اللفظ وإحكام النسج لكي يجمع بين وضوح الفكرة وجمال الأداء.
لهذا كان يجمع ملتن في كتيباته هذه بين السمو والإسفاف والبلاغة والركاكة والجودة والغثاثة، والحجة الناصعة والشتائم المقذعة، والفسلفة الرصينة والتفاهة المشينة، والغرض النبيل والطعن الشخصي الوبيل، لا يعنيه إلا أن يؤلم ويوجع ويشفى سخيمة صدره، وأن
يكون من وراء كتيباته أثر عميق في أهان الناس ونفوسهم وضجيج شديد يتجاوب العصر صداه. ولقد نجح فيما أراد نجاحا كبيرا فهز نفوس قومه هزا قويا وزلزل القساوسة زلزالا شديدا.
وكان الأسلوب ملتن في الجملة أسلوب الشاعر العظيم إذا كتب على غير أصالة منه في النثر، لذلك كان يأتي بكثير من الصور والآيلة الشعرية في مجازاته وتشبيهاته واستعاراته ويستغرق في المحسنات اللفظية ما وسعه الاستغراق، كما كان يعمد إلى الميثولوجيا أحيانا فيخيل إليك من بعض فقراته أنك تلقاء شعر لا ينقصه إلا الوزن والقافية، على أنك تقع بين الفينة والفينة على صفحات له يشرف بها على الغاية من بلاغة العبارة وإشراق اللفظ ومتانة السياق وبراعة الاتزان بين الجمل والاتساق.
أما آراؤه التي أوردها فيها وإن لم يقصد إلى ذلك فترينا أنه كان حتى ذلك الوقت مؤمنا بعقيدة الثالوث في أصالتها وإن كان برسبتيريا من حيث دارة الكنيسة، بيوريتانياً من حيث المذهب مع شيء غير قليل من الاعتدال، ملكيا من حيث السياسة، كما ترينا أن أقوى عواطفه يومئذ كانت عاطفة الدفاع عن الحرية وشدة محبته إياها. . .
على أن حبه الشديد للحرية سينتهي به فيما سنرى من تطور فكره إلى انطلاقه من تلك الآراء جميعا، فينفر من عقيدة الثالوث ومن مثيلاتها من العقائد لأنها تستند إلى العقل ولا تتفق مع ما يحب من حرية الفكر، وينفر من البرسبتيرية لأنها نظام جامد لا تسلم له أن يعيش ويفكر كما يرى، وينفر من الملكية لأنها سوف تقيم الدليل في السنوات المقبلة على تمسكها بالاستبداد وكراهتها روح الحرية.
ولقد كانت هذه الكتيبات آخر ما كتب وقلبه عامر بالأمن ونفسه متطلعة إلى النصر، فلسوف تنهار الآمال واحدا بعد واحد، فيتزوج بعذراء فيجد الصدمة الأولى لآرائه وكبريائه في هذا الزواج ويكون من أشد ما يعكر عليه مستقبل حياته؛ وتظهر له البرسبتيرية وليست أقل تعصبا وحماقة من الأسقفية؛ ويلتفت باحثا عن الحرية فلا تنزل من السماء كما أمل واستبشر لتجعل من انجلترة مدينة الله على الارض، ويقلب الشاعر كفيه في حسرة ويبتئس قلبه الكبير وتنكدر روحه العظيمة فيفقد الثقة في الأرض ومن عليها ويتجه ببصره صوب السماء، ويلتمس في التغني بألحان فردوسه العزاء.
(يتبع)
الخفيف
الشاعران المتشابهان
الشابي (التونسي) والتجاني (السوداني)
للأستاذ أبي القاسم محمد بدوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
تصوير الأحداث الوطنية:
الشاعران اشتركا في البواعث التي تستفز الإنسان إلى المنطق بشعر متفق في المعنى والغرض لما بينهما من التشابه في كثير من نواحي الحياة كما قدمنا، فكلاهما عاش حياة مليئة بالأهوال، زاخرة بالكفاح والنضال. وبرم كل منهما بما يجرى بين أهله وقومه، مستهجنا حياة شعب يعاني متاعب الاستعباد وآلام الاستبداد. ولقد بذل كل منهما جهده في تصوير أحوال شعبهما حفزا للشعور، واستفزازا للنفوس المكلومة لتصحو من غفوتها، وتهب من رقدتها، وتنهض وتركض حتى تلحق بركب الأمم المسرع العجلان الذي لا يعين العاجز ولا ينتظر المتخلف الكسلان، إنهما أجادا وأفادا، كأحسن ما يطلب ذلك من شاعرين عظيمين أديا رسالتيهما في البلاغ والبيان أداء كاملا واضحا في مبناه، قويا في معناه، مؤثرا بألفاظه وموسيقاه، قال الشابي مخاطبا شعبه.
ليت لي قوة العواطف يا شعبي فألقى إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير لكن أنت حي يقضي بالحياة برمس
أنت روح غبية تكره النور وتقضي الدهور في ليل حدس
أنت لا تدرك الحقائق إن طافت حواليك دون حس وحس
إلى أن قال:
في صباح الحياة ضمخت أكوا
…
بي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرقت
…
رحيقي ودست يا شعب كأسي
فتألمت ثم أسكت آلا
…
مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي
…
باقة لم يمسها أي إنس
ثم قدمتها إليك فمزقت
…
ورودي ودستها أي دوس
ثم ألبستني من الحزن ثوبا
…
وبشوك الصخور توجت رأسي
ثم قال لما يئس من الإصلاح وبرم بالحياة وحينما ذهبت صحته أدراج الرياح ولم يسمع قومه الأنين والنواح:
هأنا ذاهب إلى الغاب يا شع
…
بي لأقضي الحياة وحدي بيأسي
هأنا ذاهب إلى الغاب علي
…
في صميم الغابات أدفن نفسي
ثم أنساك ما استطعت فما أن
…
ت بأهل لخمرتي ولكأسي
ولكن هيهات أن ينساه وهو قد ترعرع فوق أرضه ونشأ تحت سماه. إنه يحثه للنهوض ويدفعه للعمل السريع بعد سكب روح الأمل البديع فيه، وذلك يتضح في خطابه الطير الذي يدري معنى الحياة، ويعرف أن طيب عيشها لا يتاح لمن سلبت حريته، ومات حسه وبلد شعوره، وانطفأت جذوة آماله، وغاض معين أحلامه.
سوف أتلو على الطيور أناش
…
يدي وأفضى لها بأحزان نفسي
فهي تدري معنى الحياة وتدري
…
أن مجد النفوس يقظة حس
ويتبين لك عند إنعام النظر أنه لم ييأس من الإصلاح بل كان يستعبد زمنه، لأن شعبه لم يبلغ سن النضج ولم يقف على سوقه ينافح ويكافح ليرد حريته المسلوبة فيحظى بكمال استغلاله، ويرغم غيره من الأمم على احترامه وإجلاله، وفي القول التالي يؤنب بني قومه لما استخفوا بقوله، وأشاحوا معرضين عن سماع صوته.
أيها الشعب أنت طفل صغير
…
لاعب بالتراب والليل ينسى
أنت في الكون قوة لم تسلبها
…
فكرة عبقرية ذات بأس
أنت في الكون قوة كبلتها
…
ظلمات العصور من أمس أمس
والشقي الشقي من كان مثلى
…
في حساسيتي ورقة نفسي
هكذا قال شاعر ناول الشع
…
ب رحيق الحياة في خير كأس
فأشاحوا عنها ومروا غضابا
…
واستخفوا به وقالوا بيأس
(قد أضاع الحياة في ملعب الجن
…
فيا بؤسه أصيب بمس)
(طالما حدث الشياطين في الوا
…
دي وغنى مع الرياح بجرس)
ويشبه التجاني الشابي في رقة الإحساس ودقة المشاعر. فهو نفس مرهفة مضطرمة، وقلب
خفاق بلواعج الحب لوطنه، والإخلاص لقومه، يثور لأحزانه ويتألم لآلامه وأشجانه. وقلب التجاني هو قلب الشاعر الصادق الذي يعد بمثابة أداة تصوير واعية تلتقط ما يتساقط عليها من ألوان الحوادث ومشاكل الوجود، ومسرات الحياة وحسراتها. عبرت نفس التجاني الثائرة عما يجيش في قرارتها بهذه الأبيات الشاكية الصارخة في قصيدة مطلعها (ثورة) فقال:
من لهذا الأنام يحميه عني
…
قلمي صارمي وطرسي مجني
هو فني إذا اكتهلت وما زا
…
ل على ريق الحداثة فني
نهلت من دمى الحوادث واستر
…
وى يراعى مما يدفع دني
إلى أن يقول: -
وطني في الصبا الدمى والتماثي
…
ل ونفسي ومن أحب وخدني
هذه يا أبي تصاوير ما تب
…
رح دنياي أو تزايل كوني
يصنع الغاب مزهري، ويشيد الر
…
مل عرشي، ويبعث اللهو أمني
تلك عرسي وإنها صنع نفسي
…
بيدي صغتها وذيالك أبني
هي دنيا الصبيّ لا جنة الشي
…
خ تفيض النعيم من كل لون
ثم يخاطب وطنه فيقول: -
قف بنا نملأ البلاد حماسا
…
ونقوض من ركنها المرجحن
هي للنازحين مورد جود
…
وهي للآهلين مبعث ضن
يستدر الأجانب الخير منها
…
والثراء العريض في غير من
أبطرتهم بلادنا فتعالى
…
ابن أثينا (واستكبر) الأرمني
ثم يختمها بهذا البيت الرائع الذي يدل على صدق الوطنية وقوة الشعور بكرامة القومية.
يا بلادي أخلصتك الخير واستص
…
فيت ودي إليك من كل مين
ماذا ترى في هذا الشعر الرصين والنفثة القوية المنبعثة من فؤاد مجروح وصدر معذب بالحرقة والأنين؟ يتألم ويرسل صوته داويا كالريح، مجلجلا كالرعد، نافذا كالسهم في قلوب المواطنين ونفوس الشباب العاملين.
صور الحب والجمال:
ليس في الوجود إنسان دقيق مرهف الإحساس لا يخفق قلبه للحب العذري الطاهر، ولا يفتتن بمنظر الجمال الساحر الجذاب، ويعلق بالحسن في جميع مظاهره المادية المعنوية.
وما دامت النفس البشرية تشعر بهذه العاطفة الجامحة فأنها تجد في الشعر خير معبر ناطق لما يلابسها من متباين الحس ومختلف الشعور؛ وأصدق محدث ينطق بما توحي به بيئة كل شاعر ومحيطه الذي نشأ فيه، وبما يؤثر عليه في حياته من متنوع الحوادث ومتعدد الخطوب.
لقد خفق قلب الشابي بالحب حينما خاطب محبوبه بهذه الأبيات في قصيدة عنوانها (أيتها الحالمة بين العواطف).
أنت كالزهرة الجميلة في الغا
…
ب ولكن ما بين شوك ودود
فافهمي الناس إنما الناس خلق
…
مفسد في الوجود غير رشيد
والسعيد السعيد من عاش كاللي
…
ل غريباً في أهل هذا الوجود
ودعيهم يحيون في ظلمة الاث
…
م وعيشي في طهرك المحمود
كالملاك البرئ، كالوردة البي
…
ضاء، كالموج في الخضم البعيد
كأغاني الطيور، كالشفق السا
…
حر، كالكوكب البعيد السعيد
أودع الشابي في الأبيات المتقدمة فنه وروحه وفكره. فهو حسن في الصياغة والتخييل، وبارع في التشبيه والتمثيل، ومن أكثر الشعراء وقوعاً على المعنى الطريف والفكرة العميقة.
فهل لنظيره التجاني شعر يشبهه في روعة المعنى ودقة المبنى. إن التجاني وايم الحق وحيد عصره ونسيج دهره في الإبداع في شعر الحب والجمال. واليك قصيدة تمثل أصدق تمثيل فنه الرائع، وفكره البارع، وخياله العميق، وتعبيره الدقيق. اسمعه يقول: وهو المحب الواله المفتون:
جمال وقلوب
وعبدناك يا جمال وصغنا
…
لك أنفاسنا هياماً وحبا
ووهبنا لك الحياة وفجر
…
نا ينابيعها لعينيك قربى
وسمونا بكل ما فيك من ضع
…
ف جميل حتى استفاض وأربى
وحبوناك ما يزيدك يا لف
…
ظ وضوحاً، وأنت تفتأ صعبا
إلى أن قال:
من ترى وزع المفاتن يا حس
…
ن ' ومن ذا أوحى لنا أن نحبا
من ترى علم القلوب هوى الحس
…
ن وقال اعبدي من السحر ربا
من ترى الهم الجمال وقد أعط
…
اه من جبرة الحوادث عضبا
أن يبث الهوى مفاتن في جف
…
ن بليغ وأن يجود ويأبى
من ترى وثق العرى بين مسحو
…
رين اسماهما جمالا وقلبا
إنه صانع القلوب التي تن
…
صب في قالب المحاسن صبا
تصوير الحالات النفسية:
إذا عرفنا أن في مكنة الشاعر العبقري أن ينطق الشخوص عن نفثات صدورهم، وسيحات قلوبهم، وحسرات نفوسهم في تعبير قوى ونغم سحري، ومعنى علوي، ينتقل به التأثير إلى نفوس السامعين فتتحرك عواطف القارئين بوحي الصورة المحسة في الوصف الشعري، فإن في استطاعته من غير ما مشقة أو نصب أن يصور خلجات نفسه، ونبضات قلبه، وإحساس روحه، صوراً شعرية، هي فيض العاطفة المنفعلة، ووحي الوجدان الصادق الذي عرف حقائق الوجود في نفسه معرفة الواقع الملموس، لا المتخيل المحسوس.
للشابي قصائد كثيرة يصور فيها مطالب حسه، وشجون نفسه، تصويرا عذباً صادقاً تحس فيه حرارة الأيمان، وصدق العواطف الباكية الناحبة. قال أبياتا في قصيدته (في ظل وادي الموت):
نحن نمشي وحولنا هاتة الأك
…
وان تمشي؛ لكن لأية غاية؟
نحن نشدو مع العصافير للشم
…
س، وهذا الربيع ينفخ نايه
نحن نتلو آية الكون للمو
…
ت، ولكن ماذا ختام الرواية؟
إلى أن قال:
قد رتعنا مع الحياة طويلا
…
وشدونا مع الشباب سنينا
وعدونا مع الليالي حفاة
…
في شعاب الزمان حتى وعينا
وأكلنا التراب حتى مللنا
…
وشربنا الدموع حتى روينا
وفي قصيدة أخرى عنوانها (الأبد الصغير) يقول:
يا قلب إنك كون مدهش عجب
…
إن تسأل الناس عن آفاته وجموا
كأنك الأبد المجهول قد عجزت
…
عنك النهى واكفهرت حولك الظلم
يا قلب كم من مسرات وأخيلة
…
ولذة يتحامى ظلها الألم
غنت بفجرك صوتاً حالماً مرحاً
…
نشوان ثم توارت وانقضى النغم
ثم يعدد ما انتابه من آلام وأحزان عقبت ما كان فيه من مسرات ولذائذ فيقول:
كم قد رأى ليلك الأشباح هائمة
…
مذعورة تتهاوى حولها الرجم
ورفرف الألم الدامي بأجنحة
…
من اللهيب وأنّ الحزن والندم
تمضي الحياة بماضيها وحاضرها
…
وتذهب الشمس والشطآن والقسم
وأنت أنت الخضم الرحب لا فرح
…
يبقى على سطحك الطاغي ولا ألم
ثم يصور أحلامه التي نسجها فتلاشت، وأكاليل فخاره وزينته التي أفنتها العواصف، وأمانيه النضرة بمباهج الفردوس ومتع الجنان، حيث اختفت وزالت. كل ذلك يعطيك فكرة عن نفسه التي برمت بالحياة ما فيها من نعيم أو جحيم، لأنها تستقر بعد الحياة الفانية في دنيا الخلود شابة نضرة مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم. كأنها لم تعرف السار البهيج والقاتم الحزين من صور الحدثان وظروف الزمان. إنه يقول هذا المعنى في هاته الأبيات:
يا قلب كم ذا تمليت الحياة وكم
…
راقصتها فرحا ما مسك السأم
وكم توشحت من ليل ومن شفق
…
ومن صباح توشى ذيله السدم
وكم نسجت من الأحلام أردية
…
قد مزقتها الليالي وهي تبتسم
وكم ضفرت أكاليلا موردة
…
طارت بها زعزع تدوي وتحتدم
وكم رسمت رسوما لا تشابهها
…
هذى العوالم والأحلام والنظم
كأنها ظلل الفردوس حافلة
…
بالحور ثم تلاشت واختفى الحلم
تبلو الحياة فتبليها وتخلعها
…
وتستجد حياة ما لها قدم
وأنت أنت شباب خالد نضر
…
مثل الطبيعة لا شيب ولا هرم
إن التجاني لا يقل عن الشابي مقدرة في صوغ الانفعالات الوجدانية والحالات النفسية في
صورة تخيل لقارئها أنه يناجي نفسه ويحاور ضميره، لا أنه يقرا قطعة ممتازة لشاعر ممتاز.
نقدم لك منها هذه القصيدة العصماء في روحها ومعناها، وفيما تحمل من أسى وشجى ومن دموع وآلام. هي قطعة تفجرت من نفس ممزقة ونفثة من صدر مصدور عانى تنكر الصديق، وجفاء الناس، وقسوة المرض، وتكالب المصاعب والمصائب. يقول هذا الشاعر وهو على فراش الموت مخاطبا صديقه (أنيس):
أرأيت الصديق يأكله الدا
…
ء ويشوي عظامه المخراق
ماردُ هذه السقام ولكن
…
صبره الجم للضنى دفاق
جف من عدوه الندى فتعرى
…
وتنفت من حوله الأوراق
وذوى قلبه النضير وقد كا
…
ن له في زمانه تخفاق
وأنا اليوم لا حراك كأن قد شد
…
في مكمن القوى أوثاق
بت أستنشق الهواء اقتسارا
…
نفس ضيق وصدر نطاق
وحنايا معروفة وعيون
…
عائرات ورجفة ومحاق
لي رجاء في رحمة الله لما
…
وسعت في الحياة ما لا يطاق
أبو القاسم محمد بدري
مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)
ظرف الفقهاء
(مهداة إلى الأستاذ على الطنطاوي)
للأستاذ علي العماري
تحدث الأستاذ على الطنطاوي في مقالين سابقين نشرهما في مجلة الرسالة عن غزل الفقهاء، وقد أوحى بهما إليه جدل كان بينه وبين أحد المتزمتين الذي ينكرون على العالم أن يطرب ويهتز، ويرون أن من واجب العالم أن يترفع عن الشعر وعبثه. وقد أفاض الأستاذ الطنطاوي - كعادته - فذكر كثيرا من شعر الفقهاء في الغزل، ونشر صحائف طيبة من حيوات هؤلاء العلماء الفضلاء.
وقد رأيت أن لهؤلاء ناحية جديرة بأن يتأملها مثل هذا الرجل الذي يحرم طيبات الفكر على العلماء!
تلك هي ناحية (الظرف). فقد كان كثير من الفقهاء على جلالة أقدارهم، وسمو منازلهم، يهتزون للشعر، وتأخذهم الأريحية عند سماعه؛ وربما صدرت عنهم أشعار فكهة رائعة.
ولعل خير ما نهديه لمثل هذا الرجل هذه القصة:
كان القاسم بن سلام رحمه الله غمام أهل عصره في كل فن من العلم، وكانوا يعدونه أعلم من ابن حنبل والشافعي مع دين وورع، وقد جاءه رجل فسأله عن الرباب فقال هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب
…
نعام تعلق بالأرجل
فقال الرجل لم أرد هذا فقال: الرباب اسم امرأة وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا
…
وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها
…
في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال لم أرد هذا أيضا، فقال لعلك أردت قول الشاعر:
ربابة ربة البيت
…
تصب الخل في الزيت
فقال هذا أردت. قال له القاسم من أين أنت؟ قال من البصرة قال كم أعطيت للملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل له: لم تحمل شيئا فعلام تأخذ الأجرة؟!
فهذا كلام له وزنه في تقدير الرجال؛ وهو جدير بأن نوجهه إلى كل رجل ينكر قيمة الشعر، وينتقص محاسنه.
وإن المتصفح لتراجم العلماء ليرى فيها نفحات أدبية، ولطائف شعرية، تروع وتعجب، ولا يمكن لمثلى في هذا المقام أن يستقصى، وإنما هي نماذج أنشرها وفيها غناء.
كان أبو حازم الأعرج من فضلاء التابعين، وله في الزهد والورع أخبار وأحاديث، وقد خرج يوما يرمي الجمار فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يفي كتابه العزيز (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فقالت: إني من اللائى قيل فيهن:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
…
وألقت على المتنين برداً مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
…
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فقال أبو حازم لصحابه: تعالوا ندع الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها الله بالنار. فجعل أبو حازم يدعو وأصحابه يؤمنون، فبلغ ذلك الشعبي فقال: ما أرقكم يا أهل الحجاز وأظرفكم!! أما والله لو كان من قرى العراق لقال اغربي عليك لعنة الله.
وهكذا تأخذ الأريحية هذا العابد المتزهد فيكون مثلا في رقة العاطفة وتقدير الجمال، فهو لم ينسك نسكا أعجميا، ولا جفا طبعه وغلظ حسه فيغمض عينيه ويسد أذنيه دون هذه البدائع.
وربما بلغ الشعر ببعض الفقهاء إلى أكثر مما نتخيله، ولكنها سجاحة النفس، وقوة تأثير الشعر فيها، قال أصحاب القاضي محمد بن عيسى الأندلسي: ركبنا لبعض الأمر في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل، فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف، فخانته رجلاه واستند إلى الحائط وأطرق. فلما قرب القاضي منه رفع رأسه وانشأ يقول:
ألا أيها القاضي الذي عم فضله
…
فأضحى به في العالمين فريدا
قرأت كتاب الله تسعين مرة
…
فلم أر فيه للشراب حدودا
فإن شئت أن تجلد فدونك منكبا
…
صبورا على ريب الزمان جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لك منة
…
تروح بها في العالمين فريدا
وإن أنت تختار الحديد فأن لي
…
لسانا على مر الزمان جديدا
فلما سمع القاضي شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه.
وقد ذكر صاحب نفح الطيب طرفة أخرى لهذا القاضي الذي عم فضله قال: خرج القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى إلى حضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل يقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاما وغنت له جارية
طابت بطيب لثاتك الأقداح
…
وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه
…
نمت بعرف نسميك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها
…
فضياء وجهك في الدجى مصباح
فكتبها القاضي طربا على ظهر يده. قال الراوي: فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد حدث الأصمعي قال أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:
يا أيها السائل عن منزلي
…
نزلت في الخان على نفسي
يغدو على الخبز من خابز
…
لا يقبل الرهن ولا ينسى
آكل من كيسي ومن كسرتي
…
حتى لقد أوجعني ضرسي
فقال: أكتب لي هذه البيات، فقلت أصلحك الله هذا لا يشبه مثلك وإنما يروى مثل هذا الأحداث قال: اكتبها فالأشراف تعجبهم الملح.
على أن أجمل في هذا الباب هذه القصيدة الفكهة الرائعة التي نظمها قاضي الجماعة بغرناطة، وكان على جانب عظيم من الفقه والدين، وقد صرفها في أغراض كثيرة من الدعابة والظرف فجاءت تحفة رائعة زاد في روعتها وزنها وقافيتها، ذكرها المقري فقال: ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبى عبد الله بن الأزرق وأثبتها كاملة في كتابه النفح وهي ستة وتسعون بيتا ابتدأها القاضي فقال:
عِمْ باتصال الزمن
…
ولا تبال بمَن
ثم شبب فيها فأحسن إلى أن قال:
لا أم لي لا أم لي
…
إن لم أبرد شجني
وأخلعنّ في المج
…
ون والتصابي رسني
وأخذ ينصح صاحبه باتباع نهجه، والسير على سنته، وإلا فهو أحمق مائق.
وإن تسفه نظري
…
ومذهبي وديدني
فالصفع تستوجبه
…
نعم ونتف الذَقن
وجرى ملء عنانه يمزح ويمجن حتى التفت إلى الماضي فبكى عليه وتحسر على أيامه ولياليه.
أفدى صديقا كان لي
…
بنفسه يسعدني
فتارة أنصحه
…
وتارة ينصحني
وتارة ألعنه
…
وتارة يلعنني
وربما أصفعه
…
وربما يصفعني
دهر تولى وانقضى
…
عني كطيف الوسن
يا ليت هذا كله
…
فيما مضى لم يكن
وقد يجد ويقوى ويأتي بالمعنى الفحل، واللفظ المتين.
كأنني ولست أد
…
ري الآن ما كأنني
والله ما التشبيه عن
…
د شاعر بهين
ثم أخذ في تعداد الأطعمة التي يتشهاها بشعر سافر لا مواربة فيه ولا التواء.
هل للثريد عودة
…
إلي قد شوقني
تغوص فيه أنملي
…
غوص الأكول المحسن
وبعد أن أفاض في هذا إفاضة مليحة أخذ يخاطب صاحبه:
إيه خليلي هذه
…
مطاعم لكنني
أعجب من ريقك إذ
…
يسيل فوق الذقن
هل نلت منها شبعا
…
فذكرها أشبعني
وإن تكن جوعان يا
…
صاح فكل بالإذن
فليس عند شاعر
…
غير كلام الألسن
يصور الأشياء وهي
…
أبداً لم تكن
فقوله يربك ما
…
ليس يرى بالممكن
وأظن أننا بعد هذه النماذج في حل بأن نسوق إلى هؤلاء الذين يحرمون علينا طيبات القرائح، وثمرات الأدب، هذا الذي روى عن شيخ من شيوخ قريش وسادتها، فقد سئل أبو السائب المخزمي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
علي العماري
المدرس بالأزهر
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
769 -
يا رب. . .!
نظر ابن السبابة إلى مبارك التركي على دابة فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا رب، هذا حمار، وله ذابة، وأنا إنسان، وليس لي حمار.
770 -
لما رضينا ولغضبنا
في الأغاني: أنشد المهدي قول المؤمل:
قتلت شاعر هذا الحي من مضر
…
والله يعلم ما ترضى بذا مضر
فضحك وقال: لو علمنا أنها فعلت لما رضينا ولغضبنا وأنكرنا.
771 -
وفي جهنم ماء
قال محمد بن مسروق البغدادي: خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغنى بهذا البيت:
بطور سيناء كرْم ما مررت به
…
إلا تعجبت ممن يشرب الماء
فسمعت قائلا يقول:
وفي جهنم ماء ما تجرعه
…
خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعلم والعبادة.
772 -
وإن تركته أخذ في الترهات
ذكر أعرابي رجلا بسوء الأدب فقال: إن حدثته سبقك إلى ذلك الحديث، وإن تركته أخذ في الترهات.
773 -
قد صحح مذهبكم
قال محمد بن هلال الصابي: خرج قوم من الديلم إلى اقطاعهم فظفروا باللص المعروف بالعراقي فحملوه إلى الوزير المهلبي فتقدم بإحضار أحمد بن محمد القزويني الكاتب وكان ينظر في شرطة بغداد فقال له المهلبي: هذا اللص العيار العراقي الذي عجزتم عن أخذه
فخذه واكتب خطك بتسلمه.
فقال السمع والطاعة إلى ما يأمر به الوزير، ولكنك تقول ثلاثة وهذا واحد فكيف أكتب خطى بتسلم ثلاثة.
فقال: يا هذا. هذا العدد صفة لهذا الواحد، فكتب يقول: أحمد بن محمد القزويني الكاتب: تسلمت من حضرة الوزير، اللص العيار العراقي ثلاثة وهم واحد رجل، وكتب بخطه في التاريخ. فضحك الوزير وقال لنصراني هناك: قد صحح القزويني مذهبكم في تسلم هذا اللص.
774 -
أسأل الله أن يديم لنا بقاء ك
روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار:
أمر عبد الله بن الزبير لأبي الجهم العدوى بألف درهم فدعا له وشكر فقال: بلغني أن معاوية أمر لك بمائة ألف درهم فسخطتها وقد شكرتني.
فقال أبو الجهم: بأبي أنت! اسأل الله أن يديم لنا بقاءك فأني أخاف عن فقدناك أن يمسخ الناس قردة وخنازير، كان ذلك من معاوية قليلا وهذا منك كثير، فأطرق عبد الله ولم ينطق.
775 -
طلبناه في النهار فما وجدناه
دخل اللصوص على أبي بكر الدبابي يطلبون شيئا فرآهم يدورون في البيت.
فقال: يا فتيان. هذا الذي تطلبونه في الليل قد طلبناه في النهار فما وجدناه.
776 -
قد سحرتني
الخصائص لابن جني: الأخبار في التلطيف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من يؤتى عليها، إلا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة.
فقال المسئول: إن علي يمينا إلا أفعل هذا.
فقال له السائل: إن كنت (أيدك الله) لم تحلف يمينا قط على أمر فرأيت غيره خيرا منه فكفرت عنها له وأمضيته، فما أحب أن أحنثك، وأن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك.
فقال له: قد سحرتني. وقضى حاجته.
777 -
جيش بأبي
ضرب الحجاج البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان فكانت المرأة تجئ إلى ابنها وقد جرد فتضمنه إليها وتقول: (بأبي) جزعا عليه، فسمى ذلك الجيش (جيش بأبي) وأحضر ابن عبدل فجرد أعرج فأعفى فقال في ذلك:
لعمري لقد جردتني فوجدتني
…
كثير العيوب سيئ المتجرد
فأعفيتني لما رأيت زمانتي
…
ووفقت مني للقضاء المسدد
778 -
لما التقينا مات الكلام
أبو محجن حبيب بن عمرو الثقفي:
لما رأينا خيلا محجلة
…
وقوم بغى في جحفل لجب
طرنا إليهم بكل سلهبة
…
وكل صافي الأديم كالذهب
وكل عضب، في متنه أثر
…
ومشرفي كالملح ذي شطب
لما التقينا مات الكلام ودار
…
الموت دور الرحى على القطب
إن حملوا لم نرم مواضعنا
…
وإن حملنا جثوا على الركب
779 -
فأين الحس
قال دهمان الغلال: مررت ببشار يوما وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق، وبيده مخصرة يلعب بها، وقدامه طبق فيه تفاح وأترج. فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه، فجئت قليلاً قليلاً وهو كاف حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب فضرب به يدي ضربة كاد يكسرها.
فقلت: قطع الله يدك أنت الآن أعمى؟
فقال: يا أحمق، فأين الحس؟
780 -
فهم لذلك مستأهلون
محاضرات الراغب:
قال ابن سيرين: مكتوب في كتاب سوء الأدب: إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما يأكلون،
وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون، فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون.
781 -
ما بقي معه شيء
الفهرست لابن النديم: سعيد بن حميد كاتب شاعر، مترسل عذب الألفاظ مقدم في صناعته، جيد التناول للسرقة، كثير الإغارة. قال أحمد بن أبي طاهر: لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك ما بقى له شيء.
الجرجاني:
لو نقضت أشعاره نفضة
…
لانتشرت تطلب أصحابها
782 -
أنت أسد فاطلب لنفسك لبوة
قال الفضل بن محمد الضبي: حدثنا بعض أصحابنا أن جارية لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ذات ظرف وجمال مرت برجل من بني سعد - وكان شجاعا فارسا - فلما رآها قال: طوبى لمن كان له امرأة مثلك، ثم انه أتبعها رسولا يسألها ألها زوج؟ ويذكره لها؟
فقالت للرسول: ما حرفته؟
فأبلغه قولها. فقال: ارجع إليها فقل لها:
وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي
…
مقارعة الأبطال في كل شارق
إذا عرضت لي الخيل يوما رأيتني
…
أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي
وأصبر نفسي حين لاحر صابر
…
على ألم البيض الرقاق البوارق
فأنشدها الرسول ما قال. فقالت: ارجع إليه وقل له: أنت أسد فاطلب لنفسك لبوة فلست من نسائك.
783 -
عقلنا حين ليس لنا فضول
جعفر المعبدي:
وكان المال يأتينا فكنا
…
نبذره وليس لنا عقول
فلما أن تولى المال عنا
…
عقلنا حين ليس لنا فضول
من الأدب الغربي:
في مقبرة ريفية. .!
لتومانس جراي بتصرف
للأستاذ محمد رجب البيومي
الظلام الرهيب يطغى على الكو
…
ن كجيش يسد عرض الفضاءِ
حام فوق القبور يُرخى سدولاً
…
حجبتْها فما تلوح لرائي
حيث أصحابها يتيهون في النو
…
م سكارى كشاربي الصهباءِ
سئموا ظلمة القبور فحلَّت
…
ظلمة الليل فوقها كالوباء
لا يرون الضياء يبدو مع الشم
…
س وضيئا كطلعة الحسناءِ
لا ولا البدر حين يشرق في الأ
…
فق على الكون نائبا عن ذُكاءِ
يوقط الديك كل غافٍ على الأر
…
ض وهمْ مثل الصخرة الصمّاءِ
لا حنين الناعورة الحلو يشجيه
…
م وإن هزَّ مسمع الجوزاء
لا نسيمُ المراوح العذبُ غادٍ
…
حين يحمى الهجير في الرمضاء
لا ولا الموقد الدفئُ يسرّي
…
عنهمو ما جناه برد الشتاء
كل هذا قد شاهدوه عيانا
…
حين كانوا في عالم الأحياء
هذه الأرض منذ عهد قريب
…
لم تكن غير بقعة جرداءِ
فمشى القُّوم بالمحاريث والفأ
…
س يشقونها بكل اعتناء
يبذرون النبات فيها جنيناً
…
ثم يعطونه شهى الغذاء
فإذا الأرض بعد وقت يسير
…
تتراءى كجنة فيحاءِ
وْيحها لم تَصُنْ جميلا فألقتْ
…
أهلها في قرارة الظلماء
ثم عادت فبدَّدّتهمْ جميعاً
…
لم يكن عندها أقل الوفاء
رب شيخ قضى الحياة مع الر
…
يف إلى أن مضى على الحدباء
كان جمّ الذًّكاء لكن أتى الحق
…
لُ على ما في رأسه من ذكاء
آه لو كان قد تعلمَّ حتى
…
يرفع العلم قدره في السماء
علَّه مثل شكسبير نبوغا
…
أو كملتون سيد الشعراء
فهو كالدرة الثمينة ضاعتْ
…
في القرار السحيق تحت الماء
أو كزهر نما بعيداً عن النا
…
س فولَّى عبيره في الهواء
قُتلَ الحظ كيف حارب ذا العق
…
ل وأرخى العنان للأغبياء
ها هو المضجع الوثير مهَّيا
…
للذي يستريح بعد العناء
هو كالواحة الخصبة يسعى
…
نحوها من يضيق بالصحراء
حلَّ فيه جماعة ما استفادوا
…
من لذيذ الحياة غير الغثاء
لا الوسام الأنيق يسطع في الص
…
در جميلا كبسمة العذراء
لا النياشين ضاحكاتٌ عليهم
…
كأزاهير روضةٍ غنَّاء
رُبَّ ذي رُتبةٍ أحالته وحشاً
…
مجرماً لا يمل سفك الدماء
كان من قبلها ملاكا وديعاً
…
فغدا مثل حيَّة رقطاء
خبّروني ماذا يلوح لعيني
…
فوق تلك المقابر الخرساء
كل قبر عليه لوحٌ عريض
…
مُثقلٌ بالنعوت والأسماء
ينظر الزائر المحبّ إليه ثم يبكى
…
على الحبيب النَّائي
كم ثكول أتتْ تزور ضريحاً
…
قد ثوى فيه صفوة الأبناء
وصديق يصيح أين صديقي
…
كيف أرنو لوجهه الوضَّاء
يقرأ اللوحَ ما على اللوح إلا
…
جمراتٌ تشب في الأحشاء
ليت شعري ماذا سيكتب عنى
…
حين أغفو في باطن الغبراء
سيقولون عاشق ضَّيع العمر
…
وراء الطبيعة الحسناء
يجتلى حسنها الأنيق طروباً
…
حيث تبدو في بهجةٍ ورواء
في ابتسام الصباح إذ يتجلى
…
في احمرار الأصيل عند المساء
في شطوط البحار والماء ساج
…
في المروج الفسيحة الخضراء
تخذ الكون مسرحاً يتسلَّى
…
فيه عمَّا به من الأدواء
لا ينال القوت الضروريّ إلا
…
بشقاءِ ما بَعده من شقاء
قطع العمر في الحياة فقيراً
…
مثل باقي أفرادها الفقراء
يبذل الدمع للمساكين حتى
…
لم تعدْ في عينيه قطرة ماء
لم تُنله الحياة غير صديق
…
كان في لُيلها كبدر السمَّاء
كان ريحانة الفؤاد ولكن
…
وْيلتا! قد مضى لدار البقاء
محمد رجب البيومي
رباعيات عثمان.
. . .!
للأستاذ عثمان حلمي
آذنتْ آيةُ الدجى بالزوال
…
وسرى كالمنى نسيم الشمال
حاملاً للحياة نفحاً من العط
…
ر وروحاً جديدة الآمال
مُعلنا في براءةٍ آية الفج
…
ر كما في براءة الأطفال
وكأن النجوم حيرى وقد أد
…
ركن في صمتهن قربَ المآل
وبدا الصبح ساكناً في ظلال
…
من جلال عجيبة الأشكال
رافعا رأسه المضيئة في الكو
…
ن على كل مستقرْ وعال
ساحباً ذيله على النجم حتى
…
لم يدعْ منه غير مثل الذبال
فتوارى من السماوات نجمٌ
…
سار في إثره من النجم تال
وتجلت على الربى والمروج
…
لمحات من الصفاء البهيج
فعلى جانب السماء من الشر
…
ق شبيهٌ بالنار ذات الأجيج
ذات لونُ موردّ أَرجوا
…
نيٍ وروحٍ في الشمْ ذات أريج
هتفتْ بالرجاَء همساً بذات ال
…
صدْع لما هفت بذات البروج
ورنا حاجب من الشمس ساج
…
صامتٍ في لهيبه الوهَّاج
فتراءى لكل عين على الأف
…
ق منيراً كشعلة من سراج
واستحالت لآلىُّ الطلَّ في الدو
…
ح إلى محض سائل رجراج
وسرتْ موجة من النور يتلو
…
ها سواها من هذه الأمواج
صورة إثر صورة تتوالى
…
شهد الطير حسنها أشكالا
فتغنى ما شاء للصبح إكبا
…
راً وغنَّى لنوره إجلالا
وأفاق الإنسان من موته الأص
…
غر واستقبل الحياة نضالا
فمضى في طلابه الرزق يسعى
…
وتمادى ضجيجه وتعالى
وبدا في الحياة يوم جديدُ
…
صارمٌ وجهه الجديد المجيدُ
كلما عجَّ في الوجود على الصم
…
ت على الصمت عج فيه الوجودُ
وتجلى النهارُ واستعلت الشمس
…
وكدَّ الشقيُّ والمجدودُ
ومن الغيب خلفه وهو يجرى
…
كيفما كانت الحياة شهودُ
ومضى في الزمان هذا النهار
…
وتوالت بما جنى الأخبارُ
وطوى الغيب صفحة في سجل
…
سطرته بكفَّها الأقدار
ولكم أضمرت سواها من الما
…
ضي ومرَّت فما لها آثار
هكذا فات ذلك اليومُ في العم
…
ر وفاتتْ بمثله الأعمارُ
ما ترى الشمس بعد طول اللغوب
…
كيف مالت هزيلة للمغيب
وهي تهوى بين السحاب إلى البح
…
ر وتخطو إليه خطو الهيوب
وكأني بها على الدهر ملَّتْ
…
سعْيَها بين جيئة وذهوب
صورة لو فطنتَ تأخذ بالأل
…
باب من حسنها العجيب المهيب
صورة تلك نمّقتها السماء
…
كم تغنى بحسنها الشعراءّ
فلقد تبعث السرور وقديها
…
تاج منها لدى الشجيَّ البكاء
والتقى البحر بالسماء مع الشم
…
س ولكن هيهات هذا اللقاء
خدعة في العيون أم ضلت الأب
…
صار أم قد أصابها إعياء
ها هي الشمس مسَّت الأفق مساً
…
وارتضى قرصهُا من البحر رمسا
فهوى فيه صامتاً وانتهى الأم
…
ر فما تستبين في الكون جرسا
غير همس في الأذن لم تدر معنا
…
هـ وخافٍ في النفس يهمس همسا
ربما مال بالنفوس إلى اليأ
…
س وإن لم تصب من العمر يأسا
ها هي السحب بين بيض وحمر
…
رابضات وبين دُكن وصُفر
لوَّنتها كما تشاء يد الغي
…
ب ولم تستعن بدهن وحبر
فتوالت شتى المناظر حتى
…
لم تقع مقلة على مستقر
يا لها من يد أجادت لعمري
…
ما أجادته بين طي ونشر
فوداعاً أيا رفاق شبابي
…
ووداعي الأخير يا أحبابي
ربما دارت الليالي علينا
…
فالتقينا من بعد طول اغتراب
إنما نلتقي شخوصاً سوى أش
…
خاصنا من بعد هذا الغياب
بدلتنا يد الزمان سوانا
…
إن قضت بعد غيبة بالإياب
لم هذا التغير والتبديل
…
وإلام التحوير والتحويل
فجسوم على المدى وعقول
…
ونفوس على الليالي تحول
كل حب إلى زوال وان جد
…
لعمري وكل حسن يزول
ما نجا الميت الجماد ولا الح
…
ي ولا سالم ولا معلول
لم لا نلتقي لغير فراق
…
ربما شاقنا لغير تلاق
ما لنا من يد على البعد والقر
…
ب وكل الأمور محض اتفاق
لم هذا والعمر يوم إذا ما
…
طال بين الغروب والإشراق
طال مني على الحياة سؤالي
…
لم لا نلتقي لغير فراق
عثمان حلمي
البريد الأدبي
معهد الفقه الإسلامي للجامعة العربية:
قدم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري باشا رئيس اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية مذكرة للأمانة العامة للجامعة يقترح فيها إنشاء معهد للفقه الإسلامي تنفيذا للرغبة التي أبداها مؤتمر الجمعية المصرية للقانون الدولي.
وقد صدرت المذكرة بمقدمة عن الغاية من إنشاء المعهد أشارت إلى مكانة الفقه الإسلامي بين النظم القانونية العالمية، وأنه لا يقل في قوة السبك، وحسن الصياغة، وسمة المنطق، ودقة التحليل عن الفقه الروماني أو الإنجليزي، وهو فوق ذلك التراث القانوني للشرق العربي. ثم أشارت إلى حركة الاجتهاد والى أقفال بابه والحكمة منه، وقالت انه كان على الفقه بعد ذلك أن يستكمل حظه من الاستقرار بعد أن استوفى نصيبه من التطور ولكن هذه الحال لم تبق إلا إلى حين إذ لم يلبث الزمن أن دار دورته وتابع السير إلى الأمام. هذا والفقه الإسلامي واقف والعالم يمشي، ثم انفجرت مسافة الخلف بين الفقه والحاجات المتجددة حتى أصبح من العسير على الأمم العربية في العصر الحاضر أن تستبقي الفقه مادة تستقي منها قوانينها الحديثة وقد أخذت هذه الأمم تهجر الفقه الإسلامي فعلا ولجأت إلى القوانين الغربية المتطورة التي تماشي مدنية العصر.
ومن هنا نشأت أزمة الفقه الإسلامي منذ أول القرن التاسع عشر وهي أزمة تحتاج إلى علاج طويل حتى يعود إلى الفقه الإسلامي مجده الأول بشرط أن تبدأ من الآن في أيجاد بيئة تعاد فيها دراسة هذا الفقه الجليل وتتحقق هذه البيئة بإنشاء معهد للفقه الإسلامي.
أما الوسائل التي يتذرع بها المعهد لتحقيق الغرض منه فيقترح أن تكون بإنشاء المعاهد الآتية:
أولا - معهد تدريس يمنح الشهادات والدبولمات الجامعة يلتحق به الحاصلون على ليسانس الحقوق من إحدى الجامعات العربية.
ثانيا - معهد لتكوين الباحثين في الفقه الإسلامي على الأسلوب الإسلامي العلمي الحديث ويكون بتخصيص جواز دراسية للنابغين من الطبلة المتخرجين في المعهد الأول.
ثالثا - معهد للبحوث الفقهية العالية يضع فيه الأساتذة مؤلفات حديثة ويرتبون الكتب
القديمة ترتيبا علميا.
رابعا - معهد لنشر المخطوطات من كتب الفقه التي لم تنشر لليوم.
خامسا - معهد يضم مكتبة جامعة في الفقه الإسلامي تشتمل على المؤلفات الفقهية القديمة والحديثة.
وينبغي أن يلحق هذا المعهد كله بإحدى جامعات الدول العربية حتى يتسنى له منح الشهادات والدبلومات، وأفضل هذه الجامعات في الوقت الحاضر هي جامعة فؤاد الأول لا سيما وأن كلية الحقوق بها قد نظمت دراسة في الفقه الإسلامي.
ويقترح أيضاً أن يكون للمعهد عندما يستكمل نموه ستة كراسي: اثنان للفقه الإسلامي واثنان للقانون المقارن وكرسي لتاريخ الفقه الإسلامي وكرسي لأصول الفقه.
هي للجاحظ وليست للعسكري:
نقل حجة العرب النشاشيبي في (نقله) البليغة الحكيمة بالعدد 675 من مجلة (الرسالة) الغراء عن كتاب الصناعتين لأبى هلال العسكري هذه العبارة:
(قد رأينا الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي (والحذف) وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطا).
وهذا القول ليس من كلام العسكري وإنما هو من إنشاء الجاحظ وأسلوبه، وقد أورده في الجزء الأول من كتاب الحيوان ص46 (طبعة الساسي) ثم نقله العسكري من غير أن يعزوه إلى صاحبه كعادته في كثير مما نقل في كتابه.
وإنصافا لأبي عثمان - الذي كان أول من نبه على هذا المعنى - رأينا أن نصحح ما جاء بكتاب الصناعتين، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة) الغراء.
محمود أبو ربة
إصلاح:
في الكلمة (كتاب أحمد شاكر الكرمي) الرسالة 677، ص697 س8:(قالها منذ أربع وثلاثين سنة) صوابها: (قالها منذ إحدى وثلاثين سنة)
القصص
كلوديت. . .
للأستاذ نجاتي صدقي
كان يلذ لسعيد وهو في باريس أن يتنزه في كل عصر على الرصيف المحاذي لنهر السين بالقرب من نوتردام دي باري، وكانت رفوف الكتب القديمة المعروضة للبيع على حائط النهر الجنوبي تجذبه إليها، وتأخذه بروائعها التاريخية والأثرية والفنية.
ووقف مرة عند أحد تلك الرفوف يقرأ عناوين كتبها، وكان غواة الكتب القديمة، والرسوم التاريخية يقفون إلى جانبه أيضا، يتصفحون المجلدات وينعمون النظر في الصور الهزلية والفنية، فإن راق لهم شيء وإلا انتقلوا إلى رفوف أخرى يبحثون وينقبون.
وبينما كان سعيد مستغرقا فيما هو به، إذا بمجموعة من الكتب تنهار إلى جانبه وتتبعثر صوت نسوي يتمتم متأسفا، فالتفت إلى يسراه، فوجد فتاة فرنسية ترفع الكتب عن الأرض وتعيدها إلى مكانها، وكان الواجب يدعوه إلى مساعدتها، فراح يجمع ما بعثرته، وكانت هي تشكره مبتسمة، وكان هو يجيبها مبتسما بان لا شيء يستحق الذكر.
وبعد أن أعادا الكتب إلى مكانها، لمح الشاب أن الفتاة أبقت بيدها كتابا قرأ على غلافه (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو.
فقال لها بلهجة لا تخلو من الاستغراب: عفوا أيتها الآنسة أهذا هو الكتاب الذي كنت عنه تبحثين؟
قالت: أجل. . .
قال: أتهمك مثل هذه المواضيع؟
قالت: تهمني جدا. .
قال: ولكن الموضوع شائك. . . ويخيل إلى أن الفتيات لا جلد لهن على مطالعة الكتب المرهقة للدماغ.
قالت: هذا خطأ شائع. . نحن في فرنسا نطالع كل شيء، نطالع كل ما يطالعه الرجل. . ونفعل كل ما يفعله، ولا ينقصنا إلا حرية الانتخابات.
وإذ رأى سعيد أن الفتاة مثالية جريئة متوثبة انتظر حتى ابتاعت الكتاب وهمت بالذهاب
فاقترب منها، وقال بصوت خافت:
- ألدى الآنسة أي مانع للتعرف إلى شاب شرقي؟
فأطرقت الفتاة قليلا، ثم رفعت رأسها وحملقت في وجهه وقالت:
- إذا كان هذا التعارف يرضيك، فليكن، اسمي كلوديت رانجون تلميذة في المدرسة الطبية.
قال: ولي الشرف بأن أقدم لك نفسي: أنا سعيد اللبان. من الشرق. وأقطعن باريس مؤقتا.
وسارا معا بمحاذاة نهر السين إلى أن عبرا الجسر المؤدي إلى اللوفر ومنه إلى حديقة التويللري، فتجولا في دروبها بين الزهور والرياحين وكانا يتنقلان في حديثهما من موضوع إلى آخر، إلى أن قالت الفتاة في معرض كلامها عن جان جاك روسو ونظرياته إلى أودعها في (العقد الاجتماعي).
- أجل. . . يجب أن نعود إلى أمنا الطبيعة. . . ألا تكفى خيرات الأرض لإعاشة الناس؟. . . وما الأفضل للمرء: أأن يعيش في جو خانق من دخان المصانع والمعامل، أم أن ينشئ بيته في الغابات الواسعة، ويستنشق الهواء الطلق، ويشرب المياه العذبة، وينام وينهض على تغريد الطيور؟
قال: أتعنين بذلك إقامة مخيمات؟
قالت: كلا إنني أعني إعادة تنظيم معيشة الناس طبقا لحياتهم الفطرية الأولى، ولكن على مستوى عال من العلم والثقافة.
ثم أخذت تقنعه بأن الإنسان جبل من طينة طيبة، غير أنه في مراحل تطوره خرج عن اتجاهه الطبيعي وأساء التصرف بما محته إياه الطبيعة من خيرات وغدا مخلوقا شاذا أنانيا جائرا، وخلصت إلى القول بأن البشرية لن تجد الراحة والطمأنينة إلا بوضع عقد اجتماعي يكفل للناس حقوقهم.
أخذ المساء يسدل ستاره على باريس وبدأت العاصمة الفرنسية تبدو رويدا رويدا بلباس السهرة المحلى بالألوان الزاهية، وكانت الأرض تلفظ جماعات من الناس عائدين إلى بيوتهم، وتبتلع غيرهم ممن يسكنون الضواحي. . ولما بلغا في مسيرهما خطة مترو (الأوبرا) قالت له كلوديت: إلى هنا ينتهي بنا المطاف. . استودعك الله.
قال: عفوا. . لقد شوقتني بحديثك عن حياة الغابات، أفلا تعرفين غابة بالقرب من باريس
تكون بمثابة نموذج صغير للمكان الطبيعي الذي تودين المعيشة فيه؟. . . .
قهقهت كلوديت وقالت:
- بلى. . . أعرف غابة (كلامار). . .
قال: هل لنا أن نتنزه فيها يوم الأحد؟
فهبطت الفتاة درج المترو وقالت (انتظرني يوم الأحد الساعة العاشرة صباحا عند مدخل محطة (مونبارناس) ومنها سنذهب إلى (كلامار) فإلى اللقاء. . .
أي شعور غريب يستولي على المرء إذا ما ولج الغابة؟. . . طرق سعيد وكلوديت غابة (كلامار) فكانت الأشجار الباسقة تحجب عنهما نور الشمس، ما خلا خيوط لها ألوان قوس قزح تسربت من خلال الأغصان، وأنارت الدغال التي سقطت عليهما وساعدتهما على اجتياز دروب الغابة المعوجة وشعاب مسالكها الضيقة. . وكانت الغربان تنعق هنا وهناك وهدير المياه يصل إلى مسامعهما، فيحمل لهما الهواء في طياته رذاذها المنعش، وكان حفيف الشجر يبدو لهما كما لو أن رتلا من السيدات يسرن بالقرب منهما وهن يجررن أذيال أثوابهن. . . ما هذا الجو الساحر الذي يكتنف سعيداً؟ وما هو هذا الدغل الرائع الذي سلبه عقله؟
وبعد أن استراحا قليلا على الحشائش الأبدية الاخضرار، بادرت كلوديت سعيدا قائلة: (كيف تشعر الآن؟ إلا تفضل المقام في هذا المكان على أي نزل في الحي الثامن من أحياء باريس؟
لم يحر الفتى جوابا وإنما استغرق في تأملاته، وكان يحس بوجل لا يدري سببه، فالأشجار المحيطة به، واحتجاب النور عنه إلا ثلاثة خيوط ملونة اخترقت الدغل الذي هو فيه، ونعيق الغربان فوق رأسه، ورطوبة المكان الذي يحف به، وحفيف الأغصان الذي يهدهد مسمعيه، كان لهذه العوامل كلها أثرها في نفسه، فتذكر الجنة، وتذكر آدم وحواء، فالتفت إلى كلوديت فوجدها قد أسندت رأسها إلى الشجرة وعلى ثغرها ابتسامة الرضى.
انقضى النهار، وحل المساء، فأقفرت الغابة من المتنزهين وركنت الطيور إلى أوكارها، وأرخى الليل سدوله، فلم ير الفتى والفتاة من النور إلا ما كان يشع من أعينهما، ولم يسمعا من الأصوات إلا ما كانا يصدرانه من نفثات، ولم يجدا شيئا يدرأان به عن نفسيهما برد
الليل إلا ما كان يجري في عروقهما من دم متدفق مشبع بحرارة الشباب.
ثم عادا إلى باريس، وقد تأبط سعيد ذراع كلوديت، وأسندت هي رأسها إلى رأسه، وكانت تحدثه عن الحب الخالد، وارتباط القلوب الأزلي، وكان هو يؤكد لها ذلك أيضا، ويشكر المصادفات التي أدت إلى تعارفهما والجمع بينهما.
ولما أخذا مكانيهما في القطار، قال لها الفتى على حين غرة: لقد نسيت منهجك في الغابة. .
قالت: وأي منهج تعني؟
قال: كتاب (العقد الاجتماعي).
قالت: شيء تافه. . وإني لأرى يا حبيبي الآن أن أقر لك بحقيقة الأمر. . . إنني لست من أتباع روسو ولا غيره. . رأيتك تقف عند بائع الكتب القديمة فرأيت في ملامح وجهك بأنك من أهل الشرق الذين تكتنف نفوسهم الغموض والأسرار. فهذا الشعر الأسود وهاتان العينان البراقتان، وهذان الحاجبان المقطبان، وهذا الأنف القوقاسي، وهذه الذقن المعوجة، وهاتان الشفتان المنفرجتان. . . وهاتان الوجنتان البارزتان. . . كل هاذ ما حدا بي لكي أتحرش بك. . . أما كتاب روسو فقد وقع في يدي مصادفة وكان من حسن حظي أنني عرفت عنه شيئا. . . والآن دعنا من هذه القصة فانك لي أفضل من كل العقائد. . أنت لي إلى الأبد. انس هذا الحادث. . . لقد نسيت أنا أهلي من أجل الحب!. . .
وبلغا باريس وافترقا على أن تزور كلوديت سعيدا في فندقه في مساء اليوم التالي.
لم يدر سعيد ما الذي حدث له في تلك الليلة، فقد كان قلقا وكانت نفسه مضطربة، وكان في حيرة من عبث هذه الفتاة الباريسية بالمبادئ والعقائد وما إن طلع النهار حتى رحل من الفندق إلى غيره. . وقال لصحابه (قل لمن يسأل عني بأنني عدت إلى الشرق). .
وبعد مرور شهر على هذا الحادث، مر سعيد برفوف الكتب القائمة على ضفة السين بالقرب من جسر سان ميشيل فشاهد منظرا مروعا.
شاهد شابا شرقيا يساعد كلوديت في جمع كتب تناثرت على الأرض. . .
نجاتي صدقي
الكتب
سقطت في الانتخابات. . .
تأليف الأستاذ حنفي محمود جمعه
بقلم الأستاذ صديق شيبوب
لا أدري، أأواسي الأستاذ حنفي محمود جمعه لفشله في الانتخابات أم أهنئه لأجله. أما المؤاساة فللجهد الذي بذله ولم يثمر، وللمال الذي أنفقه ولم يفد، وللآمال التي عقدها حينا فتبددت. وأما التهنئة فلأنه خرج من المعركة الانتخابية التي خاض غمارها في أواخر سنة 1944 بكتابه الناجح (سقطت في الانتخابات) ولولا فشله في تلك الانتخابات لما كتبه، فلعله كان يتحرج من كشف النقاب عن دخائلها، وعما يجري فيها من أمور مخالفة للقانون، وعن الوسائل التي يتذرع بها المرشحون للفوز، وعن الوسطاء من المرتزقة الذين ينتهزون الفرصة ليبتزوا المرشح. وعن الناخبين من الجهال الذين يتقاضون ثمن أصواتهم، وعن رؤساء النقابات ومشايخ الحارات الذين يقدمون عددا معينا من الناخبين. . إلى غير ذلك مما تجده مفصلا في الكتاب.
وقد عرف الأستاذ حنفي محمود جمعه كيف ينسق الحوادث وكيف يرويها حينا في سذاجة مقصودة، وكيف يحللها أحيانا في تفكير صحيح مستقيم، وكيف يستخلص طورا العظات البالغة من تقلباتها، وكيف يترك طورا للقارئ أن يتولى بنفسه استخلاص تلك العظات.
والحق أن الكتاب ملئ بالدروس القيمة التي يجب أن نتدبرها لأنه يعالج ناحية هامة من حياتنا القومية، ويقدم صورة ملموسة للانتخابات التي تجري بين ظهرانينا، ويصف العوامل المحلية التي تؤثر فيها. ولا شك أن العوامل التي تؤثر في الانتخابات متعددة الوجوه متبدلة الأنواع، تختلف باختلاف البيئات والبلدان والشعوب.
ويكفي أن نعرف أنها عند جميع الأمم تكلف مبالغ باهظة من المال لنقدر تلك العوامل الكثيرة، فالإعلانات والحفلات والرحلات وما إليها من أنواع الدعايات التي تستدعي نفقات طائلة لا يستطيع أن يتكبدها جميع الناس أو جميع الأحزاب.
فإذا تجاوزنا هذه العوامل المادية إلى العوامل الأدبية والاجتماعية اضطرنا الحديث إلى
التنويه بصفات المرشح التي تجعله محبوبا من ناخبيه مرغوبا فيه، والى الإشارة إلى نفوذه في الدائرة التي يتقدم فيها وعصبيته وجاهه. . كل هذا يحملنا على التقدير بأن الانتخابات التي تبدو حرة لأول وهلة أي أنها حرة من تداخل السلطات الحاكمة وفرض نظرياتها وأغراضها على الناخبين تظل خاضعة لمؤثرات خارجية واسعة النطاق، ولعوامل مختلفة يصعب تحديدها ويجعلنا نعنى في بعض الأحيان بالتفاوت بين النائب وبين المهمة القومية التي يضطلع بها.
فإذا عدنا إلى العوامل المحلية، وجدنا أن بمصر قلما يقبل العقلاء على الانتخاب لسبب ذكره المؤلف، ولا شك أن الوعي القومي يزداد انتباها بنسبة زيادة المتعلمين وأخذهم أنفسهم بالواجب الذي يمليه عليهم هذا الوعي بأن يتقدموا لصناديق الانتخاب، وأن يفهموا أن ذلك فرض قومي لا مناص لمواطن حري بهذا الاسم من تأديته.
ولا أريد أن أطيل الحديث في هذا الباب مما يوحيه كتاب الأستاذ حنفي محمود جمعه، ولكني أردت أن أشير إلى العيوب التهجين تعترض الانتخابات لتداركها وإصلاحها.
فإذا عدنا إلى في الكتاب وجدنا أن الصورة التي يجلوها للحوادث كاملة في مجموعها طيبة التناسق بين أجزائها حتى ليصح أن نقول إن كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة من أجمل القصص لا تنقصها قوة البناء وجودة الربط بين الأجزاء ومتانة التأليف. وهو أيضاً قصة من قصص المغامرات فيها الأخذ والرد والكر والفر، والصراحة والحيلة. وفيها تحليل لشخصيات عديدة ممن لقيهم المؤلف، وممن عرضوا عليه خدماتهم، وممن قصد إليهم، وكل هؤلاء من طبقة الشعب، القليل منهم من أنصاف المتعلمين وأغلبهم من الجهال، وفيهم المخلص والماكر والمحتاج، وفيهم ثرى الحرب الجاهل، وفيهم النفعي المتقلب، وفيهم الزعيم الذي يحتاج لممالأة السلطات المحلية لتدعيم نفوذه، وفيهم (الفتوة) الذي ينبغي الشغب، ويدع شجاعته وباسه في خدمة من يدفع ثمنها.
وفي الكتاب صور شتى للتفكير الشعبي الساذج وهو أحيانا تفكير سليم. فهذا أستاذ بمدرسة أهلية يعلم تلاميذه الهتاف بحياة المرشح الذي يؤيده، لأن من عادة الصغار أن يرددوا في منازلهم الأناشيد والهتافات التي تعلموها بالمدرسة، وهكذا يؤثرون على آبائهم وذوي قرابتهم. وكذلك يطوف صبية يوم الانتخابات هاتفين لأحد المرشحين ليؤثروا في الناخبين
الأميين الذاهبين إلى الانتخاب فيؤدوا صوتهم للاسم الذي تردد بآذانهم وعلق بأذهانهم في آخر لحظة، وتسير حوادث القصة في لين وهوادة، فمن تفكير في الترشيح، إلى دفع تأمينه، إلى خوض المعركة الانتخابية، وهي معركة كلامية في الخطب التي تلقى، وفكرية في تدبير وسائل الدعاية، ومادية من حيث إنفاق المال وبذله عن سعة، وواقعية من حيث تحدي المزاحمين وإثارة الشغب عليهم وعلى أنصارهم. . إلى غير ذلك مما كان يثور الأستاذ حنفي عليه في دخيلة نفسه، لأنه محام ومن رجال القانون الذي يأبون إلا ما يسيغه، ولكنه كان يضطر مرغما إلى الخروج عليه تحت تأثير أنصاره وردا لحملات منافسيه. ولعله كان يكثر من إلقاء الخطب لأنه قدير عليها بحكم مهنته، وقد شاء أن يتحدى مزاحميه في هذا المضمار، فنشر في الصحف يدعوهم إلى النزال فيه (تعالوا اخطبوا إذا قدرتم واعرضوا معي صحائفكم وما أنتم بقادرين) ولكنه ظهر بعد ذلك أن الأصفر الرنان في تعبير القدماء، وأوراق النقد المتداولة بلغة هذا الزمان، أبلغ حجة وأجلى بيانا من بلاغة المنطق وفصاحة اللسان.
وفي كتاب (سقطت في الانتخابات) غير هذا وذاك من صور سكندرية شعبية بحتة استطاع المؤلف أن يبرزها في الإطار الخليق بها.
هذه العناصر التي عددناها تجعل من كتاب (سقطت في الانتخابات) قصة كاملة كما قلنا، قصة مغامرات واقعية لأنها مستمدة من صميم الحياة، وقد عاش المؤلف حوادثها، وعاش أمثالها غيره من زملائه الذي أنفسهم في الانتخابات. وفي واقع الحياة من المغامرات ما لا يصل إليه خيال القاص البارع.
كان يتراوح في ذهني وأنا أطالع هذا الكتاب ذكرى الجهاد الأدبي الذي حمل رايته بالإسكندرية نفر من الشباب في أوائل عهد (جماعة نشر الثقافة) أي منذ أكثر من اثنتي عشر سنة أو يزيد. وقد تخلف البعض بعد ذلك منصرفين إلى أعمالهم واستمر البعض الآخر بحكم المهنة، وعرف غير هذين الفريقين كيف يوفق بين عمله وبين الاشتغال بالأدب. وكان ولا يزال من هذا الفريق الأخير الأستاذ حنفي محمود جمعه، فهو المحامي الذي تقدر مواهبه دائر القضاء وتظهر مهارته في جلسات المحاكم وهو كذلك الأديب المتمكن الذي كانت له جولات موفقة في الأقصوصة، والذي كانت له مكانته بين زملائه
من أعضاء تلك الجماعة. ويعرف أخصاؤه لأنه ظل مخلصا للأدب، وفيا لأصدقائه الأدباء، ولا أدل على ذلك من كتابه:(سقطت في الانتخابات)، الذي تجلى فيه روح الأديب، وإحساسه، ودقة ملاحظته، وصدق حكمه على الناس، والحوادث. وإذا كان من السهل على الإنسان أن يلاحظ الحوادث في دقة وانتباه إذا شاهدها عن كثب مشاهدة الرائي المستقل عنها فانه من أصعب الصعاب أن يحسن الملاحظة، وأن يخلص في الحكم على الحوادث إذا خاض غمارها بنفسه، وكان من أشخاصها أو أبطالها كما يقولون. وفي هذه الحال قلما يستقيم صدق الإحساس ودقة الملاحظة إلا للأديب الذي تعود ذلك أي الذي تعود أن يتجرد من نفسه، ويتخلص من شعوره وأنانيته.
وهذا ما فعله الأستاذ حنفي محمود جمعة في كتابه (سقطت في الانتخابات) فهو يروي ما له وما عليه، ويتندر من نفسه ومن غيره وهو نوع من الفكاهة المستملحة متنقلا في كثير من اللباقة، بين السذاجة والطرافة والبراعة، وبعد: ألم أكن صادقا في حيرتي بين مواساة الصديق الأستاذ حنفي محمود جمعة لفشله في الانتخابات وبين تهنئته لهذا الفشل وقد أفاد الأدب بكتابه الطريف، ونبه إلى نقص في الحياة الاجتماعية والقومية.
أما مواهبه الأدبية، وبراعته الفنية، واطراد أسلوبه وسلاسته، فإنها مزايا ظاهرة يتبينها كل مطالع كتاب (سقطت في الانتخابات) وهو كتاب قيم جدير بالتقدير والثناء.
صديق شيبوب